مختصر تفسير ابن كثير

محمد علي الصابوني

مقدمة [الصابوني]

بسم الله الرحمن الرحيم [مختصر لتفسير الإمَام الجليل الحافظ عماد الدّين أبي الفِدَاء إسماعِيل بن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774 هـ. اختصار محمد علي الصابوني استاذ التفسير بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية - مكة المكرمة - جامعة الملك عبد العزيز] أَنِ الحمد للَّهِ نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، أنزل كتابه الكريم بالحجة الدامغة، والبرهان الناصع، موعظة وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المنزل عليه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إليهم ولعلهم يتفكرون} صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، نجوم الهدى، وشموس العلم والعرفان، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا. أمّا بعد: فقد قيَّض الله - جلَّ ثناؤه - لكتابه العزيز علماء أتقياء، ومخلصين أوفياء، من أعلام الهدى، وأئمة الصلاح والدين، سهروا على خدمة القرآن العظيم، وبذلوا قصارى جهدهم لتوضيح معانيه، وبيان أسراره، وكشف دقائقه، واستخراج ما فيه من حكم وأسرار، وما احتوى عليه من روائع وعجائب، فكان منهم من سلك طريق الأيجاز، ومنه من سلك طريق الإسهاب والإطناب، ومنهم من اقتصر على التفسير بالمأثور، ومنهم من جمع بين (الرواية والدراية) إلى غير ما هنالك من طرائق المفسرين وأساليبهم في القديم والحديث. ولقد كان الإمام العلاّمة، الحافظ الثبت الثقة أبو الفداء (إسماعيل بن كثير (تنظر ترجمة المؤلف في كتاب (المنهل الصافي) للمؤرخ الشهير جمال الدين المعروف بابن تغري، وكتاب (الدرر الكامنة) للحافظ ابن حجر العسقلاني، و (ذيل التذكرة) للحافظ أبي المحاسن الحسيني، و (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) لعبد الحي بن العماد الحنبيل، و (كشف الظنون) لحاجي خليفة، و (الرد الوافر) لابن ناصر الدين الدمشقي.) المتوفى سنة /774/ هجرية في مقدمة هؤلاء الأئمة الأعلام من جهابذة المفسرين، وقد وضع تفسيرا للكتاب الكريم سمّاه (تفسير القرآن العظيم) وتفسيره هذا من خير كتب التفسير بالمأثور ومن أوثقها، وهو تفسير جامع بين (الرواية) و (الدراية) .. يفسر القرآن بالقرآن، ثم بالأحاديث المشهورة في دواوين السنّة المطهّرة بأسانيدها، ويتكلم على الأسانيد جرحا وتعديلاً، فيبيّن ما فيها من صحيح وضعيف، وغريب أو شاذ، ثم يذكر آثار الصحابة والتابيعن، قال السيوطي فيه: «لم يؤلف على نمطه مثله» وقد وضَّح ابن كثير رحمه الله في مقدمة تفسيره هذا المنهج الذي سلكه في تفسيره فقال: "فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ أَصَحَّ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ. فَمَا أُجمل فِي مَكَانٍ، فإنه قد بسط فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِنْ أَعْيَاكَ ذَلِكَ فَعَلَيْكَ بِالسُّنَّةِ، فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ" بَلْ قد قال الإمام الشافعي رحمة الله تعالى: كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ القرآن.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إليهم ولعلهم يتفكرون}. وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلاَ إِنِّي أوتيتُ القرآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» يَعْنِي السُّنَّةَ، وَالسُّنَّةُ أَيْضًا تَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ، كَمَا يَنْزِلُ الْقُرْآنُ، إِلَّا أَنَّهَا لَا تُتْلَى كما يتلى القرآن، وَالْغَرَضُ أَنَّكَ تَطْلُبُ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ مِنْهُ، فَإِنْ لم تجده فمن السنّة، فإذا لَمْ نَجِدِ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، رَجَعْنَا فِي ذَلِكَ إِلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوا مِنَ الْقَرَائِنِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي اخْتُصُّوا بِهَا، وَلِمَا لَهُمْ مِنَ الْفَهْمِ التَّامِّ، وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، لَا سيما علماؤهم وكبراؤهم، والأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين المهديّين، وعبد الله بن مسعود، وعبد اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجمعين" (مقدمة تفسير ابن كثير صفحة /12/) وإنّا لنجد في عصرنا الحاضر ميل الناس إلى التزوّد من الثقافة الدينية، ولا سيما تفسير الكتاب الكريم، والسنّة النبوية المطهّرة، وكثيراً ما يُسأل الإنسان: أيُّ التفاسير أسهل منالاً، وأجدى فائدة للقارىْ في الزمن القليل؟ فيقف المرء واجماً حائراً لا يجد جوابا عن سؤال السائل، علماً بأن كتب التفسير - ولله الحمد - كثيرة، وفيها فوائد جمة، ودرر متناثرة، وأسرار دينية عظيمة، ولكنها قد حشيت بالكثير من مصطلحات الفنون: من بلاغة، ونحو، وصرف، وفقه، وأصول، وغير ذلك مما كان عقبة كأداء، أمام العامة من القراء، لذلك دعت الحاجة الماسة إلى تذليل هذه الصعاب، تيسير فهم العظيم على عامة الناس، بسلوك منهج السهولة والسلاسة، وقد أشار علينا بعض الأخوة الفضلاء ومنهم الأخ الكريم المدير العام لدار القرآن الكريم باختصار تفسير العلاّمة (ابن كثير) نظراً لفائدته الجمة، وما امتاز به عن بقية التفاسير، من تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنّة المطهرة، ثم بأقوال الصحابة والتابعين، مع وضوح العبارة وسهولتها، وجمعه بين التفسير بالمأثور، والتفسير بالمعقول، وقد سبقت معنا كلمة الإمام السيوطي رحمه الله: «لم يؤلف على نمطه مثله» وهي كلم جديرة بالتدبر والاعتبار. ولما كان تفسير العلاّمة بان كثير رحمة الله - على ما فيه من مزايا كريمة - لا ينتفع منه إلا الخاصة من العلماء، وذلك بسبب ما فيه من تطويل وتفصيل لأمور لا حاجة لذكرها، وبخاصة عند ذكر الآثار المروية، والأسانيد للأحاديث الشريفة، مع أن معظمها في كتب الصحاح، وكذلك الكلام على هذه الأسانيد بالجرج والتعديل، وما فيه من خلافات فقهية لا ضرورة لذكرها، مما تجعل الفائدة منه قاصرة على فئة مخصوصة من طلبة العلم الشرعي. لذلك فقد عزمنا النية على اختصاره، وتنقيته من الشوائب، واستجابة للرغبة الملحّة من إخوتنا الأفاضل وبتكليف من «دار القرآن الكريم» ليعمّ به النفع، وتتحقق منه الفائدة المرجوة، علماً بأن اختصاره لا يعني أننا أغفلنا شطره، وحذفنا كثيراً منه، بل إن ما فعلناه لا يعدوا أن يكون حذفاً لما لا ضرورة له، من الروايات المكررة، والأسانيد المطولة، والآثار الضعيفة، والأحكام التي لا حاجة لها، وبقي روح التفسير كما هو، بثوبه القشيب، وجماله الناصع،

وأسلوبه السهل الميسّر، مع تمام الترابط والانسجام. طريقة الأختصار: وقد سلكت في منهج الاختصار لهذا التفسير الطريقة التالية أذكرها بإيجاز وهي: أولا: حذف الأسانيد المطولة والاقتصار على ذكر راوي الحديث من الصحابة والإشارة في هامش الصفحة إلى من خرّج الحديث مثل البخاري ومسلم وغيرهما. ثانيا: الآيات الكريمة التي استشهد بها المؤلف رحمة الله، على طريقته في تفسير القرآن بالقرآن، أثبتناها مع الاقتصار على مكان الشاهد منها، لأنه هو الغرض الأصلي من ذكرها، ولم نذكرها كاملة إذ يكفي الإشارة إليها لفهم المقصود. ثالثا: الاقتصار على الأحاديث الصحيحة، وحذف الضعيف منها، وحذف ما لم يثبت سنده من الروايات المأثورة، مما نبّه عليه الشيخ ابن كثير رحمه الله. رابعا: ذكر أشهر الصحابة عند التفسير بالمأثور، كذكر ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ رضوان الله عليهم أجمعين، مع تثبيت أصح الروايات المنقولة عنهم. خامساً: الاعتماد على أقوال مشاهير التابعين، المنقولة آراؤهم نقلاً صحيحاً وعدم ذكر جميع أقوال التابعين، لأن في بعضها ضعفاً - كما في سائر الروايات - وفيها الغث والسمين، لذلك فقد اعتمدنا على أصحها وأجمعها وأرجحها، ضربنا صفحاً عن ذكر سائرها للأسباب التي ذكرناها. سادسا: حذف الروايات الإسرائيلية، سواء كان غرض المؤلف الرد عليها، أو الاستشهاد بها على سبيل الاستئناس لا على سبيل القطع واليقين، إذ في الآثار الصحيحة ما يغني عن الاستشهاد بالروايات الإسرائيلية. سابعاً: حذف ما لا ضرورة له من الأحكام والخلافات الفقهية، والاقتصار على الضروري منها دون حشو أو تطويل. ولا يفوتني - وأنا أكتب هذه المقدمة الموجزة على تفسير العلاّمة ابن كثير - أن أتقدم بالثناء العاطر، والشكر الجزيل، لدار القرآن الكريم على جهودها المشكورة في نشر وطبع هذا التفسير القيم، والإشراف على تصحيحه، وترتيبه، وتبويبه، وإخراجه بهذا الشكل الجميل، الذي أرجو أن ينال إعجاب السادة القراء. والله أسأل أن ينفع به المسلمين، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، ويبقيه ذخراً لي يوم الدين {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم تسليما كثيراً، وآخر دعوانا أَنِ الحمد للَّهِ رب العالمين.

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة تفسير ابن كثير

قال الشيخ الحافظ (عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي افْتَتَحَ كِتَابَهُ بِالْحَمْدِ فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رب العالمين} وافتتح خلقه بالحمد فقال: {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور} وَاخْتَتَمَهُ بِالْحَمْدِ فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ مَآلِ أَهْلِ الجنة وأهل النار: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين} فَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، أَيْ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَ وَمَا هُوَ خَالِقٌ، هُوَ المحمود في ذلك كله، وَلِهَذَا يُلهمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ تَسْبِيحَهُ وَتَحْمِيدَهُ كَمَا يُلهمون النَّفَس {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ، وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ رُسُلَهُ {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} وَخَتَمَهُمْ بِالنَّبِيِّ الأُمي، الْعَرَبِيِّ الْمَكِّيِّ، الْهَادِي لِأَوْضَحِ السبل، أرسله لجميع خَلْقِهِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، مِنْ لدنْ بَعْثَتِهِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جميعا} وقال تعالى: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بعثتُ إلى الأحمر والأسود» فَهُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ: الْإِنْسُ، وَالْجِنُّ، مُبَلِّغًا لَهُمْ عن الله عزَّ وجلّ ما أوحاه إليه من الْكِتَابِ الْعَزِيزِ {الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ من خلفه تنزل مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ الكشفُ عَنْ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ وطلبُه مِنْ مَظَانِّهِ، وتعلُّم ذَلِكَ وتعليمُه كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الذين الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ، فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ، وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} فذمّ الله أهل الكتاب بإعراضهم عن كتاب الله، وإقبالهم على الدنيا وجمعها. فعلينا أَنْ نَنْتَهِيَ عَمَّا ذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَنْ نَأْتَمِرَ بِمَا أُمِرْنَا بِهِ، مِنْ تَعَلُّمِ كِتَابِ اللَّهِ المُنزل إِلَيْنَا وَتَعْلِيمِهِ، وَتَفَهُّمِهِ وَتَفْهِيمِهِ قال تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}؟ الآية. ففي ذكره تعالى لهذه الآية تنبيهٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا يُحْيِي الأرضَ بَعْدَ موتها كذلك يُحيي القلوبَ بالإيمان، ويلينها بَعْدَ قَسْوَتِهَا مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَاللَّهُ الْمُؤَمَّلُ المسئول أن يفعل بنا هذا، إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أحسنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ؟ فَالْجَوَابُ: أنَّ أَصَحَّ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ أَنْ يفسَّر الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ، فَمَا أُجمل فِي مكانٍ فَإِنَّهُ قَدْ فُسّر فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَإِنْ أَعْيَاكَ ذَلِكَ فَعَلَيْكَ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وموضحة له قال تَعَالَى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا إِنِّي أوتيتُ القرآنَ ومثلَه مَعَهُ» يعني السنّة المطهرة. والغرض أنك تطلب تفسير القرآن من القرآن، فإن لم تجده فمن السنّة، وإذا لَمْ نَجِدِ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، رَجَعْنَا فِي ذَلِكَ إِلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوا مِنَ الْقَرَائِنِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي اخْتُصُّوا بِهَا، وَلِمَا لَهُمْ مِنَ الْفَهْمِ التَّامِّ، وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، لَا سيّما علماؤهم وكبروؤهم كالخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين المهديين، وعبد الله بن مسعود، فقد قال ابْنَ مَسْعُودٍ: «وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَنْ نَزَلَتْ، وَأَيْنَ نَزَلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أحدا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَنَالُهُ الْمَطَايَا لَأَتَيْتُهُ» (رواه ابن جرير الطبري عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: «حدَّثنا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْرِئُونَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وكانوا إِذَا تَعَلَّمُوا عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَخْلُفُوهَا حَتَّى يَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَمَلِ، فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ والعمل جميعا» ومنهم (عبد الله بن عباس) الحبرُ البحرُ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وترجُمانُ القرآن ببركة دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ حَيْثُ قَالَ: «اللهمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وعلمه التأويل». وقد قال عبد الله بن مسعود: «نعم ترجمان القرآن ابنُ عباس». وَقَدْ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وعُمِّر بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا كَسَبَهُ مِنَ الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِ مسعود؟ ولهذا غالب ما يرويه (السُّدي) الكبير في تفسيره عن هذين الرجيلين (ابن مسعود) و (ابن عَبَّاسٍ) ولكنْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَنْقُلُ عَنْهُمْ مَا يَحْكُونَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّتِي أَبَاحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عليَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) ولكنَّ هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر اللإستشهاد لا للإعتضاد، وهي عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ مِمَّا بِأَيْدِينَا مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّدْقِ فَذَاكَ صحيح والثاني: ما علمنا كذبه مّما عندنا مما يخالفه فذاك مردود. وَالثَّالِثُ: مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، لَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَلَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَذِّبُهُ وَتَجُوزُ حِكَايَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ، وَغَالِبُ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ تعود إلى أمرٍ ديني.

(فَصْلٌ): إِذَا لَمْ تَجِدِ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا وَجَدْتَهُ عَنِ الصَّحَابَةِ، فقد رجع كثير من الأئمة إلى اقوال التابعين ك (مجاهد بْنِ جَبْرٍ) فَإِنَّهُ كَانَ آيَةً فِي التَّفْسِيرِ فقد قَالَ: «عرضتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ، مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، أُوقِفُهُ عِنْدَ كل آية منه وأسأله عنها». ولهذا قال (سفيان الثوري): إِذَا جَاءَكَ التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فحسبُك بِهِ ... وك (سعيد بن جبير) و (عكرمة مولى ابن عباس) و (عطاء بن أبي رباح) و (الحسن البصري) و (مسروق بن الأجدع) و (سعيد بن المسيب) و (قتادة) و (الضحاك) وغيرهم من التابعين وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَتُذْكَرُ أَقْوَالُهُمْ فِي الْآيَةِ فَيَقَعُ في عبارتهم تباينُ فِي الْأَلْفَاظِ، يَحْسَبُهَا مَنْ لَا عِلْمَ عنده اختلاقا فيحكيها أقوالاً، وليس كذلك فليتفطن اللبيب لذلك والله الهادي. فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ فَحَرَامٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ، أَوْ بِمَا لاَ يَعْلَمُ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (رواه ابن جرير بسنده عن ابن عباس وأخرجه الترمذي والسائي) ولقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فقد أخطأ (رواه أبو داود والترمذي والنسائي)» أَيْ لِأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَسَلَكَ غَيْرَ مَا أُمر بِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ، كَمَنْ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النار، وَلِهَذَا تَحَرَّجَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ عَنْ تَفْسِيرِ ما لا علم لهم به، فقد روي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: «أيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وأيُّ أرضٍ تُقِلُّنِي، إِذَا أَنَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ». وروى أنس عن عمر بن الخطاب أنه قرأ على المنبر {وفاكهة وأبَّا} فَقَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا الأبَّ؟ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لهو التكلف يا عمر. وروى ابن جرير بسنده عن عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ وَإِنَّهُمْ لَيُعَظِّمُونِ الْقَوْلَ فِي التَّفْسِيرِ، وعن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: مَا سمعتُ أَبِي يؤول آية من كتاب الله قطُّ، وسأل محمدُ بن سيرين (عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيَّ) عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: ذهب الذين كانوا يعلمون فيمن أُنزل القرآن، فاتق الله وعليك بالسداد. فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلهم عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى تَحَرُّجِهِمْ عَنِ الْكَلَامِ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ فيه، فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ لُغَةً وَشَرْعًا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ، وَلَا مُنَافَاةَ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا عَلِمُوهُ، وَسَكَتُوا عَمَّا جَهِلُوهُ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ السُّكُوتُ عَمَّا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْقَوْلُ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تكتمونه} ولما جاء في الحديث الشريف «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ القيامة بلجام من نار» (أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة)

مقدمة مفيدة تذكر في أول التفسير قبل الفاتحة قال أبو بكر بن الأنباري: نَزَلَ فِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْقُرْآنِ (الْبَقَرَةُ، وَآلُ عمران، والنساء، والمائدة، وَبَرَاءَةُ، وَالرَّعْدُ، وَالنَّحْلُ، وَالْحَجُّ، وَالنُّورُ، وَالْأَحْزَابُ، وَمُحَمَّدٌ، والفتح، والحجرات، والرحمن، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، وعشر من التحريم، وَإِذَا زُلْزِلَتْ، وَإِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهُ) هَؤُلَاءِ السور نزلت في المدينة وسائر السور بمكة. فأما عدد آيات القرآن العظيم فَسِتَّةُ آلَافِ آيَةٍ، ثُمَّ اخْتُلِفَ فِيمَا زَادَ على ذلك. وَأَمَّا التَّحْزِيبُ وَالتَّجْزِئَةُ فَقَدِ اشْتُهِرَتِ الْأَجْزَاءُ مِنْ ثلاثين كما في الربعات بالمدارس وغيرها. فصل: واختلف في معنى السورة مما هي مشتقة؟ فقيل: من الأرتفاع (قَالَ النَّابِغَةُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً * تَرَى كُلَّ مُلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ) فَكَأَنَّ القارىء ينتقل بِهَا مِنْ مَنْزِلَةٍ إِلَى مَنْزِلَةٍ، وَقِيلَ: لِشَرَفِهَا وارتفاعها كيور البلد لإحاطته بمنازله ودوره، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ سُورَةً لِكَوْنِهَا قِطْعَةً مِنَ الْقُرْآنِ وجزءاً منه. وأول الآية: فأصل معناها العالامة، سميت بذلك لانقطاع الكالم الذي قبلها عن الذي بعدها وانفصالها، أي هي بائنة عن أختها ومنفردة قال تعالى: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت}. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ آيَةً لِأَنَّهَا عَجَبٌ يَعْجَزُ الْبَشَرُ عن التكلم بمثلها. وأما الكلمة: فهي اللفظة الواحدة، وقد تكون على حرفين مثل «ما» و «لا» ونحو ذلك وقد تكون أكثر، وأكثر ما تكون عشرة أحرف مثل {أنلزمكموها} و {فأسقيناكموه} وقد تكون الكلمة الواحدة آية مثل {والضحى} ومثل {والفجر} فصل: قال القرطبي: أجمعوا على أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ مِنَ التَّرَاكِيبِ الْأَعْجَمِيَّةِ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ فِيهِ أَعْلَامًا مِنَ الْأَعْجَمِيَّةِ ك (ابراهيم) و (نوح) و (لوط) وَاخْتَلَفُوا: هَلْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ بِالْأَعْجَمِيَّةِ؟ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْبَاقِلَّانِيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَقَالَا: مَا وقع فيه مما يُوَافِقُ الْأَعْجَمِيَّةَ فَهُوَ مِنْ بَابِ مَا تَوَافَقَتْ فيه اللغات فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة وغيرهم (انظر التحقيق الذي ذكرناه في كتابنا «التبيان في علوم القرآن» صفحة /225/ تحت عنوان (هل في القرآن الكريم ألفاظ غير عربية)؟.

1 - سورة الفاتحة

- 1 - سورة الفاتحة

[مقدمة] تسمى «الفاتحة» لانه تفتتح بها القراءة في الصلوات، ويقال لها أيضاً «أُم الكتاب» ولها أسماء منها «الحمد» و «الشفاء» و «الواقية» و «الكافيه» و «أساس القرآن». قال البخاري: «وسميت - أُم الكتاب - لِأَنَّهُ يُبْدَأُ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَيُبْدَأُ بِقِرَاءَتِهَا في الصلاة». وقال الطبري: والعرب تسمي كل جامع أمراً أو مقدم لأمر «أُمّاً» فَتَقُولُ لِلْجِلْدَةِ الَّتِي تَجْمَعُ الدِّمَاغَ «أُمُّ الرَّأْسِ» وَيُسَمُّونَ لِوَاءَ الْجَيْشِ وَرَايَتَهُمُ الَّتِي يَجْتَمِعُونَ تحتها «أمّاً» قال ذو الرُّمَّةِ: عَلَى رَأْسِهِ أمٍّ لَنَا نَقْتَدِي بِهَا * جماع أمور ليس نعصي لها أمراً روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه قال في أُم الْقُرْآنِ: «هِيَ أُم الْقُرْآنِ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وهي القرآن العظيم» ورواه ابن جرير أيضاً بنحوه.

«ما ورد في فضل سورة الفاتحة» أولا: عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ المعلَّى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كُنْتُ أُصَلِّي فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ حَتَّى صلّيت، قال: فأتيته، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، قَالَ: ألم يقل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}؟ ثُمَّ قَالَ: لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قُلْتَ لأعلمنَّك أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: نَعَمْ {الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ" (أخرجه أحمد ورواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة) ثانيا: وعن أُبيّ بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلَ» أُمِّ الْقُرْآنِ «وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وهي مقسومة بيني وبين عبدي نصفين» (رواه الترمذي والنسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ) هذا لفظ النسائي.

ثالثا: وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كُنَّا فِي مَسِيرٍ لَنَا فَنَزَلْنَا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ فقالت: إنَّ سيّد الحي سليم (أي لديغ) وإنَّ نَفَرَنَا غُيَّب فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ؟ فَقَامَ معها رجل ما كنا نأبنه (ما كنا نأبنه: أي نعيبه أو نتهمه) برقيه، فرقاه فبرأ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِينَ شَاةً، وَسَقَانَا لَبَنًا، فَلَمَّا رجع قلنا له: أكنت تحسن؟ أَوْ كُنْتَ تَرْقِي؟ قَالَ: لَا، مَا رقيتُ إلاّ بأثم الْكِتَابِ، قُلْنَا: لَا تُحَدِّثُوا شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَ أَوْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ أنها رُقْية؟ إقسموا واضربوا لي بسهم» (رواه البخاري ومسلم وأبو داود، وفي بعض روايات مسلمز أن (أبا سعيد الخدري) وهو الذي رقى ذلك اللديغ). رابعاً: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ جِبْرِيلُ، إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا فَوْقَهُ، فَرَفَعَ جِبْرِيلُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ قَدْ فُتِحَ مِنَ السَّمَاءِ مَا فُتِحَ قط، قال: فنزل منه ملك، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌ قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفاً منها إلأ أوتيته" (رواه مسلم والنسائي عن ابن عباس. ومعنى قوله (نقيضا) أي صوتاً). خامساً: وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِداجٌ - ثَلَاثًا - غَيْرُ تَمَامٍ» فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إنّا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ: أَثْنَى عليَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدين} قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل «(رواه مسلم عن أبي هريرة) » الكلام على ما يختص بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة" أولا: أَطْلَقَ فِيهِ لَفْظَ «الصَّلَاةِ» وَالْمُرَادُ الْقِرَاءَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} أي بقراءتك، فَدَلَّ عَلَى عِظَمِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنَّهَا من أكبر أركانها، كَمَا أَطْلَقَ لَفْظَ الْقِرَاءَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ في قوله {وَقُرْآنَ الفجر} والمراد صلاة الفجر. ثانيا: واختلفوا في مسألة وهي: هل تتعيّن للقراءة في الصلاة فاتحة الكتاب أم يجزىء غيرها؟ على قولين مشهورين: ا - فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ، بَلْ مَهْمَا قَرَأَ بِهِ من القرآن أجزأه، واستدلوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} وبما ثبت في الصحيحين من حديث المسيء صلاته، وفيه أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قال له: «ثُمَّ اقْرَأْ مَا تيسَّر مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» فَأَمَرَهُ بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ، وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ الفاتحة. ب - والقول الثاني أنه يعين قراءة الفاتحة، ولا تجزىء الصَّلَاةُ بِدُونِهَا، وَهُوَ قَوْلُ بَقِيَّةِ الْأَئِمَّةِ (مَالِكٌ والشافعي وأحمد) واحتجوا بهذا الحديث «فَهِيَ خِدَاجٌ» وَالْخِدَاجُ هُوَ النَّاقِصُ كَمَا فَسَّرَ به في الحديث «غير تمام» واحتجوا بحديث «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» (رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه) وبحديث «لا تجزىء صلاةٌ لا يُقرأ فيها بأُم القرآن» (رواه ابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أيضا) والأحاديث في هذا الباب كثيرة. ثالثا: (مسألة) هَلْ تَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ قراءتها كما تجب على الإمام لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ عَلَى المأموم قراءة بالكلية، لا في الجهرية ولا في السرية لقوله عليه السلام: «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قراءة» (رواه الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله وفي إسناده ضعف) والثالث: تجب القراءة على المأموم في (السرية) لا في (الجهرية) لما ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: «إِنَّمَا جُعل الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا» (رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري).

تفسير الاستعاذة - 1 - قال الله تعالى: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عليم} - 2 - وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أن يَحضرون}. - 3 - وقال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم}. فَهَذِهِ ثَلَاثُ آيَاتٍ لَيْسَ لهنَّ رَابِعَةٌ فِي معناها. فالله تعالى يَأْمُرُ بِمُصَانَعَةِ (الْعَدُوِّ الْإِنْسِيِّ) وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، لِيَرُدَّهُ عنه طبعه إلى الموالاة والمصافاة. ويأمر بالاستعاذة مِنَ (الْعَدُوِّ الشَّيْطَانِيِّ) لَا مَحَالَةَ، إِذْ لَا يَقْبَلُ مُصَانَعَةً وَلَا إِحْسَانًا، وَلَا يَبْتَغِي غَيْرَ هَلَاكِ ابْنِ آدَمَ، لِشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أبيه آدم كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}؟ وقد أقسم لآدم وكذب عليه، فَكَيْفَ مُعَامَلَتُهُ لَنَا وَقَدْ قَالَ: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}؟ وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ

مِّنْ القراء: يتعوذ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، وَاعْتَمَدُوا عَلَى ظَاهِرِ سِيَاقِ الْآيَةِ. والمشهور الذي عليه الجمهور: أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة لدفع الموسوس عنها، ومعنى الآية {فإذا قرأت القرآن} أي إذا أردت القراءة، كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إلى الصلاة فاغسلوا} أي إذا أردتم القيام، ويدل عليه ما روي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذا قام من الليل استفتح صلاته بالتكبير والثناء ثُمَّ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، من همزة ونفخة ونفثه» (رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري وأخرجه أصحاب السنن الأربعة) وَمَعْنَى: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» أَيْ أَسْتَجِيرُ بِجَنَابِ اللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أَنْ يَضُرَّنِي فِي دِينِي أَوْ دُنْيَايَ، أَوْ يَصُدَّنِي عن فعل ما أُمرت به، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَكُفُّهُ عَنِ الْإِنْسَانِ إِلَّا الله، والاستعاذة: هي الإلتجاء إلى الله تعالى مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ، وَالْعِيَاذَةُ تَكُونُ لدفع الشر، واللياذُ يكون لطلب الْخَيْرِ كَمَا قَالَ الْمُتَنَبِّي: يَا مَنْ ألوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ * وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أُحَاذِرُهُ لَا يجبرُ الناسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ * وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أنت جابره و (الشيطان) فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مُشْتَقٌّ مِنْ شَطَنَ إِذَا بعد، فهو بعيد بفسقه عن كل خير، وقيل: من شاط لأنه مخلوق من نار والأول أصح، قال سِيبَوَيْهِ: الْعَرَبُ تَقُولُ: تَشَيْطَنَ فلانُ إِذَا فعلَ فعل الشياطين، ولو كان من شاط لقالوا: تشيط، فالشيطان مُشْتَقٌّ مِنَ الْبُعْدِ عَلَى الصَّحِيحِ وَلِهَذَا يُسَمُّونَ كل متمرد من جني وإنسي وحيوانٍ «شيطانا» قال تعالى {شَيَاطِينَ الإنس والجن} وركب عمر برذوناً فجعل يتبختر به، فضربه فلم يزدد إِلَّا تَبَخْتُرًا، فَنَزَلَ عَنْهُ وَقَالَ: مَا حَمَلْتُمُونِي إلا على شيطان لقد أنكرت نفسي (رواه ابن وهب عن زيد بن أسلم عن أبيه وإسناده صحيح) و (الرجيم) فَعِيلٌ. بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ أَنَّهُ مرجومٌ مطرودٌ عن الخير كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً للشياطين} وقال تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ استرق السمع فأتبعه شهاب مبين}.

- 1 - بسم الله الرحمن الرحيم تفسير البسملة رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ عليه {بِسمِ الله الرحمن الرحيم} (رواه أبو داود بإسناد صحيح وأخرجه الحاكم في مستدركه) وقد افتتح بها الصحابة كتاب الله، ولهذا تُستحب في أول كل قولٍ وعمل لقوله عليه السلام: «كُلُّ أَمْرٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم فهو أجذم» فتستحب في أول الوضوء لقوله عليه السلام: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ

اسم الله عليه» (رواه أحمد وأصحاب السنن من رواية أبي هريرة مرفوعاً) وتستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وأوجبها آخرون، وتستحب عن الأكل لقوله عليه السلام: " قل: بسم الله، وكلْ بيمينك، وكلْ مما يليك" (رواه مسلم في قصة عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم) وتستحب عند الجماع لقوله عليه السلام: "لو أنَّ أحدكم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقَتْنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقدَّر بَيْنَهُمَا ولدٌ لَمْ يضره الشيطان أبداً" (رواه الشيخان عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم) والمتعلق بالباء في قوله (بِسمِ الله) منهم مَنْ قَدَّرَهُ بِاسْمٍ تَقْدِيرُهُ: بِاسْمِ اللَّهِ ابْتِدَائِي، ومنهم من قدّره بفعل تقديره: أبدأ باسم الله، أو ابتدأت باسم الله، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فَإِنَّ الْفِعْلَ لَا بدَّ لَهُ مِنْ مَصْدَرٍ، فَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ الْفِعْلَ وَمَصْدَرَهُ، فالمشروعُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ فِي الشُّرُوعِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا وَاسْتِعَانَةً عَلَى الْإِتْمَامِ والتقبل، ويدل للأول قوله تعالى: {بِسْمِ الله مجريها ومرساها} ويدل للثاني في قَوْلُهُ تَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. و (اللَّهِ) علمٌ عَلَى الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُقَالُ إِنَّهُ (الِاسْمُ الْأَعْظَمُ) لِأَنَّهُ يُوصَفُ بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إلى هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} الآيات، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَللَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الحسنى} وفي الصحيحين: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دخل الجنة» (رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم) وَهُوَ اسْمٌ لَمْ يُسَمَّ بِهِ غَيْرُهُ تَبَارَكَ وتعالى ولهذا لا يعرف له - في كلام العرب - اشتقاقٌ، فهو اسم جامد وقد نقله الْقُرْطُبِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ (الشَّافِعِيُّ) و (الغزالي) و (إمام الحرمين) وقيل: إنه مشتقُّ من أله يأله إلاهةً، وقد قرأ ابن عباس {ويذرك وإلاهتك} أي عبادتك، وقيل: مشتقُّ من وله إذا تحيّر، لأنه تعالى يحير في الفكر في حقائق صفاته، وقيل: مشتقُّ مِنْ ألهتُ إِلَى فُلَانٍ: أَيْ سَكَنْتُ إِلَيْهِ، فَالْعُقُولُ لَا تَسْكُنُ إِلَّا إِلَى ذِكْرِهِ، وَالْأَرْوَاحُ لَا تَفْرَحُ إِلَّا بِمَعْرِفَتِهِ، لِأَنَّهُ الْكَامِلُ على الإطلاق دون غيره، قال تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تطمئنُ القلوب}، وقد اختار الرازي أنه اسم غير مشتق البتة، وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَأَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسْمَانِ مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ عَلَى وجه المبالغة، و {رحمن} أشد مبالغة من {رحيم} وزعم بعضهم أنه غير مشتق، قال القرطبي: والدليل على أنه مشتق ما روي في الحديث القدسي: «أَنَا الرَّحْمَنُ خلقتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قطعته» (أخرجه التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ القرطبي: وَهَذَا نصٌ فِي الِاشْتِقَاقِ فَلَا مَعْنَى لِلْمُخَالَفَةِ والشقاق، وَإِنْكَارُ الْعَرَبِ لِاسْمِ {الرَّحْمَنِ} لِجَهْلِهِمْ بِاللَّهِ وَبِمَا وجب له، وبناء فعلان ليس كَفَعِيلٍ، فَإِنَّ (فَعْلَانَ) لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى مبالغة الفعل نحو قولك (رجلٌ غضبان) للممتلىْ غضباً، و (فعيل) قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول. قال ابن جرير: {الرحمن} لجميع الخلق، {الرَّحِيمِ} بالمؤمنين، ولهذا قال

تعالى {الرحمن عَلَى العرش استوى} فَذَكَرَ الِاسْتِوَاءَ بِاسْمِهِ الرَّحْمَنِ لِيَعُمَّ جَمِيعَ خَلْقِهِ برحمته، وقال: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} فخصهم باسمه الرحيم. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ {الرَّحْمَنَ} أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه، و {الرَّحِيمِ} خاصة بالمؤمنين، واسمه تعالى {الرحمن} خاص لم يسم به غيره، قَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} وقال تعالى: {أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعبدون}؟ وَلَمَّا تجرأ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابِ وَتَسَمَّى بِرَحْمَنِ الْيَمَامَةِ كَسَاهُ اللَّهُ جِلْبَابَ الْكَذِبِ وَشُهِرَ بِهِ، فَلَا يُقَالُ إِلَّا (مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ) فَصَارَ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الكذب بين أهل الحضر والمدر. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الرَّحِيمَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً من الرحمن لأنه أكّد به، والمؤكِّدُ لَا يَكُونُ إِلَّا أَقْوَى مِنَ المؤَكَّد، وَالْجَوَابُ أن هذا ليس من باب التأكيد وإنما هو من باب النعت ولا يلزم ما ذكروه، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الرَّحْمَنُ أَشَدُّ مُبَالَغَةً فهلا اكتفى به عن الرحيم؟ فقد قيل: إنه لمّا تسمّى غيره بالرحمن جيء بلفظ الرحيم ليقطع الوهم بذلك، فإنه لا يوصف ب {الرحمن الرَّحِيمِ} إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، كَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ وَوَجَّهَهُ بِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى مَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ، وَمِنْهَا مَا لَا يُسَمَّى بِهِ غيره كاسم (الله) و (الرحمن) و (الخالق) و (الرازق) ونحو ذلك، وأما (الرحيم) فإن الله وصف به غيره حيث قال في حقّ النبي: {بالمؤمنين رءوفٌ رَّحِيمٌ}، كما وصف غيره ببعض أسمائه فقال في حق الإنسان: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً}.

- 2 - الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَى {الْحَمْدُ للَّهِ} الشُّكْرُ لِلَّهِ خَالِصًا دُونَ سَائِرِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ، وَدُونَ كُلِّ مَا بَرَأَ مِنْ خَلْقِهِ، بِمَا أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا الْعَدَدُ، وَلَا يُحِيطُ بِعَدَدِهَا غَيْرُهُ أَحَدٌ، فِي تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح الْمُكَلَّفِينَ لِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، مَعَ مَا بَسَطَ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ مِنَ الرِّزْقِ، وَغَذَّاهُمْ بِهِ مِنْ نعيم العيش، فَلِرَبِّنَا الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، {الْحَمْدُ للَّهِ} ثناءٌ أَثْنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي ضِمْنِهِ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ فكأنه قال: قولوا الحمد لله، ثم قال: وأهل الْمَعْرِفَةِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ يُوقِعُونَ كُلًّا مِنَ الْحَمْدِ والشكر مكان الأخر. قال ابن كثير: وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِيهِ نَظَرٌ، لأنه اشتهر عند كثير مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْحَمْدَ هُوَ الثَّنَاءُ بِالْقَوْلِ عَلَى الْمَحْمُودِ بِصِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ، والشكرُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْمُتَعَدِّيَةِ، وَيَكُونُ بالجَنَان، وَاللِّسَانِ، وَالْأَرْكَانِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً * يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ المحجّبا وقال الْجَوْهَرِيُّ: الْحَمْدُ نَقِيضُ الذَّمِّ تَقُولُ: حَمِدْتُ الرَّجُلَ أحمده حمداً فَهُوَ حَمِيدٌ وَمَحْمُودٌ، وَالتَّحْمِيدُ أَبْلَغُ مِنَ الْحَمْدِ، والحمد أعمّ من الشكر، والشكرُ هو الثناء على المحسن بما أولاه مِنَ الْمَعْرُوفِ، يُقَالُ، شَكَرْتُهُ وشكرتُ -[21]- لَهُ وَبِاللَّامِ أَفْصَحُ، وَأَمَّا الْمَدْحُ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ لأنه يكون للحي، وللميت، وللجماد، كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك، ويكون قبل الإحسان وبعده على الصفات المتعدية واللازمة أيضا فهو أعم. وفي الحديث الشريف عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: أفضلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدعاء الحمدُ لله (رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله وقال: حسن غريب) وعنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عبدٍ نِعْمَةً فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إِلَّا كَانَ الَّذِي أعطَى أَفْضَلَ مِمَّا أخذ (رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك) « وعن ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدَّثهم» أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَالَ: يَا رَبِّ لَكَ الحمدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ، وَعَظِيمِ سُلْطَانِكَ، فَعَضَلَتْ بِالْمَلَكَيْنِ فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى الله فقالا: يا ربنا إِنَّ عَبْدًا قَدْ قَالَ مَقَالَةً لَا نَدْرِي كَيْفَ نَكْتُبُهَا، قَالَ اللَّهُ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا قَالَ عَبْدُهُ - مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ قَالَا: يَا رب إنه قال: لك الحمد يا رب كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ وَعَظِيمِ سُلْطَانِكَ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمَا: اكْتُبَاهَا كَمَا قَالَ عَبْدِي حَتَّى يلقاني فأجزيه بها (رواه ابن ماجه عن ابن عمر) " وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي (الْحَمْدِ) لِاسْتِغْرَاقِ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْحَمْدِ وَصُنُوفِهِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّه، وَلَكَ الْمُلْكُ كلُّه، وَبِيَدِكَ الْخَيْرُ كلُّه، وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ الْأَمْرُ كلُّه» الحديث. {رَبِّ العالمين} الربُّ هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ، وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى السَّيِّدِ، وَعَلَى الْمُتَصَرِّفِ لِلْإِصْلَاحِ، وكلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُسْتَعْمَلُ الرَّبُّ لغير الله إلا بالإضافة، تقول ربُّ الدار، وَأَمَّا الرَّبُّ فَلَا يُقَالُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وجل. و {العالمين} جَمْعُ عَالَمٍ وَهُوَ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ عزّ وجل، وهو جمعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَالْعَوَالِمُ أصناف المخلوقات فِي السماوات، وَفِي البر، والبحر. وقال الفراء وأبو عبيد، الْعَالَمُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَعْقِلُ وَهُمُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ والملائكة والشياطين، ولا يقال للبهائم عالم. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَالَمُ كلٌّ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصحيح أنه شامل لكل العالمين قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا ربُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ ربُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} وَالْعَالَمُ مشتقٌ من العلامة، لأنه دال على وجود خالقه وصانعه وعلى وحدانيته جلَّ وعلا كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ: فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يعصى الإل * هـ أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةً * تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ

- 3 - الرحمن الرحيم وقوله تعالى {الرحمن الرَّحِيمِ} قال القرطبي: إنما وصف نفسه بالحمن الرحيم بعد قوله {رَبِّ العالمين} ليكون من باب قرن (الترغيب بالترهيب) كما قال تعالى: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وأنَّ عَذَابِي هُوَ -[22]- العذاب الأليم} وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رحيم} فالرب فيه ترهيب، والرحمن الرحيم ترغيب، وفي الحديث: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ العقوبه ما طمع في جنته أَحَدٌ، وَلَوْ يُعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ من الرحمة ما قنط من رحمته أحد (رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً)»

- 4 - مالك [ملك] يوم الدين قرأ بعض القراء (مَلِك) وقرأ آخرون (مالك) وكلاهما صحيح متواتر، و (مالك) مأخوذ من المِلْك كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نرثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرجعون}، و (ملك) مخوذ مِنَ المُلك كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِّمَنِ الْمُلْكُ اليوم}؟ وقال: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} وتخصيصُ الْمُلْكِ بِيَوْمِ الدِّينِ لَا يَنْفِيهِ عَمَّا عَدَاهُ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أحد هناك كل شَيْئًا، وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ كَمَا قال تعالى {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً}، وقال تعالى: {يَوْمَ يأتي لاَ تكَلَّمُ نفسٌ إلا بإذنه}، وعن ابن عباس قال: يوم الدين يوم الحساب للخلائق، يُدِينُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، إلا من عفا عنه. والمِلْكُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ، فَأَمَّا تَسْمِيَةُ غَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا بِمَلِكٍ فَعَلَى سبيل المجاز، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قَالَ: يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ (رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً) و (الدين): الجزاء والحساب كما قال تعالى {أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} أَيْ مَجْزِيُّونَ مُحَاسَبُونَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الكيّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الموت» (رواه أحمد والترمذي وابن ماجة من حديث شداد بن أوس مرفوعاً) أي حاسب نفسه، وعن عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تحاسبوا».

- 5 - إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نستعين العبادةُ في اللغة: مأخوذة مِنَ الذِّلَّةِ، يُقَالُ: طريقٌ مُعَبَّدٌ، وبعيرٌ معبَّد أي مذلّل. وفي الشرع: هي ما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، وفدّم المفعول وَكُرِّرَ لِلِاهْتِمَامِ وَالْحَصْرِ، أَيْ لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ وَلَا نَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْكَ، وَهَذَا هُوَ كَمَالُ الطَّاعَةِ، وَالدِّينُ يَرْجِعُ كُلُّهُ إِلَى هَذَيْنِ المعنيين، فَالْأَوَّلُ تَبَرُّؤٌ مِنَ الشِّرْكِ وَالثَّانِي تبرؤٌ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَالتَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ آيةٍ مِنَ الْقُرْآنِ: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}، {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} وتحول الكلام من الغيبة إلى الماجهة، لِأَنَّهُ لَمَّا أَثْنَى -[23]- عَلَى اللَّهِ فَكَأَنَّهُ اقْتَرَبَ وحضرر بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى فَلِهَذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بكاف الخطاب، وَفِي هَذَا دليلٌ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ خبرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالثَّنَاءِ عَلَى نَفْسِهِ بِجَمِيلِ صِفَاتِهِ الْحُسْنَى، وإرشادٌ لِعِبَادِهِ بِأَنْ يُثْنُوا عليه بذلك. وَإِنَّمَا قَدَّمَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} عَلَى {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَهُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وَالِاسْتِعَانَةُ وَسِيلَةٌ إليها، والأصل أني يقدم ما هو الأهم فالأهم، فإن قيل: فما معنى النون في (نَعْبُدُ) و (نَسْتَعِينُ) فَإِنْ كَانَتْ لِلْجَمْعِ فَالدَّاعِي وَاحِدٌ، وَإِنْ كانت للتعظيم فلا يناسب هَذَا الْمَقَامَ؟ وَقَدْ أُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ بذلك الْإِخْبَارُ عَنْ جِنْسِ الْعِبَادِ، وَالْمُصَلِّي فردٌ مِنْهُمْ ولا يسما إِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ إِمَامَهُمْ، فَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعِبَادَةِ الَّتِي خُلقوا لأجلها وتوسَّط لهم بخير، (وإياك نبعد) ألطفُ في التواضع من (إيَّاك عبدنا) لما في الثاني من تعظيم نفسه من جعل نَفْسَهُ وَحْدَهُ أَهْلًا لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْبُدَهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ، وَلَا يُثْنِيَ عَلَيْهِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْعِبَادَةُ مَقَامٌ عَظِيمٌ يَشْرُف بِهِ الْعَبْدُ لِانْتِسَابِهِ إِلَى جَنَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا * فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي وقد سمّى رسوله صلى الله عليه وسلم بِعَبْدِهِ فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ}، وقال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} فسماه عبداً عند إنزاله عليه، وعند قيامه للدعوة، وإسرائه به.

- 6 - اهدنا الصراط المستقيم لما تقدم الثناء على المسؤول تبارك وتعالى ناسب أن يعقب بالسؤال، وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسؤوله ثم يسأل حاجته، لِأَنَّهُ أَنْجَحُ لِلْحَاجَةِ، وَأَنْجَعُ لِلْإِجَابَةِ وَلِهَذَا أَرْشَدَ الله إليه لأنه الأكمل. والهداية ههنا: الإرشاد والتوفيق وقد تُعدَّى بنفسها {اهدنا الصراط} وقد تعدى بإلى {فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} وقد تُعدى باللام {الحمد لله الذي هدانا لهذا} أي وفقنا وجعلنا له أهلاً، وأمّا {الصراط المستقيم} فهو في لغة العرب: الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، ثم تستعير العرب الصراط فِي كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وُصِفَ بِاسْتِقَامَةٍ أَوِ اعوجاج، واختلفت عبارات المفسرين من السلف الخلف فِي تَفْسِيرِ {الصِّرَاطِ}، وَإِنْ كَانَ يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ (الْمُتَابَعَةُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) فروي أنه كتاب الله، وقيل: إنه الإسلام، قال ابن عباس: هو دين الله الذي لا اعوجاج فيه، وقال ابن الحنفية: هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنَ العباد غيره، وقد فسّر الصراط بالإسلام في حديث (النوالس بْنِ سَمْعَانَ) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أبوابٌ مفتَّحة، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ داعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا ولا تعوجوا، وداعٍ يدعوا مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: ويْحك لَا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تلجْه، فَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ -[24]- اللَّهِ وَذَلِكَ الداعي على رأس لاصراط كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ الله في قلب كل مسلم (رواه أحمد في مسنده عن النواس بن سمعان وأخرجه الترمذي والنسائي) وقال مجاهد: الصراط المستقيم: الْحَقُّ، وَهَذَا أَشْمَلُ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ما تقدم، قال ابن جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ هذه الآية عندي أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ وَفِّقْنَا لِلثَّبَاتِ عَلَى مَا ارْتَضَيْتَهُ وَوَفَّقْتَ لَهُ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِكَ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَذَلِكَ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ لِأَنَّ مَنْ وُفِّق لِمَا وفِّق له من أنعم عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فد وفّق للإسلام. (فإن قيل): فكيف يَسْأَلُ الْمُؤْمِنُ الْهِدَايَةَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ صلاة وهو متصف بذلك؟ فالجواب: أن الْعَبْدَ مُفْتَقِرٌ فِي كُلِّ ساعةٍ وَحَالَةٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي تَثْبِيتِهِ عَلَى الْهِدَايَةِ وَرُسُوخِهِ فيها واستمراه عليها، فَأَرْشَدَهُ تَعَالَى إِلَى أَنْ يَسْأَلَهُ فِي كُلِّ وقت أن يمده بالمعونه ولاثبات والتوفيق، فقد أمر تعالى الذين آمنوا بالإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، والمراد الثباتُ والمداومةُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُعِينَةِ عَلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ أعلم.

- 7 - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ولا الضالين قوله تعالى {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مُفَسِّرٌ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، والذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم هم المذكورون في سورة النساء: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ والصالحين، وحسن ألوئك رفيقا}، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: صِرَاطَ الَّذِينَ أنعمتَ عَلَيْهِمْ بِطَاعَتِكَ وَعِبَادَتِكَ مِنْ مَلَائِكَتِكَ وَأَنْبِيَائِكَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وذلك نظير الآية السابقة، وقال الربيع بن أنَس: هم النبيّون، وقال ابن جريج ومجاهد: هم المؤمنون، وَالتَّفْسِيرُ الْمُتَقَدِّمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّالِّينَ} بالجر على النعب، وَالْمَعْنَى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أنعمتَ عَلَيْهِمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَ وَصْفُهُمْ وَنَعْتُهُمْ، وَهُمْ أَهْلُ الهداية والاستقامة، غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين علموا الْحَقَّ وَعَدَلُوا عَنْهُ، وَلَا صِرَاطِ الضَّالِّينَ وَهُمُ الَّذِينَ فَقَدُوا الْعِلْمَ، فَهُمْ هَائِمُونَ فِي الضَّلَالَةِ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى الْحَقِّ، وَأَكَّدَ الْكَلَامَ بِ (لَا) لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ثَمَّ مَسْلَكَيْنِ فَاسِدَيْنِ وهما: طريقة اليهود، وطريقة النصارى، فجيء ب (لا) لتأكيد النفي وللفرق بين الطريقتين ليجتنب كل واحدٍ مِنْهُمَا، فَإِنَّ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْإِيمَانِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِهِ، واليهودُ فَقَدُوا الْعَمَلَ، وَالنَّصَارَى فَقَدُوا الْعِلْمَ، وَلِهَذَا كَانَ الْغَضَبُ لِلْيَهُودِ، والضلال للنصارى، لكنْ أخصُّ أَوْصَافِ الْيَهُودِ الْغَضَبُ كَمَا قَالَ تعالى عنهم: {مَن لَّعَنَهُ الله وغضب عليه} وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم: {قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وأضلوا كثيرا وأضلوا عن سوآء السبيل} وبهذا وردت الأحاديث والآثار، فقد روي عن عدي بن حاتم أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم} قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ {وَلاَ الضآلين} قال: النصارى (رواه أحمد والترمذي من طرق وله ألفاظ كثيرة) ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: (آمين) ومعناه: -[25]- اللهم استبج، لما روي عن أبي هريرة أنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَلَا {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّالِّينَ} قَالَ: آمِينَ حَتَّى يُسْمِعَ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ" (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ ماجة وزاد فيه (فيرتج بها المسجد) (فصل فيما اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ - وَهِيَ سَبْعُ آيَاتٍ - عَلَى حَمْدِ اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الْمُسْتَلْزِمَةِ لِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، وَعَلَى ذِكْرِ الْمَعَادِ وَهُوَ (يَوْمُ الدِّينِ) وَعَلَى إِرْشَادِهِ عَبِيدَهُ إلى سؤاله، والتضرع إليه، والتبرىء من حولهم وقوّتهم، إلى إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَتَوْحِيدِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَتَنْزِيهِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ نَظِيرٌ أَوْ مُمَاثِلٌ، وَإِلَى سُؤَالِهِمْ إِيَّاهُ الْهِدَايَةَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَهُوَ (الدِّينُ الْقَوِيمُ) وَتَثْبِيتَهُمْ عَلَيْهِ حتى يقضي لهم بذلك إلى جواز الصراط يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمُفْضِي بِهِمْ إِلَى جَنَّاتِ النَّعيم، فِي جِوَارِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَاشْتَمَلَتْ على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوامع أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ مَسَالِكَ الْبَاطِلِ لِئَلَّا يُحْشَرُوا مَعَ سَالِكِيهَا يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ وَالضَّالُّونَ. وَمَا أَحْسَنَ مَا جَاءَ إسناد الإنعام إليه في قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وَحَذْفُ الْفَاعِلِ فِي الْغَضَبِ فِي قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم} وَإِنْ كَانَ هُوَ الْفَاعِلَ لذلك في الحقيقة، وَكَذَلِكَ إِسْنَادُ الضَّلَالِ إِلَى مَنْ قَامَ بِهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَضَلَّهُمْ بِقَدَرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ له} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ. لَا كما تقول القدرية مِنْ أَنَّ الْعِبَادَ هُمُ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ ذَلِكَ ويفعلون، وَيَحْتَجُّونَ عَلَى بِدْعَتِهِمْ بِمُتَشَابِهٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَيَتْرُكُونَ ما يكون فيه صريحاً فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الذين سمَّى الله» فاحذروهم" فَلَيْسَ - بِحَمْدِ اللَّهِ - لِمُبْتَدِعٍ فِي الْقُرْآنِ حجةٌ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ لِيَفْصِلَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، مُفَرِّقًا بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَلَيْسَ فِيهِ تناقضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ، لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حميد}.

2 - سورة البقرة

- 2 - سورة البقرة

[مقدمة] جميعها مدنية بلا خلاف، وهي من أوائل ما نزل، وآياتها مائتان وثمانون وسبع آيات.

ذكر ما ورد في فضلها أولاً: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا فَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» (رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حسن صحيح.) ثانياً: وعن سهل بن سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «إنَّ لِكُلِّ شيءٍ سَنَامًا، وإنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ البقرة، وإن مَنْ قَرَأَهَا فِي بَيْتِهِ لَيْلَةً لَمْ يَدْخُلْهُ الشيطان ثلاث ليال» (رواه الطبراني وابن حبان وابن مردويه عن سهل بن سعد) ثالثاً: وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا - وَهُمْ ذَوُو عَدَدٍ - فَاسْتَقْرَأَهُمْ فَاسْتَقْرَأَ كل واحد منهم مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَتَى عَلَى رجلٍ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا فَقَالَ: مَا مَعَكَ يَا فلان؟ فقال: مَعِي كَذَا وَكَذَا وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ، فَقَالَ: أَمَعَكَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اذْهَبْ فَأَنْتَ أميرهم (رواه التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه). رابعا: وعن أبي أمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "اقرأوا القرآن فإنه شافعٌ لأهل يوم القيامة، اقرأوا الزَّهْرَاوَيْنِ (الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ) فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ القيامة كأنهما عمامتان أو غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فَرَقان مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ يحاجان عن أهلهما يوم القيامة، ثم قال: اقرأوا البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة" (رواه أحمد ومسلم عن أبي أمامة الباهلي) الزهروانا: المنيرتان، وَالْغَيَايَةُ: مَا أَظَلَّكَ مِنْ فَوْقِكَ، والفَرَق: الْقِطْعَةُ من الشيء، والبطلة: السحرة. خامسا: وعن النواس بن سمعان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلُهُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ، تَقْدُمهم سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عمران».

بسم الله الرحمن الرحيم

- 1 - الم - 2 - ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى للمتقين {الم} اخْتَلَفَ المفسِّرون فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ فَرَدُّوا عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ ولم يفسروها حكاه القرطبي في تفسيره، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي مَعْنَاهَا فقال بعضهم: هي أسماء السور، قال الزمخشري: وعليه إطباق الأكثر، وَقِيلَ: هِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى يُفْتَتَحُ بِهَا السُّوَرُ، فَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا دَلَّ عَلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وصفةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، فَالْأَلِفُ مِفْتَاحُ اسْمِ (اللَّهِ) وَاللَّامُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ (لطيف) والميم مفتاح اسمه (مجيد) وقال آخرون: إِنَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ التي ذكرت فيها بياناً ل (إعجاز الْقُرْآنِ) وَأَنَّ الْخَلْقَ عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ، مع أنه مركب مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي يَتَخَاطَبُونَ بِهَا، حكاه الرازي عن المبرد وجمع من المحققين، وحكاه القرطبي عن الفراء، وقرره الزمخشري ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الإمام (ابن تيمية) وشيخنا الحافظ (أبو الحجاج المزي). قال الزمخشري: ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت، كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي الصريح في أماكن، وجاء منها على حرف واحد مثل {ص} وحرفين مثل {حم} وثلاثة مثل {الم} وأربعة مثل {المص} وخمسة مثل {كهيعص} لأن أساليب كلامهم منها ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك. قال ابن كثير: وَلِهَذَا كُلُّ سُورَةٍ افْتُتِحَتْ بِالْحُرُوفِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا الِانْتِصَارُ لِلْقُرْآنِ، وَبَيَانُ إِعْجَازِهِ وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء في تسع وعشرين سورة مثل: {الم ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} {الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق} {المص كِتَابٌ أُنزِلَ إليك} {الم كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} {الم تَنزِيلُ الكتاب لاَ ريب فيه} {حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم} وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ لِمَنْ أَمعن النَّظَرَ. {ذَلِكَ الكتاب} قال ابن عباس: أي هذا الكتاب. والعربُ تعارض بين أسمي الْإِشَارَةِ فَيَسْتَعْمِلُونَ كُلًّا مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ وَهَذَا معروفٌ في كلامهم. والكتابُ: القرآنُ، ومن قال: إن المراد بذلك الإشارة إلى التوراة والإنجيل فَقَدْ أبعدَ النُجعة، وَأَغْرَقَ فِي النَّزْعِ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. والريبُ: الشَّكُّ، أي لا شك فيه، روي ذلك عن أُناسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: لَا أَعْلَمُ فِي هذا خلافاً.

وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الرَّيْبُ فِي التُّهْمَةِ، قَالَ جَمِيلٌ: بثينةُ قَالَتْ: يَا جميلُ أَرَبْتَنِي * فقلتُ: كِلَانَا يَا بثينُ مُرِيبُ وَاسْتُعْمِلَ أَيْضًا فِي الْحَاجَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ ريبٍ * وخيبر ثم أجممنا السيوفا والمعنى: إن هذا الكتاب (الْقُرْآنُ) لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ نَزَلَ مِنْ عند الله كما قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ العالمين} وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا خبرٌ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ، أَيْ لا ترتابوا فيه. وخصت الهداية لِّلْمُتَّقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ} وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّفْعِ بِالْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ هُوَ فِي نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأرباب كما قال تعالى {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} قال السَّدي: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} يعني نوراً للمتقين، وعن ابن عباس: المتقون هم المؤمنون الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعة الله، وقال الحسن البصري: اتقوا ما حرم عليهم، وأدوا ما افترض عليهم. وقال قتادة: هُمُ الَّذِينَ نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغيب ويقيمون الصلاة}، واختيار ابْنُ جَرِيرٍ أنَّ الْآيَةَ تعمُّ ذَلِكَ كُلَّهُ، وهو كما قال. وفي الحديث الشريف: «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حتى يدع ما بأس به حذراً مما به بأس» (رواه الترمذي وابن ماجة وقال الترمذي: حسن غريب). ويطلق الهدى ويراد به ما يقر في القلب من الإيمان، وهذا لا يقد على خلقه في قلوب العباد إلا الله عز وجل قال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أحببت} وقال: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} وَقَالَ: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} ويطلق ويراد به بيان الحق والدلالة عليه، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} وقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}. وَأَصْلُ التَّقْوَى التَّوَقِّي مِمَّا يَكْرَهُ لِأَنَّ أَصْلَهَا (وَقَوى) من الوقاية، قال الشاعر: فألقتْ قِناعاً دُونَهُ الشمسُ واتَّقَت * بأحسنِ موصولينِ كفٍ معْصَم وسأل عمرُ (أُبيَّ بْنَ كَعْبٍ) عَنِ التَّقْوَى فَقَالَ لَهُ: أَمَا سلكتَ طَرِيقًا ذَا شَوْكٍ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ؟ قَالَ: شمَّرتُ واجتهدتُ، قَالَ: فذلك التقوى، وأخذ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ الْمُعْتَزِّ فَقَالَ: خَلِّ الذنوبَ صغيرَها * وكبيرَها ذاكَ التُّقَى واصْنَع كماشٍ فوقَ أرْ *ضِ (أرض) الشَّوْكِ يحذَرُ مَا يَرَى لَا تحقرنَّ صَغِيرَةً * إنَّ الجبال من الحصى وفي سنن ابن ماجه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «مَا اسْتَفَادَ الْمَرْءُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ، إِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله» (رواه ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه).

- 3 - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ الإيمان في اللغة يُطلق على التصديق المحض كَمَا قَالَ تَعَالَى {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}، وَكَمَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} وكذلك إذا استعمل مقروناً مع الأعمال: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وعملوا الصالحات} فأما إذا استعمل مطلقاً فالإيمان المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً عملاً، هكذا ذهب أكثر الأئمة وحكاه الشافعي وأحمد إِجْمَاعًا: أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وقد ورد فيه آثار كثيرة أفردنا الْكَلَامَ فِيهَا فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، ومنهم من فسره بالخشية: {إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ ربهم بالغيب} والخشيةُ خلاصة الإيمان العلم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العلماء}. وأما الغيب المراد ههنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه، فقال أبو العالية: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، وجنته ولقائه، وبالحياة بعد الموت فهذا غيبٌ كله. وقال السُّدي عن ابن عباس وابن مسعود: الغيبُ ما غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَأَمْرِ النار وما ذكر في القرآن. وقال عطاء: من آمن بالله فقد آمن بالغيب. فكل هذه متقاربة في معنى واحد والجميع مراد. روى ابن كثير بسنده عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قَالَ: "كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ جُلُوسًا فَذَكَرْنَا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وما سبقونا به، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيِّناً لِمَنْ رَآهُ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا آمَنَ أحدٌ قَطُّ إِيمَانًا أفضلَ مِنْ إيمانٍ بِغَيْبٍ، ثُمَّ قرأ: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب - إلى قوله - المفلحون (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ: وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يخرجاه)} وفي معنى هذا الحديث ما رواه أحمد عَنِ (ابْنِ محيريزٍ) قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جُمُعَةَ حدثْنا حَدِيثًا سَمعته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا جَيِّدًا: "تَغَدَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلْ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا؟ أَسْلَمْنَا مَعَكَ، وَجَاهَدْنَا مَعَكَ، قَالَ: نَعَمْ قومٌ مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي" (رواه أحمد عن أبي جمعة الأنصاري وله طرق أخرى) وفي رواية أُخرى عَنْ صَالِحِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو جُمُعَةَ الْأَنْصَارِيُّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببيت المقدس يصلي فيه ومعنا يومئذٍ (رجاء بن حيوة) رضي الله عنه، فَلَمَّا انْصَرَفَ خَرَجْنَا نشيِّعه فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ قَالَ: إنَّ لَكُمْ جَائِزَةً وَحَقًّا، أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا: هَاتِ رَحِمَكَ اللَّهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعنا معاذ ابن جَبَلٍ عَاشِرُ عَشَرَةٍ - فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: هل من قومٍ أعظم منا أجراً؟ آمَنَّا بِكَ وَاتَّبَعْنَاكَ، قَالَ: «مَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ يَأْتِيكُمْ بِالْوَحْيِ من السماء؟ بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بَيْنَ لَوْحَيْنِ، يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ، أولئك أعظم منكم أجراً، أولئك أعظم منكم أجراً» (رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ عن صالح بن جبير عن بي جمعة). وقوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصلاة} قال ابْنِ عَبَّاسٍ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ: إتمامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا ووضوئها، وركوعها وسجودها.

وَأَصْلُ الصَّلَاةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الدُّعَاءُ، قَالَ الْأَعْشَى: لَهَا حارسٌ لَا يَبْرَحُ الدهرَ بيتَها * وإن ذبحت صلَّى عليها وزمزما وقال الأعشى أيضاً: عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صليتِ فَاغْتَمِضِي * نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعًا يَقُولُ: عَلَيْكِ مِنَ الدُّعَاءِ مِثْلَ الَّذِي دَعَيْتِهِ لِي. وَهَذَا ظَاهِرٌ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتِ الصَّلَاةُ فِي الشَّرْعِ فِي ذَاتِ الرُّكُوعِ والسجود بشروطها المعروفة وصفاتها المشهورة. {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قال ابن عباس: زكاة أموالهم. وقال نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: نفقةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ، وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تنزل الزكاة. وقال قتادة: فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال عوارٍ وَوَدَائِعُ عِنْدَكَ يَا ابْنَ آدَمَ يُوشِكُ أَنْ تُفَارِقَهَا وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ في الزكاة والنفقات. قال ابن كثير: كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقِ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ حَقُّ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَتَمْجِيدِهِ وَالِابْتِهَالِ إِلَيْهِ، وَدُعَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِنْفَاقُ هُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِالنَّفْعِ الْمُتَعَدِّي إِلَيْهِمْ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْقَرَابَاتُ وَالْأَهْلُونَ وَالْمُمَالِيكُ ثُمَّ الْأَجَانِبُ، فكلٌ مِنَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ داخلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.

- 4 - وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ قَالَ ابْنُ عباس: يُصَدِّقُونَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ اللَّهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ وَلَا يَجْحَدُونَ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ (الْآخِرَةُ) لِأَنَّهَا بَعْدَ الدُّنْيَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ في الموصوفين هنا على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير: أحدها: أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ أَوَّلًا هُمُ الْمَوْصُوفُونَ ثَانِيًا، وَهُمْ كُلُّ مؤمنٍ، مُؤْمِنُو الْعَرَبِ وَمُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ. والثاني: هم مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعَلَى هَذَيْنِ تَكُونُ الْوَاوُ عَاطِفَةُ صفاتٍ عَلَى صِفَاتٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فسوَّى والذي قدَّر فهدى} فعطف الصفات بَعْضَهَا على بَعْضٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ أَوَّلًا مُؤْمِنُو الْعَرَبِ، وَالْمَوْصُوفُونَ ثانياً بقوله: {يُؤْمِنُونَ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} هم مؤمنو أهل الكتاب، واختاره ابن جرير ويستشهد بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} وبما روي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي، وَرَجُلٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حقَّ اللَّهِ وحقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ أدّب جاريته

فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها" (رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري). قلت: والظاهر قول مجاهد: أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآياتان فِي نَعْتِ الْكَافِرِينَ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ، فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ اتَّصَفَ بِهَا مِنْ عَرَبِيٍّ وَعَجَمِيٍّ وَكِتَابِيٍّ، مِنْ إِنْسِيٍّ وَجِنِّيٍّ، وَلَيْسَ تَصِحُّ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِدُونِ الأُخرى، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مُسْتَلْزِمَةٌ للأُخرى، وَشَرْطٌ مَعَهَا، فَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَمَا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَالْإِيقَانِ بِالْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ إلا بذاك، وقد أمر الله المؤمنين بذلك كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ من قبل} وقال تعالى: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وأُنزل إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ} وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ بِذَلِكَ فَقَالَ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} الْآيَةَ.

- 5 - أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون يقول تَعَالَى: {أُولَئِكَ} أَيْ الْمُتَّصِفُونَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَالْإِنْفَاقِ مِنَ الَّذِي رزقهم الله والإيمان بما أنزل إلى الرسول، والإيقان بالآخرة {على هُدًى} أي على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى، {ولأولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَالَ ابن عباس {عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} أَيْ عَلَى نورٍ من ربهم واستقامة على ما جاءهم به {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيْ الَّذِينَ أَدْرَكُوا مَا طلبوا، ونجوا من شر ما هربوا.

- 6 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} أي غطوا الحق وستروه، سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ، فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ حقَّت عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأليم} أَيْ إِنَّ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةَ فَلَا مُسْعِدَ لَهُ، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، وَبَلِّغْهُمُ الرِّسَالَةَ، فَمَنِ اسْتَجَابَ لَكَ فَلَهُ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ، ومن تولى فلا يهمنك ذلك {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وعلينا الحساب}. وعن ابن عباس في قوله {أن الذين كفروا} الْآيَةِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرِصُ أَنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النَّاسِ وَيُتَابِعُوهُ عَلَى الْهُدَى، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ إِلاَّ مَن سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ السعادةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَضِلُّ إِلاَّ مَن سَبَقَ لَهُ مِنَ الله الشقاءُ في الذكر الأول. وقوله تعالى: {لاَ يُؤْمِنُونَ} جملة مؤكدة للتي قبلها أي هم كفّار في كلا الحالين.

- 7 - خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {خَتَمَ الله} أي طبع عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فلا يُبْصِرُونَ هُدًى، وَلَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ وَلَا يعقلون. قال مجاهد: الختم: الطبعُ، ثبتت الذنوب على القلب فحفَّت بِهِ مِنْ كُلِّ نَوَاحِيهِ حَتَّى تَلْتَقِيَ عَلَيْهِ، فالتقاؤها عليه الطبعُ، والطبعُ الختم، وقد وصف تعالى نفسه بالختم والطبع عل قُلُوبِ الْكَافِرِينَ مُجَازَاةً لِكُفْرِهِمْ كَمَا قَالَ: {بَلْ طَبَعَ الله عليها بكفرهم}، وفي الحديث «يَا مقلِّب الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ». قال ابن جرير: وقال بعضهم: إن معنى قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ تَكَبُّرِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ الِاسْتِمَاعِ لِمَا دُعوا إليه من الحق، كما يقال: فلان أصمَّ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ، إِذَا امْتَنَعَ مِنْ سَمَاعِهِ ورَفَع نَفْسَهُ عَنْ تَفَهُّمِهِ تَكَبُّرًا، قَالَ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ. قُلْتُ: وَقَدْ أَطْنَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَقْرِيرِ مَا رَدَّهُ ابن جرير ههنا، وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ جَدًّا، وَمَا جَرَّأَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اعْتِزَالُهُ، لِأَنَّ الْخَتْمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَمَنْعَهَا مِنْ وُصُولِ الحق إليه قبيح عنده يتعالى اللَّهُ عَنْهُ فِي اعْتِقَادِهِ. وَلَوْ فُهِمَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إنما ختم على قلوبهم وحا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى جَزَاءً وِفَاقًا عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي الْبَاطِلِ وَتَرْكِهِمُ الْحَقَّ - وَهَذَا عَدْلٌ مِنْهُ تَعَالَى حسنٌ وَلَيْسَ بِقَبِيحٍ - فَلَوْ أَحَاطَ عِلْمًا بهذا لما قال ما قال. قال ابن جرير: وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي ذَلِكَ مَا صَحَّ بِنَظِيرِهِ الخبرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نكتةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَعْتَبَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يكسبون} " (رواه التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وقال الترمذي: حسن صحيح. ومعنى استعتب: رجع عن الإساءة، وطلب الرضى. كذا في النهاية لابن الأثير.) فأخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الذُّنُوبَ إِذَا تَتَابَعَتْ عَلَى الْقُلُوبِ أَغْلَقَتْهَا، وَإِذَا أَغْلَقَتْهَا أَتَاهَا حينئذٍ الْخَتْمُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالطَّبْعُ، فَلَا يَكُونُ لِلْإِيمَانِ إِلَيْهَا مَسْلَكٌ، وَلَا لِلْكُفْرِ عَنْهَا مُخَلِّصٌ، فَذَلِكَ هُوَ الْخَتْمُ وَالطَّبْعُ الَّذِي ذكره الله فِي قَوْلِهِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} نظيرُ الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ عَلَى مَا تُدْرِكُهُ الأبصار من الأوعيه والظروف.

- 8 - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ - 9 - يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ لما تقدم وصف المؤمني فِي صَدْرِ السُّورَةِ بِأَرْبَعِ آيَاتٍ، ثُمَّ عَرَّفَ حال الكافرين بآيتين، شَرَعَ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ، الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرُهُمْ يَشْتَبِهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، أَطْنَبَ فِي ذِكْرِهِمْ بِصِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كلٌ مِنْهَا نِفَاقٌ، كَمَا أنزل سورة «براءة» وَسُورَةَ «الْمُنَافِقِينَ» فِيهِمْ، وَذَكَرَهُمْ فِي سُورَةِ «النُّورِ» -[33]- وَغَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ، تَعْرِيفًا لِأَحْوَالِهِمْ لتُجتَنَبَ ويُجتنب مَنْ تَلَبَّسَ بِهَا أَيْضًا، فَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله .. } الآيات. والنفاق: هُوَ إِظْهَارُ الْخَيْرِ وَإِسْرَارُ الشَّرِّ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: اعْتِقَادِيٌّ: وَهُوَ الَّذِي يَخْلُدُ صَاحِبُهُ فِي النَّارِ، وعملي: وهو من أكبر الذنوب، لأن المنافق يخالف قولُه فعله، وسرُّه علانيَتَه، وإنما نزلت صفات المنافقين في السورة الْمَدَنِيَّةِ، لِأَنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نِفَاقٌ بل كان خلافه، وَلِهَذَا نَبَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع لذلك فَسَادٌ عَرِيضٌ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُمْ، وَمِنَ اعْتِقَادِ إِيمَانِهِمْ وَهُمْ كُفَّارٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا مِنَ الْمَحْذُورَاتِ الْكِبَارِ أَنْ يظنَّ بِأَهْلِ الفجور خيراً، فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر} أي يقولون ذلك قولاً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله}، أَيْ إِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ إِذَا جَاءُوكَ فَقَطْ لا في نفس الأمر، وليس الأمر كذلك، كما كذبهم الله في شهادتهم بقوله: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون} وفي اعتقادهم بقوله: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ والذين آمَنُوا} أي بإظهار مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْإِيمَانِ مَعَ إِسْرَارِهِمُ الْكُفْرَ، يَعْتَقِدُونَ - بِجَهْلِهِمْ - أَنَّهُمْ يَخْدَعُونَ اللَّهَ بِذَلِكَ وَأَنَّ ذَلِكَ نَافِعُهُمْ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ يَرُوجُ عَلَيْهِ كَمَا قد يروج على بعض المؤمنين، وَلِهَذَا قَابَلَهُمْ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أنفسَهم وما يَشْعُرُونَ} أي ما يغرّون بصنيعهم هذا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، وَمَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}، ومن القراء من قرأ: (وما يخادعون) وكلا القراءتين يرجع إلى معنى واحد.

- 10 - فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ {في قلوبهم مرضٌ} أي شكٌّ {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} شكاً، وعن ابن عباس {مرضٌ} نفاقٌ {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} نِفَاقًا، وَهَذَا كَالْأَوَّلِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أسلم: هَذَا مرضٌ فِي الدِّينِ وَلَيْسَ مَرَضًا فِي الأجساد، وَالْمَرَضُ الشَّكُّ الَّذِي دَخْلَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} أي زَادَهُمْ رِجْسًا. وَقَرَأَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رجسهم} يعني شراً إلى شرهم، ضلالة إلى ضلالتهم وهذا الذي قاله هو الجزاء من جنس العمل {وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وقرئ (يَكْذبون) و (ويُكَذّبون) وَقَدْ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِهَذَا وَهَذَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا كذبة ويكذبون بالغيب، يجمعون بين هذا وهذا، وحكمة كفّه عليه الصلاة والسلام عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَعْيَانِ بَعْضِهِمْ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: «أكره أين يتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه» (هو جزء من حديث شريف أخرجه الشيخان) ومعنى هذا خشيته عليه السلام أَنْ يَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ تَغَيُّرٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَعْرَابِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا يَعْلَمُونَ حِكْمَةَ قَتْلِهِ لَهُمْ، وَأَنَّ قَتْلَهُ إِيَّاهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْكُفْرِ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَهُ بِمُجَرَّدِ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ فَيَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أصحابه. وقال الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا مَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ مَعَ الْعِلْمِ بِنِفَاقِهِمْ، لِأَنَّ ما يظهرونه يجبُّ ما قبله، وفي الحديث المجمع على صحته: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عزَّ وجل» (أخرجه الشيخان وهو حديث متواتر) -[34]- وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مَنْ قَالَهَا جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا، فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُهَا وَجَدَ ثواب ذلك في الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ الله} الآية فهم يخالطونهم في الْمَحْشَرِ فَإِذَا حَقَّتِ الْمَحْقُوقِيَّةُ تَمَيَّزُوا مِنْهُمْ وَتَخَلَّفُوا بعدهم {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يشتهون}.

- 11 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ - 12 - أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ قال السُّدي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُناسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هم المنافقون، والفساد في الأرض هو الكفر والعمل بالمعصية، وقال أبو العالية: {لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض} يَعْنِي لَا تَعْصُوا فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ فَسَادُهُمْ ذَلِكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ مَنْ عَصَى اللَّهَ في الأرض، أو أمر بمعصيته فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ صَلَاحَ الْأَرْضِ والسماء بالطاعة، وقال مجاهد: إِذَا رَكِبُوا مَعْصِيَةَ اللَّهِ فَقِيلَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا كَذَا وَكَذَا قَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ عَلَى الهدى مصلحون. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَأَهْلُ النِّفَاقِ مُفْسِدُونَ فِي الأرض بمعصيتهم ربهم، وركوبهم مَا نَهَاهُمْ عَنْ رُكُوبِهِ، وَتَضْيِيعِهِمْ فَرَائِضَهُ، وَشَكِّهِمْ في دينه، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم مقيمون عليه مِنَ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ، وَمُظَاهَرَتُهُمْ أَهْلَ التَّكْذِيبِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ إِذَا وَجَدُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، فَذَلِكَ إِفْسَادُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْأَرْضِ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ مُصْلِحُونَ فيها. فَالْمُنَافِقُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُهُ الْإِيمَانُ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ على المؤمنين، وغرَّهم بِقَوْلِهِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَوَالَى الْكَافِرِينَ على المؤمنين، ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شره أخف، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أَيْ نُرِيدُ أَنْ نُدَارِيَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والكافرين، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء، قال ابن عباس {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أَيْ إِنَّمَا نُرِيدُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ يَقُولُ الله تعالى: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَّ يَشْعُرُونَ} يقول: ألا إن هذا الذي يزعمون أَنَّهُ إِصْلَاحٌ هُوَ عَيْنُ الْفَسَادِ، وَلَكِنْ مِنْ جَهْلِهِمْ لَا يَشْعُرُونَ بِكَوْنِهِ فَسَادًا.

- 13 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ النَّاسُ} أي كلإيمان النَّاسِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ المؤمنين به، وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ، وَتَرْكِ الزَّوَاجِرِ {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَاءُ}؟ يَعْنُونَ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يَقُولُونَ: أَنَصِيرُ نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَعَلَى طريقة واحدة، وهم سفهاء؟ وَالسَّفِيهُ: هُوَ الْجَاهِلُ الضَّعِيفُ الرَّأْيِ، الْقَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بالمصالح وَالْمَضَارِّ، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ سُفَهَاءَ -[35]- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لكم قياما} وقد تولى سُبْحَانَهُ جَوَابَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا فَقَالَ: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} فَأَكَّدَ وَحَصَرَ السَّفَاهَةَ فِيهِمْ {وَلَكِنْ لاَّ يَعْلَمُونَ} يَعْنِي وَمِنْ تَمَامِ جهلهم أنه لَا يَعْلَمُونَ بِحَالِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ وَالْجَهْلِ، وَذَلِكَ أبلغ فِي الْعَمَى وَالْبُعْدِ عَنِ الْهُدَى.

- 14 - وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ - 15 - اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي، وَإِذَا لَقِيَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ: قَالُوا آمَنَّا، وأظهروا لهم الإيمان والموالاة، غُرُورًا مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَنِفَاقًا وَمُصَانَعَةً وَتَقِيَّةً، وَلِيُشْرِكُوهُمْ فِيمَا أَصَابُوا مِنْ خَيْرٍ وَمَغْنَمٍ {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ} يعني إذا انصرفوا وَخَلَصُوا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ، فَضُمِّنَ «خَلَوْا» مَعْنَى انْصَرَفُوا لتعديته بإلى ليدل على الفعل المضمر، وشياطينهم سادتهم وكبراؤهم، ورؤساؤهم من أحبار اليهود، ورؤوس المشركين والمنافقين، قال السُّدي عن ابن مسعود {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ} يعني رؤساءهم في الكفر، وقال ابن عباس: هم أصحابهم من اليهود الَّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال مجاهد: أصحابهم من المنافقين والمشركين، وقال قتادة: رؤوسهم وقادتهم في الشرك والشر (وهو قول أبي العالية والسُّدي والربيع بن أنَس وغيرهم)، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَشَيَاطِينُ كُلِّ شَيْءٍ مَرَدَتُهُ، ويكون الشيطان من الإنس والجن كما قال تَعَالَى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} وقوله تعالى: {قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ} أَيْ إِنَّا عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ {إنما نحن مستهزءون} أي إنما نستهزىء بالقوم ونلعب بهم، وقال ابن عباس: {مُسْتَهْزِئُونَ} سَاخِرُونَ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وَقَوْلُهُ تَعَالَى جَوَابًا لَهُمْ وَمُقَابَلَةً عَلَى صَنِيعِهِمْ: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، قال ابن عباس: يسخر بهم للنقمة منهم {وَيَمُدُّهُمْ} يملي لهم، وقال مجاهد: يزيدهم كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ}، قال ابن جرير: أخبر تَعَالَى أَنَّهُ فَاعِلٌ بِهِمْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ في قوله تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} الآية، وفي قوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} الآية، قَالَ: فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ اسْتِهْزَاءِ اللَّهِ تعالى ومكره وخديعته بالمنافقين وأهل الشرك، وقال آخرون: اسْتِهْزَاؤُهُ بِهِمْ تَوْبِيخُهُ إِيَّاهُمْ، وَلَوْمُهُ لَهُمْ عَلَى ما ارتكبوا من معاصيه، وقال آخرون: قوله: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ}، وقوله: {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خادعهم}، وقوله: {نَسُواْ الله فنسيهم} وما أشبه ذلك إخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، معاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر عن الجزاء مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقوا العقاب عليه، فاللفظ متفق والمعنى مختلف (يسمى هذا النوع عند علماء البيان (المشاكلة) وهو أن تتفق الجملتان في اللفظ وتختلفا في المعنى كقول القائل: قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه * قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، وقوله: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} فَالْأَوَّلُ ظُلْمٌ وَالثَّانِي عَدْلٌ، فَهُمَا وَإِنِ اتَّفَقَ لفظهما فقد اختلف معناهما، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَجَّهُوا كُلَّ مَا فِي القرآن من نظائر -[36]- ذلك والعمه: الضلال، يقال: عمه عمهاً إذا ضل، وقوله: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي في ضلالتهم وكفرهم يترددون حيارى، لَا يَجِدُونَ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْهُ سَبِيلًا لِأَنَّ الله قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَخَتَمَ عَلَيْهَا، وَأَعْمَى أبصارهم عن الهدى فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا، وقا بعضهم: العمه في القلب، والعمى في العين، وقد يستعمل العمى في القلب أيضاً كم قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ التي فِي الصدور}.

- 16 - أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ قال السدي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} أَيِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا، وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ يُشْبِهُهُ فِي الْمَعْنَى قوله تعالى فِي ثمود: {فأما ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى}. وَحَاصِلُ قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا تَقَدَّمَ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ عَدَلُوا عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، وَاعْتَاضُوا عَنِ الْهُدَى بِالضَّلَالَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} أَيْ بَذَلُوا الْهُدَى ثمناً للضلالة وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} أَيْ مَا رَبِحَتْ صَفْقَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْبَيْعَةِ، وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ أَيْ رَاشِدِينَ في صنيعهم ذلك وقال ابن جرير عَنْ قَتَادَةَ: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْتُمُوهُمْ خَرَجُوا مِنَ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالَةِ، وَمِنَ الْجَمَاعَةِ إِلَى الْفُرْقَةِ، وَمِنَ الْأَمْنِ إِلَى الْخَوْفِ، وَمِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ.

- 17 - مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ - 18 - صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يرجعون يقال: مَثَل، وَالْجَمْعُ أَمْثَالٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يعقِلها إِلاَّ العالمون}، وَتَقْدِيرُ هَذَا الْمَثَلِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَبَّهَهُمْ في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إِلَى الْعَمَى، بِمَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ، وَانْتَفَعَ بِهَا وَأَبْصَرَ بِهَا مَا عن يمينه وشماله، وتأنس بها ... فبينما هو كذلك إذا طُفِئَتْ نَارُهُ وَصَارَ فِي ظَلَامٍ شَدِيدٍ، لَا يبصر ولا يهتدي وهو مع هذا (أَصَمُّ) لَا يَسْمَعُ، (أَبْكَمُ) لَا يَنْطِقُ، (أَعْمَى) لو كان ضياء لما أبصر، فهذا لَا يَرْجِعُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فِي اسْتِبْدَالِهِمُ الضَّلَالَةَ عِوَضًا عَنِ الْهُدَى، وَاسْتِحْبَابِهِمُ الْغَيَّ عَلَى الرُّشْدِ، وَفِي هَذَا الْمَثَلِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع والله أعلم. وقال الرازي: والتشبيه ههنا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ لِأَنَّهُمْ بِإِيمَانِهِمُ اكْتَسَبُوا أَوَّلًا نوراً، ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك فَوَقَعُوا فِي حَيْرَةٍ عَظِيمَةٍ، فَإِنَّهُ لَا حَيْرَةَ أعظم من حيرة الدين. وَصَحَّ ضَرْبُ مَثَلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار -[37]- يَحْمِلُ أسفارا} وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ مَثَلُ قِصَّتِهِمْ كَقِصَّةِ الذين استوقدوا ناراً، وَقَدِ الْتَفَتَ فِي أَثْنَاءِ الْمَثَلِ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}، وَهَذَا أَفْصَحُ فِي الْكَلَامِ وَأَبْلَغُ فِي النِّظَامِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} أي ذهب عنهم بما يَنْفَعُهُمْ وَهُوَ النُّورُ وَأَبْقَى لَهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ وَهُوَ الْإِحْرَاقُ وَالدُّخَانُ، {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} وَهُوَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشَّكِّ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. {لاَّ يُبْصِرُونَ} لا يهتدون إلى سبيل خَيْرٍ وَلَا يَعْرِفُونَهَا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ {صُمٌّ} لَا يَسْمَعُونَ خَيْرًا، {بُكْمٌ} لَا يَتَكَلَّمُونَ بِمَا يَنْفَعُهُمْ، {عُمْيٌ} فِي ضَلَالَةِ وَعَمَايَةِ الْبَصِيرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ التي فِي الصدور} فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُونَ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ من الهداية التي باعوها بالضلالة. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ... قَالَ: هَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ، كَانُوا قَدْ آمَنُوا حَتَّى أَضَاءَ الإِيمان فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا أَضَاءَتِ النَّارُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ استوقدوا ناراً، ثُمَّ كَفَرُوا فَذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فَانْتَزَعَهُ كَمَا ذَهَبَ بِضَوْءِ هَذِهِ النَّارِ فَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يبصرون.

- 19 - أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ - 20 - يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء قدير هذا مَثَلٌ آخَرُ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِضَرْبٍ آخَرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَهُمْ قَوْمٌ يَظْهَرُ لَهُمُ الْحَقُّ تَارَةً وَيَشُكُّونَ تَارَةً أُخرى، فَقُلُوبُهُمْ فِي حَالِ شكهم وكفرهم وترددهم (كصيِّب) والصيب: الْمَطَرُ نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ فِي حَالِ ظُلُمَاتٍ وهي الشكوك والكفر والنفاق، و (رعد): وَهُوَ مَا يُزْعِجُ الْقُلُوبَ مِنَ الْخَوْفِ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ وَالْفَزَعَ كَمَا قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}، وَقَالَ: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ، لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} و (البرق): هُوَ مَا يَلْمَعُ فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الضَّرْبِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا قَالَ: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} أَيْ وَلَا يُجْدِي عَنْهُمْ حَذَرُهُمْ شَيْئًا لِأَنَّ اللَّهَ مُحِيطٌ بِهِمْ بِقُدْرَتِهِ، وَهُمْ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، كَمَا قَالَ: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ. وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ محيط} أي بهم، ثُمَّ قَالَ: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أَيْ لِشِدَّتِهِ وَقُوَّتِهِ فِي نَفْسِهِ وَضَعْفِ بَصَائِرِهِمْ وَعَدَمِ ثباتها للإيمان. قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أَيْ لِشِدَّةِ ضَوْءِ الْحَقِّ {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} أَيْ كُلَّمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ اسْتَأْنَسُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُ، وَتَارَةً تَعْرِضُ لَهُمُ الشُّكُوكُ أَظْلَمَتْ قُلُوبَهُمْ فوقفوا حائرين. وعن ابن عباس: يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَيَتَكَلَّمُونَ بِهِ، فَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ بِهِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ فَإِذَا ارْتَكَسُوا مِنْهُ إِلَى الكفر قاموا: أي متحيرين. وَهَكَذَا يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَمَا يُعْطَى النَّاسُ النُّورَ بِحَسَبِ إِيمَانِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى مِنَ النُّورِ -[38]- مَا يُضِيءُ لَهُ مَسِيرَةَ فَرَاسِخَ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يطفأ نوره تارة ويضيء أخرى، ومنهم من يمشي عَلَى الصِّرَاطِ تَارَةً وَيَقِفُ أُخْرَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْفَأُ نُورُهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُمُ الخُلَّص مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نورُهم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تحتها الأنهار} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ. نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا. وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ على كل شيء قدير}. وقوله تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ الله على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ} عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}، قَالَ: لِمَا تَرَكُوا مِنَ الْحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، {إِنَّ اللَّهَ على كل شيءقدير}: أَيْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ مَا أَرَادَ بِعِبَادِهِ مِنْ نِقْمَةٍ أَوْ عَفْوٍ قَدِيرٌ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّمَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ حَذَّرَ الْمُنَافِقِينَ بَأْسَهُ وَسَطْوَتَهُ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ بهم محيط، وعلى إِذْهَابِ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ قَدِيرٌ، وَمَعْنَى (قَدِيرٍ) قَادِرٌ كما معنى (عليم) عالم. وذهب ابن جرير ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أَنَّ هَذَيْنِ المَثَلين مَضْرُوبَانِ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَتَكُونُ (أَوْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ} بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أو كفوراً} أَوْ تَكُونُ لِلتَّخْيِيرِ. أَيْ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا بهذا وإن شئت بهذا. قال الْقُرْطُبِيُّ: أَوْ لِلتَّسَاوِي مِثْلَ جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابن سيرين، ووجَّهه الزمخشري بأن كُلًّا مِنْهُمَا مُسَاوٍ لِلْآخَرِ فِي إِبَاحَةِ الْجُلُوسِ إِلَيْهِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ عَلَى قَوْلِهِ: سَوَاءٌ ضَرَبْتُ لَهُمْ مَثَلًا بِهَذَا أَوْ بِهَذَا فَهُوَ مُطَابِقٌ لِحَالِهِمْ. (قُلْتُ): وَهَذَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ جِنْسِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ أَصْنَافٌ وَلَهُمْ أَحْوَالٌ وَصِفَاتٌ، كَمَا ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) - وَمِنْهُمْ - وَمِنْهُمْ - وَمِنْهُمْ - يَذْكُرُ أَحْوَالَهُمْ وَصِفَاتِهِمْ وَمَا يَعْتَمِدُونَهُ مِنَ الأفعال والأقوال، فجعلُ هذن الْمَثَلَيْنِ لِصِنْفَيْنِ مِنْهُمْ أشدُّ مُطَابَقَةً لِأَحْوَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَمَا ضَرَبَ الْمَثَلَيْنِ فِي سُورَةِ (النور) لصنفي الكفّار الدعاة والمقلدين، وفي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}، إِلَى أَنْ قَالَ: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجّي} الآية. فَالْأَوَّلُ لِلدُّعَاةِ الَّذِينَ هُمْ فِي جَهْلٍ مُرَكَّبٍ، وَالثَّانِي لِذَوِي الْجَهْلِ الْبَسِيطِ مِنَ الْأَتْبَاعِ الْمُقَلِّدِينَ، والله أعلم بالصواب.

- 21 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ - 22 - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ شرع تعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه هُوَ الْمُنْعِمُ عَلَى عَبِيدِهِ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَإِسْبَاغِهِ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ، بِأَنْ جَعَلَ لَهُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا: أَيْ مَهْدًا كالفراش، مقررة موطأة مثبتة كالرواسي الشَّامِخَاتِ. {وَالسَّمَاءَ بِنَآءً} وَهُوَ السَّقْفُ، كَمَا قَالَ تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا معرضون}، {وَأَنزَلَ -[39]- مِنَ السمآء مَآءً} والمرادُ به السحاب ههنا فِي وَقْتِهِ عِنْدَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ بِهِ مِنْ أنواع الزروع والثمار رزقاً لهم ولأنعامهم. ومضمونه: أنه الخالق الرازق مالك الدار ساكنيها وَرَازِقُهُمْ، فَبِهَذَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ غَيْرُهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أيِّ الذنب أعظم عند الله؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» الْحَدِيثَ. وَكَذَا حَدِيثُ مُعَاذٍ: أَتَدْرِي مَا حَقُّ الله على عباده؟ «أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً» (هو جزء من حديث أخرجه الشيخان) الْحَدِيثَ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «لَا يقولنَّ أَحَدُكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ لِيَقُلْ ما شاء الله ثم شاء فلان». وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ: «أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدّاً؟ قُلْ مَا شَاءَ الله وحده» (أخرجه النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يونس) وَهَذَا كُلُّهُ صِيَانَةٌ وَحِمَايَةٌ لِجَنَابِ التَّوْحِيدِ وَاللَّهُ أعلم. قال ابن عباس، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، أَيْ وَحِّدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وعنه أيضاً {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: أَيْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَنَّهُ لَا رَبَّ لَكُمْ يَرْزَقُكُمْ غَيْرُهُ. وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} أي عدلاء شركاء، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قَالَ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ فِي التَّوْرَاةِ والإِنجيل. (ذِكْرُ حَدِيثٍ فِي مَعْنَى هَذِهِ الآية الكريمة) روى الإمام أحمد بسنده عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ نبيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ وَأَنْ يَأْمُرَ بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وأنه كاد أن يبطىْ بِهَا فَقَالَ لَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَإِمَّا أَنْ تُبْلِغَهُنَّ وَإِمَّا أَنْ أُبْلِغَهُنَّ؟ فَقَالَ: يَا أخي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أعذَّب أَوْ يُخْسف بِي. قَالَ: فَجَمَعَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ، فَقَعَدَ عَلَى الشَّرف فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ. أولهن أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا فإن مَثَل ذلك كمثل رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بَوَرِق أَوْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي غَلَّتَهُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ،، فَأَيُّكُمْ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟ وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَاعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا وَأَمَرَكُمْ بِالصِّيَامِ فَإِنَّ مَثَل ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَعَهُ صُرَّةً مِنْ مِسْكٍ فِي عِصَابَةٍ كُلُّهُمْ يَجِدُ رِيحَ الْمِسْكِ وإن خلوف فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. وَأَمَرَكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَل ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فشدُّوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ وقدَّموه لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فَقَالَ لَهُمْ هَلْ لَكَمَ أن أفتدي نفسي منكم؟ فَجَعَلَ يَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَتَّى فكَّ نَفْسَهُ. وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا وَإِنَّ مَثَل ذَلِكَ كَمَثَلِ رجلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سراعاُ فِي أَثَرِهِ فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فتحصَّن فِيهِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ". -[40]- قَالَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ، اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: الْجَمَاعَةُ وَالسَّمْعُ، وَالطَّاعَةُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فَهُوَ مِنْ جِثِيِّ جَهَنَّمَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى، فَقَالَ: «وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَادْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَسْمَائِهِمْ عَلَى مَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُسْلِمِينَ المؤمنين عباد الله» هذا حديث حسن. وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ وحده، فإنَّ من تأمل هذه الموجودات عَلِم قدرةَ خَالِقِهَا وَحِكْمَتَهُ، وَعِلْمَهُ وَإِتْقَانَهُ، وَعَظِيمَ سُلْطَانِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ وَقَدْ سُئِلَ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ تَعَالَى؟ فَقَالَ: يا سبحان الله أن البعر ليدل عَلَى الْبَعِيرِ، وَإِنَّ أَثَرَ الْأَقْدَامِ لَتَدُلُّ عَلَى الْمَسِيرِ فسماءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وأرضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ، وبحارٌ ذَاتُ أَمْوَاجٍ! أَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وجود اللطيف الخبير؟. وحكى الرازي عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّ الرَّشِيدَ سَأَلَهُ عَنْ ذلك فاستدل له بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، وَالْأَصْوَاتِ، وَالنَّغَمَاتِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ (بَعْضَ الزَّنَادِقَةِ) سَأَلُوهُ عَنْ وُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى فَقَالَ لَهُمْ: دَعُونِي فَإِنِّي مُفَكِّرٌ فِي أَمْرٍ قَدْ أُخْبِرْتُ عَنْهُ، ذَكَرُوا لِي أَنَّ سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ مُوقَرَةٌ فِيهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَتَاجِرِ وَلَيْسَ بِهَا أَحَدٌ يَحْرُسُهَا وَلَا يَسُوقُهَا - وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَتَسِيرُ بِنَفْسِهَا وَتَخْتَرِقُ الْأَمْوَاجَ الْعِظَامَ حَتَّى تَتَخَلَّصَ مِنْهَا وَتَسِيرَ حَيْثُ شَاءَتْ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسُوقَهَا أَحَدٌ. فَقَالُوا: هَذَا شَيْءٌ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ! فَقَالَ: وَيْحَكُمْ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُحْكَمَةِ لَيْسَ لَهَا صَانِعٌ؟! فَبُهِتَ الْقَوْمُ وَرَجَعُوا إِلَى الْحَقِّ وَأَسْلَمُوا عَلَى يَدَيْهِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ وُجُودِ الصَّانِعِ فَقَالَ: هَذَا وَرَقُ التُّوتِ طعمُه واحدٌ تَأْكُلُهُ الدُّودُ فيخرج منه الإبريسم (الإبريسم: الحرير.) وَتَأْكُلُهُ النَّحْلُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْعَسَلُ، وَتَأْكُلُهُ الشَّاةُ والبقر وَالْأَنْعَامُ فَتُلْقِيهِ بَعْرًا وَرَوَثًا، وَتَأْكُلْهُ الظِّبَاءُ فَيَخْرُجُ مِنْهَا الْمِسْكُ وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فقال: ههنا حصنٌ حَصِينٌ أَمْلَسُ لَيْسَ لَهُ بَابٌ وَلَا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء وباطنه كالذهب والإبريز، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذِ انْصَدَعَ جِدَارُهُ فَخَرَجَ مِنْهُ حَيَوَانٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذُو شكلٍ حَسَنٍ وَصَوْتٍ مَلِيحٍ يَعْنِي بِذَلِكَ الْبَيْضَةَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا الدَّجَاجَةُ وَسُئِلَ أَبُو نُوَاسٍ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْشَدَ: تأملْ فِي نَبَاتِ الْأَرْضِ وَانْظُرْ * إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ عيونٌ مِنْ لُجَيْنٍ شاخصاتُ * بِأَحْدَاقٍ هِيَ الذَّهَبُ السَّبِيكُ عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ * بأنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ: فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الإل * هـ (الْإِلَهُ) أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةً * تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ وَقَالَ آخَرُونَ: مَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ السَّمَاوَاتِ فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ الْكِبَارِ والصغار النيرة من السيارات وَمِنَ الثَّوَابِتِ، وَشَاهَدَهَا كَيْفَ تَدُورُ مَعَ الْفَلَكِ الْعَظِيمِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دُوَيْرَةٌ وَلَهَا في أنفسها سير يخصها، وانظَر إلى البحار المكتنفة لِلْأَرْضِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالْجِبَالِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْأَرْضِ لِتَقَرَّ وَيَسْكُنَ سَاكِنُوهَا مَعَ اخْتِلَافِ أَشْكَالِهَا وألوانها، كما قال تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بيضٌ وَحُمْرٌ مختلفٌ أَلْوَانُهَا وغرابيبُ سُودٌ} وَكَذَلِكَ هَذِهِ -[41]- الْأَنْهَارُ السَّارِحَةُ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قطر للمنافع، وَمَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ

- 23 - وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 24 - فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى فِي تَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَقَالَ مُخَاطِبًا لِلْكَافِرِينَ: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْل مَا جَاءَ بِهِ؛ إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَعَارِضُوهُ بمثْل مَا جَاءَ بِهِ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِمَنْ شِئْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {شُهَدَآءَكُم}: أعوانكم، أَيِ اسْتَعِينُوا بِآلِهَتِكُمْ فِي ذَلِكَ يَمُدُّونَكُمْ وَيَنْصُرُونَكُمْ، وَقَدْ تَحَدَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ فِي سُورَةِ القَصَص: {قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صادقين} وَقَالَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظهيراً} وَقَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بعشر سورة مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} وقال في سورة يونس: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ من مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صادقين}، وكل هذه الآيات مكية. ثم تحداهم بِذَلِكَ أَيْضًا فِي الْمَدِينَةِ فَقَالَ فِي هَذِهِ الآية: {وإن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} أي شَكٍّ {مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِّثْلِهِ} يعني من مثل الْقُرْآنِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ (وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطبري والزمخشري والرازي وأكثر المحققين) ورجح ذلك بوجوه من أحسنها: أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميُّهم وكتابيُّهم، وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئاً من العلوم وبدليل قوله تعالى: {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مثل} وقوله: {لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} وقال بعضهم: من مثل محمد يَعْنِي مِنْ رَجُلٍ أُمّيّ مِثْلِهِ، والصحيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ التَّحَدِّيَ عَامٌّ لَهُمْ كُلُّهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ أَفْصَحُ الْأُمَمِ، وَقَدْ تَحَدَّاهُمْ بِهَذَا فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مَرَّاتٍ عَدِيدَةٍ مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ وَبُغْضِهِمْ لِدِينِهِ، وَمَعَ هَذَا عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} و (لن) لنفي التأبيد في المستقبل، أَيْ وَلَنْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ أَبَدًا وَهَذِهِ أَيْضًا معجزة أُخرى، وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً غير خائف ولا مشفق أنَّ هذا القرآن لا يعارض بمثل أبد الآبدين ودهر الداهرين، وَكَذَلِكَ وَقَعَ الْأَمْرُ لَمْ يُعَارَضْ مِنْ لَدُنْهُ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، وَلَا يُمْكِنُ، وأنَّى يَتَأَتَّى ذَلِكَ لِأَحَدٍ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ؟ وَكَيْفَ يُشْبِهُ كَلَامُ الْخَالِقِ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ؟ -[42]- وَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَجَدَ فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ فُنُونًا ظَاهِرَةً وَخَفِيَّةً، مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ ومن جهة المعنى قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خبير} فَأُحْكِمَتْ أَلْفَاظُهُ، وَفُصِّلَتْ مَعَانِيهِ، أَوْ بِالْعَكْسِ عَلَى الْخِلَافِ، فكلَّ مِنْ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ فَصِيحٌ لَا يُحاذي وَلَا يُداني. فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ مَغِيبَاتٍ مَاضِيَةٍ كَانَتْ وَوَقَعَتْ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَأَمَرَ بِكُلِّ خَيْرٍ وَنَهَى عَنْ كُلِّ شَرٍّ كما قال تعالى: {وتمت كلمو رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} أَيْ صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الْأَحْكَامِ، فكلُّه حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَعَدْلٌ وَهُدًى، لَيْسَ فِيهِ مُجَازَفَةٌ وَلَا كَذِبٌ وَلَا افْتِرَاءٌ، كَمَا يُوجَدُ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَكَاذِيبِ وَالْمُجَازَفَاتِ الَّتِي لَا يَحْسُنُ شِعْرُهُمْ إِلَّا بِهَا، كَمَا قِيلَ فِي الشِّعْرِ (إِنَّ أَعْذَبَهُ أَكْذَبُهُ) وَتَجِدُ في الْقَصِيدَةَ الطَّوِيلَةَ الْمَدِيدَةَ قَدِ اسْتُعْمِلَ غَالِبُهَا فِي وَصْفِ النِّسَاءِ أَوِ الْخَيْلِ أَوِ الْخَمْرِ، أَوْ فِي مَدْحِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ ناقة أو حرب، أَوْ شَيْءٍ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ الْمُتَعَيِّنَةِ الَّتِي لَا تفيد شيئاَ، إلا قدرة المتكلم المعين عَلَى الشَّيْءِ الْخَفِيِّ أَوِ الدَّقِيقِ أَوْ إِبْرَازُهُ إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيه بَيْتًا أَوْ بَيْتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ هِيَ بُيُوتُ الْقَصِيدِ، وَسَائِرُهَا هَذَرٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَجَمِيعُهُ فَصِيحٌ فِي غَايَةِ نِهَايَاتِ الْبَلَاغَةِ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا، مِمَّنْ فَهِمَ كَلَامَ الْعَرَبِ وَتَصَارِيفَ التَّعْبِيرِ، فَإِنَّهُ إِنْ تَأَمَّلْتَ أَخْبَارَهُ وَجَدْتَهَا فِي غَايَةِ الْحَلَاوَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَبْسُوطَةً أَوْ وَجِيزَةً، وَسَوَاءٌ تَكَرَّرَتْ أَمْ لَا، وَكُلَّمَا تكرَّر حَلَا وَعَلَا، لَا يخلُق عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يملُّ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَإِنْ أَخَذَ فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ جَاءَ مِنْهُ مَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ الْجِبَالُ الصُّمُّ الرَّاسِيَاتُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْقُلُوبِ الْفَاهِمَاتِ؟ وَإِنْ وَعَدَ أَتَى بِمَا يفتح القلوب والآذان، وشوّق إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَمُجَاوَرَةِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ كَمَا قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وَقَالَ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وَقَالَ فِي التَّرْهِيبِ: {أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر}، {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}، وقال في الزجر: {فلا أخذنا بذنبه}، وَقَالَ فِي الْوَعْظِ: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمتَّعون} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْحَلَاوَةِ. وَإِنْ جَاءَتِ الْآيَاتُ فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي اشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَمْرِ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ حَسَنٍ نَافِعٍ طَيِّبٍ مَحْبُوبٍ، وَالنَّهْيِ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ رَذِيلٍ دَنِيءٍ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ في القرآن: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا فأرْعها سمعك فإنها خيرٌ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} الآية، وَإِنْ جَاءَتِ الْآيَاتُ فِي وَصْفِ الْمَعَادِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَفِي وَصْفِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِمَا لِأَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ مِنَ النَّعِيمِ وَالْجَحِيمِ، وَالْمَلَاذِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، بَشَّرَتْ بِهِ وَحَذَّرَتْ وَأَنْذَرَتْ؛ وَدَعَتْ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُنْكَرَاتِ، وزهَّدت فِي الدُّنْيَا ورغَّبت فِي الأُخرى، وَثَبَّتَتْ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى، وَهَدَتْ إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَشَرْعِهِ الْقَوِيمِ، وَنَفَتْ عَنِ الْقُلُوبِ رجس الشيطان الرجيم. وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُعطي مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ الله إليّ فأرجوا أن أكون أكثرهم -[43]- تابعاً يوم القيامة (رواه الشيخان عن أبي هريرة واللفظ لمسلم)»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أوتيتُه وَحْيًا» أَيِ الَّذِي اخْتَصَصْتُ بِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ هَذَا الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ لِلْبَشَرِ أَنْ يُعَارِضُوهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُعْجِزَةً عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حَصْرٍ، ولله الحمد والمنة. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ والحجارة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} أمَّا الوَقود فَهُوَ مَا يُلْقَى فِي النَّارِ لِإِضْرَامِهَا كَالْحَطَبِ ونحوه كما قال تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنت لها واردون} والمراد بالحجارة ههنا هي حجارة الكبريت، العظيمة السوداء الصلبة النتنة، وَهِيَ أَشَدُّ الْأَحْجَارِ حَرًّا إِذَا حَمِيَتْ أَجَارَنَا الله منها، وقال السُّدي في تفسيره عن ابن مسعود {اتقوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}: أَمَّا الْحِجَارَةُ فيه حِجَارَةٌ فِي النَّارِ مِنْ كِبْرِيتٍ أَسْوَدَ يُعَذَّبُونَ بِهِ مَعَ النَّارِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حِجَارَةٌ مِنْ كبريت أنتن من الجيفة. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا حِجَارَةُ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ الَّتِي ك

- 25 - وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَعَدَّهُ لِأَعْدَائِهِ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ الْكَافِرِينَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، عَطَفَ بِذِكْرِ حَالِ أَوْلِيَائِهِ مِنَ السُّعَدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وبرسله الذي صدقوا إمانهم بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَهَذَا مَعْنَى تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ مَثَانِيَ عَلَى أَصَحِّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ كَمَا سَنَبْسُطُهُ فِي موضعه، وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بِذِكْرِ الْكُفْرِ أَوْ عَكْسِهِ، أَوْ حَالَ السُّعَدَاءِ ثُمَّ الْأَشْقِيَاءِ أَوْ عَكْسِهِ، وَحَاصِلُهُ ذِكْرُ الشَّيْءِ ومقابله. وأما ذكر الشيْ وَنَظِيرُهُ فَذَاكَ التَّشَابُهُ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، فَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أَيْ مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا وَغُرَفِهَا وَقَدْ جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقنا مِن قَبْلُ}. قال السدي في تفسيره: إِنَّهُمْ أَتَوْا بِالثَّمَرَةِ فِي الْجَنَّةِ فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهَا قَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ في الدنيا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} معناه مثل الذي كان بالأمس، وقال آخرون: {هذا الذي رُزِقْنَا من قَبْلُ} من ثمار الجنة لِشَدَّةٍ مُشَابَهَةِ بَعْضِهِ بَعْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} وعن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: يُؤْتَى أَحَدُهُمْ بِالصَّحْفَةِ مِنَ الشَّيْءِ فَيَأْكُلُ مِنْهَا، ثُمَّ يُؤْتَى بأخرى فيقول هذا الذي أتينا بِهِ مِن قَبْلُ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: كُلْ فَاللَّوْنُ واحد، والطعم مختلف. وقال ابن جرير بإسناده فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} يَعْنِي في اللون والمرأى وليس يشبه فِي الطَّعْمِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} قَالَ: يُشْبِهُ ثَمَرَ الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ «لَا يُشْبِهُ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ مَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا فِي الْأَسْمَاءِ»، وفِي رِوَايَةٍ «لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الجنة إلاّ الأسماء». وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْقَذَرِ وَالْأَذَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الْحَيْضِ وَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالنُّخَامِ وَالْبُزَاقِ وَالْمَنِيِّ وَالْوَلَدِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْأَذَى والمأثم، وعن أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} قَالَ: مِنَ الْحَيْضِ وَالْغَائِطِ وَالنُّخَاعَةِ وَالْبُزَاقِ (رواه ابن مردويه والحاكم في المستدرك قال ابن كثير: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ قَتَادَةَ كَمَا تقدم) -[45]- وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هَذَا هُوَ تَمَامُ السَّعَادَةِ، فَإِنَّهُمْ مَعَ هَذَا النَّعِيمِ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ، مِنَ الْمَوْتِ وَالِانْقِطَاعِ فَلَا آخِرَ لَهُ، وَلَا انْقِضَاءَ بَلْ فِي نَعِيمٍ سَرْمَدِيٍّ أبدي على الدوام ... والله المسؤول أَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ، برٌّ رحيم.

- 26 - إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ - 27 - الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أولئك هُمُ الخاسرون قال السدي: لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ لِلْمُنَافِقِينَ يَعْنِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً}، وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ من السماء} الْآيَاتِ الثَّلَاثِ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَضْرِبَ هَذِهِ الْأَمْثَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الآية إلى قوله تعالى: {هُمُ الخاسرون} (ذكره السدي في تفسيره عن ابن عبا وابن مسعود) وقال قتادة: لما ذكر الله تعالى الْعَنْكَبُوتَ وَالذُّبَابَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا بَالُ الْعَنْكَبُوتِ والذباب يذكران؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يضرب مثلا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} أي أن الله لايستحي من الحق إن يذكر شيئا مما قلَّ أَوْ كَثُر، وَإِنَّ اللَّهَ حِينَ ذَكَرَ في كتابه الذباب العنكبوت قَالَ أَهْلُ الضَّلَالَةِ: مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}. وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي أَيْ لَا يَسْتَنْكِفُ، وَقِيلَ: لَا يَخْشَى أن يضرب مثلا ما، أيَ مثلٍ كَانَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ صَغِيرًا كان أو كبيراً و (ما) ههنا لِلتَّقْلِيلِ، وَتَكُونُ بَعُوضَةً مَنْصُوبَةً عَلَى الْبَدَلِ، كَمَا تَقُولُ: لأضربنَّ ضَرْبًا مَا، فَيَصْدُقُ بِأَدْنَى شَيْءٍ أو تكون (ما) نكرة موصوفة ببعوضة، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَعُوضَةً مَنْصُوبَةً بِحَذْفِ الْجَارِّ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَيْنَ بَعُوضَةٍ إِلَى مَا فوقها» وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء. وقوله تعالى: {فَمَا فَوْقَهَا} فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: فَمَا دُونَهَا فِي الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ، كَمَا إِذَا وُصِفَ رَجُلٌ بِاللُّؤْمِ وَالشُّحِّ فَيَقُولُ السَّامِعُ نَعَمْ وَهُوَ فَوْقَ ذلك - يعني فيما وصفت - وهذا قول أكثر الْمُحَقِّقِينَ، وَفِي الْحَدِيثِ:: «لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بعوضة لما سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» وَالثَّانِي فَمَا فوقها لما هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَحْقَرُ وَلاَ أَصْغَرَ مِن الْبَعُوضَةِ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ بن دعامة واختيار بن جرير فإنه يؤيده مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فما فوقها إلا كتب لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ» فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَصْغِرُ شَيْئًا يَضْرِبُ بِهِ مَثَلًا وَلَوْ كَانَ فِي الْحَقَارَةِ وَالصِّغَرِ كَالْبَعُوضَةِ، فكما لا يَسْتَنْكِفْ عَنْ خَلْقِهَا كَذَلِكَ لَا يَسْتَنْكِفُ مِنْ ضرب المثل بها، كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ والمطلوب} -[46]- وَقَالَ: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٌ} الآية، ثم قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ، أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ من يأمر بالعدل}؟ الآية. وَقَالَ: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون} وَفِي الْقُرْآنِ أَمْثَالٌ كَثِيرَةٌ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا سَمِعْتُ الْمَثَلَ فِي الْقُرْآنِ فَلَمْ أَفْهَمْهُ بَكَيْتُ عَلَى نَفْسِي لِأَنَّ الله قال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون}، قال قتادة: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّهِمْ} أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَلَامُ الرَّحْمَنِ وَأَنَّهُ مِنْ عند الله. وقال أبو العالية: {فأما لذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} يَعْنِي هَذَا الْمَثَلُ، {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} كما قال تعالى: {وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ ربك إلى هو}، وكذلك قال ههنا: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين}. قال ابن عباس: يضل به كثيرا يعني به (المنافقين) ويهدي به كثيرا يعني به (المؤمنين) فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم، لِتَكْذِيبِهِمْ بِمَا قَدْ عَلِمُوهُ حَقًّا يَقِينًا مِنَ المثل الذي ضربه الله، ويهدي به يعني المثل كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ فَيَزِيدُهُمْ هُدًى إلى هداهم وإيماناً إلى إيمانهم، {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين}، قال أبو العالية: هم أهل النفاق، وقال مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} قال: يَعْرِفُهُ الْكَافِرُونَ فَيَكْفُرُونَ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} فَسَقُوا فَأَضَلَّهُمُ اللَّهُ على فسقهم. والفاسقُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْخَارِجُ عَنِ الطَّاعَةِ. تقول الْعَرَبُ: فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرَتِهَا، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْفَأْرَةِ (فُوَيْسِقَةٌ) لِخُرُوجِهَا عَنْ جُحْرِهَا لِلْفَسَادِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَمْسُ فَوَاسَقَ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الغرابُ والحدأةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ" فَالْفَاسِقُ يَشْمَلُ الْكَافِرَ وَالْعَاصِيَ، وَلَكِنَّ فِسْقَ الْكَافِرِ أَشَدُّ وَأَفْحَشُ، والمراد به مِنَ الْآيَةِ الفاسقُ الْكَافِرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، بِدَلِيلِ أنه وصفهم بقوله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ صِفَاتُ الْكُفَّارِ الْمُبَايِنَةُ لِصِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، كما قال تَعَالَى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى؟ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} الْآيَاتِ، إِلَى أَنْ قَالَ: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سوء الدار} وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي مَعْنَى الْعَهْدِ الَّذِي وُصِفَ هَؤُلَاءِ الْفَاسِقِينَ بِنَقْضِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ وَصِيَّةُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ، وَنَهْيِهِ إِيَّاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فِي كُتُبِهِ وَعَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، ونقضُهم ذَلِكَ هُوَ تَرْكُهُمُ الْعَمَلَ بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ فِي كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ، وَعَهْدُ اللَّهِ الَّذِي نَقَضُوهُ هُوَ مَا أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا فِيهَا وَاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بُعِثَ، وَالتَّصْدِيقِ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ هُوَ جُحُودُهُمْ بِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ بِحَقِيقَتِهِ وَإِنْكَارِهِمْ ذَلِكَ، وَكِتْمَانِهِمْ عِلْمَ ذَلِكَ عن الناس، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وهو قول مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ. -[47]- وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ جَمِيعَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ، وعهدُه جَمِيعِهِمْ فِي تَوْحِيدِهِ مَا وَضَعَ لَهُمْ مِنَ الأدلة عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ، وَعَهْدُهُ إِلَيْهِمْ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ مَا احْتَجَّ بِهِ لِرُسُلِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرُهُمْ أَنْ يأتي بمثله، الشاهد لَهُمْ عَلَى صِدْقِهِمْ. قَالُوا: وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ تَرْكُهُمُ الإقرار بما قد تبينت لَهُمْ صِحَّتُهُ بِالْأَدِلَّةِ وَتَكْذِيبُهُمُ الرُّسُلَ وَالْكُتُبَ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ مَا أَتَوْا بِهِ حَقٌّ. وَرُوِيَ عن مقاتل بن حيان أيضا نَحْوَ هَذَا وَهُوَ حَسَنٌ وَإِلَيْهِ مَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِنَّهُ قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) فَمَا الْمُرَادُ بِعَهْدِ اللَّهِ؟ قُلْتُ مَا رَكَّزَ فِي عُقُولِهِمْ مِنَ الحجة على التوحد كَأَنَّهُ أَمْرٌ وَصَّاهُمْ بِهِ ووثَّقه عَلَيْهِمْ، وَهُوَ معنى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}، إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله: {أوفوا بعهدي أوفِ بِعَهْدِكُمْ} وقال آخرون: العهد الذي ذكر تَعَالَى هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ الَّذِي وَصَفَ فِي قوله: {وإذا أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْ

- 28 - كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُحْتَجًّا عَلَى وُجُودِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ الْخَالِقُ الْمُتَصَرِّفُ فِي عِبَادِهِ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} أَيْ كَيْفَ تَجْحَدُونَ وُجُودَهُ أَوْ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} أي وقد كُنْتُمْ عَدَمًا فَأَخْرَجَكُمْ إِلَى الْوُجُودِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لاَّ يوقنون}، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ}: أَمْوَاتًا فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا حَتَّى خَلَقَكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ مَوْتَةَ الْحَقِّ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ حِينَ يبعثكم (هذه رواية ابن جريج عن ابن عباس، والرواية الثانية رواية الضحّاك عنه) قال: وهي مثل قوله تعالى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى {رَبَّنَآ أمتنا اثنتي وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قَالَ: كُنْتُمْ تُرَابًا قَبْلَ أَنْ يخلقكم فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم هذه حَيَاةٌ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ فَتَرْجِعُونَ إِلَى الْقُبُورِ فَهَذِهِ مَيْتَةٌ أُخرى، ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهَذِهِ حَيَاةٌ أُخرى: فَهَذِهِ مَيْتَتَانِ وَحَيَاتَانِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يحييكم}.

- 29 - هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى دلالةَ مِنْ خَلْقِهِمْ وَمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ مِمَّا يُشَاهِدُونَهُ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَقَالَ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سماوات} أي قصد إلى السماء. والاستواء ههنا متضمن مَعْنَى الْقَصْدِ وَالْإِقْبَالِ لِأَنَّهُ عُدِّيَ بِإِلَى (فَسَوَّاهُنَّ) أي فخلق السماء سبعاً. والسماء ههنا اسم جنس، فلهذا قال: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أَيْ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ، كَمَا قَالَ: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خلق} وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ وهو قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} الآيات. فَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ بِخَلْقِ الْأَرْضِ أولاَ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ سَبْعًا، وَهَذَا شَأْنُ الْبِنَاءِ أَنْ يَبْدَأَ بِعِمَارَةِ أَسَافِلِهِ ثُمَّ أَعَالِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ صَرَّحَ الْمُفَسِّرُونَ بذلك كما سنذكره فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} فقد قيل: إن (ثمَّ) ههنا إِنَّمَا هِيَ لِعَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْخَبَرِ لَا لِعَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ * ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ وَقِيلَ: إِنَّ الدحي كان بعد خلق السماوات والأرض رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وقال مجاهد في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ قَبْلَ السَّمَاءِ، فلماخلق الْأَرْضَ ثَارَ مِنْهَا دُخَانٌ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَسَوَّاهُنَّ سبع سموات} قَالَ: بعضُهن فَوْقَ بَعْضٍ وَسَبْعُ أَرَضِينَ يَعْنِي بعضها تَحْتَ بَعْضٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةِ السَّجْدَةِ: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يومين} فَهَذِهِ وَهَذِهِ دَالَّتَانِ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَهَذَا مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ السَّمَاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَقَدْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا والجبال أرساها} قَالُوا فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ الْأَرْضِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ هَذَا بِعَيْنِهِ فَأَجَابَ بِأَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَأَنَّ الْأَرْضَ إِنَّمَا دُحِيَتْ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ أَجَابَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التفسير قديماً وحديثاً وقد حررنا ذلك في سُورَةِ النَّازِعَاتِ، وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّحْيَ مُفَسَّرٌ بقوله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا والجبال أَرْسَاهَا} ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعاً فيه بالقوة إلى الفعل لما أكملت صُورَةُ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ ثُمَّ السَّمَاوِيَّةِ، دَحَى بَعْدَ ذَلِكَ الْأَرْضَ فَأَخْرَجَتْ مَا كَانَ مُودَعًا فِيهَا مِنَ الْمِيَاهِ، فَنَبَتَتِ النَّبَاتَاتُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَصِفَاتِهَا وَأَلْوَانِهَا وَأَشْكَالِهَا، وَكَذَلِكَ جَرَتْ هَذِهِ الْأَفْلَاكُ فَدَارَتْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَةِ والله سبحانه وتعالى أعلم.

- 30 - وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ -[49]- وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى بِامْتِنَانِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ بِتَنْوِيهِهِ بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم بقوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} أَيْ وَاذْكُرْ يَا محمد إذا قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ وَاقْصُصْ عَلَى قَوْمِكَ ذَلِكَ، {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} أَيْ قَوْمًا يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَجِيلًا بعد جيل، كما قال تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض}، وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض}، وَقَالَ: {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} وليس المراد ههنا بِالْخَلِيفَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ طائفة من المفسرين، إذ لو كان ذلك لَمَا حَسُنَ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء}، فإنهم أَرَادُوا أَنَّ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ بِعِلْمٍ خَاصٍّ، أَوْ بِمَا فَهِمُوهُ مِنَ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يَخْلُقُ هَذَا الصِّنْفَ مِنْ {صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} أَوْ فَهِمُوا مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنَّهُ الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن الْمَحَارِمَ وَالْمَآثِمَ (قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ). أَوْ أَنَّهُمْ قَاسُوهُمْ عَلَى مَنْ سَبَقَ كَمَا سَنَذْكُرُ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ هَذَا لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى اللَّهِ، وَلَا عَلَى وَجْهِ الْحَسَدِ لِبَنِي آدَمَ كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أَيْ لَا يَسْأَلُونَهُ شَيْئًا لَمْ يأذن لهم فيه، وههنا لَمَّا أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُ سَيَخْلُقُ فِي الْأَرْضِ خَلْقًا وَقَدْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِيهَا فَقَالُوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}؟ الْآيَةَ. وَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالُ اسْتِعْلَامٍ وَاسْتِكْشَافٍ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ، يَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا مَا الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِ هَؤُلَاءِ، مَعَ أَنَّ مِنْهُمْ مَن يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ؟ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عِبَادَتُكَ فَنَحْنُ نسبِّح بِحَمْدِكَ ونقدِّس لك أي نصلّي لك ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهل وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْنَا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، أَيْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فِي خَلْقِ هَذَا الصِّنْفِ عَلَى الْمَفَاسِدِ الَّتِي ذَكَّرْتُمُوهَا مَا لاَ تَعْلَمُونَ أَنْتُمْ، فَإِنِّي سَأَجْعَلُ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، وَأُرْسِلُ فِيهِمُ الرُّسُلَ، وَيُوجَدُ منهم الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ، والعُبَّاد وَالزُّهَّادُ، وَالْأَوْلِيَاءُ وَالْأَبْرَارُ، وَالْمُقَرَّبُونَ، وَالْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ، وَالْخَاشِعُونَ وَالْمُحِبُّونَ لَهُ تَبَارَكَ وتتعالى، المتبعون رسُلِهِ صلوات الله وسلامه عليهم. وقيل: معنى قوله تعالى: {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} إني لِي حِكْمَةً مُفَصَّلَةً فِي خَلْقِ هَؤُلَاءِ وَالْحَالَةُ مَا ذَكَرْتُمْ لَا تَعْلَمُونَهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ جَوَابٌ {وَنَحْنُ نسبِح بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}، فَقَالَ: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أَيْ مِنْ وُجُودِ إِبْلِيسَ بَيْنَكُمْ وَلَيْسَ هُوَ كَمَا وَصَفْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِهِ. وَقِيلَ: بَلْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُمْ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نسبِّح بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} طَلَبًا مِنْهُمْ أَنْ يَسْكُنُوا الْأَرْضَ بَدَلَ بَنِي آدم، فقال الله تعالى ذلك: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} مِنْ أَنَّ بَقَاءَكُمْ فِي السَّمَاءِ أَصْلَحُ لَكُمْ وَأَلْيَقُ بِكُمْ. ذكرها الرازي مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَجْوِبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (ذِكْرُ أقوال المفسرين) قال السدي في تفسيره: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا: رَبَّنَا وَمَا يَكُونُ ذاك -[50]- الْخَلِيفَةُ؟ قَالَ: يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ فِي الأرض، ويقتل بعضهم بعضاً: قال ابن جرير: وإنما مَعْنَى الْخِلَافَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ إِنَّمَا هِيَ خلافة قرن منهم قرناً قال: والخليفة الفعلية من قوله: خَلَفَ فُلَانٌ فُلَانًا فِي هَذَا الْأَمْرِ، إِذَا قَامَ مَقَامَهُ فِيهِ بَعْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}. ومن ذلك قبل لِلسُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ خَلِيفَةٌ، لِأَنَّهُ خَلَفَ الَّذِي كَانَ قبله فقام بالأمر فكان منه خلفاً. قال ابن جرير عن ابن عباس: إن أَوَّلُ مَنْ سَكَنَ الْأَرْضَ الْجِنُّ، فَأَفْسَدُوا فِيهَا، وَسَفَكُوا فِيهَا الدِّمَاءَ، وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسَ، فَقَتَلَهُمْ إِبْلِيسُ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى أَلْحَقَهُمْ بِجَزَائِرِ الْبُحُورِ وَأَطْرَافِ الْجِبَالِ ثم خلق آدم فأسكنه إِيَّاهَا، فَلِذَلِكَ قَالَ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خليفة}. وقال الْحَسَنُ: إِنَّ الْجِنَّ كَانُوا فِي الْأَرْضِ يُفْسِدُونَ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ، وَلَكِنْ جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ (الضمير في (قلوبهم) يعود على الملائكة لا على الجن فتنبه) أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ، فَقَالُوا بِالْقَوْلِ الَّذِي عَلَّمَهُمْ. وقال قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}: كَانَ اللَّهُ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ خَلْقٌ أَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، فَذَلِكَ حِينَ قَالُوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء}؟. قال ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مَا قَالَتْ {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} لِأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهُمْ فِي السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَخْبَرَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَسَأَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَقَالَتْ عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْهَا: وَكَيْفَ يَعْصُونَكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ خَالِقُهُمْ؟ فَأَجَابَهُمْ رَبُّهُمْ {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوهُ أَنْتُمْ وَمَنْ بَعْضُ ما تَرَوْنَهُ لِي طَائِعًا، قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِرْشَادِ عَمَّا لَمْ يَعْلَمُوا مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَبِّ خبرنا - مسألة اسْتِخْبَارٌ مِنْهُمْ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ - وَاخْتَارَهُ ابن جرير. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}، قال قتادة: التسبيح والتقديس الصلاة، وقال السدي عن ابن عباس {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}: نُصَلِّي لَكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}، قال نعظمك ونكبرك. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: التَّقْدِيسُ هُوَ التَّعْظِيمُ وَالتَّطْهِيرُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، يَعْنِي بِقَوْلِهِمْ سُبُّوحٌ تَنْزِيهٌ لَهُ، وَبِقَوْلِهِمْ قُدُّوسٌ طَهَارَةٌ وَتَعْظِيمٌ لَهُ، وكذلك قِيلَ لِلْأَرْضِ: أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ، يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُطَهَّرَةَ فمعنى قوله الْمَلَائِكَةِ إِذًا {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}: نُنَزِّهُكَ وَنُبَرِّئُكَ مِمَّا يُضِيفُهُ إِلَيْكَ أَهْلُ الشِّرْكِ بِكَ، {وَنُقَدِّسُ لَكَ} نَنْسِبُكَ إِلَى مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِكَ مِنَ الطَّهَارَةِ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَمَا أَضَافَ إِلَيْكَ أهل الكفر بك. عن أبي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وبحمده «(رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري) وروي أن رسول الله صلى اللَه عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ سَمِعَ تَسْبِيحًا فِي السَّمَاوَاتِ العلا» سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى" (رواه البهيقي عن عبد الرحمن بن قرط) {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} قَالَ قَتَادَةُ: فَكَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ فِي تِلْكَ الْخَلِيقَةِ أَنْبِيَاءُ وَرُسُلٌ وَقَوْمٌ صَالِحُونَ وساكنوا الجنة. -[51]- وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وجوب نصب الخليقة، ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فِيهِ، وَيَقْطَعَ تَنَازُعَهُمْ وَيَنْتَصِرَ لِمَظْلُومِهِمْ مِنْ ظَالِمِهِمْ، وَيُقِيمَ الْحُدُودَ، وَيَزْجُرَ عَنْ تَعَاطِي الْفَوَاحِشِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي لَا تمكن إِقَامَتُهَا إِلَّا بِالْإِمَامِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَالْإِمَامَةُ تُنَالُ بِالنَّصِّ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَبِي بَكْرٍ. أَوْ بِالْإِيمَاءِ إِلَيْهِ كَمَا يَقُولُ آخَرُونَ مِنْهُمْ، أَوْ بِاسْتِخْلَافِ الْخَلِيفَةِ آخَرَ بَعْدَهُ كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَوْ بتركه مشورة فِي جَمَاعَةٍ صَالِحِينَ كَذَلِكَ كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ، أَوْ بِاجْتِمَاعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى مُبَايَعَتِهِ أَوْ بِمُبَايَعَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَهُ، فَيَجِبُ الْتِزَامُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَحَكَى عَلَى ذَلِكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الإجماع، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا، حُرًّا، بَالِغًا، عَاقِلًا، مُسْلِمًا، عَدْلًا، مُجْتَهِدًا، بَصِيرًا، سَلِيمَ الْأَعْضَاءِ، خَبِيرًا بِالْحُرُوبِ وَالْآرَاءِ، قُرَشِيًّا عَلَى الصَّحِيحِ؛ وَلَا يُشْتَرَطُ الْهَاشِمِيُّ وَلَا الْمَعْصُومُ مِنَ الْخَطَأِ خلافاً للغل

- 31 - وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 32 - قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ - 33 - قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ هَذَا مقامٌ ذَكَر اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ شرفُ آدم على الملائكة، بما اختصه مِنْ عِلْمِ أَسْمَاءِ كُلِّ شَيْءٍ دُونَهُمْ، وَهَذَا كَانَ بَعْدَ سُجُودِهِمْ لَهُ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ هَذَا الْفَصْلَ عَلَى ذَاكَ لِمُنَاسَبَةِ مَا بَيْنَ هَذَا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليقة، حين سألوا عن ذلك فأخبرهم تَعَالَى بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَلِهَذَا ذكر الله هَذَا الْمَقَامَ عَقِيبَ هَذَا لِيُبَيِّنَ لَهُمْ شَرَفَ آدَمَ بِمَا فُضِّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ، فقال تعالى: {وعلم آدم الأسمآء كُلَّهَا} قال السدي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} علمه أَسْمَاءَ وَلَدِهِ إِنْسَانًا إِنْسَانًا، وَالدَّوَابِّ فَقِيلَ هَذَا الحمار، هذا الجمل، هذا الفرس (هذه رواية السدي عن بن عباس، والثانية رواية الضحاك عنه) وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قَالَ: هِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي يتعارف بها الناس: إنسان، ودواب، وسماء، وأرض وسهل، وبحر، وخيل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. وقال مجاهد {وعلم آدم الأسمآء كُلَّهَا}: عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ دَابَّةٍ، وَكُلِّ طَيْرٍ، وَكُلِّ شَيْءٍ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كل شيء وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا ذَوَاتَهَا وصفاتها وأفعالها، وَلِهَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ أنَس عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وعلَّمك أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ حتى يريحنا -[52]- من مكاننا هذا (أخرجه البخاري عن أنَس بن مالك ورواه مسلم والنسائي وابن ماجة)» الحديث. فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} يعني المسميات {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، قال مجاهد: ثم عَرَضَ أَصْحَابَ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ ابْنُ جرير عن الحسن وقتادة قال: علَّمه اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ يُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ بِاسْمِهِ وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ أُمَّةً أُمَّةً، وَبِهَذَا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله تعالى {إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إِنِّي لَمْ أَخْلُقْ خَلْقًا إلى كُنْتُمْ أَعْلَمَ مِنْهُ فَأَخْبِرُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وقال السدي {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ فِي الأرض ويسفكون الدماء، {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} هَذَا تَقْدِيسٌ وَتَنْزِيهٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُحِيطَ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ، وَأَنْ يَعْلَمُوا شَيْئًا إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَلِهَذَا قَالُوا: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إلى مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أَيِ العليمُ بِكُلِّ شَيْءٍ الحكيمُ فِي خَلْقِكَ وَأَمْرِكَ، وفي تعليمك ما تشاء ومنعك ما تَشَاءُ، لَكَ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ وَالْعَدْلُ التَّامُّ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {سُبْحَانَ اللَّهِ} قَالَ: تَنْزِيهُ الله نفسه عن السوء. قوله تَعَالَى {قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}: لما ظَهَرَ فَضْلُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي سَرْدِهِ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} أَيْ أَلَمْ أَتَقَدَّمْ إِلَيْكُمْ أَنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ الظاهر والخفي، كما قال تَعَالَى: {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} وكما قال إِخْبَارًا عَنِ الْهُدْهُدِ أَنَّهُ قَالَ لِسُلَيْمَانَ: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}: أَعْلَمُ السِّرَّ كَمَا أَعْلَمُ الْعَلَانِيَةَ، يَعْنِي مَا كَتَمَ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ وَالِاغْتِرَارِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} فكان الذي أبدوا هو قَوْلُهُمْ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} وكان الذي كتموا بينهم هو قَوْلَهُمْ: لَنْ يَخْلُقَ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَعْلَمَ مِنْهُ وَأَكْرَمَ. فَعَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ فَضَّلَ عَلَيْهِمْ آدَمَ فِي الْعِلْمِ وَالْكَرَمِ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ}: وَأَعْلَمُ مَعَ عِلْمِي غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَا تُظْهِرُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تُخْفُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ فَلَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ سَوَاءٌ عِنْدِي سَرَائِرُكُمْ وَعَلَانِيَتُكُمْ. وَالَّذِي أَظْهَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ قَوْلُهُمْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا، وَالَّذِي كَانُوا يكتمونه مَا كَانَ عَلَيْهِ مُنْطَوِيًا إِبْلِيسُ مِنَ الْخِلَافِ عَلَى اللَّهِ فِي أَوَامِرِهِ وَالتَّكَبُّرِ عَنْ طَاعَتِهِ، قَالَ: وَصَحَّ ذَلِكَ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: قُتِلَ الْجَيْشُ وَهُزِمُوا، وَإِنَّمَا قُتِلَ الْوَاحِدُ أَوِ الْبَعْضُ وَهُزِمَ الْوَاحِدُ أَوِ الْبَعْضُ، فَيَخْرُجُ الْخَبَرُ عَنِ الْمَهْزُومِ مِنْهُ وَالْمَقْتُولِ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنْ جَمِيعِهِمْ، كما قال تعالى: {إن الذي يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ} ذُكِر أَنَّ الَّذِي نَادَى إِنَّمَا كَانَ وَاحِدًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، قَالَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}.

- 34 - وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ -[53]- وَهَذِهِ كَرَامَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِآدَمَ امتَنَّ بِهَا عَلَى ذُرِّيَّتِهِ، حَيْثُ أَخْبَرَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَحَادِيثُ أَيْضًا كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ الْمُتَقَدِّمِ، وَحَدِيثُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: "رَبِّ أَرِنِي آدَمَ الَّذِي أَخْرَجَنَا وَنَفْسَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ قَالَ: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ؟ " قَالَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ كَمَا سَيَأْتِي إن شاء الله. وَالْغَرَضُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ دَخَلَ إِبْلِيسُ فِي خِطَابِهِمْ، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عُنْصُرِهِمْ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَدْ تَشَبَّهَ بِهِمْ وَتَوَسَّمَ بِأَفْعَالِهِمْ، فَلِهَذَا دَخَلَ فِي الْخِطَابِ لَهُمْ وَذُمَّ فِي مُخَالَفَةِ الأمر. قال طاووس عن ابن عباس: كَانَ إِبْلِيسُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ الْمَعْصِيَةَ مِنَ الملائكة اسمه (عزرايل) وَكَانَ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ الْمَلَائِكَةِ اجْتِهَادًا، وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا، فَذَلِكَ دَعَاهُ إِلَى الْكِبْرِ، وَكَانَ مِنْ حيٍّ يُسَمَّوْنَ جِنًّا وَقَالَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: كَانَ إِبْلِيسُ رَئِيسَ مَلَائِكَةِ سماء الدنيا. وقال ابن جرير عن الحسن: مَا كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ وَإِنَّهُ لَأَصْلُ الْجِنِّ، كَمَا أَنَّ آدَمَ أَصْلُ الْإِنْسِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَنِ الْحَسَنِ. وقال شهر ابن حَوْشَبٍ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ طَرَدَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَأَسَرَهُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى السماء، رواه ابن جرير، وعن سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُقَاتِلُ الْجِنَّ فَسُبِيَ إِبْلِيسُ وَكَانَ صَغِيرًا فَكَانَ مَعَ الملائكة يتعبد مَعَهَا فَلَمَّا أُمروا بِالسُّجُودِ لِآدَمَ سَجَدُوا فَأَبَى إِبْلِيسُ فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن} وقال أبو جعفر: {وَكَانَ مِنَ الكافرين} يعني من العاصين. قال قتادة في قوله تعالى {وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لأَدَمَ}: فَكَانَتِ الطَّاعَةُ لِلَّهِ والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كَانَ هَذَا سُجُودُ تَحِيَّةٍ وَسَلَامٍ وَإِكْرَامٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} وَقَدْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَلَكِنَّهُ نُسِخَ فِي مِلَّتِنَا. قَالَ مُعَاذٌ: "قَدِمْتُ الشَّامَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لَكَ، فَقَالَ: «لَا، لَوْ كُنْتُ آمِرًا بَشَرًا أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا» وَرَجَّحَهُ الرَّازِيُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَتِ السَّجْدَةُ لِلَّهِ وَآدَمُ قِبْلَةٌ فِيهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى وَالسَّجْدَةَ لِآدَمَ كانت إِكْرَامًا وَإِعْظَامًا وَاحْتِرَامًا وَسَلَامًا، وَهِيَ طَاعَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهَا امْتِثَالٌ لِأَمْرِهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَوَّاهُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وضعَّف مَا عَدَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَهُمَا: كَوْنُهُ جُعِلَ قِبْلَةً إِذْ لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَرَفٌ، وَالْآخَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّجُودِ الْخُضُوعُ لَا الِانْحِنَاءُ وَوَضْعُ الْجَبْهَةِ على الأرض، وهو ضعيف كما قال. وقال قتادة فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}: حَسَدَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْكَرَامَةِ وَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَهَذَا طِينِيٌّ، وَكَانَ بَدْءُ الذُّنُوبِ الْكِبْرَ، اسْتَكْبَرَ عَدُوُّ الله أن يسجد لآدم عليه السلام. قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ» وَقَدْ كَانَ فِي قَلْبِ إِبْلِيسَ مِنَ الْكِبْرِ، وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ مَا اقْتَضَى طَرْدَهُ وَإِبْعَادَهُ عَنْ جَنَابِ الرَّحْمَةِ وَحَضْرَةِ الْقُدْسِ، قَالَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}: أَيْ وَصَارَ مِنَ الْكَافِرِينَ بِسَبَبِ امْتِنَاعِهِ، كَمَا قَالَ: {فَكَانَ مِنَ المغرقين}، وقال: {فَتَكُونَا من الظالمين}، وَقَالَ الشَّاعِرُ: بِتَيْهَاءَ قَفْرٌ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا * قَطَا الْحُزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا -[54]- أَيْ قَدْ صَارَتْ، وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ تَقْدِيرُهُ: وَقَدْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنَ الْكَافِرِينَ، ورجَّحه الْقُرْطُبِيُّ، وذكر ههنا مَسْأَلَةً فَقَالَ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَنْ أَظْهَرَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ كَرَامَاتٍ وَخَوَارِقَ لِلْعَادَاتِ فَلَيْسَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى وِلَايَتِهِ خِلَافًا لبعض الصوفية والرافضة. قُلْتُ: وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْخَارِقَ قَدْ يَكُونُ عَلَى يَدَيْ غَيْرِ الْوَلِيِّ، بَلْ قَدْ يَكُونُ عَلَى يَدِ الْفَاجِرِ وَالْكَافِرِ أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ صَيَّادٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الدُّخُّ، حِينَ خَبَّأَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فارتقب يوم تأت السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ}، وَبِمَا كَانَ يَصْدُرُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَمْلَأُ الطَّرِيقَ إِذَا غَضِبَ حَتَّى ضَرَبَهُ عَبْدُ اللَّهِ بن عمر، وبما تثبتت به الأحاديث الدَّجَّالِ بِمَا يَكُونُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْخَوَارِقِ الْكَثِيرَةِ، مِنْ أَنَّهُ يَأْمُرُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرُ وَالْأَرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُنْبِتُ، وَتَتْبَعُهُ كُنُوزُ الْأَرْضِ مِثْلَ الْيَعَاسِيبِ وَأَنَّهُ يَقْتُلُ ذَلِكَ الشَّابَّ ثُمَّ يُحْيِيهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ المهولة. وكان اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَابِ والسنّة.

- 35 - وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظالمين - 36 - فأزلهما الشيطان عنها فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ يبين اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَمَّا أَكْرَمَ بِهِ آدَمَ، بَعْدَ أَنْ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ إِنَّهُ أَبَاحَهُ الْجَنَّةَ يَسْكُنُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ وَيَأْكُلُ مِنْهَا مَا شَاءَ (رَغَداً) أي هنيئاً واسعاً، طيباً. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي أُسْكِنَهَا آدَمُ هي في السماء أم في الأرض؟ فالأكثرون عَلَى الْأَوَّلِ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا فِي الْأَرْضِ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ويساق الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ دُخُولِ آدم الجنة، ويقال: إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة كما قال السدي في خبر ذكره عن ابن عباس وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ "أُخْرِجُ إِبْلِيسُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأُسْكِنَ آدَمُ الْجَنَّةَ، فَكَانَ يَمْشِي فِيهَا وحيداً لَيْسَ لَهُ زَوْجٌ يَسْكُنُ إِلَيْهِ، فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَ رَأْسِهِ امْرَأَةٌ قَاعِدَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ من ضلعه، فسألها: من أَنْتِ؟ قَالَتِ: امْرَأَةٌ، قَالَ: وَلِمَ خُلِقْتِ؟ قَالَتْ: لِتَسْكُنَ إِلَيَّ، قَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ يَنْظُرُونَ مَا بَلَغَ مِنْ عِلْمِهِ: مَا اسْمُهَا يَا آدَمُ؟ قال: حواء، قالوا: ولمَ حَوَّاءَ؟ قَالَ: إِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ". وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فَهُوَ اخْتِبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَامْتِحَانٌ لِآدَمَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ مَا هِيَ؟ فَقَالَ السدي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّجَرَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا آدم عليه السلام هِيَ الْكَرْمُ، وَتَزْعُمُ يَهُودُ أَنَّهَا الْحِنْطَةُ. وَقَالَ ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّجَرَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا آدم عليه السلام هي السنبلة، وقال ابن جرير بسنده: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَتَبَ إِلَى أَبِي الْجَلْدِ يَسْأَلُهُ عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَكَلَ مِنْهَا آدَمُ، وَالشَّجَرَةِ الَّتِي تَابَ عِنْدَهَا آدَمُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو الْجَلْدِ: سَأَلْتَنِي عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا آدَمُ وَهِيَ السُّنْبُلَةُ، وَسَأَلْتَنِي عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي تَابَ -[55]- عندها آدم وهي الزيتونة. وقال سفيان الثوري عَنْ أَبِي مَالِكٍ {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}: النَّخْلَةُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة}: التينة. قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: أن الله عز وجل ثَنَاؤُهُ نَهَى آدَمَ وَزَوْجَتَهُ عَنْ أَكْلِ شَجَرَةٍ بِعَيْنِهَا مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ دُونَ سَائِرِ أَشْجَارِهَا فَأَكَلًا مِنْهَا، وَلَا عِلْمَ عِنْدِنَا بِأَيِّ شَجَرَةٍ كَانَتْ عَلَى التَّعْيِينِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ لِعِبَادِهِ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَقَدْ قِيلَ: كَانَتْ شَجَرَةَ الْبُرِّ، وَقِيلَ: كَانَتْ شَجَرَةَ الْعِنَبِ، وَقِيلَ: كَانَتْ شَجَرَةَ التِّينِ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً مِنْهَا وذلك عِلْمٌ إذا عُلِم لم يَنْفَعُ الْعَالِمَ بِهِ عِلْمُهُ، وَإِنْ جَهِلَه جَاهِلٌ لم يضره جهله به والله أعلم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ (عَنْهَا) عَائِدًا إِلَى الجنة، فيكون معنى الكلام فأزلهما أي فنحاهما، ويصح أين يَكُونَ عَائِدًا عَلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِينَ وَهُوَ الشَّجَرَةُ فيكون معنى الكلام فأزلهما أي من قبل الزَّلَلِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} أَيْ بِسَبَبِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أفك} أَيْ يُصْرَفُ بِسَبَبِهِ مَنْ هُوَ مَأْفُوكٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} أَيْ مِنَ اللِّبَاسِ وَالْمَنْزِلِ الرَّحْبِ وَالرِّزْقِ الْهَنِيءِ وَالرَّاحَةِ {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أَيْ قَرَارٌ وَأَرْزَاقٌ وَآجَالٌ (إِلَى حِينٍ) أَيْ إِلَى وَقْتٍ مُؤَقَّتٍ وَمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ ثُمَّ تَقُومُ الْقِيَامَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ كَالسُّدِّيِّ بِأَسَانِيدِهِ، وَأَبِي العالية، ووهب بن منبه وغيرهم، ههنا أَخْبَارًا إِسْرَائِيلِيَّةً عَنْ قِصَّةِ الْحَيَّةِ وَإِبْلِيسَ، وَكَيْفَ جَرَى مِنْ دُخُولِ إِبْلِيسَ إِلَى الْجَنَّةِ وَوَسْوَسَتِهِ، وَسَنَبْسُطُ ذَلِكَ إِن شَآءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الأعراف فهناك القصة أبسط منها ههنا والله الموفق. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ جَنَّةُ آدَمَ الَّتِي أخرج منها فِي السَّمَاءِ كَمَا يَقُولُهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فكيف تمكن إِبْلِيسُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَقَدْ طُرِدَ مِنْ هنالك؟ وأجاب الجمهور بأجوبة، وأحدها أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ مُكَرَّمًا، فَأَمَّا على وجه السرقة وَالْإِهَانَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ - كَمَا فِي التَّوْرَاةِ - أَنَّهُ دَخَلَ فِي فَمِ الْحَيَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَسْوَسَ لَهُمَا وَهُوَ خَارِجُ بَابِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَسْوَسَ لَهُمَا وَهُوَ فِي الْأَرْضِ وَهُمَا فِي السَّمَاءِ. ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وقد أورد القرطبي ههنا أَحَادِيثَ فِي الْحَيَّاتِ وَقَتْلِهِنَّ، وَبَيَانِ حُكْمِ ذَلِكَ فأجاد وأفاد.

- 37 - فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مُفَسَّرَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} قَالَ: إِنَّ آدَمَ لَمَّا أَصَابَ الْخَطِيئَةَ قَالَ: أرأيت يا رب إن تبت وأصلحت؟ قال الله: «إذن أدخلك الجنة» فهي الْكَلِمَاتِ، وَمِنَ الْكَلِمَاتِ أَيْضًا {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين}. وعن مجاهد أنه كان يقول في قوله اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} الْكَلِمَاتُ «اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ» اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ -[56]- وَبِحَمْدِكَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي إِنَّكَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ «،» اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عليَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أَيْ إِنَّهُ يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}، وَقَوْلُهُ: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} الآية، وقوله: {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً} وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ الذُّنُوبَ، وَيَتُوبُ عَلَى مَنْ يَتُوبُ، وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ بِخَلْقِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعَبِيدِهِ، لَا إله إلا هُوَ التواب الرحيم.

- 38 - قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ - 39 - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يُخْبِرُ تعالى بما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أَهْبَطَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَالْمُرَادُ الذُّرِّيَّةُ: أَنَّهُ سَيُنْزِلُ الْكُتُبَ، وَيَبْعَثُ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، كَمَا قَالَ أَبُو العالية: الهدى الأنبياء والرسل والبينات وَالْبَيَانُ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: الْهُدَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْهُدَى القرآن، هذان القولنان صَحِيحَانِ. وَقَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ أَعَمُّ {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} أَيْ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى مَا أَنْزَلْتُ بِهِ الْكُتُبَ وَأَرْسَلْتُ بِهِ الرُّسُلَ {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أَيْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ أُمور الدُّنْيَا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} كما قال ههنا {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أَيْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا لَا محيد لهم عنها ولا محيص. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يحيون، ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتتة حَتَّى إِذَا صَارُوا فَحْمًا أُذِنَ فِي الشَّفَاعَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي سلمة وأروده ابن جرير من طريقين)». وذكرُ هَذَا الْإِهْبَاطَ الثَّانِي لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْمَعْنَى الْمُغَايِرِ لِلْأَوَّلِ، وَزَعَمَ بعضهم أنه تأكيد وتكرير كما يقال قُمْ قُمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْإِهْبَاطُ الْأَوَّلُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَالثَّانِي مِنْ سَمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ أعلم.

- 40 - يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ - 41 - وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثمنا قليلا وإياي فاتقون يأمر تعالى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَمُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، وَمُهَيِّجًا لَهُمْ بِذِكْرِ أَبِيهِمْ (إِسْرَائِيلَ) وَهُوَ نَبِيُّ اللَّهِ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَقْدِيرُهُ: يَا بَنِي الْعَبْدِ الصَّالِحِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ، -[57]- كُونُوا مِثْلَ أَبِيكُمْ فِي مُتَابَعَةِ الْحَقِّ، كَمَا تَقُولُ: يَا ابْنَ الْكَرِيمِ افْعَلْ كَذَا؛ يَا ابْنَ الشُّجَاعِ بَارِزِ الْأَبْطَالَ؛ يَا ابْنَ العالِم اطْلُبِ الْعِلْمَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مع نوح إن كَانَ عَبْداً شَكُوراً} فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه ابن عَبَّاسٍ قَالَ: حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ نبيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبُ؟»، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اشهد» وعن ابن عَبَّاسٍ: أَنَّ إِسْرَائِيلَ كَقَوْلِكَ عَبْدُ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} قَالَ مُجَاهِدٌ}: نِعْمَةُ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ فيما سمى وفيما سوى ذلك أن فجَّر لَهُمُ الْحَجَرَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، ونجّاهم مِنْ عُبُودِيَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: نِعْمَتُهُ أَنْ جَعَلَ مِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ. قُلْتُ: وَهَذَا كَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ: {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ} يعني في زمانهم، وقال محمد ابن إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أَيْ بَلَائِي عندكم وعند آبائكم لما كان نجّاهم مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}، قَالَ: بِعَهْدِي الَّذِي أَخَذْتُ فِي أَعْنَاقِكُمْ لِلنَّبِيِّ صلى اللَه عليه وسلم إذا جاءكم، أنجزْ لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الآصار وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَعْنَاقِكُمْ بِذُنُوبِكُمُ الَّتِي كَانَتْ مِنْ إِحْدَاثِكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُوَ قوله تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً. وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ، وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهار} الآية. وقال آخرون: هو الذي أخذ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ سَيَبْعَثُ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ نَبِيًّا عَظِيمًا يُطِيعُهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ وَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن اتبعه غفر الله له ذنبه وأدخله الجنة وجعل له أجرين. وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي}، قَالَ: عَهْدُهُ إِلَى عِبَادِهِ دين الإسلام وأن يتبعوه. وقال الضحّاك {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}: أرضَ عنكم وأُدخلكم الجنة، وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فارهبون} أي فاخشون، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِيَّايَ فارهبون} أي أن أنزل بكم ما أنزلت بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ مِنَ النِّقْمَاتِ الَّتِي قَدْ عَرَفْتُمْ مِنَ الْمَسْخِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنَ التَّرْغِيبِ إِلَى التَّرْهِيبِ، فَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْحَقِّ وَاتِّبَاعِ الرسول صلى اللَه عليه وسلم وَالِاتِّعَاظِ بِالْقُرْآنِ وَزَوَاجِرِهِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَتَصْدِيقِ أَخْبَارِهِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَآمِنُواْ بِمَآ أَنَزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} يعني به الْقُرْآنُ الذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وسلم النَّبِيِّ الأُمي الْعَرَبِيِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَسِرَاجًا مُنِيرًا، مُشْتَمِلًا عَلَى الْحَقِّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. قَالَ أبو العالية: {وَآمِنُواْ بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ}، يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ، يَقُولُ: لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل. وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَعِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غيركم، قال أبو العالية: ولا تكونوا أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وسلم بعد سماعكم بمبعثه، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ (بِهِ) عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: {بِمَآ أَنزَلْتُ}، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ لِأَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ، لِأَنَّ مَنْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: -[58]- {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} فَيَعْنِي بِهِ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْ بين إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أول من كفر به من بني إسرائيل مُبَاشَرَةً، فَإِنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ أَوَّلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ خوطبوا بالقرآن فكفرهم به يستلزم أنه أَوَّلُ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْ جِنْسِهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} يَقُولُ: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسول بالدنيا وشهواتها فإنها قليلة فانية، سئل الحسن الْبَصْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثَمَناً قَلِيلاً} قَالَ: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها. وعن سعيد بن جبير: إن آيَاتِهِ: كِتَابُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّ الثَّمَنَ القليل: الدنيا وشهواتها؛ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَعْتَاضُوا عَنِ الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ وَنَشْرِ الْعِلْمِ النَّافِعِ فِي النَّاسِ بِالْكِتْمَانِ وَاللَّبْسِ، لِتَسْتَمِرُّوا عَلَى رِيَاسَتِكُمْ فِي الدُّنْيَا الْقَلِيلَةِ الْحَقِيرَةِ الزَّائِلَةِ عَنْ قَرِيبٍ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ الله لا يتعلمه إلا ليصيبه بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَرُحْ رَائِحَةَ الجنة يوم القيامة» (أخرجه أبو داود في السنن عن أبي هريرة) " فأما تَعْلِيمُ الْعِلْمِ بِأُجْرَةٍ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ أُجْرَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يَقُومُ بِهِ حَالُهُ وَعِيَالُهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ وَقَطَعَهُ التَّعْلِيمُ عَنِ التَّكَسُّبِ فَهُوَ كَمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ أُجْرَةً عِنْدَ (مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ) وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كما فِي قِصَّةِ اللَّدِيغِ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عليه أجراً كتاب الله». (رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري) " وَقَوْلُهُ فِي قِصَّةِ الْمَخْطُوبَةِ: «زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ من القرآن». وقوله: {وَإِيَّايَ فاتقون} عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ: التَّقْوَى أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، رَجَاءَ رَحْمَةِ اللَّهِ، عَلَى نور من الله، وأنت تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، تخاف عقاب اللَّهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} أَنَّهُ تَعَالَى يَتَوَعَّدُهُمْ فِيمَا يَتَعَمَّدُونَهُ مِنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ وَإِظْهَارِ خِلَافِهِ وَمُخَالَفَتِهِمُ الرَّسُولَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ

- 42 - وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - 43 - وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا لِلْيَهُودِ عَمَّا كَانُوا يَتَعَمَّدُونَهُ مِنْ تَلْبِيسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَتَمْوِيهِهِ بِهِ، وَكِتْمَانِهِمُ الْحَقَّ وَإِظْهَارِهِمُ الْبَاطِلَ {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فَنَهَاهُمْ عَنِ الشَّيْئَيْنِ مَعًا، وَأَمَرَهُمْ بِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَالتَّصْرِيحِ بِهِ. ولهذا قال ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلَا تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}: لَا تَخْلِطُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَالصِّدْقَ بِالْكَذِبِ، وَقَالَ أَبُو العالية: وَلَا تَخْلِطُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَأَدُّوا النَّصِيحَةَ لِعِبَادِ اللَّهِ مِنْ أُمة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال قتادة {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل}: ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين الله الإسلام، وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ لَا تَكْتُمُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِرَسُولِي وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِيمَا تَعْلَمُونَ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِيكُمْ وقال مجاهد والسدي: {وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (قُلْتُ) وَتَكْتُمُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا ويحتمل أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا أَيْ لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، كَمَا يُقَالُ: لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مسعود -[59]- {وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ} أَيْ فِي حَالِ كِتْمَانِكُمُ الْحَقَّ، {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} حَالٌ أَيْضًا، وَمَعْنَاهُ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ عَلَى النَّاسِ، مِنْ إِضْلَالِهِمْ عَنِ الْهُدَى الْمُفْضِي بِهِمْ إِلَى النار، أَنْ سَلَكُوا مَا تُبْدُونَهُ لَهُمْ مِنَ الْبَاطِلِ الْمَشُوبِ بِنَوْعٍ مِنَ الْحَقِّ لِتُرَوِّجُوهُ عَلَيْهِمْ، والبيانُ: الْإِيضَاحُ، وَعَكْسُهُ الْكِتْمَانُ وَخَلْطُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ {وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} قَالَ مقاتل: أَمَرَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَآتُواْ الزَّكَاةَ} أَمَرَهُمْ أَنْ يُؤْتُوا الزَّكَاةَ أَيْ يَدْفَعُونَهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أَمَرَهُمْ أَنْ يَرْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: كونوا معهم ومنهم.

- 44 - أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب أَفَلاَ تعقلون معناه: كَيْفَ يَلِيقُ بِكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنْتُمْ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ - وَهُوَ جِمَاعُ الْخَيْرِ - أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمرون بِمَا تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِهِ، وَأَنْتُمْ مَعَ ذَلِكَ تَتْلُونَ الْكِتَابَ وَتَعْلَمُونَ مَا فِيهِ عَلَى مَنْ قصَّر فِي أَوَامِرِ اللَّهِ؟ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} مَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ بِأَنْفُسِكُمْ، فَتَنْتَبِهُوا مِنْ رَقْدَتِكُمْ، وَتَتَبَصَّرُوا من عمايتكم؟ وهذا كما قال قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتنسون أنفسكم} قال: كان بنوا إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله، وبتقواه ويخالفون، فعيَّرهم الله عز وجل. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ تَتْرُكُونَ أَنْفُسَكُمْ {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أَيْ تَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ الْكُفْرِ بِمَا عِنْدَكُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْعَهْدِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَتَتْرُكُونَ أَنْفُسَكُمْ، أَيْ وَأَنْتُمْ تكفرون بما فيه مِنْ عَهْدِي إِلَيْكُمْ فِي تَصْدِيقِ رَسُولِي، وَتَنْقُضُونَ مِيثَاقِي وَتَجْحَدُونَ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ كِتَابِي. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَقُولُ أَتَأْمَرُونَ النَّاسَ بِالدُّخُولِ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي ذَاتِ اللَّهِ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا، وَقَالَ عَبْدُ الرحمن بْنِ أَسْلَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ إذا جاء الرجل سألهم عَنِ الشَّيْءِ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ وَلَا رِشْوَةٌ أَمَرُوهُ بِالْحَقِّ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}؟ والغرضُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذمَّهم عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ، ونبَّههم عَلَى خَطَئِهِمْ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِالْخَيْرِ وَلَا يَفْعَلُونَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَمُّهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ بِالْبِرِّ مَعَ تَرْكِهِمْ لَهُ، بَلْ عَلَى تَرْكِهِمْ لَهُ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفٌ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَالِمِ، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أَمْرِهِمْ بِهِ، وَلَا يَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ كَمَا قَالَ شعيب عليه السلام: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ. إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}. فكلٌّ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَفِعْلِهِ واجبٌ، لَا يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِتَرْكِ الْآخَرِ، عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْمَعَاصِي لَا يَنْهَى غَيْرَهُ عَنْهَا، وهذا ضعيف. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعَالِمَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنِ ارْتَكَبَهُ، قَالَ سعيد بن جبير: لَوْ كَانَ الْمَرْءُ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مَا أَمَرَ أحدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَا نَهَى عن منكر. (قلت) لكنه وَالْحَالَةُ هَذِهِ مَذْمُومٌ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ وَفِعْلِهِ المعصية، لعلمه بها مخالفته عَلَى بَصِيرَةٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ -[60]- مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ، وَلِهَذَا جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ فِي الْوَعِيدِ على ذلك كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَل الْعَالِمِ الَّذِي يعلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ ويحرق نفسه (رواه الطبراني في الكبير، قال ابن كثير؛ وهو غريب من هذا الوجه)» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مررت ليلة أسري بي على قوم تُقْرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء؟ قالوا: خطباء أمتك مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، مِمَّنْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يعقلون" (رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنَس بن مالك)، وقال صلى اللَه عليه وسلم: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ بِهِ أَقْتَابُهُ فَيَدُورُ بِهَا فِي النَّارِ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا أَصَابَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ المنكر وآتيه» (رواه الإمام أحمد ورواه البخاري ومسلم بنحوه)، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّهُ يَغْفِرُ لِلْجَاهِلِ سَبْعِينَ مَرَّةً، حَتَّى يَغْفِرَ لِلْعَالِمِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب}، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطَّلِعُونَ عَلَى أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيَقُولُونَ بِمَ دَخَلْتُمُ النَّارَ؟ فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ إِلَّا بِمَا تعلَّمنا مِنْكُمْ، فَيَقُولُونَ: إِنَّا كُنَّا نَقُولُ ولا نفعل" (رواه ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبة) وجاء رجُل إلى ابن عباس فَقَالَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ: إِنِّي أُريد أَنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: أبلغْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرْجُو، قَالَ: إِنْ لَمْ تَخْشَ أَنْ تُفْتَضَحَ بِثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فافعل، قال: وما هن؟ قال: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أَحْكَمْتَ هَذِهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَالْحَرْفُ الثَّانِي، قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتًا عن الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} أَحْكَمْتَ هَذِهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَالْحَرْفُ الثَّالِثُ، قَالَ: قَوْلُ الْعَبْدِ الصَّالِحِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَمَآ أُريد أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح} أحمكت هَذِهِ الْآيَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَابْدَأْ بِنَفْسِكَ (رواه الضحاك عن ابن عباس) وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إِنِّي لِأَكْرَهُ الْقَصَصَ لِثَلَاثِ آيَاتٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}، وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}، وَقَوْلُهُ إِخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عنه}.

- 45 - وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين - 46 - الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون يأمر تعالى عَبِيدَهُ فِيمَا يُؤَمِّلُونَ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بالاستعانة بالصبر والصلاة كما قال مقاتل فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: اسْتَعِينُوا عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ بِالصَّبْرِ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالصَّلَاةِ. فَأَمَّا الصَّبْرُ فقيل: إنه الصيام. قال القرطبي: ولهذه يسمى رَمَضَانُ شَهْرَ الصَّبْرِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ: «الصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ» وَقِيلَ: الْمُرَادُ -[61]- بِالصَّبْرِ الْكَفُّ عَنِ الْمَعَاصِي وَلِهَذَا قَرَنَهُ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، وَأَعْلَاهَا فعل الصلاة. قال عمر بن الخطاب: الصَّبْرُ صَبْرَانِ: صَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ حَسَنٌ، وَأَحْسَنُ منه الصبر عن محارم الله. وقال أبو العالية: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالصَّلَاةِ} فَإِنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى الثَّبَاتِ في الأمر كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ والمنكر} الآية. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة (رواه أحمد وأبو داود) وعن علي رضي الله عنه قال: لَقَدْ رَأَيْتَنَا لَيْلَةَ بَدْرٍ وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي ويدعو حتى أصبح. وروي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نُعِيَ إِلَيْهِ أَخُوهُ قُثَمُ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ تنحَّى عَنِ الطَّرِيقِ، فَأَنَاخَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا الْجُلُوسَ، ثُمَّ قَامَ يَمْشِي إِلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين}، والضمير في قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} عائد إلى الصلاة، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في قصة قارون: {وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصابرون}، وقال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أَيْ وَمَا يلقَّى هَذِهِ الْوَصِيَّةَ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ، وَمَا يُلَقَّاهَا أَيْ يُؤْتَاهَا وَيُلْهَمُهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} أَيْ مَشَقَّةٌ ثَقِيلَةٌ إِلَّا على الخاشعين، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمُصَدِّقِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الخائفين، وقال مقاتل: الْمُتَوَاضِعِينَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} قَالَ: إِنَّهَا لثقيلة إا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطوته، المصدقين بوعده ووعيده. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ مَعْنَى الْآيَةِ: وَاسْتَعِينُوا أَيُّهَا الْأَحْبَارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِحَبْسِ أَنْفُسِكُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَبِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، الْمُقَرِّبَةِ مِنْ رِضَا اللَّهِ، الْعَظِيمَةِ إِقَامَتُهَا {إلا على الخاشعين} أي المتواضعين الْمُسْتَكِينِينَ لِطَاعَتِهِ الْمُتَذَلِّلِينَ مِنْ مَخَافَتِهِ. هَكَذَا قَالَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ خِطَابًا فِي سِيَاقِ إِنْذَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقْصَدُوا بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ لهم ولغيرهم، والله أعلم. وقوله تعالى {الذي يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} هَذَا مِنْ تَمَامِ الكلام الذي قبله، أي أن الصلاة لِثَقِيلَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ، أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مَحْشُورُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَعْرُوضُونَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أَيْ أُمُورُهُمْ رَاجِعَةٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ، يَحْكُمُ فِيهَا مَا يَشَاءُ بِعَدْلِهِ، فَلِهَذَا لَمَّا أَيْقَنُوا بِالْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ، سَهُلَ عَلَيْهِمْ فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَتَرْكُ الْمُنْكَرَاتِ. فَأَمَّا قوله {يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ} فالمراد يعتقدون، والعرب قَدْ تُسَمِّي الْيَقِينَ ظَنًّا وَالشَّكَّ ظَنًّا، نَظِيرُ تسميتهم الظلمة سدفة والضياء سدفه. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا}، قال مجاهد: كلُّ ظنٍ في القرآن يقين. وعن أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا ربهم} قال: الظن ههنا يقين، وعن ابن جريج: علموا أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ كَقَوْلِهِ: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} يقول علمت. (قُلْتُ) وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «أَلَمْ أُزَوِّجْكَ أَلَمْ أُكْرِمْكَ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟» فَيَقُولُ بَلَى، فيقول الله تعالى: «أَظَنَنْتَ أَنَّكَ ملاقيَّ»، فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ اللَّهُ الْيَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي وَسَيَأْتِي مَبْسُوطًا عِنْدَ قَوْلِهِ تعالى: {نسو الله فنسيهم}، إن شاء الله تعالى.

- 47 - يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ يُذَكِّرُهُمْ تَعَالَى بسالف نِعَمِهِ عَلَى آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، وَمَا كَانَ فضَّلهم به من إرسال الرسل منهم وأنزل الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ الأُمم مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العالمين}، وقال تعالى: {وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} قال أبو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} عَلَى عَالَمِ مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فإن لكل زمان عالماً، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى هَذَا، لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أفضل منهم لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أخرجت للناس}، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا على الله (رواه أصحاب السنن عن معاوية بن حيدة القشيري مرفوعاً)»، والأحاديث في هذا كثيرة، وَقِيلَ: الْمُرَادُ تفضيلٌ بِنَوْعٍ مَا مِنَ الْفَضْلِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَلَا يَلْزَمُ تَفْضِيلُهُمْ مُطْلَقًا، حكاه الرازي وفيه نظر. وقيل: فُضِّلُوا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ لِاشْتِمَالِ أُمَّتِهِمْ عَلَى الأنبياء منهم وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْعَالَمِينَ عَامٌّ يَشْمَلُ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ قَبْلَهُمْ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَمُحَمَّدٌ بَعْدَهُمْ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وسلامه عليه.

- 48 - وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ لَمَّا ذكَرهم تَعَالَى بِنِعَمِهِ أَوَّلًا، عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ التَّحْذِيرِ من طول نِقَمِهِ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: {وَاتَّقُوا يَوْماً} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} أَيْ لَا يُغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، كَمَا قَالَ: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}، وقال: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شأن يغنيه}، وقال: {وَاخْشَوْا يَوْماً لاَّ يَجْزِي والدٌ عَن وَلَدِهِ، وَلاَ مولودُ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} فَهَذِهِ أَبْلَغُ الْمَقَامَاتِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ لَا يُغْنِي أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ شَيْئًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} يَعْنِي من الْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}، وَكَمَا قَالَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ}، وقوله تعالى: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أَيْ لَا يُقْبَلُ منها فداء، كما قال تعالى: {فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افتدى بِهِ}، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ}، وَقَالَ: {فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} الآية. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِرَسُولِهِ وَيُتَابِعُوهُ عَلَى مَا بَعَثَهُ بِهِ وَوَافَوُا اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ قَرَابَةُ قَرِيبٍ، وَلَا شَفَاعَةُ ذِي جَاهٍ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ فِدَاءٌ وَلَوْ بِمِلْءِ الأرض ذهباً، كما قال تعالى: {لاَّ بيعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} قال: بدلٌ والبدل الْفِدْيَةُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} أَيْ وَلَا أَحَدَ يَغْضَبُ لَهُمْ فَيَنْصُرُهُمْ وَيُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ ذُو قَرَابَةٍ وَلَا ذُو جَاهٍ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ فِدَاءٌ، هَذَا كُلُّهُ مِنْ جَانِبِ التَّلَطُّفِ، وَلَا لَهُمْ نَاصِرٌ مِنْ -[63]- أَنْفُسِهِمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ: {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ} أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ فِيمَنْ كَفَرَ بِهِ فِدْيَةً وَلَا شَفَاعَةً وَلَا يُنْقِذُ أَحَدًا من عذابه منقذ، ولا يخلص منه أحد كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}، وَقَالَ: {مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ}، وَقَالَ: {فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} الْآيَةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: {مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ} مَا لَكُمُ الْيَوْمَ لَا تُمَانَعُونَ مِنَّا، هَيْهَاتَ لَيْسَ ذَلِكَ لَكُمُ الْيَوْمَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} يَعْنِي إِنَّهُمْ يومئذٍ لَا يَنْصُرُهُمْ نَاصِرٌ، كَمَا لَا يَشْفَعُ لَهُمْ شَافِعٌ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ عَدْلٌ وَلَا فِدْيَةٌ. بَطَلَتْ هُنَالِكَ الْمُحَابَاةُ وَاضْمَحَلَّتِ الرِّشَا وَالشَّفَاعَاتُ، وَارْتَفَعَ مِنَ الْقَوْمِ التناصر والتعاون، وصار الحكم إلى الجبار العدل، الَّذِي لَا يَنْفَعُ لَدَيْهِ الشُّفَعَاءُ وَالنُّصَرَاءُ فَيَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا وَبِالْحَسَنَةِ أَضْعَافَهَا. وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ؟ بَلْ هُمُ اليوم مستسلمون}.

- 49 - وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ - 50 - وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ يقول تعالى اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم، إذا نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، أَيْ خَلَّصْتُكُمْ مِنْهُمْ وَأَنْقَذْتُكُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ صُحْبَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ كَانُوا يَسُومُونَكُمْ أَيْ يُورِدُونَكُمْ وَيُذِيقُونَكُمْ وَيُوَلُّونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ كَانَ قَدْ رَأَى رُؤْيَا هَالَتْهُ، رَأَى نَارًا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فدخلت بيوت القبط إِلَّا بُيُوتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مَضْمُونُهَا أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِ يَكُونُ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إسرائيل، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمْرَ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ بِقَتْلِ كل ذَكَرٍ يُولَدُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْ تُتْرَكَ الْبَنَاتُ، وَأَمَرَ بِاسْتِعْمَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ في مشاق الأعمال وأرذلها، وههنا فُسِّرَ الْعَذَابُ بِذَبْحِ الْأَبْنَاءِ، وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ عَطْفٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ}، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ القَصَص، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ وَالْمَعُونَةُ والتأييد. ومعنى (يَسُومُونَكُمْ) يولونكم كَمَا يُقَالُ: سَامَهُ خُطَّةَ خَسْفٍ إِذَا أَوْلَاهُ إياها، قال عمرو ابن كلثوم: إذ مَا الْمُلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا * أَبَيْنَا أَنْ نُقرَّ الْخَسْفَ فِينَا وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يُدِيمُونَ عَذَابَكُمْ، وإنما قال ههنا: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} لِيَكُونَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلنِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} ثم فسره بهذا لقوله ههنا {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}. وَأَمَّا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فَلَمَّا قَالَ: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} أَيْ بِأَيَادِيهِ وَنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فَنَاسَبَ أَنْ يَقُولَ هناك: {يَسُومُونَكُمْ سوء العذاب ويذبحون أَبْنَآءَكُمْ}، فَعَطَفَ عَلَيْهِ الذَّبْحَ لِيَدُلَّ عَلَى تَعَدُّدِ النِّعَمِ والأيادي على بني إسرائيل؟ (وَفِرْعَوْنُ) عَلَمٌ عَلَى كُلِّ مَنْ مَلَكَ مِصْرَ كَافِرًا مِنَ الْعَمَالِيقِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّ (قَيْصَرَ) عَلَمٌ عَلَى كُلِّ مَنْ مَلَكَ الرُّومَ مَعَ الشام كافراً، و (كسرى) لمن ملك الفرس. وَيُقَالُ: كَانَ اسْمُ فِرْعَوْنَ الَّذِي كَانَ فِي زمن موسى عليه السلام (الوليد -[64]- ابن مصعب بن الريان) فكان من سلالة عمليق، وكنيته أبو مرة، وأصله فارسي من اصطخر. وأياً ما كان فعليه لعنة الله وقوله تعالى: {وَفِي ذَلِكُمْ بلاء} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي الَّذِي فَعَلْنَا بِكُمْ من إنجائنا آباءكم مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ مِنْ عَذَابِ آلِ فِرْعَوْنَ، بَلَاءٌ لَكُمْ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ، أَيْ نِعْمَةٌ عظيمة عليكم في ذلك، وَأَصْلُ الْبَلَاءِ الِاخْتِبَارُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}، وقال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات}. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ} إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ ذَبْحِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وهذا قول الجمهور والبلاء ههنا في الشر، والمعنى: وفي الذَّبْحِ مَكْرُوهٌ وَامْتِحَانٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} مَعْنَاهُ: وَبَعْدَ أَنْ أَنْقَذْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَخَرَجْتُمْ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، خَرَجَ فرعون في طلبكم ففرقنا بكم البحر، {فَأَنْجَيْنَاكُمْ} أَيْ خَلَّصْنَاكُمْ مِنْهُمْ وَحَجَزْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ وَأَغْرَقْنَاهُمْ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَفَى لِصُدُورِكُمْ وأبلغ في إهانة عدوكم. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ عاشوراء، لما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَ؟»، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ» فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بصومه (أخرجه أحمد ورواه الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ نحو ما تقدم)

- 51 - وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ - 52 - ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - 53 - وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} فِي عَفْوِي عَنْكُمْ، لَمَّا عَبَدْتُمُ الْعِجْلَ بَعْدَ ذَهَابِ مُوسَى لِمِيقَاتِ رَبِّهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَمَدِ الْمُوَاعَدَةِ، وَكَانَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر. وقوله تعالى: {وإذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يَعْنِي التَّوْرَاةَ، {وَالْفُرْقَانَ} وَهُوَ مَا يَفْرُقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى والضلالة {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، وَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولى}.

- 54 - وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ -[65]- هَذِهِ صِفَةُ تَوْبَتِهِ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عبادة العجل، حِينَ وَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ شَأْنِ عِبَادَتِهِمُ العجل ما وقع {فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ} أي إلى خالقكم. وفي قوله ههنا {إِلَى بَارِئِكُمْ} تَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ جُرْمِهِمْ، أَيْ فَتُوبُوا إِلَى الَّذِي خَلَقَكُمْ وَقَدْ عَبَدْتُمْ مَعَهُ غيره، قال ابن جرير بسنده عن ابن عباس: أمر قومه عن أَمْرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ قال: وأخبر الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ فَجَلَسُوا، وَقَامَ الَّذِينَ لَمْ يَعْكُفُوا عَلَى الْعِجْلِ فَأَخَذُوا الْخَنَاجِرَ بِأَيْدِيهِمْ، وَأَصَابَتْهُمْ ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلمة عنهم وقد جلوا عَنْ سَبْعِينَ أَلْفَ قَتِيلٍ، كلُّ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ كَانَتْ لَهُ تَوْبَةٌ، وَكُلُّ مَنْ بَقِيَ كانت له توبة. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فِي قَوْلِهِ {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} قَالَ: فَاجْتَلَدَ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَالَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوهُ بِالسُّيُوفِ، فَكَانَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ شَهِيدًا حَتَّى كَثُرَ الْقَتْلُ حَتَّى كَادُوا أَنْ يَهْلِكُوا، حَتَّى قتل منهم سَبْعُونَ أَلْفًا وَحَتَّى دَعَا مُوسَى وَهَارُونُ رَبَّنَا أهلكت بني إسرائيل ربنا البقية الباقية، فأمرهم أن يلقوا السِّلَاحَ وَتَابَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ شَهِيدًا، وَمَنْ بَقِيَ مُكَفَّرًا عَنْهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرحيم} وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ وَأَحْرَقَ الْعِجْلَ وَذَرَّاهُ فِي الْيَمِّ خَرَجَ إِلَى رَبِّهِ بِمَنِ اخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ثُمَّ بُعِثُوا، فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ التَّوْبَةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ فَقَالَ: لَا إِلَّا أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، قَالَ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى نَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَأَمَرَ مُوسَى مَنْ لَمْ يَكُنْ عَبَد الْعِجْلَ أَنْ يَقْتُلَ من عبده، فجعلوا يقتلونهم، فهش موسى، فبكى إِلَيْهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَطْلُبُونَ الْعَفْوَ عَنْهُمْ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَعَفَا عَنْهُمْ، وَأَمَرَ مُوسَى أَنْ تُرْفَعَ عَنْهُمُ السُّيُوفُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زيد: لما رجع موسى إلى قَوْمِهِ، وكانوا سبعين رجالً قَدِ اعْتَزَلُوا مَعَ هَارُونَ الْعِجْلَ لَمْ يَعْبُدُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: انْطَلِقُوا إِلَى مَوْعِدِ رَبِّكُمْ، فَقَالُوا: يَا مُوسَى مَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: بلى {اقتلوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} الآية، فاخترطوا السيوف والخناجر والسكاكين، قال: وبعث عليهم ضبابة فجعلوا يتلامسون بالأيدي ويقتل بعضهم بعضاً، ويلقي الرجل أباه وأخاه فيقتله وهو لا يَدْرِي. قَالَ: وَيَتَنَادَوْنَ فِيهَا رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا صَبَّرَ نَفْسَهُ حَتَّى يَبْلُغَ اللَّهَ رِضَاهُ، قَالَ فَقَتْلَاهُمْ شُهَدَاءُ وَتِيبَ عَلَى أَحْيَائِهِمْ ثُمَّ قَرَأَ: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.

- 55 - وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ - 56 - ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَقُولُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي بعثي لكم بعد الصعق، إذا سَأَلْتُمْ رُؤْيَتِي جَهْرَةً عِيَانًا مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ لكم ولا لأمثالكم. قال ابن عباس: (جهرةً) علانية، وقال الرَّبِيعِ بْنِ أنَس: هُمُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى فَسَارُوا مَعَهُ، قَالَ فَسَمِعُوا كَلَامًا فَقَالُوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}، قال: فسمعوا صوتاً فصعقوا، يقول ماتوا. قال السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} الصَّاعِقَةُ: نَارٌ فَمَاتُوا، فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَدْعُو اللَّهَ وَيَقُولُ: رَبِّ مَاذَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أَتَيْتُهُمْ وَقَدْ أَهْلَكْتَ خِيَارَهُمْ {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ مِمَّنِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُمْ فقاموا وعاشوا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ كَيْفَ يَحْيَوْنَ؟ قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال الربيع -[66]- ابن أنَس: كَانَ مَوْتُهُمْ عُقُوبَةً لَهُمْ فَبُعِثُوا مِن بَعْدِ الموت ليستوفوا آجالهم، وقال ابن جرير: لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ فَرَأَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَقَالَ لِأَخِيهِ وَلِلسَّامِرِيِّ مَا قَالَ، وحرَّق الْعِجْلَ وَذَرَّاهُ فِي الْيَمِّ، اخْتَارَ مُوسَى مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا، الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ، وَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى اللَّهِ وَتُوبُوا إِلَى الله مما صنعتم، واسألوه التَّوْبَةَ عَلَى مَنْ تَرَكْتُمْ وَرَاءَكُمْ مِنْ قَوْمِكُمْ. صُومُوا وتطَّهروا وطهِّروا ثِيَابَكُمْ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ لميقاتِ وقَّته لَهُ رَبُّهُ، وَكَانَ لَا يَأْتِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ وَعِلْمٍ، فَقَالَ لَهُ السَّبْعُونَ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - حِينَ صَنَعُوا ما أمروا به وخرجوا للقاء الله: يَا مُوسَى اطْلُبْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ نَسْمَعْ كَلَامَ رَبِّنَا. فَقَالَ: أَفْعَلُ. فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ الْغَمَامُ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلَ كُلَّهُ، وَدَنَا مُوسَى فَدَخَلَ فِيهِ، وَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوا. وَكَانَ مُوسَى إِذَا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَقَعَ عَلَى جَبْهَتِهِ نُورٌ سَاطِعٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ فَضُرِبَ دُونَهُ بِالْحِجَابِ، ودنا القوم حتى دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ وَقَعُوا سُجُودًا فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى، يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ: افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، فَلَمَّا فَرَغَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ انْكَشَفَ عَنْ مُوسَى الْغَمَامُ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لِمُوسَى: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَهِيَ الصَّاعِقَةُ، فَمَاتُوا جَمِيعًا، وَقَامَ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} قَدْ سَفِهُوا، أَفَتُهْلِكُ مَنْ وَرَائِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا يَفْعَلُ السُّفَهَاءُ مِنَّا؟ أَيْ إِنَّ هذا لهم هلاك، واختر مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ وَلَيْسَ مَعِي مِنْهُمْ رجُل وَاحِدٌ، فَمَا الَّذِي يُصَدِّقُونِي بِهِ وَيَأْمَنُونِي عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا؟ {إِنَّا هدنا إليك} فَلَمْ يَزَلْ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ حَتَّى ردَّ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ التَّوْبَةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم. وقال السُّدي: لما تابت بنوا إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بقتل بعضهم لبعض كما أمره الله بِهِ، أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُ فِي أُناس مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ العجل، ووعدهم موسى فاختار موسى سَبْعِينَ رجُلاً عَلَى عَيْنِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمْ ليعتذروا وساق البقية. وَالْمُرَادُ السَّبْعُونَ الْمُخْتَارُونَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَحْكِ كَثِيرٌ من المفسِّرين سواه، وقد غلط أهل الكتاب فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ رَأَوُا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ مُوسَى الْكَلِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ سَأَلَ ذَلِكَ فمُنِع مِنْهُ، فَكَيْفَ يَنَالُهُ هَؤُلَاءِ السبعون!؟

- 57 - وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا دَفَعَهُ عَنْهُمْ مِنَ النِّقَمِ، شَرَعَ يذكِّرهم أَيْضًا بِمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ فَقَالَ: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام} جَمْعُ غَمَامَةٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَغُمُّ السَّمَاءَ أَيْ يُوَارِيهَا وَيَسْتُرُهَا، وَهُوَ السَّحَابُ الْأَبْيَضُ ظُلِّلُوا به في التيه ليقيهم حرّ الشمس. وقال الحسن وقتادة {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام}: كَانَ هَذَا فِي الْبَرِّيَّةِ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ من الشمس وعن مُجَاهِدٍ {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} قَالَ: لَيْسَ بِالسَّحَابِ هو الغمام الَّذِي يَأْتِي اللَّهُ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة} وَهُوَ الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ مَعَهُمْ فِي التِّيهِ. {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ} اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ المفسِّرين فِي المن ما هو؟ فقال ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمَنُّ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ عَلَى الْأَشْجَارِ فَيَغْدُونَ إِلَيْهِ فَيَأْكُلُونَ مِنْهُ مَا شَاءُوا، وَقَالَ السُّدي: قَالُوا: يَا مُوسَى كَيْفَ لَنَا بما ههنا، أي الطعام؟ فأنزل عليهم المنّ فكان يسقط على شجرو الزَّنْجَبِيلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْمَنُّ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ في محلّهم سُقُوطَ الثَّلْجِ، أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، يَسْقُطُ عَلَيْهِمْ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ قَدْرَ ما يكفيه يومه ذلك. وقال عبد الرحمن بن أسلم: إنه العسل. وَالْغَرَضُ أَنَّ عِبَارَاتِ الْمُفَسِّرِينَ مُتَقَارِبَةٌ فِي شَرْحِ الْمَنِّ. فَمِنْهُمْ مَنْ فسَّره بِالطَّعَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فسَّره بِالشَّرَابِ، وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ كُلُّ مَا امتنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ عمل ولا كد. فلمن الْمَشْهُورُ إِنْ أُكِلَ وَحْدَهُ كَانَ طَعَامًا وَحَلَاوَةً، وَإِنْ مُزج مَعَ الْمَاءِ صَارَ شراباُ طَيِّبًا، وَإِنْ ركِّب مَعَ غَيْرِهِ صَارَ نَوْعًا آخَرَ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ وَحْدَهُ، والدليل على ذلك قول النَّبِيُّ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَمْأَةُ مِنَ المن وماؤها شفاء للعين (رواه البخاري وأخرجه الجماعة إلا أبا داود)». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَجْوَةُ مِنَ الْجَنَّةِ وَفِيهَا شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ وَالْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ. (تَفَرَّدَ بإخراجه الترمذي وقال حديث حسن غريب) وأما السلوى فقال ابن عباس: السلوى طائر يشبه السماني كانوا ياكلون منه. وقال قتادة: السلوى كان مِنْ طَيْرٍ إِلَى الْحُمْرَةِ تَحْشُرُهَا عَلَيْهِمُ الرِّيحُ الْجَنُوبُ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَذْبَحُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يَكْفِيهِ يَوْمَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا تَعَدَّى فَسَدَ وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ سَادِسِهِ لِيَوْمِ جُمُعَتِهِ أَخَذَ مَا يَكْفِيهِ لِيَوْمِ سَادِسِهِ وَيَوْمِ سَابِعِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَ عِبَادَةٍ لَا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه وَقَالَ السُّدي: لَمَّا دَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ التِّيهَ قَالُوا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَيْفَ لَنَا بِمَا ههنا، أين الطعام؟ -[67]- فأنزل الله عليهم المن. فكان ينزل على شجر الزَّنْجَبِيلِ، وَالسَّلْوَى وَهُوَ طَائِرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى أَكْبَرُ مِنْهُ فَكَانَ يَأْتِي أَحَدُهُمْ فَيَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ، فَإِنْ كَانَ سَمِينًا ذَبَحَهُ وَإِلَّا أَرْسَلَهُ فَإِذَا سَمِنَ أَتَاهُ، فَقَالُوا: هَذَا الطَّعَامُ فَأَيْنَ الشَّرَابُ؟ فَأُمِرَ مُوسَى فَضَرَبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا فَشَرِبَ كُلُّ سِبْطٍ مِنْ عَيْنٍ، فَقَالُوا: هَذَا الشَّرَابُ فَأَيْنَ الظِّلُّ؟ فَظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ، فَقَالُوا: هَذَا الظِّلُّ فَأَيْنَ اللِّبَاسُ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يتخرق لهم ثوب فذلك قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُلِقَ لَهُمْ فِي التِّيهِ ثياب لا تَخْرق ولا تَدْرن (لا تدرن: أي لا يصيبها وسخا ولا قذارة والدرن الوسخ) قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَخَذَ من المن والسلوى فوق يَوْمٍ فَسَدَ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ طَعَامَ يَوْمِ السَّبْتِ فَلَا يُصْبِحُ فاسداً. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أمر إباحة وإرشاد وامتنان، وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْأَكْلِ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ وَأَنْ يَعْبُدُوا، كَمَا قَالَ: {كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} فَخَالَفُوا وَكَفَرُوا فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. هَذَا مَعَ مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالْمُعْجِزَاتِ الْقَاطِعَاتِ، وَخَوَارِقِ العادات، من ههنا تَتَبَيَّنُ فَضِيلَةُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ عَلَى سَائِرِ أَصْحَابِ الْأَنْبِيَاءِ، في صبرهم وثباتهم، وعدم تعنتهم مع ما كَانُوا مَعَهُ فِي أَسْفَارِهِ وَغَزَوَاتِهِ، مِنْهَا عَامُ تَبُوكَ فِي ذَلِكَ الْقَيْظِ وَالْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْجَهْدِ، لَمْ يَسْأَلُوا خَرْقَ عَادَةٍ وَلَا إِيجَادَ أَمْرٍ مع أن ذلك كان سهلاً عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ لَمَّا أَجْهَدَهُمُ الْجُوعُ سَأَلُوهُ فِي تَكْثِيرِ طَعَامِهِمْ فَجَمَعُوا مَا مَعَهُمْ فَجَاءَ قدْر مَبْرَكِ الشَّاةِ فَدَعَا اللَّهَ فيه وأمرهم فملأوا كُلَّ وِعَاءٍ مَعَهُمْ، وَكَذَا لَمَّا احْتَاجُوا إِلَى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملأوا أَسْقِيَتَهُمْ ثُمَّ نَظَرُوا فَإِذَا هِيَ لَمْ تُجَاوِزِ العسكر.

- 58 - وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ - 59 - فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ يَقُولُ تَعَالَى لَائِمًا لَهُمْ على نكولهم عن الجهاد، ودخولهم الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، لَمَّا قَدِمُوا مِنْ بِلَادِ مِصْرَ صُحْبَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأُمِرُوا بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، الَّتِي هِيَ مِيرَاثٌ لَهُمْ عَنْ أَبِيهِمْ إِسْرَائِيلَ، وَقِتَالِ مَنْ فِيهَا مِنَ الْعَمَالِيقِ الْكَفَرَةِ، فَنَكَلُوا عَنْ قِتَالِهِمْ وَضَعُفُوا وَاسْتَحْسَرُوا، فَرَمَاهُمُ اللَّهُ فِي التِّيهِ عُقُوبَةً لَهُمْ، كَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الْبَلْدَةَ هِيَ (بَيْتُ الْمَقْدِسِ) كَمَا نص على ذلك غير واحد، وقد قال الله تعالى حاكياً عن موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ الله لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا} الآيات. وقال آخرون: هي (أريحا) وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى طَرِيقِهِمْ وَهُمْ قاصدون بيت المقدس لأريحا وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر، حكاه الرازي في تفسيره، والصحيح الأول أنها بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَهَذَا كَانَ لَمَّا خَرَجُوا مِنَ التِّيهِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَعَ يُوشَعَ بْنِ نون عليه السلام، وَلَمَّا فَتَحُوهَا أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا الْبَابَ - بَابَ الْبَلَدِ - (سُجَّدًا) أَيْ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ، ورد بلدهم عليهم وَإِنْقَاذِهِمْ مِنَ التِّيهِ وَالضَّلَالِ. قَالَ الْعَوْفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وادخلوا الباب سُجَّداً} أي ركعاً، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أُمروا أَنْ يَسْجُدُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ حَالَ دُخُولِهِمْ وَاسْتَبْعَدَهُ الرَّازِيُّ، وَحَكَى عَنْ بعضهم أن المراد ههنا بالسجود الخضوع لتعذر حمله على حقيقته، وقال السُّدي: عن عبد الله بن مسعود: قيل لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا فَدَخَلُوا مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ أَيْ رَافِعِي رُؤُوسِهِمْ خِلَافَ مَا أُمروا. وَقَوْلُهُ تعالى: {وقولو حِطَّةٌ} قال ابن عباس: مغفرة استغفروا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} قَالَ: قُولُوا هَذَا الْأَمْرُ حَقٌّ كَمَا قِيلَ لكم، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَيِ احْطُطْ عَنَّا خَطَايَانَا {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين} وقال: هَذَا جَوَابُ الْأَمْرِ، أَيْ إِذَا فَعَلْتُمْ مَا أَمَرْنَاكُمْ غَفَرْنَا لَكُمُ الْخَطِيئَاتِ، وَضَاعَفْنَا لَكُمُ الْحَسَنَاتِ. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَخْضَعُوا لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْفَتْحِ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ وَأَنْ يَعْتَرِفُوا بذنوبهم ويستغفروا منها، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يَظْهَرُ عَلَيْهِ الْخُضُوعُ جِدًّا عِنْدَ النَّصْرِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْفَتْحِ (فَتْحِ مَكَّةَ) داخلاً إليها من الثنية العليا وإنه لخاضع لِرَبِّهِ حَتَّى إِنَّ عُثْنُونَهُ لَيَمَسُّ مَوْرِكَ رَحْلِهِ شكراً لله على ذلك. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ} روى البخاري عن النبي صلى اللَه عليه وسلم: «قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ، فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى اسْتَاهِهِمْ، فَبَدَّلُوا وَقَالُوا حبة في شعرة (رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً)» وقال الثوري عن ابن عباس في قوله تعالى: {ادخلوا الْبَابَ سُجَّدًا} قَالَ: رُكَّعًا مِنْ بَابٍ صَغِيرٍ، فدخلوا من قبل أستاههم، وقالوا حنطة فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ}. -[69]- وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ المفسِّرون وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ السياق أَنَّهُمْ بَدَّلُوا أَمْرَ اللَّهِ لَهُمْ مِنَ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فأُمروا أَنْ يَدْخُلُوا سُجَّدًا فَدَخَلُوا يزحفون على اسْتَاهِهِمْ رَافِعِي رُؤُوسِهِمْ، وأُمروا أَنْ يَقُولُوا حِطَّةٌ أي أحطط عنا ذنوبنا وخطايانا فاستهزأوا فقالوا حنطة في شعيرة، وَهَذَا فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُعَانَدَةِ، وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَأْسَهُ وَعَذَابَهُ بِفِسْقِهِمْ وَهُوَ خُرُوجُهُمْ عَنْ طَاعَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الرجز يعني به الْعَذَابُ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الرجُز الغضبُ، وَقَالَ سعيد بن جبير: هو الطاعون، لحديث: «الطَّاعُونُ رِجْزٌ عَذَابٌ عُذّب بِهِ مَن كَانَ قبلكم (الحديث رواه النسائي وأصله في الصحيحين)».

- 60 - وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ يَقُولُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي إِجَابَتِي لِنَبِيِّكُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ اسْتَسْقَانِي لَكُمْ وَتَيْسِيرِي لَكُمُ الْمَاءَ، وَإِخْرَاجَهُ لَكُمْ مِنْ حَجَرٍ يُحْمَلُ مَعَكُمْ، وَتَفْجِيرِي الْمَاءَ لَكُمْ مِنْهُ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْ أَسْبَاطِكُمُ عينُ قَدْ عَرَفُوهَا، فَكُلُوا مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَاشْرَبُوا مِنْ هَذَا الْمَاءِ الَّذِي أَنْبَعْتُهُ لَكُمْ، بلا سعي منكم ولا جَدّ، وَاعْبُدُوا الَّذِي سخَّر لَكُمْ ذَلِكَ، {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} وَلَا تُقَابِلُوا النِّعَمَ بِالْعِصْيَانِ فتُسْلَبوها. وَقَدْ بَسَطَهُ المفسِّرون فِي كَلَامِهِمْ كَمَا قال ابن عباس رضي الله عنه: وَجُعِلَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ حَجَرٌ مُرَبَّعٌ، وَأُمِرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنْهُ ثَلَاثُ عُيُونٍ، وَأَعْلَمَ كُلَّ سِبْطٍ عَيْنَهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ حَجَرًا طُورِيًّا - مِنَ الطُّورِ - يحملونه معهم حتى نزلوا ضربه موسى بعصاه، وقيل: هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثَوْبَهُ حِينَ اغْتَسَلَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ ارْفَعْ هَذَا الْحَجَرَ فَإِنَّ فِيهِ قُدْرَةً، وَلَكَ فِيهِ مُعْجِزَةً، فَحَمَلَهُ فِي مِخْلَاتِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ (اللَّامُ) لِلْجِنْسِ لَا لِلْعَهْدِ، أَيِ اضْرِبِ الشَّيْءَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْحَجَرُ، وَعَنِ الْحَسَنِ: لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَضْرِبَ حَجَرًا بِعَيْنِهِ، قَالَ: وَهَذَا أَظْهَرُ فِي الْمُعْجِزَةِ وَأَبْيَنُ فِي الْقُدْرَةِ، فَكَانَ يَضْرِبُ الْحَجَرَ بِعَصَاهُ فَيَنْفَجِرُ ثُمَّ يضربه فييبس وَقَالَ الضَّحَّاكُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ شَقَّ لَهُمْ مِنَ الحجر أنهاراً، وقال الثوري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ ذَلِكَ فِي التِّيهِ ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا مِنْ مَاءٍ لِكُلِّ سِبْطٍ منهم عينا يشربون منها.

- 61 - وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ يَقُولُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي إِنْزَالِي عَلَيْكُمُ المنَّ وَالسَّلْوَى طَعَامًا طَيِّبًا نافعاً هنيئاً سهلاً، واذكروا ضجركم -[70]- مما رزقناكم وسؤالكم موسى الأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم، قال الحسن البصري: فبطروا وَذَكَرُوا عَيْشَهُمُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَكَانُوا قَوْمًا أَهْلَ أَعْدَاسٍ وَبَصَلٍ وَبَقْلٍ وَفُومٍ، فَقَالُوا: {يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ مِمَّا تُنْبِتُ الأرض من بقلها وقثاءهم وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} وإنما قالوا على طعام واحد وَهُمْ يَأْكُلُونَ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى لِأَنَّهُ لَا يتبدَّل ولا يتغير كل يوم فهو مأكل واحد، وأما الفوم فقال ابن عباس: الثوم، وَقَالَ آخَرُونَ: الْفُومُ: الحنطةُ وَهُوَ البُرَّ الَّذِي يعمل منه الخبز، روي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ {وَفُومِهَا} مَا فُومُهَا؟ قَالَ: الْحِنْطَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ كُنْتُ أَغْنَى النَّاسِ شَخْصًا وَاحِدًا * وَرَدَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ وَقَالَ ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَفُومِهَا} قَالَ: الْفُومُ الْحِنْطَةُ بِلِسَانِ بَنِي هَاشِمٍ، وقال الجوهري: الفوم الحنطة، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْفُومَ كُلُّ حَبٍّ يُخْتَبَزُ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الحمص لغة شامية، قال الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْحُبُوبُ الَّتِي تُؤْكَلُ كُلُّهَا فوم، وقوله: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}؟ فِيهِ تَقْرِيعٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ عَلَى مَا سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَيْشِ الرَّغِيدِ والطعام الهنيء الطيب النافع. وقوله تعالى: {اهبطوا مِصْراً} هكذا هو منون مصروف، وقال ابن عباس: مصراً من الأمصار. والمعنى إن هَذَا الَّذِي سَأَلْتُمْ لَيْسَ بأمرٍ عَزِيزٍ بَلْ هو كثير في أي بلد دخلتموها وَجَدْتُمُوهُ، فَلَيْسَ يُسَاوِي مَعَ دَنَاءَتِهِ وَكَثْرَتِهِ فِي الْأَمْصَارِ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ فِيهِ. وَلِهَذَا قَالَ: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} أَيْ مَا طَلَبْتُمْ، وَلَمَّا كَانَ سُؤَالُهُمْ هَذَا مِنْ بَابِ الْبَطَرِ وَالْأَشَرِ وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ لَمْ يجابوا إليه، والله أعلم.

تتمة الآية 61: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} أَيْ وُضِعَتْ عَلَيْهِمْ وَأُلْزِمُوا بِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا، أَيْ لَا يَزَالُونَ مُسْتَذَلِّينَ مَنْ وَجَدهم اسْتَذَلَّهُمْ وَأَهَانَهُمْ وضربَ عَلَيْهِمُ الصغاَر، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء مستكينون. يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، قال الضَّحَّاكُ: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} قَالَ: الذُّلُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَذَلَّهُمُ اللَّهُ فَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ وَجَعَلَهُمُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَقَدْ أَدْرَكَتْهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ وإن المجوس لتجيبهم الجزية، وقال أبو العالية والسُّدى: المسكنةُ الفاقةُ، وقوله تعالى: {وباؤا بغضب من الله} استحقوا الغضب من الله، وقال ابن جرير: يعني بقوله {وباؤوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}: انْصَرَفُوا وَرَجَعُوا، وَلَا يُقَالُ باء إِلَّا مَوْصُولًا إِمَّا بِخَيْرٍ وَإِمَّا بِشَرٍّ، يُقَالُ منه: باء فلان بذنبه يبوء به، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} يَعْنِي تَنْصَرِفُ مُتَحَمِّلَهُمَا وَتَرْجِعُ بِهِمَا قَدْ صَارَا عليك دوني، فمعنى الكلام رجعوا مُنْصَرِفِينَ مُتَحَمِّلِينَ غَضَبَ اللَّهِ قَدْ صَارَ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ غَضَبٌ وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ سُخْطٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} يَقُولُ الله تَعَالَى هَذَا الَّذِي

جَازَيْنَاهُمْ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَإِحْلَالِ الْغَضَبِ بِهِمْ من الذلة، بِسَبَبِ اسْتِكْبَارِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَإِهَانَتِهِمْ حَمَلة الشَّرْعِ وَهُمُ (الْأَنْبِيَاءُ) وَأَتْبَاعُهُمْ، فَانْتَقَصُوهُمْ إِلَى أَنْ أَفْضَى بِهِمُ الْحَالُ إِلَى أن قتلوهم فلا كفر أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَ اللَّهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْكِبْرُ بطرُ الحق وغَمْطُ الناسِ» (هذا جزء من حديث شريف وأوله «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مثقال ذرة من كِبْر .. » الحديث) يَعْنِي رَدَّ الْحَقِّ وَانْتِقَاصَ النَّاسِ وَالِازْدِرَاءَ بِهِمْ والتعاظم عليهم. ولهذا لما ارتكب بنوا إِسْرَائِيلَ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْكُفْرِ بِآيَاتِ اللَّهِ وقتلهم أنبياءه، أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرد، وَكَسَاهُمْ ذُلًّا فِي الدُّنْيَا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَةِ جزاءً وفاقاً. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَانَتْ بنوا إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار» (رواه أبو داود الطيالسي) وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أشدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رجلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ أَوْ قَتَل نَبِيًّا، وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْمُمَثِّلِينَ» (رواه الإمام أحمد في مسنده) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} وَهَذِهِ عِلَّةٌ أُخرى فِي مُجَازَاتِهِمْ بِمَا جُوزُوا بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْصُونَ وَيَعْتَدُونَ، فَالْعِصْيَانُ فِعْلُ الْمَنَاهِي، والاعتداءُ الْمُجَاوَزَةُ فِي حَدِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ والمأمور بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

- 62 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ لما بين تَعَالَى حَالَ مَنْ خَالَفَ أَوَامِرَهُ، وَارْتَكَبَ زَوَاجِرَهُ، وَتَعَدَّى فِي فِعْلِ مَا لَا إِذْنَ فِيهِ وَانْتَهَكَ الْمَحَارِمَ، وَمَا أَحَلَّ بِهِمْ مِنَ النَّكَالِ، نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ مِنَ الأُمم السَّالِفَةِ وَأَطَاعَ فَإِنَّ لَهُ جَزَاءَ الْحُسْنَى، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، كلُّ مَنِ اتَّبَعَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمّي فَلَهُ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا يَتْرُكُونَهُ وَيُخَلِّفُونَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} عن مجاهد قال: قال سلمان رضي الله عنه: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَهْلِ دِينٍ كنتُ مَعَهُمْ فَذَكَرْتُ مِنْ صَلاتهم وَعِبَادَتِهِمْ، فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى آخر الآية. وقال السُّدي: نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ (سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ) بَيْنَا هُوَ يحدِّث النَّبِيُّ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ أصحابه فأخبروه خبرهم فقال: كانوا يصلون، ويصومون، وَيُؤْمِنُونَ بِكَ، وَيَشْهَدُونَ أَنَّكَ سَتُبْعَثُ نَبِيًّا، فَلَّمَا فَرَغَ سَلْمَانُ مِنْ ثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا سَلْمَانُ هُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ" فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى سَلْمَانَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَكَانَ إِيمَانُ الْيَهُودِ أَنَّهُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالتَّوْرَاةِ وَسُنَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى جَاءَ عِيسَى، فَلَمَّا جَاءَ عِيسَى كَانَ مَنْ تَمَسَّكَ بِالتَّوْرَاةِ وَأَخَذَ بسُنَّة مُوسَى فَلَمْ يَدَعْهَا وَلَمْ يَتْبَعْ عِيسَى كَانَ هَالِكًا، وَإِيمَانُ النَّصَارَى أَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْإِنْجِيلِ مِنْهُمْ وَشَرَائِعِ عِيسَى كَانَ مُؤْمِنًا مَقْبُولًا مِنْهُ حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ لَمْ يَتْبَعْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ وَيَدَعْ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ سُنَّةِ عيسى والإنجيل كان هالكاً. (قلت) وهذا لا ينافي ما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ} الآية قال: فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة من الخاسرين} فَإِنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ إِخْبَارٌ -[72]- عَنْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ طَرِيقَةً وَلَا عَمَلًا إِلَّا مَا كَانَ مُوَافِقًا لِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ بعثه بِمَا بَعَثَهُ بِهِ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَكُلُّ مَنِ اتَّبَعَ الرَّسُولَ فِي زَمَانِهِ فَهُوَ عَلَى هُدًى وَسَبِيلٍ وَنَجَاةٍ، فَالْيَهُودُ أَتْبَاعُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَى التَّوْرَاةِ فِي زَمَانِهِمْ، وَالْيَهُودُ مِنَ الْهَوَادَةِ وَهِيَ الْمَوَدَّةُ أَوِ التَّهَوُّدُ وَهِيَ التَّوْبَةُ كَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} أَيْ تُبْنَا فكأنَّهم سُمُّوا بِذَلِكَ فِي الْأَصْلِ لِتَوْبَتِهِمْ وَمَوَدَّتِهِمْ فِي بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَقِيلَ: لِنِسْبَتِهِمْ إلى (يهودا) أكبر أولاد يعقوب، فَلَمَّا بُعِثَ عِيسَى صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ اتِّبَاعُهُ وَالِانْقِيَادُ لَهُ، فَأَصْحَابُهُ وَأَهْلُ دِينِهِ هُمُ النَّصَارَى وَسُمُّوا بِذَلِكَ لِتَنَاصُرِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَقَدْ يُقَالُ لَهُمْ أَنْصَارٌ أَيْضًا كَمَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {مَنْ أنصاري إِلَى الله؟ قال الحوارين نَحْنُ أَنْصَارُ الله} وَقِيلَ إِنَّهُمْ إِنَّمَا سُمُّوا بِذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ نَزَلُوا أَرْضًا يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةٌ، قَالَهُ قتادة وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا لِلنَّبِيِّينَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي آدَمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَالِانْكِفَافُ عَمَّا عَنْهُ زَجَرَ، وهؤلاء هم المؤمنون حقا وسمِّيت أُمّة محمدا صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنِينَ لِكَثْرَةِ إِيمَانِهِمْ، وَشِدَّةِ إِيقَانِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمَاضِيَةِ وَالْغُيُوبِ الْآتِيَةِ. وَأَمَّا الصَّابِئُونَ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِمْ فقال مجاهد: الصَّابِئُونَ قَوْمٌ بَيْنَ الْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَيْسَ لهم دين، وقال أبو العالية والضحّاك: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرأون الزَّبُورَ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ: لَا بأس بذبائحهم ومناكحتهم، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ الصَّابِئِينَ قوم يعبدون الملائكة ويقرأون الزبور ويصلُّون للقبلة، وَسُئِلَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عَنِ الصَّابِئِينَ فَقَالَ: الَّذِي يَعْرِفُ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلَيْسَتْ لَهُ شَرِيعَةٌ يَعْمَلُ بِهَا، وَلَمْ يُحْدث كُفْرًا، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: الصَّابِئُونَ أَهْلُ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ، كَانُوا بِجَزِيرَةِ الْمَوْصِلِ يَقُولُونَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَلَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ وَلَا كتابٌ وَلاَ نبيٌّ إِلاَّ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، قال: ولم يمنوا بِرَسُولٍ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ: هَؤُلَاءِ الصَّابِئُونَ يشبِّهونهم بِهِمْ يَعْنِي فِي قَوْلِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُمْ قَوْمٌ يُشْبِهُ دِينُهُمْ دِينَ النَّصَارَى إِلَّا أَنَّ قِبْلَتَهُمْ نَحْوَ مَهَبِّ الْجَنُوبِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ نوح عليه السلام، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالَّذِي تحصَّل مِنْ مَذْهَبِهِمْ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ وَيَعْتَقِدُونَ تَأْثِيرَ النُّجُومِ وَأَنَّهَا فَاعِلَةٌ، وَلِهَذَا أَفْتَى أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ بِكُفْرِهِمْ لِلْقَادِرِ بِاللَّهِ حِينَ سَأَلَهُ عَنْهُمْ واختار الرَّازِيُّ أَنَّ الصَّابِئِينَ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ بِمَعْنَى أن الله جعلها قبلة للعباد وَالدُّعَاءِ أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فَوَّضَ تَدْبِيرَ أمر هذا العالم إليها. وأظهرُ الْأَقْوَالِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمُتَابِعِيهِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَيْسُوا عَلَى دِينِ الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى وَلَا الْمَجُوسِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ قَوْمٌ بَاقُونَ عَلَى فِطْرَتِهِمْ وَلَا دِينٌ مُقَرَّرٌ لَهُمْ يَتْبَعُونَهُ وَيَقْتَفُونَهُ، وَلِهَذَا كان المشركون ينبذون من أسلم بالصابىء، أَيْ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ سَائِرِ أَدْيَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ إِذْ ذَاكَ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الصابئون الذي لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ نَبِيٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

- 63 - وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ - 64 - ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ -[73]- يَقُولُ تَعَالَى مذكِّراً بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا أَخَذَ عليهم من العهود والمواثيق، بالإيمان وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ رَفَعَ الجبل فوق رؤوسهم، ليقروا بما عوهدوا عليه يأخذوه بقوة وحزم وَامْتِثَالٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فالطُّور هو الجبل كما فسَّره به في الأعراف، وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَسْجُدُوا أَمَرَ اللَّهُ الْجَبَلَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ وَقَدْ غَشِيَهُمْ، فَسَقَطُوا سُجَّدًا فَسَجَدُوا عَلَى شِقٍّ وَنَظَرُوا بِالشِّقِّ الْآخَرِ، فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ فَكَشَفَهُ عَنْهُمْ فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا سَجْدَةٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ سَجْدَةٍ كَشَفَ بِهَا الْعَذَابَ عَنْهُمْ فَهُمْ يسجدون كذلك، وذلك قول الله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّور}، {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}، يعني التوراة، قال أبو العالية: (بِقُوَّةٍ) أَيْ بِطَاعَةٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (بِقُوَّةٍ) بعملٍ بما فيه، وقال قتادة: الْقُوَّةُ: الْجِدُّ وَإِلَّا قَذَفْتُهُ عَلَيْكُمْ، قَالَ: فَأَقَرُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَا أُوتُوا بِقُوَّةٍ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَإِلَّا قَذَفْتُهُ عَلَيْكُمْ أَيْ أَسْقَطْتُهُ عَلَيْكُمْ، يَعْنِي الجبل، {واذكروا مَا فِيهِ} يقول: اقرأوا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَاعْمَلُوا بِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ الله} يَقُولُ تَعَالَى ثُمَّ بَعْدَ هَذَا الْمِيثَاقِ الْمُؤَكَّدِ الْعَظِيمِ، تَوَلَّيْتُمْ عَنْهُ وَانْثَنَيْتُمْ وَنَقَضْتُمُوهُ {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي بتوبته عَلَيْكُمْ وَإِرْسَالُهُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ إِلَيْكُمْ {لَكُنْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} بِنَقْضِكُمْ ذَلِكَ الْمِيثَاقَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

- 65 - وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ - 66 - فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ ما أحل مِنَ الْبَأْسِ بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ، الَّتِي عَصَتْ أَمْرَ اللَّهِ وَخَالَفُوا عَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ، فِيمَا أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ من تعظيم السبت والقيام بأمره، إذا كَانَ مَشْرُوعًا لَهُمْ فَتَحَيَّلُوا عَلَى اصْطِيَادِ الحِيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الحبائل وَالْبِرَكِ قَبْلَ يَوْمِ السَّبْتِ، فَلَمَّا جَاءَتْ يَوْمَ السَّبْتِ عَلَى عَادَتِهَا فِي الْكَثْرَةِ نَشِبَتْ بِتِلْكَ الْحَبَائِلِ وَالْحِيَلِ فَلَمْ تَخْلُصْ مِنْهَا يَوْمَهَا ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَخَذُوهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّبْتِ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ مَسَخَهُمُ اللَّهُ إِلَى صُورَةِ الْقِرَدَةِ وَهِيَ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْأَنَاسِيِّ فِي الشَّكْلِ الظَّاهِرِ وَلَيْسَتْ بِإِنْسَانٍ حَقِيقَةً، فَكَذَلِكَ أَعْمَالُ هَؤُلَاءِ وحيلتهم لَمَّا كَانَتْ مُشَابِهَةً لِلْحَقِّ فِي الظَّاهِرِ وَمُخَالِفَةً لَهُ فِي الْبَاطِنِ، كَانَ جَزَاؤُهُمْ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِمْ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَبْسُوطَةٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إذا يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} الْقِصَّةُ بِكَمَالِهَا وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ هم أهل أيلة، وقوله تعالى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كونوا ققردة خَاسِئِينَ} قال مجاهد: مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} وَهَذَا سَنَدٌ جَيِّدٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، وقولٌ غَرِيبٌ خِلَافَ الظَّاهِرِ مِنَ السِّيَاقِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَفِي غَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ -[74]- بشرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطاغوت} الآية، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}: فَجَعَلَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ، فَزَعَمَ أَنَّ شباب القوم صاروا قردة وأن الشيخة صاروا خنازير. وقال شيبان عَنْ قَتَادَةَ {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} فصار القوم قردة تعاوى، لها أذناب بعدما كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً، وَقَالَ عَطَاءٌ الخُراساني: نُودُوا يَا أَهْلَ الْقَرْيَةِ {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} فَجَعَلَ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ فَيَقُولُونَ يَا فُلان، يَا فُلَانُ أَلَمْ نَنْهَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ بِرُؤُوسِهِمْ أَيْ بلى، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً بِمَعْصِيَتِهِمْ، يَقُولُ: إِذْ لَا يَحْيَوْنَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَالَ: وَلَمْ يَعِشْ مَسْخٌ قَطُّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ يَنْسَلْ، وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَسَائِرَ الْخَلْقِ فِي السِّتَّةِ الْأَيَّامِ التي ذكرها الله في كتابه، فمسخ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فِي صُورَةِ الْقِرَدَةِ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بمن يشاء، ويحوله كما يشاء {خَاسِئِينَ} يعني أذلة صاغرين. وقال السُّدي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} قال: هم أَهْلُ أَيْلَةَ؛ وَهِيَ الْقَرْيَةُ الَّتِي كَانَت حَاضِرَةَ الْبَحْرِ، فَكَانَتِ الحِيتان إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْيَهُودِ أَنْ يَعْمَلُوا فِي السَّبْتِ شَيْئًا، لَمْ يَبْقَ فِي الْبَحْرِ حُوتٌ إِلَّا خَرَجَ حَتَّى يُخْرِجْنَ خَرَاطِيمَهُنَّ مِنَ الماء، فإذا كان يوم الأحد لَزِمْنَ سُفْلَ الْبَحْرِ فَلَمْ يُرَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ السَّبْتِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} فَاشْتَهَى بَعْضُهُمُ السَّمَكَ فَجَعَلَ الرجُل يَحْفِرُ الْحَفِيرَةَ وَيَجْعَلُ لَهَا نَهْرًا إِلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ فُتِحَ النَّهْرُ، فَأَقْبَلَ الْمَوْجُ بِالْحِيتَانِ يَضْرِبُهَا حَتَّى يُلْقِيَهَا فِي الْحَفِيرَةِ، فَيُرِيدُ الْحُوتُ أَنْ يَخْرُجَ فَلَا يُطِيقُ مِنْ أَجْلِ قِلَّةِ ماء النهر فيمكث فيها، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ جَاءَ فَأَخَذَهُ فَجَعَلَ الرجُل يشوي السمك فيجد جاره روائحه فَيَسْأَلُهُ فَيُخْبِرُهُ فَيَصْنَعُ مِثْلَ مَا صَنَعَ جَارُهُ حَتَّى فَشَا فِيهِمْ أَكْلُ السَّمَكِ، فَقَالَ لَهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ: وَيَحْكَمُ إِنَّمَا تَصْطَادُونَ يَوْمَ السَّبْتِ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ، فَقَالُوا: إِنَّمَا صِدْنَاهُ يَوْمَ الأحد حين أخذناه، فقال الفقهاء: لا، ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الْمَاءَ فَدَخَلَ، قَالَ: وَغَلَبُوا أَنْ يَنْتَهُوا، فَقَالَ بَعْضُ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ لِبَعْضٍ: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} يَقُولُ: لِمَ تَعِظُوهُمْ وَقَدْ وَعَظْتُمُوهُمْ فَلَمْ يُطِيعُوكُمْ، فَقَالَ بعضهم: {معذرة إلى ربكم وَلَعَلَّهُمْ يتَّقون}، فَلَماَّ أبَوْ قَالَ الْمُسْلِمُونَ وَاللَّهِ لَا نُسَاكِنُكُمْ فِي قَرْيَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَسَمُوا الْقَرْيَةَ بِجِدَارٍ فَفَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بَابًا وَالْمُعْتَدُونَ فِي السَّبْتِ بَابًا وَلَعَنَهُمْ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَخْرُجُونَ مِنْ بَابِهِمْ، والكُفّار مِنْ بَابِهِمْ، فَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ يفتح الكفّار بابهم، فلما أبطأوا عَلَيْهِمْ تسوَّر الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمُ الْحَائِطَ، فَإِذَا هُمْ قِرَدَةٌ يَثِبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَفَتَحُوا عَنْهُمْ فَذَهَبُوا فِي الْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فلمآ عتوا عمّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاشئين}، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لسان داود وعيسى بن مريم} الآية فَهُمُ الْقِرَدَةُ، (قُلْتُ) وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ بَيَانُ خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّ مَسْخَهُمْ إِنَّمَا كَانَ (مَعْنَوِيًّا) لَا (صُورِيًّا)، بَلِ الصَّحِيحُ أنه معنوي صوري والله تعالى أعلم. وقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً} قال بعضهم: الضمير في (فَجَعَلْنَاهَا) عائد إلى الْقِرَدَةِ، وَقِيلَ عَلَى (الحِيتان)، وَقِيلَ عَلَى (الْعُقُوبَةِ)، وَقِيلَ عَلَى الْقَرْيَةِ حَكَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى -[75]- الْقَرْيَةِ، أَيْ فَجَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا بِسَبَبِ اعْتِدَائِهِمْ فِي سَبْتِهِمْ (نَكَالًا) أَيْ عَاقَبْنَاهُمْ عُقُوبَةً فَجَعَلْنَاهَا عِبْرَةً كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْ فِرْعَوْنَ: {فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى} وقوله تعالى: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} أَيْ مِنَ الْقُرَى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي جَعَلْنَاهَا بِمَا أَحْلَلْنَا بِهَا مِنَ الْعُقُوبَةِ عِبْرَةً لِمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يرجعون}، فَالْمُرَادُ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا فِي المكان، كما قال عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) من القرى (وَمَا خَلْفَهَا) من القرى، وقال أبو العالية: (وَمَا خَلْفَهَا) لِمَا بَقِيَ بَعْدَهُمْ مِنَ النَّاسِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا مِثْلَ عَمَلِهِمْ، وكأن هؤلاء يقولون المراد {لما بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} فِي الزَّمَانِ، وَهَذَا مستقيم بالنسبة إلى ما يأتي بعدهم من الناس أن تكون أَهْلُ تِلْكَ الْقَرْيَةِ عِبْرَةً لَهُمْ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ سَلَفَ قَبْلَهُمْ مِنَ النَّاسِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ أَنْ تُفَسَّرَ الْآيَةُ بِهِ وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم؟ فتعيَّن أن المراد فِي الْمَكَانِ وَهُوَ مَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقال أبو جعفر الرازي عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} أَيْ عُقُوبَةً لِمَا خَلَا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} من ذُنُوبِ الْقَوْمِ {وَمَا خَلْفَهَا} لِمَنْ يَعْمَلُ بَعْدَهَا مثل تلك الذنوب، وحكى الرازي ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا مِنَ الْقُرَى بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِخَبَرِهَا بِالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ ومن بعدها. والثاني: الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَنْ بِحَضْرَتِهَا مِنَ الْقُرَى والأُمم. والثالث: أنه تعالى جعلها عُقُوبَةً لِجَمِيعِ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ قَبْلِ هَذَا الفعل وما بعده وهو قول الحسن. (قلت) وأرجح الأقوال الْمُرَادَ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا مَنْ بحضرتها من القرى يَبْلُغُهُمْ خَبَرُهَا وَمَا حَلَّ بِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى} الآية، وقال تعالى: {ولا يزال الذي كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صنعوا قارعة} الآية، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها} فجعلهم عبرة ونكالاً لمن في زمانهم وموعظة لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْهُم

- 67 - وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ من الجاهلين يَقُولُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي خَرْقِ الْعَادَةِ لَكُمْ فِي شَأْنِ الْبَقَرَةِ، وَبَيَانِ الْقَاتِلِ مَنْ هُوَ بِسَبَبِهَا، وَإِحْيَاءِ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَنَصِّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمْ. -[76]- (ذكر بسط القصة) عَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ ابْنُ أَخِيهِ وَارِثَهُ، فَقَتَلَهُ ثُمَّ احْتَمَلَهُ لَيْلًا فَوَضَعَهُ عَلَى بَابِ رَجُلٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَصْبَحَ يَدَّعِيهِ عَلَيْهِمْ حَتَّى تسلحوا وركب بعضهم على بَعْضٍ، فَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ والنُّهى: عَلَامَ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ فِيكُمْ؟ فَأَتَوْا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} قَالَ: فَلَوْ لَمْ يَعْتَرِضُوا لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ أَدْنَى بَقَرَةٍ وَلَكِنَّهُمْ شدَّدوا فشدَّد عَلَيْهِمْ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْبَقَرَةِ الَّتِي أُمروا بِذَبْحِهَا فَوَجَدُوهَا عِنْدَ رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ بَقَرَةٌ غَيْرُهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْقُصُهَا مِنْ مِلْءِ جِلْدِهَا ذَهَبًا، فَأَخَذُوهَا بِمِلْءِ جِلْدِهَا ذَهَبًا فَذَبَحُوهَا فَضَرَبُوهُ بِبَعْضِهَا فَقَامَ، فَقَالُوا: مَنْ قَتَلَكَ؟ [فَقَالَ؟؟] هَذَا - لِابْنِ أَخِيهِ - ثُمَّ مَالَ مَيِّتًا، فَلَمْ يُعْطَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فَلَمْ يُوَرَّثْ قَاتِلٌ بعد (رواه ابن أبي حاتم وابن جرير عن عبيدة السلماني) وقوله تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ} يَعْنِي لَا هَرِمَةٌ، {وَلَا بِكْرٌ} يَعْنِي وَلَا صَغِيرَةٌ، {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} أَيْ نَصَفٌ بَيْنِ الْبِكْرِ وَالْهَرِمَةِ. {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا؟ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} أَيْ صَافٍ لَوْنُهَا، (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أَيْ تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ، {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ؟ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ} أَيْ لَمْ يذللها العمل، {تُثِيرُ الأرض ولا تسقي الحرث} يَعْنِي وَلَيْسَتْ بِذَلُولٍ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الحرث يعني وَلَا تَعْمَلُ فِي الْحَرْثِ {مسلَّمة} يَعْنِي مسلَّمة مِنَ الْعُيُوبِ {لاَّ شِيَةَ فِيهَا} يَقُولُ لَا بَيَاضَ فِيهَا {قَالُواْ الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} ولو أن القوم حين أُمروا بذبح بَقَرَةً، اسْتَعْرَضُوا بَقَرَةً مِنَ الْبَقَرِ فَذَبَحُوهَا لَكَانَتْ إياها، ولكن شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عَلَيْهِمْ، وَلَوْلَا أَنَّ الْقَوْمَ اسْتَثْنَوْا فَقَالُوا: {وَإِنَّآ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} لَمَا هُدوا إِلَيْهَا أبدا. وَقَالَ السُّدي {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُكْثِرًا مِنَ الْمَالِ فكانت لَهُ ابْنَةٌ وَكَانَ لَهُ ابْنُ أَخٍ مُحْتَاجٌ فَخَطَبَ إِلَيْهِ ابْنُ أَخِيهِ ابْنَتَهُ فَأَبَى أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَغَضِبَ الْفَتَى وَقَالَ وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ عَمِّي وَلَآخُذَنَّ مَالَهُ، وَلَأَنْكِحَنَّ ابْنَتَهُ وَلَآكُلَنَّ دِيَتَهُ، فَأَتَاهُ الفتى - وقد قدم تجار ف؟؟ بَعْضِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ - فَقَالَ: يَا عَمُّ انطلِق مَعِي فَخُذْ لِي مِنْ تِجَارَةِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَعَلِّي أَنْ أُصِيبَ مِنْهَا فَإِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْكَ مَعِي أَعْطَوْنِي، فَخَرَجَ الْعَمُّ مَعَ الْفَتَى لَيْلًا، فَلَمَّا بَلَغَ الشَّيْخُ ذَلِكَ السِّبْطَ قَتَلَهُ الْفَتَى ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ كَأَنَّهُ يَطْلُبُ عَمَّهُ كَأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ هُوَ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَانْطَلَقَ نَحْوَهُ، فَإِذَا هُوَ بِذَلِكَ السِّبْطِ مُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُمْ، وَقَالَ: قَتَلْتُمْ عَمِّي فَأَدُّوا إليَّ ديَته، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ وَيُنَادِي: وَاعَمَاهُ، فَرَفَعَهُمْ إِلَى مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ. فَقَالُوا لَهُ: يا رسول الله ادع لَنَا رَبَّكَ حَتَّى يُبَيِّنَ لَنَا مَنْ صَاحِبُهُ فَيُؤْخَذُ صَاحِبُ القضية، فوالله إن ديته علينا لهيِّنة، ولكن نَسْتَحْيِي أَنْ نعيَّر بِهِ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}، قَالُوا: نَسْأَلُكَ عَنِ الْقَتِيلِ وَعَمَّنْ قَتَلَهُ وَتَقُولُ اذْبَحُوا بَقَرَةً أَتَهْزَأُ بِنَا؟ {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَوِ اعترضوا بقرة فذبحوها -[77]- لأجزأت عنهم، ولكنْ شدَّدوا وتعنَّتوا عَلَى مُوسَى فشدَّد اللَّهُ عَلَيْهِمْ. والفارض الهرمة التي لا تولد، والبكر التي لم تلد إلى وَلَدًا وَاحِدًا، والعَوَان النْصَفُ الَّتِي بَيْنَ ذَلِكَ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ وَوَلَدَ وَلَدُهَا {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرونَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} قَالَ نَقِيٌّ لَوْنُهَا {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} قَالَ تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تثير في الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مسلَّمة لاَّ شِيَةَ فِيهَا} مِنْ بَيَاضٍ وَلَا سَوَادٍ وَلَا حُمْرَةٍ {قَالُواْ الآن جِئْتَ بالحق} فطلبوها - من صاحبها - وأعطوا وزنها ذهباً فأبى فأضعفوه له حَتَّى أَعْطَوْهُ وَزْنَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ ذَهَبًا فَبَاعَهُمْ إِيَّاهَا وَأَخَذَ ثَمَنَهَا فَذَبَحُوهَا، قَالَ: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش فسألوه مَنْ قَتْلَكَ فَقَالَ لَهُمْ ابْنُ أَخِي قَالَ: أَقْتُلُهُ فَآخُذُ مَالَهُ وَأَنْكِحُ ابْنَتَهُ، فَأَخَذُوا الْغُلَامَ فقتلوه (قال ابن كثير: وهذه الروايات عن (عبيدة) و (السدي) مَأْخُوذَةٌ مِنْ كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهِيَ مِمَّا يجوز نقلها ولكن لا تصدَّق ولا تكذَّب)

- 68 - قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرونَ - 69 - قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ - 70 - قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ - 71 - قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ تَعَنُّتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ لِرَسُولِهِمْ ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق الله عَلَيْهِمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا أيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ لوقعت الموقع عنهم وَلَكِنَّهُمْ شدَّدوا فشدَّد عَلَيْهِمْ فَقَالُوا {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ} أي ما هذه البقرة؟ وأي شي صفتها؟ قال ابن جرير عن ابن عباس: (لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها ولكنهم شدَّدوا فشدَّد عليهم) قَالَ: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ} أَيْ لَا كَبِيرَةً هَرِمَةً وَلَا صغيرة لم يلحقها الفحل. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} يَقُولُ نَصَفٌ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَهِيَ أَقْوَى مَا يَكُونُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْبَقَرِ وَأَحْسَنُ ما تكون. وقال سعيد بن جبير: {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} صافية اللون. وقال العوفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} شَدِيدَةُ الصُّفْرَةِ تَكَادُ مِنْ صُفْرَتِهَا تَبْيَضُّ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: {تَسُرُّ الناظرين} أي تعجب الناظرين. وقوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} أَيْ لِكَثْرَتِهَا فَمَيِّزْ لَنَا هَذِهِ الْبَقَرَةَ وَصِفْهَا وَحِلَّهَا لَنَا {وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ} إِذَا بَيَّنْتَهَا لَنَا {لَمُهْتَدُونَ} إليها عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا {وَإِنَّآ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} لما أعطوا ولكن استثنوا» (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الحافظ ابن مردويه بنحوه) {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} أَيْ إِنَّهَا لَيْسَتْ مُذَلَّلَةً بِالْحِرَاثَةِ، وَلَا مُعَدَّةَ لِلسَّقْيِ فِي السَّانِيَةِ، بَلْ هِيَ مُكَرَّمَةٌ حَسَنَةٌ صَبِيحَةٌ مسلَّمة صَحِيحَةٌ -[78]- لَا عَيْبَ فِيهَا {لاَّ شِيَةَ فِيهَا} أَيْ لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ غَيْرُ لَوْنِهَا وَقَالَ قتادة {مسلَّمة} يقول: لا عيب فيها {لاَّ شِيَةَ فِيهَا} لونها واحد بهيم قاله عطاء {قَالُواْ الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} قَالَ قَتَادَةُ: الْآنَ بينت لنا، {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابن عباس: كادوا أن لا يَفْعَلُوا - وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الذِي أَرَادُوا - لِأَنَّهُمْ أرادوا أن لا يَذْبَحُوهَا، يَعْنِي أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا الْبَيَانِ وَهَذِهِ الأسئلة والإضاح مَا ذَبَحُوهَا إِلَّا بَعْدَ الْجُهْدِ، وَفِي هَذَا ذَمٌّ لَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُمْ إلا التعنت فلهذا ما كادوا يذبحونها. قال ابن جرير: لَمْ يَكَادُوا أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ خَوْفَ الْفَضِيحَةِ إِنِ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَى قَاتِلِ الْقَتِيلِ الذِي اختصموا فيه ثُمَّ اخْتَارَ أَنَّ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكَادُوا يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِغَلَاءِ ثَمَنِهَا وَلِلْفَضِيحَةِ.

- 72 - وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ - 73 - فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ قال البخاري: {فادارأتم فِيهَا} اختلفتم وهكذا قال مجاهد، {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: ما تغيبون. عن المسيب بن رافع: «مَا عَمِلَ رَجُلٌ حَسَنَةً فِي سَبْعَةِ أَبْيَاتٍ إِلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ وَمَا عَمِلَ رِجْلٌ سَيِّئَةً فِي سَبْعَةِ أَبْيَاتٍ إِلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ» وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (أخرجه ابن أبي حاتم عن المسيب بن رافع) {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} هَذَا الْبَعْضُ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ مِنْ أَعْضَاءِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ، فَالْمُعْجِزَةُ حَاصِلَةٌ به وخرق العادة به كائن، فَلَوْ كَانَ فِي تَعْيِينِهِ لَنَا فَائِدَةٌ تَعُودُ عَلَيْنَا فِي أَمْرِ الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا لبيَّنه الله تعالى لنا، ولكنه أبهمه ولم يجيء مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ عَنْ مَعْصُومٍ بَيَانَهُ فَنَحْنُ نبهمه كما أبهمه الله. وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} أَيْ فَضَرَبُوهُ فحييَ، وَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى قُدْرَتِهِ وَإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى بِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ أَمْرِ الْقَتِيلِ، جَعَلَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذلك الصنيع حُجَّةً لَهُمْ عَلَى الْمَعَادِ، وَفَاصِلًا مَا كَانَ بينهم من الخصومة والعناد، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مما خلقه من إِحْيَاءِ الْمَوْتَى فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بعد موتكم} وهذ الْقِصَّةُ، وَقِصَّةُ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ، وَقِصَّةُ الذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، وَقِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَالطُّيُورِ الْأَرْبَعَةِ، وَنَبَّهَ تَعَالَى بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا رَمِيمًا، كما قال أبو رزين العقيلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى؟ قَالَ: «أَمَا مَرَرْتَ بوادٍ مُمْحِلٍ ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ خَضِرًا»؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: «كَذَلِكَ النُّشُورُ» أَوْ قَالَ: «كَذَلِكَ يحيي الله الموتى» (رواه الطيالسي عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه) وَشَاهِدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}.

- 74 - ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ -[79]- وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يشقَّق فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ يَقُولُ تَعَالَى تَوْبِيخًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَقْرِيعًا لَهُمْ عَلَى مَا شَاهَدُوهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} كُلِّهِ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ التِي لَا تَلِينُ أَبَدًا، وَلِهَذَا نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مِثْلِ حَالِهِمْ، فَقَالَ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} فَصَارَتْ قُلُوبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ طُولِ الْأَمَدِ قَاسِيَةً بَعِيدَةً عَنِ الْمَوْعِظَةِ، بَعْدَ مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، فَهِيَ فِي قَسْوَتِهَا كَالْحِجَارَةِ التِي لَا عِلَاجَ لِلِينِهَا، أَوْ أشدَّ قَسْوَةً من الحجارة، فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية، وَمِنْهَا مَا يشقَّق فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا، وَمِنْهَا مَا يَهْبِطُ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَفِيهِ إِدْرَاكٌ لذلك بحسبه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يسبِّح بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُورًا} والمعنى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَأَلْيَنَ مِنْ قُلُوبِكُمْ عَمَّا تُدْعون إليه من الحق. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَهُوَ إِسْنَادُ الْخُشُوعِ إِلَى الْحِجَارَةِ كَمَا أُسْنِدَتِ الْإِرَادَةُ إِلَى الْجِدَارِ فِي قَوْلِهِ: {يُرِيدُ أن ينقض} قال الرازي والقرطبي: وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهَا هَذِهِ الصِّفَةَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأشفقن منها} وقال: {تُسَبِّحُ لَهُ السموات السبع والأرض وَمَن فيهن} الآية، وقال: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ}، وقال: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} وَفِي الصَّحِيحِ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»، وَكَحَنِينِ الْجِذْعِ الْمُتَوَاتِرِ خَبَرُهُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عليَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ»، وَفِي صِفَةِ الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلم بِحَقٍّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي معناه. (تَنْبِيهٌ) اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} بَعْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى اسْتِحَالَةِ كَوْنِهَا لِلشَّكِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ (أو) ههنا بِمَعْنَى الْوَاوِ تَقْدِيرُهُ: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ وَأَشَدُّ قَسْوَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} وقوله: {عُذْراً أَوْ نُذْراً} وكما قال جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ: نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا * كَمَا أَتَى ربَّه مُوسَى عَلَى قَدَرَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي نَالَ الْخِلَافَةَ وكانت له قدراً، وقال آخرون: (أو) ههنا بمعنى بل فتقديره: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ بَلْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَكَقَوْلِهِ: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خشية} {وأرسلناه إلى مائة أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أو أدنى}، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} عِنْدَكُمْ حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ فَقُلُوبُكُمْ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْحِجَارَةِ فِي الْقَسْوَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَشَدَّ منها في القسوة، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَمَعْنَى ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَبَعْضُهَا كَالْحِجَارَةِ قَسْوَةً، وَبَعْضُهَا أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ، وَقَدْ رَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مَعَ تَوْجِيهِ غَيْرِهِ، (قُلْتُ) وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ يَبْقَى شَبِيهًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نارا} مع قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء}، وكقوله: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}، مَعَ قَوْلِهِ {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لجِّي} الْآيَةَ أَيْ: إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ هَكَذَا ومنهم من هو هكذا، والله أعلم. عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، -[80]- فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةُ الْقَلْبِ، وإنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ من الله القلب القاسي» (رواه ابن مردويه والترمذي في كتاب الزهد، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابراهيم) وروي مرفوعاً: "أربع من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل والحرص على الدنيا" (رواه البزار عن أنَس بن مالك مرفوعاً).

- 75 - أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ - 76 - وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ - 77 - أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ يقول تعالى: {فتطمعون} يا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ {أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} أَيْ يَنْقَادُ لَكُمْ بِالطَّاعَةِ هَؤُلَاءِ الْفِرْقَةُ الضَّالَّةُ مِنَ الْيَهُودِ، الَّذِينَ شَاهَدَ آبَاؤُهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مَا شَاهَدُوهُ، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} أَيْ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ {مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أَيْ فَهِمُوهُ عَلَى الْجَلِيَّةِ، وَمَعَ هَذَا يُخَالَفُونَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ تَحْرِيفِهِ وَتَأْوِيلِهِ. وَهَذَا الْمَقَامُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قلوبهم قاسة يحرفون الكفم عن مواضعه} وليس كلهم قد سمعها، ولكن هم الَّذِينَ سَأَلُوا مُوسَى رُؤْيَةَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فيها، قال السدي: هي التوراة حرّفوها. وقال قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عقلوه وهم يَعْلَمُونَ} هُمُ الْيَهُودُ كَانُوا يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَوَعَوْهُ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: عَمَدُوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَرَّفُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَيْ أَنَّهُمْ أَذْنَبُوا، وَقَالَ ابْنُ وهب فِي قَوْلِهِ {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} قَالَ: التَّوْرَاةُ التِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، يُحَرِّفُونَهَا يَجْعَلُونَ الْحَلَالَ فِيهَا حَرَامًا، وَالْحَرَامَ فِيهَا حَلَالًا، والحق فيها باطلاً والباطل فيها حقاً. وقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمنوا قالوا آمنا}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمنا} أي قالوا: إنَّ صاحبكم رَسُولِ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً. {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} قَالُوا: لَا تُحَدِّثُوا الْعَرَبَ بِهَذَا فَإِنَّكُمْ قَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَيْهِمْ فكان منهم، {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} أَيْ تُقِرُّونَ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ قَدْ أَخَذَ لَهُ الْمِيثَاقَ عَلَيْكُمْ بِاتِّبَاعِهِ، وَهُوَ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ النَّبِيُّ الذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ وَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا، اجْحَدُوهُ وَلَا تُقِرُّوا بِهِ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}؟ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا إِذَا لَقُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا آمَنَّا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَؤُلَاءِ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ آمنوا ثم نافقوا. وَكَانُوا يَقُولُونَ إِذَا دَخَلُوا الْمَدِينَةَ نَحْنُ مُسْلِمُونَ، لِيَعْلَمُوا خَبَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرَهُ، فَإِذَا رَجَعُوا رَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَكُونُوا يَدْخُلُونَ، -[81]- وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ فَيَقُولُونَ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُونَ: بلى. قال أَبُو الْعَالِيَةِ {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} يعني بما أنزل عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِكُمْ مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ قَتَادَةَ: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} كَانُوا يَقُولُونَ سَيَكُونُ نَبِيٌّ فَخَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فقالوا: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فتح الله عليكم} وعن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ تَحْتَ حُصُونِهِمْ، فَقَالَ: يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَيَا عَبَدَةَ الطَّاغُوتِ فَقَالُوا مَنْ أَخْبَرَ بِهَذَا الْأَمْرِ مُحَمَّدًا؟ مَا خَرَجَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَّا مِنْكُمْ {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بِمَا حَكَمَ اللَّهُ لِلْفَتْحِ ليكون لهم حجة عليكم. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ كَانُوا إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا، وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تحدِّثوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، مِمَّا في كتابكم ليحاجوكم به عند ربكم فيخصموكم. وقوله تَعَالَى: {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يسرو وَمَا يُعْلِنُونَ} يَعْنِي مَا أَسَرُّوا مِنْ كُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلم وتكذيبهم به وهم يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} كَانَ مَا أَسَرُّوا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَوَلَّوْا عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، تَنَاهَوْا أَنْ يُخْبِرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِمَّا فِي كِتَابِهِمْ، خَشْيَةَ أَنْ يُحَاجَّهُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ {وَمَا يُعْلِنُونَ} يَعْنِي حِينَ قَالُوا لِأَصْحَابِ محمد صلى الله عليه وسلم آمنا.

- 78 - وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ - 79 - فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أَيْ وَمِنْ أَهْلِ الكتاب، وَالْأُمِّيُّونَ جَمْعُ أُمِّيٍّ وَهُوَ الرَّجُلُ الذِي لَا يحسن الكتابة، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب} أَيْ لَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ، وَلِهَذَا فِي صِفَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ الأمي لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِنَ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وهكذا» الحديث. وقال تبارك وتعالى: {هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ} قال ابْنُ جَرِيرٍ: نَسَبَتِ الْعَرَبُ مَنْ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَخُطُّ مِنَ الرِّجَالِ إِلَى أُمِّهِ فِي جهله بالكتاب دون أبيه. وقوله تعالى: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} عن ابن عباس: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} يَقُولُ إِلَّا قَوْلًا يَقُولُونَهُ بِأَفْوَاهِهِمْ كذباً، وقال مجاهد إلاّ كذباً، وعن مُجَاهِدٍ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} قال: أناس من اليهود لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مِنَ الْكِتَابِ شَيْئًا، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِالظَّنِّ بِغَيْرِ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ويقولون هو من الكتاب (أماني) يتمنونها، وَالتَّمَنِّي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ تَخَلُّقُ الْكَذِبِ وتخرصه، ومنه الخبر المروي عن عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «مَا تَغَنَّيْتُ وَلَا تَمَنَّيْتُ» يَعْنِي مَا تَخَرَّصْتُ الْبَاطِلَ وَلَا اخْتَلَقْتُ الْكَذِبَ، وقيل: المراد بقوله {إِلاَّ أَمَانِيَّ} بالتشديد والتخفيف أيضاً أي إلاّ تلاوة. واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى: {إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} الآية، وقال كعب بن مالك الشاعر: -[82]- تمنَّى كتاب الله أول ليله * وآخره لاقى حِمَام المقادر {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} يكذبون، وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} الْآيَةَ. هَؤُلَاءِ صِنْفٌ آخَرُ مِنَ الْيَهُودِ وَهُمُ الدُّعَاةُ إِلَى الضَّلَالِ بِالزُّورِ وَالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، وَأَكْلِ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، والويلُ: الْهَلَاكُ والدمار، وهي كلمة مشهورة في اللغة. وعن ابن عباس الويل: المشقة من العذاب، وقال الخليل الويلُ: شِدَّةُ الشَّرِّ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَيْلٌ لِمَنْ وَقَعَ فِي الْهَلَكَةِ، وَوَيْحٌ لِمَنْ أَشْرَفَ عَلَيْهَا، وقال الأصمعي: الويل تفجع، والويح ترحم، وقال غيره: الويل الحزن. وعن عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: {فويل للذي يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} قَالَ: هُمْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ، وَقَالَ السُّدي: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ كَتَبُوا كِتَابًا مِنْ عِنْدِهِمْ يَبِيعُونَهُ مِنَ الْعَرَبِ وَيُحَدِّثُونَهُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَأْخُذُوا بِهِ ثَمَنًا قليلاً، وقال الزهري عن ابن عباس: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عن شيءٍ وكتابُ الله الذي أنزله على نبيّه أحدث أخبار الله تقرأونه غضاً لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حدَّثكم اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ، وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ وَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قليلاَ، أَفَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ، وَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ أَحَدًا قَطُّ سَأَلَكُمْ عن الذي أنزل عليكم» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} أَيْ فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ وَالِافْتِرَاءِ، وويلٌ لَهُمْ مِمَّا أَكَلُوا بِهِ مِنَ السُّحْتِ، كما قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {فَوَيْلٌ لَّهُمْ} يَقُولُ: فَالْعَذَابُ عَلَيْهِمْ مِنَ الذِي كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْكَذِبِ {وَوَيْلٌ لَهُمْ مما يَكْسِبُونَ} يقول: مما يأكلون به أولئك النَّاسَ السَّفَلَةَ وَغَيْرَهُمْ.

- 80 - وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْيَهُودِ فِيمَا نَقَلُوهُ وَادَّعَوْهُ لِأَنْفُسِهِمْ، مِنْ أَنَّهُمْ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، ثُمَّ يَنْجُونَ منها، فردَّ الله عليهم ذلك بقوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْداً} أَيْ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ عَهْدٌ فَهُوَ لَا يُخْلِفُ عَهْدَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا مَا جَرَى وَلَا كان، ولهذا أتى بأم التِي بِمَعْنَى (بَلْ) أَيْ بَلْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ مِنَ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ. قال مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يقولون: إن هَذِهِ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا نُعَذَّبُ بِكُلِّ أَلْفِ سنةٍ يَوْمًا فِي النَّارِ، وَإِنَّمَا هِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} إلى قوله: {خَالِدُونَ} وقال العوفي عن ابن عباس: قَالُواْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وهي مدة عبادتهم العجل، وقال قَتَادَةَ: {وَقَالُواْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} يَعْنِي الْأَيَّامَ التِي عَبَدْنَا فِيهَا الْعِجْلَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: خَاصَمَتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: لَنْ نَدْخُلَ النَّارَ إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا فيها قَوْمٌ آخَرُونَ، يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده على رؤوسهم: (بل أنتم خالدون ومخلدون لا يخلفكم فيها أحد)، فأنزل الله عز وجل: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} الآية. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا سمُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اجمعو لي من كان من -[83]- اليهود هنا) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَبُوكُمْ؟» قَالُوا: فُلان، قَالَ: «كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ» فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «هَلْ أَنْتُمْ صادقيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟» قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟» فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْسَئُوا وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا" ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ أَنْتُمْ صادقيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟»، قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قال: «هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟» فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟»، فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ نَسْتَرِيحَ مِنْكَ، وإن كنت نبياً لم يضرك (رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي وابن مردويه واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه).

- 81 - بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - 82 - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَقُولُ تَعَالَى: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَمَنَّيْتُمْ وَلَا كَمَا تَشْتَهُونَ، بَلِ الْأَمْرُ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} وَهُوَ من وافى يوم القيامة وليست له حسنة، بل جميع أعماله سَيِّئَاتٌ، فَهَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ. {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَمِلُواْ الصَالِحَاتِ مِن الْعَمَلِ الْمُوَافِقِ لِلشَّرِيعَةِ، فَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهَذَا الْمَقَامُ شبيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يعملْ سُوءًا يُجز بِهِ وَلاَ يجدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَالِحَاتِ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} أَيْ عَمِلَ مِثْلَ أَعْمَالِكُمْ، وَكَفَرَ بِمِثْلِ مَا كَفَرْتُمْ بِهِ، حَتَّى يُحِيطَ بِهِ كُفْرُهُ فَمَا لَهُ مِنْ حَسَنَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: الشركُ. وقال الحسن: السيئة الكبيرة من الكبائر، وقال عطاء والحسن: {وأحااطت به خطيئته} أحاط به شركه، وقال الأعمش: {وَأَحَاطَتْ به خطيئته} الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إيَّاكم ومحقراتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرجُل حَتَّى يُهْلِكْنَهُ» وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لهم مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا وأجَّجوا ناراً فأنضجوا ما قذفوا فيها (رواه الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه مرفوعاً) وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ فيه خَالِدُونَ} أي من آمن بما كفرتم وَعَمَلَ بِمَا تَرَكْتُمْ مِنْ دِينِهِ فَلَهُمُ الْجَنَّةُ خَالِدِينَ فِيهَا، يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الثَّوَابَ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له.

- 83 - وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ -[84]- وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ يُذَكِّرُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أمرهم به من الأوامر، وأخذه مِيثَاقَهَمْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَعْرَضُوا قَصْدًا وَعَمْدًا، وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ، فأمرهم تعالى أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَبِهَذَا أَمَرَ جَمِيعَ خَلْقِهِ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، وَهَذَا هُوَ أَعْلَى الْحُقُوقِ وَأَعْظَمُهَا، وَهُوَ حَقُّ الله تبارك وتعالى أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ثُمَّ بَعْدَهُ حَقُّ الْمَخْلُوقِينَ وَآكَدُهُمْ وَأَوْلَاهُمْ بِذَلِكَ حَقُّ الوالدين، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بَيْنَ حَقِّهِ وَحَقِّ الْوَالِدَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إليَّ المصير} وقال تبارك وتعالى: {وقضى ربك أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إحساناً} إِلَى أَنْ قَالَ: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السبيل} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَن أَبِرُّ؟ قَالَ: «أُمَّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَن؟ قَالَ: «أُمَّكَ»، قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أَبَاكَ؟ ثُمَّ أدناك ثم أدناك» وقوله تعالى: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَبَرٌ بِمَعْنَى الطَّلَبِ وَهُوَ آكَدُ. وَقِيلَ: كَانَ أَصْلُهُ {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إلا الله} فحذفت (أن) فارتفع {وَالْيَتَامَى} وَهُمُ الصِّغَارُ الَّذِينَ لَا كَاسِبَ لَهُمْ من الآباء، و {المساكين} الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وأهليهم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} أَيْ كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا وَلِينُوا لَهُمْ جَانِبًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قال الحسن البصري أن يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَحْلُمُ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا قَالَ اللَّهُ، وهو كل خلق حسن رضيه الله. كما روي عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تحقرَّن مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَإِنْ لَمْ تجد فالق أخاك بوجه منطلق (أخرجه أَحْمَدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ورواه مسلم والترمذي)» يَأْمُرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا، بَعْدَ مَا أَمَرَهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِالْفِعْلِ، فَجَمَعَ بَيْنَ طَرَفَيِ الإحسان (الفعلي) و (القولي) ثُمَّ أَكَّدَ الْأَمْرَ بِعِبَادَتِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ بالمتعين مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، فَقَالَ: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَيْ تَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ عَلَى عَمْدٍ، بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ إِلَّا القليل منهم، وقد أمر الله هَذِهِ الْأُمَّةَ بِنَظِيرِ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي القربى واليتامى والمساكين} الآية.

- 84 - وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ - 85 - ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى -[85]- تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ - 86 - أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْيَهُودِ، الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَمَا كَانُوا يُعَانُونَهُ مِنَ الْقِتَالِ مَعَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ - وَهُمُ الْأَنْصَارُ - كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عبَّاد أَصْنَامٍ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَتْ يَهُودُ المدينة ثلاث قبائل (بنو قينقاع) و (بنو النضير) حلفاء الخزرج و (بنو قُرَيْظَةَ) حُلَفَاءُ الْأَوْسِ، فَكَانَتِ الْحَرْبُ إِذَا نَشِبَتْ بَيْنَهُمْ قَاتَلَ كُلُّ فَرِيقٍ مَعَ حُلَفَائِهِ فَيَقْتُلُ الْيَهُودِيُّ أَعْدَاءَهُ، وَقَدْ يَقْتُلُ الْيَهُودِيُّ الْآخَرُ مِنَ الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم، وينتبهون مَا فِيهَا مِنَ الْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْأَمْوَالِ، ثُمَّ إذا وضعت الحرب أوزارها افتكُّوا الْأَسَارَى مِنَ الْفَرِيقِ الْمَغْلُوبِ عَمَلًا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟} وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ} أَيْ لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يخرجه من منزله، ولا يظاهر عليه، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ بِمَنْزِلَةِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَوَاصُلِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سائر الجسد بالحمى والسهر»، وقوله تعالى: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أَيْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بِمَعْرِفَةِ هَذَا الْمِيثَاقِ وَصِحَّتِهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بِهِ، {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ} الآية. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} قال: أنبأهم الله بذلك مِنْ فِعْلِهِمْ، وَقَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ سَفْكَ دِمَائِهِمْ، وَافْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِيهَا فِدَاءَ أَسْرَاهُمْ، فَكَانُوا إِذَا كَانَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حَرْبٌ خَرَجَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ مَعَ الْخَزْرَجِ، وَخَرَجَتِ النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ مَعَ الْأَوْسِ، يُظَاهِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى تسافكوا دِمَاءَهُمْ بَيْنَهُمْ، وَبِأَيْدِيهِمُ التَّوْرَاةُ يَعْرِفُونَ فِيهَا مَا عَلَيْهِمْ وَمَا لَهُمْ، وَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَهْلُ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَلَا يَعْرِفُونَ جَنَّةً وَلَا نَارًا وَلَا بَعْثًا وَلَا قِيَامَةً، وَلَا كِتَابًا وَلَا حَلَالًا وَلَا حَرَامًا، فَإِذَا وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا افْتَدَوْا أَسْرَاهُمْ تَصْدِيقًا لِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَأَخْذًا بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، يَفْتَدِي (بَنُو قَيْنُقَاعَ) مَا كَانَ مِنْ أَسْرَاهُمْ فِي أَيْدِي (الْأَوْسِ) وَيَفْتَدِي (النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ) مَا كَانَ فِي أَيْدِي الْخَزْرَجِ مِنْهُمْ، وَيَطْلُبُونَ مَا أَصَابُوا مِنْ دِمَائِهِمْ، وقتلوا مَنْ قَتَلُوا مِنْهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، مُظَاهَرَةً لِأَهْلِ الشرك عليهم، يقول الله تعالى ذكره: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم، وفي حكم التوراة أن لا يقتل وَلَا يُخْرَجَ مِنْ دَارِهِ وَلَا يُظَاهَرُ عَلَيْهِ مَنْ يُشْرِكُ بِاللَّهِ وَيَعْبُدُ الْأَوْثَانَ مَنْ دُونِهِ ابْتِغَاءَ عَرَضِ الدُّنْيَا؟ فَفِي ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ مَعَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ - فِيمَا بَلَغَنِي - نَزَلَتْ هَذِهِ القصة. وقال السُّدِّيِّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَيْسِ بْنِ الحطيم {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ} وَالذِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَهَذَا السِّيَاقُ ذمَّ الْيَهُودِ فِي قِيَامِهِمْ بِأَمْرِ التَّوْرَاة التِي يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهَا، وَمُخَالَفَةِ شَرْعِهَا مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِذَلِكَ وَشَهَادَتِهِمْ لَهُ بِالصِّحَّةِ، فَلِهَذَا لَا يُؤْتَمَنُونَ عَلَى مَا فِيهَا وَلَا عَلَى نَقْلَهَا، وَلَا يُصَدَّقُونَ فيما كتموه مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، -[86]- وَنَعْتِهِ وَمَبْعَثِهِ وَمَخْرَجِهِ وَمُهَاجَرِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ من شؤونه، التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، وَالْيَهُودُ - عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ - يَتَكَاتَمُونَهُ بَيْنَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا جَزَآءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خزيٌّ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ شَرْعَ اللَّهِ وَأَمْرِهِ {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب} جزاء على مخالفتهم كِتَابِ اللَّهِ الذِي بِأَيْدِيهِمْ {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} أَيِ اسْتَحَبُّوهَا عَلَى الْآخِرَةِ وَاخْتَارُوهَا {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} أَيْ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ سَاعَةً وَاحِدَةً {وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} أَيْ وَلَيْسَ لَهُمْ نَاصِرٌ يُنْقِذُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم عليه

- 87 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ يَنْعَتُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْعُتُوِّ وَالْعِنَادِ، وَالْمُخَالَفَةِ وَالِاسْتِكْبَارِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَى مُوسَى الْكِتَابَ وهو (التوراة) فحرَّفوها وبدَّلوها، وخالفوا أوامرها أولوها، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِشَرِيعَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ الله وَكَانُواْ عليه شهداء} الآية، ولهذا قال تعالى: {قفينا مِن بَعْدِهِ بالرسل} قال السدي: أَتْبَعْنَا وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرْدَفْنَا، وَالْكُلُّ قَرِيبٌ كَمَا قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تترى} حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى بن مَرْيَمَ، فَجَاءَ بِمُخَالَفَةِ التَّوْرَاةِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَلِهَذَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَخَلْقِهِ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَيَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طيراً بإذن الله، وإبراء الْأَسْقَامَ، وَإِخْبَارِهِ بِالْغُيُوبِ، وَتَأْيِيدِهِ بِرُوحِ الْقُدُسِ - وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا يَدُلُّهُمْ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، فَاشْتَدَّ تَكْذِيبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُ وَحَسَدُهُمْ وَعِنَادُهُمْ لِمُخَالَفَةِ التَّوْرَاةِ فِي الْبَعْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ عِيسَى: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن ربكم} الآية فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء أَسْوَأَ الْمُعَامَلَةِ فَفَرِيقًا يُكَذِّبُونَهُ، وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَهُ، وَمَا ذاك إلا لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم، وبالإلزام بِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ التِي قَدْ تَصَرَّفُوا فِي مُخَالَفَتِهَا، فلهذا كان ذلك يشق عليهم فكذبوهم وَرُبَّمَا قَتَلُوا بَعْضَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}؟ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ ابن مسعود في تفسير هذه الآية ما قال البخاري: عن أبي هريرة عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ مِنْبَرًا فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَيِّدْ حَسَّانَ بروح القدس كما نافح عن نبيك» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَسَّانَ: «اهْجُهُمْ - أَوْ هَاجِهِمْ - وَجِبْرِيلُ مَعَكَ» وَفِي شِعْرِ حَسَّانَ قَوْلُهُ: وجبريل رسول الله فينا * وروح القدس ليس به خفاء وعن ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أنه لن تموت نفس حَتَّى تَسْتَكْمِلَ -[87]- رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا فَاتَّقَوُا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا في الطلب (رواه ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود)» وحكى القرطبي عن مجاهد القدُس: هو الله تعالى، وروحه جبريل وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْقُدْسُ الْبَرَكَةُ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابن عباس: القدس الطهر. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: {بِرُوحِ الْقُدُسِ} بِالرُّوحِ الْمُقَدَّسَةِ، كَمَا تقول: حَاتِمُ الْجُودِ، وَرَجُلُ صِدْقٍ، وَوَصْفُهَا بِالْقُدُسِ كَمَا قَالَ {وَرُوحٌ مِّنْهُ} فَوَصْفُهُ بِالِاخْتِصَاصِ وَالتَّقْرِيبِ تَكْرِمَةٌ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمْ تَضُمَّهُ الْأَصْلَابُ وَالْأَرْحَامُ الطَّوَامِثُ، وَقِيلَ: بِجِبْرِيلَ، وَقِيلَ: بِالْإِنْجِيلِ كَمَا قَالَ فِي القرآن {رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} وَقِيلَ: بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الذِي كَانَ يُحْيِي الموتى بذكره. وقال أيضاً في قوله تعالى: {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} إِنَّمَا لَمْ يَقِلْ وَفَرِيقًا قَتَلْتُمْ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ وَصْفَهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ حَاوَلُوا قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّمِّ وَالسِّحْرِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: «مَا زَالَتْ أكلة خيبر تعادّني فهذا أوان انقطاع أبهري» (الْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ)

- 88 - وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يؤمنون {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أَيْ فِي أَكِنَّةٍ: وَقَالَ ابن عباس: أي لا تفقه، وهي القلوب المطبوع عليها، وقال مجاهد: عليها غشاوة، وقال السدي: عليها غلاف وهو الغطاء فلا تعي ولا تفقه. {بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} أي طردهم الله وأبعدهم من كل خير {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} معناه: لا يؤمن منهم إلا القليل، وقال عبد الرحمن بن زيد في قوله: {غُلفٌ} تقول قلبي في غلاف فلا يخلص إليه مما تقول شيء، وقرأ: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} وهذا الذي رجحه ابن جرير واستشهد بما روي عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ» فَذَكَرَ مِنْهَا: «وقلبُ أَغْلَفُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ وَذَاكَ قَلْبُ الْكَافِرِ» (أخرجه ابن جرير عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ) " وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ادَّعَوْا بَلْ قُلُوبُهُمْ مَلْعُونَةٌ مَطْبُوعٌ عَلَيْهَا كَمَا قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إلا قليلاً} وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} وَقَوْلُهُ: {فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} فَقَالَ بعضهم: فقليل من يؤمن منهم، وَقِيلَ: فَقَلِيلٌ إِيمَانُهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَلَكِنَّهُ إِيمَانٌ لَا يَنْفَعُهُمْ لِأَنَّهُ مَغْمُورٌ بِمَا كَفَرُواْ بِهِ مِن الذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما كَانُوا غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا قَالَ: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} وَهُمْ بِالْجَمِيعِ كَافِرُونَ كَمَا تَقُولُ العرب: قلَّما رأيت مثل هذا قط نريد ما رأيت مثل هذا قط، والله أعلم.

- 89 - وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ} يَعْنِي الْيَهُودَ {كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} وَهُوَ الْقُرْآنُ الذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[88]- {مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} يعني التَّوْرَاةِ، وَقَوْلُهُ: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ وَقَدْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ هَذَا الرَّسُولِ بِهَذَا الْكِتَابِ يَسْتَنْصِرُونَ بِمَجِيئِهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا قَاتَلُوهُمْ، يَقُولُونَ إِنَّهُ سَيُبْعَثُ نَبِيٌّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رسوله من قريش كفروا به. قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} قال يستنصرون: يَقُولُونَ نَحْنُ نُعِينُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِمْ وَلَيْسُوا كَذَلِكَ بل يُكَذِّبُونِ. وقال محمد بن إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ يَهُودَ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَرَبِ كَفَرُوا بِهِ وَجَحَدُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ. فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ اتَّقَوُا اللَّهَ وَأَسْلِمُوا فَقَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنا مبعوث وتصفونه بِصِفَتِهِ، فَقَالَ (سلاَم بْنُ مِشْكَمٍ} أَخُو بَنِي النَّضِيرِ: مَا جَاءَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ وَمَا هُوَ بِالذِي كُنَّا نَذْكُرُ لَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} الآية. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} يَقُولُ: يَسْتَنْصِرُونَ بِخُرُوجِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، يَعْنِي بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ، فَلَمَّا بُعث مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَأَوْهُ من غيرهم - كفروا به وحسدوه. قال مجاهد: {فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} هم اليهود.

- 90 - بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ على من يشآء من عباده فباؤوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ قَالَ السدي: {بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} باعوا به أنفسهم، يقول: بئسما اتعاضوا لأنفسهم فرضوا بِهِ وَعَدَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تَصْدِيقِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ وَنُصْرَتِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ البغيُ والحسدُ والكراهية ل {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وَلَا حَسَدَ أَعْظَمَ مِنْ هذا. ومعنى (باؤا) استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب. قال أَبُو الْعَالِيَةِ: غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِكَفْرِهِمْ بِالْإِنْجِيلِ وعيسى، ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن. قَالَ السُّدِّيُّ: أَمَّا الْغَضَبُ الْأَوَّلُ فَهُوَ حِينُ غَضَبِ عَلَيْهِمْ فِي الْعِجْلِ، وَأَمَّا الْغَضَبُ الثَّانِي فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ حِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَقَوْلُهُ تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} لَمَّا كَانَ كُفْرُهُمْ سَبَبُهُ الْبَغْيُ وَالْحَسَدُ وَمَنْشَأُ ذَلِكَ التَّكَبُّرُ قُوبِلُوا بِالْإِهَانَةِ وَالصَّغَارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي صاغرين حقيرين ذليلين. وعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ النَّاسِ يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الصَّغَارِ حَتَّى يدخلو سِجْنًا فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ (بُولَسُ) تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ عُصَارَةِ أهل النار» (رواه الإمام أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده مرفوعاً)

- 91 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ -[89]- قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ - 92 - وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أَيْ لِلْيَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدِّقُوهُ وَاتَّبِعُوهُ، {قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} أَيْ يَكْفِينَا الْإِيمَانُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَلَا نُقِرُّ إِلَّا بِذَلِكَ {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ} يَعْنِي بِمَا بَعْدَهُ، {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} أَيْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} ثم قال تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}؟ أَيْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمُ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، فَلِمَ قَتَلْتُمُ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ جَاءُوكُمْ بِتَصْدِيقِ التَّوْرَاةِ التِي بِأَيْدِيكُمْ، وَالْحُكْمِ بِهَا وَعَدَمِ نَسْخِهَا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ صِدْقَهُمْ؟ قتلتموهم بغياً وَعِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا عَلَى رُسُلِ اللَّهِ فَلَسْتُمْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا مُجَرَّدَ الْأَهْوَاءِ وَالْآرَاءِ وَالتَّشَهِّي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ استكبرتم ففريقا كذبتم وقريقا تقتلون}. {وقال ابن جرير: قال يا محمد ليهود بني إسرائيل إِذَا قُلْتَ لَهُمْ: آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا، لِمَ تَقْتُلُونَ - إن كنتم مؤمنين بمآ أنزل الله - أنبياء الله يا معشر اليهود، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ الذِي أُنْزِلَ عليكم قتلهم، بل أمركم بِاتِّبَاعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ، وَذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ {نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا} وَتَعْيِيرٌ لَهُمْ. {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات عَلَى أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا الله، والآيات وَالْبَيِّنَاتُ هِيَ: (الطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، والقُمّل، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، والعصا، واليد، وفرق الْبَحْرِ، وَتَظْلِيلُهُمْ بِالْغَمَامِ، وَالْمَنُّ، وَالسَّلَوَى، وَالْحَجَرُ) وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ التِي شَاهَدُوهَا {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} أَيْ مَعْبُودًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي زمان موسى وأيامه. وَقَوْلُهُ: {مِن بَعْدِهِ} أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ}، {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} أَيْ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ فِي هَذَا الصَّنِيعِ الذِي صَنَعْتُمُوهُ مِنْ عِبَادَتِكُمُ الْعِجْلَ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ من الخاسرين}.

- 93 - وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يُعَدِّدُ سبحانه وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ خَطَأَهُمْ وَمُخَالَفَتَهُمْ لِلْمِيثَاقِ، وَعُتُوَّهُمْ وَإِعْرَاضَهُمْ عَنْهُ حَتَّى رَفَعَ الطُّورَ عَلَيْهِمْ حَتَّى قَبِلُوهُ ثم خالفوه: {ولهذا قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} وَقَدْ تَقَدَّمُ تَفْسِيرُ ذَلِكَ (انظر ص 73) {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ} عن قتادة قال: أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «حبك الشيْ يعمي ويصم» (رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه) -[90]- وعن علي رضي الله عنه قَالَ: عَمَدَ مُوسَى إِلَى الْعِجْلِ فَوَضَعَ عَلَيْهِ الْمَبَارِدَ فَبَرَدَهُ بها وهو على شاطىء نَهَرٍ، فَمَا شَرِبَ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ مِمَّنْ كَانَ يَعْبُدُ الْعِجْلَ إِلَّا اصْفَرَّ وَجْهُهُ مثل الذهب (رواه ابن أبي حاتم عن علي كرم الله وجهه) وَقَوْلُهُ: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَيْ بِئْسَمَا تَعْتَمِدُونَهُ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ مِنْ كُفْرِكُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَمُخَالَفَتِكُمُ الأنبياء، ثم كُفْرِكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا أكبر ذنوبكم وأشد الأمرو عَلَيْكُمْ، إِذْ كَفَرْتُمْ بِخَاتَمِ الرُّسُلِ وَسَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ الْمَبْعُوثِ إِلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَكَيْفَ تَدَّعُونَ لِأَنْفُسِكُمُ الْإِيمَانَ وَقَدْ فَعَلْتُمْ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ الْقَبِيحَةَ مِنْ نَقْضِكُمُ الْمَوَاثِيقَ، وَكُفْرِكُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَعِبَادَتِكُمُ العجل من دون الله.؟

- 94 - قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 95 - وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ - 96 - وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يعملون يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَيِ ادْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَكْذَبَ، فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عليم بالظالمني} أي يعلمهم بما عندهم من العلم بل وَالْكُفْرِ بِذَلِكَ وَلَوْ تَمَنَّوْهُ يَوْمَ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ مَا بَقِيَ عَلَى الْأَرْضِ يَهُودِيٌّ إِلَّا مَاتَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَتَمَنَّوُاْ الموت} فسلوا الموت قال ابن عباس: «لو تمنى يهود الموت لماتوا ولو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه» (أخرجه ابن أبي حاتم وعبد الرزاق عن عكرمة عن ابن عباس) وقال ابن جرر: وبلغنا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَلَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَجَعُوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً» وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فهم - عليهم لعائن الله تعالى - لَمَّا زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَقَالُوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} دُعُوا إِلَى الْمُبَاهَلَةِ وَالدُّعَاءِ عَلَى أَكْذَبِ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْهُمْ أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا نَكَلُوا عَنْ ذَلِكَ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا جَازِمِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ لَكَانُوا أَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا تَأَخَّرُوا عُلِمَ كَذِبُهُمْ. وَهَذَا كَمَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدَ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ لِبَعْضٍ: وَاللَّهِ لَئِنْ بَاهَلْتُمْ هَذَا النَّبِيَّ لَا يَبْقَى مِنْكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ جَنَحُوا لِلسِّلْمِ وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون. والمعنى إِنْ كُنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ مَنْ دُونِ النَّاسِ وَأَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ عَدَاكُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَبَاهِلُوا عَلَى ذَلِكَ وَادْعُوا عَلَى الْكَاذِبِينَ مِنْكُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمُبَاهَلَةَ تَسْتَأْصِلُ -[91]- الْكَاذِبَ لَا مَحَالَةَ، فَلَمَّا تَيَقَّنُوا ذَلِكَ وَعَرَفُوا صِدْقَهُ نَكَلُوا عَنِ الْمُبَاهَلَةِ، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَذِبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ، وَكِتْمَانِهِمُ الْحَقَّ مِنْ صِفَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتِهِ، وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَيَتَحَقَّقُونَهُ، فَعَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ بَاطِلَهُمْ وَخِزْيَهُمْ وَضَلَالَهُمْ وَعِنَادَهُمْ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْمُبَاهَلَةُ تَمَنِّيًا لِأَنَّ كُلَّ مُحِقٍّ يَوَدُّ لَوْ أَهْلَكَ اللَّهُ الْمُبْطِلَ الْمُنَاظِرَ لَهُ، وَلَا سِيَّمَا إذا كان في ذلك حجة له في بَيَانُ حَقِّهِ وَظُهُورُهُ، وَكَانَتِ الْمُبَاهَلَةُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ الْحَيَاةَ عِنْدَهُمْ عَزِيزَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ سُوءِ مَآلِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} أي على طول العمر لما يعلمون من مآلهم السيء وَعَاقَبَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ الْخَاسِرَةِ، لِأَنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ، فَهُمْ يَوَدُّونَ لَوْ تَأَخَّرُوا عَنْ مَقَامِ الْآخِرَةِ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُمْ وَمَا يحاذرون منه وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، حَتَّى وَهُمْ أَحْرَصُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَهَذَا من باب عطف الخاص على العام، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} المنافق أحرص الناس، وأحرص من المشرك على حياة {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} أي يود أحد اليهود لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ} أي وما هُوَ بِمُنْجِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَرْجُو بَعْثًا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَهُوَ يُحِبُّ طُولَ الْحَيَاةِ، وَأَنَّ الْيَهُودِيَّ قَدْ عَرَفَ مَا له في الآخرة من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم فَمَا ذَاكَ بِمُغِيثِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَلَا مُنْجِيهِ منه {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي خبير بصير بِمَا يَعْمَلُ عِبَادَهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَسَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.

- 97 - قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ - 98 - مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ قال أبو جعفر الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ جميعاً أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عَدُوٌّ لَهُمْ، وَأَنْ مِيكَائِيلَ وليٌّ لَهُمْ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الذِي مِنْ أَجْلِهِ قَالُوا ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَ سَبَبُ قِيلِهِمْ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ نبوّته. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلَتْ يَهُودُ عَلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا أبا القاسم أخبرنا عَنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ فَإِنْ أَنْبَأْتَنَا بِهِنَّ عَرَفْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَاتَّبَعْنَاكَ فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ إسرائيل على بنيه إذا قال: {والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} قال: «هاتوا»، قالوا: فأخبرنا عَنْ عَلَامَةِ النَّبِيِّ؟ قَالَ: «تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا ينام قلبه». قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وَكَيْفَ تذكَّر؟ قَالَ: «يَلْتَقِي الْمَاءَانِ فَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَتْ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ أَنَّثَتْ»، قَالُوا: أَخْبِرْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ: «كَانَ يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَّاءِ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلَائِمُهُ إلا ألبان كذا»، قَالَ أَحْمَدُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي الْإِبِلَ. فَحَرَّمَ لُحُومَهَا. قَالُوا: صَدَقْتَ. قَالُوا: أَخْبِرْنَا مَا هَذَا الرَّعْدُ؟ قَالَ: «مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ عَزَّ وجل موكل بالسحاب بيديه أو في يديه مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ يَزْجُرُ بِهِ السَّحَابَ يَسُوقُهُ حيث أمره الله تعالى». قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: «صوته»، قالوا: صدقت. قالوا: إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَلَهُ مَلَكٌ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ فَأَخْبِرْنَا مَنْ صَاحِبُكَ؟ قَالَ: «جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ»، قَالُوا: جِبْرِيلُ ذَاكَ الذِي يَنْزِلُ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ وَالْعَذَابِ عدوُّنا، لَوْ قُلْتَ مِيكَائِيلُ الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان، فأنزل -[92]- الله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عدو لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (رواه أحمد والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن غريب) إلى آخر الآية. وفي رواية: أَنَّ يَهُودَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَاحِبِهِ الذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ قال: «جبريل» قالوا: فإنه عدوّ لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال فنزلت: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} الآية. وأخرج البخاري عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعَ (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ) بِمَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي أَرْضٍ يَخْتَرِفُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي سائِلك عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أبيه أو إلى أمه؟ قال: «أخبرني بهذه جبرائيل آنِفًا» قَالَ: جِبْرِيلُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ}. «وأما أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدُ وَإِذَا سبق ماء المرأة نَزَعَتْ»، قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأنك رَسُولُ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيّ رجل عبد الله ابن سَلَامٍ فِيكُمْ؟» قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَسَيِّدُنَا وابن سيدنا، قال: «أرأتيم إن أسلم» قالوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أن محمداً رسول الله، فقالوا: هو شرنا وابن شرنا وانتقصوه، فقال: هَذَا الذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ" (رواه البخاري وأخرجه مسلم قريباً من هذا السياق). وقال آخرون: بل كان سبب ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عمر بن الخطاب فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال عمر: كنت أشهد اليهود يوم مدارسهم، فأعجب من التوراة كيف تصدِّق القرآن من القرآن كَيْفَ يصدِّق التَّوْرَاةَ فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ قَالُوا: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْكَ، (قُلْتُ): وَلِمَ ذلك؟ قالوا: لأنك تَغْشَانَا وَتَأْتِينَا، فَقُلْتُ: إِنِّي آتِيكُمْ فَأَعْجَبُ مِنَ القرآن كَيْفَ يصدِّق التَّوْرَاةَ، وَمِنَ التَّوْرَاةِ كَيْفَ تصدِّق القرآن، قالوا: وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ذَاكَ صَاحِبُكُمْ فَالْحَقْ بِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ: نَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ الذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَمَا استرعاكم من حقه وما استودعكم من كتابه، هل تعلمون أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: فَسَكَتُوا، فَقَالَ لَهُمْ عَالِمُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ: إِنَّهُ قَدْ غلَّظ عَلَيْكُمْ فَأَجِيبُوهُ، قالوا: فَأَنْتَ عَالِمُنَا وَكَبِيرُنَا فَأَجِبْهُ أَنْتَ، قَالَ: أَمَا إذا نشدتنا بما نشدتنا فإنا نعلم إنه رسول الله، قلت: ويحكم إذاً هلكتم، قالوا: إنا لم نهلك، قلت: كيف ذلك وأنت تعلمون إنه رسول الله وَلَا تَتْبَعُونَهُ وَلَا تُصَدِّقُونَهُ!! قَالُوا: إِنَّ لَنَا عَدُوًّا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وسلْماً مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّهُ قرن بنبوّته عدوّنا من الملائكة، قُلْتُ: وَمَنْ عَدُوُّكُمْ وَمَنْ سِلمكم؟ قَالُوا: عَدُوُّنَا جبريل، وسِلمنا مِيكَائِيلَ، قَالُوا: إِنَّ جِبْرِيلَ مَلَكُ الْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَةِ والإعسار والتشدد والعذاب ونحو هذا، وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة، وَالتَّخْفِيفِ وَنَحْوِ هَذَا، قَالَ، قُلْتُ: وَمَا مَنْزِلَتُهُمَا مِنْ رَبِّهِمَا عزَّ وجلَّ؟ قَالُواْ: أَحَدُهُمَا عَنْ يمينه والآخر عن يساره، قال، فقلت: فوالذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّهُمَا - وَالذِي بَيْنَهُمَا - لَعَدُوٌّ لِمَنْ عَادَاهُمَا وسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَهُمَا، وَمَا يَنْبَغِي لِجِبْرِيلَ أَنْ يُسَالِمَ عَدُوَّ مِيكَائِيلَ، وَمَا ينبغي لميكائيل أن يسالم عدوّ جبريل، قال: ثُمَّ قُمْتُ فَاتَّبَعْتُ -[93]- النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَحِقْتُهُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ خَوْخَةٍ لِبَنِي فُلَانٍ، فَقَالَ: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا أُقْرِئَكَ آيَاتٍ نَزَلْنَ قَبْلُ» فَقَرَأَ عَلِيَّ: {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله} حتى قرأ الآيات. قال، قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لقد جئت أنا أريد أن أخبرك وأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر" (ذكره ابن جرير في تفسيره بسنده إلى الشعبي) وقال ابن جرير: انطلق عمر بن الخطاب ذات يوم إلى اليهود فلما انصرف رَحَّبُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أَمَا وَاللَّهِ ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فِيكُمْ وَلَكِنْ جِئْتُ لِأَسْمَعَ مِنْكُمْ، فَسَأَلَهُمْ وَسَأَلُوهُ، فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم: جبرائيل فَقَالُوا: ذَاكَ عَدُوُّنَا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ يُطلع محمداً على سرِّنا وإذا جاء جاء بالحرب والسَنَة (المراد بالسنة: القحط والجدب) ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل إذا جاء جاء بالخصب والسلم، فقال لهم عمر: هل تعرفون جبرائيل وَتُنْكِرُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَارَقَهُمْ عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَتَوَجَّهُ نَحْوَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُحَدِّثَهُ حَدِيثَهُمْ فَوَجَدَهُ قَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله} الآيات. وقال ابن جرير عن ابن أبي ليلى في قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ للمسلمين: لو أن (ميكائيل) كان هُوَ الذِي يُنَزِّلُ عَلَيْكُمُ اتَّبَعْنَاكُمْ فَإِنَّهُ يَنْزِلُ بِالرَّحْمَةِ والغيث، وإن (جبرائيل) ينزل بالعذاب والنقمة فإنه عدوّ لنا، قال: فنزلت هذه الآية. وأما تفسير الآية فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أَيْ من عادى جبرائيل فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ الرُّوحُ الْأَمِينُ، الذِي نَزَلَ بِالذِّكْرِ الْحَكِيمِ عَلَى قَلْبِكَ مِنَ اللَّهِ بِإِذْنِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ رَسُولٌ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ ملكيَّ، وَمَنْ عَادَى رَسُولًا فَقَدْ عَادَى جَمِيعَ الرُّسُلِ، كَمَا أَنَّ مَنْ آمَنَ بِرَسُولٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الغيمان بجميع الرسل، وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدوّ لله لأن جبرائيل لَا يَنْزِلُ بِالْأَمْرِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَنْزِلُ بِأَمْرِ رَبِّهِ كَمَا قَالَ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْحَرْبِ» ولهذا غضب الله لجبرائيل على ما عاداه، فقال تعالى: {

- 99 - وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون - 100 - أو كلما عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ - 101 - وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كأنهم لا يعلمون - 102 - واتبعوا ما تتلوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ - 103 - وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عند الله خير لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} الآية. أَيْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ عَلَامَاتٍ وَاضِحَاتٍ، دالاّت عَلَى نُبُوَّتِكَ، وَتِلْكَ الْآيَاتُ هِيَ مَا حَوَاهُ كِتَابُ اللَّهِ مِنْ خَفَايَا عُلُومِ الْيَهُودِ، وَمَكْنُونَاتِ سَرَائِرِ أَخْبَارِهِمْ، وَأَخْبَارِ أَوَائِلِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالنَّبَأِ عَمَّا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُهُمُ التِي لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا إِلَّا أَحْبَارُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ، وَمَا حَرَّفَهُ أَوَائِلُهُمْ -[95]- وَأَوَاخِرُهُمْ وَبَدَّلُوهُ مِنْ أَحْكَامِهِمْ التِي كَانَتْ فِي التَّوْرَاةِ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الذِي أَنْزَلَهُ على نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ لِمَنْ أنصف من نفسه، ولم يدعها إلى هلاكها الحسدُ والبغيُ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ صُورِيَّا القطويني لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ مَا جِئْتَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فَنَتْبَعُكَ، فَأَنْزَلَ الله في ذلك: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ حِينَ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكَّرهم مَا أُخذ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ، وَمَا عُهد إِلَيْهِمْ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاللَّهِ مَا عَهِدَ إِلَيْنَا فِي محمد، وما أُخذ علينا ميثاقٌ، فأنزل الله تعالى: {أو كلما عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم} وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} قَالَ: نَعَمْ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ عَهْدٌ يُعَاهِدُونَ عَلَيْهِ إِلَّا نَقَضُوهُ وَنَبَذُوهُ، يُعَاهِدُونَ الْيَوْمَ وَيَنْقُضُونَ غَدًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم} أَيْ نَقَضَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَصْلُ النَّبْذِ الطَّرْحُ وَالْإِلْقَاءُ، وَمِنْهُ سُمِّي اللَّقِيطُ مَنْبُوذًا، وَمِنْهُ سُمِّي النَّبِيذُ - وَهُوَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ - إِذَا طُرِحَا فِي الْمَاءِ، قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ: نظرتَ إِلَى عُنْوَانِهِ فنبذتَه * كَنَبْذِكَ نَعْلًا أخلقتْ مِنْ نِعَالِكَا قُلْتُ: فَالِقَوْمُ ذَمَّهُمُ اللَّهُ بِنَبْذِهِمُ الْعُهُودَ التِي تَقَدَّمُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِي التَّمَسُّكِ بِهَا وَالْقِيَامِ بِحَقِّهَا، وَلِهَذَا أَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ التَّكْذِيبَ بِالرَّسُولِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً، الذِي فِي كُتُبِهِمْ نَعْتُهُ وَصِفَتُهُ وَأَخْبَارُهُ، وَقَدْ أُمِرُوا فِيهَا بِاتِّبَاعِهِ ومؤازرته ونصرته كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل}، وقال ههنا: {وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} الآية، أي طرح طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كِتَابَ اللَّهِ الذِي بِأَيْدِيهِمْ مِمَّا فِيهِ الْبِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، أَيْ تَرَكُوهَا كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا وَأَقْبَلُوا عَلَى تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَاتِّبَاعِهِ، وَلِهَذَا أَرَادُوا كَيْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وسحروه في مُشْط ومُشَاقه وجُفّ طلعة ذَكَرٍ تحت راعوفة ببئر أَرْوَانَ، وَكَانَ الذِي تَوَلَّى ذَلِكَ مِنْهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ (لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ) لَعَنَهُ اللَّهُ وقبحه، فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاهُ مِنْهُ وَأَنْقَذَهُ، كَمَا ثَبَتَ ذلك مبسوطاً في الصحيحين كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. قَالَ السُّدِّيُّ: {وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} قَالَ: لَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارَضُوهُ بِالتَّوْرَاةِ فَخَاصَمُوهُ بِهَا، فَاتَّفَقَتِ التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ فَنَبَذُوا التَّوْرَاةَ، وَأَخَذُوا بِكِتَابِ آصِفَ وَسِحْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فَلَمْ يُوَافِقِ الْقُرْآنَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} قَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَكِنَّهُمْ نَبَذُوا عِلْمَهُمْ وَكَتَمُوهُ وَجَحَدُوا بِهِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ آصِفُ كَاتِبُ سُلَيْمَانَ وَكَانَ يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَكَانَ يَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ وَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فلما مات سليمان أخرجته الشَّيَاطِينُ فَكَتَبُوا بَيْنَ كُلِّ سَطْرَيْنِ سِحْرًا وَكُفْرًا، وَقَالُوا هَذَا الذِي كَانَ سُلَيْمَانُ يَعْمَلُ بِهَا. قال: فأكفره جهال الناس وسبُّوه، ووقف علماء الناس، فلم يزل جهال الناس يسبُّونه حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشياطين كَفَرُواْ} وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أَيْ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ فَتَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَيَسْتَمِعُونَ مِنْ كلام الملائكة ما يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ غَيْبٍ أَوْ أَمْرٍ، فَيَأْتُونَ الْكَهَنَةَ فَيُخْبِرُونَهُمْ فَتُحَدِّثُ الْكَهَنَةُ الناس فيجدونه كما قالوا، فلما أَمِنَتْهُمُ الْكَهَنَةُ كَذَبُوا لَهُمْ وَأَدْخَلُوا فِيهِ غَيْرَهُ، فَزَادُوا مَعَ كُلِّ كَلِمَةٍ سَبْعِينَ كَلِمَةً فَاكْتَتَبَ الناس -[96]- ذلك الحديث في الكتب، وفشا ذلك فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ الْجِنَّ تَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَبُعِثَ سُلَيْمَانُ فِي النَّاسِ فَجَمَعَ تِلْكَ الْكُتُبَ فَجَعَلَهَا فِي صُنْدُوقٍ ثُمَّ دَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يدنوا مِنَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا احْتَرَقَ، وَقَالَ: لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَذْكُرُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ إِلَّا ضربت عنقه. فلما مات سليمان وَذَهَبَتِ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَمْرَ سُلَيْمَانَ، وخلف مِّن بَعْدِ ذلك خلف، تمثل الشيطان فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، ثُمَّ أَتَى نَفَرًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى كنز لا تأكلونه أَبَداً (أي لا ينفد بالأكل منه) قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسي، فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته، فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوهها قَالَ الشَّيْطَانُ: إِنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا كَانَ يَضْبُطُ الإنس والشياطين والطير بهذا السحر ثم ذهب، وَفَشَا فِي النَّاسِ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ سَاحِرًا، واتخذت بنوا إِسْرَائِيلَ تِلْكَ الْكُتُبَ، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَمُوهُ بِهَا فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشياطين كَفَرُواْ} وقال سعيد بن جبير: كان سليمان يَتَتَبَّعُ مَا فِي أَيْدِي الشَّيَاطِينِ مِنَ السِّحْرِ فَيَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، فَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ فِي بَيْتِ خزانته، فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إِلَى الْإِنْسِ فَقَالُوا لَهُمْ: أَتَدْرُونَ مَا الْعِلْمُ الذِي كَانَ سُلَيْمَانُ يُسِخِّرُ بِهِ الشَّيَاطِينَ وَالرِّيَاحَ وَغَيْرَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالُوا: فَإِنَّهُ فِي بيت خزانته وتحت كرسيه، فاستخرجوه وعملوا به، فأنزل الله تعالى على نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرَاءَةَ سليمان عليه السلام، فقال تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ} لما ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ (سُلَيْمَانُ بْنُ داود) وعدَّه فيمن عد مِنَ الْمُرْسَلِينَ، قَالَ مَن كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ اليهود: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ يَزْعُمُ أَنَّ ابْنَ دَاوُدَ كَانَ نَبِيًّا وَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا ساحراً، وأنزل الله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ. وروي أنه لما مَاتَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَامَ إِبْلِيسُ - لَعَنَهُ الله - خطيباً فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا إِنَّمَا كَانَ سَاحِرًا فَالتَمِسُوا سِحْرَهُ فِي مَتَاعِهِ وَبُيُو

(تابع ... 1): 99 - وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون ... ... وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} أَيْ ابْتِلَاؤُكَ وَاخْتِبَارُكَ وامتحانك، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَكْفِيرِ من تعلم السحر واستشهد له بالحديث الصحيح: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ سَاحِرًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (رواه البزار بسند صحيح) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} أَيْ فَيَتَعَلَّمُ النَّاسُ مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مِنْ عِلْمِ السِّحْرِ، مَا يَتَصَرَّفُونَ به فيما يتصرفون مِنَ الْأَفَاعِيلُ الْمَذْمُومَةِ، مَا إِنَّهُمْ لَيُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَعَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْخُلْطَةِ وَالِائْتِلَافِ، وَهَذَا مِنْ صَنِيعِ الشَّيَاطِينِ كَمَا رَوَاهُ مسلم في صحيحه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنِ الشَّيْطَانَ لَيَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فِي النَّاسِ فَأَقْرَبُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا زِلْتُ بِفُلَانٍ حَتَّى تَرَكْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ إِبْلِيسُ: لَا وَاللَّهِ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا! وَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ، قَالَ: فَيُقَرِّبُهُ وَيُدْنِيهِ ويلتزمه ويقول: نعم أنت (رواه مسلم عن جابر بن عبد الله) " وسبب التفريق بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالسِّحْرِ مَا يُخَيَّلُ إِلَى الرَّجُلِ أَوِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْآخَرِ مِنْ سُوءِ مَنْظَرٍ أو خلق أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْفُرْقَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إلا بقضاء الله، وقال الحسن البصري: مَنْ شَاءَ اللَّهُ سَلَّطَهُمْ عَلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يشأ الله لم يسلط، ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} أَيْ يَضُرُّهُمْ فِي دِينِهِمْ وَلَيْسَ لَهُ نَفْعٌ يُوَازِي ضَرَرُهُ {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} أَيْ وَلَقَدْ عَلِمَ الْيَهُودُ الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا بِالسِّحْرِ عَنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ، أَنَّهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ من خلاق، قال ابن عباس من نصيب، {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} يَقُولُ تَعَالَى {وَلَبِئْسَ} الْبَدِيلُ مَا اسْتَبْدَلُوا بِهِ مِنَ السِّحْرِ عِوَضًا عَنِ الْإِيمَانِ وَمُتَابَعَةِ الرسول، لَوْ كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ بِمَا وُعِظُوا بِهِ {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} أَيْ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَاتَّقَوُا الْمَحَارِمَ، لَكَانَ مَثُوبَةُ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا اسْتَخَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَرَضُوا بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يلقَّاها إِلاَّ الصابرون}. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} مَنْ ذَهَبَ إِلَى تَكْفِيرِ السَّاحِرِ، كَمَا هُوَ رواية عن الإمام أحمد ابن حَنْبَلٍ وَطَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ، وَقِيلَ: بَلْ لَا يَكْفُرُ وَلَكِنْ حَدُّهُ ضَرْبُ عُنُقِهِ، لِمَا رَوَاهُ الشافعي وأحمد بن حنبل عن

عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ بِجَالَةَ بْنَ عبدة يقول: كَتَبَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ، قَالَ: فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سواحر (رواه البخاري من صحيحه) وصح أَنَّ حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ سَحَرَتْهَا جَارِيَةٌ لَهَا فأمرت بها فقتلت، قال الإمام أحمد ابن حنبل: صح عن ثَلَاثَةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قتل الساحر، وروى الترمذي عَنْ جُنْدُبٍ الْأَزْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَدُّ السَّاحِرِ ضربه بالسيف» (رواه الترمذي عن جندب الأزدي مرفوعاً وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقبة كَانَ عِنْدَهُ سَاحِرٌ يَلْعَبُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَكَانَ يَضْرِبُ رَأْسَ الرَّجُلِ ثُمَّ يَصِيحُ بِهِ فَيَرُدُّ إِلَيْهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ يُحْيِي الْمَوْتَى!! وَرَآهُ رَجُلٌ مِنْ صَالِحِي الْمُهَاجِرِينَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَاءَ مُشْتَمِلًا عَلَى سَيْفِهِ، وَذَهَبَ يَلْعَبُ لَعِبَهُ ذَلِكَ فَاخْتَرَطَ الرَّجُلُ سَيْفَهُ فَضَرَبَ عُنُقَ السَّاحِرِ، وَقَالَ: إنْ كَانَ صادقا فليحي نفسه، وتلا قوله تعالى: {أتاتون السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} فَغَضِبَ الْوَلِيدُ إِذْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ فِي ذَلِكَ فسجنه ثم أطلقه، والله أعلم. وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قِصَّةَ عُمَرَ وَحَفْصَةَ عَلَى سِحْرٍ يَكُونُ شِرْكًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ حكى الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا وُجُودَ السِّحْرِ، قَالَ: وَرُبَّمَا كفَّروا مَنِ اعْتَقَدَ وجوده، وَأَمَّا أَهْلُ السنَّة فَقَدْ جَوَّزُوا أَنْ يَقْدِرَ السَّاحِرُ أَنْ يَطِيرَ فِي الْهَوَاءِ، وَيَقْلِبَ الْإِنْسَانَ حِمَارًا وَالْحِمَارَ إِنْسَانًا، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْأَشْيَاءَ عِنْدَمَا يَقُولُ السَّاحِرُ تِلْكَ الرقى والكلمات الْمُعَيَّنَةَ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ هُوَ الْفَلَكُ وَالنُّجُومُ فَلَا، خِلَافًا لِلْفَلَاسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ والصابئة، ثُمَّ استُدل عَلَى وُقُوعِ السِّحْرِ، وَأَنَّهُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}. وَمِنَ الْأَخْبَارِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ وَأَنَّ السِّحْرَ عَمِلَ فِيهِ، وَبِقِصَّةِ الْمَرْأَةِ مَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَمَا ذكرت من إتيانها بابل وتعلمها السحر. ثُمَّ قَدْ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ أن أنواع السحر ثمانية (الأول): سحر الكذابين وَالْكُشْدَانِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ الْمُتَحَيِّرَةَ وَهِيَ السَّيَّارَةُ وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا مُدَبِّرَةُ الْعَالَمِ وَأَنَّهَا تَأْتِي بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُمُ الَّذِينَ بُعِثَ الله إليهم إبراهيم الخليل مبطلاً لمقالتهم وراداً لمذهبهم. (وَالنَّوْعُ الثَّانِي): سِحْرُ أَصْحَابِ الْأَوْهَامِ وَالنُّفُوسِ الْقَوِيَّةِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَهْمَ لَهُ تَأْثِيرٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى الْجِسْرِ الْمَوْضُوعِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَمْدُودًا عَلَى نَهَرٍ أَوْ نحوه، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ النُّفُوسَ خُلِقَتْ مُطِيعَةً للأوهام، وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ حق لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كان شيء سابق القدر لسبقته العين». (والنوع الثَّالِثُ) مِنَ السِّحْرِ: الِاسْتِعَانَةُ بِالْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ وَهُمُ الْجِنُّ خِلَافًا لِلْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُؤْمِنُونَ، وَكُفَّارٌ وَهُمُ الشَّيَاطِينُ، قَالَ: وَاتِّصَالُ النُّفُوسِ النَّاطِقَةِ بِهَا أَسْهَلُ مِنَ اتِّصَالَهَا بِالْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ وَالْقُرْبِ، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ الصَّنْعَةِ وَأَرْبَابَ التَّجْرِبَةِ شَاهَدُوا أَنَّ الِاتِّصَالَ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ يَحْصُلُ بِأَعْمَالٍ سَهْلَةٍ قَلِيلَةٍ من الرقى والدخن وَالتَّجْرِيدِ، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعَزَائِمِ وَعَمَلِ التسخير.

(النَّوْعُ الرَّابِعُ) مِنَ السِّحْرِ: التَّخَيُّلَاتُ، وَالْأَخْذُ بِالْعُيُونِ، والشعبذة، ومبناه على أن البصر قد يخطىء وَيَشْتَغِلُ بِالشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ دُونَ غَيْرِهِ، أَلَا تَرَى ذا الشعبذة الْحَاذِقَ يُظْهِرُ عَمَلَ شَيْءٍ يُذْهِلُ أَذْهَانَ النَّاظِرِينَ بِهِ وَيَأْخُذُ عُيُونَهُمْ إِلَيْهِ، حَتَّى إِذَا اسْتَفْرَغَهُمُ الشُّغْلُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ بِالتَّحْدِيقِ وَنَحْوِهِ، عَمِلَ شَيْئًا آخَرَ عَمَلًا بِسُرْعَةٍ شَدِيدَةٍ، وحينئذٍ يَظْهَرُ لَهُمْ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرَ مَا انْتَظَرُوهُ، فَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ جِدًّا، وَلَوْ أَنَّهُ سَكَتَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا يَصْرِفُ الْخَوَاطِرَ إِلَى ضِدِّ مَا يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَهُ، وَلَمْ تَتَحَرَّكِ النُّفُوسُ وَالْأَوْهَامُ إِلَى غَيْرِ مَا يُرِيدُ إِخْرَاجَهُ، لَفَطِنَ النَّاظِرُونَ لِكُلِّ مَا يفعله. (قُلْتُ) وَقَدْ قَالَ بَعْضُ المفسِّرين: إِنَّ سِحْرَ السَّحَرَةِ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ باب بالشعبذة وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وجاؤا بسحر عظيم} وَقَالَ تَعَالَى: {يخَيَّل إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} قَالُوا: وَلَمْ تَكُنْ تَسْعَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (النَّوْعُ الْخَامِسُ) مِنَ السِّحْرِ: الْأَعْمَالُ العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النِّسَبِ الْهَنْدَسِيَّةِ، كَفَارِسٍ عَلَى فَرَسٍ فِي يَدِهِ بُوقٌ، كُلَّمَا مَضَتْ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ ضَرَبَ بِالْبُوقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ، وَمِنْهَا الصُّوَرُ التِي تُصَوِّرُهَا الرُّومُ وَالْهِنْدُ حَتَّى لَا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان حتى يصورنها ضاحكة؟؟ إِلَى أَنْ قَالَ: فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِنْ لَطِيفِ أمور التخاييل، قَالَ: وَكَانَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا القبيل،؟؟ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى تِلْكَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ فَحَشَوْهَا زِئْبَقًا فَصَارَتْ تَتَلَوَّى بِسَبَبِ مَا فِيهَا مِنْ ذَلِكَ الزِّئْبَقِ فَيُخَيَّلُ إلى الرائي أنها تسعى باختيارها، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حِيَلُ النَّصَارَى عَلَى عَامَّتِهِمْ بِمَا يُرُونَهُمْ إِيَّاهُ مِنَ الْأَنْوَارِ، كَقَضِيَّةِ قُمَامَةِ الْكَنِيسَةِ التِي لَهُمْ بِبَلَدِ الْمَقْدِسِ، وَمَا يَحْتَالُونَ بِهِ مِنْ إِدْخَالِ النَّارِ خِفْيَةً إِلَى الْكَنِيسَةِ، وَإِشْعَالِ ذَلِكَ الْقِنْدِيلِ بِصَنْعَةٍ لَطِيفَةٍ تَرُوجُ عَلَى الطعام منهم، وأما الخواص فهم معترفون بِذَلِكَ وَلَكِنْ يَتَأَوَّلُونَ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ شَمْلَ أَصْحَابِهِمْ على دينهم فيرون ذلك سائغاً لهم. (النَّوْعُ السَّادِسُ) مِنَ السِّحْرِ: الِاسْتِعَانَةُ بِخَوَاصِّ الْأَدْوِيَةِ في الأطعمة والدهانات، قال: واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص، فإن تأثير الْمِغْنَاطِيسِ مُشَاهَدٌ. (قُلْتُ) يَدْخُلُ فِي هَذَا الْقَبِيلِ كثير ممن يدعي الفقر ويتحيل عَلَى جَهَلَةِ النَّاسِ بِهَذِهِ الْخَوَاصِّ، مُدَّعِيًا أَنَّهَا أَحْوَالٌ لَهُ مِنْ مُخَالَطَةِ النِّيرَانِ وَمَسْكِ الْحَيَّاتِ إلى غير ذلك من المحالات. (النوع السابع) من السحر: التعليق للقلب، وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ السَّاحِرُ أَنَّهُ عَرَفَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَأَنَّ الْجِنَّ يُطِيعُونَهُ وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي أكثر الأمور، فإذا اتفق أن يكون السَّامِعُ لِذَلِكَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ قَلِيلَ التَّمْيِيزِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ حَقٌّ وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِذَلِكَ، وَحَصَلَ فِي نفسه نوع من الرعب والمخالفة، فَإِذَا حَصَلَ الْخَوْفُ ضَعُفَتِ الْقُوَى الْحَسَّاسَةُ، فحينئذٍ يَتَمَكَّنُ السَّاحِرُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ. (قُلْتُ): هَذَا النَّمَطُ يُقَالُ لَهُ التّنْبلة وَإِنَّمَا يَرُوجُ على ضعفاء الْعُقُولِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَفِي عِلْم الفِراسة مَا يُرْشِدُ إِلَى مَعْرِفَةِ كَامِلِ الْعَقْلِ مِنْ ناقصه، فإذا كان النبيل حَاذِقًا فِي عِلْمِ الْفِرَاسَةِ عَرَفَ مَنْ يَنْقَادُ له من الناس من غيره. (النوع الثامن) من السحر: السعي بالنميمة مِنْ وُجُوهٍ خَفِيفَةٍ لَطِيفَةٍ وَذَلِكَ شَائِعٌ فِي الناس (قلت)

النَّمِيمَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً تَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ النَّاسِ وَتَفْرِيقِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فَهَذَا حرام متفق عليه، فأما إن كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَائْتِلَافِ كلمة المسلمين، أو عَلَى وَجْهِ التَّخْذِيلِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ جُمُوعِ الْكَفَرَةِ؛ فَهَذَا أَمْرٌ مَطْلُوبٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الحرب خدعة» وإنما يحذوا على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النَّافِذَةُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. ثُمَّ قَالَ الرَّازِيُّ فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي أَقْسَامِ السِّحْرِ وَشَرْحِ أَنْوَاعِهِ وَأَصْنَافِهِ، (قُلْتُ): وَإِنَّمَا أَدْخَلَ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ فِي فَنِّ السِّحْرِ لِلَطَافَةِ مَدَارِكِهَا لِأَنَّ السِّحْرَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَطُفَ وَخَفِيَ سَبَبُهُ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا»، وَسُمِّيَ السُّحُورُ لِكَوْنِهِ يَقَعُ خفياً آخر الليل، والسَّحْرُ: الرئة، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِخَفَائِهَا وَلُطْفِ مَجَارِيهَا إِلَى أَجْزَاءِ البدن كَمَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ لِعُتْبَةَ: انتفخ سَحْره، أَيِ انْتَفَخَتْ رِئَتُهُ مِنَ الْخَوْفِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَحْري ونحري. وقال الْقُرْطُبِيُّ: وَعِنْدَنَا أَنَّ السِّحْرَ حَقٌّ، وَلَهُ حَقِيقَةٌ، يَخْلُقُ اللَّهُ عِنْدَهُ مَا يَشَاءُ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وأبي إسحاق الاسفرايني مِنَ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّهُ تَمْوِيهٌ وَتَخَيُّلٌ، قَالَ: وَمِنَ السِّحْرِ مَا يَكُونُ بِخِفَّةِ الْيَدِ كالشعوذة، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ كَلَامًا يُحْفَظُ وَرُقًى مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ عُهُودِ الشَّيَاطِينِ، وَيَكُونُ أَدْوِيَةً وَأَدْخِنَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ: وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَدْحًا كَمَا تَقَوَّلَهُ طَائِفَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَمًّا لِلْبَلَاغَةِ، قَالَ: وَهَذَا أصح، قال: لأنها تصوّب الباطل حتى توهم السامع أنه حق، كما قال عليه الصلاة والسلام: «فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي له» الحديث. فصل وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ وَيَسْتَعْمِلُهُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يَكْفُرُ بِذَلِكَ، وَمِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ قَالَ إِنْ تَعَلَّمَهُ لِيَتَّقِيَهُ أو ليجتنبه وَمَنْ تَعَلَّمَهُ مُعْتَقِدًا جَوَازَهُ أَوْ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ كَفَرَ، وَكَذَا مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَفْعَلُ لَهُ مَا يَشَآءُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا تَعَلَّمَ السِّحْرَ قُلْنَا لَهُ: صِفْ لَنَا سِحْرَكَ، فَإِنْ وَصَفَ مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ مِثْلَ مَا اعْتَقَدَهُ أَهْلُ بَابِلَ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَأَنَّهَا تَفْعَلُ مَا يُلْتَمَسُ مِنْهَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ فَإِنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ. فَأَمَّا إِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ إِنْسَانًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عِنْدَ (مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ) وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَتَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ أَوْ يُقِرَّ بِذَلِكَ فِي حَقِّ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَإِذَا قُتِلَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا عِنْدَهُمْ إِلَّا الشَّافِعِيُّ فإنه قال: يقتل والحالة هذه فصاصاً، قَالَ: وَهَلْ إِذَا تَابَ السَّاحِرُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عنهم: لَا تُقْبَلُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الأُخرى تُقْبَلُ، وَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ المسلم، وقال مالك وأحمد والشافعي: لا يقتل لِقِصَّةِ (لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ)، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُسْلِمَةِ الساحرة، فعند أبي حنيفة أنها لَا تُقْتَلُ وَلَكِنْ تُحْبَسُ، وَقَالَ الثَّلَاثَةُ حُكْمُهَا حكم الرجل والله أعلم.

مسْألة وهل يسأل الساحر حلاً لسحره؟ فأجازه سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، وقال الشَّعْبِيُّ: لَا بَأْسَ بِالنُّشْرَةِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَّا تنشَّرت، فَقَالَ: «أمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَخَشِيتُ أَنْ أَفْتَحَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا» وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ وَهْبٍ: أَنَّهُ قَالَ يُؤْخَذُ سَبْعُ وَرَقَاتٍ مِنْ سِدْرٍ، فَتُدَقُّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ ثُمَّ تُضْرَبُ بِالْمَاءِ وَيُقْرَأُ عَلَيْهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَيَشْرَبُ مِنْهَا الْمَسْحُورُ ثَلَاثَ حَسَوَاتٍ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ بِبَاقِيهِ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ مَا بِهِ، وَهُوَ جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ الذِي يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ (قُلْتُ): أَنْفَعُ مَا يُسْتَعْمَلُ لِإِذْهَابِ السِّحْرِ مَا أنزل الله على رسوله فِي إِذْهَابِ ذَلِكَ وَهُمَا الْمُعَوِّذَتَانِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لم يتعوذ المتعوذ بِمِثْلِهِمَا» وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ فَإِنَّهَا مُطَّرِدَةٌ للشيطان:

- 104 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 105 - مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذو الفضل العظيم نهى الله تعالى عباده الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِالْكَافِرِينَ فِي مَقَالِهِمْ وَفِعَالِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُعَانُونَ مِنَ الْكَلَامِ مَا فِيهِ تَوْرِيَةٌ لِمَا يَقْصِدُونَهُ مِنَ التَّنْقِيصِ - عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ - فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَقُولُوا: اسمع لنا، يقولوا (راعنا) ويورُّون بِالرُّعُونَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا. لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين} وَكَذَلِكَ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سلَّموا إِنَّمَا يَقُولُونَ (السَّامُ عَلَيْكُمْ) وَالسَّامُ هُوَ الْمَوْتُ، وَلِهَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِمْ ب (وعليكم)، وَالْغَرَضُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُشَابَهَةِ الْكَافِرِينَ قَوْلًا وَفِعْلًا، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وقولا انظرنا واسمعوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» (أخرجه أحمد وأبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما) فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى النَّهْيِ الشَّدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ عَلَى التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ، فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمُ التِي لم تشرع لنا ولا نقر عليها. وروي أَنَّ رَجُلًا أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: اعْهَدْ إِلِيَّ، فَقَالَ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ فَإِنَّهُ خيرٌ يَأْمُرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عنه، وقال الاعمش عن خيثمة ما تقرأون فِي الْقُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَإِنَّهُ في التوراة: (يا أيها المساكين) قال ابْنِ عَبَّاسٍ: (رَاعِنَا) أَيْ أَرْعِنَا سمعَك، وَقَالَ الضحاك: كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرعنا سمعك، قال عطاء: كَانَتْ لُغَةً تَقُولَهَا الْأَنْصَارُ فَنَهَى اللَّهُ عَنْهَا، وقال أبو صخر: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَدْبَرَ نَادَاهُ مَن كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَقُولُ: أَرْعِنَا سَمْعَكَ، فَأَعْظَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لَهُ. وَقَالَ السُّدي: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ يُدْعَى (رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ) يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا لَقِيَهُ فكلَّمه -[103]- قَالَ: أَرْعِنِي سَمْعَكَ، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَحْسَبُونَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانَتْ تُفَخّم بِهَذَا، فَكَانَ نَاسٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: اسمع غير مسمع، فنهوا أن يقولوا راعنا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: أَنَّ اللَّهَ نَهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا لَنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاعِنَا، لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولوها لنبيّه صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} يُبَيِّنُ بِذَلِكَ تَعَالَى شِدَّةَ عَدَاوَةِ الْكَافِرِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، الذين حذَّر الله تَعَالَى مِنْ مُشَابِهَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَقْطَعَ المودَّة بَيْنَهُمْ وبينهم، ونبَّه تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، مِنَ الشَّرْعِ التَّامِّ الْكَامِلِ، الذِي شَرَعَهُ لَنَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.

- 106 - مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 107 - أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ قال ابن عباس رضي الله عنهما: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} مَا نُبَدِّلُ مِنْ آية، وقال مُجَاهِدٍ: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} أَيْ مَا نمحو من آية، مِثْلُ قَوْلِهِ: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زنَيا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ»، وَقَوْلُهُ: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ من ذهب لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا»، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: {مَا نَنسَخْ مِنْ آية} ما ننقل مِنْ حُكْمِ آيَةٍ إِلَى غَيْرِهِ فَنُبَدِّلُهُ وَنُغَيِّرُهُ، وذلك أن نحوّل الْحَلَالُ حَرَامًا، وَالْحَرَامُ حَلَالًا، وَالْمُبَاحُ مَحْظُورًا، وَالْمَحْظُورُ مُبَاحًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِي (الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ وَالْمَنْعِ وَالْإِبَاحَةِ) فَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَلَا يَكُونُ فِيهَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ. وَأَصْلُ النَّسْخِ: مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ وَهُوَ نَقْلُهُ مِنْ نُسْخَةٍ أُخرى إِلَى غَيْرِهَا، فَكَذَلِكَ مَعْنَى نَسْخِ الْحُكْمِ إِلَى غَيْرِهِ، إِنَّمَا هُوَ تَحْوِيلُهُ وَنَقْلُ عبارة إِلَى غَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ نَسْخُ حُكْمِهَا أَوْ خَطِّهَا إِذْ هِيَ فِي كِلْتَا حَالَتَيْهَا مَنْسُوخَةٌ، وَأَمَّا عُلُمَاءُ الْأُصُولِ فَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي حَدِّ النَّسْخِ، والأمرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ. لِأَنَّ مَعْنَى النَّسْخِ الشرعي معلوم عند العلماء، ولحظ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ: رَفْعُ الْحُكْمِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ، فَانْدَرَجَ فِي ذَلِكَ نَسْخُ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ وَعَكْسِهِ وَالنَّسْخُ لَا إِلَى بَدَلٍ. وَأَمَّا تَفَاصِيلُ أَحْكَامِ النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أُصول الفقه. وقال الطبراني: قَرَأَ رَجُلَانِ سُورَةً أَقْرَأَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم فكانا يقرآن بِهَا، فَقَامَا ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّيَانِ فَلَمْ يَقْدِرَا مِنْهَا عَلَى حَرْفٍ، فَأَصْبَحَا غَادِيَيْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا مِمَّا نُسِخَ وَأُنْسِي فَالْهُوَا عَنْهَا» (رواه الطبراني وفي سنده سليمان بن الأرقم ضعيف) " فَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَقْرَؤُهَا: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} بضم النون الخفيفة وقوله تعالى {أَوْ نُنسِهَا} فقرىء عَلَى وَجْهَيْنِ: {نَنْسأها}، {ونُنسِها}، فَأَمَّا مَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ النُّونِ وَالْهَمْزَةِ بَعْدَ السِّينِ فَمَعْنَاهُ نُؤَخِّرُهَا. قال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود {أو ننسأها} نثبت خطها ونبدل حكمها، وقال مجاهد وعطاء: {أو ننسأها} نؤخرها ونرجئها. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ: {مَا نَنسَخْ مِنْ آية أو ننسأها} أي نؤخرها (ذكره ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ)، وأما على قراءة {أَوْ نُنْسها} فقال قتادة: كان الله عز وجل ينسي نبيّه صلى الله عليه وسلم مَا يَشَاءُ، وَيَنْسَخُ مَا يَشَاءُ. -[104]- وَقَالَ ابْنُ جرير عن الحسن فِي قَوْلِهِ: {أَوْ نُنسِهَا} قَالَ: إِنَّ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم قرأ قرآناً ثم نسيه، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: «كَانَ مِمَّا يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ بِاللَّيْلِ وينساه بالنهار» (أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس) وقال عُمَرُ: أَقْرَؤُنَا أُبَيٌّ، وَأَقْضَانَا عَلِيٌّ، وإنَّا لَنَدَعُ مِنْ قَوْلِ أُبي، وَذَلِكَ أَنَّ أُبَيًّا يَقُولُ: لَا أَدَعُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (أخرجه البخاري بسنده إلى عمر رضي الله عنه) وقولهُ: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} أَيْ فِي الْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِينَ، كَمَا قال ابن عباس: خَيْرٌ لَكُمْ فِي الْمَنْفَعَةِ وَأَرْفُقُ بِكُمْ. وَقَالَ السدي: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنَ الذِي نَسَخْنَاهُ أَوْ مِثْلَ الذي تركناه. وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} يرشد عباده تَعَالَى بِهَذَا إِلَى أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، فَلَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فَكَمَا خَلَقَهُمْ كَمَا يَشَاءُ، وَيُسْعِدُ مَنْ يَشَاءُ ويشقي مَنْ يَشَاءُ، وَيُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ وَيَخْذُلُ مَنْ يَشَاءُ، كَذَلِكَ يَحْكُمُ فِي عِبَادِهِ بِمَا يَشَاءُ فَيَحِلُّ مَا يَشَاءُ وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ، وَيُبِيحُ مَا يَشَاءُ وَيَحْظُرُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الذِي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} وَيَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِالنَّسْخِ فَيَأْمُرُ بِالشَّيْءِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ التِي يَعْلَمُهَا تَعَالَى، ثُمَّ يَنْهَى عَنْهُ لِمَا يَعْلَمُهُ تَعَالَى، فَالطَّاعَةُ كُلُّ الطَّاعَةِ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ فِي تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرُوا، وَامْتِثَالِ مَا أَمَرُوا وَتَرْكِ مَا عَنْهُ زَجَرُوا، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ رَدٌّ عَظِيمٌ وَبَيَانٌ بَلِيغٌ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنها اللَّهُ فِي دَعْوَى اسْتِحَالَةِ النَّسْخِ إِمَّا عَقْلًا كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ جَهْلًا وَكُفْرًا، وَإِمَّا نَقْلًا كَمَا تَخَرَّصَهُ آخَرُونَ مِنْهُمُ افْتِرَاءً وَإِفْكًا، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: أَلَمْ تَعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ لي ملء السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَسُلْطَانَهُمَا دُونَ غَيْرِي أَحْكُمُ فِيهِمَا وَفِيمَا فِيهِمَا بِمَا أَشَاءُ، وَآمُرُ فِيهِمَا وَفِيمَا فِيهِمَا بِمَا أَشَاءُ، وَأَنْهَى عَمَّا أَشَاءُ وَأَنْسَخُ وَأُبَدِّلُ وَأُغَيِّرُ مِنْ أَحْكَامِي التِي أَحْكُمُ بِهَا في عبادي بما أشاء إذ أَشَاءُ، وَأُقِرُّ فِيهِمَا مَا أَشَاءُ، ثُمَّ قَالَ: وهذا الخبر وإن كان خطاباً من اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنْ عَظَمَتِهِ، فَإِنَّهُ مِنْهُ جل ثناؤه تَكْذِيبٌ لِلْيَهُودِ، الَّذِينَ أَنْكَرُوا نَسْخَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَجَحَدُوا نُبُوَّةَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِمَجِيئِهِمَا بِمَا جَاءَا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بتغيير مَا غيَّر اللَّهُ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، فَأَخْبَرَهُمُ الله إن له ملك السماوات وَسُلْطَانَهُمَا، وَأَنَّ الْخَلْقَ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَعَلَيْهِمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَنَّ لَهُ أَمْرَهُمْ بِمَا يَشَاءُ وَنَهْيَهُمْ عَمَّا يَشَاءُ، وَنَسْخَ مَا يَشَاءُ وَإِقْرَارَ مَا يَشَاءُ، وَإِنْشَاءَ مَا يَشَاءُ من إقراره وأمره ونهيه. (قُلْتُ): الذِي يَحْمِلُ الْيَهُودَ عَلَى الْبَحْثِ فِي مَسْأَلَةِ النَّسْخِ إِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ وَالْعِنَادُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ النَّسْخِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ يَحْكُمُ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَشَرَائِعِهِ الْمَاضِيَةِ، كَمَا أَحَلَّ لِآدَمَ تَزْوِيجَ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ ثُمَّ حَرَّمَ ذَلِكَ، وَكَمَا أَبَاحَ لِنُوحٍ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السَّفِينَةِ أَكْلَ جميع الحيوانا ثُمَّ نَسَخَ حلَّ بَعْضِهَا، وَكَانَ نِكَاحُ الْأُخْتَيْنِ مُبَاحًا لِإِسْرَائِيلَ وَبَنِيهِ وَقَدْ حُرِّمَ ذَلِكَ فِي شريعة التوراة وما بعدها، وَأَمَرَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ ثُمَّ نسخه قبل الفعل، وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ ويصدفون عنه. فَفِي هَذَا الْمَقَامِ بَيَّنَ تَعَالَى جَوَازَ النَّسْخِ رداً على اليهود عليهم لعنة اللَّهِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ -[105]- تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} الْآيَةَ فَكَمَا أَنَّ لَهُ الْمُلْكَ بِلَا مُنَازِعٍ فَكَذَلِكَ لَهُ الْحُكْمُ بِمَا يَشَاءُ {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر}. وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَكُلُّهُمْ قَالَ بِوُقُوعِهِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ المفسِّر: لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ في القرآن، وقوله ضعيفٌ مَرْدُودٌ مَرْذُولٌ، وَقَدْ تَعَسَّفَ فِي الْأَجْوِبَةِ عَمَّا وَقَعَ مِنَ النَّسْخِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَضِيَّةُ العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول، لم يجب عن ذَلِكَ بِكَلَامٍ مَقْبُولٍ، وَقَضِيَّةُ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ، وَمِنْ ذَلِكَ نَسْخُ مُصَابَرَةِ الْمُسْلِمِ لِعَشَرَةٍ مِنَ الْكَفَرَةِ إِلَى مُصَابَرَةِ الِاثْنَيْنِ، وَمِنْ ذَلِكَ نَسْخُ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وغير ذلك (انظر بحث النسخ في تفسيرنا (روائع البيان)، الجزء الأول، ص 109)، والله أعلم.

- 108 - أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى المؤمنين فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ كَثْرَةِ سُؤَالِ النبي عَنِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تسوءكم وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} أَيْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ تَفْصِيلِهَا بَعْدَ نُزُولِهَا تُبَيَّنُ لَكُمْ، وَلَا تَسْأَلُوا عَنِ الشَّيْءِ قَبْلَ كَوْنِهِ فَلَعَلَّهُ أَنْ يحرَّم مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يحرم فحُرِّم من أجل مسألته». وثبت في الصحيحين من حديث المغيرة ابن شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ. فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِنْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ». وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ بَعْدَ مَا أَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْحَجَّ فَقَالَ رَجُلٌ: أكلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ الله ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا، وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا اسْتَطَعْتُمْ»، ثم قال: «ذروني ما تركتكم» الحديث. ولهذا قَالَ أنَس بْنُ مَالِكٍ: نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ مِنْ أهل البادية فيسأله ونحن نسمع. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما سألوه إلا عن اثنتي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر - و - يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام - وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى} (رواه البزار عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) يَعْنِي هَذَا وَأَشْبَاهُهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} أَيْ بَلْ تُرِيدُونَ أَوْ هِيَ عَلَى بَابِهَا فِي الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ (إِنْكَارِيٌّ) وَهُوَ يَعُمُّ المؤمنين والكافرين، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تنزِّل عَلَيْهِمْ كِتَاباً من السماء} عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَافِعُ بْنُ حرملة ووهب بْنُ زَيْدٍ: يَا مُحَمَّدُ ائْتِنَا بِكِتَابٍ تُنَزِّلُهُ علينا من السماء نقرؤه، وَفَجِّرْ لَنَا أَنْهَارًا نَتْبَعْكَ وَنُصَدِّقْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ؟ وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} (أخرجه محمد بن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس) -[106]- وقال مجاهد: سَأَلَتْ قُرَيْشٌ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، قَالَ: «نَعَمْ وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل» فأبوا ورجعوا، وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ مَنْ سَأَلَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالِاقْتِرَاحِ كَمَا سَأَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعَنُّتًا وَتَكْذِيبًا وَعِنَادًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} أَيْ ومن يشترِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} أَيْ فَقَدْ خَرَجَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَى الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَهَكَذَا حَالُ الَّذِينَ عَدَلُوا عَنْ تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَاتِّبَاعِهِمْ وَالِانْقِيَادِ لَهُمْ، إِلَى مُخَالَفَتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَالِاقْتِرَاحِ عَلَيْهِمْ بِالْأَسْئِلَةِ التِي لَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْكُفْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار}.

- 109 - وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 110 - وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ أَن اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يُحذِّر تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ سُلُوكِ طريق الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيُعْلِمُهُمْ بِعَدَاوَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، وَمَا هُمْ مُشْتَمِلُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَسَدِ لِلْمُؤْمِنِينَ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِفَضْلِهِمْ وَفَضْلِ نبيهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو أو الاحتمال حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ مِنَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ، ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وبحثهم على ذلك ويرغبهم فيه كما قال ابن عباس: كَانَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَأَبُو يَاسِرِ بْنُ أخطب من أشد يهود العرب حَسَدًا، إِذْ خَصَّهُمُ اللَّهُ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَا جَاهِدَيْنِ فِي رَدِّ النَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ مَا اسْتَطَاعَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم} الآية. روي أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّ كَانَ شَاعِرًا وَكَانَ يَهْجُو النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم} إِلَى قَوْلِهِ: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} قال تَعَالَى: {كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} يَقُولُ مِنْ بَعْدِ مَا أَضَاءَ لَهُمُ الْحَقُّ لَمْ يَجْهَلُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَكِنَّ الْحَسَدَ حَمَلَهُمْ عَلَى الْجُحُودِ فعيَّرهم وَوَبَّخَهُمْ وَلَامَهُمْ أَشَدَّ الْمَلَامَةِ وَشَرَعَ لَنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِقْرَارِ بِمَا أُنْزِلَ الله عَلَيْهِمْ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِكَرَامَتِهِ وَثَوَابِهِ الجزيل ومعونته له. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس {مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} مِّن قِبَل أَنْفُسِهِمْ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَكَفَرُوا بِهِ حَسَدًا وَبَغْيًا. قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} نَسَخَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، وَقَوْلُهُ: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخر}، وكذا قال أبو العالية وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَيُرْشِدُ إلى ذلك أيضا قوله تعالى: {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ}. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ} يحثهم تَعَالَى عَلَى الِاشْتِغَالِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ، وَتَعُودُ عَلَيْهِمْ عَاقِبَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، حَتَّى يمكَّن لَهُمُ اللَّهُ النَّصْرَ فِي -[107]- الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفَلُ عَنْ عَمَلِ عَامِلٍ، وَلَا يَضِيعُ لَدَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا فَإِنَّهُ سَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بعمله. وقال ابن جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} هذا الْخَبَرُ مِنَ اللَّهِ لِلَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ مَهْمَا فَعَلُوا مِنْ خَيْرٍ أو شر، سراً وعلانية فَهُوَ بِهِ بَصِيرٌ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَجْزِيهِمْ بِالْإِحْسَانِ خَيْرًا وَبِالْإِسَاءَةِ مِثْلَهَا، وَهَذَا الكلام وإن كان قد خرج مخرج فَإِنَّ فِيهِ وَعْدًا وَوَعِيدًا، وَأَمْرًا وَزَجْرًا وَذَلِكَ أَنَّهُ أَعْلَمَ الْقَوْمَ أَنَّهُ بَصِيرٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ ليجدّوا في طاعته إذ كان مذخوراً لَهُمْ عِنْدَهُ حَتَّى يُثِيبَهُمْ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ} وَلِيَحْذَرُوا مَعْصِيَتَهُ. قَالَ وَأَمَّا قَوْلُهُ {بَصِيرٌ} فإنه (مبصر) صرف إلى بصر كما صرف (مبدع) إلى بديع و (مؤلم) إلى أليم، والله أعلم.

- 111 - وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 112 - بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ - 113 - وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يُبَيِّنُ تَعَالَى اغْتِرَارَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِمَا هُمْ فِيهِ، حَيْثُ ادَّعَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الجنة إلا من كان على ملتها فأكذبهم الله تعالى كما تَقَدَّمَ مِنْ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ تَعَالَى فِي ذَلِكَ، وَهَكَذَا قَالَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى التِي ادَّعَوْهَا بِلَا دليل ولا حجة ولا بينة {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} قال أَبُو الْعَالِيَةِ: أَمَانِيُّ تَمَنَّوْهَا عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ حق، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ} أَيْ يَا مُحَمَّدُ {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} أي حجتكم {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي فيما تَدَّعُونَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} أَيْ مَنْ أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ ومن اتبعن} الآية. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ} أَخْلَصَ {وَجْهَهُ} قَالَ: دِينَهُ {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أَيْ اتبع فِيهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنَّ لِلْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ صَوَابًا مُوَافِقًا لِلشَّرِيعَةِ، فَمَتَى كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُتَقَبَّلْ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حديث عائشة مرفوعا)» فَعَمَلُ الرُّهْبَانِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ - وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُمْ مُخْلِصُونَ فِيهِ لِلَّهِ - فَإِنَّهُ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ حتى يكون ذلك متابعاً للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَفِيهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شيئا}، وقال تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ -[108]- نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تسقى مِنْ عَيْنٍ آنية} وروي عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَأَوَّلَهَا فِي الرُّهْبَانِ كَمَا سَيَأْتِي، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَمَلُ مُوَافِقًا لِلشَّرِيعَةِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ وَلَكِنْ لَمْ يُخْلِصْ عَامِلُهُ الْقَصْدَ لِلَّهِ فَهُوَ أَيْضًا مَرْدُودٌ عَلَى فَاعِلِهِ وَهَذَا حَالُ المرائين والمنافقين، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلًا}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}، وَقَوْلُهُ: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ضَمِنَ لَهُمْ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ تَحْصِيلَ الْأُجُورِ وَآمَنَهُمْ مِمَّا يَخَافُونَهُ مِنَ الْمَحْذُورِ {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ، {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما مضى مما يتركونه. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب} بيَّن بِهِ تَعَالَى تَنَاقُضَهُمْ وَتَبَاغُضَهُمْ وَتَعَادِيَهِمْ وَتَعَانُدَهُمْ، كَمَا قال محمد بن إسحاق عن ابن عباس: لَمَّا قَدِمَ أَهْلُ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَتْهُمْ أَحْبَارُ يَهُودَ فَتَنَازَعُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رافع بن حرملة: مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ وَكَفَرَ بِعِيسَى وَبِالْإِنْجِيلِ، وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى لِلْيَهُودِ: مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ وَجَحَدَ نُبُوَّةَ مُوسَى وَكَفَرَ بِالتَّوْرَاةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} قَالَ: إِنَّ كُلًّا يَتْلُو في كتابه تصديق من كفر به، أن يَكْفُرُ الْيَهُودُ بِعِيسَى وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى بِالتَّصْدِيقِ بِعِيسَى، وَفِي الْإِنْجِيلِ مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى بِتَصْدِيقِ مُوسَى وَمَا جَاءَ مِنَ التَّوْرَاةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكُلٌّ يَكْفُرُ بِمَا فِي يَدِ صاحبه. وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ صَدَقَتْ فِيمَا رَمَتْ بِهِ الطَّائِفَةَ الأُخرى، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِ الْآيَةِ يَقْتَضِي ذَمَّهُمْ فِيمَا قَالُوهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} أَيْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ كَانَتْ مَشْرُوعَةً في وقت، ولكنهم تَجَاحَدُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنَادًا وَكُفْرًا وَمُقَابَلَةً لِلْفَاسِدِ بالفاسد وقوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} بيَّن بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا به مِنَ الْقَوْلِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ، وقد اختلف فيمن عنى بقوله تعالى: {الذين لاَ يَعْلَمُونَ} قال ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مَن هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ؟ قَالَ: أُمم كَانَتْ قَبْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَبْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَقَالَ السُّدي: {كَذَلِكَ قال الذين لاَ يَعْلَمُونَ} هم الْعَرَبُ قَالُوا لَيْسَ مُحَمَّدٌ عَلَى شَيْءٍ، وَاخْتَارَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ أَنَّهَا عَامَّةٌ تَصْلُحُ لِلْجَمِيعِ وَلَيْسَ ثَمَّ دَلِيلٌ قَاطِعٌ يُعَيِّنُ وَاحِدًا من هذه الأقوال والحمل عَلَى الْجَمِيعِ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْمَعَادِ وَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بِقَضَائِهِ الْعَدْلِ الذِي لَا يَجُورُ فِيهِ وَلَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وهذه الآية كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ والذن هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركون إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}.

- 114 - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنَ الَّذِينَ مَنَعُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ وَسَعَوْا فِي خَرَابِهَا على قولين: أحدهما: هُمُ النُّصَّارَى كَانُوا يَطْرَحُونَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ ويمنعون الناس أن يصلوا فيه. قال قتادة: أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ النَّصَارَى حَمَلَهُمْ بُغْضُ الْيَهُودِ عَلَى أَنْ أَعَانُوا بُخْتَنَصَّرَ الْبَابِلِيَّ الْمَجُوسِيَّ عَلَى تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ السُّدي: كَانُوا ظَاهَرُوا بُخْتَنَصَّرَ عَلَى خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى خَرَّبَهُ وأمر أن يطرح فِيهِ الْجِيَفُ، وَإِنَّمَا أَعَانَهُ الرُّومُ عَلَى خَرَابِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا يَحْيَى بن زكريا. (القول الثاني): ما رواه ابن جرير عن ابن زيد قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ حَالُوا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ حَتَّى نَحَرَ هَدْيَهُ بِذِي طُوَى وَهَادَنَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: «مَا كَانَ أَحَدٌ يَصُدُّ عَنْ هَذَا الْبَيْتِ، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى قَاتِلَ أَبِيهِ وَأَخِيهِ فَلَا يَصُدُّهُ» فَقَالُوا: لَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا مَنْ قَتَلَ آبَاءَنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَفِينَا بَاقٍ. وَفِي قَوْلِهِ: {وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ} عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قُرَيْشًا مَنَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ثُمَّ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تَسْعَ فِي خَرَابِ الْكَعْبَةِ، وَأَمَّا الرُّومُ فَسَعَوْا فِي تَخْرِيبِ بَيْتِ المقدس. (قلت): والذي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الْقَوْلُ الثَّانِي كَمَا قَالَهُ ابن زيد فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَجَّهَ الذَّمَّ فِي حَقِّ اليهود والنصارى، شرع في ذم المشركين الذي أَخْرَجُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهِ مِنْ مَكَّةَ وَمَنَعُوهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَمَّا اعْتِمَادُهُ عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تَسْعَ فِي خَرَابِ الْكَعْبَةِ، فَأَيُّ خَرَابٍ أَعْظَمُ مِمَّا فَعَلُوا؟ أَخْرَجُوا عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَاسْتَحْوَذُوا عَلَيْهَا بِأَصْنَامِهِمْ وَأَنْدَادِهِمْ وَشِرْكِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الحرام}. وَقَالَ تَعَالَى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ عِمَارَتِهَا زَخْرَفَتَهَا وَإِقَامَةَ صُورَتِهَا فقط، إنما عمارتها بذكر الله فيها وفي إقامة شَرْعِهِ فِيهَا، وَرَفْعِهَا عَنِ الدَّنَسِ وَالشَّرَكِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ} هَذَا خَبَرٌ مَعْنَاهُ الطَّلَبُ أَيْ لَا تُمَكِّنُوا هَؤُلَاءِ إِذَا قَدَرْتُمْ عَلَيْهِمْ مِنْ دُخُولِهَا إِلَّا تَحْتَ الْهُدْنَةِ وَالْجِزْيَةِ، وَلِهَذَا لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَمَرَ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ فِي سَنَةِ تسع أن ينادي برحاب مِنى: «ألا يحجنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يطوفنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ أَجْلٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مدته»، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا كَانَ يَنبَغِي لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ إِلَّا خَائِفِينَ عَلَى حَالِ التهيب وارتعاد الفرائض مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَبْطِشُوا بِهِمْ، فَضْلًا أَنْ يَسْتَوْلُوا عَلَيْهَا وَيَمْنَعُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا. وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ الْحَقُّ وَالْوَاجِبُ إِلَّا ذَلِكَ لَوْلَا ظُلْمُ الْكَفَرَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا بِشَارَةٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ سَيُظْهِرُهُمْ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَعَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَأَنَّهُ يُذِلُّ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ حَتَّى لَا يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا خَائِفًا يَخَافُ أَنْ يُؤْخَذَ فَيُعَاقَبَ أَوْ يُقْتَلَ إِنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَقَدْ أَنْجَزَ اللَّهُ هَذَا الْوَعْدَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَبْقَى بجزيرة العرب دينان، وأن يجلى الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا تَشْرِيفُ أَكْنَافِ -[110]- الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَتَطْهِيرُ البقعة التِي بَعَثَ اللَّهُ فِيهَا رَسُولَهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً بَشِيرًا وَنَذِيرًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْخِزْيُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَكَمَا صَدُّوا الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ صُدُّوا عَنْهُ، وَكَمَا أَجْلَوْهُمْ من مكة أُجلوا عنها {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} عَلَى مَا انْتَهَكُوا مِنْ حُرْمَةِ الْبَيْتِ، وَامْتَهَنُوهُ مِنْ نَصْبِ الأصنام حوله، ودعاء غَيْرِ اللَّهِ عِنْدَهُ، وَالطَّوَافِ بِهِ عُرْيًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفَاعِيلِهِمُ التِي يَكْرَهُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَالَ (كَعْبُ الْأَحْبَارِ) إِنَّ النَّصَارَى لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَّبُوهُ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ} الْآيَةَ فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ نَصْرَانِيٌّ يَدْخُلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَّا خائفاً، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَدْخُلُونَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا مُسَارَقَةً.

- 115 - وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ فِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن مَكَّةَ وَفَارَقُوا مَسْجِدَهُمْ وَمُصَلَّاهُمْ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وُجِّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ إِلَى الْكَعْبَةِ بَعْدُ، وَلِهَذَا يَقُولُ تَعَالَى: {وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِبْلَةُ. وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَهْلُهَا الْيَهُودَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ، فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب قبلة إبراهيم، وكان يَدْعُو وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} فَارْتَابَ مِنْ ذَلِكَ الْيَهُودُ وَقَالُوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ التِي كَانُوا عَلَيْهَا} فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قُلْ للَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}، وَقَالَ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قَالَ: قِبْلَةُ اللَّهِ أَيْنَمَا تَوَجَّهْتَ شَرْقًا أَوْ غَرْبًا، وَقَالَ: مُجَاهِدٌ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَلَكُمْ قِبْلَةٌ تَسْتَقْبِلُونَهَا الْكَعْبَةُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ التَّوَجُّهَ إلى الكعبة، وإنما أنزلها لِيُعْلِمَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أن له التَّوَجُّهَ بِوُجُوهِهِمْ لِلصَّلَاةِ حَيْثُ شَاءُوا مِنْ نَوَاحِي المشرق والمغرب، لأنه لَا يُوَجِّهُونَ وُجُوهَهُمْ وَجْهًا مِنْ ذَلِكَ وَنَاحِيَةً إِلَّا كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ وَتِلْكَ النَّاحِيَةِ، لِأَنَّ لَهُ تَعَالَى الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ وأنه لا يخلوا مِنْهُ مَكَانٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أينما كانوا} قَالُوا: ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِالْفَرْضِ الذِي فَرَضَ عَلَيْهِمُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هَكَذَا قَالَ، وفي قوله: وأنه تعالى لا يخلوا مِنْهُ مَكَانٌ؛ إِنْ أَرَادَ عِلْمَهُ تَعَالَى فَصَحِيحٌ، فإنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَأَمَّا ذاته فَلَا تَكُونُ مَحْصُورَةً فِي شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْنًا من الله إِن يصلي (المتطوع) حَيْثُ تَوَجَّهَ مِنْ شَرْقٍ أَوْ غَرْبٍ فِي سفره لما روي عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَيَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ -[111]- يَفْعَلُ ذَلِكَ وَيَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله (رواه مسلم والترمذي والنسائي)} وقال آخرون: بل نزلت هذه الآي في قوم عميت عليه القبلة فلم يعرفوا شطرها، فصلُّو على أنحاء مختلفة، فقال الله تعالى: لي المشارق والمغارب، فأين وليتم وجوهكم فهناك وَجْهِي وَهُوَ قِبْلَتُكُمْ فَيُعْلِمُكُمْ بِذَلِكَ أَنَّ صَلَاتَكُمْ ماضية، لما روي عن عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْأَحْجَارَ فَيَعْمَلُ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْنَا إِذَا نَحْنُ قَدْ صَلَّيْنَا إلىغير الْقِبْلَةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله (رواه التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وليس إسناده بذاك)} الآية عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً فَأَخَذَتْهُمْ ضَبَابَةٌ فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الْقِبْلَةِ فَصَلَّوْا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ ثم استبان لهم بعد ما طلعت الشَّمْسِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَلَمَّا جُاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حدثوه فأنزل الله تعالى هَذِهِ الْآيَةَ: {وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وجه الله} (رواه ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وفيه ضعف) قال بن جَرِيرٍ: وَيُحْتَمَلُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ فِي دُعَائِكُمْ لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا نَزَلَتْ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ فَنَزَلَتْ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} ومعنى قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} يَسَعُ خَلْقَهُ كلهم بالكفاية والجود والإفضال، وأما قوله: {عَلِيمٌ} فإنه يعن عَلِيمٌ بِأَعْمَالِهِمْ مَا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ بَلْ هُوَ بِجَمِيعِهَا عليم.

- 116 - وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ - 117 - بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَالتِي تَلِيهَا عَلَى الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ وَكَذَا مَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَمِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِمَّنْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ، فَأَكْذَبَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ وَقَوْلِهِمْ إِنَّ لِلَّهِ وَلَدًا فَقَالَ تَعَالَى {سُبْحَانَهُ} أَيْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وتنزَّه عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا: {بَل لَّهُ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ} أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا افْتَرَوْا، وَإِنَّمَا له ملك السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ وَهُوَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ، وَمُقَدِّرُهُمْ ومسخِّرهم ومسيِّرهم وَمُصَرِّفُهُمْ كَمَا يَشَاءُ، وَالْجَمِيعُ عَبِيدٌ لَهُ وَمِلْكٌ لَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ مِنْهُمْ، وَالْوَلَدُ إِنَّمَا يَكُونُ مُتَوَلِّدًا مِنْ شَيْئَيْنِ مُتَنَاسِبَيْنِ، وَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا مُشَارِكٌ فِي عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟ كَمَا قَالَ تعالى: {بديع السموات وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليم}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إدّاً}، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}، فَقَرَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ السَّيِّدُ الْعَظِيمُ الذِي -[112]- لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَبِيهَ لَهُ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَهُ مَخْلُوقَةٌ لَهُ مَرْبُوبَةٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ؟ ولهذا قال البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَيَزْعُمُ أَنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كان، وأما شتمه إياي فقوله إن لي ولداً، فسبحاني أن أتخذ صاحبه أو ولداً» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ». وَقَوْلُهُ {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} مقرّون له بالعبودية. وقال السدي: أي مطيعون يوم القيامة، وقال مجاهد: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} مطيعون. قال: طَاعَةُ الْكَافِرِ فِي سُجُودِ ظِلِّهُ وَهُوَ كَارِهٌ، وهذا القول - وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ - يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا، وهو أن القنوت الطاعة والاستكانة إلى الله وهو شرعي وقدري كما قال تعالى: {لله يَسْجُدُ مَن فِي السموات ومن في الأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال}. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ خَالِقُهُمَا على غير مثال سبق وَهُوَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلشَّيْءِ الْمُحْدَثِ بدعة كما جاء في صحيح مسلم «فإن كل محدثة بدعة» وَالْبِدْعَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً تَكُونُ بِدْعَةً شَرْعِيَّةً، كَقَوْلِهِ: «فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، وَتَارَةً تَكُونُ بِدْعَةً لُغَوِيَّةً كَقَوْلِ أَمِيرِ المؤمنين عمر ابن الخطاب عَنْ جَمْعِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَاسْتِمْرَارِهِمْ: «نعمت البدعة هذه» وقال ابن جرير: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مُبْدِعُهُمَا وَإِنَّمَا هُوَ (مُفْعِل) فَصُرِفَ إِلَى فَعِيلٍ كَمَا صُرِفَ الْمُؤْلِمُ إِلَى الْأَلِيمِ، ومعنى المبدع المنشىء والمحدث مالا يَسْبِقْهُ إِلَى إِنْشَاءِ مِثْلِهِ وَإِحْدَاثِهِ أَحَدٌ. قَالَ: وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْمُبْتَدِعُ فِي الدِّينِ مُبْتَدِعًا لِإِحْدَاثِهِ فيه ما لم يسبق إليه غيره. قال ابن جرير: فمعنى الكلام: سبحان الله إن يكون له وَلَدٌ وَهُوَ مَالِكٌ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، تَشْهَدُ لَهُ جَمِيعُهَا بِدَلَالَتِهَا عَلَيْهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَتُقِرُّ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَهُوَ بَارِئُهَا وَخَالِقُهَا وَمُوجِدُهَا مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ وَلَا مِثَالٍ احْتَذَاهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا إعلامٌ من الله لعباده أَنَّ مِمَّنْ يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ (الْمَسِيحُ) الذِي أَضَافُوا إِلَى اللَّهِ بُنُوَّتَهُ، وَإِخْبَارٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنَّ الذِي ابْتَدَعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ أصل وعلى غير مثلا، هُوَ الذِي ابْتَدَعَ الْمَسِيحَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ وَالدٍ بِقُدْرَتِهِ، وَهَذَا مِنَ ابْنِ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَلَامٌ جَيِّدٌ وَعِبَارَةٌ صَحِيحَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يبيّن بذلك كَمَالُ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمَ سُلْطَانِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا قَدَّرَ أَمْرًا وَأَرَادَ كَوْنَهُ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ {كُنْ} أَيْ مَرَّةً وَاحِدَةً {فَيَكُونُ} أَيْ فَيُوجَدُ عَلَى وَفْقِ مَا أَرَادَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كن فيكون}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ له كن فيكون}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}، وَقَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا مَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْراً فَإِنَّمَا * يَقُولُ له كن قولة فيكون

- 118 - وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيات لقوم يوقنون -[113]- قال ابن عباس: قال رافع بن حرملة لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ كَمَا تقول، فقل لله فيكلمنا حَتَّى نَسْمَعَ كَلَامَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ من قوله: {وقال الذي لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آية} (أخرجه محمد بن إسحاق عن ابن عباس) وقال مجاهد: النصارى تقوله، وقال قتادة والسُّدي: هَذَا قَوْلُ كُفَّارِ الْعَرَبِ، {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ من قبلهم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} قال: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ وَأَنَّ الْقَائِلِينَ ذَلِكَ هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله} الآية، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض ينبوعا} إلى قوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رسولا} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} الآية إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كُفْرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ مَا لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِهِ إِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ وَالْمُعَانَدَةُ كَمَا قَالَ مَن قَبْلَهُمْ مِنَ الأُمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم. وقوله تعالى: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أَيْ أَشْبَهَتْ قُلُوبُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ قُلُوبَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَالْعُتُوِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أتواصوا بِهِ}؟ الآية. وقوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أَيْ قَدْ أوضحنا الدَّلَالَاتِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ بِمَا لَا يَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى سُؤَالٍ آخَرَ، وَزِيَادَةٍ أُخرى لِمَنْ أَيْقَنَ وَصَدَّقَ وَاتَّبَعَ الرُّسُلَ وَفَهِمَ مَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَأَمَّا مَنْ خَتَمَ الله على قلبه وسمعه وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة فأولئك قال الله فِيهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ العذاب الأليم}.

- 119 - إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أصحاب الجحيم عن ابن عباس قَالَ: «بَشِيرًا بِالْجَنَّةِ وَنَذِيرًا مِنَ النَّارِ»، وَقَوْلُهُ: {ولا تسئل عن أصحاب الجحيم} قراءة أكثرهم {ولا تسئل} بضم التاء على الخبر، وفي قراءة ابن مسعود {ولن تسئل} عن أصحاب الجحيم أَيْ لَا نَسْأَلُكَ عَنْ كُفْرِ مَنْ كَفَرَ بك، كقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وعلينا الحساب}. عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِصِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ؛ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَفْتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا) (رواه البخاري وأحمد)

- 120 - وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ -[114]- الذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ - 121 - الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} وَلَيْسَتِ الْيَهُودُ يَا مُحَمَّدُ وَلَا النَّصَارَى بِرَاضِيَةٍ عَنْكَ أَبَدًا، فَدَعْ طَلَبَ مَا يُرْضِيهِمْ وَيُوَافِقُهُمْ وَأَقْبِلْ عَلَى طَلَبِ رِضَا اللَّهِ فِي دُعَائِهِمْ إِلَى مَا بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ تعالى: {قل إن هدى اللهو الْهُدَى} أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذِي بَعَثَنِي بِهِ هُوَ الْهُدَى، يَعْنِي هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} فيه تهديد شديد ووعيد للأمة في اتباع طرائق اليهود والنصارى، بعدما عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ - عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ - فَإِنَّ الْخِطَابَ مَعَ الرَّسُولِ وَالْأَمْرَ لِأُمَّتِهِ، وقد استدل كثير من الفقهاء بقول: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} حَيْثُ أَفْرَدَ الْمِلَّةَ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، فَعَلَى هَذَا لَا يَتَوَارَثُ الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ، وكلٌ مِنْهُمْ يَرِثُ قَرِينَهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ أَمْ لَا لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. وقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ}، قَالَ قتادة: هم اليهود والنصارى وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أَنْ يُحِلَّ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ، وَيَقْرَأَهُ كَمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَلَا يُحَرِّفَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلَا يَتَأَوَّلَ مِنْهُ شَيْئًا عَلَى غير تأويله، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود في قوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} يتبعونه حق اتباعه. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: مَنْ يَتَّبِعُ الْقُرْآنَ يَهْبِطُ بِهِ عَلَى رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَعَنْ عُمَرَ بن الخطاب: هم الذين إذا مروا بآيى رَحْمَةٍ سَأَلُوهَا مِنَ اللَّهِ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةِ عَذَابٍ اسْتَعَاذُوا مِنْهَا. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ تَعَوَّذَ. وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} خبر، أَيْ مَنْ أَقَامَ كِتَابَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ حَقَّ إِقَامَتِهِ آمَنَ بِمَا أَرْسَلْتُكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أرجلهم} الآية. وَقَالَ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ}، أَيْ إِذَا أَقَمْتُمُوهَا حَقَّ الْإِقَامَةِ، وَآمَنْتُمْ بِهَا حَقَّ الْإِيمَانِ، وَصَدَّقْتُمْ مَا فِيهَا مِنَ الْأَخْبَارِ بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ، وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ وَنَصْرِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ، قَادَكُمْ ذَلِكَ إِلَى الْحَقِّ وَاتِّبَاعِ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ ويدرؤون بالحسنة السيئة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ والله بصير -[115]- بالعباد}، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فأنار موعده} وَفِي الصَّحِيحِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا دَخَلَ النار» (أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً).

- 122 - يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ - 123 - وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ قَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ في صدر السورة، وكررت ههنا لِلتَّأْكِيدِ وَالْحَثِّ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ النَّبِيِّ الأُمي الذِي يَجِدُونَ صِفَتَهُ فِي كُتُبِهِمْ وَنَعْتَهُ وَاسْمَهُ وأمره وأُمته فحذرهم مِنْ كِتْمَانِ هَذَا، وَكِتْمَانِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَلَا يَحْسُدُوا بَنِي عَمِّهِمْ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ مِنْ إِرْسَالِ الرَّسُولِ الْخَاتَمِ مِنْهُمْ، وَلَا يَحْمِلُهُمْ ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه والحيد عَنْ مُوَافَقَتِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

- 124 - وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ يَقُولُ تَعَالَى منبِّهاً عَلَى شَرَفِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ يُقْتَدَى به في التوحيد، حين قام به كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، ولهذا قال: {وَإِذَا ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} أَيْ وَاذْكُرْ يَا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذي ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليها .. اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم أي اختاره لهم بِمَا كَلَّفَهُ بِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي {فَأَتَمَّهُنَّ} أي قام بهن كلهن كما قالت تعالى {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفَّى} أَيْ وفَّى جَمِيعَ مَا شَرَعَ لَهُ فَعَمِلَ بِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مستقيم} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ من المشركين * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ المؤمنين}. وَقَوْلُهُ تَعَالَى {بِكَلِمَاتٍ} أَيْ بِشَرَائِعَ وَأَوَامِرَ وَنَوَاهٍ، {فَأَتَمَّهُنَّ} أَيْ قَامَ بِهِنَّ، قَالَ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} أَيْ جَزَاءً عَلَى مَا فَعَلَ كَمَا قَامَ بِالْأَوَامِرِ وَتَرَكَ الزَّوَاجِرَ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ قُدْوَةً وَإِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ وَيُحْتَذَى حَذْوَهُ. وقد اختلف في تعيين الْكَلِمَاتِ التِي اخْتَبَرَ اللَّهُ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عليه السلام، فروي عن ابن عباس قال: ابتلاه الله بالمناسك، وروي عنه قال: ابتلاه بِالطَّهَارَةِ خمسٌ فِي الرَّأْسِ، وخمسٌ فِي الْجَسَدِ، فِي الرَّأْسِ: قَصُّ الشَّارِبِ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالسِّوَاكُ وَفَرْقُ الرَّأْسِ، وَفِي الْجَسَدِ: تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَالْخِتَانُ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَغَسْلُ أَثَرِ الْغَائِطِ والبول بالماء. وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ -[116]- وَالِاسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ". وقال عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا ابْتُلِيَ بِهَذَا الدِّينِ أَحَدٌ فَقَامَ بِهِ كُلِّهِ إلا إبراهيم، قال الله تعالى: {وإذا ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ ربُّه بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}، قُلْتُ لَهُ: وَمَا الْكَلِمَاتُ التِي ابْتَلَى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِهِنَّ فَأَتْمَهُنَّ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ ثَلَاثُونَ سَهْمًا مِنْهَا عَشْرُ آيات في براءة: {التائبون العابدون} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَعَشْرُ آيَاتٍ فِي أَوَّلِ سورة {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} وعشر آيات من الأحزاب: {إِنَّ المسلمين والمسلمات} إلى آخر الآية فأتمهن كلهم فكتبت له براءة. قال الله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} وقال محمد بن إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَلِمَاتُ التِي ابْتَلَى اللَّهُ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمَ فَأَتَمَّهُنَّ: فِرَاقُ قَوْمِهِ فِي اللَّهِ حِينَ أُمِرَ بِمُفَارَقَتِهِمْ، وَمُحَاجَّتُهُ نُمْرُوذَ فِي اللَّهِ حِينَ وَقَفَهُ عَلَى مَا وَقَفَهُ عَلَيْهِ مِنْ خَطَرِ الْأَمْرِ الذِي فِيهِ خِلَافُهُ، وَصَبْرُهُ عَلَى قَذْفِهِ إِيَّاهُ فِي النَّارِ لِيَحْرِقُوهُ فِي اللَّهِ عَلَى هَوْلِ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَالْهِجْرَةُ بعد ذلك من ووطنه وَبِلَادِهِ فِي اللَّهِ حِينَ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُمْ، وما أمر بِهِ مِنَ الضِّيَافَةِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَمَا ابْتُلِيَ بِهِ مِنْ ذَبْحِ ابْنِهِ حِينَ أَمَرَهُ بِذَبْحِهِ، فَلَمَّا مَضَى عَلَى ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ كُلِّهِ وَأَخْلَصَهُ لِلْبَلَاءِ قَالَ اللَّهُ لَهُ: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمينْ} عَلَى مَا كَانَ مِنْ خِلَافِ النَّاسِ وَفِرَاقِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جرير: كان الحسن يقول: إي والله، لقد ابْتَلَاهُ بِأَمْرٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِ، ابْتَلَاهُ بِالْكَوْكَبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَأَحْسَنَ فِي ذَلِكَ وَعَرَفَ أَنَّ رَبَّهُ دَائِمٌ لَا يَزُولُ، فَوَجَّهَ وَجْهَهُ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ ابْتَلَاهُ بِالْهِجْرَةِ فَخَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ وَقَوْمِهِ حَتَّى لَحِقَ بِالشَّامِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ ابْتَلَاهُ بِالنَّارِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، وابتلاه بذبح ابنه، والختان فصبر على ذلك. وعن الربيع بن أنس قَالَ: الْكَلِمَاتُ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}، وَقَوْلُهُ: {واخذوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وَقَوْلُهُ: {وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القوعد مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} الْآيَةَ. قَالَ: فَذَلِكَ كُلُّهُ من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم. وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ مَنِ اخْتَتَنَ، وَأَوَّلُ مَنْ ضاف الضيف، وَأَوَّلُ مَنْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ قَصَّ الشَّارِبَ، وَأَوَّلُ مَنْ شَابَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّيْبَ قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: وَقَارٌ، قَالَ: يَا رب زدني وقاراً. قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ جَمِيعُ ما ذكر، وجاز أَنْ يَكُونَ بَعْضَ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ الْمُرَادُ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا بِحَدِيثٍ أَوْ إِجْمَاعٍ. قَالَ: وَلَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ بِنَقْلِ الْوَاحِدِ وَلَا بِنَقْلِ الْجَمَاعَةِ الذي يجب التسليم له. ولما جَعَلَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ إِمَامًا سَأَلَ اللَّهَ أَنْ تَكُونَ الْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَأُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ، وَأُخْبِرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ظَالِمُونَ وَأَنَّهُ لَا يَنَالُهُمْ عَهْدُ اللَّهِ، وَلَا يكونون أئمةً فلا يقتدي بهم {قَالَ وَمِن ذريَّتي، قَالَ لاَ ينالُ عَهْدِي الظالمين}، والدليل على أنه أجيب إلى طلبته قوله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب} فكل نبي أرسله الله، وكل كتاب أنزل اللَّهُ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ، فَفِي ذُرِّيَّتِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فقال مجاهد: لا يكون إمام ظالم يقتدى به. , وعنه قال: أما من كان منهم صالحاً فأجعله إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ ظَالِمًا فلا ولا نعمة عين. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا، قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ، ثُمَّ قَالَ {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} وروي عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {لاَ يَنَالُ عَهْدِي -[117]- الظَّالِمِينَ} قَالَ: لَا يَنَالُ عهدُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ الظَّالِمِينَ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ نَالَهُ الظالم فأمن به وأكل وعاش وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: عهدُ اللَّهِ الذِي عَهِدَ إِلَى عِبَادِهِ دينهُ، يَقُولُ: لَا يَنَالُ دِينُهُ الظَّالِمِينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إسحق وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} يَقُولُ لَيْسَ كُلُّ ذُرِّيَّتِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ عَلَى الحق. وعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قَالَ: «لَا طَاعَةَ إِلَّا في المعروف» (أخرجه ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مرفوعاً) وَقَالَ السُّدي {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}: يَقُولُ عَهْدِي نُبُوَّتِي. فَهَذِهِ أَقْوَالُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وقال ابن خويز منداد: الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكماً ولا مفتياً ولا شاهداً ولا راوياً.

- 125 - وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مصلى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود عن ابن عباس {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} قَالَ: يَثُوبُونَ إليه ثم يرجعون. وحدث عبدة بن أبي لبابة قَالَ: لَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ مُنْصَرِفٌ وَهُوَ يَرَى أنه قد قضى منه وطراً قال الشاعر: جُعِلَ الْبَيْتُ مَثَابًا لَهُمْ * لَيْسَ مِنْهُ الدهرَ يَقْضُونَ الوَطَر وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الرواية الأخرى وعكرمة وقتادة {مَثَابَةً لِّلنَّاسِ}: أي مجمعاً {أمناً} أي أمناً للناس، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ وهم آمنون لا يُسبون. ومضمون هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَذْكُرُ شَرَفَ الْبَيْتِ، وَمَا جَعَلَهُ مَوْصُوفًا بِهِ شَرْعًا وَقَدَرًا مِنْ كَوْنِهِ مَثَابَةً لِلنَّاسِ، أَيْ جَعَلَهُ مَحَلًّا تَشْتَاقُ إِلَيْهِ الْأَرْوَاحُ وَتَحِنُّ إِلَيْهِ، وَلَا تَقْضِي مِنْهُ وَطَرًا وَلَوْ تَرَدَّدَتْ إِلَيْهِ كُلَّ عَامٍ، اسْتِجَابَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِدُعَاءِ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي قَوْلِهِ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} إِلَى أَنْ قَالَ: {رَبَّنَا وتقبل دعائي}، وَيَصِفُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ جَعَلَهُ أَمْنًا مَنْ دَخَلَهُ أَمِنَ، وَلَوْ كَانَ قَدْ فَعَلَ مَا فَعَلَ ثم دخله كان آمناً. فقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يعرض له. وَمَا هَذَا الشَّرَفُ إِلَّا لِشَرَفِ بَانِيهِ أَوَّلًا وهو خليل الرحمن كما قال تعالى: {وإذا بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بي شيئا} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَبَّهَ عَلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عِنْدَهُ، فَقَالَ: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ في المراد بالمقام ما هو؟ فقال مجاهد عن ابن عباس: مقام إبراهيم الحرم كله، وقيل: مقام إبراهيم الحج كله (منى ورمي الجمار والطواف بين الصفا والمروة (ذكره عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما) وقال سفيان الثوري عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قَالَ: الْحَجَرُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ نَبِيِّ اللَّهِ قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً فَكَانَ يَقُومُ عليه ويناوله إسماعيل الحجارة، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَقَامُ الْحَجَرُ الذِي وَضَعَتْهُ زَوْجَةُ إِسْمَاعِيلَ تَحْتَ قَدَمِ إِبْرَاهِيمَ حَتَّى غَسَلَتْ رَأْسَهُ. عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ: سَمِعَ جَابِرًا يُحَدِّثُ عَنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ عُمَرُ: هَذَا مقام أبينا؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: أَفَلَا نَتَّخِذُهُ مُصَلًّى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مصلى} وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ قَوْلِهِ {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مصلى} مثابة يثوبون: يرجعون. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ أَوْ وَافَقَنِي رَبِّي فِي -[118]- ثَلَاثٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَ أُمهات الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آية الحجاب. قال: وَبَلَغَنِي مُعَاتِبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ نِسَائِهِ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ فَقُلْتُ: إِنِ انْتَهَيْتُنَّ أَوْ لَيُبَدِّلَنَّ اللَّهُ رَسُولَهُ خَيْرًا مِنْكُنَّ، حَتَّى أتيت إحدى نسائه قالت: يَا عُمَرُ أَمَا فِي رَسُولِ اللَّهِ مَا يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَّى تَعِظَهُنَّ أَنْتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} الآية. وقال أنَس: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَافَقْتُ رَبِّي عزَّ وجلَّ فِي ثَلَاثٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ نِسَاءَكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ. وَاجْتَمَعَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاؤُهُ فِي الْغَيْرَةِ فَقُلْتُ لَهُنَّ: عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أزاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ فنزلت كذلك (رواه أحمد عن أنس رضي الله عنه) ورواه الإمام مسلم بن حجاج في صحيحه بسند آخر ولفظ آخر عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فِي الْحِجَابِ، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم. وروى ابن جريج عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَمَشَى أَرْبَعًا حَتَّى إِذَا فَرَغَ عَمَدَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى} وقال ابن جرير عَنْ جَابِرٍ قَالَ: اسْتَلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّكْنَ فَرْمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أربعاً ثم نفذ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا قِطْعَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الذي رواه مسلم في صحيحه. فهذا كلهم مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَقَامِ إِنَّمَا هُوَ الْحَجَرُ، الذِي كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُومُ عَلَيْهِ لِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ، لَمَّا ارْتَفَعَ الْجِدَارُ أَتَاهُ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ لِيَقُومَ فَوْقَهُ، ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلما كَمَّلَ نَاحِيَةً انْتَقَلَ إِلَى النَّاحِيَةِ الأُخرى يَطُوفُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ كُلَّمَا فَرَغَ مِنْ جِدَارٍ نَقَلَهُ إِلَى النَّاحِيَةِ التِي تَلِيهَا وهكذا حتى تم جدران الْكَعْبَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وإسماعيل وَكَانَتْ آثَارُ قَدَمَيْهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِ، وَلَمْ يَزَلْ هَذَا مَعْرُوفًا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ اللَّامِيَّةِ: وموطىء إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ * عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غير ناعل وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة وَمَكَانُهُ مَعْرُوفٌ الْيَوْمَ إِلَى جَانِبِ الْبَابِ، مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ يُمْنَةَ الدَّاخِلِ مِنَ الْبَابِ، فِي الْبُقْعَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ هُنَاكَ، وَكَانَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ وَضَعَهُ إِلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ، أَوْ أَنَّهُ انْتَهَى عِنْدَهُ الْبِنَاءُ فَتَرَكَهُ هُنَاكَ، وَلِهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أُمِرَ بِالصَّلَاةِ هناك عند الفراغ من الطَّوَافِ، وَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ حَيْثُ انْتَهَى بِنَاءُ الْكَعْبَةِ فِيهِ وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ عَنْ جِدَارِ الْكَعْبَةِ أميرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه، أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، الَّذِينَ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِمْ، وَهُوَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَالَ فِيهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اقْتَدَوْا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» (أخرجه الترمذي عن حذيفة بن اليمان)، وهو الذي نزل القرآن يوافقه فِي الصَّلَاةِ عِنْدَهُ وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. -[119]- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ الْمَقَامَ كان زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزمان أبي بكر رضي الله عنه مُلْتَصِقًا بِالْبَيْتِ ثُمَّ أَخَّرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه (رواه البهيقي قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح) وعن مجاهد قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخِطَابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ صَلَّيْنَا خَلْفَ الْمَقَامِ، فأنزل {واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مصلّى} فكام؟؟ الْمَقَامُ عِنْدَ الْبَيْتِ فحوَّله رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا (رواه ابن مردويه عن مجاهد. قال ابن كثير: هذا مرسل عن مجاهد وهو مخالف لرواية عبد الرزاق عنه) وهو مخالف لما تقدم أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أخَّر الْمَقَامَ إِلَى مَوْضِعِهِ الْآنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مَعَ اعتضاد هذا بما تقدم، والله أعلم.

تتمة الآية (125): وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ - 126 - وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ - 127 - وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - 128 - رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنْتَ التواب الرحيم التفسير: قال الحسن البصري: قوله تعالى {وَعَهِدْنَآ إلى إبراهيم وإسماعيل}: أمرهما الله أن يطهرهاه مِنَ الْأَذَى وَالنَّجَسِ، وَلَا يُصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ مَا عهده؟ قال أمره. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ إِنَّمَا عُدِّيَ بِإِلَى لأنه في معنى أوحينا. قوله: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين} أي مِنَ الْأَوْثَانِ وَالرَّفَثِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَالرِّجْسِ. قَالَ مجاهد وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ} أَيْ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مِنَ الشِّرْكِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلطَّائِفِينَ} فَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ مَعْرُوفٌ، وَعَنْ سَعِيدِ بن جبير أنه قال: {لِلطَّائِفِينَ} يَعْنِي مَنْ أَتَاهُ مِنْ غُرْبَةٍ {وَالْعَاكِفِينَ} الْمُقِيمِينَ فِيهِ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أنَس أنَّهما فسَّرا الْعَاكِفِينَ بِأَهْلِهِ الْمُقِيمِينَ فيه وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا كَانَ جَالِسًا فَهُوَ من العاكفين، وعن ثَابِتٌ قَالَ: قُلْنَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مَا أُرَانِي إِلَّا مُكَلِّمٌ الْأَمِيرَ أَنْ أَمْنَعَ الَّذِينَ يَنَامُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُمْ يَجْنُبُونَ وَيُحْدِثُونَ، قَالَ: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنْهُمْ فَقَالَ: هُمُ الْعَاكِفُونَ (رواه ابن أبي حاتم عن حماد بن سلمة عن ثابت) (قُلْتُ): وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَنَامُ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَزَبٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {والركع السجود} فقال عطاء عن ابن عباس إِذَا كَانَ مُصَلِّيًا فَهُوَ مِنَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ. قال ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَأَمَرْنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِتَطْهِيرِ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ، والتطهيرُ الذِي أَمَرَهُمَا بِهِ فِي الْبَيْتِ هُوَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ كَانَ قَبْلَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ عند البيت

شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الذِي أُمِرَ بِتَطْهِيرِهِ مِنْهُ؟ فالجواب من وجهين: (أَحَدُهُمَا): أَنَّهُ أَمَرَهُمَا بِتَطْهِيرِهِ مِمَّا كَانَ يُعْبَدُ عِنْدَهُ زَمَانَ قَوْمِ نُوحٍ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ سُنَّةً لِمَنْ بَعْدَهُمَا إِذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ إِبْرَاهِيمَ إِمَامًا يُقْتَدَى به. (قُلْتُ): وَهَذَا الْجَوَابُ مفرّعٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُعْبَدُ عِنْدَهُ أَصْنَامٌ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَحْتَاجُ إِثْبَاتُ هَذَا إِلَى دَلِيلٍ عَنِ الْمَعْصُومِ محمد صلى الله عليه وسلم (الثَّانِي): أَنَّهُ أَمَرَهُمَا أَنْ يُخْلِصَا فِي بِنَائِهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَيَبْنِيَاهُ مُطَهَّرًا مِنَ الشِّرْكِ وَالرَّيْبِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {أفمن أسس بنانه عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ}؟ قال فكذلك قوله: {وعهدنا إلى إبرهيم وَإِسْمَاعِيلَ أَن طهِّرا بَيْتِيَ} أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب، وَمُلَخَّصُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنْ يَبْنِيَا الْكَعْبَةَ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لِلطَّائِفِينَ بِهِ وَالْعَاكِفِينَ عِنْدَهُ وَالْمُصَلِّينَ إِلَيْهِ مِنَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} الْآيَاتِ. وقد اختلف الفقهاء أيَّهمَا أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به؟ فقال مالك رحمه الله الطواف به لأهل الأمصار أفضل، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الصَّلَاةُ أَفْضَلُ مُطْلَقًا، وَتَوْجِيهُ كُلٍّ مِنْهُمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ كَانُوا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ عِنْدَ بَيْتِهِ، الْمُؤَسَّسِ عَلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَصُدُّونَ أَهْلَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ به وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أليم}، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْبَيْتَ إِنَّمَا أُسِّسَ لِمَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِمَّا بِطَوَافٍ أَوْ صَلَاةٍ، فَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ أَجْزَاءَهَا الثَّلَاثَةَ (قِيَامَهَا وَرُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا) وَلَمْ يُذْكَرِ الْعَاكِفِينَ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ {سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَكَرَ الطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ، واكتفى بِذِكْرِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَنِ الْقِيَامِ، لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ إِلَّا بَعْدَ قِيَامٍ وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا رَدٌّ عَلَى مَنْ لَا يَحُجُّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ (الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فَضِيلَةَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وإسماعيل وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَنَى هَذَا الْبَيْتَ لِلطَّوَافِ فِي الحج والعمرة وَهُمْ لَا يَفْعَلُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَكُونُونَ مُقْتَدِينَ بِالْخَلِيلِ وَهُمْ لَا يَفْعَلُونَ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُ؟ وَقَدْ حَجَّ الْبَيْتَ مُوسَى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ الْمَعْصُومُ الذِي لَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}. وتقدير الكلام إذن: {وعهدنا إلى إبرهيم} أي تقدمنا بوحينا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أَيْ طَهِّرَاهُ مِنَ الشِّرْكِ والريب وابنياه خالصاً لله معقالاً لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَتَطْهِيرُ الْمَسَاجِدِ مَأْخُوذٌ من هذه الآية الكريمة وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال}، وَمِنَ السُّنَةِ مِنْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْأَمْرِ بِتَطْهِيرِهَا وَتَطْيِيبِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِيَانَتِهَا مِنَ الْأَذَى وَالنَّجَاسَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ»، وَقَدْ جَمَعْتُ فِي ذَلِكَ جُزْءًا عَلَى حِدَةٍ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَوَّلِ مَنْ بَنَى الْكَعْبَةَ؟ فَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ قبل آدم ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَحَكَى لَفْظَهُ وَفِيهِ غَرَابَةٌ، وَقِيلَ آدم عليه السلام رواه عطاء وسعيد بن المسيب وهذا غريب أيضاً. وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَنَاهُ شِيثُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَغَالِبُ مَنْ يَذْكُرُ هَذَا إِنَّمَا يَأْخُذُهُ مَنْ كُتِبِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهِيَ مِمَّا لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِهَا. وَأَمَّا إِذَا صَحَّ حَدِيثٌ فِي ذَلِكَ فَعَلَى الرَّأْسِ والعين.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} قَالَ ابن جرير عن جابر بن عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حرَّم بَيْتَ اللَّهِ وأمَّنه، وإني حرمت المدينة وما بَيْنَ لَابَتَيْهَا، فَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا وَلَا يُقْطَعُ عضاهها (رواه النسائي وأخرجه مسلم بطريق آخَرَ)» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاءُوا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدّنا، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ» ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لَهُ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثمر (رواه مسلم، وفي لفظٍ له «بَرَكَةً مَعَ بَرَكَةٍ» ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ حضر من الولدان). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَلْحَةَ: «الْتَمِسْ لِي غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدِمُنِي»، فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ يَرْدِفُنِي وَرَاءَهُ، فَكُنْتُ أَخْدِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا نَزَلَ. وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: ثُمَّ أقبل حتى بَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ: «هَذَا جبلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: «اللَّهُمَّ إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حَرَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ»، وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَبَارِكْ لَهُمْ فِي مدهم» زاد البخاري يعني: أهل المدينة. وعن أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جعلته بمكة من البركة» (رواه البخاري ومسلم) وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَجَعَلَهَا حَرَامًا، وَإِنِّي حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها، أن لَا يَهْرَاقُ فِيهَا دَمٌ، وَلَا يُحْمَلُ فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ، وَلَا يُخْبَطُ فِيهَا شَجَرَةٌ إِلَّا لِعَلَفٍ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدّنا، اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ بِرْكَتَيْنِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)»، وَالْأَحَادِيثُ فِي تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ كَثِيرَةٌ وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا مِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِتَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَكَّةَ لِمَا فِي ذَلِكَ من مُطَابَقَةِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَتَمَسَّكَ بِهَا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ مَكَّةَ إِنَّمَا كَانَ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ مُنْذُ خلقت مع الأرض، وهذا أظهر وأقوى والله أعلم. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ أُخر تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا»، فَقَالَ العباس: يا رسول الله الإذخر فإنه لقّيْنهم ولبيوتهم، فقال: «إلا الإذخر». وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِّيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ - وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ - ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سمعْته أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرىء يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دما، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخَّص بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا: إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لكم،

وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كحرمتها بالأمس، ليبلغ الشاهد الغائب (رواه البخاري ومسلم عن أبي شريح العدوي) " فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فاراً بدم ولا فاراً بخربة. فَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَرَّمَهَا، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَلَّغَ عَنِ اللَّهِ حُكْمَهُ فِيهَا، وَتَحْرِيمَهُ إِيَّاهَا وَأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ بَلَدًا حَرَامًا عِنْدَ اللَّهِ قَبْلَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهَا، كَمَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْتُوبًا عِنْدَ اللَّهِ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَمَعَ هَذَا قال إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وابعث فيه رَسُولًا مِنْهُمْ} وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ بِمَا سبق في علمه وقدره. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، أَوِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَتْبَاعِهِ، فَتُذْكَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَدِلَّتِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثقة. وقوله تعالى أخبارا عن الخليل: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} أَيْ مِنَ الخوف أي لَا يُرْعَبُ أَهْلَهُ، وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ شَرْعًا وَقَدَرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمناً}، وَقَوْلُهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً ويُتخطف الناس مِنْ حولهم} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الأحاديث في تحريم القتال فيه، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلَاحَ»، وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} أَيِ اجْعَلْ هَذِهِ الْبُقْعَةَ بَلَدًا آمِنًا وناسب هُنَاكَ لِأَنَّهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - كَأَنَّهُ وَقَعَ دُعَاءً مرة ثانية بَعْدَ بِنَاءِ الْبَيْتِ وَاسْتِقْرَارِ أَهْلِهِ بِهِ، وَبَعْدَ مَوْلِدِ إِسْحَاقَ الذِي هُوَ أَصْغَرُ سِنًّا مِنْ إسماعيل بثلاث عشرة سنة، ولهذا فِي آخِرِ الدُّعَاءِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وأسحق إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعاء}. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، قَالَ: وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنْ أُبيّ بْنِ كَعْبٍ {قَالَ وَمَن كَفَرَ} الآية هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَهُوَ الذِي صَوَّبَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ الله قَالَ: وَقَرَأَ آخَرُونَ: {قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَحْجُرُهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ النَّاسِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَمَنْ كَفَرَ أَيْضًا أَرْزُقُهُمْ كَمَا أَرْزُقُ الْمُؤْمِنِينَ، أَأَخْلُقُ خَلْقًا لَا أَرْزُقُهُمْ؟ أُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (أخرجه ابن مردويه وروي نحوه عن مجاهد وعكرمة)، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}، وكقوله تَعَالَى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أَيْ ثُمَّ أُلْجِئُهُ بَعْدَ مَتَاعِهِ فِي الدُّنْيَا، وَبَسْطِنَا عَلَيْهِ مِنْ ظِلِّهَا {إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْظرهم وَيُمْهِلُهُمْ ثُمَّ يَأْخُذُهُمْ أَخْذَ

عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير}. وفي الصحيح: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، ثم قرأ تعالى: {كذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أليم شديد}. (يتبع ... )

(تابع ... 1): تتمة الآية (125): وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ للطائفين ... ... وأما قوله تعالى: {وإذا يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} فَالْقَوَاعِدُ جَمْعُ قَاعِدَةٍ، وَهِيَ السَّارِيَةُ وَالْأَسَاسُ، يَقُولُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ بِنَاءَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ الْبَيْتَ، وَرَفْعَهُمَا الْقَوَاعِدَ مِنْهُ وَهُمَا يَقُولَانِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فَهُمَا فِي عَمَلٍ صَالِحٍ وَهُمَا يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما، وَقَالَ بَعْضُ المفسِّرين: الذِي كَانَ يَرْفَعُ القواعدَ هُوَ إِبْرَاهِيمُ، وَالدَّاعِي إِسْمَاعِيلُ، والصحيحُ أَنَّهُمَا كَانَا يَرْفَعَانِ وَيَقُولَانِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَقَدْ رَوَى البخاري عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَوَّلُ مَا اتَّخَذَ النساء المِنطَق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفي أَثَرَهَا عَلَى سَارَّةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وبإبنها إسماعيل وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ، عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يومئذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هنالك ووضع عندها جِراباً فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قفّى إبراهيم مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الذِي لَيْسَ فيه أنيس وَلَا شَيْءَ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذًا لَا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رجعت فانطلق إبراهيم حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فَقَالَ: {رَّبَّنَآ إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم} حتى بلغ {يَشْكُرُونَ}. وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابنُّها، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى - أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ - فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِي تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْوَادِي رَفَعَتْ طَرْفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِي، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فقامت عليها فنظرت هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلِذَلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا»، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صوتاً فقال: «صَهٍ» - تُرِيدُ نَفْسَهَا - ثُمَّ تسمَّعت فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غُوَاثٌ فَإِذَا هِيَ بالمَلَك عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ - أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ - حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تَغْرِفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أَمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ - أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ - لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا». قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لا تخافي الضيعة فإن ههنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وأن الله لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وشماله، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ، أَوْ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءَ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسولا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ، فَأَقْبَلُوا، قَالَ: وأُم إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ قالت: نعم

ولكن لا حقَّ لكم في الماء عندنا، قالوا: نعم، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَأَلْفَى ذَلِكَ أُم إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْأُنْسَ»، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الْغُلَامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وأنفسَهم وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زوَّجوه امْرَأَةً منهم. وماتت (أُم إسماعيل) فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تَرِكَتَهُ فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فقالت: خرج يبتعي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ: نحن بشرِّ، نحن في ضيق وشدة فشكت إليه، قال: إذا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقُولِي لَهُ يغيِّر عتبةَ بابه، فلما جاء إسماعيل كَأَنَّهُ أَنِسَ شَيْئًا فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مَنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أننا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ غَيَّر عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكَ أَبِي وقد أمرني أن أٌن أُفارقك فالحقي بأهلك، وطلَّقها وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ بأُخرى. فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ على الله عزَّ وجل، قال: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ: اللَّحْمُ، قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتِ: الْمَاءُ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يومئذٍ حَب وَلَوْ كَانَ لَهُمْ لَدَعَا لَهُمْ فِيهِ»، قَالَ: فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُرِيهِ يثبِّت عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جاء إسماعيل قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مَنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا؟ فَأَخْبَرْتُهُ أنَّا بخير، قال أنَّا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن ثبِّت عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكَ أَبِي وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ. ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شاء الله ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ، قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رآه قام إليه وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بأمر قال: فاصنع ما أمرك ربك، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أمرني أن أبني ههنا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهُمَا يَقُولَانِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قَالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم}. ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أخبرنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، أخبرنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ كَثِيرِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "لَمَّا كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ أَهْلِهِ مَا كَانَ خَرَجَ بِإِسْمَاعِيلَ وأُم إِسْمَاعِيلَ وَمَعَهُمْ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَتْ أُم إِسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنَّةِ فَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا حَتَّى قدم مكة فوضعهما تَحْتَ دَوْحَةٍ ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ حَتَّى بَلَغُوا كَدَاءَ نَادَتْهُ مِنْ وَرَائِهِ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا؟ قال: إلى الله، قالت: رضيت بالله. قال: فرجعت تشرب من الشنة ويدر لبناها عَلَى صَبِيِّهَا حَتَّى لَمَّا فَنِيَ الْمَاءُ. قَالَتْ: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا. فنظرت هَلْ تُحِسُّ أَحَدًا؟ فَلَمْ تُحِسَّ أَحَدًا، فَلَمَّا بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطاً حَتَّى أَتَمَّتْ سَبْعًا، ثُمَّ قَالَتْ: لَوْ ذَهَبْتُ فنظرت ما فعل الصَّبِيَّ، فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هُوَ عَلَى حَالِهِ كَأَنَّهُ يَنْشَغُ لِلْمَوْتِ فَلَمْ تُقِرَّهَا نَفْسُهَا، فَقَالَتْ: لو ذهبت

فنظرتُ لعلي أحس أحداً، فَذَهَبَتْ فَصَعِدَتِ الصَّفَا، فَنَظَرَتْ وَنَظَرَتْ فَلَمْ تُحِسْ أَحَدًا حَتَّى أَتَمَّتْ سَبْعًا، ثُمَّ قَالَتْ: لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ مَا فَعَلَ، فَإِذَا هِيَ بِصَوْتٍ فَقَالَتْ: أَغِثْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ، فَإِذَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: فَقَالَ بِعَقِبِهِ هَكَذَا وَغَمَزَ عَقِبَهُ عَلَى الْأَرْضِ، قَالَ: فَانْبَثَقَ الْمَاءُ فَدَهَشَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَجَعَلَتْ تَحْفِرُ قَالَ: فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ تَرَكَتْهُ لَكَانَ الْمَاءُ ظَاهِرًا» قَالَ: فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ ويدرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا. قَالَ: فَمَرَّ نَاسٌ مَنْ جُرْهُمَ بِبَطْنِ الْوَادِي فَإِذَا هُمْ بِطَيْرٍ كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: مَا يَكُونُ الطَّيْرُ إِلَّا عَلَى مَاءٍ، فَبَعَثُوا رَسُولَهُمْ فَنَظَرَ فَإِذَا هُوَ بِالْمَاءِ فَأَتَاهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ، فَأَتَوْا إِلَيْهَا فَقَالُوا: يَا أُمَّ إِسْمَاعِيلَ أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَكُونَ مَعَكِ وَنُسْكِنَ مَعَكِ؟ فَبَلَغَ ابْنُهَا ونكح منهم امْرَأَةً. قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لأَهْلِهِ: إِنِّي مُطَّلِعٌ تركتي، قال: فجاءهم فَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيْنَ إِسْمَاعِيلُ؟ قَالَتِ امْرَأَتُهُ: ذَهَبَ يَصِيدُ، قَالَ: قُولِي لَهُ إِذَا جَاءَ غيَّرْ عتبةَ بابك، فلما أَخْبَرَتْهُ قَالَ: أنتِ ذَاكِ فَاذْهَبِي إِلَى أَهْلِكِ، قال: ثم إنه بدا لإبراهيم فقال: إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي قَالَ، فَجَاءَ فَقَالَ: أَيْنَ إِسْمَاعِيلُ؟ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: ذَهَبَ يَصِيدُ، فَقَالَتْ: أَلَا تَنْزِلَ فَتَطْعَمَ وَتَشْرَبَ؟ فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ وَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتْ: طَعَامُنَا اللَّحْمُ وَشَرَابُنَا الْمَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَرَكَةٌ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ». قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لأَهْلِهِ: إني مطلع تركتي فجأة فوفق إِسْمَاعِيلَ مِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ يُصْلِحُ نَبْلًا لَهُ، فَقَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ رَبَّكَ عزَّ وجلَّ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا، فَقَالَ: أَطِعْ ربك عزَّ وجلَّ، قال: إنه أَمَرَنِي أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِذَنْ أَفْعَلُ - أو كما قال - فقام فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَيَقُولَانِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قَالَ: حَتَّى ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ، وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ نَقْلِ الْحِجَارَةِ، فَقَامَ عَلَى حَجَرِ الْمَقَامِ، فَجَعَلَ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَيَقُولَانِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم}. قال محمد بن إسحاق عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الله بَوَّأَ إِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ، خَرَجَ إِلَيْهِ مِنَ الشام وخرج معه إسماعيل وأُمه هاجر، وإسماعيل طفل صغير يرضع، وَمَعَهُ جِبْرِيلُ يَدُلُّهُ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ وَمَعَالِمِ الحرم، فَكَانَ لَا يَمُرُّ بِقَرْيَةٍ إِلَّا قَالَ: أَبِهَذِهِ أُمرتُ يَا جِبْرِيلُ؟ فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: امْضِهِ، حَتَّى قَدِمَ بِهِ مَكَّةَ وَهِيَ إِذْ ذَاكَ عِضَاةُ (سَلْمٍ وَسَمُرٍ) وَبِهَا أُنَاسٌ يُقَالُ لَهُمُ الْعَمَالِيقُ خَارِجَ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَالْبَيْتُ يومئذٍ رَبْوَةٌ حمراء مدرة فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أُمِرْتُ أَنْ أَضَعَهُمَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَعَمَدَ بِهِمَا إِلَى مَوْضِعِ الْحِجْرِ فَأَنْزَلَهُمَا فِيهِ، وَأَمَرَ (هَاجَرَ) أُم إسماعيل أن تتخذ فيه عرشاً فَقَالَ: {رَّبَّنَآ إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} إِلَى قوله: {لَعَلَّهُمْ يشكرون} وقال عبد الرزاق عن مجاهد: خَلَقَ اللَّهُ مَوْضِعَ هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا بِأَلْفَيْ سَنَةٍ وَأَرْكَانُهُ فِي الْأَرْضِ السابعة. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذْ يرفع إبراهيم القوعد مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} الْآيَةَ: الْقَوَاعِدُ أَسَاسُهُ، وَاحِدُهَا قاعدة، والقواعد مِنَ النسآء واحدتها قاعدة، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَمْ تريْ أَنَّ قَوْمَكِ حِينَ بَنَوُا الْبَيْتَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرُدَّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: «لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ»، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتم على قواع إبراهيم عليه السلام. ورواه مسلم أيضاً من حديث نافع عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْلَا أَنْ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ - أَوْ قَالَ

بِكُفْرٍ - لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحِجْر». (ذِكْرُ بِنَاءِ قُرَيْشٍ الْكَعْبَةَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام وَقَبْلَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسٍ سنين) وقد نقل معهم الْحِجَارَةِ وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدين. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: وَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، اجْتَمَعَتْ قريش لبنيان الكعبة وكانوا يهابون هَدْمَهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ رَضْمًا فَوْقَ الْقَامَةِ، فَأَرَادُوا رَفْعَهَا وَتَسْقِيفَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ نَفَرًا سَرَقُوا كَنْزَ الكعبة. وَكَانَ الْبَحْرُ قَدْ رَمَى بِسَفِينَةٍ إِلَى جُدَّةَ لِرَجُلٍ مَنْ تُجَّارِ الرُّومِ فَتَحَطَّمَتْ، فَأَخَذُوا خَشَبَهَا فَأَعَدُّوهُ لِتَسْقِيفِهَا، وَكَانَ بِمَكَّةَ رَجُلٌ قِبْطِيٌّ نَجَّارٌ فَهَيَّأَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بَعْضَ مَا يُصْلِحُهَا، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة فتشرف عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ وَكَانَتْ مِمَّا يَهَابُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا احزألت (إحْزأَلَّتْ: ارتفعت واستعدث للوثوب) وَكَشَّتْ وَفَتَحَتْ فَاهَا فَكَانُوا يَهَابُونَهَا، فَبَيْنَا هِيَ يوماً تشرف عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ كَمَا كَانَتْ تَصْنَعُ، بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا طَائِرًا فَاخْتَطَفَهَا فَذَهَبَ بِهَا، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ رَضِيَ مَا أَرَدْنَا، عِنْدَنَا عَامِلٌ رَفِيقٌ وَعِنْدَنَا خَشَبٌ وَقَدْ كَفَانَا اللَّهُ الْحَيَّةَ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام ابن وهب (خال والد النبي، وكان شريفاً ممدوحاً) بن عمرو بن عائذ فَتَنَاوَلَ مِنَ الْكَعْبَةِ حَجَرًا فَوَثَبَ مِنْ يَدِهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قريش لا تدخلوا في بنانها مِنْ كَسْبِكُمْ إِلَّا طَيِّبًا، لَا يَدْخُلُ فِيهَا مَهْرُ بَغِيٍّ، وَلَا بَيْعُ رِبًا، وَلَا مَظْلِمَةُ أحد من الناس. ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا تَجَزَّأَتِ الْكَعْبَةَ فَكَانَ شِقُّ الْبَابِ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَزُهْرَةَ، وَكَانَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ لِبَنِي مَخْزُومٍ وَقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ انْضَمُّوا إِلَيْهِمْ، وَكَانَ ظَهْرُ الْكَعْبَةِ لِبَنِي جُمَحٍ وَسَهْمٍ، وَكَانَ شَقُّ الْحِجْرِ لبني عبد الدار ابن قُصَيٍّ وَلِبَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ وَلِبَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ وَهُوَ الْحَطِيمُ، ثُمَّ إِنِ النَّاسَ هَابُوا هَدْمَهَا وَفَرَقُوا مِنْهُ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فِي هَدْمِهَا، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ ثُمَّ قَامَ عَلَيْهَا وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَمْ تَرُعِ، اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نُرِيدُ إِلَّا الْخَيْرَ، ثُمَّ هَدَمَ مِنْ نَاحِيَةِ الرُّكْنَيْنِ، فَتَرَبَّصَ النَّاسُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَقَالُوا: نَنْظُرُ فَإِنْ أُصيب لَمْ نَهْدِمْ مِنْهَا شَيْئًا وَرَدَدْنَاهَا كَمَا كَانَتْ وَإِنْ لَمْ يَصُبْهُ شَيْءٌ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ مَا صَنَعْنَا، فَأَصْبَحَ الْوَلِيدُ مِنْ لَيْلَتِهِ غَادِيًا عَلَى عَمَلِهِ. فَهَدَمَ، وهدم الناس معه حتى انتهى الهدم بهم إلا الْأَسَاسِ - أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَفْضَوْا إِلَى حِجَارَةٍ خُضْرٍ كَالْأَسِنَّةِ آخِذٌ بَعْضُهَا بعضاَ قَالَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ يَرْوِي الْحَدِيثَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ كَانَ يَهْدِمُهَا أَدْخَلَ عَتَلَةً بين حجرين منها ليقلع بها أيضاً أحدهما فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس. (يتبع ... )

(تابع ... 2): تتمة الآية (125): وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ للطائفين ... ... قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ الْقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ جَمَعَتِ الْحِجَارَةَ لِبِنَائِهَا، كُلُّ قَبِيلَةٍ تَجْمَعُ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ بَنَوْهَا حَتَّى بَلَغَ الْبُنْيَانُ مَوْضِعَ الرُّكْنِ يَعْنِي (الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ) فَاخْتَصَمُوا فِيهِ، كُلُّ قَبِيلَةٍ تُرِيدُ أَنْ تَرْفَعَهُ إِلَى مَوْضِعِهِ دُونَ الأُخرى، حَتَّى تَحَاوَرُوا وَتَخَالَفُوا وَأَعَدُّوا لِلْقِتَالِ، فَقَرَّبَتْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً دَمًا، ثما تعاقدوا هم وبنوا عدي

ابن كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ عَلَى الْمَوْتِ وَأَدْخَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي ذَلِكَ الدَّمِ فِي تِلْكَ الْجَفْنَةِ فَسُمُّوا «لَعَقَة الدَّمِ» فَمَكَثَتْ قُرَيْشٌ عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعَ لَيَالٍ أَوْ خَمْسًا، ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ فَتَشَاوَرُوا وَتَنَاصَفُوا، فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الرِّوَايَةِ أن أبا أُمية بن المغيرة - وَكَانَ عامئذٍ أسنَّ قُرَيْشٍ كُلِّهِمْ - قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ فِيمَا تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ، يَقْضِي بَيْنَكُمْ فِيهِ فَفَعَلُوا، فَكَانَ أَوَّلُ دَاخِلٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا الْأَمِينُ رَضِينَا ... هَذَا مُحَمَّدٌ، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم: "هلمَّ إليَّ بثوب، فأُتي بِهِ، فَأَخَذَ الرُّكْنَ - يَعْنِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ - فَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: "لِتَأْخُذْ كُلُّ قبيلة بناحية من الثوب ثم ارْفَعُوهُ جَمِيعًا، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ، وَضَعَهُ هُوَ بِيَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عليه الوحي (الأمين). قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثماني عشر ذراعاً، وكان تُكْسَى الْقَبَاطِيَّ، ثُمَّ كُسِيَتْ بعدُ الْبُرُودَ، وَأَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا الدِّيبَاجَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ (قُلْتُ): ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت فِي أَوَّلِ إِمَارَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بَعْدَ سَنَةِ سِتِّينَ وَفِي آخِرِ وِلَايَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَاصَرُوا ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَحِينَئِذٍ نَقَضَهَا (ابْنُ الزُّبَيْرِ) إِلَى الْأَرْضِ وَبَنَاهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَدْخَلَ فِيهَا الْحِجْرَ وَجَعَلَ لَهَا بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا مُلْصَقَيْنِ بِالْأَرْضِ كَمَا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ خَالَتِهِ عَائِشَةَ أُم المؤمنين عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ مُدَّةَ إِمَارَتِهِ حَتَّى قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ، فَرَدَّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ بِأَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لَهُ بِذَلِكَ، كَمَا قال مسلم عن عطاء: "لمَّا احْتَرَقَ الْبَيْتُ زَمَنَ (يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ) حين غزاها أهل الشام فكان مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ تَرَكَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، حتى قدم الناس الموسم يريد أن يحزبهم أو يجيروهم عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَشِيرُوا عَلِيَّ فِي الْكَعْبَةِ أَنْقُضُهَا ثُمَّ أَبْنِي بِنَاءَهَا أَوْ أُصْلِحُ مَا وهَى منها؟ قال ابن عباس: إنه قد خرق لِي رَأْيٌ فِيهَا أَرَى أَنْ تُصْلِحَ مَا وهَى مِنْهَا وَتَدَعَ بَيْتًا أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وأحجاراً أسلم الناس عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَوْ كَانَ أَحَدُهُمُ احْتَرَقَ بَيْتُهُ مَا رَضِيَ حَتَّى يجدِّده فَكَيْفَ بَيْتُ رَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ؟ إِنِّي مُسْتَخِيرٌ رَبِّي ثَلَاثًا ثُمَّ عَازِمٌ عَلَى أَمْرِي. فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثٌ أَجْمَعَ رَأْيَهُ عَلَى أَنْ يَنْقُضَهَا، فَتَحَامَاهَا النَّاسُ أَنْ يَنْزِلَ بِأَوَّلِ النَّاسِ يَصْعَدُ فِيهِ أَمْرٌ مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى صَعِدَهُ رَجُلٌ فَأَلْقَى مِنْهُ حِجَارَةً. فَلَمَّا لَمْ يَرَهُ النَّاسُ أَصَابَهُ شَيْءٌ تَتَابَعُوا فَنَقَضُوهُ حَتَّى بَلَغُوا بِهِ الْأَرْضَ. فَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَعْمِدَةً يَسْتُرُ عَلَيْهَا السُّتُورَ حَتَّى ارْتَفَعَ بناؤهه. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ حديثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يُقَوِّينِي عَلَى بِنَائِهِ لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الحجر خمسة أذرع ولجعلت له بابً يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ»، قَالَ: فَأَنَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ وَلَسْتُ أَخَافُ النَّاسَ. قال: فزاد خَمْسَةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ حَتَّى أَبْدَى لَهُ أساً فنظر النَّاسُ إِلَيْهِ فَبَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ، وَكَانَ طُولُ الْكَعْبَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا زَادَ فِيهِ اسْتَقْصَرَهُ فَزَادَ فِي طُولِهِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ وَجَعَلَ لَهُ بَابَيْنِ أَحَدُهُمَا يُدْخَلُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ يُخْرَجُ مِنْهُ. فَلَمَّا قُتِل ابْنُ الزُّبَيْرِ كَتَبَ الْحَجَّاجُ إلى عبد الملك يستجيزه بِذَلِكَ، وَيُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ وَضَعَ الْبِنَاءَ عَلَى أسٍّ نَظَرَ إِلَيْهِ الْعُدُولُ مِنْ أهل المكة. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّا لَسْنَا مِنْ تَلْطِيخِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي شَيْءٍ، أَمَّا مَا زَادَهُ فِي طُولِهِ فَأَقِرَّهُ، وَأَمَّا مَا زَادَ فِيهِ مِنَ الحِجْر فَرُدَّهُ إِلَى بِنَائِهِ وَسُدَّ الْبَابَ الذِي فَتَحَهُ، فَنَقَضَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى بِنَائِهِ" (رواه مسلم والنسائي عن عطاء، واللفظُ لمسلم)

وَقَدْ كَانَتِ السُنَّة إِقْرَارَ مَا فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِأَنَّهُ هُوَ الذِي وَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ خَشِيَ أَنْ تُنْكِرَهُ قُلُوبُ بَعْضِ النَّاسِ لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَقُرْبِ عَهْدِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَلَكِنْ خَفِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ على (عبد الملك بن مروان) وَلِهَذَا لَمَّا تَحَقَّقَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا رَوَتْ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَدِدْنَا أَنَّا تَرَكْنَاهُ وَمَا تولى. فَدَلَّ هَذَا عَلَى صَوَابِ مَا فَعَلَهُ ابْنُ الزبير، فلو ترك لكان جيداً. ولكنْ بعدما رَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى هَذَا الْحَالِ فَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يغيَّر عَنْ حَالِهِ، كَمَا ذُكِرَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدِ أَوْ أَبِيهِ الْمَهْدِيِّ، أَنَّهُ سَأَلَ الْإِمَامَ مَالِكًا عَنْ هَدْمِ الْكَعْبَةِ وَرَدِّهَا إِلَى مَا فَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَجْعَلْ كَعْبَةَ اللَّهِ مَلْعَبَةً لِلْمُلُوكِ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يَهْدِمَهَا إِلَّا هَدَمَهَا!! فَتَرَكَ ذلك الرشيد، نقله عياض والنووي. وَلَا تَزَالُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - هَكَذَا إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ إِلَى أَنْ يُخَرِّبَهَا (ذُو السُّويقتين) مِنَ الْحَبَشَةِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ من الحبشة». وعن ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَأَنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ يَقْلَعُهَا حجراً حجراً» وعن مجاهد عن عبد الله بن عمرو ابن الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ وَيَسْلُبُهَا حِلْيَتَهَا وَيُجَرِّدُهَا مِنْ كُسْوَتِهَا، وَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ أُصَيْلع، أُفَيْدع، يضرب عليها بمسحاته ومعوله» (رواه أحمد. والفَدْع: زيغٌ بَيْنَ الْقَدَمِ وَعَظْمِ السَّاقِ) وَهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لما جاء في صحجيح الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليُحجَنَّ البيتُ وليُعتَمرنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ». وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً لِدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِيَانِ بِذَلِكَ وَاجْعَلْنَا مُسْتَسْلِمِينَ لِأَمْرِكَ، خَاضِعِينَ لِطَاعَتِكَ، لَا نُشْرِكُ مَعَكَ فِي الطَّاعَةِ أَحَدًا سِوَاكَ، وَلَا فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَكَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} يَعْنِيَانِ الْعَرَبَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَعُمُّ الْعَرَبَ وَغَيْرَهُمْ، لِأَنَّ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}. (قُلْتُ) وَهَذَا الذِي قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لَا ينفيه السدي فإن تخصيصهم بذلك لا ينفقي مَنْ عَدَاهُمْ، وَالسِّيَاقُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَرَبِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ويعلِّمهم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} الْآيَةَ. وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ بُعِثَ فِيهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً منهم}، ومع هذا لا ينفي رسلاته إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَهَذَا الدُّعَاءُ من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}.

وَهَذَا الْقَدْرُ مَرْغُوبٌ فِيهِ شَرْعًا فإنَّ مِنْ تَمَامِ مَحَبَّةِ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُحِبَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ صُلْبِهِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} قَالَ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الاصنام} وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صدقةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ ولدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ". {وأرنا ناسكنا} قال عطاء: أخرجها لنا، علمناها، وقال مجاهد: {أرنا مَنَاسِكَنَا} مذابحنا. وقال أبو داود الطيالسي عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُري أَوَامِرَ الْمَنَاسِكِ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَسْعَى، فَسَابَقَهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى بِهِ (مِنًى) فقال: هذا مناخ الناس، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى (جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ) تَعَرَّضَ لَهُ الشَّيْطَانُ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ أتى به إلى (الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى) فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذهب، ثم أتى به إلى (الْجَمْرَةَ الْقُصْوَى) فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، فَأَتَى بِهِ جَمْعًا فَقَالَ: هَذَا الْمَشْعَرُ، ثُمَّ أَتَى بِهِ عَرَفَةَ فَقَالَ: هذه عرفة، فقال له جبريل: أعرفت؟ " (أخرجه الطيالسي عن ابن عباس).

- 129 - رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ تَمَامِ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَهْلِ الْحَرَمِ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، أَيْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ وَافَقَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ الْمُسْتَجَابَةُ قَدَرَ اللَّهِ السَّابِقَ فِي تَعْيِينِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه رسولاً في الأميين إليهم، وإلى سائر الأعجميين مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنْبِئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ، دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى بِي، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ، وكذلك أُمَّهات النبيين يرين» (رواهما الإمام أحمد في مسنده) وقال أبو أمامة قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ أَوَّلُ بَدْءِ أَمْرِكَ؟ قَالَ: «دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى بِي، وَرَأَتْ أُمي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نورٌ أضاءت له قصور الشام» (رواهما الإمام أحمد في مسنده) وَالْمُرَادُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ نَوَّهَ بِذِكْرِهِ وَشَهَرَهُ فِي النَّاسِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ يَزَلْ ذِكْرُهُ فِي النَّاسِ مَذْكُورًا مَشْهُورًا سَائِرًا، حَتَّى أَفْصَحَ بِاسْمِهِ خَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَسَبًا وهو (عيسى بن مَرْيَمَ) عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ خَطِيبًا، وَقَالَ: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أحمد}، وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: دَعْوَةُ أَبِي إبراهيم وبشرى عيسى بن مَرْيَمَ. وَقَوْلُهُ: «وَرَأَتْ أُمي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ» قِيلَ: كَانَ مَنَامًا رَأَتْهُ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ وقصَّته عَلَى قَوْمِهَا، فَشَاعَ فِيهِمْ وَاشْتَهَرَ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً! وتخصيصُ الشَّامِ بِظُهُورِ نُورِهِ إِشَارَةٌ -[130]- إِلَى استقرار دينه ونبوته بِبِلَادِ الشَّامِ، وَلِهَذَا تَكُونُ الشَّامُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَعْقِلًا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَبِهَا يَنْزِلُ (عِيسَى ابن مريم) إذا نزل بدمشق بمنارة الشَّرْقِيَّةِ الْبَيْضَاءِ مِنْهَا، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» وَفِي صحيح البخاري «وهم بالشأم». قَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} يَعْنِي أُمّة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ له: قد استجيب لك وهو كائن في آخر الزمان، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} يَعْنِي الْقُرْآنَ، {وَالْحِكْمَةَ} يعني السنة، قاله الحسن وقتادة، وَقِيلَ: الْفَهْمُ فِي الدِّينِ، وَلَا مُنَافَاةَ {وَيُزَكِّيهِمْ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي طَاعَةَ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصَ، وَقَالَ محمد بن إسحاق: {وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة}: يعلمهم الخير فيفعلوه والشر فيقوه، ويخبرهم برضا الله عنهم إذا أطاعوه ليستكثروا من طاعته ويجتنبوا ما يسخطه مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أَيِ الْعَزِيزُ الذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ وأقواله فيضع الأشياء في محالها لعلمه وحكمته وعدله.

- 130 - وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ - 131 - إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - 132 - وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مسلمون يقول تعابرك وَتَعَالَى رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ فِيمَا ابْتَدَعُوهُ وَأَحْدَثُوهُ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، الْمُخَالِفِ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ، فَإِنَّهُ جرَّد تَوْحِيدَ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَمْ يَدْعُ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ سَائِرَ قَوْمِهِ، حَتَّى تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ، فَقَالَ: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فطر السموات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ* إِلاَّ الذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ، فَلَمَّا تبيَّن لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ. إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مستقيم}، وَلِهَذَا وَأَمْثَالِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}؟ أَيْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِسَفَهِهِ وَسُوءِ تَدْبِيرِهِ، بِتَرْكِهِ الْحَقَّ إِلَى الضَّلَالِ، حَيْثُ خَالَفَ طَرِيقَ مَنِ اصْطُفِيَ فِي الدُّنْيَا لِلَّهِدَايَةِ وَالرَّشَادِ مِنْ حَدَاثَةِ سِنِّهِ إِلَى أَنِ اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الصالحين السعداء، فمن ترك طريقه هذا وملكه وَمِلَّتَهُ، وَاتَّبَعَ طُرُقَ الضَّلَالَةِ وَالْغَيِّ فأيُّ سَفَهٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا؟ أَمْ أَيُّ ظُلْمٍ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} قال أبو العالية وقتادة: نزلت فِي الْيَهُودِ أَحْدَثُوا طَرِيقًا لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه، وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إن أولى اللناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين}. -[131]- وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْإِخْلَاصِ لَهُ وَالِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ شَرْعًا وَقَدَرًا وَقَوْلُهُ: {وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} أَيْ وَصَّى بِهَذِهِ الْمِلَّةِ وَهِيَ الْإِسْلَامُ لِلَّهِ، أَوْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الْكَلِمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} لِحِرْصِهِمْ عَلَيْهَا وَمَحَبَّتِهِمْ لَهَا حَافَظُوا عَلَيْهَا إِلَى حِينِ الْوَفَاةِ وَوَصَّوْا أبناءهم مِنْ بَعْدِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ إِسْحَاقَ وُلِدَ لَهُ (يَعْقُوبُ) فِي حَيَاةِ الْخَلِيلِ وَسَارَّةُ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ وقعت بهما في قوله: {فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب}، أيضا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحق وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب} الْآيَةَ. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أسحق ويعقوب نافلة}، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ وُجِدَ فِي حَيَاتِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ بَانِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «بَيْتُ الْمَقْدِسِ»، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا: قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً» الْحَدِيثَ فَزَعَمَ ابْنُ حبان أن بين سليمان الذي اعتقد بأنه باني بيت المقدس إنما كَانَ جَدَّدَهُ بَعْدَ خَرَابِهِ وَزَخْرَفَهُ - وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهَذَا مِمَّا أُنْكِرَ عَلَى (ابْنِ حيان) فإن المدة بينهما تزيد على ألوف السنين والله أعلم، وأيضاً فإن وَصِيَّةِ يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا قَرِيبًا، وَهَذَا يدل على أنه ههنا مِنْ جُمْلَةِ الْمُوصِينَ. وَقَوْلُهُ: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} أي أحسنوا في حلا الْحَيَاةِ، وَالزَمُوا هَذَا لِيَرْزُقَكُمُ اللَّهُ الْوَفَاةَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَرْءَ يَمُوتُ غَالِبًا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْكَرِيمُ عَادَتَهُ بِأَنَّ مَنْ قَصَدَ الْخَيْرَ وُفِّق لَهُ وَيُسِّرَ عَلَيْهِ، وَمَنْ نَوَى صَالِحًا ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا بَاعٌ أَوْ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا»، لِأَنَّهُ قد جاء في بعض الروايات هذا الحديث: ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وبعمل أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بالحسنى فسنيسره للعسرى}.

- 133 - أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ - 134 - تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُحْتَجًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ أَبْنَاءِ إِسْمَاعِيلَ، وَعَلَى الْكُفَّارِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بأن يعقوب لما حضرته والوفاة، وَصَّى بَنِيهِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَقَالَ لَهُمْ: {مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي؟ قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وإسحق}، وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ عَمُّهُ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْعَرَبُ تُسَمِّي -[132]- الْعَمَّ أَبًا نَقَلَهُ القرطبي، وقد استدل بهذه الآية الكريمة مِنْ جَعَلَ الْجِدَّ أَبًا وَحَجَبَ بِهِ الْإِخْوَةَ - كَمَا هُوَ قَوْلُ الصَّدِيقِ - حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: {إِلَهًا وَاحِداً} أَيْ نُوَحِّدُهُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَلَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا غَيْرُهُ، {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أَيْ مُطِيعُونَ خَاضِعُونَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن في السموات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وإليه يرجعون}. وَالْإِسْلَامُ هُوَ مِلَّةُ الْأَنْبِيَاءِ قَاطِبَةً وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ وَاخْتَلَفَتْ مَنَاهِجُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} أَيْ مَضَتْ، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} أَيْ إِنَّ السَّلَفَ الْمَاضِينَ مِنْ آبَائِكُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَالِحِينَ لَا يَنْفَعُكُمُ انْتِسَابُكُمْ إِلَيْهِمْ إِذَا لَمْ تَفْعَلُوا خَيْرًا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ لَهُمْ أَعْمَالَهُمُ التِي عملوها ولكم أعمالكم {ولا تسئلون عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عمله لم يسرع به نسبه (قد يطلق الأثر على ما يشمل الحديث المرفوع لأنه رواه مسلم مرفوعاً من حديث طويل عن أبي هريرة».

- 135 - وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا الْأَعْوَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الْهُدَى إِلَّا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ فَاتَّبِعْنَا يَا مُحَمَّدُ تهتدِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ (رواه ابن اسحق عن عكرمة عن ابن عباس)}، وقوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} أَيْ لَا نُرِيدُ ما دعوتمونا إِلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ بَلْ نَتَّبِعُ {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} أي مستقيماً، وقال مجاهد: مخلصاً، وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: الْحَنِيفُ الذِي يُؤْمِنُ بِالرُّسُلِ كلهم من أولهم إلى آخرهم.

- 136 - قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أَرْشَدَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَصَّلًا وما أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مُجْمَلًا، وَنَصَّ عَلَى أَعْيَانٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَأَجْمَلَ ذِكْرَ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنْ لَا يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بَلْ يُؤْمِنُوا بِهِمْ كُلِّهِمْ، وَلَا يَكُونُوا كَمَنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً* أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} الآية. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسروها بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسلام، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ الله» (رواه البخاري عن أبي هريرة.) -[133]- وقال أبو العالية وَقَتَادَةُ: (الْأَسْبَاطُ) بَنُو يَعْقُوبَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَلَدَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ فسموا الأسباط وقال الخليل بن أحمد: الأسباط من بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْقَبَائِلِ فِي بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَقَالَ الزمخشري: الأسباط حفدة يعقوب ذراري أَبْنَائِهِ الِاثْنَى عَشَرَ، وَقَدْ نَقَلَهُ الرَّازِيُّ عَنْهُ وَقَرَّرَهُ وَلَمْ يُعَارِضْهُ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: الْأَسْبَاطُ قَبَائِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَسْبَاطِ ههنا شعوب بني إسرائيل، وما أنزل الله مِنَ الْوَحْيِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمَوْجُودِينَ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ مُوسَى لَهُمْ: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وجعلكم ملوكا} الآية. وقال تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أسباطا} قال الْقُرْطُبِيُّ: وَسُمُّوا الْأَسْبَاطَ مِنَ السِّبْطِ وَهُوَ التَّتَابُعُ فهم جماعة، وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ السَبَط بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الشَّجَرُ أي فِي الْكَثْرَةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرِ، الواحدةُ سَبْطَةٌ. قَالَ الزجاج: ويبين لك هذا ما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا عَشَرَةً: (نُوحٌ، وَهُودٌ، وَصَالِحٌ، وشعيب، وإبراهيم، وَإِسْحَاقُ، وَيَعْقُوبُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَمُحَمَّدٌ) عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالسِّبْطُ الْجَمَاعَةُ وَالْقَبِيلَةُ الرَّاجِعُونَ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيُصَدِّقُوا بِكُتُبِهِ كُلِّهَا وَبِرُسُلِهِ.

- 137 - فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - 138 - صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابدون يقول تعالى: {فإن آمَنُواْ} يعني الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ {بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} يا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ {فَقَدِ اهْتَدَوْا} أَيْ فَقَدْ أَصَابُوا الْحَقَّ وَأَرْشَدُوا إِلَيْهِ. {وَّإِن تَوَلَّوْاْ} أَيْ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فسيكفيكم اللَّهُ} أَيْ فَسَيَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ وَيُظْفِرُكَ بِهِمْ {وَهُوَ السميع العليم}. {صِبْغَةَ اللَّهِ} قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: دين الله وقد ورد عن ابن عباس أَنَّ نبيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن بني إسرائيل قالوا يا رسول الله هَلْ يَصْبُغُ رَبُّكَ؟ فَقَالَ اتَّقُوا اللَّهَ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ يَا مُوسَى سَأَلُوكَ هَلْ يَصْبُغُ رَبُّكَ؟ فَقُلْ نَعَمْ: أَنَا أَصْبُغُ الْأَلْوَانَ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ والأسود والألوان كلها من صبغي"، كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مَرْفُوعًا وَهُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مَوْقُوفٌ وَهُوَ أَشْبَهُ إِنْ صَحَّ إِسْنَادُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

- 139 - قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ - 140 - أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ - 141 - تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مُرْشِدًا نَبِيَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِلَى دَرْءِ مُجَادِلَةِ الْمُشْرِكِينَ: {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ} -[134]- أَيْ تناظروننا فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَالِانْقِيَادِ، وَاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ، وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} الْمُتَصَرِّفُ فِينَا وَفِيكُمُ، الْمُسْتَحِقُّ لِإِخْلَاصِ الْإِلَهِيَّةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أَيْ نَحْنُ بُرَآءُ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ وَأَنْتُمْ بُرَآءُ مِنَّا كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الخرى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعني} الآية. وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجوني في الله} الآية. وقال تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ في ربه} الآية. وقال في هذه الآية الكريمة: {ولنا أعمالكنا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} أَيْ نَحْنُ بُرَآءُ مِنْكُمْ كَمَا أَنْتُمْ بُرَآءُ مِنَّا، وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَيْ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّوَجُّهِ. ثُمَّ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَسْبَاطِ كَانُوا عَلَى مِلَّتِهِمْ، إِمَّا الْيَهُودِيَّةُ وَإِمَّا النَّصْرَانِيَّةُ فَقَالَ: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أم الله}؟ يعين بَلِ اللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يكونوا هوداً ولا نصارى كما كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ من المشركين}. وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله} قال الحسن البصري: كانوا يقرأون فِي كِتَابِ اللَّهِ الذِي أَتَاهُمْ إِنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامُ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا بُرَآءَ مِنَ اليهودية والنصرانية، فشهدوا لله بذلك وأقروا على أنفسهم الله، فكتموا شهادة الله عنهم مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ: أَيْ أَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بعلمكم وسيجزيكم ليه، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} أَيْ قَدْ مَضَتْ {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} أَيْ لَهُمْ أَعْمَالُهُمْ وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ {ولا تسئلون عما كانوا يعلمون} وليس بغني عَنْكُمُ انْتِسَابُكُمْ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ مُتَابِعَةٍ مِنْكُمْ لَهُمْ، وَلَا تَغْتَرُّوا بِمُجَرَّدِ النِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ حَتَّى تكونوا منقادين مثلهم لأوام الله، واتباع رسله الذي بُعِثُوا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ كَفَرَ بِنَبِيٍّ وَاحِدٍ فَقَدْ كَفَرَ بِسَائِرِ الرُّسُلِ، وَلَا سِيَّمَا بِسَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ وَخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ، وَرَسُولِ رَّبِّ الْعَالَمِينَ إلى جميع الإنس والجن من الْمُكَلَّفِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ.

- 142 - سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قبلتهم التي كانوا عَلَيْهَا قُل للَّهِ المشرق وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - 143 - وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بالناس لرؤوف رحيم قيل: المراد بالسفهاء ههنا مُشْرِكُو الْعَرَبِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: أَحْبَارُ يَهُودَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقِيلَ: الْمُنَافِقُونَ قَالَهُ السُّدي، وَالْآيَةُ عامة في هؤلاء كلهم، والله أعلم. عن البراء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَاهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ -[135]- لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَل مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قَبِلَ الْبَيْتِ وَكَانَ الذِي قد مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَل الْبَيْتِ رِجَالًا قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فيهم فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رحيم (رواه البخاري وأخرجه مسلم من وجه آخر)} وعن الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيُكْثِرُ النَّظَرَ إِلَى السَّمَاءِ يَنْتَظِرُ أَمْرَ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شرط الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَقَالَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: وَدِدْنَا لَوْ عَلِمْنَا عِلْمَ مَنْ مَاتَ مِنَّا قَبْلَ أَنْ نُصْرف إِلَى الْقِبْلَةِ، وَكَيْفَ بِصَلَاتِنَا نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ - وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ - مَا ولاَّهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ التِي كَانُوا عَلَيْهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ الناس (رواه ابن أبي حاتم)} إلى آخر الآية. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ، فَكَانَ يَدْعُو اللَّهَ وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} أَيْ نَحْوَهُ، فَارْتَابَ مِنْ ذَلِكَ الْيَهُودُ وَقَالُوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ التِي كَانُوا عَلَيْهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قُل للَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم)} وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَحَاصِلُ الْأَمْرِ: أَنَّهُ قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِر بِاسْتِقْبَالِ الصَّخْرَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَكَانَ بِمَكَّةَ يُصَلِّي بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ فَتَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهِ الْكَعْبَةُ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بيت المقدس قاله ابن عباس والجمهور. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة واستمر الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُكْثِرُ الدُّعَاءَ وَالِابْتِهَالَ أَنْ يُوَجَّه إِلَى الْكَعْبَةِ التِي هِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ وَأُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فأعلمهم بِذَلِكَ، وَكَانَ أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَاهَا إِلَيْهَا صَلَاةُ العصر كما تقدم في الصحيحين. وذكر غير واحد من المفسِّرين أن تحويل القبلة نزل على رسول الله وقد صلى ركعتين من الظهر وذلك في مسجد بني سلمة: فسمي (مسجد القبلتين) وَأَمَّا أَهْلُ قُبَاءَ فَلَمْ يَبْلُغْهُمُ الْخَبَرُ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: "بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلَاةِ الصبح إذا جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِل عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمر أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ" (أخرجه الشيخان عن ابن عمر) وَلَمَّا وَقَعَ هَذَا حَصَلَ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ وَالْكَفَرَةِ مِنَ الْيَهُودِ ارتيابٌ وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك، وقالو: {مَا ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} أي قالوا: مَا لِهَؤُلَاءِ تَارَةً يَسْتَقْبِلُونَ كَذَا وَتَارَةً يَسْتَقْبِلُونَ كَذَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَوَابَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {قُل للَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أَيِ الْحُكْمُ وَالتَّصَرُّفُ وَالْأَمْرُ كله لله، {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} أَيِ الشَّأْنُ، كُلُّهُ فِي امْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ، فَحَيْثُمَا وَجَّهْنَا تَوَجَّهْنَا، فَالطَّاعَةُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَلَوْ وَجَّهَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مراتٍ إِلَى جهات متعددة فنحن عبيده، وَهُوَ تَعَالَى لَهُ بِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ -[136]- اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وأُمته عِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ، إِذْ هَدَاهُمْ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، وَجَعَلَ توجههم إلى الكعبة أَشْرَفَ بُيُوتِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، إِذْ هِيَ بِنَاءُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِهَذَا قَالَ: {قُل للَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ}. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: «إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى يَوْمِ الْجُمْعَةِ التِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لَهَا، وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ آمين (رواه الإمام أحمد عن عائشة مرفوعاً)» وقوله تعالى: {كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}، يَقُولُ تَعَالَى إِنَّمَا حولناكم على قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاخْتَرْنَاهَا لَكُمْ لَنَجْعَلَكُمْ خِيَارَ الأُمم لِتَكُونُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُهَدَآءَ عَلَى الأُمم، لِأَنَّ الْجَمِيعَ مُعْتَرِفُونَ لَكُمْ بِالْفَضْلِ، والوسطُ ههنا: الْخِيَارُ وَالْأَجْوَدُ، كَمَا يُقَالُ: قُرَيْشٌ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا أَيْ خَيْرُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَطًا فِي قَوْمِهِ، أي أشرفهم نسباً، ومنه (الصلاة الوسطى) وهي العصر، وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَسَطًا خصَّها بِأَكْمَلِ الشَّرَائِعِ، وَأَقْوَمِ الْمَنَاهِجِ وَأَوْضَحِ الْمَذَاهِبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حرَج مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس}. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ هَلْ بلَّغت؟ فَيَقُولُ نَعَمْ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ، فَيُقَالُ لِنُوحٍ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، قَالَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال: والوسط الْعَدْلُ فَتُدْعَوْنَ فَتَشْهَدُونَ لَهُ بِالْبَلَاغِ ثُمَّ أَشْهَدُ عليكم (رواه البخاري والترمذي والنسائي) " وعن أبي سعيد الخدري قال: قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "يجيء النبي يوم القيامة وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فيقال: هَلْ بلَّغكم هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا فَيُقَالُ لَهُ: هل بلغت قومك؟ فيقول نعم: فيقال مَنْ يَشْهَدُ لَكَ، فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَيُدْعَى محمد وَأُمَّتِهِ: فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ بَلَّغَ هَذَا قَوْمَهُ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيُقَالُ وَمَا عِلْمُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ جَاءَنَا نبينا فَأَخْبَرَنَا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قَالَ عَدْلًا {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شهيدا} (رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري مَرْفُوعًا) " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا وأُمتي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى كَوْمٍ مُشْرِفِينَ عَلَى الْخَلَائِقِ مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا ودَّ أَنَّهُ مِنَّا، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ إِلَّا وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ رسالة ربه عز وجل» (رواه ابن مرد

- 144 - قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِبْلَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ -[138]- أَكْثَرُ أَهْلِهَا الْيَهُودَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ، فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ، فَكَانَ يَدْعُو اللَّهِ وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} فارتابت مِنْ ذَلِكَ الْيَهُودُ، وَقَالُوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قبلتهم التي كَانُواْ عَلَيْهَا؟ قُل للَّهِ المشرق والمغرب}. وَقَالَ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}، وَقَالَ الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة لتي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَفَعَ رَأْسَهَ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إِلَى الْكَعْبَةِ، إِلَى الْمِيزَابِ يؤم به جبريل عليه السلام (أخرجه الحافظ ابن مردويه عن ابن عباس) وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قَالَ: شَطْرَهُ قِبَله (أخرجه الحاكم عن علي بن أبي طالب وقال: صحيح الإسناد)، ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «البيت قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ، والمسجدُ قبلةٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ، وَالْحَرَمُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ فِي مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا من أمتي». وعن الْبَرَاءِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْعَصْرِ وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ ممَّن كَانَ يُصَلِّي معه مر عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَل مَكَّةَ فَدَارُوا كَمَا هم قِبَل البيت (أخرجه أبو نعيم عن البراء بن عازب). وقال عبد الرزاق عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أَنْ يُحَوَّلَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَنَزَلَتْ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} فصرف إلى الكعبة. وعن أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَى قَالَ: "كُنَّا نَغْدُو إِلَى الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَنُصَلِّي فِيهِ، فَمَرَرْنَا يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقُلْتُ لَقَدْ حَدَثَ أَمْرٌ فَجَلَسْتُ، فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ، فَقُلْتُ لِصَاحِبِي تَعَالَ نَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَكُونَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى فَتَوَارَيْنَا فَصَلَّيْنَاهُمَا، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وصلى للناس الظهر يومئذ (رواه النسائي عن أبي سعيد بن المعلّى) " وَكَذَا رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْكَعْبَةِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَأَنَّهَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَاهَا إِلَى الْكَعْبَةِ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَلِهَذَا تَأَخَّرَ الْخَبَرُ عَنْ أَهْلِ قُبَاءَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ، وقال الحافظ ابن مردويه عن نُوَيْلَةَ بِنْتِ مُسْلِمٍ قَالَتْ: صَلَّيْنَا الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ فِي مَسْجِدِ بَنِي حَارِثَةَ، فَاسْتَقْبَلْنَا مَسْجِدَ (إِيلِيَاءَ) فَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ مَنْ يُحَدِّثُنَا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِ اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ فَتَحَوَّلَ النِّسَاءُ مَكَانَ الرِّجَالِ وَالرِّجَالُ مَكَانَ النِّسَاءِ فَصَلَّيْنَا السَّجْدَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ وَنَحْنُ مُسْتَقْبِلُونَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، فَحَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أولئك رجال يؤمنون بالغيب»، وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} أَمَرَ تَعَالَى بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْأَرْضِ، شَرْقًا وَغَرْبًا، وَشَمَالًا وَجَنُوبًا، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا شَيْءٌ سِوَى النَّافِلَةِ فِي حَالِ السَّفَرِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا حَيْثُمَا تَوَجَّهَ قَالَبُهُ وَقَلْبُهُ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، وَكَذَا فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ فِي الْقِتَالِ يُصَلِّي عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَذَا مَنْ جَهِلَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ يُصَلِّي بِاجْتِهَادِهِ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا. -[139]- (مَسْأَلَةٌ) وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْظُرُ أَمَامَهُ لَا إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وأحمد وأبو حنيفة، قال المالكية بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَلَوْ نَظَرَ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ لَاحْتَاجَ أَنْ يَتَكَلَّفَ ذَلِكَ بِنَوْعٍ مِنَ الِانْحِنَاءِ وَهُوَ يُنَافِي كَمَالَ الْقِيَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْظُرُ الْمُصَلِّي فِي قِيَامِهِ إِلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي: يَنْظُرُ فِي حَالِ قِيَامِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ كَمَا قَالَ جُمْهُورُ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْخُضُوعِ وَآكَدُ فِي الْخُشُوعِ، وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَأَمَّا فِي حَالِ رُكُوعِهِ فَإِلَى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ، وَفِي حَالِ سُجُودِهِ إِلَى مَوْضِعِ أَنْفِهِ، وَفِي حَالِ قُعُودِهِ إلى حِجْره. وقوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} أَيْ وَالْيَهُودُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا اسْتِقْبَالَكُمُ الْكَعْبَةَ وَانْصِرَافَكُمْ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُوَجِّهُكَ إِلَيْهَا بِمَا فِي كُتُبِهِمْ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ مِنَ النَّعْتِ وَالصِّفَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ، وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وشرَّفه مِنَ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَّةِ الْعَظِيمَةِ، ولكنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَتَكَاتَمُونَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ حسداً وكفراً وعناداً ولهذا تهددهم تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}.

- 145 - وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَعِنَادِهِمْ، وَمُخَالَفَتِهِمْ مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ عَلَيْهِمْ كُلَّ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ لَمَا اتَّبَعُوهُ وَتَرَكُوا أَهْوَاءَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ* وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم}، ولهذا قال ههنا: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ}، وَقَوْلُهُ: {وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} إِخْبَارٌ عَنْ شِدَّةِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَنَّهُ كَمَا هُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِآرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، فَهُوَ أَيْضًا مُسْتَمْسِكٌ بِأَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَرْضَاتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ أَهْوَاءَهُمْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، ولا كونه متوجهاً إلى بيت المقدس لكونها قِبْلَةُ الْيَهُودِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تعالى، ثم حذَّر تَعَالَى عَنْ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ الذِي يَعْلَمُهُ الْعَالِمُ إِلَى الْهَوَى، فَإِنَّ الْعَالِمَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَقْوَمُ مِنْ غَيْرِهِ. وَلِهَذَا قَالَ مُخَاطِبًا لِلرَّسُولِ وَالْمُرَادُ به الأمة: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين}.

- 146 - الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ - 147 - الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَ صِحَّةَ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كَمَا يَعْرِفُ أَحَدُهُمْ وَلَدَهُ، وَالْعَرَبُ -[140]- كَانَتْ تَضْرِبُ الْمِثْلَ فِي صِحَّةِ الشَّيْءِ بِهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ مَعَهُ صَغِيرٌ: «ابْنُكُ هَذَا»؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشْهَدُ به، قال: «أما أنه لا يخفى عليك ولا تخفى عليه» ويروى عن عمر أنه قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: أَتَعْرِفُ مُحَمَّدًا كما تعرف ولدك؟ قال: نعم وأكثر، نظل الْأَمِينُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَمِينِ فِي الْأَرْضِ بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه (قُلْتُ): وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} من بين أبناء الناس كلهم، لا يشك أحد ولا يمتري في معرفة ابنه إذا رآه من أَبْنَاءِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا التَّحَقُّقِ وَالْإِتْقَانِ الْعِلْمِيِّ، {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} أَيْ لَيَكْتُمُونِ النَّاسَ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، ثم ثبَّت تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْحَقُّ الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ فَقَالَ: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.

- 148 - وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ عن ابن عباس: {وَلِكُلٍّ وجهة هو مولياها} يعني بذلك أهل الأديان، يقول لكل قبيلة قبلةٌ يَرْضَوْنَهَا، وَوِجْهَةُ اللَّهِ حَيْثُ تَوَجَّهَ الْمُؤْمِنُونَ، وقال أبو العالية: لليهود وجهة هو موليها، وللنصارى وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا، وَهَدَاكُمْ - أَنْتُمْ أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ - إلى القبلة التي هي القبلة. وقال الحسن: أَمَرَ كُلَّ قَوْمٍ أَنْ يُصَلُّوا إِلَى الْكَعْبَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ ليبلوكم فيما آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}، وقال ههنا: {أينما تكونوا يأتب بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى جَمْعِكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِنْ تَفَرَّقَتْ أَجْسَادُكُمْ وَأَبْدَانُكُمْ.

- 149 - وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ - 150 - وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ هَذَا أَمْرٌ ثَالِثٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِاسْتِقْبَالِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حِكْمَةِ هَذَا التَّكْرَارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقِيلَ: تَأْكِيدٌ لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَاسِخٍ وَقَعَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مُنَزَّلٌ عَلَى أَحْوَالِ، فَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ لِمَنْ هُوَ مُشَاهِدٌ الْكَعْبَةَ، وَالثَّانِي لِمَنْ هُوَ فِي مَكَّةَ غَائِبًا عَنْهَا، وَالثَّالِثُ لِمَنْ هُوَ فِي بَقِيَّةِ الْبُلْدَانِ هَكَذَا وجَّهه فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَوَّلُ لِمَنْ هُوَ بِمَكَّةَ، وَالثَّانِي لِمَنْ هُوَ فِي بَقِيَّةِ الأمصار، والثالث لمن خرج في الأسفار، وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِتَعَلُّقِهِ بِمَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ مِنَ السِّيَاقِ، فَقَالَ أَوَّلًا: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}، فَذَكَرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِجَابَتَهُ إِلَى طَلَبَتِهِ وَأَمْرِهِ بِالْقِبْلَةِ -[141]- التِي كَانَ يَوَدُّ التَّوَجُّهَ إِلَيْهَا وَيَرْضَاهَا وَقَالَ فِي الْأَمْرِ الثَّانِي: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، فذكر إِنَّهُ الحق مِن الله وارتقاءه الْمَقَامِ الْأَوَّلِ حَيْثُ كَانَ مُوَافِقًا لِرِضَا الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ الْحَقُّ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ يُحِبُّهُ وَيَرْتَضِيهِ، وَذَكَرَ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ حِكْمَةُ قَطْعِ حُجَّةِ الْمُخَالَفِ مِنَ اليهود الذين كان يَتَحَجَّجُونَ بِاسْتِقْبَالِ الرَّسُولِ إِلَى قِبْلَتِهِمْ وَقَدْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ سَيُصْرَفُ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَكَذَلِكَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ انْقَطَعَتْ حُجَّتُهُمْ لَمَّا صُرِفَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِبْلَةِ الْيَهُودِ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ التِي هِيَ أَشْرَفُ، وَقَدْ كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول إِلَيْهَا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْوِبَةِ عَنْ حكمة التكرار، وقد بسطها الرازي وغيره، والله أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} أَيْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مِنْ صِفَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَإِذَا فَقَدُوا ذَلِكَ مِنْ صِفَتِهَا رُبَّمَا احْتَجُّوا بِهَا عَلَى المسلمين، ولئلا يَحْتَجُّوا بِمُوَافَقَةِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَذَا أَظْهَرُ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} يَعْنِي بِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ حِينَ قَالُوا: صُرِفَ مُحَمَّدٌ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَقَالُوا: اشْتَاقَ الرَّجُلُ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ وَدِينِ قَوْمِهِ. وَكَانَ حُجَّتُهُمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصِرَافَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَنْ قَالُوا: سَيَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا كَمَا رَجَعَ إلى قبلتنا. قَوْلِهِ: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} يَعْنِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَوَجَّهَ بَعْضُهُمْ حُجَّةَ الظَّلَمَةِ وَهِيَ دَاحِضَةٌ أَنْ قَالُوا: إنَّ هَذَا الرَّجُلُ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنْ كَانَ تَوَجُّهُهُ إِلَى بيت المقدس على ملة إبراهيم فلم يرجع عَنْهُ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ لَهُ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلًا، لِمَا لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، فَأَطَاعَ رَبَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ، ثُمَّ صَرَفَهُ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ وَهِيَ الْكَعْبَةُ، فَامْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَهُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، لَا يَخْرُجُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأُمَّتُهُ تبعٌ لَهُ. وَقَوْلُهُ: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} أَيْ لَا تَخْشَوْا شُبَهَ الظَّلَمَةِ الْمُتَعَنِّتِينَ وَأَفْرِدُوا الْخَشْيَةَ لِي، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ أَهْلُ أَنْ يُخْشَى مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} عَطْفٌ عَلَى {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}، أي لأتم نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِيمَا شَرَعْتُ لَكُمْ مِنَ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ لِتَكْمُلَ لَكُمُ الشَّرِيعَةُ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهَا، {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أَيْ إِلَى مَا ضَلَّتْ عَنْهُ الْأُمَمُ هَدَيْنَاكُمْ إِلَيْهِ وَخَصَصْنَاكُمْ بِهِ، وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَشْرَفَ الْأُمَمِ وَأَفْضَلَهَا.

- 151 - كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ - 152 - فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ يذكِّر تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بِعْثَةِ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ {وَيُزَكِّيهِمْ} أَيْ يُطَهِّرُهُمْ مِنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ، وَدَنَسِ النُّفُوسِ وَأَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلَمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَالْحِكْمَةَ وَهِيَ السُّنَّةُ، ويعلِّمهم مَا لَمْ يَكُونُواْ يَعْلَمُونَ، فَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْجَهْلَاءَ يُسفِّهون بالقول القُرّاء، فَانْتَقَلُوا بِبَرَكَةِ رِسَالَتِهِ، وَيُمْنِ سِفَارَتِهِ، إِلَى حَالِ الْأَوْلِيَاءِ، وَسَجَايَا الْعُلَمَاءِ، فَصَارُوا أَعْمَقَ النَّاسِ عِلْمًا، وَأَبَرَّهُمْ قُلُوبًا، وَأَقَلَّهُمْ تَكَلُّفًا، وَأَصْدَقَهُمْ لَهْجَةً. وَقَالَ تعالى: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا -[142]- مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} الآية. وَذَمَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِنِعْمَةِ اللَّهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا نَدَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَمُقَابَلَتِهَا بِذِكْرِهِ وشكره. وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ} يقول: كما فعلتُ فاذكروني. قال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَشْكُرُكَ؟ قَالَ لَهُ رَبُّهُ: «تَذْكُرُنِي وَلَا تَنْسَانِي فَإِذَا ذَكَرْتَنِي فَقَدْ شكرتني، وإذ نسيتني فقد كفرتني» قال الحسن البصري: إِنَّ اللَّهَ يَذْكُرُ مَنْ ذَكَرَهُ، وَيَزِيدُ مَنْ شَكَرَهُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ كَفَرَهُ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ في قوله تعالى: {اتقوو الله حَقَّ تُقَاتِهِ} هُوَ «أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، ويُذكر فَلَا يُنْسى، ويُشْكَر فلا يُكْفر» وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} اذكروني فيما افترضت عليكم اذكركم فيا أوجبت لكم على نفسي، عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: اذْكُرُونِي بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِمَغْفِرَتِي، وفي رواية برحمتي. وفي الصَّحِيحِ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَن ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، ومَن ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خير منه» وعن أنَس قال: قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا ابْنَ آدَمَ إِنْ ذَكَرْتَنِي فِي نَفْسِكَ ذَكَرْتُكَ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرْتَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُكَ فِي مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ - أَوْ قَالَ فِي مَلَأٍ خير منه - وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي شِبْرًا دنوتُ مِنْكَ ذِرَاعًا، وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي ذِرَاعًا دَنَوْتُ مِنْكَ بَاعًا، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولةً» (أخرجه البخاري من حديث قتادة، ورواه الإمام أحمد عن أنَس بن مالك) " قال قتادة: الله أقرب بالرحمة وقوله: {واشكروا لِي وَلاَ تكفرون} أم الله تعالى بشكره ووعد عَلَى شُكْرِهِ بِمَزِيدِ الْخَيْرِ، فَقَالَ: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لئن شركتم لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} روى أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا (عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ) وَعَلَيْهِ مِطْرَفٌ مِنْ خَزٍّ لَمْ نَرَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: «مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى خلقه (أخرجه الإمام أحمد عن ابي رجاء العطاردي)» وروي: على عبده.

- 153 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ - 154 - وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ لَمَّا فَرَغَ تَعَالَى مِنْ بيان الأمر بالشكر، شرع في بينان الصبر والإرشاد والاستعانة بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي نِعْمَةٍ فَيَشْكُرُ عَلَيْهَا، أَوْ فِي نِقْمَةٍ فَيَصْبِرُ عَلَيْهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ". وبيَّن تَعَالَى أَنَّ أَجْوَدَ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَصَائِبِ الصَّبْرُ وَالصَّلَاةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلا على الخاشعين} وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان إذا حز به أمر صلّى» والصبر صبران: فصبرك عَلَى تَرْكِ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ، وَصَبْرٌ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، وَالثَّانِي أَكْثَرُ ثَوَابًا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ، -[143]- وأما الصبر الثالث وهو الصبر على المصائب والنوائب فذاك أيضاً واجب كالاستغفار من المعايب. قال زَيْنُ الْعَابِدِينَ: إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يُنَادِي مُنَادٍ أَيْنَ الصَّابِرُونَ لِيَدْخُلُوا الْجَنَّةَ قَبْلَ الحساب؟ قال: فيقوم عُنُق (جماعة متقدمة، وزين العابدين هو (علي بن الحسين) رضي الله عنه) مِنَ النَّاسِ فَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَيَقُولُونَ: إِلَى أَيْنَ يَا بَنِي آدَمَ؟ فَيَقُولُونَ: إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: قبل الحساب؟ قالوا: نعم، قالوا: مَن أنتم؟ قالوا: نحن الصابرون، قالوا: وما كان صبكم؟ قَالُوا: صَبَرْنَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَصَبَرْنَا عَنْ معصية الله حتى توفانا الله، قالو: أَنْتُمْ كَمَا قُلْتُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. (قُلْتُ): وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حساب}، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الصَّبْرُ اعْتِرَافُ الْعَبْدِ لِلَّهِ بِمَا أَصَابَ مِنْهُ، وَاحْتِسَابُهُ عِنْدَ اللَّهِ رَجَاءَ ثَوَابِهِ، وَقَدْ يَجْزَعُ الرَّجُلُ وَهُوَ مُتَجَلِّدٌ لَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا الصَّبْرُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ الشُّهَدَاءَ فِي بَرْزَخِهِمْ أَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: " إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طيور خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَاطَّلَعَ عليهم ربك اطلاعة فقال: ماذا تبغون؟ قالوا: يَا رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ نَبْغِي وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ ثُمَّ عاد عليهم بِمِثْلِ هَذَا فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَا يُتْرَكُونَ من أن يسألوا، قالو: نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّنَا إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا فَنُقَاتِلَ فِي سَبِيلِكَ حَتَّى نُقْتَلَ فِيكَ مَرَّةً أُخرى - لما يرون من ثواب الشاهدة - فَيَقُولُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ: إِنِّي كَتَبْتُ أَنَّهُمْ إليها لا يرجعون" وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ تَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ» فَفِيهِ دَلَالَةٌ لِعُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ الشُّهَدَاءُ قَدْ خُصِّصُوا بِالذِّكْرِ فِي الْقُرْآنِ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا.

- 155 - وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - 156 - الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ - 157 - أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده أي يختبرهم ويمتحنهم، كما قال تعالى: {ولنبونكم حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} فَتَارَةً بِالسَّرَّاءِ، وَتَارَةً بِالضَّرَّاءِ مِنْ خَوْفٍ وَجُوعٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ والخوف}، فَإِنَّ الْجَائِعَ وَالْخَائِفَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} وَقَالَ ههنا: {بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} أَيْ بِقَلِيلٍ مِنْ ذَلِكَ، {وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ} أَيْ ذَهَابُ بَعْضِهَا {وَالْأَنْفُسِ} كَمَوْتِ الْأَصْحَابِ وَالْأَقَارِبِ وَالْأَحْبَابِ، {وَالثَّمَرَاتِ} أَيْ لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فَكَانَتْ بَعْضُ النَّخِيلِ لَا تثمر غير واحة، وَكُلُّ هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَخْتَبِرُ اللَّهُ بِهِ عباده، فمن صبر أثابه ومن قنط أحل به عقابه، ولهذا قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصابرين} ثمَّ بيَّن تَعَالَى مَنِ الصَّابِرُونَ الَّذِينَ شَكَرَهُمْ فقال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} -[144]- أَيْ تَسَلَّوْا بِقَوْلِهِمْ هَذَا عَمَّا أَصَابَهُمْ، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مِلْكٌ لِلَّهِ يَتَصَرَّفُ فِي عَبِيدِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَضِيعُ لَدَيْهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَحْدَثَ لَهُمْ ذَلِكَ اعْتِرَافَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَبِيدُهُ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّا أَعْطَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} أي ثناء من الله عليهم {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: نِعْمَ العِدْلان وَنَعِمَتِ العِلاوة {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} هذان الْعَدْلَانِ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} فَهَذِهِ الْعِلَاوَةُ، وَهِيَ مَا تُوضَعُ بَيْنَ الْعَدْلَيْنِ، وَهِيَ زِيَادَةٌ فِي الحمل فكذلك هَؤُلَاءِ أُعْطُوا ثَوَابَهُمْ وَزِيدُوا أَيْضًا. وَقَدْ وَرَدَ في ثواب الاسترجاع عِنْدَ الْمَصَائِبِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فَمِنْ ذَلِكَ مَا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة قالت: أتاني أبو سلمى يَوْمًا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا سُرِرْتُ بِهِ، قَالَ: "لَا يُصِيبُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُصِيبَةٌ فَيَسْتَرْجِعُ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إِلَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ" قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَحَفِظْتُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ اسْتَرْجَعْتُ وَقُلْتُ: اللَّهُمَّ أَجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخَلُفْ لي خيراً منها، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: من أن لِي خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ فَلَمَّا انْقَضَتْ عدتي استأذن ليَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَدْبُغُ إِهَابًا لِي، فَغَسَلْتُ يَدِي مِنَ الْقَرَظِ وأذْنت لَهُ، فَوَضَعْتُ لَهُ وِسَادَةَ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَقَعَدَ عَلَيْهَا فَخَطَبَنِي إِلَى نَفْسِي، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله ما بي أن لا يَكُونَ بِكَ الرَّغْبَةُ، وَلَكِنِّي امْرَأَةٌ فيَّ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَخَافَ أَنْ تَرَى مِنِّي شَيْئًا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ بِهِ، وَأَنَا امْرَأَةٌ قَدْ دَخَلْتُ فِي السِّنِّ وَأَنَا ذَاتُ عِيَالٍ، فَقَالَ: «أَمَّا مَا ذكرتِ مِنَ الْغَيْرَةِ فَسَوْفَ يُذهبها اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْكِ، وَأَمَّا مَا ذكرتِ مِنَ السِّنِّ فَقَدْ أَصَابَنِي مِثْلُ الذِي أَصَابَكِ، وَأَمَّا مَا ذكرتِ مِنَ الْعِيَالِ فَإِنَّمَا عِيَالُكِ عِيَالِي»، قَالَتْ: فَقَدْ سلَّمتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ بَعْدُ: أَبْدَلَنِي اللَّهُ بِأَبِي سَلَمَةَ خَيْرًا مِنْهُ: رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن أم سلمة قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ عبدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} اللَّهُمَّ أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا»، قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي خَيْرًا مِنْهُ: رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (رَوَاهُ مسلم عن أُم سلمة). وعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا مُسَلَمَةَ يُصاب بِمُصِيبَةٍ فَيَذْكُرُهَا وإن طال عَهْدُهَا فَيُحْدِثُ لِذَلِكَ اسْتِرْجَاعًا إِلَّا جَدَّدَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَأَعْطَاهُ مِثْلَ أَجْرِهَا يَوْمَ أصيب» (رواه أحمد وابن ماجة) وعن أَبِي سِنَانٍ قَالَ: دَفَنْتُ ابْنًا لِي فَإِنِّي لَفِي الْقَبْرِ إِذْ أَخَذَ بِيَدِي أَبُو طَلْحَةَ (يَعْنِي الْخَوْلَانِيُّ) فَأَخْرَجَنِي وَقَالَ لِي: أَلَا أبشِّرك؟ قلت: بلى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللَّهُ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ قَبَضْتَ وَلَدَ عَبْدِي؟ قَبَضْتَ قُرَّةَ عَيْنِهِ وَثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا قَالَ؟ قَالَ: حَمِدَكَ واسترجع، قال: ابنوا لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ" (رواه أحمد والترمذي)

- 158 - إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عليم -[145]- روى الإمام أحمد عن عروة عن عائشة قال، قلتُ: أرأيتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}؟ فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أحدٍ جُنَاحٌ أَنْ لَا يتطوف بهما، فقالت عائشة: بئس ما قلتَ يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى مَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ فَلَا جُناح عليه أن لا يطَّوف بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا كَانُوا يهلِّون لِمَنَاةَ الطاغية التي كانوا يعبدونها عن الْمُشَلَّلِ، وَكَانَ مَنْ أهلَّ لَهَا يَتَحَرَّجُ أَنْ يطَّوف بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نطَّوف بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ قَدْ سنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بِهِمَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ الطواف بهما (رواه الشيخان وأحمد). وقال أنَس: كنا نرى أنهما مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمْسَكْنَا عَنْهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الصَّفَا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله} وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ إِسَافٌ عَلَى الصَّفَا وَكَانَتْ نَائِلَةُ عَلَى الْمَرْوَةِ، وَكَانُوا يَسْتَلِمُونَهُمَا فَتَحَرَّجُوا بَعْدَ الْإِسْلَامِ مِنَ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ عَادَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا وَهُوَ يَقُولُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ}، ثُمَّ قَالَ: «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» (رواه مسلم من حديث جابر الطويل) وعن حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تَجْرَاةَ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالنَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ وَرَاءَهُمْ وَهُوَ يَسْعَى، حَتَّى أَرَى رُكْبَتَيْهِ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ يَدُورُ بِهِ إِزَارُهُ وَهُوَ يَقُولُ: «اسْعَوْا فإن الله كتب عليكم السعي» (أخرجه الإمام أحمد) وقد استدل بهذا الحديث مَنْ يَرَى أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ فَإِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا جَبَرَهُ بِدَمٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عن أحمد. وقيل: بل مستحب. واحتجوا بقوله تعالى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً}، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَافَ بينهما وقال: «خذوا عني مناسككم» بيَّن تَعَالَى أَنَّ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ {مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ} أَيْ مِمَّا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى لأبراهيم فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ طواف هَاجَرَ، وَتَرْدَادِهَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي طَلَبِ الماء لولدها لمّا نفد ماؤهما وزادهما، فلم تزل تتردد فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ الْمُشَرَّفَةِ بَيْنَ (الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) متذللة خائفة وجلة حَتَّى كَشَفَ اللَّهُ كُرْبَتَهَا، وَآنَسَ غُرْبَتَهَا، وفرَّج شِدَّتَهَا وَأَنْبَعَ لَهَا زَمْزَمَ التِي مَاؤُهَا «طَعَامُ طَعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ»، فَالسَّاعِي بَيْنَهُمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ فَقْرَهُ وَذُلُّهُ وَحَاجَتَهُ إِلَى اللَّهِ فِي هِدَايَةِ قَلْبِهِ، وَصَلَاحِ حَالِهِ، وَغُفْرَانِ ذَنْبِهِ، وأن يلتجىء إلى الله عز وجلّ لتفريج ما هو به. وَقَوْلُهُ: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً} قِيلَ: زَادَ فِي طَوَافِهِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ ثَامِنَةً وَتَاسِعَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: يَطُوفُ بَيْنَهُمَا فِي حَجَّةِ تَطَوُّعٍ أَوْ عُمْرَةِ تَطَوُّعٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَطَوَّعَ خيراً في سائر العبادات. وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} أَيْ يُثِيبُ عَلَى الْقَلِيلِ بِالْكَثِيرِ {عَلِيمٌ} بِقَدْرِ الْجَزَاءِ فَلَا يَبْخَسُ أَحَدًا ثَوَابَهُ وَ {لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عظيما}.

- 159 - إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ - 160 - إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ - 161 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ - 162 - خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ كَتَمَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، مِنَ الدَّلَالَاتِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ، وَالْهُدَى النَّافِعِ لِلْقُلُوبِ، مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، فِي كُتُبِهِ التِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ، وقد نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ كَتَمُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وفي الحديث: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلجم يَوْمَ القيامة بلجام من نار» (أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة) وروي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حدَّثت أَحَدًا شَيْئًا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ والهدى} الآية. قال أبو العالية: {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} يعني تلعنهم الملائكة وَالْمُؤْمِنُونَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ الْعَالِمَ يستغفر له كل شيء حتى الحِيتان في البحر»، وَجَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كَاتِمَ الْعِلْمِ يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون. ثُمَّ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ فَقَالَ: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} أَيْ رَجَعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ، وَأَصْلَحُوا أعمالهم، وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه {فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَةَ إِلَى كَفْرٍ أَوْ بِدْعَةٍ إِذَا تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ الله عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّنْ كَفَرَ بِهِ وَاسْتَمَرَّ بِهِ الْحَالُ إِلَى مَمَاتِهِ بِأَنَّ {عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ فِي اللَّعْنَةِ التَّابِعَةِ لَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ الْمُصَاحِبَةِ لَهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} فِيهَا أَيْ لَا يَنْقُصُ عَمَّا هُمْ فِيهِ {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أَيْ لَا يُغَيَّرُ عَنْهُمْ سَاعَةً وَاحِدَةً وَلَا يُفَتَّرُ، بَلْ هُوَ مُتَوَاصِلٌ دَائِمٌ فَنَعُوذُ بِاللَّهِ من ذلك. قال أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ: إِنَّ الْكَافِرَ يُوقَفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَلْعَنُهُ اللَّهُ، ثُمَّ تَلْعَنُهُ الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ يَلْعَنُهُ النَّاسُ أَجْمَعُونَ. (فَصْلٌ) لَا خِلَافَ فِي جواز لعن الكفار، فَأَمَّا الْكَافِرُ الْمُعَيَّنُ فَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُلْعَنُ لِأَنَّا لَا ندري بما يختم الله له. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخرى: بَلْ يَجُوزُ لَعْنُ الْكَافِرِ المعين، واختاره ابن العربي وَلَكِنَّهُ احْتَجَّ بِحَدِيثٍ فِيهِ ضَعْفٌ، وَاسْتَدَلَّ غَيْرُهُ بقوله عليه السلام: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» (قاله عليه السلام فِي قِصَّةِ الذِي كَانَ يُؤْتَى بِهِ سَكْرَانَ فَيَحُدُّهُ فَقَالَ رَجُلٌ: لَعَنَهُ اللَّهُ مَا أَكْثَرَ ما يؤتى به .. الحديث) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُحِبُّ اللَّهَ ورسوله يلعن، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ومن بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي الْقُنُوتِ وغيره، واستدل بعضهم بالآية {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} والله أعلم.

- 163 - وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا عَدِيلَ لَهُ، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَنَّهُ الرَّحْمَنُ الرحيم، وقد تقدَّم تفسير هذين القسمين في أول الفاتحة. وفي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وَ {الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}» (أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت؟؟ السَّكن مرفوعاً) ثم ذكر الدليل على تفرده بالإلهية، بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، مِمَّا ذَرَأَ وَبَرَأَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ فَقَالَ:

- 164 - إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يقول تعالى: {إِنَّ في خلق السموات والأرض} تلك في ارتفاعها ولطافتها وَاتِّسَاعِهَا، وَكَوَاكِبِهَا السَّيَّارَةِ وَالثَّوَابِتِ وَدَوْرَانِ فَلَكِهَا، وَهَذِهِ الأرض في كثافتها وانخفاضها، وجبالها وبحارها، وقفارها وَعُمْرَانِهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، هَذَا يَجِيءُ ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَخْلُفُهُ الْآخَرُ وَيَعْقُبُهُ، لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ لَحْظَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وَتَارَةً يَطُولُ هَذَا وَيَقْصُرُ هَذَا، وَتَارَةً يَأْخُذُ هذا من هذا، ثم يتعاوضان كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الليل} أَيْ يَزِيدُ مِنْ هَذَا فِي هَذَا وَمِنْ هَذَا فِي هَذَا، {وَالْفُلْكِ التِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} أَيْ فِي تَسْخِيرِ البحر بحمل السفن من جانب إلى جانب، لمعايش النَّاسِ وَالِانْتِفَاعِ بِمَا عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ، ونقل هذا إلى هؤلاء وما عند ألئك إِلَى هَؤُلَاءِ: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}، {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} أَيْ عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا، وَمَنَافِعِهَا وَصِغَرِهَا وَكِبَرِهَا، وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَرْزُقُهُ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مبين} {وَتَصْرِيفِ الرياح} أي فتارة تأتي بالرحمة، وتارة تأتي بالعذاب، وتارةً تَأْتِي مُبَشِّرَةً بَيْنَ يَدَيِ السَّحَابِ، وَتَارَةً تَسُوقُهُ وَتَارَةً تُجَمِّعُهُ، وَتَارَةً تفرِّقه، وَتَارَةً تُصَرِّفُهُ، ثُمَّ تارة تأتي من الجنوب وتارة تأتي من ناحية اليمن {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أَيْ سَائِرٌ بين السماء والأرض، مسخر إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ مِنَ الْأَرَاضِي وَالْأَمَاكِنِ كَمَا يُصَرِّفُهُ تَعَالَى: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أَيْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَلَالَاتٌ بَيِّنَةٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الْأَلْبَابِ} عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} فَقَالَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ: كَيْفَ يَسَعُ النَّاسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ -[148]- وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} إِلَى قَوْلِهِ: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (رواه ابن أبي حاتم عن عطاء) فَبِهَذَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ إِلَهُ كل شيء وخالق كل شيء. وقال أبو الضحى: لما نزلت {وإلهكم إله واحد} قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنْ كَانَ هَكَذَا فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إِلَى قَوْلِهِ: {يَعْقِلُونَ}.

- 165 - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ - 166 - إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ - 167 - وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كما تبرأوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ يُذْكُرُ تَعَالَى حَالَ الْمُشْرِكِينَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، حَيْثُ جَعَلُوا لَهُ أَندَاداً أَيْ أَمْثَالًا وَنُظَرَاءَ، يَعْبُدُونَهُمْ مَعَهُ وَيُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ، وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا ضِدَّ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا شَرِيكَ مَعَهُ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أيُّ الذنْب أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا هو خَلَقَكَ» وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} وَلِحُبِّهِمْ لِلَّهِ وَتَمَامِ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ وَتَوْقِيرِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ لَهُ لَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، بَلْ يَعْبُدُونَهُ وحده ويتوكلون عليه، ويلجأون فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ إِلَيْهِ. ثُمَّ تَوَعَّدَ تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ بِهِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ فَقَالَ: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} قَالَ بَعْضُهُمْ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَوْ عَايَنُوا الْعَذَابَ لَعَلِمُوا حينئذٍ أَنَّ الْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً، أَيْ إِنَّ الْحُكْمَ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ تَحْتَ قَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}، كَمَا قَالَ: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} يقول: لو يعلمون مَا يُعَايِنُونَهُ هُنَالِكَ، وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ، الْمُنْكَرِ الْهَائِلِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، لا نتهوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ. ثُمَّ أَخْبَرَ عن كفرهم بأوثانهم، وتبري الْمَتْبُوعِينَ مِنَ التَّابِعَيْنِ فَقَالَ: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}، تَبَرَّأَتْ مِنْهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يعبدونهم في الدار الدُّنْيَا، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}، وَيَقُولُونَ: {سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}. وَالْجِنُّ أَيْضًا تَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ وَيَتَنَصَّلُونَ مِنْ عِبَادَتِهِمْ لهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وقال تَعَالَى: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} وَقَوْلُهُ: {وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} أَيْ عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْحِيَلُ وَأَسْبَابُ الْخَلَاصِ وَلَمْ يَجِدُوا عَنِ النَّارِ مَعْدِلًا وَلَا مصرفاً، قال ابن عباس: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} المودة، وَقَوْلُهُ: {وَقَالَ الَّذِينَ -[149]- اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كما تبرؤا مِنَّا} أَيْ لَوْ أَنَّ لَنَا عَوْدَةً إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا، حَتَّى نَتَبَرَّأَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ عِبَادَتِهِمْ، فَلَا نَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ بَلْ نُوَحِّدُ اللَّهَ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي هَذَا بَلْ لو رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، كا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} أي تذهب وتضمحل، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً}، وَقَالَ تَعَالَى: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن ماء} الآية. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار}

- 168 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ - 169 - إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ لَمَّا بيَّن تَعَالَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّهُ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ، شَرَعَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ الرزاق لجميع خلقه، فذكر فِي مَقَامِ الِامْتِنَانِ أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ، فِي حَالِ كَوْنِهِ حَلَالًا مِنَ اللَّهِ طَيِّبًا أَيْ مُسْتَطَابًا فِي نَفْسِهِ، غَيْرَ ضَارٍّ لِلْأَبْدَانِ وَلَا لِلْعُقُولِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ طَرَائِقُهُ وَمَسَالِكُهُ فِيمَا أَضَلَّ أَتْبَاعَهُ فِيهِ، مِنْ تَحْرِيمِ الْبَحَائِرِ السوائب والوصائل ونحوها، مما كان زَيَّنَهُ لَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، كَمَا فِي حَدِيثِ عياض بن حماد عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ كُلَّ مال منحته عِبَادِي فَهُوَ لَهُمْ حَلَالٌ - وَفِيهِ - وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ» (رواه مسلم ومعنى (اجتالتهم): صرفتهم عن الهدى إلى الضلالة) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُلَيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً} فَقَامَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، فَقَالَ: «يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّبَا فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» (رواه الحافظ ابن مردويه عن عطاء عن ابن عباس). وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} تَنْفِيرٌ عَنْهُ وَتَحْذِيرٌ مِنْهُ، كَمَا قَالَ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} قال قتادة والسُّدي: كُلُّ مَعْصِيَةٍ لِلَّهِ فَهِيَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ. وقال مَسْرُوقٍ: أُتي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِضَرْعٍ وَمِلْحٍ فَجَعَلَ يَأْكُلُ، فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: نَاوِلُوا صَاحِبَكُمْ، فَقَالَ: لَا أُرِيدُهُ، فَقَالَ: أَصَائِمٌ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: حَرَّمْتُ أَنْ آكُلَ ضَرْعًا أَبَدًا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَذَا مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، فَاطْعَمْ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ (رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم عن أبي الضحى عن مسروق) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا كَانَ مِنْ يَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ فِي غَضَبٍ، فَهُوَ مِنْ خُطُوَاتِ الشيطان، وكفارتُه كفارة يمين. وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أَيْ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ عَدُوُّكُمُ الشَّيْطَانُ بِالْأَفْعَالِ -[150]- السَّيِّئَةِ وَأَغْلَظُ مِنْهَا الْفَاحِشَةُ كَالزِّنَا وَنَحْوَهُ، وأغلظُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، فَيَدْخُلُ فِي هذا كل كافر وكل مبتدع أيضاً (رواه ابن أبي حاتم).

- 170 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ - 171 - وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} للكفرة الْمُشْرِكِينَ: {اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} عَلَى رَسُولِهِ، واتركوا مآ أنتم عليه مِنَ الضَّلَالِ وَالْجَهْلِ، قَالُوا فِي جَوَابِ ذَلِكَ: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا} أي ما وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، أَيْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ والأنداد. قال الله تعالى منكراً عليهم: {أو لو كَانَ آبَاؤُهُمْ} أي الذي يَقْتَدُونَ بِهِمْ وَيَقْتَفُونَ أَثَرَهُمْ {لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ فَهْمٌ وَلَا هداية، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ، دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآية (رواه ابن إسحاق عن ابن عباس) ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ تَعَالَى مَثَلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} فَقَالَ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ وَالْجَهْلِ، كَالدَّوَابِّ السَّارِحَةِ التِي لَا تَفْقَهُ مَا يُقال لَهَا، بَلْ إِذَا نَعَقَ بِهَا رَاعِيهَا، أَيْ دَعَاهَا إِلَى مَا يُرْشِدُهَا لَا تَفْقَهُ مَا يَقُولُ وَلَا تَفْهَمُهُ بَلْ إِنَّمَا تَسْمَعُ صَوْتَهُ فَقَطْ، هَكَذَا روي عن ابن عباس. وَقِيلَ: إِنَّمَا هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لَهُمْ فِي دُعَائِهِمُ الْأَصْنَامَ التِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ ولا تعقل شيئاً، واختاره ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا وَلَا تَعْقِلُهُ وَلَا تُبْصِرُهُ وَلَا بَطْشَ لَهَا وَلَا حَيَاةَ فِيهَا، وَقَوْلُهُ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} أَيْ صُمٌّ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، بُكْمٌ لَا يَتَفَوَّهُونَ بِهِ، عُمْيٌ عَنْ رُؤْيَةِ طَرِيقِهِ وَمَسْلَكِهِ {فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} أَيْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَفْهَمُونَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صِرَاطٍ مستقيم}.

- 172 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ - 173 - إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلَا إِثْمَ عليه إِنَّ الله غَفُورٌ رحيم يأمر تعالى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَكْلِ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقَهُمْ تعالى، وأن يشكروه تعالى على ذلك أن كانوا عُبَّاده، وَالْأَكْلُ مِنَ الْحَلَالِ سَبَبٌ لِتَقَبُّلِ الدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ، كَمَا أَنَّ الْأَكْلَ مِنَ الْحَرَامِ يَمْنَعُ قَبُولَ الدعاء والعبادة، كما جاء في الحديث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيَّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا -[151]- أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَقَالَ: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، ومطعَمُه حرامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لذلك؟ " (رواه أحمد ومسلم والترمذي) وَلَمَّا امْتَنَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِرِزْقِهِ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الْأَكْلِ مِنْ طيِّبه، ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الْمِيتَةَ، وَهِيَ التِي تَمُوتُ حَتْفَ أَنْفِهَا مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ، وَسَوَاءً كَانَتْ مُنْخَنِقَةً أَوْ مَوْقُوذَةً أَوْ مُتَرَدِّيَةً أَوْ نطيحة أو عدا عليها السبع، وقد خصص الجمهو مِنْ ذَلِكَ مَيْتَةَ الْبَحْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ} وقوله عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحل ميتته» (رواه مالك وأصحاب السنن) وسيأتي تقرير ذلك إِن شَآءَ الله في سورة المائدة. ثُمَّ أَبَاحَ تَعَالَى تَنَاوُلَ ذَلِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالِاحْتِيَاجِ إِلَيْهَا عِنْدَ فَقْدِ غَيْرِهَا مِنَ الْأَطْعِمَةِ فقال: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ باع وَلاَ عَادٍ} أي من غَيْرِ بَغْيٍ وَلَا عُدْوَانٍ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} أَيْ فِي أَكْلِ ذَلِكَ. {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قال مجاهد: {غير باغ ولا عَادٍ} من خَرَجَ بَاغِيًا أَوْ عَادِيًا أَوْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا رُخْصَةَ لَهُ وَإِنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ، وقال مقاتل بْنُ حَيَّانَ: {غَيْرَ بَاغٍ} يَعْنِي غَيْرَ مُسْتَحِلِّهِ، وقال السُّدي: {غَيْرَ بَاغٍ} يبتغي فيه شهواته، وعن ابن عباس: لا يشبع منها وعنه: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قَالَ: {غَيْرَ بَاغٍ} فِي الْمَيْتَةِ، وَلَا عادٍ فِي أَكْلِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} قال: غير باغ في الميتة أي فِي أَكْلِهِ أَنْ يَتَعَدَّى حَلَالًا إِلَى حَرَامٍ هو يَجِدُ عَنْهُ مَنْدُوحَةً، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ} أَيْ أُكْرِهَ عَلَى ذلك بغير اختياره. (مسألة) إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَطَعَامَ الْغَيْرِ، بِحَيْثُ لَا قَطْعَ فِيهِ وَلَا أَذًى، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، بَلْ يَأْكُلُ طَعَامَ الغير بغير خلاف لحديث عباد بن شرحيل الْعَنْزِيِّ قَالَ: أَصَابَتْنَا عَامًا مخمصةٌ فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَأَتَيْتُ حَائِطًا، فَأَخَذْتُ سُنْبُلًا فَفَرَكْتُهُ وَأَكَلْتُهُ وَجَعَلْتُ مِنْهُ فِي كِسَائِي، فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَائِطِ فَضَرَبَنِي وَأَخَذَ ثَوْبِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ لِلرَّجُلِ: «مَا أَطْعَمْتَهُ إذ كان جائعاً ولا سَاعِيًا، وَلَا علَّمته إِذْ كَانَ جَاهِلَا» فَأَمَرَهُ فرد إليه ثوبه، وأمر له بوسق طعام أو نصف وسق (رواه ابن ماجة وإسناده قوي جدا) وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: فِي قَوْلِهِ {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فِيمَا أَكَلَ مِنَ اضْطِرَارٍ، وَبَلَغَنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى ثَلَاثِ لُقَمٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {غَفُورٌ} لِمَا أَكَلَ مِنَ الْحَرَامِ {رَّحِيمٌ} إذ أحل له الحرام في اضطرار، وقال مسروق: مَنِ اضْطُرَّ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ ثُمَّ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَكْلَ الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة، وهذا هو الصحيح كالإفطار للمريض.

- 174 - إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 175 - أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ - 176 - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} يَعْنِي الْيَهُودَ الَّذِينَ كَتَمُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي كُتُبِهِمُ التِي بِأَيْدِيهِمْ مِمَّا تَشْهَدُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَكَتَمُوا ذَلِكَ لِئَلَّا تَذْهَبَ رِيَاسَتُهُمْ، وَمَا كَانُوا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الْعَرَبِ مِنَ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ عَلَى تَعْظِيمِهِمْ آباءهم، فَخَشُوا - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - إِنْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ أَنْ يَتَّبِعَهُ النَّاسُ وَيَتْرُكُوهُمْ، فَكَتَمُوا ذَلِكَ إِبْقَاءً عَلَى مَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ نَزْرٌ يَسِيرٌ، فَبَاعُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ، وَاعْتَاضُوا عَنِ الهدى بذلك النزر اليسر، فَخَابُوا وَخَسِرُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ لِعِبَادِهِ صِدْقَ رَسُولِهِ، بِمَا نَصَبَهُ وَجَعَلَهُ مَعَهُ مِنَ الْآيَاتِ الظَّاهِرَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ، فَصَدَّقَهُ الَّذِينَ كَانُوا يَخَافُونَ أَنْ يَتَّبِعُوهُ، وَصَارُوا عَوْنًا لَهُ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ، وَذَمَّهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ في غير موضع، فمن ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} وَهُوَ عَرَضُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ} أَيْ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ مَا يَأْكُلُونَهُ فِي مُقَابَلَةِ كِتْمَانِ الْحَقِّ نَارًا تَأَجَّجُ فِي بُطُونِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وسيصلون سعيرا} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «إن الَّذِي يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ». وقوله تعالى: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ولهم عذاب إليهم}، وذلك لأنه تعالى غَضْبَانُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَتَمُوا وَقَدْ عَلِمُوا فَاسْتَحَقُّوا الْغَضَبَ، فَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ {وَلَا يُزَكِّيهِمْ} أَيْ يُثْنِي عَلَيْهِمْ وَيَمْدَحُهُمْ بَلْ يُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر" (رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} أَيِ اعْتَاضُوا عَنِ الْهُدَى - وَهُوَ نَشْرُ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ الرَّسُولِ وَذِكْرِ مَبْعَثِهِ وَالْبِشَارَةِ بِهِ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَاتِّبَاعِهِ وَتَصْدِيقِهِ - اسْتَبْدَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَاعْتَاضُوا عنه الضلالة، وَهُوَ تَكْذِيبُهُ وَالْكُفْرُ بِهِ وَكِتْمَانُ صِفَاتِهِ فِي كُتُبِهِمْ {وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} أَيِ اعْتَاضُوا عَنِ الْمَغْفِرَةِ بِالْعَذَابِ وَهُوَ مَا تَعَاطَوْهُ مِنْ أَسْبَابِهِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُمْ فِي عَذَابٍ شَدِيدٍ عَظِيمٍ هَائِلٍ، يَتَعَجَّبُ مَنْ رَآهُمْ فِيهَا مِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مَعَ شِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْأَغْلَالِ عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: -[153]- {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} أي فما أَدْوَمَهُمْ لِعَمَلِ الْمَعَاصِي التِي تُفْضِي بِهِمْ إِلَى النار. وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أَيْ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا هَذَا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ كُتُبَهُ بِتَحْقِيقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَهَؤُلَاءِ اتَّخَذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً، فَكِتَابُهُمْ يَأْمُرُهُمْ بِإِظْهَارِ الْعِلْمِ وَنَشْرِهِ فَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ، وَهَذَا الرَّسُولُ الْخَاتَمُ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُمْ يُكَذِّبُونَهُ وَيُخَالِفُونَهُ، وَيَجْحَدُونَهُ وَيَكْتُمُونَ صِفَتَهُ، فَاسْتَهْزَأُوا بِآيَاتِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رُسُلِهِ، فَلِهَذَا اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ وَالنَّكَالَ، وَلِهَذَا قَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}.

- 177 - لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى جمل عظيمة، وقواعد عميقة وعقيدة مستقيمة، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا بالتوجُّه إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ حَوَّلَهُمْ إِلَى الْكَعْبَةِ، شقَّ ذَلِكَ عَلَى نُفُوسِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ حِكْمَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ، وَامْتِثَالُ أَوَامِرِهِ، وَالتَّوَجُّهُ حَيْثُمَا وجَّه، وَاتِّبَاعُ مَا شَرَعَ، فَهَذَا هُوَ الْبِرُّ وَالتَّقْوَى وَالْإِيمَانُ الْكَامِلُ، وَلَيْسَ في لزوم التوجه إلى جهة المشرق أو الْمَغْرِبِ برٌّ وَلَا طَاعَةٌ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عن أمر الله وشرعه، ولهذا قال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، كَمَا قَالَ فِي الْأَضَاحِيِّ وَالْهَدَايَا: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى منكم} وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَيْسَ الْبَرَّ أن تصلُّوا ولا تعلموا، فأمر الله بالفرائض والعمل بها، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَتِ الْيَهُودُ تُقْبل قِبَلَ الْمَغْرِبِ، وَكَانَتِ النَّصَارَى تُقبل قِبَلَ الْمَشْرِقِ، فَقَالَ الله تعالى {ليس البر أن تولو وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} يَقُولُ: هَذَا كَلَامُ الإيمان وحقيقته العمل، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَا ثَبَتَ فِي القلوب من طاعة الله عزّ وجلّ، {وَالْكِتَابِ} وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ من السامء عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، حَتَّى خُتِمَتْ بِأَشْرَفِهَا وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، الذِي انْتَهَى إِلَيْهِ كُلُّ خَيْرٍ، وَاشْتَمَلَ عَلَى كُلِّ سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ بِهِ كُلَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَهُ وَآمَنَ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ كُلِّهِمْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} أَيْ أَخْرَجَهُ وَهُوَ محبٌ له راغب فيه، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تصدَّق وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تأمل الغنى وتخشى الفقر»، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} أَنْ تُعْطِيَهُ وَأَنْتَ صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر» (رواه الحاكم عن ابن مسعود مرفوعاً وقال: صحيح على شرط الشيخين) -[154]- وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً} وَقَالَ تَعَالَى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}، وَقَوْلُهُ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} نمط آخر أرفع من هَذَا وَهُوَ أَنَّهُمْ آثَرُوا بِمَا هُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ أَعْطَوْا وَأَطْعَمُوا مَا هُمْ مُحِبُّونَ له. وقوله تعالى: {ذَوِي الْقُرْبَى} وَهُمْ قَرَابَاتُ الرَّجُلِ، وَهُمْ أَوْلَى مَنْ أَعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الحديث: والصدقة عَلَى الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذَوِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، فَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِكَ وبِبرَّك وَإِعْطَائِكَ" وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ في غير مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَالْيَتَامَى} هُمُ الَّذِينَ لَا كَاسِبَ لَهُمْ وَقَدْ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَهُمْ ضُعَفَاءُ صِغَارٌ دُونَ الْبُلُوغِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّكَسُّبِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ»، {وَالْمَسَاكِينَ} وَهُمُ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يَكْفِيهِمْ فِي قُوتِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ سكناهم، فيُعْطون مَا تُسَدُّ بِهِ حَاجَتُهُمْ وَخَلَّتُهُمْ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بهذ الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ»، {وَابْنَ السَّبِيلِ} وَهُوَ الْمُسَافِرُ الْمُجْتَازُ الذِي قَدْ فَرَغَتْ نَفَقَتُهُ مَا يُوصِلُهُ إِلَى بَلَدِهِ، وَكَذَا الذِي يُرِيدُ سَفَرًا فِي طَاعَةٍ فَيُعْطَى مَا يَكْفِيهِ فِي ذهابه وغيابه، ويدخل في ذلك الضيف كما قال ابن عباس {ابن السبيل}: هو الضيف الذي ينزل، {وَالسَّائِلِينَ} وَهُمُ الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ لِلطَّلَبِ فَيُعْطَوْنَ مِنَ الزكوات والصدقات، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ» (رَوَاهُ أحمد وأبو دَاوُدَ) {وَفِي الرِّقَابِ} وَهُمُ الْمُكَاتَبُونَ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ ما يؤدونه في كتابتهم، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي الْمَالِ حق سوى الزكاة»، ثم قرأ: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ والمغرب - إلى قوله - وَفِي الرقاب} (رواه ابن ماجة والترمذي) وقوله تعالى: {أقام الصلاة} أَيْ وَأَتَمَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا بِرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَطُمَأْنِينَتِهَا وَخُشُوعِهَا، عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَرْضِيِّ، وقوله: {وَآتَى الزكاة} كقوله: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة} والمراد زَكَاةَ الْمَالِ كَمَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَيَكُونُ الْمَذْكُورُ مِنْ إِعْطَاءِ هَذِهِ الْجِهَاتِ وَالْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ، إِنَّمَا هُوَ التَّطَوُّعُ وَالْبِرُّ وَالصِّلَةُ، وَلِهَذَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سوى الزكاة، والله أعلم. وقوله تعالى: {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} كقوله: {الذين يفون بِعَهْدِ الله وَلاَ ينقضون الميثاق} وَعَكْسُ هَذِهِ الصِّفَةِ النِّفَاقُ كَمَا صَحَّ فِي الحديث: «آية حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خان» (رواه الشيخان) وفي الحديث الآخر: «وإذا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فجر» وقوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} أَيْ فِي حَالِ الْفَقْرِ وَهُوَ الْبَأْسَاءُ، وَفِي حَالِ الْمَرَضِ وَالْأَسْقَامِ وَهُوَ -[155]- الضَّرَّاءُ، {وَحِينَ الْبَأْسِ} أَيْ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَالْتِقَاءِ الْأَعْدَاءِ قَالَهُ ابْنُ مسعود وابن عباس. وإنما نصب {الصابرين} عَلَى الْمَدْحِ وَالْحَثِّ عَلَى الصَّبْرِ فِي هَذِهِ الأحوال لشدته وصعوبته، والله أعلم. وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ} أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ، لِأَنَّهُمْ حَقَّقُوا الْإِيمَانَ الْقَلْبِيَّ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} لِأَنَّهُمُ اتَّقَوُا الْمَحَارِمَ وَفَعَلُوا الطَّاعَاتِ.

- 178 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 179 - وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يَقُولُ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْعَدْلُ فِي الْقِصَاصِ - أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ - حُرُّكُمْ بَحُرِّكُمْ، وَعَبْدُكُمْ بِعَبْدِكُمْ، وَأُنْثَاكُمْ بِأُنْثَاكُمْ، وَلَا تَتَجَاوَزُوا وَتَعْتَدُوا كَمَا اعْتَدَى مَنْ قَبْلَكُمْ وَغَيَّرُوا حكم الله فيهم، وسبب ذلك (قريظة والنضير) فَكَانَ إِذَا قَتَلَ النَّضَرِيُّ الْقُرَظِيَّ لَا يُقْتَلُ بِهِ بَلْ يُفادى بِمِائَةِ وَسْقٍ مِنَ التَّمْرِ، وإذا قتل القرظي النضري قتل، وَإِنْ فَادَوْهُ فَدَوْهُ بِمِائَتَيْ وَسْقٍ مِنَ التَّمْرِ، ضعف دية القرظي، فأمر الله تعالى بِالْعَدْلِ فِي الْقِصَاصِ، وَلَا يَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ الْمُحَرِّفِينَ، الْمُخَالَفِينَ لِأَحْكَامِ اللَّهِ فِيهِمْ كُفْرًا وَبَغْيًا فقال تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} وَذُكِرِ عن سعيد ابن جُبَيْرٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} يَعْنِي إِذَا كَانَ عَمْدًا الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَذَلِكَ أَنَّ حَيَّيْنِ مِنَ الْعَرَبِ اقْتَتَلُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِقَلِيلٍ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ قَتْلٌ وَجِرَاحَاتٌ، حَتَّى قَتَلُوا الْعَبِيدَ وَالنِّسَاءَ، فَلَمْ يَأْخُذْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى أَسْلَمُوا، فَكَانَ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ يَتَطَاوَلُ عَلَى الْآخَرِ فِي الْعُدَّةِ وَالْأَمْوَالِ، فَحَلَفُوا أن لا يَرْضَوْا حَتَّى يُقْتَلَ بِالْعَبْدِ مِنَّا الْحُرُّ مِنْهُمْ، والمرأة منا الرجل منهم، فنزل فِيهِمْ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} (رواه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) وعن ابن عباس في قوله: {والأنثى بالأنثى} إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ، وَلَكِنْ يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةَ بِالْمَرْأَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ، فَجَعَلَ الْأَحْرَارَ فِي الْقِصَاصِ سَوَاءً فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَمْدِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ فِي النفس وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستويين فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}. (مسألة) ذهب أبو حنيفة إلى أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ لِعُمُومِ آيَةِ الْمَائِدَةِ وهو مروي عن (علي) و (ابن مسعود) قال البخاري: يقتل السيد بعبده لعموم حديث: «من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه ومن خصاه خصيناه» وخالفهم الجمهور فقالوا: لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ سِلْعَةٌ لو قتل خطأ لم يجب فيه دية وإنما تجب فيه قيمته، -[156]- ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بالكافر لما ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»، وَلَا يَصِحُّ حَدِيثٌ وَلَا تَأْوِيلٌ يُخَالَفُ هَذَا، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ لِعُمُومِ آيَةِ الْمَائِدَةِ (أقول ما ذهب إليه أبو حنيفة ضعيف وفي النفس منه شيء، وما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح والله أعلم وانظر تفصيل المسألة في كتابنا (تفسير آيات الأحكام الجزء الأول، ص 177) (مَسْأَلَةٌ) قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: لَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ لِآيَةِ الْمَائِدَةِ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ»، وَقَالَ اللَّيْثُ: إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لَا يُقْتَلُ بِهَا خَاصَّةً. (مَسْأَلَةٌ) وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ أن الجماعة يقتلون بالواحد، قال عمر فِي غُلَامٍ قَتَلَهُ سَبْعَةٌ فَقَتَلَهُمْ وَقَالَ: (لَوْ تَمَالْأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ)، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِي زَمَانِهِ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَذَلِكَ كَالْإِجْمَاعِ، وَحُكِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا يُقْتَلُونَ بِالْوَاحِدِ، وَلَا يَقْتُلُ بِالنَّفْسِ إلا نفس واحدة. وقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بإحسانْ قال مجاهد: العفو: أن يقبل الدية في العمد. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} يعني فَمَنْ تُرِكَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ يَعْنِي أَخْذِ الدِّيَةِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الدَّمِ وَذَلِكَ الْعَفْوُ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}، يَقُولُ: فَعَلَى الطَّالِبِ اتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا قَبِلَ الدِّيَةَ {وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يَعْنِي من القاتل من غير ضرر يؤدي المطلوب إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ، {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} يَقُولُ تَعَالَى إِنَّمَا شَرَعَ لَكُمْ أَخْذَ الدِّيَةِ فِي الْعَمْدِ، تَخْفِيفًا مِنَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةً بكم، مما كان محتوماً على أمم قَبْلَكُمْ مِنَ الْقَتْلِ أَوِ الْعَفْوِ، كَمَا قَالَ مجاهد عن ابن عباس: كُتِبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَّاصُ فِي الْقَتْلَى وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الْعَفْوُ، فَقَالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الأُمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخيه شي} فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ، ذَلِكَ تخفيف مما كتب على بني إسرائيل ومن كَانَ قَبْلَكُمْ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وَقَالَ قَتَادَةُ: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ} رَحِمَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَأَطْعَمَهُمُ الدِّيَةَ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُمْ، فَكَانَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ إِنَّمَا هُوَ الْقِصَاصُ. وَعَفْوٌ لَيْسَ بَيْنَهُمْ أَرْشٌ، وَكَانَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ إِنَّمَا هُوَ عَفْوٌ أُمِرُوا بِهِ، وَجَعَلَ لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش. وقوله تعالى: {فَمَن اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يَقُولُ تَعَالَى فَمَنْ قَتَل بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ أَوْ قَبُولِهَا فَلَهُ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ، أَلِيمٌ: موجع شديد، لحديث: "مَنْ أُصِيبَ بِقَتْلٍ أَوْ خَبَلٍ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يَقْتَصَّ، وَإِمَّا أَنْ يَعْفُوَ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، وَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلك فله النار جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا" (رواه أحمد عن أبي شريح الخزاعي مرفوعاً) -[157]- وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} يَقُولُ تَعَالَى: وَفِي شَرْعِ الْقِصَاصِ لَكُمْ وَهُوَ قَتْلُ الْقَاتِلِ، حِكْمَةٌ عظيمة وَهِيَ بَقَاءُ الْمُهَجِ وَصَوْنُهَا، لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ القاتل أنه يقتل، انكف على صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس، واشتهر قولهم: «الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ» فَجَاءَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي الْقُرْآنِ أَفْصَحُ وَأَبْلَغُ وَأَوْجَزُ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: جَعَلَ اللَّهُ الْقِصَاصَ حَيَاةً، فَكَمْ مِنْ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَقْتُلَ فتمنعه مخافة أن يقتل، {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يَقُولُ يَا أولي العقول والأفهام والنهى، لعلكم تنزجرون وتتركون مَحَارِمَ اللَّهِ وَمَآثِمَهُ. وَالتَّقْوَى: اسْمٌ جَامِعٌ لِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكِرَاتِ.

- 180 - كُتِبَ عَلَيْكُمُ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى المتقين - 181 - فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - 182 - فَمَنْ خَافَ مِنْ مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وقد كان ذلك واجباً قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ نَسَخَتْ هَذِهِ، وَصَارَتِ الْمَوَارِيثُ الْمُقَدَّرَةُ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ، يَأْخُذُهَا أَهْلُوهَا حَتْمًا مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ وَلَا تَحْمِلُ مِنَّة الْمُوصِي، وَلِهَذَا جَاءَ في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حقه فلا وصية لوارث» (رواه أصحاب السنن عن عمرو بن خارجة) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} نَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} (رواه ابن أبي حاتم) والعجب من الرازي كيف حكي عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مُفَسَّرَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَمَعْنَاهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا أَوْصَى اللَّهُ بِهِ مِنْ تَوْرِيثِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مِنْ قَوْلِهِ: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ}، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُعْتَبَرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فيمن يرث، ثابتة فيمن لا يرث، ولكن على قول هؤلاء لا يسمى نسخاً في اصطلاحنا المتأخر، لأن آية المواريث إِنَّمَا رَفَعَتْ حُكْمَ بَعْضِ أَفْرَادِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ آيَةِ الْوِصَايَةِ، لِأَنَّ الْأَقْرَبِينَ أَعَمُّ مِمَّنْ يَرِثُ وَمَنْ لَا يَرِثُ، فَرُفِعَ حُكْمُ مَنْ يَرْثُ بِمَا عُيِّنَ لَهُ وَبَقِيَ الْآخَرُ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْأُولَى، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَنَّ الْوِصَايَةَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ إِنَّمَا كَانَتْ نَدْبًا حَتَّى نُسِخَتْ، فَأَمَّا مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ الْمِيرَاثِ، كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ المفسرين. فَإِنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْوَارِثِينَ مَنْسُوخٌ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: «إِنِ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فلا وصية لوارث» بَقِيَ الْأَقَارِبُ الَّذِينَ لَا مِيرَاثَ لَهُمْ، يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُوصَى لَهُمْ مِنَ الثُّلُثِ، اسْتِئْنَاسًا بآية الوصية وشمولها، ولما ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «ما حق امرىْ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلا ووصيته مكتوبة عنده» (رواه الشيخان عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلِيَّ لَيْلَةً مُنْذُ -[158]- سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي {إِن تَرَكَ خَيْراً} أَيْ مَالًا، قَالَهُ ابْنُ عباس ومجاهد. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْوَصِيَّةُ مَشْرُوعَةٌ سَوَاءٌ قل المال أو كثر، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا يُوصِي إِذَا تَرَكَ مالاً كثيراً. قِيلَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ رَجُلًا من قريش قد مات وترك ثلثمائة دِينَارٍ أَوْ أَرْبَعَمِائَةٍ وَلَمْ يُوصِ، قَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ {إِن تَرَكَ خَيْراً} إذا تركت شيئاً يسيراً فاتركه لولدك. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ لَمْ يَتْرُكْ سِتِّينَ دِينَارًا لم يترك خيراً. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يُقَالُ أَلْفًا فَمَا فَوْقَهَا، وقوله: {بالمعروف} أي بالرفق والإحسان، والمراد بالمعروف أن يوصي لأقاربه وصيةً لا تجحف بورثته كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ سَعْدًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ لِي مَالًا وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي أَفَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لَا»، قَالَ: فَبِالشَّطْرِ؟ قَالَ: «لَا»، قَالَ: فبالثلث؟ قَالَ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ». وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى الرُّبُعِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كثير». وقوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، يَقُولُ تَعَالَى: فَمَنْ بَدَّلَ الْوَصِيَّةَ وحرَّفها فغيَّر حُكْمَهَا وَزَادَ فِيهَا أَوْ نَقَصَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْكِتْمَانُ لَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ} قال ابن عباس: وَقَعَ أَجْرُ الْمَيِّتِ عَلَى اللَّهِ، وتعلَّق الْإِثْمُ بِالَّذِينِ بَدَّلُوا ذَلِكَ. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أَيْ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى مَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَلِكَ وَبِمَا بَدَّلَهُ الموصَى إليهم. وقوله تعالى: {فَمَن خَافَ مِنْ مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} قال ابن عباس: الْجَنَفُ: الْخَطَأُ، وَهَذَا يَشْمَلُ أَنْوَاعَ الْخَطَأِ كُلَّهَا، بأن زادوا وَارِثًا بِوَاسِطَةٍ أَوْ وَسِيلَةٍ، كَمَا إِذَا أَوْصَى لِابْنِ ابْنَتِهِ لِيَزِيدَهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْوَسَائِلِ، إِمَّا مُخْطِئًا غَيْرَ عَامِدٍ بَلْ بِطَبْعِهِ وَقُوَّةِ شَفَقَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَبَصُّرٍ، أَوْ مُتَعَمِّدًا آثِمًا فِي ذَلِكَ، فَلِلْوَصِيِّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يُصْلِحَ الْقَضِيَّةَ وَيُعَدِّلَ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، وَيَعْدِلَ عَنِ الذِي أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ، إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ وَأَشْبَهُ الْأُمُورِ بِهِ، جَمْعًا بَيْنَ مَقْصُودِ الْمُوصِي وَالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ، وَهَذَا الْإِصْلَاحُ وَالتَّوْفِيقُ لَيْسَ مِنَ التَّبْدِيلِ في شيء، ولهذا عطف هذا فنبَّه على النهي عن ذلك، لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ بِسَبِيلٍ، والله أعلم. وفي الحديث: «الجنف في الوصية من الكبائر» (رواه ابن مردويه مرفوعاً، قال ابن كثير: وفي رفعه نظر) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْخَيْرِ سَبْعِينَ سَنَةً فَإِذَا أَوْصَى حَافٍ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشَّرِّ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فلا تعتدوها} الآية. (أخرجه عبد الرزاق عن أبي هريرة مرفوعاً).

- 183 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ - 184 - أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تعلمون يخاطب تعالى المؤمنين من هذه الأُمة، آمراً إياهم بِالصِّيَامِ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْوِقَاعِ، بِنِيَّةٍ خالصةٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِمَا فِيهِ من زكاة النفوس وَطَهَارَتِهَا، وَتَنْقِيَتِهَا مِنَ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ فَقَدْ أَوْجَبَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، فَلَهُمْ فِيهِ أُسْوَةٌ، وَلِيَجْتَهِدَ هَؤُلَاءِ فِي أَدَاءِ هَذَا الْفَرْضِ أَكْمَلَ مما فعله أولئك كما قال تعالى: {فاستبقوا الخيرات}، ولهذا قال ههنا: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ تَزْكِيَةٌ لِلْبَدَنِ، وَتَضْيِيقٌ لِمَسَالِكِ الشَّيْطَانِ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ .. وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»، ثُمَّ بيَّن مِقْدَارَ الصَّوْمِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَى النُّفُوسِ، فَتَضْعُفَ عَنْ حَمْلِهِ وَأَدَائِهِ، بَلْ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، وَقَدْ كَانَ هَذَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، يَصُومُونَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الصِّيَامَ كَانَ أَوَّلًا كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأُمَمُ قَبْلَنَا، مِنْ كُلِّ شهر ثلاثة أيام ولم يَزَلْ هَذَا مَشْرُوعًا مِنْ زَمَانِ نُوحٍ، إِلَى أَنْ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وقال الحسن البصري: لَقَدْ كُتِبَ الصِّيَامُ عَلَى كُلِّ آُمّة قَدْ خَلَتْ كَمَا كُتِبَ عَلَيْنَا، شَهْرًا كَامِلًا وَأَيَّامًا معدودات عدداً معلوماً. وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صِيَامُ رَمَضَانَ كتبه الله عليَّ الأمم قبلكم» (رواه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمر مرفوعاً). وقال عطاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} يعني بذلك أهل الكتاب، ثُمَّ بيَّن حُكْمَ الصِّيَامِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أَيِ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ لَا يَصُومَانِ فِي حَالِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمَا، بَلْ يُفْطِرَانِ وَيَقْضِيَانِ بِعِدَّةِ ذَلِكَ مِنْ أَيَّامٍ أُخر، وَأَمَّا الصَّحِيحُ الْمُقِيمُ الذِي يُطِيقُ الصِّيَامَ، فَقَدْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصِّيَامِ وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ، إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، فَإِنْ أَطْعَمَ أَكْثَرَ مِنْ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ فَهُوَ خَيْرٌ، وَإِنْ صَامَ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِطْعَامِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عباس، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ -[159]- خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تعلمون}. رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَصَامَ عَاشُورَاءَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِ الصِّيَامَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَطْعَمَ مِسْكِينًا فَأَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ الْآيَةَ الأُخرى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَأَثْبَتَ اللَّهُ صِيَامَهُ عَلَى الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ، ورخَّص فِيهِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَثَبَتَ الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، وَكَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ مَا لَمْ يَنَامُوا فَإِذَا نَامُوا امْتَنَعُوا، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ (صِرْمَةُ) كَانَ يَعْمَلُ صائماً، حتى أمسى فجاء إلى أهل فصلَّى العِشاء ثُمَّ نَامَ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى أَصْبَحَ، -[160]- فَأَصْبَحَ صَائِمًا فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جَهِدَ جهداً شديداً، فقال: «مالي أَرَاكَ قَدْ جَهِدْتَ جَهْدًا شَدِيدًا؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي عَمِلْتُ أَمْسِ، فَجِئْتُ حِينَ جِئْتُ فَأَلْقَيْتُ نَفْسِي فَنِمْتُ، فَأَصْبَحْتُ حِينَ أَصْبَحْتُ صائماً، قال: وكان عم قَدْ أَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ بَعْدَ مَا نَامَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ له ذلك فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ - إِلَى قَوْلِهِ - ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} (أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم) وروى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ يَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ التِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ، وَقَالَ السُّدي: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وأطعم مسكيناً فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى نَسَخَتْهَا: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فليصمه} وقال ابن عباس: ليست منسوخة، هو الشيخ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً (أخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الذِي لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ ثُمَّ ضَعُفَ، فَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مسكيناً، وعن ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى (عَطَاءٍ) فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يَأْكُلُ فَقَالَ: قَالَ ابْنُ عباس: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَنَسَخَتِ الْأُولَى، إِلَّا الْكَبِيرَ الْفَانِيَ إِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مسكينا وأفطر (أخرجه ابن مردويه عن ابن أبي ليلى) فَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ النَّسْخَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ، بِإِيجَابِ الصِّيَامِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَأَمَّا الشَّيْخُ الْفَانِي الْهَرِمُ الذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ، فَلَهُ أَنْ يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليس له حال يصير إليه يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنَ الْقَضَاءِ، وَلَكِنْ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا أَفْطَرَ أَنْ يُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا إِذَا كَانَ ذَا جِدَةٍ؟ فِيهِ قولان، أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِطْعَامٌ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ عَنْهُ لِسِنِّهِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ كَالصَّبِيِّ، لِأَنَّ اللَّهَ لاَ يُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ عن كل يوم، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَأَمَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ إِذَا لَمْ يُطِقِ الصِّيَامَ، فَقَدْ أَطْعَمَ أنَسٌ بعد ما كبر عاماً أو عامين، عن كل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً وأفطر، ومما يلتحق بهذا المعنى (الحامل) و (المرضع) إِذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا، فَفِيهِمَا خِلَافٌ كَثِيرٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُفْطِرَانِ وَيَفْدِيَانِ وَيَقْضِيَانِ، وَقِيلَ: يَفْدِيَانِ فَقَطْ وَلَا قَضَاءَ، وَقِيلَ: يَجِبُ الْقَضَاءُ بِلَا فِدْيَةٍ، وَقِيلَ: يفطران ولا فدية ولا قضاء.

- 185 - شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ -[161]- يَمْدَحُ تَعَالَى شَهْرَ الصِّيَامِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الشُّهُورِ، بِأَنِ اخْتَارَهُ مِنْ بَيْنِهِنَّ لإنزال القرآن العظيم، بِأَنَّهُ الشَّهْرُ الذِي كَانَتِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ تَنْزِلُ فيه على الأنبياء، قال الإمام أحمد عن واثلة بن الْأَسْقَعِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: وأنزلت صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لثلاث عشر خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ لِأَرْبَعٍ وعشرين خلت من رمضان، وأما الصُّحُفُ وَالتَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَالْإِنْجِيلُ، فَنَزَلَ كُلٌّ مِنْهَا عَلَى النَّبِيِّ الذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّمَا نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، وَقَالَ: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ثُمَّ نَزَلَ بَعْدُ مُفَرَّقًا بِحَسْبِ الْوَقَائِعِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَكَذَا وري من غير وجه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَطِيَّةُ بْنُ الأسود فقال: وقع في قلبي الشك قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، وَقَوْلُهُ: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} وَقَوْلُهُ: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وَقَدْ أُنْزِلَ فِي شَوَّالَ، وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَفِي ذِي الْحِجَّةِ، وَفِي الْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ وَشَهْرِ رَبِيعٍ!! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ أُنْزِلَ فِي رَمَضَانَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَفِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى مَوَاقِعِ النُّجُومِ ترتيلاً في الشهور والأيام. وقوله تعالى: {هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} هَذَا مَدْحٌ لِلْقُرْآنِ الذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ هَدًى لِقُلُوبِ الْعِبَادِ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَاتَّبَعَهُ، {وَبَيِّنَاتٍ} أي دلائل وَحُجَجٌ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ جَلِيَّةٌ لِمَنْ فَهِمَهَا وَتَدَبَّرَهَا، دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى الْمُنَافِي لِلضَّلَالِ، وَالرُّشْدِ الْمُخَالَفِ لِلْغَيِّ، وَمُفَرِّقًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُقَالَ: (رمضان) وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وقد انتصر البخاري لِهَذَا فَقَالَ: بَابٌ - يُقَالُ رَمَضَانُ - وَسَاقَ أَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، ونحو ذلك. وقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} هَذَا إِيجَابُ حتمٌ عَلَى مَنْ شَهِدَ اسْتِهْلَالَ الشَّهْرِ، أَيْ كَانَ مُقِيمًا فِي الْبَلَدِ حِينَ دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي بَدَنِهِ أَنْ يَصُومَ لَا مَحَالَةَ، وَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْإِبَاحَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ لِمَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْدِيَ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ كَمَا تَقَدَّمَ بيناه. ولما ختم الصِّيَامَ أَعَادَ ذِكْرَ الرُّخْصَةِ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمُسَافِرِ فِي الْإِفْطَارِ بِشَرْطِ الْقَضَاءِ فَقَالَ: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مَعْنَاهُ: وَمَنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ فِي بَدَنِهِ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصِّيَامُ مَعَهُ أَوْ يُؤْذِيهِ، أَوْ كان على سفر أي في حالة السفر فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه عدة مَا أَفْطَرَهُ فِي السَّفَرِ مِنَ الْأَيَّامِ، وَلِهَذَا قَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} أَيْ إِنَّمَا رَخَّصَ لَكُمْ فِي الفطر في حال المرض والسفر، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح السليم تيسيراً عليكم ورحمة بكم. وههنا مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، (إِحْدَاهَا): أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَائِهِ فَلَيْسَ لَهُ الْإِفْطَارُ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِقَوْلِهِ: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وَإِنَّمَا يُبَاحُ الْإِفْطَارُ لِمُسَافِرٍ اسْتَهَلَّ الشَّهْرَ وهو مسافر، وهذا قول غريب نقله ابن حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ (الْمُحَلَّى) عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ -[162]- الصحابة والتابعين وفيما حكاه عنهم نظر، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَرَجَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِغَزْوَةِ الْفَتْحِ فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ الكديد ثم أفطر وأمر الناس بالفطر (الحديث في الصحيحين)، (الثَّانِيَةُ): ذَهَبَ آخَرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ إِلَى وجوب الإفطار في السفر لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَلَيْسَ بِحَتْمٍ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخْرُجُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ: فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، فَلَوْ كَانَ الْإِفْطَارُ هُوَ الْوَاجِبُ لَأُنْكِرَ عَلَيْهِمُ الصِّيَامَ، بَلِ الَّذِي ثَبَتَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ صَائِمًا، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ. (الثَّالِثَةُ): قَالَت طَّآئِفَةٌ، مِّنْهُمْ الشَّافِعِيُّ: الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْطَارِ لفعل الني صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَتْ طائفة بل الإفطار أفضل أخذاً بالرخصة، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُمَا سَوَاءٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كَثِيرُ الصِّيَامِ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» (رواه البخاري ومسلم) وَقِيلَ: إِنْ شقَّ الصِّيَامُ فَالْإِفْطَارُ أَفْضَلُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «مَا هَذَا»؟ قَالُوا: صَائِمٌ، فَقَالَ: «لَيْسَ مِنَ البر الصيام في السفر» أخرجاه. (الرَّابِعَةُ): الْقَضَاءُ هَلْ يَجِبُ مُتَتَابِعًا أَوْ يَجُوزُ فِيهِ التَّفْرِيقُ فِيهِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا): أَنَّهُ يَجِبُ التَّتَابُعُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَحْكِي الْأَدَاءَ، (وَالثَّانِي): لَا يَجِبُ التَّتَابُعُ بَلْ إِنَّ شَاءَ فَرَّقَ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَعَلَيْهِ ثَبَتَتِ الدَّلَائِلُ، لِأَنَّ التَّتَابُعَ إِنَّمَا وَجَبَ فِي الشَّهْرِ لِضَرُورَةِ أَدَائِهِ فِي الشَّهْرِ، فَأَمَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ رَمَضَانَ فَالْمُرَادُ صِيَامُ أَيَّامٍ عِدَّةَ مَا أَفْطَرَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، ثم قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى حِينَ بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ: «بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» وَفِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت بالحنيفية السمحة» وَمَعْنَى قَوْلِهِ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ} أَيْ إِنَّمَا أرخص لكم في الإفطار لمرض وَالسَّفَرِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْأَعْذَارِ، لِإِرَادَتِهِ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَإِنَّمَا أَمَرَكُمْ بِالْقَضَاءِ لِتُكْمِلُوا عِدَّةَ شَهْرِكُمْ، وَقَوْلُهُ: {وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أَيْ وَلِتَذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ انْقِضَاءِ عِبَادَتِكُمْ، كَمَا قَالَ: {فَإِذَا قضيت مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذكرا}، وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تفلحون} وَلِهَذَا جَاءَتِ السُّنَّةُ بِاسْتِحْبَابِ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ، وَلِهَذَا أَخَذَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَشْرُوعِيَّةَ التَّكْبِيرِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ الله على ما هَدَاكُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أَيْ إِذَا قُمْتُمْ بِمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ مِنْ طَاعَتِهِ، بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَتَرْكِ مَحَارِمِهِ، وَحِفْظِ حُدُودِهِ، فَلَعَلَّكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الشَّاكِرِينَ بِذَلِكَ. -[163]- - 186 - و

- 187 - أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ، وَرَفْعٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ كَانَ إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُهُمْ إِنَّمَا يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ إِلَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ أَوْ يَنَامُ قَبْلَ ذَلِكَ فَمَتَى نَامَ أَوْ صَلَّى الْعِشَاءَ حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ، فَوَجَدُوا مِنْ ذَلِكَ مَشَقَّةً كَبِيرَةً، والرفثُ هُنَا هُوَ الْجِمَاعُ قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد. وَقَوْلُهُ: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} قال ابن عباس: يَعْنِي هُنَّ سَكَنٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ سَكَنٌ لَهُنَّ، وقال الربيع: هُنَّ لِحَافٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِحَافٌ لَهُنَّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُخَالِطُ الْآخَرَ وَيُمَاسُّهُ وَيُضَاجِعُهُ، فَنَاسَبَ أَنْ يُرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْمُجَامَعَةِ فِي لَيْلِ رَمَضَانَ لِئَلَّا يَشُقَّ ذَلِكَ عليهم ويحرجوا. وكان السبب في نزول هذه الآية ما روي إِنَّ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ إِلَى مِثْلَهَا، وَإِنَّ (قَيْسَ بْنَ صرمة) الأنصاري كان صائماً وكان يومه ذلك يَعْمَلُ فِي أَرْضِهِ، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارَ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا ولكنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ فَنَامَ، وَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ فَلَمَّا رَأَتْهُ نَائِمًا قَالَتْ: خَيْبَةٌ لَكَ أَنِمْتَ؟ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرفث إلى نِسَآئِكُمْ - إلى قوله - وكلو وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شديداً، ولفظ البخاري عن الْبَرَاءَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ رَمَضَانَ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ -[165]- وَعَفَا عَنْكُمْ} وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِذَا صلُّوا الْعِشَاءَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ النِّسَاءُ وَالطَّعَامُ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْقَابِلَةِ، ثُمَّ إِنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَصَابُوا مِنَ النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآن بَاشِرُوهُنَّ} الآية. وعن أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ هَذِهِ الْآيَةُ إِذَا صلُّوا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ حَتَّى يُفْطِرُوا، وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَهْلَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وإن (صرمة بن قيس) الأنصاري غلبته عيناه بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَنَامَ، وَلَمْ يَشْبَعْ مِنَ الطَّعَامِ وَلَمْ يَسْتَيْقِظْ حَتَّى صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ فَقَامَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} يَعْنِي بِالرَّفَثِ مُجَامَعَةُ النِّسَاءِ، {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} يَعْنِي تُجَامِعُونَ النِّسَاءَ وَتَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ بَعْدَ الْعِشَاءِ، {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عنك فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} يَعْنِي جَامِعُوهُنَّ {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} يَعْنِي الْوَلَدُ، {وَكُلُواْ وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فَكَانَ ذَلِكَ عفواً من الله ورحمة، وقال ابن جرير: كَانَ النَّاسُ فِي رَمَضَانَ إِذَا صَامَ الرَّجُلُ فَأَمْسَى فَنَامَ حُرِّمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ حَتَّى يُفْطِرَ مِنَ الْغَدِ، فَرَجَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ سَمُرَ عِنْدَهُ، فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ نَامَتْ فَأَرَادَهَا فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ نِمْتُ، فَقَالَ: مَا نِمْتِ، ثُمَّ وَقَعَ بِهَا. وَصَنَعَ (كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ) مِثْلَ ذَلِكَ فَغَدَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآن بَاشِرُوهُنَّ} (أخرجه ابن جرير عن كعب بن مالك) الآية. فَأَبَاحَ الْجِمَاعَ وَالطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ رحمة ورخصة ورفقاً. وقوله تعالى: {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَّكُمْ} قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة: يعني الولد، وقال عبد الرحمن ابن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} يعني الجماع، وقال قتادة: ابتغوا الرخصة التي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، يَقُولُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لكم. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ أَعَمُّ مِنْ هذا كله. قوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، أَبَاحَ تَعَالَى الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِبَاحَةِ الْجِمَاعِ، فِي أَيِّ اللَّيْلِ شَاءَ الصَّائِمُ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ ضِيَاءُ الصَّبَاحِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَرَفَعَ اللبس بقوله: {مِنَ الفجر}، كان رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ فَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتَهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بعدُ {مِنَ الْفَجْرِ} فَعَلِمُوا أَنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ والنهار (أخرجه البخاري عن سهل بن سعد) وعن عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَكُلُواْ وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} عَمَدْتُ إِلَى عِقَالَيْنِ أَحَدُهُمَا أَسْوَدُ وَالْآخَرُ أَبْيَضُ، قَالَ: فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وسادتي، قال: فجعلت أنظر إليهما فلما تبيَّن لي الأبيض من الأسود أمسكت فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت فقال: «إن وسادك إذن لعريض إنما ذلك بياض -[166]- النهار من سواد الليل» (أخرجاه في الصحيحين) وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا» ففسره بعضهم بالبلادة، ويفسره رواية البخاري أيضاً قَالَ: "إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا إِنْ أَبْصَرْتَ الْخَيْطَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: لَا، بَلْ هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وبياض النهار". (فصل) وَفِي إِبَاحَتِهِ تَعَالَى جَوَازَ الْأَكْلِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ السُّحُورِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ وَالْأَخْذُ بِهَا مَحْبُوبٌ وَلِهَذَا وَرَدَتِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحث على السحور. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أنَس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةٌ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فَصْلَ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الكتاب أكلة السحور»، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ فَلَا تَدَعوه وَلَوْ أَنَّ أحدكم تجرَّع جرعة مَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ» (رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري) ويستحب تأخيره كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قمنا إلى الصلاة، فقال أنَس قُلْتُ لزيدٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ والسحور؟ قال: قدر خمسين آية. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْإِفْطَارَ وأخروا السحور» (رواه أحمد عن أبي ذر الغفاري). وحكى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَمَا يَجُوزُ الْإِفْطَارُ بِغُرُوبِهَا. (قُلْتُ): وَهَذَا الْقَوْلُ مَا أَظُنُّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَقِرُّ لَهُ قَدَمٌ عَلَيْهِ لِمُخَالَفَتِهِ نَصَّ الْقُرْ

- 188 - وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بالإثم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذَا فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ مَالٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِ بَيِّنَةٌ فَيَجْحَدُ الْمَالَ وَيُخَاصِمُ إِلَى الْحُكَّامِ، وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّ الْحَقَّ عليه وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا تخاصمْ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ ظَالِمٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ وَإِنَّمَا يَأْتِينِي الْخِصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ فَلْيَحْمِلَهَا أَوْ لِيَذَرْهَا"، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُغَيِّرُ الشَّيْءَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَا يُحِلُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَرَامًا هُوَ حَرَامٌ، وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا هو حلال وإنما هو ملزم فِي الظَّاهِرِ. فَإِنْ طَابَقَ -[169]- فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلِلْحَاكِمِ أَجْرُهُ وَعَلَى الْمُحْتَالِ وِزْرُهُ، ولهذا قال تعالى: {وتُدلوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ تَعْلَمُونَ بطلان ما تدعونه وترجونه في كلامكم.

- 189 - يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون سَأَلَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} يَعْلَمُونَ بِهَا حِلَّ دَيْنِهِمْ وَعِدَّةَ نِسَائِهِمْ، ووقتَ حجهم، وقال الربيع: بَلَغَنَا أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ خُلِقَتِ الْأَهِلَّةُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} يَقُولُ جَعَلَهَا اللَّهُ مَوَاقِيتَ لِصَوْمِ الْمُسْلِمِينَ وَإِفْطَارِهِمْ، وَعِدَّةِ نِسَائِهِمْ، وَمَحَلِّ دينهم. وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَعَلَ اللَّهُ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ، فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنَّ غُمَّ عليكم فعدوا ثلاثين يوماً» (رواه الحاكم في المستدرك). وقوله تَعَالَى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}، قال البخاري عن البراء: كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَتَوُا الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا} وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ أَقْوَامٌ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ سَفَرًا، وَخَرَجَ مَنْ بَيْتِهِ يُرِيدُ سَفَرَهُ الذِي خَرَجَ لَهُ، ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ أَنْ يُقِيمَ وَيَدَعَ سَفَرَهُ لَمْ يَدْخُلِ الْبَيْتَ مِنْ بَابِهِ، وَلَكِنْ يَتَسَوَّرُهُ مِنْ قِبَلَ ظَهْرِهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} الآية وَقَوْلُهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أَيِ اتَّقَوُا اللَّهَ فَافْعَلُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَاتْرُكُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} غَدًا إِذَا وَقَفْتُمْ بين يديه فيجازيكم عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ.

- 190 - وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ - 191 - وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ - 192 - فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ - 193 - وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظالمين هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقاتل من قاتله وكف عَمَّنْ كَفَّ عَنْهُ، حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٍ كذا قال ابن أَسْلَمَ حَتَّى قَالَ: هَذِهِ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا المشركين حَيْثُ وجدتموهم} وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذي هِمَّتُهُمْ قِتَالُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، -[170]- أَيْ كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ فاقتلوهم أَنْتُمْ، كَمَا قَالَ: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثقفتموهم وأخجروهم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم كما هِمَّتَهُمْ مُنْبَعِثَةٌ عَلَى قِتَالِكُمْ وَعَلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنْ بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصاً. وقوله تعالى: {وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أَيْ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تَعْتَدُوا فِي ذَلِكَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ارْتِكَابُ الْمَنَاهِي مِنَ الْمَثُلَةِ وَالْغُلُولِ وَقَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشُّيُوخِ وَأَصْحَابِ الصَّوَامِعِ وَتَحْرِيقِ الْأَشْجَارِ وَقَتْلِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مصلحة وَلِهَذَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: «اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِالْلَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع». وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قال: «اخرجوا باسم اللَّهِ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بالله، لا تعتدوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ ولا أصحاب الصوامع» (رواه أحمد وأبو داود) وفي الصحيحين عن ابن عمر قافل: وُجِدَتِ امْرَأَةٌ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبان. وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ فِيهِ إِزْهَاقُ النُّفُوسِ وَقَتْلُ الرِّجَالِ، نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَا هُمْ مُشْتَمَلُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِالْلَّهِ وَالشِّرْكِ بِهِ الصد عَنْ سَبِيلِهِ أبلغُ وأشدُّ وَأَعْظَمُ وَأَطَمُّ مِنَ الْقَتْلِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} قال أبو العالية ومجاهد وعكرمة: الشِّرْكُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القيامة، ولم يحل إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَهَارٍ - وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ - فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لكم" (أخرجه الشيخان) يَعْنِي بِذَلِكَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ قِتَالَهُ أهله يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُ فَتَحَهَا عَنْوَةً وَقُتِلَتْ رِجَالٌ مِنْهُمْ عِنْدَ الْخَنْدَمَةِ وَقِيلَ صُلْحًا لِقَوْلِهِ: «مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سفيان فهو آمن» وَقَوْلُهُ: {حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين} يقول تعالى: ولا تقاتلوهم عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يَبْدَأُوكُمْ بِالْقِتَالِ فِيهِ فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعاً للصائل، كَمَا بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَلَى الْقِتَالِ لَمَّا تَأَلَّبَتْ عَلَيْهِ بُطُونُ قُرَيْشٍ وَمَنْ وَالَاهُمْ مِنْ أَحْيَاءِ ثَقِيفٍ وَالْأَحَابِيشِ عَامَئِذٍ ثُمَّ كَفَّ اللَّهُ الْقِتَالَ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: {وَهُوَ الذِي كفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}. وقوله تعالى: {فَإِن انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أَيْ فَإِنْ تَرَكُوا الْقِتَالَ فِي الْحَرَمِ وَأَنَابُوا إِلَى الإسلام والتوبة فإن الله يَغْفِرُ ذُنُوبَهُمْ، وَلَوْ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا الْمُسْلِمِينَ فِي حَرَمِ اللَّهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ لِمَنْ تَابَ مِنْهُ إِلَيْهِ، ثم أمر الله بِقِتَالِ الْكُفَّارِ {حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أَيْ شرك قاله ابن عباس والسدي {وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ} أَيْ يَكُونَ دِينُ اللَّهِ هُوَ الظَّاهِرُ الْعَالِي عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شُجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فهو في سبيل الله». -[171]- وقوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}، يقول تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَقِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَكُفُّوا عَنْهُمْ، فَإِنَّ مَنْ قَاتَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ ظَالِمٌ وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا على الظالمين، وهذا معنى قول (مجاهد) أن لَا يُقَاتَلُ إِلَّا مَنْ قَاتَلَ، أَوْ يَكُونُ تَقْدِيرُهُ {فَإِنِ انْتَهَوْا} فَقَدْ تَخَلَّصُوا مِنَ الظُّلْمِ والشرك فَلَا عُدْوَانَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِالْعُدْوَانِ ههنا الْمُعَاقَبَةُ وَالْمُقَاتَلَةُ كَقَوْلِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، وَقَوْلِهِ: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مثلها}، {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: الظَّالِمُ الذِي أَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَتَاهُ رَجُلَانِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَا: إن الناس ضيعوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ وَصَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تخرج؟ فقال: يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي. قَالَا: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}؟ فقال: قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فتنة وحتى يكون الدين لغير الله. وعن نَافِعٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا حَمَلَكَ عَلَى أن تحج عاماً وتقيم عاماً وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل وَقَدْ عَلِمْتَ مَا رَغَّبَ اللَّهُ فِيهِ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: الإيمان بالله ورسوله، والصلاة الْخَمْسُ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ، وَحَجُّ الْبَيْتِ. قالوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُواْ التِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهُ}، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} قَالَ: فعلنا على عهد رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا، فكان الرجل يفتن في دينه وإما قَتَلُوهُ أَوْ عَذَّبُوهُ حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، قَالَ: فَمَا قَوْلُكَ فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ؟ قَالَ: أَمَّا (عُثْمَانُ) فَكَانَ اللَّهُ عَفَا عنه وأما أنتم فكرهتم أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَأَمَّا (عَلِيٌّ) فَابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَتَنُهُ، فأشار بيده فقال: هذا بيته حيث ترون (الحديث من رواية البخاري).

- 194 - الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المتقين قال ابن عباس: لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَمِرًا فِي سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَحَبَسَهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الدُّخُولِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ، وَصَدُّوهُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَهُوَ شَهْرٌ حَرَامٌ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى الدُّخُولِ مِنْ قَابِلٍ، فَدَخَلَهَا فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ هو ومن كان مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَقَصَّهُ اللَّهُ مِنْهُمْ فَنَزَلَتْ فِي ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ والحرمات قِصَاصٌ} وعن جابر بن عبد لله قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا ان يغزى وتغزوا فإذا حضره أقام حتى ينسلخ (رواه أحمد، قال ابن كثير: إسناده صَحِيحٌ) وَلِهَذَا لَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُخَيِّمٌ بِالْحُدَيْبِيَةِ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ، وَكَانَ قَدْ بَعَثَهُ فِي رِسَالَةٍ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، بَايَعَ أَصْحَابَهُ وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يُقْتَلْ كَفَّ عَنْ ذَلِكَ وَجَنَحَ إِلَى الْمُسَالِمَةِ وَالْمُصَالِحٍةِ، فَكَانَ مَا كَانَ، وَكَذَلِكَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِتَالِ (هَوَازِنَ) يَوْمَ حُنَيْنٍ وَتَحَصَّنَ فَلُّهُمْ بِالطَّائِفِ عَدَلَ إِلَيْهَا فَحَاصَرَهَا وَدَخَلَ ذو القعدة وهو محاصر لها بِالْمَنْجَنِيقِ -[172]- وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهَا إِلَى كَمَالِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ، فَلَمَّا كَثُرَ الْقَتْلُ فِي أَصْحَابِهِ انْصَرَفَ عَنْهَا وَلَمْ تُفْتَحْ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ وَاعْتَمَرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، وَكَانَتْ عُمْرَتُهُ هَذِهِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ أَيْضًا عَامَ ثَمَانٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم} أَمَرَ بِالْعَدْلِ حَتَّى فِي الْمُشْرِكِينَ، كَمَا قَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}، وقال: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مثلها}. وَقَوْلُهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أَمْرٌ لَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ، وإخبارٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

- 195 - وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال البخاري عَنْ حُذَيْفَةَ: {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} نزلت في النفقة. وعن أسلم أبي عمران قال: كُنَّا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ (عُقْبَةُ بْنُ عامر) وعلى أهل الشام رجل (يزيد بن فضالة ابن عُبَيْدٍ) فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ صَفٌّ عَظِيمٌ مِنَ الرُّومِ فَصَفَفْنَا لَهُمْ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا فَصَاحَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ لَتَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى غَيْرِ التَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الأنصار، إنا لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ دِينَهُ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ قُلْنَا فِيمَا بَيْنَنَا: لَوْ أَقْبَلْنَا عَلَى أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَاهَا، فأنزل الله هذه الآية (أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، واللفظ لأبي داود) وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} قال: لَيْسَ ذَلِكَ فِي الْقِتَالِ، إِنَّمَا هُوَ فِي النَّفَقَةِ أَنْ تُمْسِكَ بِيَدِكَ عَنِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا تُلْقِ بِيَدِكَ إِلَى التَّهْلُكَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، قَالَ: هُوَ الْبُخْلُ، وَقَالَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أَنْ يُذْنِبَ الرَّجُلُ الذَّنْبَ فَيَقُولُ لَا يُغفر لِي فَأَنْزَلَ الله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} وقيل: إِنَّهَا فِي الرَّجُلِ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يُغْفَرُ لَهُ فَيُلْقِي بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، أي يستكثر من الذنوب فيهلك. وقيل: أَنَّ رِجَالًا كَانُوا يَخْرُجُونَ فِي بُعُوثٍ يَبْعَثُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ نفقة، فأما أن يُقْطَعُ بِهِمْ وَإِمَّا كَانُوا عِيَالًا، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَلَا يُلْقُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، والتهلُكة أَنْ يَهْلَكَ رِجَالٌ من الجوع والعطش أَوْ مِنَ الْمَشْيِ، وَقَالَ لِمَنْ بِيَدِهِ فَضْلٌ {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وَمَضْمُونُ الْآيَةِ الأمرُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الْقُرُبَاتِ وَوُجُوهِ الطَّاعَاتِ، وَخَاصَّةً صَرْفُ الْأَمْوَالِ فِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ، وَبَذْلُهَا فِيمَا يَقْوَى بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ تَرْكِ فِعْلِ ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لَزِمَهُ وَاعْتَادَهُ، ثُمَّ عَطَفَ بِالْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ وَهُوَ أَعْلَى مَقَامَاتِ الطَّاعَةِ فَقَالَ: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يحب المحسنين}.

- 196 - وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر من الهدي وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ -[173]- بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَحْكَامَ الصِّيَامِ وَعَطَفَ بِذِكْرِ الْجِهَادِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمَنَاسِكِ فَأَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وظاهرُ السِّيَاقِ إِكْمَالُ أَفْعَالِهِمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أَيْ صُدِدْتُمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ وَمُنِعْتُمْ مِنْ إِتْمَامِهِمَا، وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُلْزِمٌ، سَوَاءٌ قِيلَ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ أَوْ باستحبابها. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ} قَالَ: أَنْ تُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أهلك. وعن سفيان الثوري أنه قال: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ مِنْ أَهْلِكَ لَا تُرِيدُ إِلَّا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَتُهِلُّ مِنَ الْمِيقَاتِ، لَيْسَ أَنْ تَخْرُجَ لِتِجَارَةٍ وَلَا لِحَاجَةٍ، حَتَّى إِذَا كُنْتَ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ قُلْتَ: لَوْ حَجَجْتُ أو اعتمرت وذلك يجزىء وَلَكِنَّ التَّمَامَ أَنْ تَخْرُجَ لَهُ وَلَا تَخْرُجَ لِغَيْرِهِ، وَقَالَ مَكْحُولٌ: إِتْمَامُهُمَا إِنْشَاؤُهُمَا جَمِيعًا مِنَ الميقات، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ: مِنْ تَمَامِهِمَا أَنْ تُفرد كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ، وَأَنْ تَعْتَمِرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ معلومات} وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلُّهَا فِي ذِي الْقِعْدَةِ (عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ) فِي ذِي الْقِعْدَةِ سنة ست و (عُمْرَةِ الْقَضَاءِ) فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ و (عمرة الجعرانة) في ذي القعدة سنة ثمان و (عمرته التِي مَعَ حَجَّتِهِ) أَحْرَمَ بِهِمَا مَعًا فِي ذي القعدة سنة عشر، وما اعتمر فِي غَيْرِ ذَلِكَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ، وَلَكِنْ قَالَ لأم هانىء: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي» وَمَا ذاك إلا لأنها قَدْ عَزَمَتْ عَلَى الْحَجِّ مَعَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاعْتَاقَتْ عَنْ ذَلِكَ بِسَبَبِ الطُّهْرِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْحَدِيثِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَنَصَّ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهَا. وَاللَّهُ أعلم. وقال ابن عباس من أحرم بحج أو بعمرة فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحُلَّ حَتَّى يُتِمَّهُمَا، تَمَامُ الْحَجِّ يَوْمَ النَّحْرِ إِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ أنَس وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ فِي إِحْرَامِهِ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ»، وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». وقوله تعالى: {فَإِن أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ذَكَرُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ سِتٍّ أَيْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ حَالَ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ سُورَةَ الْفَتْحِ بِكَمَالِهَا، وَأَنْزَلَ لَهُمْ رُخْصَةً أَنْ يَذْبَحُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ الْهَدْيِ وَكَانَ سَبْعِينَ بدنة، وأن يحلقوا رؤوسهم وَأَنْ يَتَحَلَّلُوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُمْ عليه السلام بأن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا فَلَمْ يَفْعَلُوا انْتِظَارًا لِلنَّسْخِ حَتَّى خَرَجَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَفَعَلَ النَّاسُ وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ قصَّر رَأْسَهُ وَلَمْ يَحْلِقْهُ فَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ»، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «وَالْمُقَصِّرِينَ»، وَقَدْ كَانُوا اشْتَرَكُوا فِي هَدْيِهِمْ ذَلِكَ كُلُّ سَبْعَةٍ فِي بَدَنَةٍ وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَكَانَ مَنْزِلُهُمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ خَارِجَ الْحَرَمِ وَقِيلَ: بَلْ كَانُوا على طرف الحرم. فالله أعلم. -[174]- وقد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - هَلْ يُخْتَصُّ الْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ؟ فَلَا يَتَحَلَّلُ إِلَّا مَنْ حَصَرَهُ عَدُوٌّ، لَا مَرَضٌ ولا غيره - على قولين: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ فَأَمَّا مَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ وَجَعٌ أَوْ ضَلَالٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} فَلَيْسَ الأمن حصراً. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَصْرَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِعَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ أَوْ ضَلَالٍ وَهُوَ التوهان عن الطريق لحديث: «من كسر أو وجع أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حلَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخرى» (رواه أحمد) وروي عن ابن مسعود وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أَنَّهُمْ قَالُوا: الْإِحْصَارُ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ أو كسر. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَأَنَا شَاكِيَةٌ، فَقَالَ: «حُجِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حبستني». وقوله تعالى: {فَمَا استيسر من الهدي} عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَانَ يقول: {فَمَا استيسر من الهدي} شاة، والهدي مِنَ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ والضأن) وهو مذهب الأئمة الأربعة. وروي عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ إِلَّا مِنَ الإبل والبقر، وروي مثله عن سعيد بن جبير. (قُلْتُ): وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُسْتَنَدَ هَؤُلَاءِ فِيمَا ذَهَبُوا إليه قصة الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أنه ذبح في تحلله ذلك شَاةً وَإِنَّمَا ذَبَحُوا الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ والبقر كل سبعة منا في بقرة، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قَالَ: بِقَدْرِ يَسَارَتِهِ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنْ كَانَ مُوسِرًا فَمِنَ الْإِبِلِ، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ إِجْزَاءِ ذَبْحِ الشَّاةِ فِي الْإِحْصَارِ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ ذَبْحَ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أَيْ مَهْمَا تَيَسَّرَ مِمَّا يُسَمَّى هَدْيًا، والهديُ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَهِيَ (الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ) كَمَا قَالَهُ الْحَبْرُ الْبَحْرُ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ وابن عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أُم الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَهْدَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً غَنَمًا. وَقَوْلُهُ تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ} وَلَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} كَمَا زَعَمَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا حَصَرَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى الْحَرَمِ، حَلَقُوا وَذَبَحُوا هَدْيَهُمْ خَارِجَ الْحَرَمِ، فأما في حالة الْأَمْنِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْحَرَمِ فَلَا يَجُوزُ الْحَلْقُ {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَيَفْرَغُ النَّاسِكُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِنْ كَانَ قَارِنًا، أَوْ مِنْ فِعْلِ أَحَدِهِمَا إِنْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ مُتَمَتِّعًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَفْصَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا مِنَ الْعُمْرَةِ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ من عمرتك؟ فقال: «إني لبدت رأس وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر» (أخرجه البخاري) وقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}. روى البخاري عن عبد الله بن معقل قال: قعدت إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، يعني مسجد الكوفة، فسألته عن فدية مِنْ صِيَامٍ فَقَالَ: حُملتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقملُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ: «مَا كنتُ أَرَى أَنَّ الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ هَذَا أَمَا تَجِدُ شَاةً؟» قُلْتُ: لَا، قَالَ: «صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ -[175]- طَعَامٍ وَاحْلِقْ رَأْسَكَ» فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً وَهِيَ لَكُمْ عامة، وعن كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ، والقملُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي أَوْ قَالَ حَاجِبِي فَقَالَ: «يُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟» قلتُ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاحْلِقْهُ

- 197 - الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَقْدِيرُهُ الْحَجُّ حَجُّ أَشْهَرٍ مَعْلُومَاتٍ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام فِيمَا عَدَاهَا، وَإِنْ كَانَ ذَاكَ صَحِيحًا، وَالْقَوْلُ بِصِحَّةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ مَذْهَبُ مالك وأبي حنيفة وأحمد وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} وَبِأَنَّهُ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ فصحَّ الْإِحْرَامُ بِهِ فِي جميع السنة كالعمرة، وذهب الشافعي إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أَشْهُرِهِ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِهِ قَبْلَهَا لَمْ يَنْعَقِدْ إِحْرَامُهُ بِهِ، وَهَلْ يَنْعَقِدُ عُمْرَةً؟ فِيهِ قَوْلَانِ عَنْهُ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بالحج إلى فِي أَشْهُرِهِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ ومجاهد رحمهم الله، والدليل عليه قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} وَظَاهِرُهُ التَّقْدِيرُ الْآخَرُ الذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ النُّحَاةُ، وَهُوَ أَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ، فَخَصَّصَهُ بِهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ شُهُورِ السَّنَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ قبلها كميقات الصلاة. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلَّا فِي شُهُورِ الحج، من أجل قول الله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}، وعنه أنه قال: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلَّا في أشهر الحج، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا فِي حَكَمِ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَلَا سِيَّمَا قَوْلُ ابْنِ عباس تفسيراً للقرآن وهو ترجمانه. وقوله تعالى: {أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}، قل الْبُخَارِيُّ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: هِيَ (شَوَّالٌ وَذُو القعدة وعشر من ذي الحجة) وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: وَصَحَّ إِطْلَاقُ الْجَمْعِ عَلَى شَهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ لِلتَّغْلِيبِ، كما تقول العرب رأيته الْعَامَ وَرَأَيْتُهُ الْيَوْمَ وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي بعض العام واليوم، وقال الإمام مالك وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: هِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ بِكَمَالِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عمر أيضاً. وَفَائِدَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ إِلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْحَجِّ، فَيُكْرَهُ الِاعْتِمَارُ فِي بَقِيَّةِ ذِي الْحِجَّةِ، لَا أَنَّهُ يَصِحُّ الحج بعد ليلة النحر، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يُحِبَّانِ الِاعْتِمَارَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَنْهَيَانِ عَنْ ذَلِكَ فِي أَشْهُرِ الحج، والله أعلم. وقوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} أي وأجب بإحرامه حجاً، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ من الفرض ههنا الإيجاب والإلزام، وقال ابن عباس: {فمن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ: الفرض الإحرام، وَقَوْلُهُ: {فَلاَ رَفَثَ} أَيْ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، فَلْيَجْتَنِبِ الرَّفَثَ وَهُوَ الْجِمَاعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلى نسائكم} وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ تَعَاطِي دَوَاعِيهِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّقْبِيلِ ونحو ذلك، وكذلك التكلم به بحضرة النساء. قال عبد الله بن عمر: الرفث إتيان النساء والتكلم بذلك للرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم. -[178]- وقال ابن عباس: إِنَّمَا الرَّفَثُ مَا قِيلَ عِنْدَ النِّسَاءِ، وَقَالَ طاووس: سألت ابن عباس عن قول الله عزَّ وجلَّ: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} قَالَ: الرَّفَثُ التَّعْرِيضُ بِذِكْرِ الْجِمَاعِ وَهِيَ الْعَرَابَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وهو أدنى الرفث، وقال عطاء: الرَّفَثُ الْجِمَاعُ وَمَا دُونَهُ مِنْ قَوْلِ الْفُحْشِ، وقال أبو العالية عن ابن عباس: الرفث غشيان النساء والقبلة والغمز، وأن تعرض لها بالفحش من الكلام ونحو ذلك. وقوله تعالى: {وَلاَ فُسُوقَ} عن ابن عباس: هي المعاصي، وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْفُسُوقُ مَا أُصِيبَ مِنْ معاصي الله صيداً أو غيره، وقال آخرون: الفسوق ههنا السباب قاله ابن عباس ومجاهد وَالْحَسَنُ، وَقَدْ يَتَمَسَّكُ لِهَؤُلَاءِ بِمَا ثَبَتَ فِي الصحيح: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفُسُوقُ التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ. وَالَّذِينَ قَالُوا: هو جميع المعاصي الصواب معهم، كَمَا نَهَى تَعَالَى عَنِ الظُّلْمِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَإِنْ كَانَ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ فِي الْأَشْهُرِ الحُرُم آكَدُ - وَلِهَذَا قَالَ: {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} - وَقَالَ فِي الْحَرَمِ: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، واختار ابن جرير أن الفسوق ههنا هُوَ ارْتِكَابُ مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ، وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وما ذكرناه أولى، وقد ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذنوبه كيوم ولدته أمه» (رواية الصحيحين «رجع كيوم ولدته أمه» وليس فيها خرج من ذنوبه. ولفظ مسلم في أوله «من أتى هذا البيت»، وفي رواية للبخاري «من حج لله») وقوله تعالى: {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فِيهِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا): ولا مجادلة في وقت الحج في مَنَاسِكِهِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ أَتَمَّ بَيَانٍ وَوَضَّحَهُ أكمل إيضاح (والقول الثاني): أن المراد بالجدال ههنا المخاصمة. قال ابن جرير عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قَالَ: أَنْ تُمَارِيَ صاحبك حتى تغضبه. وقال ابن عباس: {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} المراء والملاحاة حتى تُغْضب أخاك وصاحبك. وعن نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: الْجِدَالُ في الحج: السباب والمراء والخصومات. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَضَى نُسُكَهُ وَسَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (أَخْرَجَهُ عبد بن حميد في مسنده عن جابر) وقوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ}: لَمَّا نهاهم عن إيتان الْقَبِيحِ قَوْلَا وَفِعْلًا، حَثَّهُمْ عَلَى فِعْلِ الْجَمِيلِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِ وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَيْهِ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى}، عن عكرمة أن أناساً كَانُوا يَحُجُّونَ بِغَيْرِ زَادٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى}، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ وَيَقُولُونَ نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} (رواه البخاري وأبو داود) وقوله تعالى: {فَإِن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالزَّادِ للسفر في الدنيا، فأرشدهم إِلَى زَادِ الْآخِرَةِ وَهُوَ -[179]- اسْتِصْحَابُ التَّقْوَى إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ: {وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}، لَمَّا ذَكَرَ اللَّبَاسَ الْحِسِّيَّ، نَبَّهَ مُرْشِدًا إِلَى اللَّبَاسِ الْمَعْنَوِيِّ، وَهُوَ الْخُشُوعُ وَالطَّاعَةُ وَالتَّقْوَى، وَذَكَرَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِّنْ هَذَا وَأَنْفَعُ. قَالَ عَطَاءٌ: يعني زاد الْآخِرَةِ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَتَزَوَّدُواْ} قَامَ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المسليمن فقال: يا رسول الله ما نجد ما نَتَزَوَّدُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تزودْ مَا تَكُفُّ بِهِ وَجْهَكَ عَنِ النَّاسِ وَخَيْرُ مَا تَزَوَّدْتُمُ التَّقْوَى» (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ) وَقَوْلُهُ: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}، يَقُولُ: وَاتَّقُوا عِقَابِي وَنَكَالِي وَعَذَابِي، لِمَنْ خَالَفَنِي وَلَمْ يَأْتَمِرْ بِأَمْرِي، يَا ذَوِي الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ.

- 198 - لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في الموسم، فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} (رواه البخاري عن ابن عباس) في مواسم الحج، وَلِبَعْضِهِمْ: فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ تَأَثَّمُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فأنزل الله هذه الآية. وروى أبو داود عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا يَتَّقُونَ الْبُيُوعَ وَالتِّجَارَةَ فِي الْمَوْسِمِ وَالْحَجِّ يَقُولُونَ أَيَّامُ ذِكْرٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ}. وقال ابن جرير: سمعت ابن عمر سئل عَنِ الرَّجُلِ يَحُجُّ وَمَعَهُ تِجَارَةٌ فَقَرَأَ ابْنُ عُمَرَ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} وَهَذَا مَوْقُوفٌ وَهُوَ قَوِيٌّ جَيِّدٌ، وقد روي مرفوعاً. عَنْ أَبِي أُمَامَةَ التَّيْمِيِّ قَالَ، قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّا نُكْرِي فَهَل لَّنَا مِن حَجٍّ؟ قَالَ: أَلَيْسَ تَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَتَأْتُونَ الْمُعَرَّفَ؟؟، وَتَرْمُونَ الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ قال، قلنا: بلى، فقلنا ابْنُ عُمَرَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ الذِي سَأَلْتَنِي فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أنتم حجاج» (رواه أحمد عن أبي أمامة التيمي" وعن أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى عُمَرَ قَالَ، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كُنْتُمْ تَتَّجِرُونَ فِي الْحَجِّ؟ قَالَ: وَهَلْ كَانَتْ مَعَايِشُهُمْ إِلَّا فِي الْحَجِّ؟. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} إِنَّمَا صَرَفَ عَرَفَاتٍ - وَإِنْ كَانَ عَلَمًا عَلَى مُؤَنَّثٍ - لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ جَمْعٌ كَمُسْلِمَاتٍ وَمُؤْمِنَاتٍ، سُمِّيَ بِهِ بقعةٌ مُعَيَّنَةٌ فَرُوعِيَ فِيهِ الْأَصْلُ فَصُرِفَ، اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وعرفة موضع الوقوف فِي الْحَجِّ، وَهِيَ عُمْدَةُ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَلِهَذَا روي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «الْحَجُّ عَرَفَاتٌ - ثَلَاثًا - فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ، وَأَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» (رواه أحمد وأصحاب السنن بإسناد صحيح) وَوَقْتُ الْوُقُوفِ مِنَ الزَّوَالِ يَوْمَ -[180]- عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الظُّهْرَ إِلَى أَنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَقَالَ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، وَقَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ»، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ من أول يوم عرفة واحتج بحديث الشعبي عن عروة بن مضرس الطَّائِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُزْدَلِفَةِ حِينَ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي جِئْتُ مِنْ جبل طيء أكللت راحلتي وأتعبد نفسي، والله ما تركت من جبل إلى وَقَفْتُ عَلَيْهِ فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» (رَوَاهُ أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي). وتسمى عرفات (المشعر الحرام) والمشعر الأقصى و (إلال) عَلَى وَزْنِ هِلَالُ وَيُقَالُ لِلْجَبَلِ فِي وَسَطِهَا جَبَلُ الرَّحْمَةِ، قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ: وَبِالْمَشْعَرِ الْأَقْصَى إِذَا قَصَدُوا لَهُ * إِلَالُ إلى تلك الشراج القوابل عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ كَأَنَّهَا الْعَمَائِمُ عَلَى رُؤُوسِ الرِّجَالِ دَفَعُوا، فَأَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّفْعَةَ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ. وَفِي حَدِيثِ (جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) الطَّوِيلِ الذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ فِيهِ: (فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا يَعْنِي بِعَرَفَةَ، حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وبدت الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: «أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ» كُلَّمَا أَتَى جَبَلًا مِنَ الْجِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبّح بينهما (ولم يسبّح بينهما: المراد به لم يتنقل أثناء الجمع بين الفريقين) شَيْئًا ثُمَّ اضْطَجَعَ، حَتَّى طَلُعَ الْفَجْرُ فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَا اللَّهَ وكبَّره وهلَّله وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا فَدَفَعَ قبل أن تطلع الشمس". وفي الصحيحين عن أسامة ابن زَيْدٍ أَنَّهُ سُئِلَ كَيْفَ كَانَ يَسِيرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ، وَالْعَنَقُ هُوَ انْبِسَاطُ السَّيْرِ، وَالنَّصُّ فَوْقَهُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ الْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا، وعنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المشعر الحرام} فقال: هذا الجبل وما حوله. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ والحسن وقتادة أنه قَالُوا: هُوَ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ جرير: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَيْنَ الْمُزْدَلِفَةُ؟ قَالَ: إِذَا أَفَضْتَ مِنْ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ فَذَلِكَ إِلَى مُحَسَّرٍ، قَالَ: وَلَيْسَ الْمَأْزِمَانِ مَأْزِمَا عَرَفَةَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ وَلَكِنْ مفضاهما، قَالَ: فَقِفْ بَيْنَهُمَا إِنْ شِئْتَ، قَالَ: وَأُحِبُّ أَنْ تَقِفَ دُونَ قُزَحَ هَلُمَّ إِلَيْنَا مِنْ أَجْلِ طَرِيقِ النَّاسِ. (قُلْتُ): وَالْمَشَاعِرُ هِيَ الْمَعَالِمُ الظَّاهِرَةُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْمُزْدَلِفَةُ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ لِأَنَّهَا داخل الحرم، وعن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وارفعوا عن عرفة، وجمعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا مُحَسَّرًا» هَذَا حَدِيثٌ مرسل، وقد قال الإمام أحمد عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ عَرَفَاتٍ مَوْقِفٌ وارفعوا عن عرفات، وَكُلُّ مُزْدَلِفَةَ مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا عَنْ مُحَسَّرٍ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ، وَكُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ» (الحديث رواه أحمد وإسناده منقطع) -[181]- وقوله تعالى: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} تنبيه لهم على ما أنعم الله بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْبَيَانِ، وَالْإِرْشَادِ إِلَى مشاعر الحج، على ما كان عليه من الهداية لإبراهيم الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} قِيلَ: مِنْ قَبْلِ هذا الهدي، وقيل: القرآن، وقيل: الرَّسُولِ، وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ وَمُتَلَازِمٌ وَصَحِيحٌ.

- 199 - ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَالَ الْبُخَارِيُّ: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون (الحُمْس) وسائر الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ ثُمَّ يَقِفُ بِهَا ثُمَّ يَفِيضُ مِنْهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}، والمراد بالإفاضة ههنا هِيَ الْإِفَاضَةُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى لِرَمْيِ الجمار. وقوله تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} كَثِيرًا مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِذِكْرِهِ بَعْدَ قَضَاءِ الْعِبَادَاتِ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثَلَاثًا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ نَدَبَ إِلَى التَّسْبِيحِ والتحميد والتكبير ثلاثاً وثلاثين، وقد روى ابن جرير استغفاره صلى الله عليه وسلم لأُمته عشية عرفة. وعن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سيِّد الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتِنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عهدك ووعدك ما اتسطعت، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عليَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، مَنْ قَالَهَا فِي لَيْلَةٍ فَمَاتَ فِي لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قَالَهَا فِي يَوْمِهِ فَمَاتَ دَخَلَ الجنة" (أخرجه البخاري وابن مردويه) وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي فَقَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»، وَالْأَحَادِيثُ فِي الِاسْتِغْفَارِ كَثِيرَةٌ.

- 200 - فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ - 201 - وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ - 202 - أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ يَأْمُرُ تَعَالَى بِذِكْرِهِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ بَعْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ وَفَرَاغِهَا. وَقَوْلُهُ {كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} اختلفوا في معناه فقال عطاء: هو كَمَا يَلْهَجُ الصَّبِيُّ بِذِكْرِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ فَالْهَجُوا بِذِكْرِ اللَّهِ بَعْدَ قَضَاءِ النُّسُكِ. وقال ابن عباس: كان أهل الجاهليلة يَقِفُونَ فِي الْمَوْسِمِ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ: كَانَ أَبِي يُطْعِمُ، وَيَحْمِلُ الْحَمَالَاتِ، وَيَحْمِلُ الدِّيَاتِ، لَيْسَ لَهُمْ ذِكْرٌ غَيْرُ فِعَالِ آبَائِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَاذْكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ -[182]- ذِكْراً}، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْحَثُّ عَلَى كَثْرَةِ الذِّكْرِ لِلَّهِ عز وجل، و (أو) ههنا لِتَحْقِيقِ الْمُمَاثِلَةِ فِي الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قسوة} فليست ههنا للشك قطعاً وإنما هي لتحقيق المخبر عنه كَذَلِكَ أَوْ أَزْيَدَ مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَرْشَدَ إِلَى دُعَائِهِ بَعْدَ كَثْرَةِ ذِكْرِهِ فَإِنَّهُ مَظِنَّةُ الْإِجَابَةِ، وَذَمَّ مَنْ لَا يَسْأَلُهُ إِلَّا فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْ أُخْرَاهُ فَقَالَ: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} أَيْ مِنْ نَصِيبٍ وَلَا حَظٍّ، وتضمَّنَ هَذَا الذَّمُّ التَّنْفِيرَ عَنِ التَّشَبُّهِ بِمَنْ هُوَ كذلك، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْأَعْرَابِ يَجِيئُونَ إِلَى الْمَوْقِفِ فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ عَامَ غَيْثٍ، وَعَامَ خِصْبٍ، وَعَامَ وَلَادٍ حَسَنٍ، لَا يَذْكُرُونَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} ولهذا مدح من يسأله الدنيا والأُخرى، فقال: {ومنهم من يقور رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، فَجَمَعَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ كُلَّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَصَرَفَتْ كُلَّ شَرٍّ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا تَشْمَلُ كُلَّ مَطْلُوبٍ دُنْيَوِيٍّ مِنْ عَافِيَةٍ، وَدَارٍ رَحْبَةٍ، وَزَوْجَةٍ حَسَنَةٍ، وَرِزْقٍ وَاسِعٍ، وَعِلْمٍ نَافِعٍ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ، وَمَرْكَبٍ هين، وَثَنَاءٍ جَمِيلٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا، فَإِنَّهَا كُلَّهَا مُنْدَرِجَةٌ فِي الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا الْحَسَنَةُ فِي الْآخِرَةِ فَأَعْلَى ذَلِكَ دُخُولُ الْجَنَّةِ، وَتَوَابِعُهُ مِنَ الْأَمْنِ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ فِي الْعَرَصَاتِ، وَتَيْسِيرِ الْحِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ الصَالِحٍةِ، وَأَمَّا النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ فَهُوَ يَقْتَضِي تَيْسِيرَ أَسْبَابِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ وَالْآثَامِ، وَتَرْكِ الشُّبَهَاتِ وَالْحَرَامِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ أو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَنْ أُعْطِيَ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَجَسَدًا صَابِرًا فَقَدْ أُوتِيَ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَوُقِيَ عَذَابَ النَّارِ. وَلِهَذَا وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِالتَّرْغِيبِ فِي هَذَا الدُّعَاءِ. فقال البخاري عن أنَس بن مالك: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» وَكَانَ أنَس إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدَعْوَةٍ دَعَا بِهَا، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ دَعَا بِهَا فيه. وعن أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ تَدْعُو اللَّهَ بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فعجِّلْه لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَانَ اللَّهِ لَا تُطِيقُهُ أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ، فَهَلَّا قُلْتَ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وقنا عَذَابَ النار} قال: فدعا الله فشاه (قال ابن كثير: انفرد بإخراجه مسلم)

- 203 - وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الأيام المعدودات (أيام التشريق) والأيام المعلومات (أيام العشر) قال عكرمة: يعني التكبير في -[183]- أَيَّامَ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ (اللَّهُ أَكْبَرُ، الله أكبر)، لحديث: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ» (رواه مسلم وأحمد) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ يَطُوفُ فِي مِنًى: «لَا تَصُومُوا هَذِهِ الْأَيَّامَ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وجل». وعن عَائِشَةَ قَالَتْ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صوم أيام التشريق وقال: «هي أيام أكل وشرب وذكر الله» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أربعة أيام، يوم النحر وثلاثة بعده وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هِيَ ثَلَاثَةٌ: يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، اذْبَحْ فِي أَيِّهِنَّ شِئْتَ، وأفضلُها أَوَّلُهَا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَعَلَيْهِ دَلَّ ظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَيْثُ قَالَ: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ من تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} فَدَلَّ عَلَى ثَلَاثَةٍ بَعْدَ النَّحْرِ، وَيَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى الْأَضَاحِيِّ وَقَدْ تقدم أن الرَّاجِحَ فِي ذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَنَّ وَقْتَ الْأُضْحِيَّةِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَيْضًا الذَّكَرُ الْمُؤَقَّتُ خَلْفَ الصَّلَوَاتِ وَالْمُطْلَقُ فِي سَائِرِ الأحوال، وفي وقته أقوال للعلماء أشهرها الذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَنَّهُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ آخِرُ النَّفْرِ الْآخِرِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ، فَيُكَبِّرُ أَهْلُ السوق بتكبيره حتى ترتج منى تكبيراً وقد جاء في الحديث: «إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بن الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ عزَّ وجلّ» (رواه أبو داود) وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى النَّفْرَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ - وَهُوَ تَفَرُّقُ النَّاسِ مِنْ مَوْسِمِ الْحَجِّ إِلَى سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْآفَاقِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمْ فِي الْمَشَاعِرِ وَالْمَوَاقِفِ - قَالَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، كَمَا قَالَ: {وَهُوَ الذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.

- 204 - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ - 205 - وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ - 206 - وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ - 207 - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله والله رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ قَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ، جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَفِي بَاطِنِهِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ تَكَلَّمُوا فِي (خُبَيْبٍ) وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم، وَقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ عَامٌّ فِي الْمُنَافِقِينَ كُلِّهِمْ وفي المؤمنين كلهم وهو الصحيح، وروى ابن جرير قال: حدثني محمد بن أبي معشر، وأخبرني أَبُو مَعْشَرٍ نَجِيحٌ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدًا الْمَقْبُرِيَّ يُذَاكِرُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ، فَقَالَ سَعِيدٌ: إن في بعض الكتب: (إن عِبَادًا أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ من الصبر، لبسو لِلنَّاسِ مُسُوكَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، -[184]- يَجْتَرُّونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: عَلِيَّ تَجْتَرِئُونَ وَبِي تَغْتَرُّونَ؟ وَعِزَّتِي لَأَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ فِتْنَةً تُتْرَكُ الْحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانَ)، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: وَأَيْنَ هُوَ من كتاب الله؟ قال، قوله اللَّهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الْآيَةَ. فَقَالَ سَعِيدٌ: قَدْ عَرَفْتُ فِيمَنْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ الْآيَةَ تَنْزِلُ فِي الرَّجُلِ ثُمَّ تكون عامة بعد (أخرجه ابن جرير عن سعيد المقبري موقوفاً) وهذا الذي قاله القرطبي حسن صحيح. وأما قوله تعالى: {وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ} فمعناه أَنَّهُ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ الْإِسْلَامَ، وَيُبَارِزُ اللَّهَ بِمَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} الآية. وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا أَظْهَرَ لِلنَّاسِ الْإِسْلَامَ حَلَفَ وَأَشْهَدَ اللَّهَ لَهُمْ إِنَّ الذِي فِي قَلْبِهِ موافق للسانه وهذا المعنى صحيح وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَعَزَاهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، والله أعلم. وقوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} الألد في اللغة: الأعوج، {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} أَيْ عُوجًا، وَهَكَذَا الْمُنَافِقُ فِي حَالِ خُصُومَتِهِ، يَكْذِبُ وَيَزْوَرُّ عَنِ الْحَقِّ وَلَا يَسْتَقِيمُ مَعَهُ، بَلْ يَفْتَرِي وَيَفْجُرُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ". وفي الحديث: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ» (رواه البخاري عن عائشة مرفوعاً) وقوله تَعَالَى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} أي هو أعوج المقال سيء الْفِعَالِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَهَذَا فِعْلُهُ. كَلَامُهُ كَذِبٌ، واعتقاده فاسد، وأفعاله قبيحة. والسعي ههنا هُوَ الْقَصْدُ كَمَا قَالَ إِخْبَارًا عَنْ فِرْعَوْنَ: {ثم أبدر يَسْعَى* فَحَشَرَ فَنَادَى* فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وقال تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أَيِ اقْصُدُوا وَاعْمَدُوا نَاوِينَ بِذَلِكَ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ، فَإِنَّ السَّعْيَ الْحِسِّيَّ إِلَى الصَّلَاةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بالسنة النبوية: «إذا أتتيتم الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ». فَهَذَا الْمُنَافِقُ لَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَإِهْلَاكَ الْحَرْثِ، وَهُوَ مَحَلُّ نَمَاءِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَالنَّسْلِ: وَهُوَ نِتَاجُ الحيوانات الذي لَا قِوَامَ لِلنَّاسِ إِلَّا بِهِمَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا سعى في الأرض إفساداً مَنَعَ اللَّهُ الْقَطْرَ فَهَلَكَ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} أَيْ لَا يُحِبُّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَلَا مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ ذَلِكَ. وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} أَيْ إِذَا وُعظ هَذَا الْفَاجِرُ فِي مَقَالِهِ وَفِعَالِهِ، وَقِيلَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَانْزَعْ عَنْ قَوْلِكَ وَفِعْلِكَ، وَارْجِعْ إِلَى الْحَقِّ، امْتَنَعَ وَأَبَى، وَأَخَذَتْهُ الْحَمِيَّةُ وَالْغَضَبُ بِالْإِثْمِ، أَيْ بِسَبَبِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآثَامِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذي كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا. قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ. النَّارُ وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ وبئس المصير} وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد} أي هي كفايته عقوبة في ذلك. وقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ اللَّهِ} لَمَّا أَخْبَرَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِصِفَاتِهِمُ الذَّمِيمَةِ، ذَكَرَ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْحَمِيدَةَ فَقَالَ: {ومِنَ النَّاسِ من يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله} قال ابن عباس وجماعة: نزلت في (صهيب الرُّومِيِّ) وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ بِمَكَّةَ، وَأَرَادَ الْهِجْرَةَ مَنَعَهُ النَّاسُ أَنْ يُهَاجِرَ بِمَالِهِ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَجَرَّدَ مِنْهُ -[185]- وَيُهَاجِرَ فَعَلَ، فَتَخَلَّصَ مِنْهُمْ وَأَعْطَاهُمْ مَالَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةَ فَتَلَقَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجَمَاعَةٌ إِلَى طَرَفِ الْحَرَّةِ، فَقَالُوا: رَبِحَ الْبَيْعُ، فَقَالَ: وَأَنْتُمْ فَلَا أَخْسَرَ اللَّهُ تِجَارَتَكُمْ، وَمَا ذَاكَ؟ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَيُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال له: «ربح البيع صهيب» وروي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: لَمَّا أَرَدْتُ الْهِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لِي قُرَيْشٌ: يَا صُهَيْبُ قَدِمْتَ إِلَيْنَا وَلَا مَالَ لَكَ، وَتَخْرُجُ أَنْتَ وَمَالُكَ؟ وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ دَفَعْتُ إِلَيْكُمْ مَالِي تخلُّون عَنِّي؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِمْ مَالِي فَخَلَّوْا عَنِّي، فَخَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب» (رواه ابن مردويه عن صهيب الرومي) مرتين وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَحَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كُلِّ مُجَاهِدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا قال الله تعالى: {إن لله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}، وَلَمَّا حُمِلَ هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمَا وَتَلَوْا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مرضات الله والله رَؤُوفٌ بالعباد}.

- 208 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ - 209 - فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يأمر الله تعالى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، الْمُصَدِّقِينَ بِرَسُولِهِ، أَنْ يَأْخُذُوا بجمع عُرَى الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ، وَالْعَمَلِ بِجَمِيعِ أَوَامِرِهِ، وَتَرْكِ جَمِيعِ زَوَاجِرِهِ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ ذَلِكَ. قَالَ العوفي عن ابن عباس: {ادخلو فِي السلم} يعني الإسلام، وقال الضحّاك وأبو العالية: يعني الطاعة، وقوله {كَآفَّةً} قال ابن عباس وأبو العالية وعكرمة: جَمِيعًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيِ اعْمَلُوا بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ ووجوه البر. ومن المفسرين من يجعل قوله تعالى {كَآفَّةً} حالاً من الداخلين، أي ادخلوا الْإِسْلَامِ كُلُّكُمْ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهُمْ أُمِرُوا كُلُّهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِجَمِيعِ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَا اسْتَطَاعُوا مِنْهَا، كما قال عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادخلو فِي السلم كَآفَّةً} يعني مؤمنين أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مَعَ الْإِيمَانِ بِالْلَّهِ مستمسكين ببعض أُمور التَّوْرَاةِ وَالشَّرَائِعِ التِي أُنزلت فِيهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ: {ادخلو فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} يَقُولُ: ادْخُلُوا فِي شَرَائِعِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تدعوا منها شيئاً، وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها. وقوله تعالى: {ولا تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} أي اعملوا بالطاعات، وَاجْتَنِبُوا مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ الشَّيْطَانُ فَ {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، وَ {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، ولهذا قال: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} وَقَوْلُهُ: {فَإِن زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} أَيْ عَدَلْتُمْ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ مَا قَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَجُ، فَاعْلَمُوا إِنَّ اللَّهَ {عَزِيزٌ} أَيْ فِي انْتِقَامِهِ لَا يَفُوتُهُ هَارِبٌ وَلَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، {حَكِيمٌ} فِي أَحْكَامِهِ وَنَقْضِهِ وَإِبْرَامِهِ، ولهذا قال أبو العالية وقتادة: عَزِيزٌ فِي نِقْمَتِهِ، حَكِيمٌ فِي أَمْرِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: الْعَزِيزُ فِي نَصْرِهِ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ إِذَا شَاءَ، الْحَكِيمُ فِي عُذْرِهِ وَحُجَّتِهِ إِلَى عِبَادِهِ.

- 210 - هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يَقُولُ تَعَالَى مُهَدِّدًا لِلْكَافِرِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، فَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَلِهَذَا قال تعالى: {وقضي الأمر وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور}، وَقَالَ: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} الآية. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ ههنا حَدِيثَ الصُّورِ بِطُولِهِ مِنْ أَوَّلِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ سَاقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسَانِيدِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِيهِ: أَنَّ النَّاسَ إِذَا اهْتَمُّوا لِمَوْقِفِهِمْ فِي الْعَرَصَاتِ، تَشَفَّعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا وَاحِدًا مِنْ آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ، فَكُلُّهُمْ يَحِيدُ عَنْهَا حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى محمد صلى الله عليه وسلم فَإِذَا جَاءُوا إِلَيْهِ قَالَ: «أَنَا لَهَا، أَنَا لَهَا»، فَيَذْهَبُ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَيَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ فِي أَنْ يَأْتِيَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيُشَفِّعُهُ اللَّهُ وَيَأْتِي فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ بَعْدَ مَا تَنْشَقُّ السَّمَاءُ الدُّنْيَا وَيَنْزِلُ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ الثَّانِيَةُ ثُمَّ الثَّالِثَةُ إِلَى السَّابِعَةِ، وَيَنْزِلُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَالْكَرُوبِيُّونَ. قَالَ: وَيَنْزِلُ الْجَبَّارُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ، وَلَهُمْ زَجَلٌ مِنْ تَسْبِيحِهِمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، سُبْحَانَ ذي العزة والجبروت، سُبْحَانَ الْحَيِّ الذِي لَا يَمُوتُ، سُبْحَانَ الذِي يُمِيتُ الْخَلَائِقَ وَلَا يَمُوتُ، سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الملائكة والروح، سبوح قُدُّوسٌ سُبْحَانَ رَبِّنَا الْأَعْلَى، سُبْحَانَ ذِي السُّلْطَانِ والعظمة، سبحانه سبحانه، أبداً أبداً.

- 211 - سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ - 212 - زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ يخبر تعالى عن بني إسرائيل كم شَاهَدُوا مَعَ مُوسَى مِنْ آيَةً بَيِّنَةً، أَيْ حجة قاطعة بصدقه فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، كَيَدِهِ وَعَصَاهُ وَفَلْقِهِ الْبَحْرَ وَضَرْبِهِ الْحَجَرَ، وَمَا كَانَ مِنْ تَظْلِيلِ الْغَمَامِ عليهم من شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمِنْ إِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى وُجُودِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَصِدْقِ مَنْ جَرَتْ هَذِهِ الْخَوَارِقُ عَلَى يَدَيْهِ، وَمَعَ هَذَا أَعْرَضَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنْهَا، وَبَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، أَيِ اسْتَبْدَلُوا بِالْإِيمَانِ بِهَا الْكُفْرَ بِهَا وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب}، كما قال تعالى إِخْبَارًا عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار}. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ تَزْيِينِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لِلْكَافِرِينَ، الَّذِينَ رَضُوا بِهَا وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهَا، وَجَمَعُوا الْأَمْوَالَ وَمَنَعُوهَا عَنْ مَصَارِفِهَا التِي أُمروا بِهَا، مِمَّا يُرْضِي اللَّهَ عَنْهُمْ، وَسَخِرُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْهَا، وَأَنْفَقُوا مَا حَصَلَ لهم منها طاعة ربهم، وبذلوه ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، فَلِهَذَا فَازُوا بِالْمَقَامِ الْأَسْعَدِ وَالْحَظِّ الْأَوْفَرِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ، فَكَانُوا فَوْقَ -[187]- أُولَئِكَ في محشرهم ومنشرهم ومسيرهم ومأواهم، فاستقورا فِي الدَّرَجَاتِ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَخُلِّدَ أُولَئِكَ في الدركات في أسفل سافلين، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أَيْ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَيُعْطِيهِ عَطَاءً كَثِيرًا جَزِيلًا، بِلَا حَصْرٍ وَلَا تَعْدَادٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «ابْنَ آدَمَ أنفقْ أُنفقْ عَلَيْكَ»، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنفقْ بِلَالًا وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالَا»، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}. وَفِي الصَّحِيحِ: "أَنَّ مَلَكَيْنِ يَنْزِلَانِ مِنَ السَّمَاءِ صبيحة كل يوم فيقول أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا، وَفِي الصَّحِيحِ: "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، وَمَا لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، وَمَا تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ"، وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ».

- 213 - كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ قال ابن جرير: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَآدَمَ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْحَقِّ، فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، قَالَ: وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ {كان الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا}، قال قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} قَالَ: كَانُوا عَلَى الْهُدَى جَمِيعًا {فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ الله النبيين} فكان أول من بعث نوحاً. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} يَقُولُ: كَانُوا كُفَّارًا {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصَحُّ سَنَدًا وَمَعْنًى، لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا على ملة آدم حَتَّى عَبَدُوا الْأَصْنَامَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلى أهل الأرض، ولهذا قال تعالى: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا قَامَتْ الحجج عليهم، وما حملهم على ذلك إلى الْبَغْيُ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ أَوَّلُ النَّاسِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ فَغَدًا لِلْيَهُودِ، وبعد غدٍ للنصارى». وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} فَاخْتَلَفُوا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاتَّخَذَ الْيَهُودُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَالنَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِبْلَةِ، فَاسْتَقْبَلَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ، وَالْيَهُودُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلْقِبْلَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي -[188]- الصَّلَاةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْكَعُ وَلَا يَسْجُدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْجُدُ وَلَا يَرْكَعُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي وَهُوَ يَتَكَلَّمُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي وَهُوَ يَمْشِي، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصِّيَامِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَصُومُ بَعْضَ النَّهَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصُومُ عَنْ بَعْضِ الطَّعَامِ، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَتِ الْيَهُودُ: كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: كَانَ نَصْرَانِيًّا وَجَعَلَهُ اللَّهُ حَنِيفًا مُسْلِمًا فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَذَّبَتْ بِهِ الْيَهُودُ وَقَالُوا لِأُمِّهِ بُهْتَانًا عَظِيمًا، وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى إِلَهًا وَوَلَدًا، وَجَعَلَهُ اللَّهُ رُوحَهُ وَكَلِمَتُهُ، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحق من ذلك. وَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ يَقُولُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ المخرج من الشبهات والضلالات والفتن. وقوله تعالى: {بِإِذْنِهِ} أي بعلمه بهم وبما هَدَاهُمْ لَهُ قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ} أَيْ مِنْ خَلْقِهِ {إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي وله الحكمة وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي يَقُولُ: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: «اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وَلَا تَجْعَلْهُ مُلْتَبِسًا عَلَيْنَا فَنَضِلَّ، وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً».

- 214 - أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ يَقُولُ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تدخلو الْجَنَّةَ} قَبْلَ أَنْ تُبْتَلُوا وَتُخْتَبَرُوا وَتُمْتَحَنُوا، كَمَا فُعِلِ بِالَّذِينِ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْأُمَمِ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} وَهِيَ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ والآلام، والمصائب والنوائب. قال ابن مسعدود: {البأسآء} الفقر، {الضراء} السقم، {وَزُلْزِلُواْ} خوفوا مِنَ الْأَعْدَاءِ زِلْزَالًا شَدِيدًا وَامْتُحِنُوا امْتِحَانًا عَظِيمًا، كما جاء في الحديث عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: قُلْنَا يَا رسول الله ألا تستنصر لنا، ألا تدعوا اللَّهَ لَنَا فَقَالَ: «إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كان أخدهم يوضع الميشار؟؟ عَلَى مِفْرَقِ رَأْسِهِ فَيَخْلُصُ إِلَى قَدَمَيْهِ، لَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا بَيْنَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، لَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ»، ثُمَّ قَالَ: «وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون» (رواه البخاري) وَقَالَ تَعَالَى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} وَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذَا جَانِبٌ عَظِيمٌ لِلصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عَنْهُمْ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ -[189]- بِالْلَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} وَلَمَّا سَأَلَ هِرَقْلُ أَبَا سُفْيَانَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ قال: نعم، قال: فكيف كانت الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ؟ قَالَ: سِجَالًا يُدَالُ عَلَيْنَا وَنُدَالُ عَلَيْهِ، قَالَ: كَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لها العاقبة. وقوله تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ} أَيْ سُنَّتُهُمُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} وقوله: {وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسل وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} أَيْ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَيَدْعُونَ بِقُرْبِ الْفَرَجِ وَالْمَخْرَجِ عِنْدَ ضِيقِ الْحَالِ وَالشِّدَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}، كَمَا قَالَ {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يسرا} وَكَمَا تَكُونُ الشِّدَّةُ يَنْزِلُ مِنَ النَّصْرِ مِثْلُهَا ولهذا قال: {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قريب}.

- 215 - يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عليم قال مقاتل: هذه الآية في نفقة التطوع، وَمَعْنَى الْآيَةِ: يَسْأَلُونَكَ كَيْفَ يُنْفِقُونَ؟ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، فَبَيَّنَ لَهُمْ تَعَالَى ذَلِكَ، فَقَالَ: {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} أَيِ اصْرِفُوهَا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} أَيْ مَهْمَا صَدَرَ مِنْكُمْ مِنْ فِعْلِ مَعْرُوفٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.

- 216 - كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ هَذَا إِيجَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْجِهَادِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُفُّوا شَرَّ الْأَعْدَاءِ عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ غَزَا أَوْ قَعَدَ، فَالْقَاعِدُ عَلَيْهِ إِذَا اسْتُعِينَ أَنْ يُعِينَ، وَإِذَا اسْتُغِيثَ أَنْ يُغِيثَ، وَإِذَا اسْتُنْفِرَ أَنْ يَنْفِرَ، وَإِنْ لَمْ يُحْتَجْ إِلَيْهِ قَعَدَ. (قُلْتُ) وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الفتح: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وإذا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»، وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} أَيْ شَدِيدٌ عَلَيْكُمْ وَمَشَقَّةٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقْتَلَ أَوْ يُجْرَحَ، مَعَ مَشَقَّةِ السَّفَرِ وَمُجَالَدَةِ الْأَعْدَاءِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أَيْ لِأَنَّ الْقِتَالَ يَعْقُبُهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى بِلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} وَهَذَا عَامٌّ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا. قَدْ يُحِبُّ الْمَرْءُ شَيْئًا وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ خِيَرَةٌ وَلَا مَصْلَحَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ الْقُعُودُ عَنِ الْقِتَالِ قَدْ يَعْقُبُهُ اسْتِيلَاءُ العدوا عَلَى الْبِلَادِ وَالْحُكْمِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ مِنْكُمْ، -[190]- وَأَخْبَرُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وأُخراكم، فَاسْتَجِيبُوا لَهُ وَانْقَادُوا لِأَمْرِهِ لعلكم ترشدون.

- 217 - يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - 218 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَهْطًا وبعث عليهم (أبا عبيدة بن الجراح) فَلَمَّا ذَهَبَ يَنْطَلِقُ بَكَى صَبَابَةً إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فحبسه، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ مَكَانَهُ (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ) وكتب له كتاباً وأمره أن لا يَقْرَأَ الْكِتَابَ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ: «لَا تُكْرِهَنَّ أَحَدًا عَلَى السَّيْرِ مَعَكَ مِنْ أَصْحَابِكَ» فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ اسْتَرْجَعَ وَقَالَ: سمعاً وطاعة لله لرسوله، فَخَبَّرَهُمُ الْخَبَرَ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ فَرَجَعَ رَجُلَانِ وَبَقِيَ بَقِيَّتُهُمْ، فَلَقُوا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلُوهُ وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَجَبٍ أَوْ مِنْ جُمَادَى، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ: قَتَلْتُمْ فِي الشهر الحرام! فأنزل الله: {يسئلونك عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} الآية. أي لَا يَحِلُّ، وَمَا صَنَعْتُمْ أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُشْرِكِينَ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، حين كفرتم بالله وصددتم عن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَإِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْهُ حِينَ أَخْرَجُوا مُحَمَّدًا صَلَّى الله عليه وسلم وأصحابه أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ عِنْدَ اللَّهِ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قتالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وردوه عن المسجد في شهر حرام، قال: فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَعَابَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِتَالَ فِي شهر حرام، فقال الله تَعَالَى {وصدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وكفرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الحرام وإخراج أهل مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله} مِنَ الْقِتَالِ فِيهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بعث سرية، فلقوا (عمروا بْنَ الْحَضْرَمِيِّ) وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنَ الطَّائِفِ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى، وَأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَأَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ جُمَادَى، وَكَانَتْ أَوَّلَ رَجَبٍ وَلَمْ يَشْعُرُوا، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُ، وَأَنَّ المشركين أرسلوا يعيِّرونه بذلك، فقال الله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} إِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَكْبَرُ مِنَ الذِي أَصَابَ أصحابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والشرك أشد منه وقال ابن هشام في كتاب (السيرة): وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن جحش فِي رَجَبٍ مَقْفَلَهُ مِنْ بَدْرٍ الْأُولَى وَبَعَثَ مَعَهُ ثَمَانِيَةَ رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَأَمَرَهُ أن لا يَنْظُرَ فِيهِ -[191]- حَتَّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يَنْظُرَ فيه فيمضي كما أَمَرَهُ بِهِ، وَلَا يَسْتَكْرِهَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا، فَلَمَّا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ يَوْمَيْنِ فتح الكتاب فنظر فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي في هَذَا فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ (نَخْلَةَ) بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ تَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشًا وَتَعْلَمَ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ. فَلَمَّا نَظَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ الْكِتَابِ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَمْضِيَ إِلَى نَخْلَةَ أَرْصُدُ بِهَا قُرَيْشًا حَتَّى آتِيَهُ مِنْهُمْ بِخَبَرٍ، وَقَدْ نَهَانِي أَنْ أَسْتَكْرِهَ أَحَدًا مِنْكُمْ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ الشَّهَادَةَ وَيَرْغَبُ فِيهَا فَلْيَنْطَلِقْ، وَمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ، فَأَمَّا أَنَا فماضٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَى وَمَضَى مَعَهُ أَصْحَابُهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَسَلَكَ عَلَى الْحِجَازِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِمَعْدِنٍ فَوْقَ الفرع يقال له نجران أضلَّ (سعد بن أبي وقاص) و (عتبة بن غزوان) بعيراً لهما كانا يتعقبانه فَتَخَلَّفَا عَلَيْهِ فِي طَلَبِهِ، وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل نخلة فمرت به عير لقريش تحمل زيتاً وَأُدْمًا وَتِجَارَةً مِنْ تِجَارَةِ قُرَيْشٍ فِيهَا عَمْرُو بن الحضرمي، فَلَمَّا رَآهُمُ الْقَوْمُ هَابُوهُمْ وَقَدْ نَزَلُوا قَرِيبًا منهم فأشرف لهم (عكاشة ابن مِحْصَنٍ) وَكَانَ قَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمِنُوا وَقَالُوا: عُمَّار لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ، وتشارو الْقَوْمُ فِيهِمْ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، فَقَالَ الْقَوْمُ: وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمُ الْقَوْمَ هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم، وَلَئِنْ قَتَلْتُمُوهُمْ لَتَقْتُلُنَّهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَتَرَدَّدَ الْقَوْمُ وَهَابُوا الْإِقْدَامَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ شَجَّعُوا أَنْفُسَهُمْ عليهم وأجمعوا قَتْلِ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَأَخْذِ مَا مَعَهُمْ، فَرَمَى وَاقْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، واستأسَر (عُثْمَانَ بن عبد الله) و (الحكم بْنَ كَيْسَانَ) وَأَفْلَتَ الْقَوْمَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَعْجَزَهُمْ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ بِالْعِيرِ وَالْأَسِيرَيْنِ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم المدينة. فقال ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا غَنِمْنَا الخُمس، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ اللَّهُ الخُمس مِنَ الْمَغَانِمِ فَعَزَلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُمس الْعِيرِ وَقَسَمَ سَائِرَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: «مَا أَمَرْتُكُمْ بقتالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ» فَوَقَفَ الْعِيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْقِطَ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، وَعَنَّفَهُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا صَنَعُوا، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَسَفَكُوا فِيهِ الدَّمَ وَأَخَذُوا فِيهِ الْأَمْوَالَ وَأَسَرُوا فِيهِ الرِّجَالَ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} أَيْ إِنْ كُنْتُمْ قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَقَدْ صَدُّوكُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ الْكُفْرِ بِهِ، وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وإخراجكُم مِنْهُ وَأَنْتُمْ أَهْلُهُ {أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} مِنْ قَتْلِ مَنْ قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} أَيْ قد كانوا يفتنون المسلم عن دِينِهِ حَتَّى يَرُدُّوهُ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِيمَانِهِ فَذَلِكَ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقَتْلِ: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ} أَيْ ثُمَّ هُمْ مُقِيمُونَ عَلَى أَخْبَثِ ذَلِكَ وَأَعْظَمِهِ غَيْرُ تَائِبِينَ وَلَا نَازِعِينَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَذَا مِنَ الْأَمْرِ وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانُوا فيه من الشدة قبض رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الْعِيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ وَبَعَثَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَكَمِ بْنِ كَيْسَانَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا نفديكموها حَتَّى يَقْدَمَ صَاحِبَانَا» يَعْنِي (سَعْدَ بْنَ أَبِي وقاص) و (عتبة بْنَ غَزْوَانَ) فَإِنَّا -[192]- نَخْشَاكُمْ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ تَقْتُلُوهُمَا نقتل صاحبيكم، فقدم سعد وعتبة ففداهما رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، فَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَأَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا، وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَلَحِقَ بِمَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا كَافِرًا، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا تَجَلَّى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَصْحَابِهِ ما كان حِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ طَمِعُوا فِي الْأَجْرِ فَقَالُوا: يَ

219 يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ - 220 - فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حكيم روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية التي في سورة الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بيِّن لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ التِي فِي النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قام الصلاة نادى: أن لا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بيِّن لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ التِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدَعِي عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَلَمَّا بَلَغَ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ؟} قال عمر: انتهينا انتهينا (أخرجه الإمام أحمد عن أبي ميسرة) أَمَّا الْخَمْرُ فَكَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه: أنه كل ما خامر العقل، والميسر: وهو القمار. وقوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، أَمَّا إِثْمُهُمَا فَهُوَ فِي الدِّينِ، وَأَمَّا الْمَنَافِعُ فَدُنْيَوِيَّةٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِيهَا نَفْعَ الْبَدَنِ، وَتَهْضِيمَ الطعام، وإخراج الفضلات، تشحيذ بَعْضِ الْأَذْهَانِ، وَلَذَّةَ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ، التِي فِيهَا كَمَا قَالَ (حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ) فِي جَاهِلِيَّتِهِ: ونشربها فتتركنا ملوكاً * وأُسْداً لا يُنَهْنهنا اللقاء -[193]- وكذا بيعها والانتفاع بثمنها، وما يربحه بَعْضُهُمْ مِنَ الْمَيْسِرِ فَيُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عِيَالِهِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَصَالِحِ لَا تُوَازِي مَضَرَّتُهُ وَمَفْسَدَتُهُ الرَّاجِحَةُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَلِهَذَا قَالَ الله تعالى: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}، وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُمَهِّدَةً لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَى الْبَتَاتِ، وَلَمْ تَكُنْ مُصَرِّحَةً بَلْ مُعَرِّضَةً، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قُرِئَتْ عَلَيْهِ: اللَّهُمَّ بيِّن لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا حَتَّى نَزَلَ التَّصْرِيحُ بِتَحْرِيمِهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تفلحون}، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ: إن هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْخَمْرِ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} ثُمَّ نَزَلَتِ الْآيَةُ التِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، ثم نزلت الآية التي في المائدة فحرمت الخمر. وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} روي أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَثَعْلَبَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا: يَا رَسُولَ الله: إن لنا أرقاء وأهلين مِنْ أَمْوَالِنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ}، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} قال: ما يفضل عن أهلك، {قُلِ العفو} يعني الفضل، وعن طاووس: اليسير من كل شيء، وعن الربيع: أَفْضَلُ مَالِكَ وَأَطْيَبُهُ، وَالْكُلُّ يَرْجِعُ إِلَى الْفَضْلِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي دِينَارٌ، قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ»، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ»، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ» قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: «فَأَنْتَ أَبْصَرُ» (رواه ابن جرير وأخرجه مسلم بنحوه) وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضُلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ فَإِنْ فَضُلَ شَيْءٌ عَنْ أَهْلِكَ فَلِذِي قَرَابَتِكَ فَإِنْ فَضُلَ عَنْ ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا» (رواه مسلم أيضا) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بمن تعول» (أخرجه مسلم عن أبي هريرة)، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: «ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ إِنْ تَبْذُلِ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ وَإِنْ تُمْسِكْهُ شَرٌّ لك ولا تلام على كفاف»، ثم قيل: إنها منسوخة بآية الزكاة، وقيل: مبينة بآية الزكاة وهو أوجه. وقوله تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أَيْ كَمَا فَصَّلَ لكم هذه الأحكام وبينها أوضحها، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ لَكُمْ سَائِرَ الْآيَاتِ فِي أَحْكَامِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي فِي زَوَالِ الدُّنْيَا وَفَنَائِهَا وإقبال الآخرة وبقائها. وقال الحسن: هِيَ وَاللَّهِ لِمَنْ تَفَكَّرَ فِيهَا، لِيَعْلَمَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ ثُمَّ دَارُ فَنَاءٍ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ ثُمَّ دَارُ بَقَاءٍ. وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} الْآيَةَ قَالَ ابن عباس: لَمَّا نَزَلَتْ {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وَ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ -[194]- يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل لَهُ الشَّيْءُ مِنْ طَعَامِهِ فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسَدَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بطعامهم وشرابهم وبشرابهم (رواه أبو داود النسائي والحاكم) وقالت عائشة رضي الله عنها: إِنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ مَالُ الْيَتِيمِ عِنْدِي على حدة، حَتَّى أَخْلِطَ طَعَامَهُ بِطَعَامِي وَشَرَابَهُ بِشَرَابِي فَقَوْلُهُ: {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} أَيْ عَلَى حِدَةٍ، {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} أَيْ وَإِنْ خَلَطْتُمْ طَعَامَكُمْ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابَكُمْ بِشَرَابِهِمْ فَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} أَيْ يَعْلَمُ مَنْ قَصْدُهُ وَنِيَّتُهُ الْإِفْسَادَ أَوِ الْإِصْلَاحَ، وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أَيْ وَلَوْ شَآءَ الله لَضَيَّقَ عَلَيْكُمْ وَأَحْرَجَكُمْ، وَلَكِنَّهُ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ وَخَفَّفَ عَنْكُمْ وَأَبَاحَ لَكُمْ مُخَالَطَتَهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قال تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أحسن} بل جَوَّزَ الْأَكْلَ مِنْهُ لِلْفَقِيرِ بِالْمَعْرُوفِ، إِمَّا بِشَرْطِ ضَمَانِ الْبَدَلِ لِمَنْ أَيْسَرَ، أَوْ مَجَّانًا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.

- 221 - وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ هَذَا تَحْرِيمٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَزَوَّجُوا الْمُشْرِكَاتِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ عُمُومُهَا مُرَادًا وَأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهَا كُلُّ مُشْرِكَةٍ مِنْ كِتَابِيَّةٍ وَوَثَنِيَّةٍ، فَقَدْ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ نساء أهل الكتاب بقوله: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} اسْتَثْنَى اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ نساء أهل الكتاب، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَلَمْ يُرِدْ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْمَعْنَى قريب من الأول، والله أعلم. وإنما كره عمر نكاح الكتابيات لِئَلَّا يَزْهَدَ النَّاسُ فِي الْمُسَلَّمَاتِ، أَوْ لِغَيْرِ ذلك من المعاني، كما روي عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: تَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ يَهُودِيَّةً فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: خلِّ سَبِيلَهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَتَزْعُمُ أنها حرام فأخلي. فَقَالَ: لَا أَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ، وَلَكِنِّي أَخَافُ أن تعاطوا المؤمنات منهن (قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح) وعن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ نِكَاحَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَأَوَّلَ: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا أَعْلَمَ شِركاً أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ: ربها عيسى. وَقَوْلُهُ: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} قَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ كَانَتْ لَهُ أَمَة سَوْدَاءُ فَغَضِبَ عَلَيْهَا فَلَطَمَهَا، ثُمَّ فَزِعَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهَا، فَقَالَ لَهُ: «مَا هِيَ؟» قَالَ: تَصُومُ وَتَصِلِي وَتُحْسِنُ الْوُضُوءَ وَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ -[195]- اللَّهِ فَقَالَ: «يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذِهِ مُؤْمِنَةٌ»، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأُعْتِقَنَّهَا وَلَأَتَزَوَّجَنَّهَا، فَفَعَلَ فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ المسلمين وقالوا: نكح أمته، وَكَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَنْكِحُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ ويُنْكحوهم رَغْبَةً فِي أَحْسَابِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}، {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خير من مشرك وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} وعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ، وَلَا تَنْكِحُوهُنَّ عَلَى أَمْوَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تطغيهن، وانكحوهن على الدين، فلأمة سوداء جرداء ذات دين أفضل» (رواه عبد بن حميد وفي إسناده ضعف) وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فاظفر بذات الدين تربت يداك" وعن ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدنيا المرأة الصالحة» (رواه مسلم عن عبد الله بن عمر) وقوله تعالى: {وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ} أَيْ لَا تُزَوِّجُوا الرِّجَالَ الْمُشْرِكِينَ النِّسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لهن} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} أي لرجلٌ مُؤْمِنٌ وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ، وَإِنْ كَانَ رَئِيسًا سَرِيًّا، {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أَيْ مُعَاشَرَتُهُمْ وَمُخَالَطَتُهُمْ تَبْعَثُ عَلَى حُبِّ الدُّنْيَا وَاقْتِنَائِهَا وَإِيثَارِهَا عَلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ وَعَاقِبَةُ ذَلِكَ وَخِيمَةٌ {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} أَيْ بِشَرْعِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.

- 222 - وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ - 223 - نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ المؤمنين عن أنَس أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت (المراد بالمجامعة هنا الإجتماع بهن لا الوقاع وهو المعنى الحقيقي واستعماله بالمعنى الآخر كناية اهـ) فسأل أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجل: {ويسئلونك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ»، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ فَقَالُوا: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ، فَجَاءَ (أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ) فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ كَذَا وَكَذَا أَفَلَا نُجَامِعُهُنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عليهما، فخرجا فاستقبلهما هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِمَا فَسَقَاهُمَا فَعَرَفَا أَنْ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ والإمام أحمد) فقوله: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} يعني الْفَرْجِ لِقَوْلِهِ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ»، وَلِهَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ -[196]- أَوْ أَكْثَرِهِمْ إلى أنه يجوز مُبَاشَرَةُ الْحَائِضِ فِيمَا عَدَا الْفَرْجِ، قَالَ أَبُو داود عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ مِنَ الْحَائِضِ شَيْئًا ألقى على فرجها ثوباً. وعن مَسْرُوقٍ قَالَ، قُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنَ امْرَأَتِهِ إِذَا كَانَتْ حَائِضًا؟ قَالَتْ: كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْجِمَاعَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ومجاهد والحسن. وروى ابن جرير عن عائشة قالتك له ما فوق الإزار، (قلت): ويحل مضاجعتها ومواكلتها بِلَا خِلَافٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنِي فَأَغْسِلُ رَأْسَهُ وأنا حائض، وكان يتكىء فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَفِي الصحيح عنها قالت: كنت أتعرق العرق (عرق اللحم وتعرقه واعتراقه تناوله بفمه من العظم) وَأَنَا حَائِضٌ فَأُعْطِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُ فَمَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعْتُ فَمِي فِيهِ، وَأَشْرَبُ الشَّرَابَ فَأُنَاوِلُهُ فَيَضَعُ فَمَهُ في الموضع الذي كنت أشرب منه. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا تَحِلُّ لَهُ مُبَاشَرَتُهَا فِيمَا عَدَا مَا تَحْتَ الْإِزَارِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصحيحين عن ميمونة قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَاشِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ أمرها فاتزرت وهي حائض. وروى الإمام أحمد عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما يَحِلُّ لِي مِنَ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ؟ قَالَ: «ما فوق الإزار» ولأبي داود عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَحِلُّ لِي مِنَ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ: «مَا فوق الإزار والتعففُ عن ذلك أفضل». فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَمَا شَابَهَهَا حُجَّةُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَحِلُّ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ مِنْهَا، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، الَّذِي رَجَّحَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَمَأْخَذُهُمْ أَنَّهُ حَرِيمُ الْفَرْجِ فَهُوَ حَرَامٌ، لِئَلَّا يُتَوَصَّلَ إِلَى تَعَاطِي مَا حَرَّمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، الَّذِي أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ الْمُبَاشِرَةُ فِي الْفَرْجِ، ثُمَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَثِمَ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ إِلَيْهِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ مَعَ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ، (أَحَدُهُمَا): نَعَمْ، لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ. وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ فِي الْحَائِضِ تُصَابُ دِينَارًا فَإِنْ أَصَابَهَا وَقَدْ أَدْبَرَ الدَّمُ عَنْهَا وَلَمْ تَغْتَسِلْ فَنِصْفُ دِينَارٍ، (وَالْقَوْلُ الثَّانِي): وَهُوَ الصَّحِيحُ الْجَدِيدُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي ذَلِكَ، بَلْ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمْ رَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا كَمَا تَقَدَّمَ وَمَوْقُوفًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وَنَهْيٌ عَنْ قُرْبَانِهِنَّ بِالْجِمَاعِ مَا دَامَ الْحَيْضُ مَوْجُودًا وَمَفْهُومُهُ حِلُّهُ إِذَا انقطع. وقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} فِيهِ نَدْبٌ وَإِرْشَادٌ إِلَى غِشْيَانِهِنَّ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ، وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ إِلَى وُجُوبِ الْجِمَاعِ بَعْدَ كُلِّ حَيْضَةٍ لِقَوْلِهِ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} وَلَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ مستند لأن هذا أمر بعد الحظر، وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا لَا تَحِلُّ حَتَّى تَغْتَسِلَ بِالْمَاءِ أَوْ تَتَيَمَّمَ. إِنَّ تَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا بِشَرْطِهِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض هو عَشَرَةُ أَيَّامٍ عِنْدَهُ إِنَّهَا تَحِلُّ بِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ، ولا تفتقر إلى غسل وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} أَيْ مِنَ الدَّمِ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أَيْ بِالْمَاءِ، وكذا قال مجاهد وعكرمة. -[197]- وقوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْفَرْجِ وَلَا تَعَدَّوه إِلَى غَيْرِهِ، فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدِ اعْتَدَى، وَقَالَ ابن عباس ومجاهد وعكرمة: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} أَيْ أَنْ تَعْتَزِلُوهُنَّ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ حِينَئِذٍ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ فِي الدبر كما سيأتي قريباً إن شاء الله، وقال الضحاك: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} يَعْنِي طَاهِرَاتٌ غير حيّض، ولهذا قال: {إِنْ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} أَيْ مِنَ الذَّنْبِ وَإِنَّ تَكَرَّرَ غِشْيَانُهُ، {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} أَيِ الْمُتَنَزِّهِينَ عَنِ الْأَقْذَارِ وَالْأَذَى، وَهُوَ مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ إِتْيَانِ الْحَائِضِ أَوْ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى. وقوله تعالى {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَرْثُ مَوْضِعُ الْوَلَدِ، {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أَيْ كَيْفَ شِئْتُمْ مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ، كما ثبتت بذلك الأحاديث. قال البخاي: عن جابر قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذَا جَامَعَهَا مِنْ وَرَائِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لكم فأتو حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} وعن جابر بن عبد الله أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ مَنْ أَتَى امْرَأَةً وَهِيَ مُدْبِرَةٌ جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُقْبِلَةٌ وَمُدْبِرَةٌ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْفَرْجِ» (رواه مسلم وأبو داود) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنزلت هَذِهِ الْآيَةُ {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} في أناس من الأنصار، أتو النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «ائتها عَلَى كُلِّ حَالٍ إِذَا كَانَ فِي الْفَرْجِ» (رواه أحمد) قال الإمام أحمد: عن عبد الله بن سابط قال: دخلتُ على (حَفْصَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) فقلت: إني لسائلك عن أمر وأنا أستحي أن أسألك قالت: فلا تستحي يَا ابْنَ أَخِي، قَالَ: عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، قَالَتْ: حَدَّثَتْنِي أَمُّ سَلَمَةَ أَنَّ الأنصار كانوا يُحْبُون النساء وكانت اليهود تقول: إنه من أحبى امرأته كان ولده أَحْوَلَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ نَكَحُوا فِي نساء الأنصار، فأَحْبَوْهن فَأَبَتِ امْرَأَةٌ أَنْ تُطِيعَ زَوْجَهَا وَقَالَتْ: لَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَتْ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ فَذَكَرَتْ لَهَا ذَلِكَ فَقَالَتِ: اجْلِسِي حَتَّى يَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استحت الأنصارية أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت فسألته أم سلمة فقال: ادعي «الأنصارية» فدعتها، فَتَلَا عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةَ {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} «صماماً واحداً» (رواه أحمد الترمذي) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ! قَالَ: «مَا الَّذِي أَهْلَكَكَ؟» قَالَ: حَوَّلْتُ رَحْلَيِ الْبَا

- 224 - وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - 225 - لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالْلَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ومعناه: لَا تَجْعَلُوا أَيْمَانَكُمْ بِالْلَّهِ تَعَالَى مَانِعَةً لَكُمْ مِنَ الْبَرِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ إِذَا حَلَفْتُمْ عَلَى تركها كقوله تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى والمساكين والمهاجرين فِي سبيل الله}، فَالِاسْتِمْرَارُ عَلَى الْيَمِينِ آثَمُ لِصَاحِبِهَا مِنَ الْخُرُوجِ منها بالتكفير كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ لَأَنْ يَلَجَّ أحدكُم بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يعطى كفارته التي افترض الله عليه». وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تجعلو اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} قَالَ: لَا تَجْعَلَنَّ عُرْضَةً ليمينك أن لا تَصْنَعَ الْخَيْرَ، وَلَكِنْ كَفِّر عَنْ يَمِينِكَ وَاصْنَعِ الخير، ويؤيده مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا»، وَثَبَتَ فِيهِمَا أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعنت عَلَيْهَا، وَإِنَّ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلت إِلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ على يمين فرأيت غيرها خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عن يمينك». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فليكفِّر عَنْ يَمِينِهِ وليفعل الذي هو خير» (رواه مسلم) وقوله تَعَالَى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالْلَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أَيْ لَا يُعَاقِبُكُمْ وَلَا يُلْزِمُكُمْ بِمَا صَدَرَ مِنْكُمْ مِنَ الْأَيْمَانِ اللَّاغِيَةِ، وَهِيَ الَّتِي لَا يَقْصِدُهَا الْحَالِفُ، بَلْ تَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ عَادَةً مِنْ غَيْرِ تَعْقِيدٍ وَلَا تَأْكِيدٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ فقال في حلفه باللات وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَهَذَا قَالَهُ لِقَوْمٍ حَدِيثِي عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، قَدْ أَسْلَمُوا وَأَلْسِنَتُهُمْ قَدْ أَلِفَتْ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْحَلِفِ بِالْلَّاتِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَأُمِرُوا أَنَّ يلفظوا بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، كَمَا تَلَفَّظُوا بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِتَكُونَ هَذِهِ بِهَذِهِ وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} الآية، وفي الآية الأُخرى: {بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالْلَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قَالَتْ: هُمُ القوم يتدارأون فِي الْأَمْرِ فَيَقُولُ هَذَا: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى والله وكلا -[200]- والله يتدارأون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم. عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: إِنَّمَا اللَّغْوُ فِي الْمُزَاحَةِ وَالْهَزْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: لا الله، وَبَلَى وَاللَّهِ، فَذَاكَ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، إِنَّمَا الْكُفَّارَةُ فِيمَا عَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ أَنْ يَفْعَلَهُ ثم لا يفعله. (الوجه الثاني): عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ يَعْنِي قَوْلَهُ: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالْلَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} وَتَقُولُ: هُوَ الشَّيْءُ يَحْلِفُ عَلَيْهِ أَحَدُكُمْ لَا يُرِيدُ مِنْهُ إِلَّا الصِّدْقَ، فيكون على غير ما حلف عليه. وعن عطاء عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: هُوَ قَوْلُهُ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ صَادِقٌ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ. (أَقْوَالٌ أُخر): قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ عَلَى الشَّيْءِ ثُمَّ يَنْسَاهُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: أَعْمَى اللَّهُ بَصَرِي إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا، أَخْرَجَنِي اللَّهُ مِنْ مَالِي إِنْ لَمْ آتِكَ غَدًا فَهُوَ هَذَا، قَالَ طاووس عن ابن عباس: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَغْوُ الْيَمِينِ أَنْ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ فَذَلِكَ مَا لَيْسَ عَلَيْكَ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ (بَابُ الْيَمِينِ في الغضب): عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ الْقِسْمَةَ فَقَالَ: إِنْ عُدْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْقِسْمَةِ فَكُلُّ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّ الْكَعْبَةَ غَنِيَّةٌ عَنْ مَالِكَ، كفِّر عَنْ يَمِينِكَ وَكَلِّمْ أَخَاكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَمِينَ عَلَيْكَ وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَلَا فِيمَا لَا تَمْلِكُ» وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الشَّيْءِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: وَهِيَ كَقَوْلِهِ تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} الآية، {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} أَيْ غَفُورٌ لِعِبَادِهِ {حَلِيمٌ} عليهم.

- 226 - لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فإن فاؤوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ - 227 - وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ الْإِيلَاءُ: الْحَلِفُ، فَإِذَا حلف الرجل أن لا يُجَامِعَ زَوْجَتَهُ مُدَّةً، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَلَهُ أَنْ يَنْتَظِرَ انْقِضَاءَ الْمُدَّةِ ثُمَّ يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَصْبِرَ وَلَيْسَ لَهَا مُطَالَبَتُهُ بِالْفَيْئَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا فَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ، وقال: «الشهر تسع وعشرون»، فَأَمَّا إِنْ زَادَتِ الْمُدَّةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلِلزَّوْجَةِ مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِمَّا أَنْ يَفِيءَ: أَيْ يُجَامِعُ، وَإِمَّا أَنَّ يُطَلِّقَ، فَيَجْبُرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى هَذَا أَوْ هَذَا لِئَلَّا يَضُرَّ بِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} أَيْ يَحْلِفُونَ عَلَى تَرْكِ الْجِمَاعِ مِنْ نِسَائِهِمْ، فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِيلَاءَ يَخْتَصُّ بِالزَّوْجَاتِ دُونَ الْإِمَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} أَيْ يَنْتَظِرُ الزَّوْجُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْحَلِفِ، ثُمَّ يوقَف ويطالَب بِالْفَيْئَةِ أو الطلاق، ولهذا قال: {فإن فاؤوا} أي رجعوا إلى ما كانواعليه - وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ - قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لِمَا سَلَفَ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِنَّ بِسَبَبِ اليمين. وقوله: {فَإِنْ فاؤوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فِيهِ دَلَالَةٌ لِأَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْقَدِيمُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ الْمُولِيَ إِذَا فَاءَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهَرِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ -[201]- وَيَعْتَضِدُ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الحديث: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فتركُها كفارتُها»، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو داود والترمذي، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ الْجَدِيدُ مِنْ مَذْهَبِ الشافعي: أن عليه التكفير لِعُمُومِ وُجُوبِ التَّكْفِيرِ عَلَى كُلِّ حَالِفٍ كَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} فيه دلالة على أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي الأربعة أشهر كقول الجمهور من المتأخرين، وذهب أخرون إلى أنه يقع بمضي أربعة أَشْهُرٍ تطليقةٌ وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ عمر وعثمان وابن عباس، ثم قيل: إنها تطلق الأربعة أشهر طلقة رجعية قال سعيد بن المسيب، وَقِيلَ: إِنَّهَا تُطَلُّقُ طَلْقَةً بَائِنَةً رُوِيَ عَنْ علي وابن مسعود وإليه ذهب أو حنيفة. فكل مَنْ قَالَ إِنَّهَا تُطَلَّقُ بِمُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَهُوَ قول الشافعي، والذي عليه الجمهور من المتأخرين أن يوقف فيطالب: إما بهذا، وإما بهذا، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِ مُضِيِّهَا طَلَاقٌ. وَرَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ طَلَاقٌ وَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ حَتَّى يُوقَفَ فَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ، وَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ (رواه مالك عن عبد الله بن عمر) وقال الشافعي رحمه الله بسنده إلى سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يوقف المولي. وعن سهيل ابن أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ الرَّجُلِ يُولِي مِنَ امْرَأَتِهِ فَكُلُّهُمْ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حتى تمضي الأربعة الأشهر فيوقف فإن فاء وإلا طلق (أخرجه الدارقطني ورواه ابن جرير) وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ أيضاً، وكل هؤلاء قالوا: إن لم يفيء أُلْزِمَ بِالطَّلَاقِ، فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْ طَلَّقَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، وَالطَّلْقَةُ تَكُونُ رَجْعِيَّةً لَهُ رَجْعَتُهَا فِي الْعِدَّةِ، وَانْفَرَدَ مَالِكٌ بِأَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُ رَجْعَتُهَا حَتَّى يُجَامِعَهَا فِي الْعِدَّةِ وَهَذَا غريب جداً. وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ وَغَيْرُهُمْ فِي مُنَاسَبَةِ تَأْجِيلِ الْمُولِي بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ الْأَثَرَ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ مالك رحمه الله في الموطأ عن عبد الله بْنِ دِينَارٍ قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنَ اللَّيْلِ فَسَمِعَ امْرَأَةً تَقُولُ: تَطَاوَلَ هَذَا الليل واسود جانبه * وأرقني أن لا خليل ألاعبه فوالله لولا أَنِّي أُرَاقِبَهْ * لَحُرِّكَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهْ فَسَأَلَ عُمَرُ ابْنَتَهُ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَمْ أَكْثَرَ مَا تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا؟ فَقَالَتْ: سِتَّةُ أَشْهُرٍ، أَوْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَحْبِسُ أَحَدًا مِنَ الْجُيُوشِ أَكْثَرَ من ذلك (رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن دينار)

- 228 - وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ -[202]- وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ هذا أمر مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْمُطَلَّقَاتِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، بِأَنْ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، أَيْ بِأَنْ تَمْكُثَ إِحْدَاهُنَّ بَعْدَ طَلَاقِ زَوْجِهَا لَهَا ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ثُمَّ تَتَزَوَّجَ إِنَّ شَاءَتْ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ الْأَمَةَ إِذَا طُلِّقَتْ فَإِنَّهَا تُعْتَدُّ عِنْدَهُمْ بقرأين لِأَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرَّةِ، وَالْقُرْءُ لَا يتبعض فكمل لها قرآن لحديث: «طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابن عمر مرفوعاً والصحيح أنه موقوف من قول ابن عمر) وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: بَلْ عِدَّتُهَا كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ لعموم الآية ولأن هذا أمر جلي فكان الحرائر والإماء في هذا سواء حكي هذا القول عن بعض أهل الظاهر. وروي عن أَسْمَاءَ بِنْتَ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ الْأَنْصَارِيَّةَ قَالَتْ: طُلِّقْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُطَلَّقَةِ عِدَّةٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ طلِّقت (أسماءُ) الْعِدَّةَ لِلطَّلَاقِ فَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ نَزَلَتْ فِيهَا الْعِدَّةُ لِلطَّلَاقِ يَعْنِي: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (قال ابن كثير: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فِي الْمُرَادِ بِالْأَقْرَاءِ مَا هُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ، (أَحَدُهُمَا): أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا (الْأَطْهَارُ) وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ عروة عن عائشة أنها انْتَقَلَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثالثة، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَتْ: صَدَقَ عُرْوَةُ، وَقَدْ جَادَلَهَا فِي ذَلِكَ نَاسٌ فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: صَدَقْتُمْ وَتَدْرُونَ مَا الأقراء؟ إنما الأقراء الأطهار. وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَدَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ وَبَرِئَ منها، وهو مذهب مالك والشافعي ورواية عَنْ أَحْمَدَ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَيْ فِي الْأَطْهَارِ، وَلَمَّا كَانَ الطُّهْرُ الَّذِي يُطَلَّقُ فِيهِ مُحْتَسَبًا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَحَدُ الْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَلِهَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ: إِنَّ الْمُعْتَدَّةَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا وَتَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا بالطعن في الحيضة الثالثة، واستشهد أبو عبيدة وغيره على ذلك بقول الأعشى: مورثة مالاً وفي الأصل رِفْعَةٌ * لَمَّا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا يَمْدَحُ أَمِيرًا مِنْ أُمراء الْعَرَبِ آثَرَ الْغَزْوَ عَلَى الْمَقَامِ حَتَّى ضَاعَتْ أَيَّامَ الطُّهْرِ مِنْ نِسَائِهِ لَمْ يُوَاقِعْهُنَّ فِيهَا. (وَالْقَوْلُ الثَّانِي): أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَقْرَاءِ (الْحَيْضُ) فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ حَتَّى تُطْهُرَ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، زَادَ آخَرُونَ وَتَغْتَسِلَ منها، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عن الإمام أحمد بن حنبل، وحكى عن الْأَثْرَمُ أَنَّهُ قَالَ: الْأَكَابِرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ الْأَقْرَاءُ: الْحَيْضُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، ويؤيد هذا ما جاء في الحديث عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ»، فَهَذَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ صَرِيحًا فِي أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْحَيْضُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَصْلُ الْقُرْءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْوَقْتُ لِمَجِيءِ الشَّيْءِ الْمُعْتَادِ مَجِيئُهُ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَلِإِدْبَارِ الشَّيْءِ -[203]- الْمُعْتَادِ إِدْبَارُهُ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الأصوليين والله أَعْلَمُ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ: أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْوَقْتُ، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: الْعَرَبُ تُسَمِّي الْحَيْضَ قُرْءًا، وَتُسَمِّي الطُّهْرَ قُرْءًا وَتُسَمِّي الطهر والحيض جميعاً قرءاً وقال ابن عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِلِسَانِ العرب والفقهاء أن القرء أَنَّ الْقُرْءَ يُرَادُ بِهِ الْحَيْضَ، وَيُرَادُ بِهِ الطُّهْرَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنَ الْآيَةِ ما هو على قولين. وقوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} أَيْ مِنْ حَبَلٍ أَوْ حَيْضٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ، وَقَوْلُهُ: {إِن كُنَّ يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} تهديد لهن على خِلَافِ الْحَقِّ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي هَذَا إِلَيْهِنَّ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يُعْلَمُ إلا من جهتهن، ويتعذر إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ غَالِبًا عَلَى ذَلِكَ فَرَدَّ الْأَمْرَ إليهن، وتوعدن فيه لئلا يخبرن بِغَيْرِ الْحَقِّ، إِمَّا اسْتِعْجَالًا مِنْهَا لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، أَوْ رَغْبَةً مِنْهَا فِي تَطْوِيلِهَا لِمَا لَهَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ، فَأُمِرَتْ أَنْ تُخْبِرَ بِالْحَقِّ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نقصان. وقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحاً} أي زوجها الذي طلقها أحق بردها مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا، إِذَا كَانَ مُرَادُهُ بردها الْإِصْلَاحَ وَالْخَيْرَ، وَهَذَا فِي الرَّجْعِيَّاتِ، فَأَمَّا الْمُطَلَّقَاتُ الْبَوَائِنُ فَلَمْ يَكُنْ حَالَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مطلقة بائن، وإنما كان ذلك لما حصروا في الطلاق الثَّلَاثِ، فَأَمَّا حَالُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ الرَّجُلُ أَحَقَّ بِرَجْعَةِ امْرَأَتِهِ وَإِنْ طَلَّقَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ، فَلَمَّا قُصِرُوا فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا عَلَى ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، صَارَ لِلنَّاسِ مُطَلَّقَةٌ بَائِنٌ وغير بائن. وقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أَيْ وَلَهُنَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ مَا لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ، فَلْيُؤَدِّ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ ما يجب عليه بالمعروف، كما ثبت عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عليهن أن لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» (رواه مسلم عن جابر مرفوعاً) وفي حديث عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا؟ قَالَ: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبَ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحَ وَلَا تَهْجُرَ إِلَّا فِي البيت». وقال ابن عباس: إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِيَ الْمَرْأَةُ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ) وَقَوْلُهُ: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أَيْ فِي الْفَضِيلَةِ في الخَلق والخُلق، وَالْمَنْزِلَةِ وَطَاعَةِ الْأَمْرِ، وَالْإِنْفَاقِ وَالْقِيَامِ بِالْمَصَالِحٍ، وَالْفَضْلِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أَيْ عَزِيزٌ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ، حَكِيمٌ فِي أَمْرِهِ وشرعه وقدره.

- 229 - الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - 230 - فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ رَافِعَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة مادامت فِي الْعِدَّةِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا فِيهِ ضَرَرٌ على الزوجات قصرهم الله إِلَى ثَلَاثِ طَلْقَاتٍ، وَأَبَاحَ الرَّجْعَةَ فِي الْمَرَّةِ وَالثِّنْتَيْنِ، وَأَبَانَهَا بِالْكُلِّيَّةِ فِي الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قَالَ أبو داود عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الْآيَةَ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَنُسِخَ ذَلِكَ فَقَالَ: {الطلاق مَرَّتَانِ} الآية. وعن (هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ) عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: لَا أُطَلِّقُكِ أَبَدًا وَلَا آوِيكِ أبداً، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلق حَتَّى إِذَا دَنَا أَجَلُكِ رَاجَعْتُكِ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ له فأنزل الله عز وجلّ: {الطلاق مَرَّتَانِ} (رواه النسائي). وعن عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لِلطَّلَاقِ وَقْتٌ، يُطَلِّقُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا مَا لَمْ تَنْقُضِ الْعِدَّةُ، وَكَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَبَيْنَ أهله بعض ما يكون بين الناس قال: "وَاللَّهِ لَأَتْرُكَنَّكِ لَا أيِّماً وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ، فَجَعَلَ يُطَلِّقُهَا حَتَّى إِذَا كَادَتِ الْعِدَّةُ أَنْ تَنْقَضِيَ رَاجَعَهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجلّ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فوقَّت الطَّلَاقَ ثَلَاثًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ بَعْدَ الثالثة حتى تنكح زوجاً غيره (رواه ابن مردويه والحاكم) وَقَوْلُهُ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أَيْ إِذَا طَلَّقْتَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَأَنْتَ مُخَيَّرٌ فِيهَا مَا دَامَتِ عِدَّتُهَا بَاقِيَةً، بَيْنَ أَنْ تَرُدَّهَا إِلَيْكَ نَاوِيًا الْإِصْلَاحَ بِهَا وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهَا، وَبَيْنَ أَنْ تَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَتَبِينَ مِنْكَ، وَتُطْلِقَ سَرَاحَهَا مُحْسِنًا إِلَيْهَا لَا تَظْلِمُهَا من حقها شيئاً ولا تُضارَّ بها. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تطليقتين فليتق الله في ذلك، أي فِي الثَّالِثَةِ فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَهَا بِمَعْرُوفٍ فَيَحْسُنُ صحابتها، أو يسرها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئاً، وعن أنَس ابن مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ذَكَرَ اللَّهُ الطَّلَاقَ مَرَّتَيْنِ فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ؟ قَالَ: {إمساك -[205]- بمعروف أو تسريح بإحسان} (رواه ابن مردويه وأحمد وعبد بن حميد) وقوله تَعَالَى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتيتموهن شَيْئاً} أَيْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تُضَاجِرُوهُنَّ وَتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ، لِيَفْتَدِينَ مِنْكُمْ بِمَا أَعْطَيْتُمُوهُنَّ مِنَ الْأَصْدِقَةِ أَوْ بِبَعْضِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مبينة} فَأَمَّا إِنْ وَهَبَتْهُ الْمَرْأَةُ شَيْئًا عَنْ طِيبِ نفسٍ منها فقد قال تعالى {فإن طلبن لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئًا مريئاً} وَأَمَّا إِذَا تَشَاقَقَ الزَّوْجَانِ وَلَمْ تَقُمِ الْمَرْأَةُ بِحُقُوقِ الرَّجُلِ وَأَبْغَضَتْهُ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى مُعَاشَرَتِهِ، فَلَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَا أَعْطَاهَا وَلَا حرج عليه في بذلها له ولا حرج عليه في قبول ذلك مها، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتيتموهم شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فال جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} الْآيَةَ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عُذْرٌ وَسَأَلَتِ الِافْتِدَاءَ منه فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيما امرأة سالت زوجها طلاقها فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الجنة» (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المختلعات هن المنافقات» (رواه الترمذي وقال: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) (حَدِيثٌ آخَرُ) وَقَالَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «المختلعات والمنتزعات هن المنافقات» وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَسْأَلُ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ فَتَجِدَ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لُيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» ثُمَّ قَدْ قَالَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْخَلَفِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُلْعُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الشِّقَاقُ وَالنُّشُوزُ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ، فَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ حِينَئِذٍ قَبُولُ الْفِدْيَةِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتيتموه شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}، قَالُوا: فَلَمْ يَشْرَعِ الْخُلْعَ إِلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا ابن عباس وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالْجُمْهُورُ حَتَّى قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَوْ أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا وَهُوَ مَضَارٌّ لَهَا وَجَبَ رَدُّهُ إِلَيْهَا وَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي أَدْرَكْتُ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الخلع في حال الشِّقَاقِ وَعِنْدَ الِاتِّفَاقِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَهَذَا قول جميع أصحابه قاطبة، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ رَّحْمَةِ اللَّهُ إِنَّ هذه الآية نزلت في شأن (ثابت بان قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ) وَامْرَأَتِهِ (حَبِيبَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ أُبي بْنِ سَلُولٍ). قَالَ البخاري: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا أعيب عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ وَلَكِنْ أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسلام فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ»؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أقبل الحديقة وطلقها تطليقة»، وهكذا رواه البخاري أيضاً من طرقه عن عكرمة عن ابن عباس وفى بعضها أنها قالت: لا أطيقه يعني بغضاً. وفي رواية عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ سَلُولَ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَعْتِبُ عَلَى (ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ) في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضاً، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تردِّين عَلَيْهِ حديقته؟» قالت: نعم، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يأخذ ما ساق ولا يزداد. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ جَمِيلَةَ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ -[206]- فَنَشَزَتْ عَلَيْهِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا جَمِيلَةُ مَا كَرِهْتِ مِنْ ثابت؟» قالت: الله مَا كَرِهْتُ مِنْهُ دِينًا وَلَا خُلُقًا إِلَّا أني كرهت دمامته، فقال لها: «أتردين عليه الْحَدِيقَةَ؟» قَالَتْ: نَعَمْ، فَرَدَّتِ الْحَدِيقَةَ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. وأول خُلْعٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ فِي أُخْتِ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي) أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا يَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسَهُ شَيْءٌ أبداُ، إني رفعت جانت الخباء فرأيته قد أَقْبَلَ فِي عِدَّةٍ فَإِذَا هُوَ أَشُدُّهُمْ سَوَادًا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاُ، فقال زوجها: يارسول اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُهَا أَفْضَلَ مَالِي حَدِيقَةً لي فإن ردت عليَّ حديقتي، قال: «ماذا تَقُولِينَ؟» قَالَتْ: نَعَمْ وَإِنْ شَاءَ زِدْتُهُ، قَالَ: ففرق بينهما. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفَادِيَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وعن كثير مولى ابن سَمُرَةَ أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ نَاشِزٍ فَأَمَرَ بِهَا إِلَى بَيْتٍ كَثِيرِ الزِّبْلِ، ثُمَّ دَعَا بِهَا فَقَالَ: كَيْفَ وَجَدْتِ؟ فَقَالَتْ: مَا وَجَدْتُ رَاحَةً مُنْذُ كُنْتُ عِنْدَهُ إِلَّا هَذِهِ اللَّيْلَةَ التي كنت حَبَسْتَنِي، فَقَالَ لِزَوْجِهَا: اخْلَعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا (رواه عبد الرزاق وابن جرير) وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَأَجَازَ عُثْمَانُ الْخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رأسها لحديث الربي

(تابع ... 1): 229 - الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أن ... ... وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أَيْ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً ثَالِثَةً بَعْدَ مَا أَرْسَلَ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، أَيْ حَتَّى يَطَأَهَا زَوْجٌ آخَرُ، فِي نِكَاحٍ

صحيح، فلو وطئها واطىء فِي غَيْرِ نِكَاحٍ وَلَوْ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ، وَهَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَتْ وَلَكِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ لم تحل للأول، لحديث ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فَيُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الْبَتَّةَ، فَيَتَزَوَّجُهَا زَوْجٌ آخَرُ فَيُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَتَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ؟ قَالَ: «لَا حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عسيلتها» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ رَجُلًا فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَتَحِلُّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا، حَتَّى يَكُونَ الْآخَرُ قَدْ ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته. قال مسلم في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ يَتَزَوَّجُهَا الرَّجُلُ فيطلقها فتتزوج رجلاً آخر فَيُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَتَحِلُّ لِزَوْجِهَا الأول قال: «لا حتى يذوق عسيلتها». وعن عَائِشَةَ أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ طلقها، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّهُ لَا يَأْتِيهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَقَالَ: «لَا، حَتَّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» (تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) وَقَالَ الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ وَأَنَا وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي الْبَتَّةَ، وَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ تَزَوَّجَنِي، وَإِنَّمَا عِنْدُهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ، وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ جِلْبَابِهَا - وخالد ابن سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْبَابِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ - فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَا تَنْهَى هَذِهِ عما تجهر به بين يدي رسول بالله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَمَا زَادَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن التبسم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَأَنَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ، لَا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك». (فَصْلٌ) وَالْمَقْصُودُ مِنَ الزَّوْجِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ رَاغِبًا فِي الْمَرْأَةِ، قَاصِدًا لِدَوَامِ عَشَرَتِهَا كَمَا هُوَ الْمَشْرُوعُ مِنَ التَّزْوِيجِ، وَاشْتَرَطَ الْإِمَامُ مَالِكٌ مع ذلك أن يطأها الثاني وطأ مُبَاحًا، فَلَوْ وَطِئَهَا وَهِيَ مُحْرمة أَوْ صَائِمَةٌ أَوْ مُعْتَكِفَةٌ أَوْ حَائِضٌ أَوْ نُفَسَاءُ، أَوْ الزوج صَائِمٌ أَوْ مُحْرِمٌ أَوْ مُعْتَكِفٌ، لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ بِهَذَا الْوَطْءِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ الثَّانِي ذِمِّيًّا لَمْ تَحِلَّ لِلْمُسْلِمِ بِنِكَاحِهِ، لَأَنَّ أنكحة الكفار باطلة عنده، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الثَّانِي إِنَّمَا قَصْدُهُ أَنْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ، فَهَذَا هُوَ (الْمُحَلِّلُ) الَّذِي وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِذَمِّهِ وَلَعْنِهِ، وَمَتَى صَرَّحَ بِمَقْصُودِهِ فِي الْعَقْدِ بِطَلَ النِّكَاحُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ. (ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ) (الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ): عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَالْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ والمحلَّل والمحلَّل له، وآكل الربا وموكله (تفرد به البخاري من هذا الوجه) (الْحَدِيثُ الثَّانِي): عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ

وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ لِلْحُسْنِ وَمَانِعَ الصَّدَقَةِ وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ له، وكان ينهى عن النوح (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة) (الحديث الثالث) عن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ والمحلل له» (رواه الترمذي) (الحديث الرابع): عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «هُوَ الْمُحَلِّلُ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» (تفرد به ابن ماجة). (الحديث الخامس) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ قَالَ: «لَا، إِلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ، لَا نِكَاحَ دُلْسَةٍ، وَلَا اسْتِهْزَاءٍ بِكِتَابِ الله، ثم يذوق عسيلتها» (رواه الجوزجاني السعدي) (الحديث السادس): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المحلل والمحلل له (رواه أحمد) (الحديث السابع): عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رجُل إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا أَخٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُؤَامَرَةٍ مِنْهُ لِيُحِلَّهَا لِأَخِيهِ هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ فَقَالَ: لَا إِلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ، كُنَّا نَعُدُّ هَذَا سِفَاحًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَوَاهُ الحاكم في المستدرك). وقوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا} أَيِ الزَّوْجُ الثَّانِي بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ} أَيِ الْمَرْأَةُ وَالزَّوْجُ الْأَوَّلُ {إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله} أي يتعاشرا بالمعروف، قال مُجَاهِدٌ: إِنَّ ظَنًّا أَنَّ نِكَاحَهُمَا عَلَى غَيْرِ دُلْسَةٍ {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أَيْ شَرَائِعُهُ وَأَحْكَامُهُ {يُبَيِّنُهَا} أَيْ يُوَضِّحُهَا {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيمَا إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ وَتَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِآخَرَ فَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ هَلْ تَعُودُ إِلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثَّلَاثِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَوْ يَكُونُ الزَّوْجُ الثَّانِي قَدْ هَدَمَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الطَّلَاقِ فَإِذَا عَادَتْ إِلَى الْأَوَّلِ تَعُودُ بِمَجْمُوعِ الثَّلَاثِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، حجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلا يَهْدِمَ مَا دُونَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَاللَّهُ أعلم

- 231 - وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ -[210]- مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلرِّجَالِ: إِذَا طَلَّقَ أَحَدُهُمُ الْمَرْأَةَ طَلَاقًا لَهُ عَلَيْهَا فِيهِ رَجْعَةٌ، أَنْ يُحْسِنَ فِي أَمْرِهَا إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا مِقْدَارَ مَا يُمْكِنُهُ فِيهِ رَجْعَتُهَا، فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَهَا أَيْ يَرْتَجِعَهَا إِلَى عِصْمَةِ نِكَاحِهِ بِمَعْرُوفٍ وَهُوَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا وَيَنْوِيَ عِشْرَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُسَرِّحَهَا أَيْ يَتْرُكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَيُخْرِجُهَا مِنْ مَنْزِلِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِ شِقَاقٍ وَلَا مُخَاصَمَةٍ وَلَا تَقَابُحٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ} قال ابن عباس ومجاهد: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ الْمَرْأَةَ فَإِذَا قَارَبَتِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا ضِرَارًا لِئَلَّا تَذْهَبَ إِلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَتَعْتَدُّ فَإِذَا شَارَفَتْ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ طَلَّقَ لِتَطُولَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أَيْ بِمُخَالَفَتِهِ أَمْرَ الله تعالى. وقوله تَعَالَى: {وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} قَالَ مَسْرُوقٌ: هُوَ الَّذِي يُطَلِّقُ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ وَيُضَارُّ امْرَأَتَهُ بِطَلَاقِهَا وَارْتِجَاعِهَا لِتَطُولَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وقال الحسن وقتادة: هُوَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ وَيَقُولُ: كُنْتُ لَاعِبًا، أَوْ يُعْتِقُ أَوْ يَنْكِحُ وَيَقُولُ: كُنْتُ لَاعِبًا، فَأَنْزَلَ الله: {وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً}، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ وَهُوَ يلعب ولا يُرِيدُ الطَّلَاقَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} فَأَلْزَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم الطلاق. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثٌ جدهنَّ جَدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، والرجعة" (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ الترمذي: حسن غريب) وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أَيْ فِي إِرْسَالِهِ الرَّسُولَ بِالْهُدَى وَالْبَيِّنَاتِ إِلَيْكُمْ {وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} أَيِ السُّنَّةُ {يَعِظُكُمْ بِهِ} أَيْ يَأْمُرُكُمْ وَيَنْهَاكُمْ وَيَتَوَعَّدُكُمْ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أَيْ فِيمَا تَأْتُونَ وَفِيمَا تَذَرُونَ {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليمْ} أَيْ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِكُمُ السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ وَسَيُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ.

- 232 - وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا ثم يبدوا لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَأَنْ يُرَاجِعَهَا وَتُرِيدَ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ فَيَمْنَعُهَا أَوْلِيَاؤُهَا مِنْ ذَلِكَ فَنَهَى اللَّهُ أن يمنعوها، والذي قاله ظَاهِرٌ مِنَ الْآيَةِ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا، وَأَنَّهُ لا بد في النكاح من ولي، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مُحَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الْفُرُوعِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. -[211]- وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي (معقل بن يسار المزني} وأُخته. روى الترمذي عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ زَوَّجَ أُخْتَهُ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ مَا كَانَتْ، ثُمَّ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انقضت عدتها، فَهَوِيَهَا وَهَوِيَتْهُ ثُمَّ خَطَبَهَا مَعَ الْخُطَّابِ، فَقَالَ له: يا لكع ابن لُكَعُ أَكْرَمْتُكَ بِهَا وَزَوَّجْتُكَهَا فَطَلَّقْتَهَا، وَاللَّهِ لَا تَرْجِعُ إِلَيْكَ أَبَدًا آخِرُ مَا عَلَيْكَ، قَالَ فَعَلِمَ اللَّهُ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا وَحَاجَتَهَا إِلَى بَعْلِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، فَلَمَّا سَمِعَهَا مَعْقِلٌ قَالَ: سَمْعٌ لِرَبِّي وَطَاعَةٌ ثُمَّ دَعَاهُ فقال: أزوجك وأكرمك (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة واللفظ للترمذي). وقوله تعالى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أَيْ هَذَا الَّذِي نَهَيْنَاكُمْ عَنْهُ مِنْ مَنْعِ الْوَلَايَا أَنْ يَتَزَوَّجْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، يَأْتَمِرُ بِهِ وَيَتَّعِظُ بِهِ وَيَنْفَعِلُ لَهُ {مَنْ كَانَ مِنْكُمْ} أَيُّهَا النَّاسُ {يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أَيْ يُؤْمِنُ بِشَرْعِ اللَّهِ وَيَخَافُ وَعِيدَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ {ذَلِكُمْ أزكى لَكُمْ وأطهر} أي اتبعاكم شَرْعَ اللَّهِ فِي رَدِّ الْمُولِيَاتِ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَتَرْكِ الحَمِيَّة فِي ذَلِكَ {أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} لِقُلُوبِكُمْ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} أَيْ مِنَ الْمَصَالِحِ فِيمَا يأمر به وينهى عنه {وأنت لاَ تَعْلَمُونَ} أَيِ الْخَيْرَةُ فِيمَا تَأْتُونَ وَلَا فيما تذرون.

- 233 - وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ هذا إرشاد من الله تعالى للوادات أَنْ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ كَمَالَ الرَّضَاعَةِ وَهِيَ (سَنَتَانِ) فَلَا اعْتِبَارَ بِالرَّضَاعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا كَانَ دُونَ الْحَوْلَيْنِ، فَلَوِ ارْتَضَعَ المولود وعمره فوقهما لم يحرم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرِّضَاعِ إِلَّا مَا فَتَقَ الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام» (رواه الترمذي عن أم سلمة وقال: حديث حسن صحيح) وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «إِلاَّ مَا كَانَ فِي الثَّدْيِ» أي في محالّ الرضاعة قبل الحولين لحديث: «إن ابني مات في الثدي وإن له مرضعا في الجنة» (رواه أحمد عن البراء بن عازب وقد قاله عليه السلام عند موت ولده إبراهيم) وَإِنَّمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ لِأَنَّ ابْنَهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَاتَ وَلَهُ سَنَةٌ وَعَشَرَةُ أشهر، فقال: إن له مرضعاً يعني تكمل رضاعته ويؤيده ما رواه الدارقطني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرضاع إلا ما كان في الحولين» (رواه مالك في الموطأ أخرجه الدارقطني واللفظ له) -[212]- وقال الطَّيَالِسِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ، وَلَا يُتْمَ (1) بَعْدَ احْتِلَامٍ»، وَتَمَامُ الدَّلَالَةِ من هذا الحديث في قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشكر لِي}، وقال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شهرا} وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الرَّضَاعَةَ لَا تُحَرِّمُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ يروى عن علي وابن عباس وابن مسعود وهو مذهب الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: سنتان وستة أشهر. وقد روى عن عمر وعلي أنهما قال: لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا أَرَادَا الْحَوْلَيْنِ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ سَوَاءٌ فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ، وَيُحْتَمَلْ أَنَّهُمَا أَرَادَا الْفِعْلَ كَقَوْلِ مَالِكٍ، والله أعلم. وقد روي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى رِضَاعَ الْكَبِيرِ يُؤَثِّرُ فِي التحريم، وهو قول عطاء وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَأْمُرُ بِمَنْ تَخْتَارُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ لِبَعْضِ نِسَائِهَا فَتُرْضِعُهُ، وَتَحْتَجُّ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ (سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ) حَيْثُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ أَنْ تُرْضِعَهُ وَكَانَ كَبِيرًا، فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ، وَأَبَى ذَلِكَ سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْخَصَائِصِ، وهو قول الجمهور، وحجة الجمهور مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «انْظُرْنَ مِنْ إخوانُكنَّ! فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ». وقوله تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أَيْ وَعَلَى وَالِدِ الطِّفْلِ، نَفَقَةُ الْوَالِدَاتِ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَمْثَالِهِنَّ فِي بَلَدِهِنَّ، مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا إِقْتَارٍ، بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ فِي يَسَارِهِ وَتَوَسُّطِهِ وَإِقْتَارِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عسر يسرا}، قال الضحّاك: إذا طلق زَوَّجْتَهُ وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، فَأَرْضَعَتْ لَهُ وَلَدَهُ وَجَبَ عَلَى الْوَالِدِ نَفَقَتُهَا وَكِسْوَتُهَا بِالْمَعْرُوفِ. وَقَوْلُهُ تعالى: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} أي بأن تَدْفَعُهُ عَنْهَا لِتَضُرَّ أَبَاهُ بِتَرْبِيَتِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللبن الَّذِي لَا يَعِيشُ بِدُونِ تَنَاوُلِهِ غَالِبًا، ثُمَّ بعد هذا لها دفعه عَنْهَا إِذَا شَاءَتْ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَتْ مُضَارَّةً لِأَبِيهِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا ذَلِكَ، كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ انْتِزَاعُهُ مِنْهَا لِمُجَرَّدِ الضِّرَارِ لَهَا وَلِهَذَا قَالَ: {وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} أَيْ بِأَنْ يُرِيدَ أَنْ يَنْتَزِعَ الْوَلَدَ مِنْهَا إِضْرَارًا بها قاله مجاهد وقتادة. وقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قِيلَ: فِي عَدَمِ الضرار لقريبه، قاله مجاهد وَالضَّحَّاكُ، وَقِيلَ: عَلَيْهِ مِثْلُ مَا عَلَى وَالِدِ الطِّفْلِ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَالِدَةِ الطِّفْلِ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهَا وَعَدَمِ الْإِضْرَارِ بِهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَدِ اسْتَقْصَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وجمهور السلف، ويُرجَّح ذَلِكَ بِحَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عُتِقَ عَلَيْهِ» وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الرَّضَاعَةَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ رُبَّمَا ضَرَّتِ الولد إما في بدنه أو في عقله. وقوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي فإن اتفق والد الطِّفْلِ عَلَى فِطَامِهِ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ، وَرَأَيَا فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَهُ، وَتَشَاوَرَا فِي ذَلِكَ وَأَجْمَعَا عَلَيْهِ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ انْفِرَادَ أَحَدِهِمَا بِذَلِكَ دُونَ الْآخَرِ لَا يَكْفِي، وَلَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر، -[213]- وَهَذَا فِيهِ احْتِيَاطٌ لِلطِّفْلِ، وَإِلْزَامٌ لِلنَّظَرِ فِي أَمْرِهِ، وَهُوَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ، حَيْثُ حَجَرَ عَلَى الْوَالِدَيْنِ فِي تَرْبِيَةِ طِفْلِهِمَا، وَأَرْشَدَهُمَا إلى ما يصلحهما ويصلحه كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى}. وقوله تعالى: {وَإِن أرادتم أن تسترضعوا أولدادكم فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بالمعروف} أي إذا أنفقت الوالدة والوالد على أن يستلم منها الولد، إما لعذر منها أو لعذر منه، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِي بَذْلِهِ وَلَا عَلَيْهِ فِي قَبُولِهِ مِنْهَا إِذَا سَلَّمَهَا أُجْرَتَهَا الْمَاضِيَةَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَاسْتَرْضَعَ لِوَلَدِهِ غَيْرَهَا بِالْأُجْرَةِ بالمعروف، وَقَوْلُهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أَيْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ {واعلموا أَنَّ الله بما تعملون بصر} أَيْ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِكُمْ وأقوالكم.

_ (1) لا يُتْم: بسكون التاء. يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام صغار الأيتام

- 234 - وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي يُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ أَنْ يَعْتَدِدْنَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرَ لَيَالٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ يَشْمَلُ الزَّوْجَاتِ الْمَدْخُولَ بِهِنَّ وَغَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ بِالْإِجْمَاعِ، وَمُسْتَنَدُهُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا عُمُومُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امرأة فمات عنها وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا، فَتَرَدَّدُوا إِلَيْهِ مِرَارًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَقُولُ فِيهَا برأيي، فإن يك صواباً فمن الله، وإن يك خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ منه: لَهَا الصَّدَاقَ كَامِلًا - وَفِي لَفْظٍ لَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ - وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، ولها الميراث، فقام (معقل بن يسار الْأَشْجَعِيُّ) فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهِ فِي (بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ) فَفَرِحَ عَبْدُ اللَّهِ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا (أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي). وَلَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَإِنَّ عِدَّتَهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَلَوْ لَمْ تَمْكُثْ بَعْدَهُ سِوَى لَحْظَةٍ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {وَأُوْلاَتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى أَنْ عَلَيْهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ: مِنَ الْوَضْعِ، أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، وَهَذَا مَأْخَذٌ جَيِّدٌ وَمَسْلَكٌ قَوِيٌّ، لَوْلَا مَا ثَبَتَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي حَدِيثِ (سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ) الْمُخَرَّجِ فِي الصحيحين من غير وجه، أنها تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا (سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ) وَهِيَ حَامِلٌ، فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا (أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ) فَقَالَ لَهَا: مَالِي أَرَاكِ مُتَجَمِّلَةً لَعَلَّكِ تَرْجِينَ النِّكَاحَ؟ وَاللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى يَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ جَمَعْتُ عليَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إِنْ بَدَا لِي. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ سُبَيْعَةَ، يَعْنِي لَمَّا احْتُجَّ عَلَيْهِ بِهِ، قَالَ: وَيُصَحِّحُ ذَلِكَ عَنْهُ أَنَّ أَصْحَابَهُ أَفْتَوْا بِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَاطِبَةً، وَكَذَلِكَ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجَةُ إِذَا كَانَتْ أَمَةً، فَإِنَّ عدتها على النصف من عدة الحرة عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ عَلَى النصف من الحرة فكذلك في العدة، ومن -[214]- العلماء مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الزَّوْجَاتِ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ باب الأمور الجِبِليَّة، التي تستوي فيه الخليقة. وقد ذكر أن الحكمة في جعل عدة الوفاء أربعة أشهر وعشرا، احتمال اشْتِمَالِ الرَّحِمِ عَلَى حَمْلٍ، فَإِذَا انْتَظَرَ بِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ ظَهَرَ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي فِي الصحيحين: «إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ» فَهَذِهِ ثَلَاثُ أَرْبَعِينَاتٍ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَالِاحْتِيَاطُ بِعَشْرٍ بَعْدَهَا لِمَا قَدْ يَنْقُصُ بَعْضُ الشُّهُورِ، ثُمَّ لِظُهُورِ الْحَرَكَةِ بَعْدَ نَفْخِ الرَّوْحِ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف} يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا وُجُوبُ الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُتَوَفَّى عنها مدة عدتها، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى ميت فوق ثلاث إلى عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي تُوَفِّي عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنُهَا أَفَنَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ: «لَا» كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ - لَا - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَمْكُثُ سَنَةً» قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا، حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ فَقَلَّمَا تفتض بشي إلا مات (أي من نتنها والإفتضاض مسح الفرج به) ومن ههنا ذهب كثيرون مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِلْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غير إخراج} الآية كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَفِي هَذَا نظر كما سيأتي تقريره، والغرض من الْإِحْدَادَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الزِّينَةِ مِنَ الطِّيبِ، وَلُبْسِ مَا يَدْعُوهَا إِلَى الْأَزْوَاجِ مِنْ ثِيَابٍ وَحُلِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا يَجِبُ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهَلْ يَجِبُ فِي عِدَّةِ الْبَائِنِ فِيهِ قَوْلَانِ: وَيَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَى جَمِيعِ الزَّوْجَاتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الصَّغِيرَةُ، وَالْآيِسَةُ، وَالْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ وَالْمُسَلَمَةَ، وَالْكَافِرَةُ لعموم الآية، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا حداد عَلَى الْكَافِرَةِ، وَبِهِ يَقُولُ أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَحَجَّةُ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ على ميت فوق ثلاث إلى عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»، قَالُوا: فَجَعَلَهُ تعبداً، وألحق أبو حنيفة وأصحابه الصَّغِيرَةَ بِهَا لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، وَأَلْحَقَ أَبُو حَنِيفَةَ الْأَمَةَ الْمُسَلَمَةَ لِنَقْصِهَا، وَمَحَلُّ تَقْرِيرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي كُتُبِ الْأَحْكَامِ وَالْفُرُوعِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. وقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي انقضت عدتهن {فال جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}، قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَيْ عَلَى أَوْلِيَائِهَا {فِيمَا فَعَلْنَ} يَعْنِي النِّسَاءُ اللَّاتِي انْقَضَّتْ عِدَّتُهُنَّ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا طُلقت الْمَرْأَةُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَإِذَا انْقَضَّتْ عِدَّتُهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ وَتَتَصَنَّعَ وَتَتَعَرَّضَ لِلتَّزْوِيجِ فَذَلِكَ المعروف. وقد روى عن مقاتل، وقال مجاهد: {بالمعروف} النكاح الحلال الطيب، وهو قول الحسن والزهري، والله أعلم.

- 235 - وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أَنْ تُعَرِّضُوا بِخِطْبَةِ النِّسَاءِ فِي عِدَّتِهِنَّ، مِنْ وَفَاةِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنْ غَيْرِ تصريح، قال ابن عباس: التعريض أن يقول إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ، وَإِنِّي أُحِبُّ امْرَأَةً مِنْ أَمْرِهَا وَمِنْ أَمْرِهَا - يُعرِّض لَهَا بِالْقَوْلِ بِالْمَعْرُوفِ - وفي رواية وودت أن الله رزقني امرأة. وعن مجاهد عن ابن عباس هُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ وَإِنَّ النساء لمن حاجتي، ولوددت أن ييسر لي امرأة صالحة (رواه البخاري تعليقاً) مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ لَهَا بِالْخِطْبَةِ، وَهَكَذَا حُكْمُ الْمُطْلِقَةِ الْمَبْتُوتَةِ يَجُوزُ التَّعْرِيضُ لَهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قيس، حين طلقها زوجها أو عَمْرُو بْنُ حَفْصٍ، آخَرُ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ (ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ) وَقَالَ لَهَا: فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي، فَلَمَّا حَلَّتْ خَطَبَ عَلَيْهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَوْلَاهُ فَزَوَّجَهَا إياه، فأما المطلقة فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ زَوْجِهَا التَّصْرِيحُ بِخِطْبَتِهَا وَلَا التَّعْرِيضُ لَهَا، وَاللَّهُ أعلم. وقوله تعالى: {أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} أَيْ أَضْمَرْتُمْ فِي أنفسكم من خِطْبَتَهُنَّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} وَكَقَوْلِهِ: {وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ}، وَلِهَذَا قَالَ: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} أَيْ فِي أَنْفُسِكُمْ فَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْكُمْ فِي ذَلِكَ، ثم قال: {ولكن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} واختاره ابن جرير، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَكِنْ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} لَا تقل لها: إني عاشق، وعاهديني أن لا تَتَزَوَّجِي غَيْرِي، وَنَحْوَ هَذَا. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سعيد بن جبير والضحاك، وَعَنْ مُجَاهِدٍ هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ: لَا تفوتيني بنفسك فإني ناكحك، فنهى الله عن ذلك وشدَّد فِيهِ وَأَحَلَّ الْخِطْبَةَ وَالْقَوْلَ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {وَلَكِنْ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} هُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ سِرًّا فَإِذَا حَلَّتْ أَظْهَرَ ذَلِكَ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ عَامَّةً فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ: {إِلَّا أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} قال ابن عباس: يَعْنِي بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِبَاحَةِ التَّعْرِيضِ كقوله: إني فيك لراغب ونحو ذلك. وقوله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أجله} يعني ولا تعقدوا العقدة بِالنِّكَاحِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يَعْنِي وَلَا تَعْقِدُوا العقد بالنكاح حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا فَدَخَلَ بِهَا فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أَبَدًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بَلْ لَهُ أَنْ يَخْطُبَهَا إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهَا تحرم عليه على التأبيد، وَمَأْخَذُ هَذَا أَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا اسْتَعْجَلَ مَا أحل اللَّهُ، عُوقِبَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ عَلَى التأبيد كالقاتل يحرم الميراث. -[216]- وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} تَوَعَّدَهُمْ عَلَى مَا يَقَعُ فِي ضَمَائِرِهِمْ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى إِضْمَارِ الْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ، ثُمَّ لَمْ يُؤَيِّسْهم مَنْ رَحِمَتْهُ وَلَمْ يُقْنِطْهُمْ مِنْ عَائِدَتِهِ فَقَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

- 236 - لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ أَبَاحَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى طَلَاقَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَقَبْلَ الدُّخُولِ بها، قال ابن عباس: المس النكاح، وَيَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَالْفَرْضِ لَهَا إِنْ كَانَتْ مُفَوَّضَةً، وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا انْكِسَارٌ لِقَلْبِهَا، وَلِهَذَا أَمَرَ تَعَالَى بِإِمْتَاعِهَا وَهُوَ تَعْوِيضُهَا عَمَّا فَاتَهَا بِشَيْءٍ تُعْطَاهُ مِنْ زَوْجِهَا، بِحَسْبَ حَالِهِ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ، وقال ابن عباس: مُتْعَةُ الطَّلَاقِ أَعْلَاهُ الْخَادِمُ، وَدُونَ ذَلِكَ الْوَرِقُ، ودون ذلك الكسوة، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: أَوْسَطُ ذَلِكَ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ وجلباب، ومتَّع الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، وَيُرْوَى أَنَّ الْمَرْأَةَ قَالَتْ: (مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مفارق) (سبب فراقه لها أنه لما أصيب عليُّ وبويع الحسن بالخلافة قالت له زوجته: لتَهْنَك الخلافة، فقال: يقتل عليّ وتظهرين الشماتة؟ اذهبي فأنتِ طالق ثلاثاً، ثم بعث إليها بالمتعة عشرة آلاف درهم فقالت ذلك. وانظر الجزء الأول من كتابنا (تفسير آيات الأحكام) ص 376)، وذهب أبو حنيفة إِلَى أَنَّهُ مَتَى تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي مِقْدَارِ الْمُتْعَةِ وَجَبَ لَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا، وقال الشافعي: لَا يُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى قَدْرٍ مَعْلُومٍ إِلَّا عَلَى أَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُتْعَةِ، وَأَحَبُّ ذَلِكَ إِلَيَّ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّهُ مَا تجزىء فِيهِ الصَّلَاةُ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا أَعْرِفُ فِي الْمُتْعَةِ قَدْرًا إِلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ ثَلَاثِينَ درهماً كما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا: هَلْ تَجِبُ الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، أَوْ إِنَّمَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا الَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا عَلَى أقوال: (أحدها): أنها تَجِبُ الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} ولقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} وَقَدْ كُنَّ مَفْرُوضًا لَهُنَّ وَمَدْخُولًا بِهِنَّ، وَهَذَا قول سعيد ابن جبير وهو أحد قولي الشافعي. (وَالْقَوْلُ الثَّانِي): أَنَّهَا تَجِبُ لِلْمُطَلَّقَةِ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَإِنْ كَانَتْ مَفْرُوضًا لَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جميلا} قال سعيد بن المسيب: نسخت الْآيَةُ الَّتِي فِي الْأَحْزَابِ، الْآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَأَبِي أُسَيْدٍ أَنَّهُمَا قَالَا: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أُميمة بنت شرحبيل)، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَبَا أَسِيدٍ أَنْ يُجَهِّزَهَا ويكسوها ثوبين أزرقين (القول الثَّالِثُ): أَنَّ الْمُتْعَةَ إِنَّمَا تَجِبُ لِلْمُطَلَّقَةِ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا وَجَبَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إِذَا كَانَتْ مُفَوَّضَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَضَ لَهَا وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ لَهَا عَلَيْهِ شَطْرُهُ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا اسْتَقَرَّ الْجَمِيعُ وَكَانَ ذَلِكَ عِوَضًا لَهَا عَنِ الْمُتْعَةِ، وَإِنَّمَا الْمُصَابَةُ الَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا وَلَمْ يُدْخَلْ بِهَا فَهَذِهِ الَّتِي -[217]- دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى وُجُوبِ مُتْعَتِهَا وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنِ اسْتَحَبَّهَا لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، مِمَّنْ عَدَا الْمُفَوَّضَةَ الْمُفَارِقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهَذَا لَيْسَ بِمَنْكُورٍ وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ آيَةُ التَّخْيِيرِ فِي الأحزاب، ولهذا قال تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين}. وقال تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ مُطْلَقًا.

- 237 - وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ هذه الآية الكريمة تدل عَلَى اخْتِصَاصِ الْمُتْعَةِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ الأولى، حيث أَوْجَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نِصْفَ الْمَهْرِ الْمَفْرُوضِ إذا طَلَّقَ الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ثَمَّ وَاجِبٌ آخَرُ مِنْ مُتْعَةٍ لَبَيَّنَهَا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَرَنَهَا بِمَا قَبْلَهَا مِنَ اخْتِصَاصِ المتعة بتلك الآية، وَتَشْطِيرُ الصَّدَاقِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ قَدْ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا ثُمَّ فَارَقَهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ لَهَا نِصْفُ مَا سَمَّى مِنَ الصَّدَاقِ، إِلَّا أَنَّ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ يَجِبُ جَمِيعُ الصَّدَاقِ إِذَا خَلَا بِهَا الزَّوْجُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ حكم الخلفاء الراشدون، لكن قال ابن عباس: فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فَيَخْلُو بِهَا وَلَا يَمَسُّهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، لَيْسَ لَهَا إِلَّا نِصْفُ الصَّدَاقِ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} قال الشافعي: بهذا أقول وهو ظاهر الكتاب. وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} أَيِ النِّسَاءُ عَمَّا وَجَبَ لها على زوجها فلا يجب لها عليه شَيْءٍ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {إِلاَّ أَن يَعْفُونَ}: إلا أن تعفو الثيب فتدع حقها. وقوله تعالى: {أَوْ يعفو الذي بيده عقدة النكاح} المراد به (الزوج) عن عيسى بن عَاصِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ شُرَيْحًا يَقُولُ: سَأَلَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَنِ {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فَقُلْتُ لَهُ: هُوَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ علي: لا، بل هو الزوج، وهذا هو الجديد من قول الشافعي، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَمَأْخَذُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ حَقِيقَةً الزوجُ فَإِنَّ بِيَدِهِ عَقْدَهَا وَإِبْرَامَهَا وَنَقْضَهَا وَانْهِدَامَهَا، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَهَبَ شَيْئًا مِنْ مال المولية للغير، فكذلك في الصداق. الوجه الثاني أنه أَبُوهَا أَوْ أَخُوهَا أَوْ مَنْ لَا تُنْكَحُ إلا بإذنه وروى عن الحسن وعطاء وطاووس: أَنَّهُ (الْوَلِيُّ) وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَمَأْخَذُهُ أَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي أَكْسَبَهَا إِيَّاهُ، فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِخِلَافِ سَائِرِ مالها، وقال عكرمة: أَذِنَ اللَّهُ فِي الْعَفْوِ وَأَمَرَ بِهِ، فَأَيُّ امرأة عفت جاز عفوها. وقوله تعالى: {وَإِن تعفو أَقْرَبُ للتقوى} خوطب به الرجال والنساء، قال ابن عباس: أقربهما للتقوى الذي يعفو، {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} الْمَعْرُوفُ يَعْنِي لَا تُهْمِلُوهُ بَلِ اسْتَعْمَلُوهُ بَيْنَكُمْ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُؤْمِنُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ وَيَنْسَى الْفَضْلَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: -[218]- {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} «شِرَارٌ يبايعون كل مضطر» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي) وقد نهى رسول بالله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ فَعُدْ بِهِ عَلَى أَخِيكَ وَلَا تَزِدْهُ هَلَاكًا إِلَى هَلَاكِهِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يحزنه ولا يحرمه، {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِكُمْ وَأَحْوَالِكُمْ وَسَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.

- 238 - حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ - 239 - فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تعلمون يأمر تَعَالَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَحِفْظِ حُدُودِهَا وَأَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أفضل؟ قال: «الصلاة في وَقْتِهَا»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "بِرُّ الوالدين: " وفي الحديث: «إِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ لأول وقتها» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي) وَخَصَّ تَعَالَى مِنْ بَيْنِهَا بِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ (الصَّلَاةَ الْوُسْطَى) وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِيهَا أَيُّ صلاة هي؟ فقيل: (الصبح) حكاه مالك لما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ فَقَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَقَالَ: هَذِهِ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ}، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ محتجاً بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وَالْقُنُوتُ عِنْدَهُ فِي صَلَاةِ الصبح، ومنهم من قال: هي وسطى بِاعْتِبَارٍ أَنَّهَا لَا تُقْصَرُ وَهِيَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ رباعيتين مقصورتين وقيل: إنها (صلاة الظهر) روي عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي صَلَاةً أَشُدُّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مِنْهَا فَنَزَلَتْ: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} وقيل: إنها (صلاة العصر) وهو قول أكثر علماء الصحابة وجمهور التابعين. قال الإمام أحمد بسنده عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: «شَغَلُونَا عَنِ الصلاة الوسطة صلاة العصر ملأ الله قلوبهم وبيوتهام نَارًا» ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (رواه أحمد وأخرجه الشيخان وأبو داود اوالترمذي) ويؤكد ذلك الأمر بالمحافظة عليها قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «من فاتته صلاة العصر فكأنهما وُتِرَ أهله وماله»، وفي الصحيح أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَكِّرُوا بِالصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ فَإِنَّهُ مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ». وعن أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ قَالَ: أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا قَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فَآذِنِّي، فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا، فَأَمْلَتْ عليَّ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) قَالَتْ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (رواه أحمد واللفظ له وأخرجه مسلم في صحيحه) وَقِيلَ: إِنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ. وَقِيلَ: بَلِ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى مَجْمُوعُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِيهَا ضَعْفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التي قبلها وَقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّهَا الْعَصْرُ فتعيَّن الْمَصِيرُ إليها. -[219]- وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أَيْ خَاشِعِينَ ذَلِيلِينَ مُسْتَكِينِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَذَا الْأَمْرُ مُسْتَلْزِمٌ تَرْكَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ لِمُنَافَاتِهِ إِيَّاهَا، وَلِهَذَا لَمَّا امْتَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرَّدِّ عَلَى (ابْنِ مَسْعُودٍ) حِينَ سَلَّمَ عليه وهو في الصلاة قال: «إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا»، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وذكر الله» وقال الإمام أحمد بن حنبل عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُكَلِّمُ صَاحِبَهُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَاجَةِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} فَأُمِرْنَا بالسكوت (رواه الجماعة سوى ابن ماجة). وقوله تعالى: {فَإِن خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالْقِيَامِ بِحُدُودِهَا، وَشَدَّدَ الْأَمْرَ بِتَأْكِيدِهَا ذَكَرَ الحال الذي يَشْتَغِلُ الشَّخْصُ فِيهَا عَنْ أَدَائِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَهِيَ حَالُ الْقِتَالِ وَالْتِحَامِ الْحَرْبِ فَقَالَ: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} أَيْ فصلُّوا عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ رِجَالًا أَوْ رُكْبَانَا يَعْنِي مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا، كَمَا قَالَ مالك عن ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَصَفَهَا ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَوْ رُكْبَانَا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا. قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا مِنْ رُخَصِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لِعِبَادِهِ ووضعه الآصار والأغلال عنهم، وقد روى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُصَلِّي الرَّاكِبُ عَلَى دَابَّتِهِ وَالرَّاجِلُ عَلَى رِجْلَيْهِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ تُفْعَلُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ رَكْعَةً وَاحِدَةً إِذَا تَلَاحَمَ الْجَيْشَانِ، وَعَلَى ذلك ينزل الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةٌ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: (بَابُ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ) وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ صَلُّوا إِيمَاءً كل امرىء لِنَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْإِيمَاءِ أَخَّرُوا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا فيصلُّوا رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وسجدتين، فإن لم يقدروا لا يجزيهم التكبر ويؤخرونها حتى يأمنوا، وقال أنَس ابن مَالِكٍ: حَضَرْتُ مُنَاهَضَةَ (حِصْنِ تُسْتَرُ) عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ، وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى فَفُتِحَ لَنَا، قَالَ أنَس: وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلَاةِ الدُّنْيَا وما فيها. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِ الْبُخَارِيِّ لِهَذَا الْقَوْلِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ وَيُعَوِّلُونَ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْقُرْآنُ في سورة النساء. والله أعلم. وقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} أَيْ أَقِيمُوا صَلَاتَكُمْ كَمَا أُمِرْتُمْ فَأَتِمُّوا رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا، وَقِيَامَهَا وَقُعُودَهَا وَخُشُوعَهَا وَهُجُودَهَا {كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} أَيْ مِثْلَ مَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ وَهَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ، وَعَلَّمَكُمْ مَا يَنْفَعُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَابِلُوهُ بِالشُّكْرِ وَالذِّكْرِ، كَقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى المؤمنين كتاباً موقوتا} وَسَتَأْتِي الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَصِفَاتِهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} الآية إن شاء الله تعالى.

- 240 - وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ - 241 - وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ - 242 - كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِالَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} قَالَ الْبُخَارِيُّ، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} قَدْ نَسَخَتْهَا الآية الأُخرى فلم نكتبها أَوْ تَدَعُهَا؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لَا أغيِّر شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ، وَمَعْنَى هَذَا الْإِشْكَالِ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِعُثْمَانَ إِذَا كَانَ حُكْمُهَا قَدْ نُسِخَ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهَرِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي إِبْقَاءِ رَسْمِهَا مَعَ زَوَالِ حُكْمِهَا، وَبَقَاءِ رَسْمِهَا بَعْدَ الَّتِي نَسَخَتْهَا يُوهِمُ بَقَاءَ حُكْمِهَا؟ فَأَجَابَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ تَوْقِيفِيٌّ وَأَنَا وَجَدْتُهَا مُثَبَّتَةً فِي الْمُصْحَفِ كَذَلِكَ بعدها فأثبتها حيث وجدتها. وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ اعْتَدَّتْ سَنَةً فِي بَيْتِهِ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} فَهَذِهِ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا، وَقَالَ: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ، فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم}، فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة. وقال عطاء، قال ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ}، قَالَ عَطَاءٌ: إِنْ شَاءَتِ اعْتَدَّتْ عِنْدَ أَهْلِهَا وَسَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ لِقَوْلِ اللَّهِ: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ}، قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَلَا سُكْنَى لَهَا، ثُمَّ أَسْنَدَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ مَا تقدم عنه بهذا الْقَوْلُ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَدُلَّ عَلَى وُجُوبِ الِاعْتِدَادِ سَنَةً كَمَا زَعَمَهُ الْجُمْهُورُ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهَرِ وَعَشْرٍ وَإِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ بَابِ الْوَصَاةِ بِالزَّوْجَاتِ أَنْ يُمكَنَّ مِنَ السُّكْنَى فِي بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ حَوْلًا كَامِلًا إِنِ اخْتَرْنَ ذلك ولهذا قال تعالى: {وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ} أَيْ يُوصِيكُمُ اللَّهُ بِهِنَّ وَصِيَّةً كقوله: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} الآية. {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فَأَمَّا إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ بِالْأَرْبَعَةِ أشهر وَالْعَشْرِ أَوْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَاخْتَرْنَ الْخُرُوجَ وَالِانْتِقَالَ مِنْ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ فَإِنَّهُنَّ لَا يُمْنَعْنَ مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ}، وَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ اتِّجَاهٌ وَفِي اللَّفْظِ مُسَاعَدَةٌ لَهُ وَقَدِ اختاره جماعة منهم الإمام ابن تيمية،، ورده آخرون منهم الشيخ ابن عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَوْلُ عَطَاءٍ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ إِنْ أَرَادُوا مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالْعَشْرِ فمسلَّم، وإن أرادوا أن سكنى الأربعة أشهر وَعَشْرٍ لَا تَجِبُ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، فَهَذَا مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي موطئه أَنَّ (الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ) -[221]- وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ فَإِنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعبْدٍ لَهُ أَبَقوا حَتَّى إِذَا كَانَ بِطَرَفِ الْقُدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فِي بَنِي خُدْرَةَ فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةٍ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ»، قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمَرَ بِي فَنُودِيْتُ لَهُ، فَقَالَ: «كَيْفَ قُلْتِ؟» فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي، فَقَالَ: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»، قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ (عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) أَرْسَلَ إليَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ (رواه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح). وقوله تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}، لما نزل قوله تعالى: {مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً على المحسنين} قَالَ رَجُلٌ: إِنْ شِئْتُ أَحْسَنْتُ فَفَعَلْتُ وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَفْعَلْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى وُجُوبِ الْمُتْعَةِ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ مفوضة أو مفروضاً لها، أو مطلقة قَبْلَ الْمَسِيسِ، أَوْ مَدْخُولًا بِهَا، وَهُوَ قَوْلٌ عن الشافعي رحمه الله، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَمَنْ لَمْ يُوجِبْهَا مُطْلَقًا يخصص من هذا العموم مفهوم قوله تعالى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين}. وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} أَيْ فِي إِحْلَالِهِ وَتَحْرِيمِهِ وَفُرُوضِهِ وَحُدُودِهِ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، بيَّنه وَوَضَّحَهُ وفسَّره، وَلَمْ يَتْرُكْهُ مُجْمَلًا فِي وَقْتِ احْتِيَاجِكُمْ إِلَيْهِ، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أَيْ تَفْهَمُونَ وَتَتَدَبَّرُونَ.

- 243 - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ - 244 - وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - 245 - مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَعَنْهُ كَانُوا ثمانية آلاف، وقال وهب بن منبه: كانوا بضعة وثلاثين ألفاً، قال ابن عباس: كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ خَرَجُوا فِرَارًا مِنَ الطَّاعُونِ، قَالُوا: نَأْتِي أَرْضًا لَيْسَ بِهَا مَوْتٌ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِمَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: {مُوتُوا} فَمَاتُوا، فَمَرَّ عَلَيْهِمْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ يُحْيِيَهُمْ فَأَحْيَاهُمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} الْآيَةَ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ كَانُوا أَهْلَ بَلْدَةٍ فِي زَمَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَوْخَمُوا أَرْضَهُمْ، وَأَصَابَهُمْ بِهَا وَبَاءٌ شديد فخرجوا فراراً من الموت هاربين إلى البرية، فنزلوا وادياً أفيح فملأوا مَا بَيْنَ عُدْوَتَيْهِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مَلَكَيْنِ أَحَدَهُمَا -[222]- مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي، وَالْآخَرَ مِنْ أَعْلَاهُ، فَصَاحَا بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ مَوْتَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَحِيزُوا إِلَى حَظَائِرَ وَبُنِي عليهم جدران، وَفَنُوا وَتَمَزَّقُوا وَتَفَرَّقُوا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ دَهْرٍ مَرَّ بِهِمْ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ (حزقيل) فسأله اللَّهَ أَنْ يُحْيِيَهُمْ عَلَى يَدَيْهِ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي، فَاجْتَمَعَ عِظَامُ كُلِّ جَسَدٍ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ أَمَرَهُ فنادى: أيتها العظام إن الله يأمرك أن تَكْتَسِيَ لَحْمًا وَعَصَبًا وَجِلْدًا، فَكَانَ ذَلِكَ وَهُوَ يشاهد، ثُمَّ أَمَرَهُ فَنَادَى: أَيَّتُهَا الْأَرْوَاحُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَرْجِعَ كُلُّ رُوحٍ إِلَى الْجَسَدِ الَّذِي كَانَتْ تَعْمُرُهُ، فَقَامُوا أَحْيَاءً يَنْظُرُونَ، قَدْ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ رَقْدَتِهِمُ الطَّوِيلَةِ وَهُمْ يَقُولُونَ: سبحانك لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَكَانَ فِي إِحْيَائِهِمْ عِبْرَةٌ وَدَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى وُقُوعِ الْمَعَادِ الْجُسْمَانِيِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أَيْ فِيمَا يُرِيهِمْ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ وَالدَّلَالَاتِ الدَّامِغَةِ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} أَيْ لَا يَقُومُونَ بِشُكْرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عِبْرَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَأَنَّهُ لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ، فإن هؤلاء خرجوا فراراً مِنَ الْوَبَاءِ طَلَبًا لِطُولِ الْحَيَاةِ، فَعُومِلُوا بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ وَجَاءَهُمُ الْمَوْتُ سَرِيعًا فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي كما أن الحذرلا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ، كَذَلِكَ الْفِرَارُ مِنَ الْجِهَادِ وتجنبه لا يقرب أجلاً ولا يبعده، بَلِ الْأَجَلُ الْمَحْتُومُ وَالرِّزْقُ الْمَقْسُومُ مُقَدَّرٌ مُقَنَّنٌ لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ كَمَا قال تعالى: {قل فادرؤا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، قَالَ تَعَالَى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}، وروينا عن أمير الجيوش وسيف الله المسلول على أعدائه خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ: (لَقَدْ شَهِدْتُ كَذَا وَكَذَا مَوْقِفًا وَمَا مِنْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِي إِلَّا وَفِيهِ رَمْيَةٌ أَوْ طَعْنَةٌ أَوْ ضَرْبَةٌ وَهَا أَنَا ذَا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي كما يموت البعير فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ) يَعْنِي أَنَّهُ يَتَأَلَّمُ لِكَوْنِهِ مَا مَاتَ قَتِيلًا فِي الْحَرْبِ، وَيَتَأَسَّفُ عَلَى ذَلِكَ وَيَتَأَلَّمُ أَنْ يَمُوتَ عَلَى فِرَاشِهِ. وقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} يَحُثُّ تَعَالَى عِبَادَهُ على الإنفاق في سبيل الله، وَقَدْ كَرَّرَ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَفِي حَدِيثِ النُّزُولِ أَنَّهُ يَقُولُ تَعَالَى: «مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيمٍ ولا ظلوم»، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رسول الله وإن الله عز وجل لَيُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ قَالَ: «نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ» قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ، فَنَاوَلَهُ يَدَهُ قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ ربي عز وجل حَائِطِي - قَالَ: وَحَائِطٌ لَهُ فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ فِيهِ وَعِيَالُهَا - قَالَ: فَجَاءَ أَبُو الدَّحْدَاحِ فَنَادَاهَا: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ، قَالَتْ: لَبَّيْكَ، قَالَ: اخْرُجِي فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي عَزَّ وجلَّ (رواه ابن أبي حاتم وأخرجه ابن مردويه عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ) وَقَوْلُهُ: {قَرْضاً حَسَناً} رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ هُوَ النَّفَقَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقِيلَ: هُوَ النَّفَقَةُ عَلَى الْعِيَالِ، وَقِيلَ: هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّقْدِيسُ وَقَوْلُهُ: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} كما قال تَعَالَى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} الآية، وسيأتي الكلام عليها. وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ -[223]- كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} إِلَى آخِرِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَبِّ زِدْ أُمَّتِي» فَنَزَلَتْ: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}، قَالَ: «رَبِّ زِدْ أُمَّتِي»، فنزلت: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (رواه ابن أبي حاتم عن نافع عن ابن عمر) فَالْكَثِيرُ مِنَ اللَّهِ لَا يُحْصَى، وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} أَيْ أَنْفِقُوا وَلَا تُبَالُوا فَاللَّهُ هُوَ الرَّزَّاقُ يُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فِي الرِّزْقِ وَيُوَسِّعُهُ عَلَى آخَرِينَ، لَهُ الحكمة والبالغة فِي ذَلِكَ {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

- 246 - أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين قال وهب بن منبه وغيره: كان بنوا إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى طَرِيقِ الاستقامة مدة من الزَّمَانِ، ثُمَّ أَحْدَثُوا الْأَحْدَاثَ وَعَبَدَ بَعْضُهُمُ الْأَصْنَامَ، وَلَمْ يَزَلْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُقِيمُهُمْ عَلَى مَنْهَجِ التَّوْرَاةِ إِلَى أَنْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَأَسَرُوا خَلْقًا كَثِيرًا وَأَخَذُوا مِنْهُمْ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُقَاتِلُهُمْ إِلَّا غَلَبُوهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانَ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ وَالتَّابُوتُ الَّذِي كَانَ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَوْرُوثًا لِخَلَفِهِمْ عَنْ سَلَفِهِمْ إِلَى مُوسَى الْكَلِيمِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ تَمَادِيهِمْ عَلَى الضَّلَالِ حَتَّى اسْتَلَبَهُ مِنْهُمْ بَعْضُ الْمُلُوكِ فِي بَعْضِ الْحُرُوبِ، وَأَخَذَ التَّوْرَاةَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَلَمْ يبق من يحفظها فيهم إلى الْقَلِيلُ، وَانْقَطَعَتِ النُّبُوَّةُ مِنْ أَسْبَاطِهِمْ وَلَمْ يَبْقَ مَنْ سِبْطِ (لَاوِي) الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْأَنْبِيَاءُ إِلَّا امْرَأَةٌ حَامِلٌ مِنْ بَعْلِهَا، وَقَدْ قُتِلَ فَأَخَذُوهَا فَحَبَسُوهَا فِي بَيْتٍ وَاحْتَفَظُوا بِهَا لَعَلَّ اللَّهَ يَرْزُقُهَا غُلَامًا يَكُونُ نَبِيًّا لَهُمْ، وَلَمْ تزل المرأة تدعوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْزُقَهَا غُلَامًا فَسَمِعَ اللَّهُ لَهَا وَوَهَبَهَا غُلَامًا فَسَمَّتْهُ (شَمْوِيلَ) أَيْ سمع الله دعائي ومنهم من يقول (شمعون) (روي عن قتادة أن النَّبِيُّ هُوَ (يُوشَعُ بْنُ نُونَ) قَالَ ابْنُ كثير: هو بعيد لأن هذا كان بعد موسى بزمن طويل، وكان ذلك في زمن (داود) عليه السلام، وقد كان بين (داود) و (موسى) ما يزيد على ألف سنة، وروي عن السدي أنه (شمويل)، وقال مجاهد: هو (شمعون) والله أعلم.) وَهُوَ بِمَعْنَاهُ فَشَبَّ ذَلِكَ الْغُلَامُ وَنَشَأَ فِيهِمْ وَأَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا، فَلَمَّا بَلَغَ سِنَّ الْأَنْبِيَاءِ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَدَعَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ مَلِكًا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ أَعْدَاءَهُمْ، وَكَانَ الْمُلْكُ أَيْضًا قَدْ بَادَ فِيهِمْ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن أَقَامَ اللَّهُ لَكُمْ ملكاً ألا تقاتلوا وتفوا بِمَا الْتَزَمْتُمْ مِنَ الْقِتَالِ مَعَهُ؟ {قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا} أَيْ وَقَدْ أُخِذِتْ مِنَّا الْبِلَادُ وَسُبِيَتِ الْأَوْلَادُ! قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} أَيْ مَا وَفَوْا بِمَا وَعَدُوا بَلْ نَكَلَ عَنِ الْجِهَادِ أَكْثَرُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِهِمْ.

- 247 - وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ أَيْ لَمَّا طَلَبُوا مِنْ نَبِيِّهِمْ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ مَلِكًا مِنْهُمْ فَعَيَّنَ لَهُمْ (طَالُوتَ) وَكَانَ رَجُلًا مِنْ أَجْنَادِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بيت الملك فيهم لأن الملك كَانَ فِي سِبْطِ (يَهُوذَا) وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ ذَلِكَ السِّبْطِ فَلِهَذَا قَالُوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا}؟ أَيْ كَيْفَ يَكُونُ مَلِكًا عَلَيْنَا {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال} أي هُوَ مَعَ هَذَا فَقِيرٌ لَا مَالَ لَهُ يَقُومُ بِالْمُلْكِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ سَقَّاءً، وَقِيلَ: دَبَّاغًا وَهَذَا اعْتِرَاضٌ مِنْهُمْ عَلَى نَبِيِّهِمْ وَتَعَنُّتٌ، وَكَانَ الْأَوْلَى بِهِمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ، ثُمَّ قَدْ أَجَابَهُمُ النَّبِيُّ قَائِلًا: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} أَيِ اخْتَارَهُ لَكُمْ مِنْ بَيْنِكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكُمْ، يَقُولُ: لَسْتُ أَنَا الَّذِي عَيَّنْتُهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي بَلِ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِ لَمَّا طَلَبْتُمْ مِنِّي ذَلِكَ {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} أَيْ وَهُوَ مَعَ هَذَا أَعْلَمُ مِنْكُمْ وَأَنْبَلُ وَأَشْكَلُ مِنْكُمْ، وَأَشَدُّ قُوَّةً وَصَبْرًا فِي الْحَرْبِ وَمَعْرِفَةً بِهَا، أي أتم علماً وقامة منكم، ومن ههنا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ ذَا عِلْمٍ وَشَكْلٍ حَسَنٍ وَقُوَّةٍ شَدِيدَةٍ فِي بَدَنِهِ وَنَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ} أَيْ هُوَ الْحَاكِمُ الَّذِي مَا شَاءَ فَعَلَ وَلَا يسأل عما فعل وَهُمْ يُسْأَلُونَ، لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ بِخَلْقِهِ وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أَيْ هُوَ وَاسِعُ الْفَضْلِ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُلْكَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ.

- 248 - وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ مؤمنين يقول لهم نبيهم: إِنَّ عَلَّامَةَ بَرَكَةِ مُلْكِ طَالُوتَ عَلَيْكُمْ أَنْ يرد الله عليكم التابوت الذي أُخِذَ مِنْكُمْ {فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ}، قِيلَ: معناه فيه وقار وجلالة، وقال الربيع: رحمة، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَأَلْتُ عَطَاءً عَنْ قَوْلِهِ: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} قال: ما تعرفون مِنْ آيَاتِ الله فتسكنون إليه وكذا قال الحسن البصري. وقوله تعالى: {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هرون}، عن ابن عباس قَالَ: عَصَاهُ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ والسدي، وَقَالَ عَطِيَّةُ بْنُ سَعْدٍ: عَصَا مُوسَى وَعَصَا هَارُونَ وَثِيَابُ مُوسَى وَثِيَابُ هَارُونَ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: سَأَلْتُ الثَّوْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ: {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وآل هرون} فَقَالَ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَفِيزٌ مِنْ مَنٍّ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْعَصَا وَالنَّعْلَانِ. وقوله تعالى: {تَحْمِلُهُ الملائكة}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ تَحْمِلُ التَّابُوتَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى وَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْ طَالُوتَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَصْبَحَ التَّابُوتُ فِي دَارِ طَالُوتَ فَآمَنُوا بِنُبُوَّةِ شَمْعُونَ وَأَطَاعُوا طالوت. -[225]- وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ} أَيْ عَلَى صِدْقِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَفِيمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ طَاعَةِ طَالُوتَ {إِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَيْ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.

- 249 - فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قال الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين يخبر الله تعالى عَنْ (طَالُوتَ) مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حِينَ خَرَجَ فِي جُنُودِهِ وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ مَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ جَيْشُهُ يَوْمَئِذٍ - فِيمَا ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ - ثَمَانِينَ أَلْفًا فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ قَالَ: {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ} أي مختبركم بنهر، وَهُوَ نَهْرٌ بَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ، يَعْنِي نَهْرُ الشَّرِيعَةِ الْمَشْهُورُ {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} أَيْ فَلَا يَصْحَبُنِي الْيَوْمَ فِي هَذَا الْوَجْهِ، {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} أَيْ فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنِ اغْتَرَفَ مِنْهُ بِيَدِهِ روي، ومن شرب منه لم يرو، فشرب منه سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا وَتَبَقَّى مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ (هذا قول السدي) وروى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَازُوا مَعَهُ النَّهْرَ وَمَا جَازَهُ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ بن يونس عن أبي إسحاق عن جده عَنِ الْبَرَاءِ بِنَحْوِهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ الذين آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} أَيِ اسْتَقَلُّوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ لِقَاءِ عدوّهم لكثرتهم، فشجعهم علماؤهم العالمون بأن عد اللَّهِ حَقٌّ، فَإِنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ عَنْ كَثْرَةِ عَدَدٍ وَلَا عِدَدٍ، وَلِهَذَا قَالُوا: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

- 250 - وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ - 251 - فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ - 252 - تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أَيْ لَمَّا وَاجَهَ حِزْبُ الْإِيمَانِ - وَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ أَصْحَابِ طَالُوتَ - لِعَدُوِّهِمْ أَصْحَابِ جَالُوتَ وَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ {قَالُواْ -[226]- رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} أَيْ أَنْزِلْ عَلَيْنَا صَبْرًا مِنْ عِنْدِكَ، {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} أَيْ فِي لِقَاءِ الْأَعْدَاءِ وَجَنَّبْنَا الْفِرَارَ وَالْعَجْزَ {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} أَيْ غَلَبُوهُمْ وَقَهَرُوهُمْ بِنَصْرِ اللَّهِ لَهُمْ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} وَكَانَ طَالُوتُ قَدْ وَعَدَهُ إِنْ قَتَلَ جَالُوتَ أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ، وَيُشَاطِرَهُ نِعْمَتَهُ، وَيُشْرِكَهُ فِي أَمْرِهِ، فَوَفَى لَهُ ثُمَّ آلَ الْمُلْكُ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ مَا مَنَحَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَآتَاهُ الله الملك} الذي كان بد طَالُوتَ، {وَالْحِكْمَةَ} أَيِ النُّبُوَّةُ بَعْدَ شَمْوِيلَ، {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ} أَيْ مِمَّا يَشَاءُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي اخْتَصَّهُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض}، أي لولا أن الله يَدْفَعُ عَنْ قَوْمٍ بِآخَرِينَ، كَمَا دَفَعَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمُقَاتَلَةِ طَالُوتَ وَشَجَاعَةِ دَاوُدَ لَهَلَكُوا، كما قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً} الآية. وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَدْفَعُ بِالْمُسْلِمِ الصالح عن مائة أهل بيت جِيرَانِهِ الْبَلَاءَ»، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (أخرجه ابن جرير وقال ابن كثير: إسناده ضغف) وعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَبْدَالُ فِي أُمَّتِي ثلاثون: بهم ترزقون وبهم تمطرون وبهم تنصورن" (أخرجه ابن مردويه عن عبادة بن الصامت مرفوعا) قال قتادة: إني لأرجوا أن يكون الحسن منهم. وقوله تعالى: {ولكنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} أَيْ ذو مَنٌّ عَلَيْهِمْ وَرَحْمَةٌ بِهِمْ، يَدْفَعُ عَنْهُمْ بِبَعْضِهِمْ بَعْضًا وَلَهُ الْحُكْمُ وَالْحِكْمَةُ وَالْحُجَّةُ عَلَى خَلْقِهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أَيْ هَذِهِ آيَاتُ اللَّهِ الَّتِي قَصَصْنَاهَا عَلَيْكَ مِنْ أَمْرِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ بِالْحَقِّ، أَيْ بِالْوَاقِعِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ الْمُطَابِقُ لِمَا بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْحَقِّ، الَّذِي يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ {وَإِنَّكَ} يَا مُحَمَّدُ {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وَهَذَا تَوْكِيدٌ وَتَوْطِئَةٌ لِلْقَسَمِ.

- 253 - تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ فَضَّلَ بعض الرسل على بعض كما قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا داود زبورا}، وقال ههنا: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} يعني موى ومحمداً صلى الله عليهما وكذلك آدم كما ورد به حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ حِينَ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْبِيَاءَ فِي السَّمَاوَاتِ بِحَسْبِ تَفَاوُتِ مَنَازِلِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (فَإِنْ قِيلَ) فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الثابت في الصحيحين: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى -[227]- الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَفِيقُ فَأَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ؟ فَلَا تُفَضِّلُونِي على الأنبياء» (الحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة بلفظ: استبَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ اليهودي: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ، فَرَفَعَ المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي ... الخ) وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ»، فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ، (أَحَدُهَا): أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالتَّفْضِيلِ وَفِي هَذَا نَظَرٌ، (الثَّانِي): أَنَّ هَذَا قَالَهُ مِنْ بَابِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ، (الثَّالِثُ): أَنَّ هَذَا نَهْيٌ عَنِ التَّفْضِيلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي تَحَاكَمُوا فِيهَا عِنْدَ التخاصم التشاجر، (الرَّابِعُ): لَا تُفَضِّلُوا بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالْعَصَبِيَّةِ، (الْخَامِسُ): لَيْسَ مَقَامُ التَّفْضِيلِ إِلَيْكُمْ وَإِنَّمَا هُوَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَيْكُمُ الِانْقِيَادُ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ والإيمان به. وقوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} أَيِ الْحُجَجُ وَالدَّلَائِلُ الْقَاطِعَاتُ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلَيْهِمْ {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ أَيَّدَهُ بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله ما اقتتلوا} أي كُلُّ ذَلِكَ عَنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.

- 254 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ فِي سَبِيلِهِ سَبِيلِ الْخَيْرِ، لِيَدَّخِرُوا ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَلِيكِهِمْ، وَلْيُبَادِرُوا إِلَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا {مِنْ قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} أَيْ لَا يُبَاعُ أحد من نفسه ولا يفادى بمال ولو بَذَلَهُ، وَلَوْ جَاءَ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، وَلَا تَنْفَعُهُ خُلَّةُ أَحَدٍ يَعْنِي صَدَاقَتُهُ بَلْ وَلَا نَسَابَتُهُ كَمَا قَالَ: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} وَلَا شَفَاعَةٌ: أَيْ وَلَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ. وقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} مُبْتَدَأٌ مَحْصُورٌ فِي خَبَرِهِ، أَيْ وَلَا ظَالِمَ أَظْلَمَ مِمَّنْ وَافَى اللَّهَ يومئذٍ كافراً. وقد روى عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي قَالَ: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وَلَمْ يَقِلْ {وَالظَّالِمُونَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.

- 255 - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ -[228]- هَذِهِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ ولها شأن عظيم، وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا أَفْضَلُ آيَةٍ فِي كِتَابِ الله. وقال الإمام أحمد: عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ: «أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَرَدَّدَهَا مِرَارًا، ثُمَّ قال: آية الكرسي قال: «ليهنك العلم يا أَبَا الْمُنْذِرِ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ لَهَا لساناً وشفتين، تقدس الملك عن ساق العرش». (حديث آخر): عَنْ أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَجُلًا مِنْ صَحَابَتِهِ فَقَالَ: «أَيْ فُلَانُ هَلْ تَزَوَّجْتَ؟» قَالَ: لَا، وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ، قَالَ: "أَوَلَيَسَ مَعَكَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؟ " قَالَ: بَلَى، قَالَ: «رُبُعُ الْقُرْآنِ» قَالَ: "أَلَيْسَ مَعَكَ: قُلْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ؟ " قَالَ: بَلَى، قَالَ: «رُبُعُ الْقُرْآنِ» قال: "أَلَيْسَ مَعَكَ: إِذَا زُلْزِلَتِ؟ " قَالَ: بَلَى، قَالَ: «رُبُعُ الْقُرْآنِ»، قَالَ: "أَلَيْسَ معك: إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: «رُبُعُ الْقُرْآنِ» قَالَ: "أَلَيْسَ مَعَكَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إلى هو؟ "قال: بلى، قال: «ربع القرآن» (رواه أحمد عن انَس بن مالك). (حديث آخَرَ): عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَجَلَسْتُ فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ صَلَّيْتَ؟» قُلْتُ: لَا، قَالَ: «قُمْ فَصَلِّ»، قَالَ: فَقُمْتُ فَصَلَّيْتُ ثُمَّ جَلَسْتُ فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَوَّذْ بِالْلَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ» قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أو للإنس شَيَاطِينُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الصَّلَاةُ! قَالَ: «خَيْرُ مَوْضُوعٍ مَنْ شَاءَ أقلَّ وَمَنْ شَاءَ أَكْثَرَ» قَالَ، قُلْتُ: يَا رسول الله فالصوم؟ قال: «فرض مجزي وَعِنْدَ اللَّهِ مَزِيدٌ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالصَّدَقَةُ، قَالَ: «أَضْعَافٌ مُضَاعَفَةٌ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّهَا أَفْضَلُ، قَالَ: «جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ، أَوْ سرٌّ إِلَى فَقِيرٍ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ أَوَّلَ، قَالَ: «آدَمُ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَنَبِيٌّ كَانَ، قَالَ: «نَعَمْ نَبِيٌّ مكلم»، قلت: يا رسول الله كم المرسولن، قَالَ: «ثَلَثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا» وَقَالَ مَرَّةً: «وَخَمْسَةَ عشر»، قلت: يا رسول الله أي ما أُنْزِلَ عَلَيْكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: "آيَةُ الْكُرْسِيِّ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (رواه أحمد والنسائي عن أبي ذر الغفاري). (حديث آخر): وقد ذكر البخاري في فضل آية الكرسي بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وعليَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ»؟ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شديدةٌ وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ وَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ»، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّهُ سَيَعُودُ» فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ، لَا أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ وَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ»؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ:؟ «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ»، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا آخَرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ. -[229]- فَقَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قُلْتُ: وما هي؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: «مَا هِيَ؟» قَالَ قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ - وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ. تعلم من تخاطب من ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟» قُلْتُ: لَا، قال: «ذاك شيطان». (حديث آخر): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سُورَةُ الْبَقَرَةِ فِيهَا آيةٌ سيدةُ آيِ الْقُرْآنِ لَا تُقْرَأُ فِي بَيْتٍ فِيهِ شَيْطَانٌ إِلَّا خَرَجَ مِنْهُ: آيَةُ الكرسي" (رواه الحاكم) وقد رواه الترمذي وَلَفْظُهُ: "لِكُلِّ شَيْءٍ سِنَامٌ وَسِنَامُ الْقُرْآنِ سُورَةُ البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي". (حديث آخر): عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى النَّاسِ وَهُمْ سَمَاطَاتٌ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يُخْبِرُنِي بِأَعْظَمِ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (رواه ابن مردويه)» (حَدِيثٌ آخَرُ): فِي اشْتِمَالِهِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ الأعظم، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وَ {الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}: «إن فيهما اسم الله الأعظم» (رواه أحمد) (حديث آخر): عَنْ أَبِي أُمَامَةَ يَرْفَعُهُ قَالَ: "اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أجاب في ثلاث: سورة القرة وآل عمران وطه"، وقال هشام أَمَّا الْبَقَرَةُ فَ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وَفِي آلِ عِمْرَانَ {الم* اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وفي طه {وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم}. (حديث آخر): عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَمْ يَمْنَعْهُ من دخول الجنة إلا أن يموت» (رواه ابن مردويه والنسائي) (حديث آخَرَ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ حم الْمُؤْمِنَ؟؟ إِلَى {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ حِينَ يُصْبِحُ حُفِظ بِهِمَا حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأَهُمَا حِينَ يُمْسِي حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُصْبِحَ» (رواه الترمذي وقال: حديث غريب) وقد ورد في فضلها أَحَادِيثُ أُخَرُ تَرَكْنَاهَا اخْتِصَارًا لِعَدَمِ صِحَّتِهَا وَضَعْفِ أسانيدها. -[230]- «وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عَشْرِ جُمَلٍ مُسْتَقِلَّةٍ» فقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْإِلَهِيَّةِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ، {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أَيِ الْحَيُّ فِي نَفْسِهِ الَّذِي لَا يَمُوتُ أَبَدًا، الْقَيِّمُ لِغَيْرِهِ. وَكَانَ عُمَرُ يَقْرَأُ (القيَّام) فَجَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مُفْتَقِرَةٌ إِلَيْهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا، وَلَا قَوَامَ لَهَا بِدُونِ أَمْرِهِ، كَقَوْلِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ}، وَقَوْلُهُ: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} أَيْ لَا يَعْتَرِيهِ نَقْصٌ وَلَا غَفْلَةٌ وَلَا ذُهُولٌ عَنْ خلْقه، بَلْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، شَهِيدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَمِنْ تَمَامِ الْقَيُّومِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَعْتَرِيهِ سِنة وَلَا نَوْمٌ. فَقَوْلُهُ: {لاَ تَأْخُذُهُ} أَيْ لَا تَغْلِبُهُ {سِنَةُ} وَهِيَ الْوَسَنُ وَالنُّعَاسُ، وَلِهَذَا قَالَ {وَلاَ نَوْمٌ} لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنَ السِّنة. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يُخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُ

- 256 - لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِالْلَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} أَيْ لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ بيِّن وَاضِحٌ، جَلِيٌّ دَلَائِلُهُ وَبَرَاهِينُهُ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُكْرَهَ أَحَدٌ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، بَلْ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ وَشَرَحَ صَدْرَهُ ونوَّر بَصِيرَتَهُ دَخَلَ فِيهِ عَلَى بَيِّنَةٍ، وَمَنْ أَعْمَى اللَّهُ قَلَبَهُ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُهُ الدُّخُولُ فِي الدِّينِ مُكْرَهًا مَقْسُورًا، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا عَامًّا. وقال ابن جرير عَنِ -[232]- ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مقلاة فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (أخرجه ابو داود والنسائي) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ يُقَالُ لَهُ الْحُصَيْنِيُّ، كَانَ لَهُ ابْنَانِ نَصْرَانِيَّانِ، وَكَانَ هُوَ رَجُلًا مُسْلِمًا فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أَلَا أَسْتَكْرِهَهُمَا، فَإِنَّهُمَا قَدْ أَبَيَا إِلَّا النَّصْرَانِيَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ذَلِكَ (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ والسدي) وقال ابن أبي حاتم عن أبي هلالا عن أسبق، قَالَ: كُنْتُ فِي دِينِهِمْ مَمْلُوكًا نَصْرَانِيًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَانَ يَعْرِضُ عليَّ الْإِسْلَامَ فَآبَى، فَيَقُولُ {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، وَيَقُولُ: يَا أسبق لَوْ أَسْلَمْتَ لَاسْتَعَنَّا بِكَ عَلَى بَعْضِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ دخل دِينِهِمْ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ إِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُدْعَى جَمِيعُ الْأُمَمِ إِلَى الدُّخُولِ فِي الدِّينِ الْحَنِيفِ (دِينِ الْإِسْلَامِ)، فَإِنْ أَبَى أَحَدٌ مِنْهُمُ الدُّخُولَ فِيهِ وَلَمْ يَنْقَدْ لَهُ، أَوْ يَبْذُلِ الْجِزْيَةَ، قُوتِلَ حَتَّى يُقْتَلَ، وَهَذَا مَعْنَى الْإِكْرَاهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ الله مع المتقين}. وَفِي الصَّحِيحِ: «عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ»، يَعْنِي الْأَسَارَى الَّذِينَ يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثاق وَالْأَغْلَالِ وَالْقُيُودِ وَالْأَكْبَالِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُسْلِمُونَ وَتَصْلُحُ أَعْمَالُهُمْ وَسَرَائِرُهُمْ فَيَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عَنْ أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: «أَسْلِمْ»، قَالَ: إِنِّي أَجِدُنِي كَارِهًا، قَالَ: «وَإِنْ كُنْتَ كَارِهًا»، فَإِنَّهُ ثلاثي صحيح، لكن لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُكْرِهْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ بل دعاه إليه، فأخبره أَنَّ نَفْسَهُ لَيْسَتْ قَابِلَةً لَهُ بَلْ هِيَ كَارِهَةٌ، فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ وَإِنْ كُنْتَ كَارِهًا، فَإِنَّ اللَّهَ سَيَرْزُقُكَ حُسْنَ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ. وَقَوْلُهُ تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِالْلَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أَيْ مَنْ خَلَعَ الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ مِنْ عِبَادَةِ كُلِّ مَا يُعْبَدُ مَنْ دُونِ اللَّهِ، ووحَّد اللَّهَ فَعَبَدَهُ وَحْدَهُ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، أَيْ فَقَدْ ثَبَتَ فِي أَمْرِهِ وَاسْتَقَامَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى وَالصِّرَاطِ المستقيم. قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ الْجِبْتَ السحر، والطاغوت الشيطان، وَإِنَّ كَرَمَ الرَّجُلِ دِينُهُ، وَحَسَبَهُ خُلُقُهُ وَإِنْ كان فارسياً أو نبطياً، وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الطَّاغُوتِ إِنَّهُ الشَّيْطَانُ، قَوِيٌّ جِدًّا فَإِنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ شَرٍّ كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ: مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَالتَّحَاكُمِ إِلَيْهَا، والاستنصار بها. وقوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا}، أَيْ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ مِنَ الدِّينِ بِأَقْوَى سَبَبٍ، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم هي فِي نَفْسِهَا مُحْكَمَةٌ مُبْرَمَةٌ قَوِيَّةٌ، وَرَبْطُهَا قَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفصام لَهَا} الآية، قال مجاهد: العروة الْوُثْقَى يَعْنِي الْإِيمَانُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْإِسْلَامُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: يَعْنِي {لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وَعَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ: العروة الوثقى القرآن، وعن سالم -[233]- ابن أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: هُوَ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ صَحِيحَةٌ ولا تنافي بينها. وقال الإمام أحمد عن محمد بن قيس بن عبادة قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فِي وجهه أثر من خشوع، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَوْجَزَ فِيهِمَا، فَقَالَ الْقَوْمُ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا خَرَجَ اتَّبَعْتُهُ حَتَّى دَخَلَ مَنْزِلَهُ فَدَخَلْتُ مَعَهُ فَحَدَّثْتُهُ، فَلَمَّا اسْتَأْنَسَ قُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ قَالُوا كَذَا وَكَذَا، قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ، وَسَأُحَدِّثُكَ لمَ؟ إِنِّي رَأَيْتُ رُؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ: رَأَيْتُ كَأَنِّي فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ - قَالَ ابْنُ عَوْنٍ فَذَكَرَ مِنْ خُضْرَتِهَا وَسِعَتِهَا - وفي وَسَطُهَا عَمُودُ حَدِيدٍ أَسْفَلُهُ فِي الْأَرْضِ وَأَعْلَاهُ فِي السَّمَاءِ، فِي أَعْلَاهُ عُرْوَةٌ، فَقِيلَ لِيَ: اصْعَدْ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَا أَسْتَطِيعُ، فَجَاءَنِي مِنْصَفٌ - قَالَ ابْنُ عَوْنٍ هُوَ الْوَصِيفُ - فَرَفَعَ ثِيَابِي مِنْ خَلْفِي، فَقَالَ: اصْعَدْ، فَصَعِدْتُ حَتَّى أَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ، فَقَالَ: اسْتَمْسِكْ بِالْعُرْوَةِ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَإِنَّهَا لَفِي يَدِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: «أَمَّا الرَّوْضَةُ فَرَوْضَةُ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْعَمُودُ فَعَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْعُرْوَةُ فَهِيَ (الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى) أَنْتَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى تموت» (رواه أحمد وأخرجاه في الصحيحين، وأخرجه البخاري من وجه آخر) قال: وهو عبد الله ابن سلام.

- 257 - اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَهْدِي مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ، فَيُخْرِجُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالشَّكِّ وَالرَّيْبِ إِلَى نور الحق الوضح الْجَلِيِّ الْمُبِينِ السَّهْلِ الْمُنِيرِ، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ إِنَّمَا وليهم الشيطان يزين لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ وَيُخْرِجُونَهُمْ، وَيَحِيدُونَ بِهِمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَى الْكُفْرِ وَالْإِفْكِ {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وَلِهَذَا وَحَّدَ تَعَالَى لَفْظَ (النُّورِ) وَجَمَعَ (الظُّلُمَاتِ) لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَالْكُفْرَ أَجْنَاسٌ كَثِيرَةٌ وَكُلُّهَا بَاطِلَةٌ كَمَا قَالَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فتقرق بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تتقون}، وقال تعالى: {وَجَعَلَ الظلمات والنور}، وقال تعالى: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي لَفْظِهَا إِشْعَارٌ بِتَفَرُّدِ الْحَقِّ، وَانْتِشَارِ الْبَاطِلِ وَتَفَرُّدِهِ وتشعبه.

- 258 - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ هَذَا الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ هو ملك بابل (نمرود بن كنعان)، قال مجاهد: ملك الدُّنْيَا مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا -[234]- أَرْبَعَةٌ: مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ، فَالْمُؤْمِنَانِ (سليمان بن داود) و (ذو القرنين) والكافران (نمرود) و (بختنصر)، والله أَعْلَمُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ} أَيْ بِقَلْبِكَ يَا مُحَمَّدُ {إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي ربه} أي وُجُودِ رَبِّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ إِلَهٌ غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ بَعْدَهُ فِرْعَوْنُ لِمَلَئِهِ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، وما حمله على هذا الطغيان والكفر والغليظ وَالْمُعَانَدَةِ الشَّدِيدَةِ إِلَّا تَجَبُّرُهُ وَطُولُ مُدَّتِهِ فِي الْمُلْكِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعَمِائَةِ سنة في ملكه، قال: {أَنْ آتَاهُ الله الملك}، وكان طَلَبَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي إنما الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِهِ حُدُوثُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُشَاهَدَةِ بَعْدَ عَدَمِهَا وَعَدَمُهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، ضَرُورَةً لِأَنَّهَا لَمْ تَحْدُثْ بِنَفْسِهَا فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُوجِدٍ أَوْجَدَهَا، وَهُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ المحاج - وهو النمرود -: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}، قال قتادة: وذلك أني أوتي بالرجلين استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل، وآمر بالعفو عَنِ الْآخَرِ فَلَا يُقْتَلُ، فَذَلِكَ مَعْنَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ مَا أَرَادَ هَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ جَوَابًا لِمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَلَا فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ لِوُجُودِ الصَّانِعِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ يَدَّعِيَ لِنَفْسِهِ هَذَا الْمَقَامَ عِنَادًا وَمُكَابَرَةً وَيُوهِمُ أَنَّهُ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ كَمَا اقْتَدَى بِهِ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا ادَّعَى هَذِهِ الْمُكَابَرَةَ: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فأتب بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} أَيْ إِذَا كُنْتَ كَمَا تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويمت هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي الْوُجُودِ، فِي خَلْقِ ذواته تسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تبدوا كل يوم من المشرق فإن كانت إِلَهًا كَمَا ادَّعَيْتَ تُحْيِي وَتُمِيتُ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ؟ فَلَمَّا عَلِمَ عَجْزَهُ وَانْقِطَاعَهُ وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُكَابَرَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بُهِتَ، أَيْ أُخْرِسَ فَلَا يَتَكَلَّمُ وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أَيْ لَا يُلْهِمُهُمْ حُجَّةً وَلَا بُرْهَانًا بَلْ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ. وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ كَانَتْ بين إبراهيم ونمرود بَعْدَ خُرُوجِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ النَّارِ، وَلَمْ يَكُنِ اجْتَمَعَ بِالْمَلِكِ إِلَّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَجَرَتْ بينهما هذه المناظرة، وروى زيد بن أسلم أن النمرود كَانَ عِنْدَهُ طَعَامٌ وَكَانَ النَّاسُ يَغْدُونَ إِلَيْهِ لِلْمِيرَةِ، فَوَفِدَ إِبْرَاهِيمُ فِي جُمْلَةِ مَنْ وَفِدَ لِلْمِيرَةِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ، وَلَمْ يُعْطِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الطَّعَامِ كَمَا أَعْطَى النَّاسَ، بَلْ خَرَجَ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ أَهْلِهِ عَمَدَ إِلَى كَثِيبٍ مِنَ التُّرَابِ فَمَلَأَ مِنْهُ عِدْلَيْهِ، وَقَالَ: أَشْغَلُ أَهْلِي عَنِّي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ وَضَعَ رِحَالَهُ وَجَاءَ فَاتَّكَأَ فَنَامَ، فَقَامَتِ امْرَأَتُهُ سَارَّةُ إِلَى الْعِدْلَيْنِ فَوَجَدَتْهُمَا مَلْآنَيْنِ طَعَامًا طَيِّبًا، فَعَمِلَتْ طَعَامًا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ إِبْرَاهِيمُ وَجَدَ الَّذِي قَدْ أَصْلَحُوهُ فَقَالَ: أَنَّى لَكَمَ هَذَا؟ قَالَتْ: مِنَ الذي جئت به، فعلم أنه رزق رزقهم اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: وَبَعَثَ اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ مَلَكَا يَأْمُرُهُ بِالْإِيمَانِ بِالْلَّهِ فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُ الثَّانِيَةَ فَأَبَى، ثُمَّ الثَّالِثَةَ فَأَبَى وَقَالَ: اجْمَعْ جموعك وأجمع جموعي، فجمع النمرود جَيْشَهُ وَجُنُودَهُ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ الْبَعُوضِ بِحَيْثُ لَمْ يَرَوْا عَيْنَ الشَّمْسِ، وَسَلَّطَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَكَلْتُ لُحُومَهُمْ ودماءهم، وتركتهم عظاماً بادية، دخلت وَاحِدَةٌ مِنْهَا فِي مَنْخَرَيِ الْمَلِكِ، فَمَكَثَتْ فِي منخري الملك أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ عَذَّبَهُ اللَّهُ بِهَا، فَكَانَ يَضْرِبُ رأسه بالمرازب في المدة حَتَّى أَهْلَكَهُ اللَّهُ بِهَا.

- 259 - أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حاج إبراهيم في ربه} وَهُوَ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ وَلِهَذَا عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} اخْتَلَفُوا فِي هَذَا المار من هو؟ فروي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: هو عزيز، ورواه ابن جرير عن ابن عباس والحسن وقتادة وهذا القول هو المشهور، وقيل: اسمه (حزقيل بن بوار) وقال مجاهد: هو رجل من بني إسرائيل، وَأَمَّا الْقَرْيَةُ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا (بَيْتُ الْمَقْدِسِ) مَرَّ عَلَيْهَا بَعْدَ تَخْرِيبِ بُخْتَنَصَّرَ لَهَا وَقَتْلِ أَهْلِهَا {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} أَيْ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ قولهم خوت الدار تخوي خوياً. وقوله تعالى: {عَلَى عُرُوشِهَا} أَيْ سَاقِطَةٌ سُقُوفُهَا وَجُدْرَانُهَا عَلَى عَرَصَاتِهَا، فَوَقَفَ مُتَفَكِّرًا فِيمَا آلَ أَمْرُهَا إِلَيْهِ بعد العمارة العظيمة، وقال: {أنَّى يحي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}؟ وَذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنْ دُثُورِهَا وَشِدَّةِ خَرَابِهَا، وَبُعْدِهَا عَنِ الْعَوْدِ إلى ما كنت عَلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ}. قَالَ: وَعَمُرَتِ الْبَلْدَةُ بَعْدَ مُضِيِّ سَبْعِينَ سَنَةً مِنْ مَوْتِهِ، وَتَكَامَلَ سَاكِنُوهَا، وتراجع بنوا إِسْرَائِيلَ إِلَيْهَا. فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ أَحْيَا اللَّهُ فِيهِ عَيْنَيْهِ لِيَنْظُرَ بِهِمَا إِلَى صُنْعِ اللَّهِ فِيهِ، كَيْفَ يُحْيِي بَدَنَهُ. فَلَمَّا اسْتَقَلَّ سَوِيًّا {قَالَ} اللَّهُ لَهُ، أَيْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ: {كَمْ لَبِثْتَ؟ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}. قال: وَذَلِكَ أَنَّهُ مَاتَ أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ بَعَثَهُ الله في آخر النهار، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَاقِيَةً ظَنَّ أَنَّهَا شَمْسُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَقَالَ: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ}، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ فِيمَا ذُكِرَ عِنَبٌ وَتِينٌ وَعَصِيرٌ فَوَجَدَهُ كَمَا تقدم لم يغير مِنْهُ شَيْءٌ، لَا الْعَصِيرُ اسْتَحَالَ، وَلَا التِّينُ حمض ولا أنتن، ولا العنب نقص: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} أَيْ كَيْفَ يُحْيِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْتَ تَنْظُرُ، {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} أي دليلاً على المعاد {ونظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا} أي نرفعها فيركب بَعْضَهَا على بَعْضٍ، وقرىء {نُنْشِرُهَا} أَيْ نُحْيِيهَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ، {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً}. قال السدي: تَفَرَّقَتْ عِظَامُ حِمَارِهِ حَوْلَهُ يَمِينًا وَيَسَارًا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَهِيَ تَلُوحُ مِنْ بَيَاضِهَا، فَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا فَجَمَعَتْهَا مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ تِلْكَ الْمَحِلَّةِ، ثُمَّ رَكِبَ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ حَتَّى صَارَ حِمَارًا قَائِمًا مِنْ عِظَامٍ لَا لَحْمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ كَسَاهَا اللَّهُ لَحْمًا وَعَصَبًا وَعُرُوقًا وَجِلْدًا، وَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا فَنَفَخَ فِي منخري الحمار فنهق بِإِذْنِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِمَرْأَى مِنَ الْعُزَيْرِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ هَذَا كُلُّهُ: {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كل شيء قَدِيرٌ} أي أنا أعلم بِهَذَا، وَقَدْ رَأَيْتُهُ عَيَانًا فَأَنَا أَعْلَمُ أَهْلِ زَمَانِي بِذَلِكَ، وَقَرَأَ آخَرُونَ: «قَالَ إعْلَم» عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ لَهُ بِالْعِلْمِ.

- 260 - وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ منهن جزء ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ذَكَرُوا لِسُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أسباباً، منها أنه لما قال لنمرود: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أَحَبَّ أَنْ يَتَرَقَّى من (علم اليقين) بذلك إِلَى (عَيْنِ الْيَقِينِ) وَأَنْ يَرَى ذَلِكَ مُشَاهِدَةً، فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى! قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن! قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فَأَمَّا الحديث الذي رواه الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قَالَ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى، قال: أو لم تُؤْمِن؟ قَالَ: بلى، وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" (أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري) فليس المراد ههنا بِالشَّكِّ مَا قَدْ يَفْهَمُهُ مَنْ لَا عِلْمَ عنده، بلا خلاف. وقوله تعالى: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مَا هِيَ؟ وَإِنْ كَانَ لَا طَائِلَ تَحْتَ تَعْيِينِهَا، إِذْ لو كان في ذلك مهم لَنَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قال: أَخَذَ وَزًّا وَرَأْلًا وَهُوَ (فَرْخُ النَّعَامِ) وَدِيكًا وطاووساً، وقال مجاهد: كانت حمامة وديكاً وطاووساً وغراباً، وقوله: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أي وقطعهن. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أَوْثِقْهُنَّ، فَلَمَّا أَوْثَقَهُنَّ ذَبَحَهُنَّ ثُمَّ جَعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا، فَذَكَرُوا أَنَّهُ عَمَدَ إِلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ الطَّيْرِ فَذَبَحَهُنَّ ثُمَّ قَطَّعَهُنَّ وَنَتَفَ رِيشَهُنَّ وَمَزَّقَهُنَّ وخلط بعضهن ببعض، ثُمَّ جَزَّأَهُنَّ أَجْزَاءً وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ منهن جزءاً ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَدْعُوَهُنَّ فَدَعَاهُنَّ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الرِّيشِ يَطِيرُ إِلَى الرِّيشِ، وَالدَّمِ إِلَى الدَّمِ، وَاللَّحْمِ إِلَى اللَّحْمِ، وَالْأَجْزَاءِ مِنْ كُلِّ طَائِرٍ يَتَّصِلُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ حَتَّى قَامَ كُلُّ طَائِرٍ عَلَى حِدَتِهِ وَأَتَيْنَهُ يَمْشِينَ، سَعْيًا لِيَكُونَ أَبْلَغَ لَهُ فِي الرُّؤْيَةِ الَّتِي سألها. وَلِهَذَا قَالَ: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أَيْ عَزِيزٌ لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ وَلَا يَمْتَنِعُ من شَيْءٌ، وَمَا شَاءَ كَانَ بِلَا مُمَانِعٍ لِأَنَّهُ الْقَاهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وشرعه وقدره.

- 261 - مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِتَضْعِيفِ الثَّوَابِ لِمَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، وَأَنَّ الْحَسَنَةَ تُضَاعَفُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، فَقَالَ: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَقَالَ مَكْحُولٌ يَعْنِي بِهِ الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ مِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ، وَإِعْدَادِ السلاح وغير ذلك، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْجِهَادُ وَالْحَجُّ يضعَّف الدِّرْهَمَ فِيهِمَا إلى سبعمائة ضعف ولهذا قال تَعَالَى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ}، وَهَذَا الْمَثَلُ أَبْلَغُ فِي النُّفُوسِ مِنْ ذِكْرِ عَدَدِ السَّبْعِمِائَةِ، فَإِنَّ هَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَالِحٍةَ يُنَمِّيهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ -[237]- لِأَصْحَابِهَا، كَمَا يُنَمِّي الزَّرْعَ لِمَنْ بَذَرَهُ فِي الْأَرْضِ الطَّيِّبَةِ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِتَضْعِيفِ الْحَسَنَةِ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. كما روى الإمام أحمد عَنْ عِيَاضِ بْنِ غَطِيفٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أبي عبيدة نعوده من شكوى أصابه بجنبه، وامرأته قاعدة عن رَأْسِهِ قُلْنَا: كَيْفَ بَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ؟ قَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ بَاتَ بِأَجْرٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَا بَتُّ بِأَجْرٍ، وَكَانَ مُقْبِلًا بِوَجْهِهِ عَلَى الْحَائِطِ فَأَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ بِوَجْهِهِ، وَقَالَ أَلَا تَسْأَلُونِي عَمَّا قُلْتُ! قَالُوا: مَا أَعْجَبَنَا مَا قَلْتَ فَنَسْأَلُكَ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ أَنْفَقَ نفقة فاضلة في سبيل الله فسبعمائة، وَمَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ أَوْ عَادَ مريضاً أو أماط أذى فالحسنة بعشر أمثالها، والصوم جنة مالم يَخْرُقْهَا، وَمَنِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِبَلَاءٍ في جسده فهو له حِطَّة» أي كفارة لذنوبه. (حديث آخر): عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رجلاُ تَصَدَّقَ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتَأْتِيَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بسبعمائة ناقة مخطومة» (رواه أحمد وأخرجه مسلم بلفظ: جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ: «لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ»). (حَدِيثٌ آخَرُ): عن ابن عبد الله ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "أن الله جعل حسنة ابن آدم إلى عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف غلا الصَّوْمَ وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ إِفْطَارِهِ وَفَرْحَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ريح المسك". (رواه الإمام أحمد عن عبد الله ابن مسعود). (حديث آخر): عن ابن عمر لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَبِّ زِدْ أُمَّتِي»، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَنًا} قال: «رب زد أمتي»، فقال، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (أخرجه ابن مردويه ورواه أبو حاتم وابن حبان) وقوله: {والله يُضَاعِفُ لم يَشَآءُ} أَيْ بِحَسْبِ إِخْلَاصِهِ فِي عَمَلِهِ {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أَيْ فَضْلُهُ وَاسِعٌ كَثِيرٌ أَكْثَرُ مِنْ خَلْقِهِ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ وَمَنْ لَا يستحق سبحانه وبحمده.

- 262 - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ - 263 - قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ - 264 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القوم الكافرين -[238]- يمدح تبارك وتعالى الذين ينفقون في سبيله، ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالصَّدَقَاتِ مَنَّا عَلَى مَنْ أَعْطَوْهُ فَلَا يمنُّون به عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَمُنُّونَ بِهِ لَا بِقَوْلٍ ولا فعل. وقوله تعالى: {وَلاَ أَذًى} أَيْ لَا يَفْعَلُونَ مَعَ مَنْ أَحْسَنُوا إِلَيْهِ مَكْرُوهًا يُحْبِطُونَ بِهِ مَا سَلَفَ من الإحسان ثم وعدهم الله تَعَالَى الْجَزَاءَ الْجَزِيلَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} أَيْ ثَوَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى أَحَدٍ سِوَاهُ، {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أَيْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، {ولاهم يَحْزَنُونَ} أَيْ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ مِنَ الْأَوْلَادِ، ولا ما فَاتَهُمْ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا، لَا يَأْسَفُونَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} أَيْ مِنْ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَدُعَاءٍ لمسلم، {وَمَغْفِرَةٌ} أي عفو وغفر عَنْ ظُلْمٍ قَوْلِيٍّ أَوْ فِعْلِيٍّ، {خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى}، {والله غَنِيٌّ} عَنْ خَلْقِهِ، {حَلِيمٌ} أَيْ يَحْلُمُ وَيَغْفِرُ وَيَصْفَحُ وَيَتَجَاوَزُ عَنْهُمْ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِالنَّهْيِ عَنْ المن في الصدقة، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: الْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ، وَلَا مَنَّانٌ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَلَا مُكَذِّبٌ بِقَدَرٍ» (رواه ابن مردويه وأخرجه أحمد وابن ماجه) وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}، فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَبْطُلُ بِمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى، فما يفي ثواب الصدقة يخطيئة الْمَنِّ وَالْأَذَى، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ}، أَيْ لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمن الأذى، كَمَا تَبْطُلُ صَدَقَةُ مَنْ رَاءَى بِهَا النَّاسَ، فَأَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ مَدْحُ النَّاسِ لَهُ، أَوْ شُهْرَتُهُ بِالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ لِيُشْكَرَ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ يُقَالَ إِنَّهُ كَرِيمٌ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مَعَ قَطْعِ نَظَرِهِ عَنْ مُعَامَلَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلاَ يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. ثُمَّ ضَرَبَ تَعَالَى مَثَلَ ذلك المرائي بإنفاقه، فقال: {فمثل كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} وَهُوَ الصَّخْرُ الْأَمْلَسُ {عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} وَهُوَ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ، {فَتَرَكَهُ صَلْداً} أَيْ فَتَرَكَ الوابلُ ذَلِكَ الصفوانَ صَلْدًا: أَيْ أَمْلَسَ يَابِسًا، أَيْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ، بَلْ قَدْ ذَهَبَ كُلُّهُ، أَيْ وَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الْمُرَائِينَ تَذْهَبُ وَتَضْمَحِلُّ عِندِ اللَّهِ، وَإِن ظَهَرَ لَهُمْ أَعْمَالٌ فِيمَا يَرَى النَّاسُ كَالتُّرَابِ وَلِهَذَا قَالَ: {لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.

- 265 - ومثل الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابتغآء مرضات اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ -[239]- وهذا مثل المؤمنين المنفقين أموالهم ابتغاء مرضات اللَّهِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ {وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ}، أي وهم متحققون ومتثبتون أَنَّ اللَّهَ سَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ. ونظير هذا في معنى قوله عليه السلام في الحديث الصحيح الْمُتَّفِقِ عَلَى صِحَّتِهِ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا واحتساباً» الحديث أَيْ يُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ وَيَحْتَسِبُ عِنْدَ الله وثوابه، قَالَ الشَّعْبِيُّ: {وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} أَيْ تَصْدِيقًا ويقيناً. وقوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} أَيْ كَمَثَلِ بُسْتَانٍ بِرَبْوَةٍ، وهو عند الجمهور المكان المرتفع مِنَ الْأَرْضِ وَزَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: وَتَجْرِي فيه الأنهار. وقوله تعالى: {أَصَابَهَا وَابِلٌ} وَهُوَ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَآتَتْ {أُكُلَهَا} أَيْ ثَمَرَتَهَا، {ضِعْفَيْنِ} أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْجِنَانِ، {فَإِن لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} قَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الرَّذَاذُ وَهُوَ اللَّيِّنُ مِنَ الْمَطَرِ، أَيْ هَذِهِ الْجَنَّةُ بِهَذِهِ الرَّبْوَةِ لَا تَمْحُلُ أَبَدًا لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ يَصُبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ كِفَايَتُهَا، وَكَذَلِكَ عَمَلُ الْمُؤْمِنُ لَا يَبُورُ أَبَدًا بَلْ يَتَقَبَّلُهُ اللَّهُ وَيُكَثِّرُهُ وينميِّه، كُلُّ عَامِلٍ بِحَسْبِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ عِبَادِهِ شيء.

- 266 - أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقْتُ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ قال البخاري عند تفسير هذه الآية: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمًا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ}؟ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، فغضب عمر، فقال: قولوا: نعلم أولا نَعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا ابْنَ أَخِي قُلْ وَلَا تُحَقِّرْ نَفْسَكَ، فَقَالَ ابن عباس رضي الله عنهما: ضربت مثلاُ بعمل، قَالَ عُمَرُ: أَيُّ عَمَلٍ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لرجل غني يعمل بسعة؟؟ اللَّهِ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بالمعاصي حتى أغرق أعماله. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ كِفَايَةٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَبْيِينِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَثَلِ بِعَمَلِ من أحسن العمل أولاً، بَعْدَ ذَلِكَ انْعَكَسَ سَيْرُهُ فَبَدَّلَ الْحَسَنَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ، عِيَاذًا بِالْلَّهِ مِنْ ذَلِكَ، فَأَبْطَلَ بِعَمَلِهِ الثَّانِي مَا أَسْلَفَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الصَالِحٍ، وَاحْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَوَّلِ فِي أَضْيَقِ الْأَحْوَالِ فلم يحصل مِنْهُ شَيْءٌ، وَخَانَهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ. ولهذا قال تعالى: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ} وَهُوَ الرِّيحُ الشَّدِيدُ {فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} أَيْ أَحْرَقَ ثِمَارَهَا وَأَبَادَ أَشْجَارَهَا فَأَيُّ حَالٍ يَكُونُ حاله؟. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَرَبَ الله مثلاُ حَسَنًا - وَكُلُّ أَمْثَالِهِ حَسَنٌ - قَالَ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات}، يقول: صنعه فِي شَيْبَتِهِ، {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} وَوَلَدُهُ وَذُرِّيَّتُهُ ضِعَافٌ عِنْدَ آخَرِ عُمُرِهِ، فَجَاءَهُ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترق بُسْتَانَهُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ قُوَّةً أَنْ يَغْرِسَ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ نَسْلِهِ خَيْرٌ يَعُودُونَ به عليه، وكذلك الكافر يكون يوم القيامة إذا رُدَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ لَهُ خير فسيعتب، كَمَا لَيْسَ لِهَذَا قُوَّةٌ فَيَغْرِسُ مِثْلَ بُسْتَانِهِ، وَلَا يَجِدُهُ قَدَّمَ لِنَفْسِهِ خَيْرًا يَعُودُ عَلَيْهِ، كَمَا لَمْ يُغْنِ عَنْ هَذَا -[240]- وَلَدُهُ وَحُرِمَ أَجْرَهُ عِنْدَ أَفْقَرِ مَا كَانَ إِلَيْهِ، كَمَا حرم هذا جنته عندما كان أَفْقَرِ مَا كَانَ إِلَيْهَا عِنْدَ كِبَرِهِ وَضَعْفِ ذريته. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوْسَعَ رِزْقِكَ عليَّ عِنْدَ كِبَرِ سِنِّي وَانْقِضَاءِ عُمُرِي»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} أَيْ تَعْتَبِرُونَ وَتَفْهَمُونَ الْأَمْثَالَ وَالْمَعَانِي وتنزلونها الْمُرَادِ مِنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون}.

- 267 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ - 268 - الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ - 269 - يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أولوا الْأَلْبَابِ يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِنْفَاقِ وَالْمُرَادُ به الصدقة ههنا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي اكتسبوها، يَعْنِي التِّجَارَةَ بِتَيْسِيرِهِ إِيَّاهَا لَهُمْ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَالسُّدِّيُّ: {مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} يَعْنِي الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَمِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ الَّتِي أَنْبَتَهَا لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ أَطِيبِ الْمَالِ وَأَجْوَدِهِ وَأَنْفَسِهِ وَنَهَاهُمْ عَنِ التصدق برذالة المال ودنيئه وَهُوَ خَبِيثُهُ فَإِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلا طيباً، ولهذا قال: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} أَيْ تَقْصِدُوا الْخَبِيثَ، {مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ}: أَيْ لَوْ أُعْطِيتُمُوهُ مَا أَخَذْتُمُوهُ إِلَّا أَنْ تتغاضوا فيه، فالله أغنى مِنْكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ مَا تَكْرَهُونَ، وَقِيلَ معناه: لَا تَعْدِلُوا عَنِ الْمَالِ الْحَلَالِ وَتَقْصِدُوا إِلَى الحرام فتجعلوا نفقتكم منه. وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسْلم عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قلبُه وَلِسَانُهُ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ - قَالُوا: وَمَا بَوَائِقُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: غِشُّهُ وَظُلْمُهُ - وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللَّهَ لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث" (رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً) قال ابن كثير: والصحيح القول الأول. قال ابن جرير رحمه الله: عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} الآية، قال نزلت في الأنصار، كات الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها الْبُسْرِ فَعَلَّقُوهُ عَلَى حَبْلٍ بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْكُلُ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُ، فَيَعْمِدُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِلَى الْحَشَفِ فَيُدْخِلُهُ مَعَ أَقْنَاءِ الْبُسْرِ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَنْ فَعَلَ ذلك: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (أخرجه ابن ماجة والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين) وقال ابن أبي حاتم: عن البراء رضي الله عنه {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن -[241]- تُغْمِضُواْ فِيهِ} قَالَ: نَزَلَتْ فِينَا؛ كنا أصحاب نخل فكان الرَّجُلُ يَأْتِي مِنْ نَخْلِهِ بِقَدْرِ كَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ، فَيَأْتِي الرَّجُلُ بِالْقِنْوِ فَيُعَلِّقُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إذا جاع جاء فضربه بعصاه فسقط مِنْهُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ، فَيَأْكُلُ وَكَانَ أُنَاسٌ مِمَّنْ لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص، فيأتي بِالْقِنْوِ قَدِ انْكَسَرَ فَيُعَلِّقُهُ فَنَزَلَتْ: {وَلاَ تَيَمَّموا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} قَالَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أُهْدِيَ له مثل ما أعطى ما أخذ إِلَّا عَلَى إِغْمَاضٍ وَحَيَاءٍ، فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ يجيء الرجل منا بصالح ما عنده (رواه ابن أبي حاتم والترمذي، وقال الترمذي: حسن غريب) وعن عبد الله بن مغفل فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَلَا تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قَالَ: (كَسْبُ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ خَبِيثًا، وَلَكِنْ لَا يصَّدق بِالْحَشَفِ وَالدِّرْهَمِ الزَّيْفِ وَمَا لا خير فيه) (رواه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مغفل)، وقال الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَبٍّ فَلَمْ يَأْكُلْهُ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نُطْعِمُهُ الْمَسَاكِينَ؟ قَالَ: «لَا تُطْعِمُوهُمْ مِمَّا لَا تَأْكُلُونَ». وعن الْبَرَاءِ {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ لَمْ يَأْخُذْهُ إِلَّا أَنْ يَرَى أَنَّهُ قَدْ نَقَصَهُ مِنْ حَقِّهِ؟ (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عن البراء بن عازب)، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} يَقُولُ: لَوْ كَانَ لَكُمْ عَلَى أَحَدٍ حَقٌّ فَجَاءَكُمْ بِحَقٍّ دُونَ حَقِّكُمْ لَمْ تَأْخُذُوهُ بِحِسَابِ الجيد حتى تنقصوه فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِي مَا لَا تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفَسه؟. وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أَيْ وَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالصَّدَقَاتِ وَبِالطَّيِّبِ مِنْهَا فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا، وما ذاك إلا أن يساوي الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ، كَقَوْلِهِ: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ} وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وجميعُ خَلْقِهِ فَقُرَاءُ إِلَيْهِ. وَهُوَ وَاسِعُ الْفَضْلِ لَا يَنْفَدُ مَا لَدَيْهِ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ وَاسِعُ الْعَطَاءِ كريم؛ جواد، وسيجزيه بِهَا وَيُضَاعِفُهَا لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً، مَنْ يُقْرَضُ غَيْرُ عَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ، وَهُوَ الْحَمِيدُ: أَيِ الْمَحْمُودُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ وقوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، قَالَ ابن أبي حاتم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للشيطان لمة بِابْنِ آدَمَ وللمَلك لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ مِنَ الشَّيْطَانِ» ثُمَّ قَرَأَ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً} (رواه ابن أبي حاتم والترمذي والنسائي وابن حبان) الآية. وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} أَيْ يُخَوِّفُكُمُ الْفَقْرَ لِتُمْسِكُوا مَا بِأَيْدِيكُمْ فَلَا تُنْفِقُوهُ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ، {وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ}: أَيْ مَعَ نَهْيِهِ إِيَّاكُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ، يَأْمُرُكُمْ بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخلاّق، قال تعالى: {والّه يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ} أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا أَمَرَكُمُ الشَّيْطَانُ بِالْفَحْشَاءِ، {وَفَضْلاً} أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا خَوَّفَكُمُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْفَقْرِ {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. وقوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يشاء}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمَعْرِفَةَ بِالْقُرْآنِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَمُحْكَمِهِ -[242]- وَمُتَشَابِهِهِ وَمُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَأَمْثَالِهِ. وقال مجاهد: {الْحِكْمَةَ} لَيْسَتْ بِالنُّبُوَّةِ وَلَكِنَّهُ الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ وَالْقُرْآنُ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْحِكْمَةُ خَشْيَةُ اللَّهِ، فَإِنَّ خَشْيَةَ اللَّهِ رَأْسُ كُلِّ حِكْمَةٍ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مردويه عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: «رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الله»، وقال أبو مالك: الحكمة السنّة. وقال زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْحِكْمَةُ الْعَقْلُ. قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّهُ لَيَقَعُ فِي قَلْبِي أَنَّ الْحِكْمَةَ هُوَ الفقه في دين الله، وأمر يدخله فِي الْقُلُوبِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَمِمَّا يُبَيَّنُ ذَلِكَ أَنَّكَ تَجِدُ الرَّجُلَ عَاقِلًا فِي أَمْرِ الدنيا إذا نَظَرٍ فِيهَا، وَتَجِدُ آخَرَ ضَعِيفًا فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ عَالِمًا بِأَمْرِ دِينِهِ بَصِيرًا بِهِ، يُؤْتِيهِ اللَّهُ إِيَّاهُ وَيَحْرِمُهُ هَذَا، فَالْحِكْمَةُ: الْفِقْهُ فِي دِينِ اللَّهِ. وَقَالَ السُّدي: الْحِكْمَةُ النُّبُوَّةُ. وَالصَّحِيحُ أن الحكمة لَا تَخْتَصُّ بِالنُّبُوَّةِ بَلْ هِيَ أَعَمُّ مِنْهَا وَأَعْلَاهَا النُّبُوَّةُ، وَالرِّسَالَةُ أَخَصُّ، وَلَكِنْ لِأَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ حَظٌّ مِنَ الْخَيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ، كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: «مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ فَقَدْ أُدْرِجَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ» (رَوَاهُ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ في تفسيره عن عبد الله بن عمر) وقال صلى الله عليه وسلم: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» (رواه البخاري ومسلم والنسائي) وقوله تَ

- 270 - وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ - 271 - إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يُخْبِرُ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ الْعَامِلُونَ مِنَ الْخَيْرَاتِ مِنَ النَّفَقَاتِ وَالْمَنْذُورَاتِ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ مُجَازَاتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ لِلْعَامِلِينَ لِذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ وَرَجَاءَ مَوْعُودِهِ. وَتَوَعَّدَ مَنْ لَا يَعْمَلُ بِطَاعَتِهِ بَلْ خَالَفَ أَمْرَهُ وكذَّب خَبَرَهُ وَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ، فَقَالَ: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن أَنْصَارٍ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنْقِذُونَهُمْ مِنْ عذاب الله ونقمته. وقوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} أَيْ إِنْ أظهرتموها فنعم شيء هي، وقوله تعالى: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ إِسْرَارَ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهَا، لِأَنَّهُ أَبْعَدَ عَنِ الرِّيَاءِ، إِلَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْإِظْهَارِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ مِنَ اقْتِدَاءِ النَّاسِ بِهِ، فَيَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ والمسرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ». وَالْأَصْلُ: أَنَّ الْإِسْرَارَ أَفْضَلُ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ -[243]- فَقَالَ: إِنِّي أخاف الله رب العالمين وَرَجُلٌ تصدَّق بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تنفق يمينه". وفي الحديث المروي: «صدقة السر تطفىء غَضَبَ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ»، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم فِي قَوْلِهِ: {إِنْ تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، أما عُمَرُ فَجَاءَ بِنِصْفِ مَالِهِ حَتَّى دَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خلَّفت وَرَاءَكَ لِأَهْلِكَ يَا عُمَرُ؟» قَالَ: خلَّفتُ لَهُمْ نِصْفَ مَالِي، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَجَاءَ بِمَالِهِ كُلِّهِ يَكَادُ أَنْ يُخْفِيَهُ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى دَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَلَّفْتَ وَرَاءَكَ لِأَهْلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟» فَقَالَ: عِدَةُ اللَّهِ وَعِدَةُ رَسُولِهِ، فَبَكَى عُمَرُ رضي الله عنه وقال: (بأبي أنت وأمي يَا أَبَا بَكْرٍ وَاللَّهِ مَا اسْتَبَقْنَا إِلَى باب خير قط إلا كنت سابقاً) ثُمَّ إِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي أَنَّ إِخْفَاءَ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ سَوَاءً كَانَتْ مَفْرُوضَةً أَوْ مَنْدُوبَةً. لكن روى ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ صَدَقَةَ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تفضل علانيتها بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَجَعَلَ صَدَقَةَ الْفَرِيضَةِ عَلَانِيَتَهَا أَفْضَلَ من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفاً. وقوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} أَيْ بَدَلَ الصَّدَقَاتِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ سِرًّا يَحْصُلُ لَكُمُ الْخَيْرُ فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمُ السَّيِّئَاتِ، وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَيْهِ.

- 272 - لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَآ تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ - 273 - لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ - 274 - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يرضخوا لأنسابهم من المشركين فَرَخَّصَ لَهُمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يشاء} (رواه النسائي) الآية. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يأمر بأن لا يُتَصَدَّقَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إِلَى آخِرِهَا، فَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ بَعْدَهَا عَلَى كُلِّ مَنْ سَأَلَكَ من كل دين (رواه ابن أبي حاتم) وقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ}، كَقَوْلِهِ: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فلنفسه} وَنَظَائِرُهَا فِي الْقُرْآنِ -[244]- كَثِيرَةٌ وَقَوْلُهُ: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: نَفَقَةُ الْمُؤْمِنِ لِنَفْسِهِ، وَلَا يُنْفِقُ الْمُؤْمِنُ إِذَا أَنْفَقَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: يَعْنِي إِذَا أَعْطَيْتَ لِوَجْهِ اللَّهِ فَلَا عليك ما كان من عَمَلُهُ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ إِذَا تَصَدَّقَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَلَا عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِمَنْ أَصَابَ: أَلِبر أَوْ فاجرٍ، أَوْ مستحق أو غيره، وهو مُثَابٌ عَلَى قَصْدِهِ، وَمُسْتَنَدُ هَذَا تَمَامُ الْآيَةِ: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}، والحديث المخرج فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قال رحل لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّق عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ! لأتصدقن الليلة بصدقة، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّق على غني، قال: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ! لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ فخرج فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى سَارِقٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ وَعَلَى سَارِقٍ، فأُتي فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبلت، وَأَمَّا الزانية فلعلها أن تستعفف بها عن زنا، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ، وَلَعَلَّ السَّارِقَ أَنْ يَسْتَعِفَّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِهِ" (أخرجه الشيخان عن أبي هريرة) وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ قَدِ انْقَطَعُوا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَسَكَنُوا الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ لَهُمْ سَبَبٌ يَرُدُّونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا يُغْنِيهِمْ، وَ {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ} يَعْنِي سَفَرًا لِلتَّسَبُّبِ فِي طَلَبِ الْمَعَاشِ. وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ: هُوَ السَّفَرُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة}، وقال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله} الآية. وقوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} أَيِ الْجَاهِلُ بِأَمْرِهِمْ وَحَالِهِمْ، يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ مِنْ تَعَفُّفِهِمْ فِي لِبَاسِهِمْ وَحَالِهِمْ وَمَقَالِهِمْ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثُ الْمُتَّفِقُ عَلَى صِحَّتِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس المسكين بهذا الطوّاف التي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالْأُكْلَةُ وَالْأُكْلَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا». وقوله تعالى: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ}: أَيْ بِمَا يَظْهَرُ لِذَوِي الْأَلْبَابِ من صفاتهم، كما قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ}، وقال: {ولتعرفنَّهم فِي لَحْنِ القول}. وفي الحديث: «اتقو فِراسة الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ»، ثُمَّ قرأ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ للمتوسمين} (رواه أصحاب السنن). وقوله تعالى {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} أَيْ لَا يلِّحون في المسألة، ويكلفون الناس مال لَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ سَأَلَ وَلَهُ ما يغنيه عن المسألة فقد ألحف في المسألة. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف. اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ: يَعْنِي قَوْلَهُ: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلحافا} (رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري) وقال الإمام أحمد عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، أَنَّهُ قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: أَلَا تَنْطَلِقَ فَتَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَسْأَلُهُ النَّاسُ، فَانْطَلَقْتُ أَسْأَلُهُ فَوَجَدْتُهُ قَائِمًا يَخْطُبُ، وَهُوَ يَقُولُ: «وَمَنِ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ، وَمَنِ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ، -[245]- وَمَنْ يَسْأَلِ النَّاسَ وَلَهُ عَدْلُ خَمْسِ أَوَاقٍ فَقَدْ سَأَلَ النَّاسَ إلحافاً»، فقلت بيني وبين نفسي لنا ناقة لهي خَيْرٌ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ، وَلِغُلَامِهِ نَاقَةٌ أُخْرَى فَهِيَ خَيْرٌ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أسأل. وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا غِنَاهُ؟ قَالَ: «خَمْسُونَ دِرْهَمًا أو حسابها من الذهب» (رواه أحمد وأصحاب السنن) وقوله: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وسيُجزى عَلَيْهِ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ وَأَتَمَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أحوج ما يكون إليه. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}، هَذَا مَدْحٌ مِنْهُ تَعَالَى لِلْمُنْفِقِينَ فِي سَبِيلِهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وَالْأَحْوَالِ مِنْ سر وجهر، حَتَّى إِنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَهْلِ تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ عَادَهُ مَرِيضًا عَامَ الْفَتْحِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا ازْدَدْتَ بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى ما تجعل في فيّ امرأتك». وعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً يحتسبها كانت له صدقة» (رواه أحمد والشيخان) وقال ابن جبير عن أبيه: كَانَ لِعَلِيٍّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ فَأَنْفَقَ دِرْهَمًا لَيْلًا وَدِرْهَمًا نَهَارًا، وَدِرْهَمًا سِرًّا وَدِرْهَمًا عَلَانِيَةً، فَنَزَلَتْ: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سراً علانية} (رواه ابن أبي وابن مردويه) وَقَوْلُهُ: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا فَعَلُوا مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي الطاعات، {ولا خوف عليهم لا هُمْ يَحْزَنُونَ} تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ.

- 275 - الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْأَبْرَارَ المؤدين النفقات، المخرجين الزكوات، المتفضلين بالبر والصدقات لذو الحاجات والقرابات، في جميع الأحوال والأوقات، شَرَعَ فِي ذِكْرِ أَكَلَةِ الرِّبَا وَأَمْوَالِ النَّاسِ بالباطل وأنواع الشبهات، وأخبر عَنْهُمْ يَوْمَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَقِيَامِهِمْ مِنْهَا إِلَى بَعْثِهِمْ وَنَشُورِهِمْ، فَقَالَ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، أَيْ لَا يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْمَصْرُوعُ حال صرعه وتخبط الشيطن لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقُومُ قِيَامًا مُنْكَرًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آكِلُ الرِّبَا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مجنوناً يخنق، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ والحسن وقتادة أنهم قالوا في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا -[246]- لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، يَعْنِي لا يقومون يوم القيامة، وقال ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لآكل الربا خذ سلاحك للحرب، وقرأ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} وذلك حين يقوم من قبره. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ كالبيوت فيها الحيات تجري مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَكْلَةُ الربا" (رواه ابن أبي حاتم وأحمد) وعن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ: (فَأَتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ - حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَحْمَرُ مِثْلُ الدَّمِ - وَإِذَا فِي النَّهْرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السابح يَسْبَحُ ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ الْحِجَارَةَ عِنْدَهُ فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا - وذكر في تفسيره - أنه آكل الربا) (رواه البخاري) وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، أَيْ إِنَّمَا جُوزُوا بِذَلِكَ لِاعْتِرَاضِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ، وَلَيْسَ هَذَا قِيَاسًا مِنْهُمْ لِلرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْتَرِفُونَ بِمَشْرُوعِيَّةِ أَصْلِ الْبَيْعِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ لَقَالُوا: إِنَّمَا الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} أَيْ هُوَ نَظِيرُهُ، فَلِمَ حَرَّمَ هَذَا وَأُبِيحَ هَذَا؟ وَهَذَا اعْتِرَاضٌ مِنْهُمْ عَلَى الشَّرْعِ، أَيْ هَذَا مِثْلُ هَذَا وَقَدْ أَحَلَّ هَذَا وَحَرَّمَ هَذَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تمام الكلام رداً عليهم، أي على ما قالواه مِنَ الِاعْتِرَاضِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِتَفْرِيقِ اللَّهِ بَيْنَ هذا وهذا حكماً، وهو العليم الحكيم الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهم يسالون، وهو العالم يحقائق الْأُمُورِ وَمَصَالِحِهَا وَمَا يَنْفَعُ عِبَادَهُ فَيُبِيحُهُ لَهُمْ، وَمَا يَضُرُّهُمْ فَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَهُوَ أَرْحَمُ بِهِمْ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا الطِّفْلِ. وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} أَيْ مَنْ بَلَغَهُ نَهْيُ اللَّهِ عَنِ الرِّبَا فَانْتَهَى حَالَ وُصُولِ الشَّرْعِ إِلَيْهِ فَلَهُ مَا سَلَفَ مِنَ الْمُعَامَلَةِ، لقوله: {عَفَا الله عما سلف} وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «وَكُلُّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيْ هَاتَيْنِ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ»، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ الزِّيَادَاتِ الْمَأْخُوذَةِ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ بَلْ عَفَا عَمَّا سَلَفَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ والسُّدي: {فله ما سلف} مَا كَانَ أَكَلَ مِنَ الرِّبَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وقال ابن أبي حاتم عن أم يونس العالية بنت أبقع، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لها (أم بحنة) أم ولد زيد بْنِ أَرْقَمَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَتَعْرِفِينَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَإِنِّي بِعْتُهُ عَبْدًا إِلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةٍ، فَاحْتَاجَ إِلَى ثَمَنِهِ فَاشْتَرَيْتُهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ بِسِتِّمِائَةٍ، فَقَالَتْ: بِئْسَ مَا شَرَيْتِ، وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قد بطل إِنْ لَمْ يَتُبْ. قَالَتْ، فَقُلْتُ: أَرَأَيْتِ إِنْ تَرَكَتُ الْمِائَتَيْنِ وَأَخَذَتُ السِّتَّمِائَةِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}، وَهَذَا الْأَثَرُ مَشْهُورٌ. وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَنْ حرم (مسألة العينة) (العينة: أن يبيعه شيئاً إلى أجل، ثم يشتريه منه نقداً بأقل مما باعه، وفي هذا شبهة التحايل على أكل الربا نسأله تعالى السلامة) مع ما جاء فيها من الأحاديث المذكورة الْمُقَرِّرَةِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ} أَيْ إِلَى الربا ففعله بعد بلوغه نهى الله عَنْهُ فَقَدِ اسْتَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ وَقَامَتْ عَلَيْهِ -[247]- الْحُجَّةُ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وقد قال أبو داود، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَذْرِ المخابرة فليؤذن بحرب مِّنَ الله وَرَسُولِهِ»، ,إنما حُرِّمَتِ (الْمُخَابَرَةُ) وَهِيَ الْمُزَارَعَةُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ من الأرض، و (المزابنة) وَهِيَ اشْتِرَاءُ الرُّطَبِ فِي رُؤُوسِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ على وجه الارض و (المحاقلة) وَهِيَ اشْتِرَاءُ الْحَبِّ فِي سَنْبُلِهِ فِي الْحَقْلِ بِالْحَبِّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، إِنَّمَا حُرِّمَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَمَا شَاكَلَهَا حَسْمًا لِمَادَّةِ الرِّبَا، لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ التَّسَاوِي بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ قَبْلَ الْجَفَافِ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْجَهْلُ بِالْمُمَاثِلَةِ كَحَقِيقَةِ الْمُفَاضَلَةِ، وَمِنْ هَذَا حَرَّمُوا أَشْيَاءَ بِمَا فَهِمُوا مِنْ تَضْيِيقِ الْمَسَالِكِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الرِّبَا وَالْوَسَائِلِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، وَتَفَاوُتِ نَظَرِهِمْ بِحَسَبِ مَا وَهَبَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مَنِ الْعِلْمِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عليم} وَبَابُ الرِّبَا مِنْ أَشْكَلِ الْأَبْوَابِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجَدُّ، وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا)، يَعْنِي بذلك بعض المسائل التي فيه شَائِبَةُ الرِّبَا، وَالشَّرِيعَةُ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ كُلَّ حَرَامٍ فَالْوَسِيلَةُ إِلَيْهِ مِثْلُهُ، لِأَنَّ مَا أَفْضَى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، كَمَا أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَقَدْ ثَبَتَ في الصحيحين عن النعمان ابن بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «إن الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ. فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبَهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ». وَفِي السُّنَنِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى مالا يربك»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ، وَتَرَدَّدَتْ فِيهِ النَّفْسُ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ». وَفِي رِوَايَةٍ: «استفتِ قلبَك وَإِنْ أفتاك الناس وأفتوك». وقال ابن عباس: آخِرُ مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم آية الربا وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: (إِنِّي لعلِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ تَصْلُحُ لَكُمْ، وَآمُرُكُمْ بِأَشْيَاءَ لَا تَصْلُحُ لَكُمْ، وَإِنَّ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا آيَةَ الرِّبَا، وَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَنَا، فَدَعُوا مَا يُرِيبُكُمْ إِلَى مَا لَا يريبكم) (رواه ابن ماجة وابن مردويه) وعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الرِّبَا ثلاثة وسبعون باباً». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم «الربا سبعون جزءاً أيسرها أن ينحك الرجل أمه» (رواه ابن ماجة والحاكم عن ابن مسعود وزاد الحاكم: وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْم

- 276 - يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ - 277 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يخبر تَعَالَى أَنَّهُ يَمْحَقُ الرِّبَا أَيْ يُذْهِبُهُ إِمَّا بِأَنْ يُذْهِبَهُ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ، أَوْ يَحْرِمَهُ بَرَكَةَ مَالِهِ، فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ بَلْ يعدمه بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَيُعَاقِبُهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ}، وقال: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} الآية. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِي قَوْلِهِ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} وَهَذَا نَظِيرُ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: (الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إِلَى قُلٍّ) وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مسنده عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فإن عاقبته تصير إلى قل»، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَةِ بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ كَمَا قال صلى الله عليه وسلم: «مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بالإفلاس والجذام». وقوله تعالى: {وَيُرْبِي الصدقات} قرىء بِضَمِّ الْيَاءِ وَالتَّخْفِيفِ مِنْ رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو أي كثّره ونمّاه، وقرىء (يُربي) بالضم والتشديد من التربية. قال الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمنيه ثم يربّيها لصاحبها كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الجبل» (رواه البخاري في كتاب الزكاة وأخرجه مسلم بنحوه) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ أَوْ فَلُوَّهُ حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحد» وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {يَمْحَقُ الله الربا ويربي الصدقات} (رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَصَدَّقَ مِنْ طَيِّبٍ يَقْبَلُهَا اللَّهُ مِنْهُ، فَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ وَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ أَوْ فصيله، وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربوا فِي يَدِ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: فِي كَفِّ الله، حتى تكون مثل أحد فتصدقوا" (رواه أحمد قال ابن كثير صحيح الإسناد ولكن لفظه عجيب) وعن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إن الله يربي لِأَحَدِكُمُ التَّمْرَةَ وَاللُّقْمَةَ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى يكون مثل أحد» (رواه أحمد وقد تفرد به من هذا الوجه) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ -[249]- لَيَتَصَدَّقُ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، فَيَتَلَقَّاهَا الرَّحْمَنُ بِيَدِهِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فلوه أو وصيفه» (رواه البزار عن أبي هريرة مرفوعاً). وقوله تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} أَيْ لَا يُحِبُّ كَفُورَ الْقَلْبِ، أَثِيمَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُنَاسَبَةٍ فِي خَتْمِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْمُرَابِيَ لَا يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْحَلَالِ، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب الْمُبَاحِ، فَهُوَ يَسْعَى فِي أَكْلِ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ بِأَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ الْخَبِيثَةِ، فَهُوَ جَحُودٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ النِّعْمَةِ، ظَلُومٌ آثِمٌ بِأَكْلِ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مَادِحًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَبِّهِمْ، الْمُطِيعِينَ أَمْرَهُ، الْمُؤَدِّينَ شُكْرَهُ، الْمُحْسِنِينَ إِلَى خَلْقِهِ فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، مُخْبِرًا عَمَّا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ وَأَنَّهُمْ يَوْمَ القياة مِنَ التَّبِعَاتِ آمِنُونَ، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.

- 278 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ - 279 - فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ - 280 - وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - 281 - وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ، نَاهِيًا لَهُمْ عَمَّا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى سَخَطِهِ وَيُبْعِدُهُمْ عن رضاه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ} أَيْ خَافُوهُ وَرَاقِبُوهُ فِيمَا تَفْعَلُونَ، {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} أَيِ اتْرُكُوا مَا لَكَمَ عَلَى النَّاسِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْأَمْوَالِ بَعْدَ هَذَا الْإِنْذَارِ، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَيْ بِمَا شرع الله لكم من تحليل البيع وتحرم الربا وغير ذلك. وقد ذكروا أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ نَزَلَ فِي (بَنِي عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ) مِنْ ثَقِيفٍ (وَبَنِي الْمُغِيرَةِ) مَنْ بَنِي مَخْزُومٍ، كَانَ بَيْنَهُمْ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَدَخَلُوا فِيهِ طَلَبَتْ ثَقِيفٌ أَنْ تَأْخُذَهُ مِنْهُمْ، فَتَشَاوَرُوا وَقَالَتْ بَنُو الْمُغِيرَةِ: لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الْإِسْلَامِ، فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ (عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ) نَائِبُ مَكَّةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَكَتَبَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ: {يا أيها الذن آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فَقَالُوا: نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَنَذَرُ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا فتركوه كلهم (ذكره ابن جريج ومقاتل والسدي) وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، لِمَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى تَعَاطِي الرِّبَا بَعْدَ الْإِنْذَارِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ} أَيِ اسْتَيْقِنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ، وتقدم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآكِلِ الرِّبَا: خُذْ سِلَاحَكَ لِلْحَرْبِ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (أخرجه ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فَمَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الربا لا ينزع عنه كان حقاً عَلَى -[250]- إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَتِيبَهُ، فَإِنْ نَزَعَ وإلا ضرب عنقه. وقال قتادى: أو عدهم الله بالقتل كما يسمعون وجعلهم بهرجاً (أي دماؤهم مهدورة) أين ما ما أتو، فإياكم ومخالطة هَذِهِ الْبُيُوعَ مِنَ الرِّبَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أوسع الحلال وأطابه، فلا يلجئنكم إِلَى مَعْصِيَتِهِ فَاقَةٌ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ) ثم قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلمون} أَيْ بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ {وَلاَ تُظْلمون} أَيْ بِوَضْعِ رُؤُوسِ الْأَمْوَالِ أَيْضًا بَلْ لَكُمْ مَا بَذَلْتُمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ ولا نقص منه، خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ كُلَّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ عَنْكُمْ كُلُّهُ، لَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظلمون وَلَا تُظلمون، وَأَوَّلُ رِبًا مَوْضُوعٍ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المطلب موضوع كله» (رواه ابن أبي حاتم) وقوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، يَأْمُرُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَى الْمُعْسِرِ الَّذِي لَا يجد وقاء، فَقَالَ: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} لَا كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ أَحَدُهُمْ لِمَدِينِهِ إِذَا حَلَّ عَلَيْهِ الدَّيْنُ: إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، ثُمَّ يَنْدُبُ إِلَى الْوَضْعِ عَنْهُ وَيَعِدُ عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرَ وَالثَّوَابَ الْجَزِيلَ، فَقَالَ: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ وَأَنْ تَتْرُكُوا رَأْسَ الْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ وَتَضَعُوهُ عَنِ الْمَدِينِ. وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. (فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُظِلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ فَلْيُيَسِّرْ عَلَى مُعْسِرٍ أَوْ لِيَضَعْ عَنْهُ» (رواه الطبراني) (حديث آخر): عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ، وَكَانَ يأتيه تقاضاه فيختبىء مِنْهُ، فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَخَرَجَ صَبِيٌّ فَسَأَلَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: نَعَمْ هُوَ فِي الْبَيْتِ يَأْكُلُ خزيرة، فناداه فقال: يا فلان اخرج فقد اخبرت أنك ها هنا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا يُغَيبك عَنِّي؟ فَقَالَ: إِنِّي مُعْسِرٌ وَلَيْسَ عِنْدِي، قَالَ: آللَّهَ إِنَّكَ مُعْسِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَبَكَى أَبُو قَتَادَةَ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ غَرِيمِهِ أَوْ مَحَا عَنْهُ كَانَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ القيامة» (رواه أحمد والإمام مسلم) (حَدِيثٌ آخَرُ): عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَتَى اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ: مَاذَا عَمِلْتَ لِي فِي الدُّنْيَا؟ فَقَالَ: مَا عَمِلْتُ لَكَ يَا رَبِّ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي الدُّنْيَا أَرْجُوكَ بِهَا - قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - قَالَ الْعَبْدُ عِنْدَ آخِرِهَا: يَا رَبِّ إِنَّكَ كنت أَعْطَيْتَنِي فَضْلَ مَالٍ، وكنتُ رَجُلًا أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ، فَكُنْتُ أُيَسِّرُ عَلَى الموسر وأنظر المعسر، فقال، فَيَقُولُ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ: أَنَا أَحَقُّ مَنْ ييسر، أدخل الجنة" (أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة) ولفظ البخاري عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ" (حَدِيثٌ آخَرُ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ سَهْلًا حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ -[251]- أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سبيل الله أو عازياً أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ أَوْ مُكَاتَبًا فِي رقبته أظله اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظله» (رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد) (حديث آخر): أخرج مسلم في صحيحه من حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يَهْلَكُوا، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيَنَا (أَبَا الْيَسَرِ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ، مَعَهُ ضَمامة (مجموعة) مِنْ صُحُفٍ، وَعَلَى أَبِي الْيَسَرِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيٌّ (ثوب ينسب إلى حي في همدان) وعلى غالمه بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيٌّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا عَمِّ، إني أرى في وجهك سَعْفة (طبيعة من غضب) مِنْ غَضَبٍ، قَالَ: أَجَلْ كَانَ لِي عَلَى فلان بن فلان الرامي مَالٌ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَسَلَّمْتُ فَقُلْتُ أثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا: لَا فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْر (كرش واسع) فَقُلْتُ: أَيْنَ أَبُوكَ؟ فَقَالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ أريكة (سرير فاخر) أُمِّي، فَقُلْتُ: اخْرُجْ إليَّ فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ، فَخَرَجَ فَقُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي؟ قَالَ: أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ ثُمَّ لا أكذبك، خشيت والله أن أحدثثك فأكذبك أو أَعِدَكَ فَأُخْلِفَكَ، وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنْتُ وَاللَّهِ مُعْسِرًا قَالَ، قلت: الله. قال: الله؟ ثم قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي، وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي حل، فأشهدُ: أبصَر عيناي هاتان - ووضع أصبعيه على عينيه - وسمعَ أذناي هاتان ووعاه قلبي - وأشار إلى نياط قَلْبِهِ - رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عنه أظله الله في ظله». (حديث آخر) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَهُوَ يقول بيده هكذا - وأومأ أبو عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ -: «مَنْ أَنْظَرَ معسرا أو وضع عنه وَقَاهُ اللَّهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، أَلَا إِنَّ عمل الجنة حَزْن (ما غلظ من الأرض) بِرَبْوَةٍ ثَلَاثًا أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بسهوة (أرض لينة ملائمة) وَالسَّعِيدُ مَنْ وُقِيَ الْفِتَنَ وَمَا مِنْ جَرْعَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ، مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ لِلَّهِ إِلَّا مَلَأَ الله جوفه إيماناً» (تفرد به أحمد) ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم وزوال الدُّنْيَا وَفَنَاءَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا، وَإِتْيَانَ الْآخِرَةِ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَمُحَاسَبَتُهُ تَعَالَى خَلْقَهُ عَلَى مَا عَمِلُوا وَمُجَازَاتُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا كَسَبُوا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَيُحَذِّرُهُمْ عُقُوبَتُهُ فَقَالَ: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آخِرُ آية نزلت من القرآن العظيم، فقال سعيد بن جبير:

- 282 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَطْوَلُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ بْنُ جَرِيرٍ عن سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ أَحْدَثَ القرآن بالعرش آية الدَّين. فقوله تعالى: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إذا تداينم بدين أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}، هَذَا إِرْشَادٌ مِنْهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، إِذَا تَعَامَلُوا بِمُعَامَلَاتٍ مُؤَجَّلَةٍ أَنْ يَكْتُبُوهَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَحْفَظَ لِمِقْدَارِهَا وَمِيقَاتِهَا وَأَضْبُطَ لِلشَّاهِدِ فِيهَا، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا فِي آخِرِ الْآيَةِ حَيْثُ قَالَ: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أن لا ترتابوا}، وقال مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}. قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي السَّلَمِ إلى أجل معلوم، وقال قتادة عن ابن عباس: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّهُ وَأَذِنَ فِيهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَثَبَتَ فِي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثمار السنة والسنتين وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»، وَقَوْلُهُ: {فَاكْتُبُوهُ} أمر منه تعالى بالكتابة لِلتَّوْثِقَةِ وَالْحِفْظِ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ» فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الدِّين مِنْ حَيْثُ هُوَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى كِتَابَةٍ -[253]- أَصْلًا، لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ قَدْ سَهَّلَ اللَّهُ وَيَسَّرَ حِفْظَهُ عَلَى النَّاسِ، وَالسُّنَنُ أَيْضًا مَحْفُوظَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِكِتَابَتِهِ إِنَّمَا هُوَ أَشْيَاءُ جُزْئِيَّةٌ تَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ، فَأُمِرُوا أَمْرَ إِرْشَادٍ لَا أَمْرَ إِيجَابٍ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَنِ ادَّانَ فَلْيَكْتُبْ وَمَنِ ابْتَاعَ فليُشْهد، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذَكَرَ لَنَا أَنَّ (أَبَا سُلَيْمَانَ الْمَرْعَشِيَّ) كَانَ رَجُلًا صَحِبَ كَعْبًا فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ تَعْلَمُونَ مَظْلُومًا دَعَا رَبَّهُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ؟ فَقَالُوا: وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: رَجُلٌ بَاعَ بَيْعًا إِلَى أَجَلٍ فَلَمْ يُشْهد وَلَمْ يَكْتُبْ، فَلَمَّا حَلَّ مَالُهُ جَحَدَهُ صَاحِبُهُ فَدَعَا رَبَّهُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ عَصَى رَبَّهُ، وقال الحسن وابن جريج: كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فليؤد الذي ائتمن أمانته}. والدليل على ذلك أيضاً الحديث الذي حكي عن شرع من قبلنا مقرراً في شرعنا ولم ينكر عدم الكتابة والإشهاد. قال الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أن يسلفه ألف دينار، فقال: أئتن بِشُهَدَاءَ أُشْهِدُهُمْ؟ قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً. قَالَ: ائْتِنِي بِكَفِيلٍ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يقدم عليه للأجل الذي أجَّله فلم يجد مركبا، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مَعَهَا إِلَى صَاحِبِهَا، ثُمَّ زجَّج (أصلح موضع ما نقره) مَوْضِعَهَا ثُمَّ أَتَى بِهَا الْبَحْرَ، ثُمَّ قَالَ: اللهم إنك قد علمت أين اسْتَسْلَفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَإِنِّي قَدْ جَهِدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ بِهَا إِلَيْهِ بِالَّذِي أَعْطَانِي فَلَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا وَإِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَطْلُبُ مَرْكَبًا إِلَى بَلَدِهِ فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا تَجِيئُهُ بِمَالِهِ، فَإِذَا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهل حَطَبًا، فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ تَسَلَّفَ مِنْهُ فَأَتَاهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مركباً قبل الذي أتت فِيهِ. قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إليَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ هَذَا الَّذِي جِئْتُ فِيهِ؟ قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ بِهِ في الخشبة فانصرف بألفك راشداً (قال ابن كثير: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ مُعَلَّقًا بِصِيغَةِ الجزم) وقوله تعالى: {فليكتب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} أَيْ بِالْقِسْطِ وَالْحَقِّ وَلَا يَجُرْ فِي كِتَابَتِهِ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَكْتُبْ إِلَّا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَقَوْلُهُ: {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يكتب أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} أَيْ وَلَا يَمْتَنِعْ مَنْ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ إِذَا سُئِلَ أَنْ يَكْتُبَ لِلنَّاسِ وَلَا ضَرُورَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَكَمَا علَّمه اللَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ فَلْيَتَصَدَّقْ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، وَلْيَكْتُبْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ مِنَ الصَّدَقَةِ أَنْ تُعِينَ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعَ لِأَخْرَقَ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ»، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: وَاجِبٌ عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ، وَقَوْلُهُ: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}، أَيْ وَلْيُمْلِلِ الْمَدِينُ عَلَى الْكَاتِبِ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي ذَلِكَ، {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} أَيْ لَا يَكْتُمُ مِنْهُ شَيْئًا، -[254]- {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً} محجوراً عليه بتبذيره وَنَحْوِهِ {أَوْ ضَعِيفاً} أَيْ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا {أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ} إِمَّا لِعَيٍّ أَوْ جَهْلٍ بِمَوْضِعِ صَوَابِ ذَلِكَ مِنْ خطئه {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل}. وقوله تعالى: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رجالكم} أم بالاستشهاد مَعَ الْكِتَابَةِ لِزِيَادَةِ التَّوْثِقَةِ، {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، وَإِنَّمَا أُقِيمَتِ الْمَرْأَتَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ لِنُقْصَانِ عَقْلِ الْمَرْأَةِ كَمَا قال مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ». قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؟ قَالَ: «أَمَّا نُقْصَانُ عَقْلِهَا فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِي لَا تُصَلِّي وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا نقصان الدين». وقوله تعالى: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ، وَهَذَا مقيَّد حكَم بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى كُلِّ مُطْلَقٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطٍ، وَقَدِ استدل من رد المستور بهذه الآية الدلالة عَلَى أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَدْلًا مُرْضِيًا. وَقَوْلُهُ: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} يَعْنِي الْمَرْأَتَيْنِ إِذَا نَسِيَتِ الشَّ

- 283 - وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ -[256]- وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يقول تعالى: {إن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ} أَيْ مُسَافِرِينَ وَتَدَايَنْتُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً} يَكْتُبُ لَّكُمْ، قال ابن عباس: أو وجدوه ولم يجدوا قرطاساً أو دواة أو قلماً {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} أَيْ فَلْيَكُنْ بَدَلَ الْكِتَابَةِ رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ أي فِي يَدِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ}، على أنالرهن لَا يُلْزِمُ إِلَّا بِالْقَبْضِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ، وَاسْتَدَلَّ بِهَا آخَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَقْبُوضًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ، وَاسْتَدَلَّ آخَرُونَ مِنَ السَّلَفِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّهْنُ مَشْرُوعًا إِلَّا فِي السَّفَرِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَلَى ثَلَاثِينَ وَسْقًا من شعير رهنها قوتاً لأهله. وقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بعضاَ فَلْيُؤَدِّ الذي ائتمن أَمَانَتَهُ} روي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ نَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا ائْتَمَنَ بعضكم بعضاً فلا بأس أن لا تكتبوا أو لا تشهدوا، وقوله: {وليتقي اللَّهَ رَبَّهُ} يُعْنَى الْمُؤْتَمَنُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد وأهل السنن عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حتى تؤديه». وقوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ} أَيْ لَا تُخْفُوهَا وتغلُّوها وَلَا تُظْهِرُوهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: شَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَكِتْمَانُهَا كَذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} قَالَ السُّدي: يعن فَاجْرٌ قَلْبُهُ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهولى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} وهكذا قال ههنا: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.

- 284 - لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهم، وَأَنَّهُ الْمُطَّلِعُ عَلَى مَا فِيهِنَّ لَا تَخْفَى عليه الظواهر ولا السارئر والضمائر وإن دقت خفيت، وأخبر سَيُحَاسِبُ عِبَادَهُ عَلَى مَا فَعَلُوهُ وَمَا أَخْفَوْهُ في صدورهم، كماقال تعالى: {قل إن تخفوا مافي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يعلمه الله}، وقال: {يَعْلَمُ السر وأخفى}، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ بِمَزِيدٍ عَلَى الْعِلْمِ وَهُوَ (الْمُحَاسَبَةُ) على ذلك، ولهذا لما نزلت هذه اظلاية اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَخَافُوا مِنْهَا وَمِنْ مُحَاسَبَةِ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى جَلِيلِ الْأَعْمَالِ وَحَقِيرِهَا، وَهَذَا مِنْ شِدَّةِ إِيمَانِهِمْ وإيقانهم. -[257]- روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلِّفنا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلاَ نُطِيقُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"، فَلَمَّا أقرَّ بِهَا الْقَوْمُ وذلَّت بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَثَرِهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فَلَمَّا فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل قوله: {لاَ يُكَلِّفُ الله نفساً إلى وُسْعَهَا لَهَا مَا كسبت وعليها ما اكتسبت رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخره، ورواه مسلم عن أبي هريرة وَلَفْظُهُ: فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ فَأَنْزَلَ الله: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وعليها ما اكتسبت، رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ: نَعَمْ، {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا}، قَالَ: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}، قَالَ: نَعَمْ {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فاصرنا عَلَى القوم الكافرين} قال: نعم. (طريق أخرى): قال ابن جرير عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَرْجَانَةَ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {للَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} الْآيَةَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ وَاخَذَنَا اللَّهُ بِهَذَا لَنَهْلَكَنَّ، ثُمَّ بَكَى ابْنُ عُمَرَ حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ، قَالَ ابْنُ مَرْجَانَةَ: فَقُمْتُ حَتَّى أَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَذَكَرْتُ لَهُ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَمَا فَعَلَ حِينَ تَلَاهَا فقال ابن عَبَّاسٍ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَعَمْرِي لَقَدْ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا حِينَ أُنْزِلَتْ مِثْلَ مَا وَجَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَهَا: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة لمسلمين بِهَا، وَصَارَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ لِلنَّفْسِ مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. (طَرِيقٌ أُخرى): عَنْ سَالِمٍ أَنَّ أَبَاهُ قَرَأَ: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} فدمعت عيناه، فبلغ صنيعه بان عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَقَدْ صَنَعَ كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُنْزِلَتْ فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ فِي كُتُبِهِمُ الستة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ». وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ إِذَا همَّ عبيد بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً، وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حسنة فإن عملها فاكتبوها عشراً». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا أحسن أحد إسلامه فإن له بكل حسنة يعملها تكتب له بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ -[258]- سَيِّئَةٍ تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» (رواه مسلم) وقال مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ - ثُمَّ بيَّن ذَلِكَ - فَمَنْ همَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حسنات إلى سبعمائة ضعف أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ همَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كتبها الله عنده حسنة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنهد سيئة واحدة» (أخرجهما مسلم) وروي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فسألوه فقالوا: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟» قَالُوا: نعم، قال: «ذاك صريح الإيمان». وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الوسوسة، قال: «تلك صريح الإيمان» (أخرجهما مسلم). وروى ابن جرير عن مجاهد والضحّاك أَنَّهُ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْمُحَاسِبَةِ الْمُعَاقِبَةَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يُحَاسِبُ وَيَغْفِرُ، وَقَدْ يُحَاسِبُ وَيُعَاقِبُ، بِالْحَدِيثِ الَّذِي رواه قَتَادَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نَطُوفُ بِالْبَيْتِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر وهو يطوف إذا عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ، مَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول في النجوى؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "يدنوا الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَضَعَ عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول له: هَلْ تَعْرِفُ كَذَا؟ فَيَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ مَرَّتَيْنِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ قَالَ فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وإني أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، قَالَ: فَيُعْطَى صَحِيفَةُ حَسَنَاتِهِ أَوْ كِتَابُهُ بِيَمِينِهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بهم على رؤوس الأشهاد {هؤلاء الذي كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظالمين} (الحديث مخرج في الصحيحين من طرق متعددة)

- 285 - آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ - 286 - لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وعليها ما اكتسبت رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي فَضْلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمَا) (الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ): قَالَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ - مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ في ليلة كفتاه» -[259]- (الحديث الثاني)، قال الإام أحمد عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَهُنَّ نبي قبلي». (الحديث الثالث): قال مسلم عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يعرج مِنَ الْأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يهبط مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا قَالَ: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قَالَ: فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: وَأُعْطِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا المقحمات. (الحديث الرابع}: قال أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «اقرأ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنِّي أُعْطِيتُهُمَا من كنز تحت العرش» (الحديث الخامس): قال ابن مردوية عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ أوتيت هذه الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ بَيْتِ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ قَبْلِي ولا يعطاها أحد بعدي»، الحديث. (الحديث السادس) قال ابن مردوية عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَا أَرَى أحداً عقل الْإِسْلَامُ يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَخَوَاتِيمَ سورة البقرة فإنها من كَنْزٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تحت العرش. (الحديث السابع) قال الترمذي عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كتاباً قبل أن يخلق السموات وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بهما سورة البقرة ولا يقرأ بهن في دار ثلاث ليلا فيقر بها شيطان»، ثم قال هذا حديث غريب. (الحديث الثامن}: قال ابن مردوية عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَ آخِرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ ضَحِكَ وَقَالَ: «إِنَّهُمَا مِنْ كَنْزِ الرَّحْمَنِ تَحْتَ الْعَرْشِ» وَإِذَا قَرَأَ: {ومن يعمل سوءاً يجز به}، {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} اسْتَرْجَعَ وَاسْتَكَانَ .. (الْحَدِيثُ التَّاسِعُ) قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُعْطِيتُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ وَالْمُفَصَّلَ نَافِلَةً». (الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ): قَدْ تَقَدَّمَ فِي فضائل الفاتحة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ جِبْرِيلُ إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا فَوْقَهُ فَرَفَعَ جِبْرِيلُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ قَدْ فُتِحَ مِنَ السَّمَاءِ مَا فُتِحَ قَطُّ، قَالَ فَنَزَلَ مِنْهُ ملك فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ له: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قَبْلَكَ، فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ حَرْفًا مِنْهُمَا إِلَّا أُوتِيتُهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ والنسائي. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} إِخْبَارٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. روى الحاكم في مستدركه عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَّبِّهِ} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حُقَّ لَهُ أَنْ يُؤْمِنَ» ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ صحيح الإسناد ولم يخرجاه. -[260]- وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ} عَطْفٌ عَلَى الرَّسُولُ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْجَمِيعِ، فَقَالَ: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} فَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ، فَرْدٌ صَمَدٌ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، وَيُصَدِّقُونَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ الْمُرْسَلِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ، لَا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببععض وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، بَلِ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ صَادِقُونَ بارُّون راشدون مهديُّون هادون إلى سبيل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بع بِإِذْنِ اللَّهِ حَتَّى نُسِخَ الْجَمِيعُ بِشَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ الَّذِي تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى شَرِيعَتِهِ وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، وَقَوْلُهُ: {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أَيْ سَمِعْنَا قَوْلَكَ يَا رَبَّنَا وَفَهِمْنَاهُ وَقُمْنَا بِهِ وَامْتَثَلْنَا الْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ، {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} سؤال للمغفرة والرحمة واللطف. قال ابن جرير: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} قَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ فَسَلْ تُعْطَهْ، فَسَأَلَ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَوْلُهُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أَيْ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا فَوْقَ طَاقَتِهِ، وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ هِيَ النَّاسِخَةُ الرَّافِعَةُ لِمَا كَانَ أَشْفَقَ مِنْهُ الصَّحَابَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}، أَيْ هُوَ وَإِنْ حَاسَبَ وَسَأَلَ لَكِنْ لَا يُعَذِّبُ إِلَّا بِمَا يَمْلِكُ الشخص دفعه، فأما مَا لاَ يَمْلِكُ دَفْعُهُ مِنْ وَسْوَسَةِ النَّفْسِ وَحَدِيثِهَا فَهَذَا لَا يُكَلِّفُ بِهِ الْإِنْسَانَ، وَكَرَاهِيَةُ الْوَسْوَسَةِ السَّيِّئَةِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} أَيْ مِنْ خَيْرٍ، {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} أَيْ مِنْ شَرٍّ، وَذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي تَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُرْشِدًا عِبَادَهُ إِلَى سُؤَالِهِ وَقَدْ تَكَفَّلَ لَهُمْ بِالْإِجَابَةِ كَمَا أَرْشَدَهُمْ وعلَّمهم أن يقولوا: {بنا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} أي إن تركنا فرضنا عَلَى جِهَةِ النِّسْيَانِ، أَوْ فَعَلْنَا حَرَامًا كَذَلِكَ، أَوْ أَخْطَأْنَا أَيِ الصَّوَابَ فِي الْعَمَلِ جَهْلًا منه بوجهه الشرعي. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (رواه ابن ماجه وابن حبان) وعن أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنْ ثلاث: الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ وَالِاسْتِكْرَاهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ، فَقَالَ: أَجَلْ أَمَا تَقْرَأُ بِذَلِكَ قُرْآنًا: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} (رواه ابن أبي حاتم) وقوله تعالى: {ربنا لوا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كما حملت عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} أَيْ لَا تُكَلِّفُنَا مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ وَإِنْ أَطَقْنَاهَا، كَمَا شَرَعْتَهُ للأمم الماضية قلنا مِنَ الْأَغْلَالِ وَالْآصَارِ، الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ الَّتِي بَعَثْتَ نَبِيَّكَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ بِوَضْعِهِ، فِي شَرْعِهِ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ به من الدين الحنيفي السهل السمح. وجاء في الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السمحة». -[261]- وقوله تعالى: {بنا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أَيْ مِنَ التَّكْلِيفِ وَالْمَصَائِبِ وَالْبَلَاءِ لَا تَبْتَلِينَا بِمَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ، وَقَدْ قَالَ مكحول في قوله: {رَبَّنَا لوا تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قَالَ: العزبة والغلمة. وقوله تعالى: {وَاعْفُ

3 - سورة آل عمران

- 3 - سورة آل عمران

[مقدمة] صدرها إلى ثلاث وثمانين آية منها نزل فِي (وَفْدِ نَجْرَانَ)، وَكَانَ قُدُومُهُمْ فِي سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ عند تفسير آية المباهلة منها إن شاء الله تعالى. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا وَرَدَ فِي فَضْلِهَا مَعَ سورة البقرة (أول سورة البقرة) فارجع إليه هناك.

بسم الله الرحمن الرحيم

- 1 - الم - 2 - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ - 3 - نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ - 4 - مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتقام قد ذَكَرْنَا الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي أَنَّ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، {الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} في تفسير آية الكرسي. وقد تقدم الكلام على قوله: {الم} فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعادته، وتقدم الكلام على قوله: {الله لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} يَعْنِي نَزَّلَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ يَا مُحَمَّدُ بِالْحَقِّ، أَيْ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا رَيْبَ بَلْ هو منزل من عند الله، أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ، وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً. وَقَوْلُهُ: {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أَيْ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى عِبَادِ الله والأنبياء، فَهِيَ تُصَدِّقُهُ بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ وَبَشَّرَتْ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَهُوَ يُصَدِّقُهَا لِأَنَّهُ طَابَقَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ وَبَشَّرَتْ مِنَ الْوَعْدِ مِنَ اللَّهِ بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: {وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ} أَيْ على موسى بن عمران، {والإنجيل} أي على عيسى بن مريم عليهما

السلام، {مِن قَبْلُ} أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ {هُدًى لِّلنَّاسِ}: أَيْ فِي زَمَانِهِمَا، {وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ}: وَهُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، بِمَا يَذْكُرُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الحجج والبينات والدلائل والوضحات، وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَاتِ، وَيُبَيِّنُهُ وَيُوَضِّحُهُ وَيُفَسِّرُهُ وَيُقَرِّرُهُ وَيُرْشِدُ إِلَيْهِ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ والربيع: الفرقان ههنا القرآن، واختار ابن جرير أنه مصدر ههنا لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق} وهو القرآن. وأما ما روي عن أبي صالح: أن المراد بالفرقان ههنا التوراة، فضعيف أيضاً، لتقدم ذكر التوراة، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ} أَيْ جَحَدُوا بِهَا وَأَنْكَرُوهَا وَرَدُّوهَا بِالْبَاطِلِ، {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} أَيْ مَنِيعُ الْجَنَابِ عَظِيمُ السُّلْطَانِ، {ذُو انْتِقَامٍ}: أَيْ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ وَخَالَفَ رُسُلَهُ الْكِرَامَ وَأَنْبِيَاءَهُ الْعِظَامَ.

- 5 - إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ - 6 - هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَمُ غيب السماء والأرض لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ} أَيْ يخلقكم في الأرحام كما يشاء مِّن ذَكَرٍ وأنثى، وحسن وَقَبِيحٍ، وَشَقِيٍّ وَسَعِيدٍ، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أَيْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْإِلَهِيَّةِ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَهُ الْعِزَّةُ الَّتِي لَا تُرَامُ، وَالْحِكْمَةُ وَالْأَحْكَامُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا تَعْرِيضٌ بَلْ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ كَمَا خَلَقَ اللَّهُ سَائِرَ البشر، لأن الله صَوَّرَهُ فِي الرَّحِمِ وَخَلَقَهُ كَمَا يَشَاءُ، فَكَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا كَمَا زَعَمَتْهُ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ!! وَقَدْ تَقَلَّبَ فِي الْأَحْشَاءِ وَتَنَقَّلَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ!؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ}.

- 7 - هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أولوا الْأَلْبَابِ - 8 - رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ - 9 - رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ {هنَّ أُمِّ الْكِتَابِ} أَيْ بَيِّنَاتٌ وَاضِحَاتُ الدلالة لا التباس فيها على أحد، وَمِنْهُ آيَاتٌ أُخَرُ فِيهَا اشْتِبَاهٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَوْ بَعْضِهِمْ، فَمَنْ رد ما اشتبه إِلَى الْوَاضِحِ مِنْهُ وحكَّم مُحْكَمَهُ عَلَى مُتَشَابِهِهِ عِنْدَهُ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ عَكَسَ انْعَكَسَ، وَلِهَذَا قال تعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أَيْ أَصْلُهُ

الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أَيْ تَحْتَمِلُ دَلَالَتُهَا مُوَافَقَةَ الْمُحْكَمِ، وَقَدْ تَحْتَمِلُ شَيْئًا آخَرَ مِنْ حَيْثُ اللفظُ والتركيبُ لَا مِنْ حَيْثُ الْمُرَادِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُحْكَمِ والمتشابه، فقال ابن عباس: المحكمات ناسخة وحلاله وحرامه وحدوده وأحكامه وما يؤمر به ويعمل به. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: الْفَرَائِضُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ والحلال والحرام، وقال سعيد بن جبير: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} لِأَنَّهُنَّ مَكْتُوبَاتٌ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ، وقال مقاتل: لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ أَهْلِ دِينٍ إِلَّا يَرْضَى بهن. وقيل في المتشابهات: المنسوخة والمقدم وَالْمُؤَخَّرُ وَالْأَمْثَالُ فِيهِ وَالْأَقْسَامُ وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ ولا يعمل به، روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: هِيَ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وعن مجاهد: المتشابهات يصدق بعضها بَعْضًا وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} هُنَاكَ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُتَشَابِهَ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يَكُونُ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَالْمَثَانِي هُوَ الْكَلَامُ فِي شَيْئَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ كَصِفَةِ الْجَنَّةِ وَصِفَةِ النَّارِ، وذكر حال الأبرار وحال الفجّار ونحو ذلك، وأما ها هنا فَالْمُتَشَابِهُ هُوَ الَّذِي يُقَابِلُ الْمُحْكَمَ، وَأَحْسَنُ مَا قيل فيه هو الذي قدمنا، وهو الذي نص عليه ابن يَسَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قَالَ: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل، لَيْسَ لَهُنَّ تَصْرِيفٌ وَلَا تَحْرِيفٌ عَمَّا وُضِعْنَ عليه، قال: والمتشابهات في الصدق ليس لَهُنَّ تَصْرِيفٌ وَتَحْرِيفٌ وَتَأْوِيلٌ، ابْتَلَى اللَّهُ فِيهِنَّ الْعِبَادَ كَمَا ابْتَلَاهُمْ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَلَّا يَصْرِفْنَ إِلَى الْبَاطِلِ وَلَا يُحَرِّفْنَ عَنِ الْحَقِّ. ولهذا قال الله تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أَيْ ضَلَالٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أَيْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ المتشابه الَّذِي يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُحَرِّفُوهُ إِلَى مَقَاصِدِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَيُنْزِلُوهُ عَلَيْهَا لِاحْتِمَالِ لَفْظِهِ لِمَا يَصْرِفُونَهُ. فَأَمَّا الْمُحْكَمُ فَلَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهِ لِأَنَّهُ دَامِغٌ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال الله تعالى: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أَيِ الْإِضْلَالِ لِأَتْبَاعِهِمْ، إِيهَامًا لَهُمْ أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، كَمَا لَوِ احْتَجَّ النَّصَارَى بِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَطَقَ بِأَنَّ عِيسَى روح اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وتركوا الإحجاج بقول: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عبدُ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ}، وبقول: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُ خَلْقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ، وَعَبْدٌ وَرَسُولٌ مِنْ رسل الله. وقوله تعالى: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أَيْ تَحْرِيفِهِ عَلَى مَا يُرِيدُونَ، وقال مقاتل والسدي: يبتغون أن يعلمون مَا يَكُونُ وَمَا عَوَاقِبُ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْقُرْآنِ، وقد قال الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} إلى قوله: {أولو الألباب} فقال: «إذا رأتيتم الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ فاحذروهم». وقد روى هذا الحديث البخاري عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ مِنْ صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَّةِ من سننه ثلاثتهم عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ التاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «فإذا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الذين سمَّى الله فاحذروهم». وروى أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} قَالَ: «هُمُ الْخَوَارِجُ»، وفي قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتسود وجوه} قال: «هم الخوارج»، وهذا الحديث

أَقَلُّ أَقْسَامِهِ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا مِنْ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ فَإِنَّ أَوَّلَ بِدْعَةٍ وَقَعَتْ فِي الْإِسْلَامِ فِتْنَةُ الْخَوَارِجِ، وَكَانَ مَبْدَؤُهُمْ بِسَبَبِ الدنيا حين قسم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (غَنَائِمَ حُنَيْنٍ) فَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا - فِي عُقُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ - أَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ في القسمة ففاجأوه بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ وَهُوَ (ذُو الْخُوَيْصِرَةِ) - بَقَرَ اللَّهُ خَاصِرَتَهُ - اعْدِلْ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ. إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ، أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي»! فَلَمَّا قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب فِي قَتْلِهِ، فَقَالَ: «دَعْهُ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضئضىء هَذَا - أَيْ مِنْ جِنْسِهِ - قَوْمٌ يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صلاته مع صلاتهم، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ». ثُمَّ كَانَ ظُهُورُهُمْ أَيَّامَ (عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَتْلُهُمْ بِالنَّهْرَوَانِ، ثُمَّ تَشَعَّبَتْ مِنْهُمْ شُعُوبٌ وَقَبَائِلُ وَآرَاءٌ وَأَهْوَاءٌ وَمَقَالَاتٌ ونِحل كَثِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ، ثُمَّ انبعثت الْقَدَرِيَّةُ، ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةُ، ثُمَّ الْجَهْمِيَّةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: «وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً»، قالو: ومن يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَنْ كَانَ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مستدركه بهذه الزيادة. وروى الحافظ أبو يعلى، عن حذيفة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ذكر: «أن في أمتي قوماً يقرؤون القرآن ينثرونه نثر الدَّقل (أردأ التمر) يتأولونه على غير تأويله». وقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ في الوقف ههنا، فَقِيلَ عَلَى الْجَلَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ، فَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ فِي فَهْمِهِ، وَتَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ لُغَاتِهَا، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ لِيُكَذِّبَ بَعْضُهُ بَعْضًا فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا تَشَابَهَ منه فآمنوا به»، وقال عبد الرزاق: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ آمَنَّا بِهِ) وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز ومالك ابن أنَس أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: (إنْ تأويله إلاا عند الله والراسخون في العلم يقولن آمنا به) وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يقف على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} وَتَبِعَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ الْأُصُولِ، وَقَالُوا الْخِطَابُ بِمَا لَا يُفْهَمُ بعيد، وقد روى مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا من الراسخين الذي يعلمون تأويله، وقال مُجَاهِدٍ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس، وقال مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ الَّذِي أَرَادَ مَا أَرَادَ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، ثُمَّ ردوا تأويل المتشابهات عَلَى مَا عَرَفُوا مِنْ تَأْوِيلِ الْمُحْكَمَةِ الَّتِي لَا تَأْوِيلَ لِأَحَدٍ فِيهَا إِلَّا تَأْوِيلٌ وَاحِدٌ، فَاتَّسَقَ بِقَوْلِهِمُ الْكِتَابُ وَصَدَّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا فَنَفَذَتِ الْحُجَّةُ، وَظَهَرَ بِهِ الْعُذْرُ وَزَاحَ بِهِ الْبَاطِلُ وَدُفِعَ بِهِ الْكُفْرُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ». وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَصَّلَ فِي هَذَا المقام وقال: التأويل يطلق ويراد به في لقرآن مَعْنَيَانِ، أَحَدُهُمَا: التَّأْوِيلُ بِمَعْنَى حَقِيقَةِ الشَّيْءِ وَمَا يؤول أمره إليه؛ ومنه قوله تعالى:

{وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قبل}، وَقَوْلُهُ: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} أَيْ حَقِيقَةُ مَا أُخْبَرُوا بِهِ مِنَ أَمْرِ الْمَعَادِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ هَذَا فَالْوَقْفُ عَلَى الْجَلَالَةِ؛ لِأَنَّ حَقَائِقَ الْأُمُورِ وَكُنْهَهَا لَا يَعْلَمُهُ عَلَى الْجَلِيَّةِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَيَكُونُ قَوْلُهُ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مُبْتَدَأً وَ {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} خَبَرَهُ. وَأَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ المعنى الآخر: وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله: {نَبِّئْنَا بتأويله} أَيْ بِتَفْسِيرِهِ، فَإِنَّ أُرِيدَ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى فالوقف على {والراسخون في العلم} لأنهم يعلون وَيَفْهَمُونَ مَا خُوطِبُوا بِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ لَمْ يُحِيطُوا عِلْمًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كُنْهِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} حَالًا مِنْهُمْ، وَسَاغَ هَذَا وإن يَكُونَ مِنَ الْمَعْطُوفِ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ - إلى قوله - يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لنا ولإخواننا} الآية، وقوله تعالى: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صفاً صفاً} أي وجاء الملائكة صفوفاً صفوفاً. وقوله تعالى - إِخْبَارًا عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ أَيْ المتاشبه {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} أَيْ الْجَمِيعُ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُصَدِّقُ الْآخَرَ وَيَشْهَدُ لَهُ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بمختلف ولا متضاد، كقوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فيه اختلافاً كبيراً}، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الْأَلْبَابِ} أَيْ إِنَّمَا يَفْهَمُ وَيَعْقِلُ وَيَتَدَبَّرُ الْمَعَانِيَ عَلَى وَجْهِهَا أُولُو الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالْفُهُومِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وقد قال ابن أبي حاتم بسنده: حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ - وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَسا وأبا أمامة وأبا الدَّرْدَاءِ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ فَقَالَ: «مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَ قَلْبُهُ، ومن عف بطنه وفرجه، فذلك من الراسخون في العلم»، وقال الإمام أحمد بسنده: سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوماً يتدارؤن، فَقَالَ: «إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا؛ ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَ كِتَابُ اللَّهِ لِيُصَدِّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا فَلَا تُكَذِّبُوا بعذه ببعض. فما علمتم منه فقولوا به، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أحرف، والمراء في القرآن كفر - قالها ثَلَاثًا - مَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فردوه إلى عالمه جل جلاله» (رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده) وقال ابن المنذر في تفسيره عن نافع بن يزيد قال: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الْمُتَوَاضِعُونَ لِلَّهِ الْمُتَذَلِّلُونَ لِلَّهِ في مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحقرون من دونهم. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ مُخْبِرًا أَنَّهُمْ دَعَوْا رَبَّهُمْ قَائِلِينَ: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} أَيْ لَا تُمِلها عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ أَقَمْتَهَا عَلَيْهِ، وَلَا تَجْعَلْنَا كَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ ثَبِّتْنَا عَلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ، ودينك القويم. {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً} تُثَبِّتُ بِهَا قُلُوبَنَا، وَتَجْمَعُ بِهَا شَمْلَنَا، وَتَزِيدُنَا بِهَا إِيمَانًا وَإِيقَانًا {إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} عن أم سلمة أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، ثُمَّ قَرَأَ: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} (رواه ابن أبي حاتم عن أم سلمة) وعن أم سلمة، عن أسماء بنت يزيد بن السكن، سمعتها تحدِّث أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان يكثر من دعائه: «اللهم

مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، قَالَتْ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ الْقَلْبَ لَيَتَقَلَّبُ؟ قَالَ: «نَعَمْ، مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ بَشَرٍ إِلَّا أَنَّ قَلْبَهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شاء أزاغه» (رواه ابن مردويه وابن جرير). قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تُعَلِّمُنِي دَعْوَةً أدعو به لنفسي، قال: "بلى، قولي: اللهم رب محمد النبي اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرين من مضلات الفتن". وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مَا يَدْعُو: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَا تَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ، فَقَالَ: "لَيْسَ مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنُ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ إِذَا شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ، وَإِذَا شَاءَ أن يزيغه أزاغه. أما تسمعي قَوْلَهُ: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} " (رواه ابن مردويه، قال ابن كثير: وأصله في الصحيحين) وعن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: «لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبي، واسألك رحمتك، اللَّهُمَّ زِدْنِي عِلْمًا، وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي، وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً. إِنَّكَ أَنتَ الوهاب» (رواه أبو داود والنسائي) وقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} أي يقولون من دُعَائِهِمْ إِنَّكَ يَا رَبَّنَا سَتَجْمَعُ بَيْنَ خَلْقِكَ يَوْمَ مَعَادِهِمْ، وَتَفْصِلُ بَيْنَهُمْ وَتَحْكُمُ فِيهِمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَتَجْزِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.

- 10 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ - 11 - كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شديد العقاب يخبر تعالى عن الكفّار بأنهم وَقُودُ النَّارِ: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سوء الدار}، وَلَيْسَ مَا أُوتُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ بِنَافِعٍ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا بِمُنْجِيهِمْ من عذابه وأليم عقابه، كما قال تعالى: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون}. وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَادِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} وقال ههنا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَخَالَفُوا كِتَابَهُ، وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِوَحْيِهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ: {لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} أَيْ حَطَبُهَا الَّذِي تُسْجَرُ بِهِ وَتُوقَدُ بِهِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جهنم} الآية. وعن أُمِّ الْفَضْلِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ: "هَلْ بَلَّغْتَ؟ يَقُولُهَا ثَلَاثًا، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - وَكَانَ أوَّاهاً - فَقَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، وَحَرَصْتَ وَجَهِدْتَ، وَنَصَحْتَ فَاصْبِرْ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيَظْهَرَنَّ الْإِيمَانُ حَتَّى يَرُدَّ الْكُفْرَ إِلَى مَوَاطِنِهِ، وَلِيَخُوضُنَّ رِجَالٌ الْبِحَارَ بِالْإِسْلَامِ، وَلِيَأْتِيَنَّ

على الناس زمان يقرؤون القرآن فيقرؤونه وَيَعْلَمُونَهُ، فَيَقُولُونَ قَدْ قَرَأْنَا وَقَدْ عَلِمْنَا فَمَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنَّا؟ فَمَا فِي أُولَئِكَ مِنْ خَيْرٍ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فمن أولئك؟ قال: «أولئك منكم، أولئك هم وقود النار» (رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه) وقوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: كَصَنِيعِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَكَذَا رُوِيَ عن عكرمة ومجاهد والضحَّاك وَغَيْرِ وَاحِدٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: كَسُنَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَكَفِعْلِ آلِ فِرْعَوْنَ وَكَشَبَهِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَالْأَلْفَاظُ مُتَقَارِبَةٌ والدَّأب - بِالتَّسْكِينِ وَالتَّحْرِيكِ أَيْضًا كنَهَر ونَهْر - هو الصنيع والحال والشأن وَالْأَمْرُ وَالْعَادَةُ، كَمَا يُقَالُ: لَا يَزَالُ هَذَا دأبي ودأبك، وقال امرؤ القيس: كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا * وَجَارَتِهَا أَمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ وَالْمَعْنَى كَعَادَتِكَ فِي أُمِّ الْحُوَيْرِثِ حِينَ أهلكتَ نَفْسَكَ فِي حُبِّهَا وَبَكَيْتَ دَارَهَا وَرَسْمَهَا! وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: إنَّ الْكَافِرِينَ لَا تغني عنهم الأموال ولا الأولاد، بَلْ يَهْلَكُونَ وَيُعَذَّبُونَ كَمَا جَرَى لِآلِ فِرْعَوْنَ ومن قبلهم من المكذبين للرسل فيما جاؤوا به مِنْ آيَاتِ الله وحججه: {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أَيْ شَدِيدُ الْأَخْذِ، أَلِيمُ الْعَذَابِ، لَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ أَحَدٌ، وَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، بَلْ هُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ الَّذِي قد غلب كُلُّ شَيْءٍ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سواه.

- 12 - قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ - 13 - قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الْأَبْصَارِ يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكَافِرِينَ {سَتُغْلَبُونَ} أَيْ فِي الدُّنْيَا، {وَتُحْشَرُونَ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ. وقد ذكر محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَصَابَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ مَا أَصَابَ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَمَعَ الْيَهُودَ فِي سُوقِ (بني قينقاع) وقال: «يا معشر اليهود أسلموا قبل أَن يُصِيبَكُمُ الله بما أَصَابَ قُرَيْشًا» فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ لَا يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنْ قَتَلْتَ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ كانوا أغمارً لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ، إِنَّكَ وَاللَّهِ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مثلنا فأنزل الله في ذلك من قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} إِلَى قَوْلِهِ: {لَعِبْرَةً لأُوْلِي الْأَبْصَارِ} (أخرجه محمد بن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس) وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} أَيْ قَدْ كَانَ لَكُمْ أَيُّهَا الْيَهُودُ الْقَائِلُونَ مَا قُلْتُمْ آيَةً، أَيْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُعِزٌّ دِينَهُ، وَنَاصِرٌ رَسُولَهُ، وَمُظْهِرٌ كَلِمَتَهُ، ومعلن أَمْرَهُ {فِي فِئَتَيْنِ} أَيْ طَائِفَتَيْنِ {الْتَقَتَا} أَيْ للقتال، {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} وَهْمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَوْلُهُ: {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين}، قال بعض العلماء: يرى المشكون يَوْمَ بَدْرٍ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْهِمْ فِي الْعَدَدِ

رَأْيَ أَعْيُنِهِمْ، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِيمَا رأوه سبباً لنصرة الإسلام عليهم، وذا لَا إِشْكَالَ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَعَثُوا (عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ) يومئذ قبل القتال يحزر لهم المسليمن، فأخبرهم بأنهم ثلثمائة يَزِيدُونَ قليلاُ أَوْ يَنْقُصُونَ قَلِيلًا، وَهَكَذَا كَانَ الأمر، كانوا ثلثمائةة وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، ثُمَّ لَمَّا وَقْعَ الْقِتَالُ أَمَدَّهُمُ اللَّهُ بِأَلْفٍ مِنْ خَوَاصِّ الْمَلَائِكَةِ وَسَادَاتِهِمْ. والقول الثاني: أن المعنى في قوله تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين} أي يرى الفئة المسلمة الفئة الكافرة {مِّثْلَيْهِمْ} أي ضعفهم فِي الْعَدَدِ وَمَعَ هَذَا نَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى هَذَا فَيُشْكَلُ هَذَا الْقَوْلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لَكِنْ وجَّه ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا وَجَعْلَهُ صَحِيحًا. كَمَا تَقُولُ: عِنْدِي أَلْفٌ وَأَنَا مُحْتَاجٌ إِلَى مِثْلَيْهَا، وَتَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ كَذَا قَالَ. وَعَلَى هَذَا فَلَا إِشْكَالَ، لَكِنْ بَقِيَ سُؤَالٌ آخَرُ وَهُوَ وَارِدٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ بَدْرٍ: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} فالجواب: إن هذا كان في حالة، والآخر كان في حالة أخرى، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} الآية. قال: هذا يوم بدر، وَقَدْ نَظَرْنَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَرَأَيْنَاهُمْ يُضْعَفُونَ عَلَيْنَا. ثُمَّ نَظَرْنَا إِلَيْهِمْ فَمَا رَأَيْنَاهُمْ يَزِيدُونَ عَلَيْنَا رَجُلًا وَاحِدًا. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أعينهم} الآية. وقال أبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود: لَقَدْ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ إِلَى جَانِبِي: تَرَاهُمْ سَبْعِينَ! قَالَ: أَرَاهُمْ مِائَةً، قال: فأسرنا رجالً مِنْهُمْ فَقُلْنَا: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَلْفَا، فَعِنْدَمَا عاين كل من الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَ رَأَى الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْهِمْ، أَيْ أَكْثَرُ مِنْهُمْ بِالضِّعْفِ لِيَتَوَكَّلُوا وَيَتَوَجَّهُوا، وَيَطْلُبُوا الْإِعَانَةَ مِنْ رَبِّهِمْ عزَّ وجلَّ، وَرَأَى الْمُشْرِكُونَ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ لِيَحْصُلَ لَهُمُ الرُّعْبُ وَالْخَوْفُ وَالْجَزَعُ وَالْهَلَعُ. ثُمَّ لَمَّا حَصَلَ التَّصَافُّ وَالْتَقَى الْفَرِيقَانِ قَلَّلَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ فِي أَعْيُنِ هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ فِي أعين هؤلاء ليقدم كل منهمها عَلَى الْآخَرِ: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولًا} أَيْ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَيُظْهِرَ كَلِمَةَ الإيمان على الكفر والطغيان، ويعزُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُذِلَّ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}، وقال ههنا: {والله يؤيد بنصر مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الْأَبْصَارِ} أَيْ: إن في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن له بصيرة وفهم ليهتدي بِهِ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَأَفْعَالِهِ، وَقَدَرِهِ الْجَارِي بِنَصْرِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ

- 14 - زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ - 15 - قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا زُيِّنَ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَلَاذِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينِ، فَبَدَأَ بِالنِّسَاءِ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ

بِهِنَّ أَشَدُّ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ بهن الإعفاف وكثر الْأَوْلَادِ، فَهَذَا مَطْلُوبٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، كَمَا وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِالتَّرْغِيبِ فِي التَّزْوِيجِ وَالِاسْتِكْثَارِ منه، وأن خير هذه الأمة من كان أكثرها نساء، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، إِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سرَّته، وَإِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ غاب عنها حفظته في نفسها وماله» (أخرجه النسائي وروى بعضه مسلم في صحيحه) وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاءُ والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة». وحبُّ الْبَنِينَ تَارَةً يَكُونُ لِلتَّفَاخُرِ وَالزِّينَةِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا، وَتَارَةً يَكُونُ لِتَكْثِيرِ النَّسْلِ وَتَكْثِيرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَهَذَا مَحْمُودٌ مَمْدُوحٌ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَحُبُّ الْمَالِ كَذَلِكَ، تَارَةً يَكُونُ لِلْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالتَّكَبُّرِ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَالتَّجَبُّرِ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَهَذَا مَذْمُومٌ، وَتَارَةً يَكُونُ لِلنَّفَقَةِ فِي الْقُرُبَاتِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْقَرَابَاتِ وَوُجُوهِ الْبِرِّ وَالطَّاعَاتِ فهذا ممدوح محمود شَرْعًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مِقْدَارِ الْقِنْطَارِ على أقول، وحاصلها: أنه المال الجزيل كما قال الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: أَلْفُ دِينَارٍ، وَقِيلَ: أَلْفٌ وَمِائَتَا دِينَارٍ، وَقِيلَ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: أربعون ألفاً، وقيل: ستون ألفاً، وقيل غير ذلك. وَحُبُّ الْخَيْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: تَارَةً يَكُونُ ربطها أصحابها معدة لسبيل الله مَتَى احْتَاجُوا إِلَيْهَا غَزَوْا عَلَيْهَا، فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ. وتارة تربط فخراً ونِواء (مفاخرة ومعارضة) لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَهَذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا وِزْرٌ. وَتَارَةً لِلتَّعَفُّفِ وَاقْتِنَاءِ نَسْلِهَا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا فَهَذِهِ لِصَاحِبِهَا سِتْرٌ، كَمَا سَيَأْتِي الْحَدِيثُ بِذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ قوله تعالى: {وأعدوه لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الخيل} الآية، وَأَمَّا الْمُسَوَّمَةِ: فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما المسومة الراعية، والمطهمة الحسان، قال مَكْحُولٌ: الْمُسَوَّمَةُ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وقوله تعالى: {وَالْأَنْعَامِ} يَعْنِي الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ، {وَالْحَرْثِ} يَعْنِي الارض المتخذة للغراس والزراعة: وقال الإمام أحمد عَنْ سُوَيْدِ بْنِ هُبَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خير مال امرىء لَهُ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ، أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ» الْمَأْمُورَةُ الْكَثِيرَةُ النَّسْلِ، وَالسِّكَّةُ النَّخْلُ الْمُصْطَفُّ، وَالْمَأْبُورَةُ الْمُلَقَّحَةُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ إِنَّمَا هَذَا زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا الْفَانِيَةُ الزَّائِلَةُ، {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} أَيْ حسن المرجع والثواب، قال عمر بن الخطاب: لما نزلت {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} قُلْتُ: الْآنَ يَا رَبِّ حِينَ زَيَّنْتَهَا لَنَا، فَنَزَلَتْ: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا} الآية، ولهذا قال تعالى: {قل أؤنبيئكم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ} أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ للناس أؤخبركم بِخَيْرٍ مِمَّا زُيِّنَ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، مِنْ زَهْرَتِهَا وَنَعِيمِهَا الَّذِي هُوَ زَائِلٌ لا محالة؟ ثم أخبر عن ذلك فقالك {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ تَنْخَرِقُ بَيْنَ جَوَانِبِهَا وَأَرْجَائِهَا الْأَنْهَارُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ مِنَ الْعَسَلِ وَاللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَالْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدَ الْآبَادِ لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، {وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} أَيْ مِنَ الدَّنَسِ وَالْخَبَثِ وَالْأَذَى وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَرِي نِسَاءَ

الدُّنْيَا {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ} أَيْ يَحِلُّ عَلَيْهِمْ رِضْوَانُهُ فَلَا يَسْخَطُ عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ أَبَدًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي فِي براءة {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أكبرْ أَيْ أَعْظَمُ مِمَّا أَعْطَاهُمْ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} أَيْ يُعْطِي كُلًّا بِحَسْبِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعَطَاءِ.

- 16 - الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ - 17 - الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ والمنفقين والمستغفرين بالأسحار يصف تبارك وتعالى عِبَادَهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ وَعَدَهُمُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ فَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا} أَيْ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرَسُولِكَ، {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} أَيْ بِإِيمَانِنَا بِكَ وَبِمَا شَرَعْتَهُ لَنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذنوبنا بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ثُمَّ قَالَ تعالى: {الصَّابِرِينَ} أَيْ فِي قِيَامِهِمْ بِالطَّاعَاتِ وَتَرْكِهِمُ الْمُحَرَّمَاتِ، {وَالصَّادِقِينَ} فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ إِيمَانِهِمْ بِمَا يلتزمونه من لأعمال الشَّاقَّةِ، {وَالْقَانِتِينَ} وَالْقُنُوتُ: الطَّاعَةُ وَالْخُضُوعُ، {وَالْمُنْفِقِينَ} أَيْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي جَمِيعِ مَا أُمِرُوا بِهِ من الطاعات، وصلة الأرحام والقرابات، وَسَدِّ الخِّلات، وَمُوَاسَاةِ ذَوِي الْحَاجَاتِ، {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} دَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ الِاسْتِغْفَارِ وَقْتَ الْأَسْحَارِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ لبينه: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي} أَنَّهُ أَخَّرَهُمْ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كل ليلة إلى السماء الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ له؟ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ أَوَّلِهِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ، فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ يَقُولُ: يَا نَافِعُ هَلْ جَاءَ السَّحَرُ؟ فَإِذَا قَالَ: نَعَمْ، أَقْبَلَ عَلَى الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ حَتَّى يُصْبِحَ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ) وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا فِي السَّحَرِ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ وهو يقول: يا رب أمرتني فأطعتك، وهذا السحر فاغفر لي، فنظرت فإذا هو ابن مسعود رضي الله عنه، وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا نُؤْمَرُ إِذَا صَلَّيْنَا مِنَ اللَّيْلِ أَنْ نَسْتَغْفِرَ فِي آخِرِ السحر سبعين مرة (رواه ابن مردويه)

- 18 - شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - 19 - إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ - 20 - فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ

شَهِدَ تَعَالَى وَكَفَى بِهِ شَهِيدًا وَهُوَ أَصْدَقُ الشَّاهِدِينَ وَأَعْدَلُهُمْ وَأَصْدَقُ الْقَائِلِينَ {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أي المنفرد بِالْإِلَهِيَّةِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ، وَأَنَّ الْجَمِيعَ عَبِيدُهُ وَخَلْقُهُ وفقراء إِلَيْهِ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ} الآية، ثُمَّ قَرَنَ شَهَادَةَ مَلَائِكَتِهِ وَأُولِي الْعِلْمِ بِشَهَادَتِهِ فَقَالَ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هو والملائكة وألو الْعِلْمِ}، وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. {قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَهُوَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ كَذَلِكَ. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} تَأْكِيدٌ لِمَا سَبَقَ، {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُرَامُ جَنَابُهُ عَظَمَةً وَكِبْرِيَاءً {الْحَكِيمُ} في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. عن الزبير بن العوام قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِعَرَفَةَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: {شَهِدَ اللَّهُ إِنَّهُ لاَ إله إلا هو والملائكة وأول الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العزيز الحكيم}، ثم قال: وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ يَا رَبِّ (رواه أحمد وابن أبي حاتم) وعن غَالِبٌ الْقَطَّانُ قَالَ: أَتَيْتُ الْكُوفَةَ فِي تِجَارَةٍ فَنَزَلْتُ قَرِيبًا مِنَ الْأَعْمَشِ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةٌ أَرَدْتُ أَنْ أَنْحَدِرَ، قَامَ فَتَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {شَهِدَ اللَّهُ إِنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} ثُمَّ قَالَ الْأَعْمَشُ: وَأَنَا أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ وَأَسْتَوْدِعُ اللَّهَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لِي عِنْدَ اللَّهِ وَدِيعَةٌ {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} قَالَهَا مِرَارًا. قُلْتُ: لَقَدْ سَمِعَ فِيهَا شَيْئًا، فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ فَوَدَّعْتُهُ ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنِّي سَمِعْتُكَ تُرَدِّدُ هَذِهِ الْآيَةَ، قَالَ: أَوَمَا بَلَغَكَ مَا فِيهَا؟ قُلْتُ: أَنَا عِنْدَكَ مُنْذُ شَهْرٍ لَمْ تُحَدِّثْنِي! قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُحَدِّثُكَ بِهَا إِلَى سَنَةٍ؛ فَأَقَمْتُ سَنَةً فَكُنْتُ عَلَى بَابِهِ، فَلَمَّا مَضَتِ السَّنَةُ، قُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَدْ مَضَتِ السَّنَةُ. قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: عَبْدِي عَهِدَ إِلَيَّ، وَأَنَا أَحَقُّ من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة" (رواه الطبراني في الكبير) وقوله تعالى: {إن الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} إخبار منه تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا دِينَ عِنْدَهُ يَقْبَلُهُ مِنْ أَحَدٍ سِوَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الرُّسُلِ فِيمَا بَعَثَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ، حَتَّى خُتِمُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي سَدَّ جَمِيعَ الطُّرُقِ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ لَقِيَ الله بعد بعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِينٍ عَلَى غَيْرِ شَرِيعَتِهِ فَلَيْسَ بِمُتَقَبَّلٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} الآية، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُخْبِرًا بِانْحِصَارِ الدِّينِ المتقبل منه عِنْدَهُ فِي الإِسلام: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسلام} ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ الأول إنما اختلفوا بعد ما قامت عليه الحجة بإرسلا الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} أَيْ بَغَى بعضهم على بعض، فاختلفوا في الحق بتحاسدهم وَتَبَاغُضُهِمْ وَتَدَابُرِهِمْ، فَحَمَلَ بَعْضَهُمْ بُغْضُ الْبَعْضِ الْآخَرِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَإِنْ كانت حقاً، ثُمَّ قال تعالى: {ومن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله} أي من جحد ما أنزل الله في كتابه {فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} أي فَإِنَّ اللَّهَ سَيُجَازِيهِ عَلَى ذَلِكَ وَيُحَاسِبُهُ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَيُعَاقِبُهُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ كِتَابَهُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإنْ حَآجُّوكَ} أَيْ جَادَلُوكَ فِي التَّوْحِيدِ، {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} أَيْ فَقُلْ أَخْلَصْتُ عِبَادَتِي لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلاَ ندَّ لَهُ، وَلَا وَلَدَ لَهُ وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ. {وَمَنِ اتبعن} أي عَلَى دِينِي، يَقُولُ كَمَقَالَتِي كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني} الآية، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى طَرِيقَتِهِ وَدِينِهِ وَالدُّخُولِ فِي شَرْعِهِ وَمَا بَعَثَهُ الله به إلى الكتابيين من المليين؟؟ والأميين من المشركين، فقال تَعَالَى: {وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} أَيْ وَاللَّهُ عَلَيْهِ حِسَابُهُمْ وَإِلَيْهِ مَرْجِعُهُمْ وَمَآبُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ. وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الضَّلَالَةَ وَهُوَ الَّذِي {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} وما ذلك إلا لحمكته وَرَحْمَتِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا مَنْ أَصْرَحِ الدَّلَالَاتِ عَلَى عُمُومِ بِعْثَتِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِهِ ضَرُورَةً، وَكَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ والسنَّة فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ وَحَدِيثٍ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إليكم جميعاً} وَقَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا ثَبَتَ تَوَاتُرُهُ بِالْوَقَائِعِ المتعددة أنه صلى الله عليه وسلم بعث كتبه يَدْعُو إِلَى اللَّهِ مُلُوكَ الْآفَاقِ وَطَوَائِفَ بَنِي آدَمَ مِنْ عَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، كِتَابِيِّهِمْ وَأُمِّيِّهِمْ امْتِثَالًا لأمر الله له بذلك، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، وَمَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ عن أبي هريرة) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ إِلَى الأحمر والأسود» وقال: «كان النبي بعث إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» (أخرجاه في الصحيحين) وروى الإمام أَحْمَدَ، عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ غُلَامًا يَهُودِيًّا كَانَ يَضَعُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضُوءَهُ وَيُنَاوِلُهُ نَعْلَيْهِ، فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَأَبُوهُ قَاعِدٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا فُلَانُ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ فَسَكَتَ أَبُوهُ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ، فَقَالَ أَبُوهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ الْغُلَامُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَخَرَجَ النَّبَيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِي مِنَ النَّارِ» (أخرجه البخاري وأحمد)

- 21 - إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - 22 - أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ هَذَا ذَمٌّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الكتاب، بما ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، الَّتِي بلَّغتهم إِيَّاهَا الرُّسُلُ اسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ، وَعِنَادًا لَهُمْ وَتَعَاظُمًا عَلَى الْحَقِّ وَاسْتِنْكَافًا عَنِ اتِّبَاعِهِ، وَمَعَ هَذَا قَتَلُوا مَنْ قتلوا

مِنَ النَّبِيِّينَ حِينَ بَلَّغُوهُمْ عَنِ اللَّهِ شَرْعَهُ، بغير سبب ولا جريمة منهم إليهم إِلَيْهِمْ إِلَّا لِكَوْنِهِمْ دَعَوْهُمْ إِلَى الْحَقِّ {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} وَهَذَا هُوَ غاية الكبر. عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أي النَّاسِ أَشَدُّ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا، أَوْ مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ» ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا عُبَيْدَةَ قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ في ساعة واحد، فَقَامَ مِائَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ فقتلوهم جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فهم الذين ذكر اللَّهِ عزَّ وجلَّ» (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وابن جرير) وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَمِائَةِ نَبِيٍّ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَأَقَامُوا سُوقَ بَقْلِهِمْ مِنْ آخره، وَلِهَذَا لَمَّا أَنْ تَكَبَّرُوا عَنِ الْحَقِّ وَاسْتَكْبَرُوا عَلَى الْخَلْقِ قَابَلَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِالذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابِ الْمُهِينِ فِي الْآخِرَةِ، فقال تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٌ} أَيْ مُوجِعٍ مُهِينٍ {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ}.

- 23 - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ - 24 - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ - 25 - فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ينكر الله تعالى عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الْمُتَمَسِّكِينَ فِيمَا يَزْعُمُونَ بِكِتَابَيْهِمُ اللذين بأيديهم، وهما (التوراة والإنجيل) إِذَا دُعُوا إِلَى التَّحَاكُمِ إِلَى مَا فِيهِمَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِيهِمَا مِنَ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُمَا، وَهَذَا فِي غَايَةِ مَا يكون من ذمهم التنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد، ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} أَيْ إِنَّمَا حَمَلَهُمْ وَجَرَّأَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ الْحَقِّ افْتِرَاؤُهُمْ عَلَى اللَّهِ فِيمَا ادَّعَوْهُ لِأَنْفُسِهِمْ، أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ عَنْ كُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ فِي الدُّنْيَا يَوْمًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثم قال تعالى: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أَيْ ثَبَّتَهُمْ عَلَى دِينِهِمُ الْبَاطِلِ مَا خَدَعُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّ النَّارَ لَا تَمَسُّهُمْ بذنوبهم إلا أياماً معدودات، وهم اللذن افتروا هذا من تلقاء أنفسهم، واختلقوه وَلَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَهَدِّدًا لَهُمْ وَمُتَوَعِّدًا: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ}، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ وَقَدِ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُ وَالْعُلَمَاءَ مِنْ قَوْمِهِمْ، الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ!! وَاللَّهُ تَعَالَى سَائِلُهُمْ عَنْ ذلك كله وحاكم عليهم ومجازيهم به، ولهذا قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ}؟ أَيْ: لَا شَكَّ فِي وُقُوعِهِ وَكَوْنِهِ، {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}

- 26 - قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 27 - تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بغير حساب يقول تبارك وتعالى: {قل} يا محمد معظماً لربك وشاكراً له ومفوضاً إليه ومتوكلاً عليه {اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} أَيْ لَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ، {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ}: أَيْ أَنْتَ الْمُعْطِي وَأَنْتَ الْمَانِعُ، وَأَنْتَ الَّذِي مَا شِئْتَ كَانَ وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ وَإِرْشَادٌ إِلَى شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تعالى حَوَّلَ النُّبُوَّةَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى النَّبِيِّ العربي القرشي خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَرَسُولِ اللَّهِ إِلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، الَّذِي جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ مَحَاسِنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وخصَّه بِخَصَائِصَ لَمْ يُعْطِهَا نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا رَسُولًا مِنَ الرُّسُلِ، فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَشَرِيعَتِهِ وَإِطْلَاعِهِ على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه له عَنْ حَقَائِقِ الْآخِرَةِ، وَنَشْرِ أُمَّتِهِ فِي الْآفَاقِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَإِظْهَارِ دِينِهِ وَشَرْعِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ وَالشَّرَائِعِ فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ مَا تَعَاقَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الملك} الآية، أَيْ: أَنْتَ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِكَ الْفَعَّالُ لِمَا تريد، كما رد تعالى على من يحكم عَلَيْهِ فِي أَمْرِهِ حَيْثُ قَالَ: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}، قال الله رداً عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رحمة ربك}؟ الآية: نحن نتصرف فيما خَلْقِنَا كَمَا نُرِيدُ، بِلَا مُمَانِعٍ وَلَا مُدَافِعٍ، ولنا الحكمة البالغة والحجة التامة في ذلك، وهكذا يعطي النبوة لمن يريد، كما قال تعالى: {والله أعلم حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وَقَالَ تَعَالَى {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية. وقوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أَيْ تَأْخُذُ مِنْ طُولِ هَذَا فَتَزِيدُهُ فِي قِصَرِ هَذَا فَيَعْتَدِلَانِ، ثُمَّ تَأْخُذُ مِنْ هَذَا فِي هَذَا فَيَتَفَاوَتَانِ ثُمَّ يَعْتَدِلَانِ، وَهَكَذَا فِي فُصُولِ السَّنَةِ رَبِيعًا وَصَيْفًا وَخَرِيفًا وَشِتَاءً. وقوله تعالى: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الحي} أي تخرج الزرع من الحب، والحب من الزرع، وَالنَّخْلَةَ مِنَ النَّوَاةِ وَالنَّوَاةَ مِنَ النَّخْلَةِ، وَالْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَالدَّجَاجَةَ مِنَ الْبَيْضَةِ وَالْبَيْضَةَ مِنَ الدَّجَاجَةِ، وَمَا جَرَى هَذَا المجرى من جميع الأشياء: {ترزق مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أَيْ تُعْطِي مَنْ شِئْتَ مِنَ الْمَالِ مَا لَا يَعُدُّهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِحْصَائِهِ، وَتَقْتُرُ عَلَى آخَرِينَ لِمَا لَكَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ. عن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ آلِ عِمْرَانَ {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير}» (أخرجه الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً)

- 28 - لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن

تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى الله المصير نهى تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُوَالُوا الْكَافِرِينَ، وَأَنْ يَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ يُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ مِن دُونِ المؤمنين، ثم توعدهم على ذلك فقال تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك ليس من الله في شَيْءٍ} أي ومن يرتكب نهي الله من هذا فقد برىء مِنَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ - إِلَى أَنْ قَالَ - وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سلطاناً مبيناً}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ، وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} الآية. وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}، أَيْ إِلَّا من خاف في بعض البلدان والأوقات مِنْ شَرِّهِمْ، فَلَهُ أَنْ يَتَّقِيَهُمْ بِظَاهِرِهِ لَا بباطنه ونيته، كما قال الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا تَلْعَنُهُمْ». وَقَالَ الثوري، قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، ويؤيده قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} الآية. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أَيْ يحذركم نقمته في مخالفته وسطوته، وعذابه والى أعدءه وَعَادَى أَوْلِيَاءَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِلَى اللَّهِ المصير} أي إليه المرجع والمنقلب ليجازى كل عامل بعمله.

- 29 - قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 30 - يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ يُخْبِرُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِبَادَهُ أَنَّهُ يَعْلَمُ السَّرَائِرَ وَالضَّمَائِرَ وَالظَّوَاهِرَ، وَأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ، بَلْ عَلِمُهُ مُحِيطٌ بِهِمْ فِي سائر الأحوال والأزمان، والأيام واللحظات وجميع الأوقات، وجميع مَّا فِي الأرض والسموات، لَا يَغِيبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَالْبِحَارِ والجبال، {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وقدرته نَافِذَةٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ مِنْهُ لعباده على خوفه وخشيته، لئلا يَرْتَكِبُوا مَا نَهَى عَنْهُ وَمَا يَبْغَضُهُ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أُمُورِهِمْ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَإِنْ أَنظَرَ مَنْ أَنْظَرَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يُمْهِلُ ثُمَّ يَأْخُذُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} الْآيَةَ، يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْضُرُ لِلْعَبْدِ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} فَمَا رَأَى مِنْ أَعْمَالِهِ حَسَنًا سَرَّهُ ذَلِكَ وأفرحه، وما رأى من قبيح ساءه وغصَّه، وودَّ لَوْ أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ وَأَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَمَدٌ بَعِيدٌ، كَمَا يَقُولُ لِشَيْطَانِهِ الَّذِي كان مقرونا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الَّذِي جَرَّأَهُ عَلَى فِعْلِ السُّوءِ: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين فَبِئْسَ القرين}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُؤَكِّدًا وَمُهَدِّدًا وَمُتَوَعِّدًا: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أَيْ يُخَوِّفُكُمْ عِقَابَهُ، ثُمَّ قَالَ جل

جلاله مُرْجِيًا لِعِبَادِهِ لِئَلَّا يَيْأَسُوا مَنْ رَحْمَتِهِ وَيَقْنَطُوا من لطفه: {والله رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ حَذَّرَهُمْ نَفْسَهُ وَقَالَ غَيْرُهُ: أَيْ رَحِيمٌ بِخَلْقِهِ يُحِبُّ لَهُمْ أَنْ يَسْتَقِيمُوا عَلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ وَدِينِهِ الْقَوِيمِ، وَأَنْ يَتَّبِعُوا رَسُولَهُ الْكَرِيمَ.

- 31 - قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ - 32 - قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ حَاكِمَةٌ عَلَى كُلِّ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، حَتَّى يَتَّبِعَ الشَّرْعَ الْمُحَمَّدِيَّ وَالدِّينَ النَّبَوِيَّ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وأفعاله، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»، ولهذا قال: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} أَيْ يَحْصُلُ لَكُمْ فَوْقَ مَا طَلَبْتُمْ مِنْ مَحَبَّتِكُمْ إِيَّاهُ، وَهُوَ مَحَبَّتُهُ إِيَّاكُمْ وَهُوَ أَعْظَمُ من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء: لَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ تُحِب إِنَّمَا الشَّأْنُ أَنْ تُحَب، وقال الحسن البصري: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت، قالت رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "هَلْ الدين إلا الحب في الله والبغض في الله؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني} (رواه ابن أبي حاتم عن عائشة مرفوعاً وفي سنده ضعف. ثم قال تعالى: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أَيْ باتباعكم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَحْصُلُ لَكُمْ هَذَا من بركة سفارته، ثم قال تعالى آمِرًا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ خَاصٍّ وَعَامٍّ: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ} أي تخالفوا عَنْ أَمْرِهِ، {فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَتَهُ فِي الطَّرِيقَةِ كُفْرٌ، وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ، وَإِنِ ادعى وزعم في نفسه أنه محب لِلَّهِ وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ، حَتَّى يُتَابِعَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ خَاتَمَ الرُّسُلِ، وَرَسُولَ اللَّهِ إِلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، الَّذِي لَوْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ بل المرسولن بل أولو العزم منهم في زمانه ما وَسِعَهُمْ إِلَّا اتِّبَاعُهُ، وَالدُّخُولُ فِي طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعُ شريعته، كما سيأتي تقريره عند قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين} الآية، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

- 33 - إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ - 34 - ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ اخْتَارَ هَذِهِ الْبُيُوتَ عَلَى سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَاصْطَفَى {آدَمَ} عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلَقَهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَهْبَطَهُ مِنْهَا لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ -[278]- الْحِكْمَةِ وَاصْطَفَى {نُوحًا} عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَعَلَهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، لَمَّا عَبَدَ النَّاسُ الأوثان وأشركوا بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانَا، وَانْتَقَمَ لَهُ لَمَّا طَالَتْ مُدَّتُهُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا وَجِهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا فِرَارًا فَدَعَا عَلَيْهِمْ فَأَغْرَقَهُمُ الله عن آخرهم، لم يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى دِينِهِ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ، وَاصْطَفَى {آلَ إِبْرَاهِيمَ} ومنهم سيد البشر خاتم الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، و {آل عِمْرَانَ} وَالْمُرَادُ بِعِمْرَانَ هَذَا هُوَ وَالِدُ مَرْيَمَ بنت عمران أم عيسى بن مريم عليه السَّلَامُ، فَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إِنْ شاء الله تعالى:

- 35 - إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - 36 - فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ امرأة عمران هذه هي أم مريم عَلَيْهَا السَّلَامُ وَهِيَ (حَنَّةُ بِنْتُ فَاقُوذَ)، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَكَانَتِ امْرَأَةً لَا تَحْمِلُ فَرَأَتْ يَوْمًا طَائِرًا يَزُقُّ فَرْخَهُ، فَاشْتَهَتِ الْوَلَدَ فدعت الله تعالى أَنْ يَهَبَهَا وَلَدًا، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهَا فَوَاقَعَهَا زوجها فحملت منه، فلما تحققت الحمل نذرت أَنْ يَكُونَ مُحَرَّرًا، أَيْ خَالِصًا مُفَرَّغًا لِلْعِبَادَةِ لخدمة بيت المقدس، فقالت: يارب {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيْ السَّمِيعُ لِدُعَائِي الْعَلِيمُ بِنِيَّتِي، وَلَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ مَا فِي بَطْنِهَا أَذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} أَيْ فِي الْقُوَّةِ، وَالْجَلَدِ فِي الْعِبَادَةِ، وَخِدْمَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} فيه دليل عَلَى جَوَازِ التَّسْمِيَةِ يَوْمَ الْوِلَادَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ لِأَنَّهُ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَقَدْ حُكِيَ مُقَرَّرًا وَبِذَلِكَ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: «ولد لي الليلة ولد سميته بامس أَبِي إِبْرَاهِيمَ» أَخْرَجَاهُ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِيهِمَا أَنَّ أنَس بن مالك ذهب بأبيه حِينَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَنَّكَهُ وَسَمَّاهُ (عَبْدَ اللَّهِ) وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رسول الله ولد لي الليلة ولد فما أسميه؟ قال: «سم ابنك عبد الرحمن» فَأَمَّا حَدِيثُ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «كل غلام مرتهن بعقيقته يذبح عنه يوم السابع وَيُسَمَّى وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ» فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السنن وصححه الترمذي. وقوله تعالى إِخْبَارًا عَنْ أُمِّ مَرْيَمَ أَنَّهَا قَالَتْ: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} أَيْ عَوَّذَتْهَا بِاللَّهِ عزَّ وجلَّ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، وَعَوَّذَتْ ذُرِّيَّتَهَا وَهُوَ وَلَدُهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فاستجاب الله لها ذلك. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا مَسَّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّهِ إِيَّاهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (أخرجه البخاري ومسلم)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَقَدْ عَصَرَهُ الشَّيْطَانُ عَصْرَةً أَوْ عَصْرَتَيْنِ إِلَّا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَمَرْيَمَ»، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} (أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً)

- 37 - فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حساب يخبر ربنا تعالى أَنَّهُ تَقَبَّلَهَا مِنْ أُمِّهَا نَذِيرَةً، وَأَنَّهُ أَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا أَيْ جَعَلَهَا شَكْلًا مَلِيحًا وَمَنْظَرًا بَهِيجًا، وَيَسَّرَ لَهَا أَسْبَابَ الْقَبُولِ، وَقَرَنَهَا بِالصَّالِحِينَ من عباده، تتعلم منهم العلم والخير والدين، فلهذا قال: {وكفَّلها زَكَرِيَّا} بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَنَصْبِ زَكَرِيَّا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَيْ جَعْلَهُ كَافِلًا لَهَا، قَالَ ابْنُ إسحاق: وما ذلك إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ يَتِيمَةً، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَصَابَتْهُمْ سَنَةُ جَدْبٍ فَكَفَلَ زَكَرِيَّا مَرْيَمَ لِذَلِكَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَاللَّهُ أعلم، وإنما قدر الله كون زكريا كفلها لسعادتها، لتقتبس منه علماً جماً وَعَمَلًا صَالِحًا، وَلِأَنَّهُ كَانَ زَوْجَ خَالَتِهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا، وَقِيلَ: زَوْجُ أُخْتِهَا كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ:: «فَإِذَا بِيَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ» وَقَدْ يُطْلِقُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ ذَلِكَ أَيْضًا تَوَسُّعًا، فَعَلَى هَذَا كَانَتْ فِي حَضَانَةِ خالتها، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي (عِمَارَةَ بِنْتِ حَمْزَةَ) أَنْ تَكُونَ فِي حَضَانَةِ خَالَتِهَا امْرَأَةِ (جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) وَقَالَ: «الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأم» ثم أخبر تعالى عن سيادتها وجلادتها فِي مَحَلِّ عِبَادَتِهَا فَقَالَ: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً}، قَالَ مُجَاهِدٌ وعكرمة والسدي: يَعْنِي وَجَدَ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} أي علماً وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَفِي السُّنَّةِ لِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ، فَإِذَا رَأَى زكريا هذا هندها {قال يا مريم أى لَكِ هَذَا} أَيْ يَقُولُ مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا؟ {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ أَيَّامًا لَمْ يَطْعَمْ طَعَامًا، حتى شقّ عَلَيْهِ، فَطَافَ فِي مَنَازِلِ أَزْوَاجِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ شَيْئًا، فَأَتَى فَاطِمَةَ فَقَالَ: «يَا بُنَيَّةُ هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ آكُلُهُ فَإِنِّي جائع؟» قالت: لَا وَاللَّهِ - بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي - فَلَمَّا خَرَجَ من عندها بعث إِلَيْهَا جَارَةٌ لَهَا بِرَغِيفَيْنِ وَقِطْعَةِ لَحْمٍ، فَأَخَذَتْهُ مِنْهَا فَوَضَعَتْهُ فِي جَفْنَةٍ لَهَا وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَأُوثِرَنَّ بِهَذَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على نفسي ومن عندي، وكانوا جمعاً مُحْتَاجِينَ إِلَى شِبْعَةِ طَعَامٍ، فَبَعَثَتْ حَسَنًا - أَوْ حُسَيْنًا - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فرجع إليها، فقالت: بأبي أن وأمي قد أتى الله بشيء فخبأتيه لَكَ، قَالَ: «هَلُمِّي يَا بُنِّيَّةُ»، قَالَتْ: فَأَتَيْتُهُ بالجفنة فكشفت عنها فَإِذَا هِيَ مَمْلُوءَةٌ خُبْزًا وَلَحْمًا، فَلَمَّا نَظَرَتْ إليها بهتُ وَعَرَفَتْ أَنَّهَا بَرَكَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَحَمِدَتِ اللَّهَ وصليت عَلَى نَبِيِّهِ، وَقَدَّمَتْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآهُ حَمِدَ اللَّهَ، وَقَالَ: «مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا يَا بُنَيَّةُ» قالت: يَا أَبَتِ {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فَحَمِدَ اللَّهَ، وَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَكِ يَا بُنَيَّةُ شَبِيهَةً بِسَيِّدَةِ نِسَاءِ بَنْيِ إِسْرَائِيلَ فَإِنَّهَا كانت إذا رزقها الله شيئاً وسئلت عنه

قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَلِيٍّ ثُمَّ أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَكَلَ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ، وَجَمِيعُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَهْلُ بيته حتى شبعوا جميعاً. قالت: وبقيت الجفنة كما هي. قالت: فَأَوْسَعَتْ بِبَقِيَّتِهَا عَلَى جَمِيعِ الْجِيرَانِ، وَجَعَلَ اللَّهُ فيها بركة وخيراً كثيراً (رواه الحافظ أبو يعلى عن جابر بن عبد الله)

- 38 - هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ - 39 - فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ - 40 - قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ - 41 - قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ لَمَّا رَأَى زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ إن الله يَرْزُقُ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، طَمِعَ حِينَئِذٍ في الولد، وإن كان شيخاً كبيراً قد وهن منه العظم، واشتعل الرأس شَيْباً، وكانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقراً، ولكنه مَعَ هَذَا كُلِّهِ سَأَلَ رَبَّهُ وَنَادَاهُ نِدَاءً خَفِيًّا، وَقَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ} أَيْ مِنْ عِنْدِكَ {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} أَيْ وَلَدًا صالحاً {إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء} قال تَعَالَى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} أَيْ خَاطَبَتْهُ الْمَلَائِكَةُ شِفَاهًا خِطَابًا أَسْمَعَتْهُ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِحْرَابِ عِبَادَتِهِ، وَمَحَلِّ خلوته ومجلس مناجاته وصلاته، ثم أخبر تعالى عَمَّا بَشَّرَتْهُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى} أي يولد يُوجَدُ لَكَ مِنْ صُلْبِكَ اسْمُهُ يَحْيَى. قَالَ قتادة: إنما سمي يحيى لأن الله أَحْيَاهُ بِالْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} روى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله} أي بعيسى بن مريم، وقال الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ بعيسى بن مَرْيَمَ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ يحيى وعيسى ابني خالى، وَكَانَتْ أَمُّ يَحْيَى تَقُولُ لِمَرْيَمَ: إِنِّي أَجِدُ الَّذِي فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِلَّذِي فِي بَطْنِكِ فذلك تَصْدِيقُهُ لَهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ عِيسَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ عِيسَى، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَكَذَا قَالَ السدي أيضاً. وقوله تعالى: {وَسَيِّداً} قال أبو العالية حليماً، وَقَالَ قَتَادَةُ: سَيِّدًا فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، وَقَالَ ابن عباس: السيد الحليم التقي، وقال ابن الْمُسَيَّبِ: هُوَ الْفَقِيهُ الْعَالِمُ، وَقَالَ عَطِيَّةُ: السَّيِّدُ في خُلُقه ودينه، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الشَّرِيفُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْكَرِيمُ عَلَى اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ. وَقَوْلُهُ تعالى: {وَحَصُوراً} رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ ومجاهد أنهم قالوا: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أنَس: هُوَ الَّذِي لَا يُولَدُ له ولا ماء له، وعن عبد الله بن عمروا بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: لَيْسَ

أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَا يَلْقَاهُ بِذَنْبٍ غَيْرَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، ثُمَّ قَرَأَ سَعِيدٌ {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} ثُمَّ أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ فقال: الحصور من كان ذكره مثل ذا. وَقَدْ قَالَ «الْقَاضِي عِيَاضٌ» فِي كِتَابِهِ «الشِّفَاءِ» اعْلَمْ أَنَّ ثَنَاءَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى يَحْيَى أَنَّهُ كَانَ حَصُوراً لَيْسَ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ كَانَ هَيُّوبًا، أَوْ لَا ذَكَر لَهُ، بَلْ قَدْ أَنْكَرَ هَذَا حذَاق الْمُفَسِّرِينَ، وَنُقَّادُ العلماء، وقالوا: هذه نقيصة وعيب لا يليق بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَعْصُومٌ من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصور عَنْهَا، وَقِيلَ: مَانِعًا نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَقِيلَ: لَيْسَتْ لَهُ شَهْوَةٌ فِي النِّسَاءِ، وَقَدْ بَانَ لَكَ مِنْ هَذَا أَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ عَلَى النِّكَاحِ نَقْصٌ، وَإِنَّمَا الْفَضْلُ فِي كَوْنِهَا مَوْجُودَةً ثم يمنعها، إِمَّا بِمُجَاهَدَةٍ كَعِيسَى، أَوْ بِكِفَايَةٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَيَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ هِيَ في حق من قدر عَلَيْهَا - وَقَامَ بِالْوَاجِبِ فِيهَا، وَلَمْ تَشْغَلْهُ عَنْ ربه - درجة عليا، وهي درجة نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَمْ يَشْغَلْهُ كَثْرَتُهُنَّ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، بَلْ زَادَهُ ذَلِكَ عبادة بتحصينهن، وقيامه عليهن وإكسابه لَهُنَّ وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُنَّ، بَلْ قَدْ صَرَّحَ أَنَّهَا ليست من حظوط دُنْيَاهُ هُوَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُظُوظِ دُنْيَا غيره فقال: «حبب إليّ من دنياكم» (انظر الشفاء للقاضي عياض فهو كتاب جليل ونفيس) هذا لفظه والمقصود أنه مدح ليحيى بِأَنَّهُ حَصُورٌ لَيْسَ أَنَّهُ لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، بَلْ مَعْنَاهُ كَمَا قَالَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ معصوم من الْفَوَاحِشِ وَالْقَاذُورَاتِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ تَزْوِيجِهِ بِالنِّسَاءِ الْحَلَالِ وَغَشَيَانِهِنَّ وَإِيلَادِهِنَّ، بَلْ قَدْ يُفْهَمُ وُجُودُ النَّسْلِ لَهُ مِنْ دُعَاءِ زَكَرِيَّا الْمُتَقَدِّمِ حَيْثُ قَالَ: {هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} كَأَنَّهُ قَالَ وَلَدًا لَهُ ذُرِّيَّةٌ وَنَسْلٌ وعقب، والله سبحانه وتعالى أعلم. قوله تعالى: {وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} هَذِهِ بِشَارَةٌ ثَانِيَةٌ بِنُبُوَّةِ يَحْيَى بَعْدَ الْبِشَارَةِ بِوِلَادَتِهِ، وَهِيَ أَعْلَى مِنَ الأولى، كقوله لِأُمِّ مُوسَى: {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} فَلَمَّا تَحَقَّقَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْبِشَارَةَ أَخَذَ يَتَعَجَّبُ مِنْ وُجُودِ الْوَلَدِ مِنْهُ بَعْدَ الْكِبَرِ، {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ}: أَيِ الْمَلَكُ، {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} أَيْ هَكَذَا أَمْرُ اللَّهِ عَظِيمٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وَلَا يَتَعَاظَمُهُ أَمْرٌ، {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أَيْ عَلَامَةً أَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى وُجُودِ الْوَلَدِ مِنِّي، {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلى رَمْزاً} أَيْ إِشَارَةً لَا تَسْتَطِيعُ النُّطْقَ مَعَ أَنَّكَ سَوِيٌّ صَحِيحٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} ثم أمره بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحال، فقال تعالى: {واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار}.

- 42 - وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ - 43 - يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ - 44 - ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا خَاطَبَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَدِ اصْطَفَاهَا، أَيِ اخْتَارَهَا لِكَثْرَةِ عِبَادَتِهَا وَزَهَادَتِهَا، وَشَرَفِهَا وطهارتها من الأكدار والوساوس، واصطفاها ثانياً

مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لِجَلَالَتِهَا عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ، عن رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ، وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بِنْتُ عمران بعيراً قط» (رواه عبد الرزاق عن أبي هريرة وأخرجه مسلم بنحوه) وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وخير نسائها خديجة بنت خوليد» (رواه الشيخان عن علي بن أبي طالب) وعن أنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أربع، مريم بن عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وفاطمة بنت رسول الله» (رواه ابن بمردويه عن أنَس بن مالك) وفي الْبُخَارِيِّ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطعام» ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ أَمَرُوهَا بكثرة العبادة والخشوع الركوع والسجود، والدأب في العمل لما يريد الله بِهَا مِن الأمر الذي قدره الله وَقَضَاهُ، مِمَّا فِيهِ مِحْنَةٌ لَهَا وَرِفْعَةٌ فِي الدراين، بما أظهر الله فِيهَا مِنْ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ، حَيْثُ خَلَقَ مِنْهَا ولداً من غير أب، فقال تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} أَمَّا الْقُنُوتُ فَهُوَ الطَّاعَةُ فِي خُشُوعٍ، كما قال تعالى: {وَلَهُ مَن فِي السموات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ تَقُومُ حَتَّى تَتَوَرَّمَ كَعْبَاهَا، وَالْقُنُوتُ هُوَ طُولُ الرُّكُوعِ في الصلاة، يعني امتثالاً لقول الله تعالى: {يا مريم اقنتي لِرَبِّكِ} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي اعْبُدِي لِرَبِّكِ {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الراكعين} أي كوني منهم، ثم قال لرسوله بَعْدَمَا أَطْلَعَهُ عَلَى جَلِيَّةِ الْأَمْرِ: {ذَلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ} أَيْ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ، {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي ما كنا عندهم يا محمد، فتخبرهم عن مُعَايِنَةً عَمَّا جَرَى، بَلْ أَطْلَعَكَ اللَّهُ عَلَى ذلك كأنك حاضر وشاهد لِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، حِينَ اقْتَرَعُوا فِي شأن مريم أيهم يكفلها وذلك رغبتهم في الأجر. قال ابن جرير عن عكرمة: ثم خرجت أم مريم بها، يعني بمريم فِي خِرَقِهَا إِلَى بَنِي الْكَاهِنِ بْنِ هَارُونَ أخي موسى عليهما السلام - وهم يومئذٍ يلون من بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَا يَلِي الْحَجَبَةُ مِنَ الْكَعْبَةِ - فَقَالَتْ لَهُمْ: دُونَكُمْ هَذِهِ النَّذِيرَةُ فَإِنِّي حَرَّرْتُهَا، وهي أنثى ولا يدخل الْكَنِيسَةَ حَائِضٌ، وَأَنَا لَا أَرُدُّهَا إِلَى بَيْتِي، فَقَالُوا: هَذِهِ ابْنَةُ إِمَامِنَا - وَكَانَ عِمْرَانُ يَؤُمُّهُمْ فِي الصَّلَاةِ - وَصَاحِبُ قُرْبَانِنَا فَقَالَ زَكَرِيَّا: ادْفَعُوهَا لي فَإِنَّ خَالَتَهَا تَحْتِي، فَقَالُوا: لَا تَطِيبُ أَنْفُسُنَا، هي ابنة إمامنا، فذلك حين اقتروعوا عليها بأقلامهم الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ، فَقَرَعَهُمْ زَكَرِيَّا فَكَفَلَهَا. وقد ذكر عكرمة والسدي وقتادة أنهم ذهبوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك إلى ان يلقوا أقلامهم فأيهم يثبت في جرية الماء فهو كافلها، فألقوا أقالامهم فاحتملها الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت ويقال: إنه ذهب صاعداً يَشُقُّ جَرْيَةَ الْمَاءِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ كَبِيرُهُمْ وَسَيِّدُهُمْ وَعَالِمُهُمْ وَإِمَامُهُمْ وَنَبِيُّهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه وعلى سائر النبيين.

- 45 - إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ

الْمُقَرَّبِينَ - 46 - وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ - 47 - قَالَتْ رَبِّ إِنِّي يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ هَذِهِ بِشَارَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لمريم عليها السلام، بأنه سَيُوجَدُ مِنْهَا وَلَدٌ عَظِيمٌ لَهُ شَأْنٌ كَبِيرٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} أَيْ بِوَلَدٍ يَكُونُ وُجُودُهُ بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ، أَيْ يقول لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَهَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله} كَمَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} أَيْ يَكُونُ مشهوراً فِي الدُّنْيَا يَعْرِفُهُ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ، وَسُمِّيَ الْمَسِيحُ - قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ -: لِكَثْرَةِ سِيَاحَتِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كان مسيح القدمين لَا أَخْمَصَ لَهُمَا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا مسح أحداً من ذوي العاهات برىء بإذن الله تعالى. وقوله تعالى: {عيسى ابن مريم} نسبة إِلَى أُمِّهِ حَيْثُ لَا أَبَ لَهُ، {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} أَيْ لَهُ وَجَاهَةٌ وَمَكَانَةٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا بِمَا يوحيه الله إليه من الشريعة، وينزله عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا مَنَحَهُ الله بِهِ، وَفِي الدَّارِ الْآخِرَةِ يَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ فِيمَنْ يَأْذَنُ لَهُ فِيهِ، فَيَقْبَلُ مِنْهُ أُسْوَةً بإخوانه من أولي العزم صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَقَوْلُهُ: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً} أَيْ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ في حال صغره، معجزة وآية، وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه: {وَمِنَ الصَّالِحِينَ} أَيْ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ لَهُ علم صحيح وعمل صالح. وقال ابن أبي حاتم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إلا ثلاث، عِيسَى وَصَبِيٌّ كَانَ فِي زَمَنِ جُرَيْجٍ، وَصَبِيٌّ آخَرُ» فَلَمَّا سَمِعَتْ بِشَارَةَ الْمَلَائِكَةِ لَهَا بِذَلِكَ عَنِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ، قَالَتْ فِي مُنَاجَاتِهَا: {أنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}؟ تَقُولُ: كَيْفَ يُوجَدُ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي وَأَنَا لَسْتُ بِذَاتِ زَوْجٍ، وَلَا مِنْ عَزْمِي أَنْ أتزوج، ولست بغياً حاش لِلَّهِ!! فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ عَنِ اللَّهِ عزَّ وجل في جواب ذلك السؤال {كذلك الله يخلف مَا يَشَآءُ} أَيْ هَكَذَا أمرُ اللَّهِ عَظِيمٌ، لا يعجزه شيء، وصرح ههنا بقوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ}، وَلَمْ يَقُلْ يَفْعَلُ كَمَا فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا، بل نص ههنا على أنه يخلق لئلا يبقى لمبطل شبهة، وأكذ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ له من فَيَكُونُ} أَيْ فَلَا يَتَأَخَّرُ شَيْئًا، بَلْ يُوجَدُ عقيب الأمر بلا مهلة كقوله: و {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} أي إنما نأمر مرة احدة لَا مَثْنَوِيَّةَ فِيهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ سَرِيعًا كلمح البصر.

- 48 - وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ - 49 - وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ - 50 - وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ

وَأَطِيعُونِ - 51 - إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبِّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَمَامِ بِشَارَةِ الْمَلَائِكَةِ لِمَرْيَمَ بِابْنِهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّ اللَّهَ يعلمِّه الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، الظَّاهِرُ أَنَّ المراد بالكتاب ههنا الكتابة، والحكمة تقدم تَفْسِيرِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. فَالتَّوْرَاةُ هو الكتاب الذي أنزل على موسى بن عمران، والإنجيل الذي أنزل على عيسى بن مريم عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يحفظ هذا. وقوله: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} قَائِلًا لَهُمْ: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ: يُصَوِّرُ مِنَ الطِّينِ شَكْلَ طَيْرٍ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَطِيرُ عِيَانًا بِإِذْنِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ الَّذِي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله، {وَأُبْرِىءُ الأكمه} قيل: الْأَعْشَى، وَقِيلَ: الْأَعْمَشُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى، وَهُوَ أَشْبَهُ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمُعْجِزَةِ وأقوى في التحدي {والأبرص} معروف، {أحيي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أَهْلَ زَمَانِهِ، فَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى زَمَانِ مُوسَى عليه اسلام السِّحْرُ وَتَعْظِيمُ السَّحَرَةِ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ بِمُعْجِزَةٍ بَهَرَتِ الْأَبْصَارَ وَحَيَّرَتْ كُلَّ سحَّار، فَلَمَّا اسْتَيْقَنُوا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ الْعَظِيمِ الْجَبَّارِ، انْقَادُوا لِلْإِسْلَامِ وَصَارُوا من عباد الله الْأَبْرَارِ، وَأَمَّا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَبُعِثَ فِي زَمَنِ الْأَطِبَّاءِ وَأَصْحَابِ عِلْمِ الطَّبِيعَةِ، فَجَاءَهُمْ مِنَ الآيات بما لا سبيل أحد إليه أن أَنْ يَكُونَ مُؤَيَّدًا مِنَ الَّذِي شرَّع الشَّرِيعَةَ، فَمِنْ أَيْنَ لِلطَّبِيبِ قُدْرَةٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْجَمَادِ، أَوْ عَلَى مُدَاوَاةِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وبعثِ مَنْ هُوَ فِي قَبْرِهِ رهينٌ إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ؟ وكذلك محمد بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاويد الشُّعَرَاءِ، فَأَتَاهُمْ بِكِتَابٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فلو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتبوا بِمِثْلِهِ، أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ مِثْلِهِ، أَوْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَبَدًا وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أن كلام الرب عزَّ وجلَّ لا يشبه كلام الخلق أبداً. وقوله تعالى: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي يوتكم} أَيْ أُخْبِرُكُمْ بِمَا أَكَلَ أَحَدُكُمُ الْآنَ، وَمَا هو مدخر له في بيته لغد إِنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، {لآيَةً لَّكُمْ} أَيْ عَلَى صِدْقِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يديَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} أَيْ مقرراً لها ومثبتاً، {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّم عَلَيْكُمْ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَسَخَ بَعْضَ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: لَمْ يَنْسَخْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَحَلَّ لَهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا يتنازعون فيه، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أَيْ بِحُجَّةٍ وَدَلَالَةٍ عَلَى صِدْقِي فِيمَا أَقُولُهُ لَكُمْ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبِّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} أَيْ أَنَا وَأَنْتُمْ سَوَاءٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَالْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ إِلَيْهِ {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}.

- 52 - فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ - 53 - رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ - 54 - وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ

الْمَاكِرِينَ يَقُولُ تَعَالَى: {فَلَمَّآ أحسَّ عِيسَى} أَيِ اسْتَشْعَرَ مِنْهُمُ التَّصْمِيمَ عَلَى الْكُفْرِ وَالِاسْتِمْرَارَ عَلَى الضَّلَالِ، قَالَ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}؟ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ مَنْ يَتْبَعُنِي إِلَى اللَّهِ، وَقَالَ سفيان الثوري: أي مَنْ أَنْصَارِي مَعَ اللَّهِ، وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ أَقْرَبُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ أَنْصَارِي فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ قَبْلَ أن يهاجر: «من رجل يؤويني حتى أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي» حَتَّى وَجَدَ الْأَنْصَارَ فآووه ونصروه، وهاجر إليهم فواسوه ومنعوه من الأسود والأحمر، رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وأرضاهم. وهكذا عيسى بن مريم عليه السلام انْتَدَبَ لَهُ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَآمَنُوا به ووازروه وَنَصَرُوهُ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، وَلِهَذَا قال الله تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ، آمَنَّا بِاللَّهِ، وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}، الْحَوَارِيُّونَ قِيلَ: كَانُوا قَصَّارِينَ، وَقِيلَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِبَيَاضِ ثِيَابِهِمْ، وَقِيلَ: صَيَّادِينَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَوَارِيَّ: النَّاصِرُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لما نَدَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ ندبهم فانتدب الزبير رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكل نبي حواريّ، وحواريَّ الزبير». عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} قَالَ: مَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِيمَا هَمُّوا بِهِ مِنَ الْفَتْكِ بِعِيسَى عليه السلام وإرادته بالسوء والصلب، حين تمالؤا عَلَيْهِ وَوَشَوْا بِهِ إِلَى مَلِكِ ذَلِكَ الزَّمَانِ - وكان كافراً - أن هنا رَجُلًا يُضِلُّ النَّاسَ، وَيَصُدُّهُمْ عَنْ طَاعَةِ الْمَلِكِ، ويفسد الرَّعَايَا، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَبِ وَابْنِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا تَقَلَّدُوهُ فِي رِقَابِهِمْ، وَرَمَوْهُ بِهِ من الكذب، وأنه ولد زنية، حَتَّى اسْتَثَارُوا غَضَبَ الْمَلِكِ فَبَعَثَ فِي طَلَبِهِ مَنْ يَأْخُذُهُ وَيَصْلُبُهُ وَيُنَكِّلُ بِهِ، فَلَمَّا أَحَاطُوا بَمَنْزِلِهِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ظَفِرُوا بِهِ نَجَّاهُ الله تعالى مِنْ بَيْنِهِمْ، وَرَفَعَهُ مِنْ رَوْزَنَةِ ذَلِكَ الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَلْقَى اللَّهُ شَبَهَهُ عَلَى رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ عِنْدَهُ فِي الْمَنْزِلِ، فَلَمَّا دَخَلَ أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل {عيسى} فأخذوه وأهانوه ووصلبوه وَوَضَعُوا عَلَى رَأْسِهِ الشَّوْكَ وَكَانَ هَذَا مِنْ مَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ، فَإِنَّهُ نَجَّى نَبِيَّهُ وَرَفَعَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ يَعْمَهُونَ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ قَدْ ظَفِرُوا بِطَلَبَتِهِمْ، وَأَسْكَنَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ قَسْوَةً وَعِنَادًا لِلْحَقِّ مُلَازِمًا لَهُمْ، وَأَوْرَثَهُمْ ذِلَّةً لَا تُفَارِقُهُمْ إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الماكرين}.

- 55 - إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ - 56 - فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ - 57 - وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ - 58 - ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ

اختلف المفسرون في قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}، فقال قتادة: هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ تَقْدِيرُهُ إِنِّي رَافِعُكَ إليّ ومتوفيك، يعني بعد ذلك. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُمِيتُكَ، وَقَالَ وهب بن منبه: توفاه الله ثلاث ساعات من أول النهار حين رفعه إليه، قال مطر الوراق: إني مُتَوَفِّيكَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَيْسَ بِوَفَاةِ مَوْتٍ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: تَوَفِّيهِ هُوَ رَفْعُهُ. وَقَالَ الأكثرون: المراد بالوفاة ههنا النَّوْمُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي منامها} الآية، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا قَامَ مِنَ النَّوْمِ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أحيانا بعد ما أماتنا» الحديث. وعن الحسن أنه قال في قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} يَعْنِي وَفَاةَ الْمَنَامِ: رَفَعَهُ اللَّهُ في منامه. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ بِرَفْعِي إِيَّاكَ إِلَى السَّمَاءِ، {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَهَكَذَا وَقَعَ فَإِنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ، تَفَرَّقَتْ أَصْحَابُهُ شِيَعًا بَعْدَهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِمَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أُمَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ غَلَا فِيهِ فَجَعَلَهُ ابْنَ اللَّهِ، وَآخَرُونَ قَالُوا: هُوَ اللَّهُ، وَآخَرُونَ قَالُوا: هُوَ ثالث ثلاثة وقد حكى الله مقالتهم فِي الْقُرْآنِ وَرَدَّ عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ، فَاسْتَمَرُّوا على ذلك قريباً من ثلثمائة سنة. ثم نبغ لَهُمْ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْيُونَانِ يُقَالُ لَهُ (قُسْطَنْطِينُ) فَدَخَلَ فِي دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ قِيلَ: حِيلَةٌ لِيُفْسِدَهُ، فَإِنَّهُ كَانَ فَيْلَسُوفًا، وَقِيلَ: جَهْلَا مِنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ بدَّل لَهُمْ دِينَ الْمَسِيحِ وحرَّفه وزاد فيه نقص منه، ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى الَّتِي هِيَ الْخِيَانَةُ الْحَقِيرَةُ، وَأُحِلَّ فِي زَمَانِهِ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وَصَلَّوْا لَهُ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَصَوَّرُوا له الكنائس والمعابد والصوامع، وزاد فِي صِيَامِهِمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَجْلِ ذَنْبٍ ارْتَكَبَهُ فِيمَا يَزْعُمُونَ، وَصَارَ دِينُ الْمَسِيحِ (دِينَ قُسْطَنْطِينَ) إِلَّا أَنَّهُ بَنَى لَهُمْ مِنَ الْكَنَائِسِ والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثنتي عَشَرَ أَلْفَ مَعْبَدٍ، وَبَنَى الْمَدِينَةَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَيْهِ، واتبعه طائفة الْمَلْكِيَّةُ مِنْهُمْ، وَهُمْ فِي هَذَا كُلُّهُ قَاهِرُونَ لليهود، أيده الله عليهم لأنه أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ كُفَّارًا عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ محمداً فَكَانَ مَنْ آمَنَ بِهِ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وكتبه ورسله على الوجه الحق، فكانوا هُمْ أَتْبَاعَ كُلِّ نَبِيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، إذ قد صدقوا النبي الأمي العربي خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق، الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى التَّصْدِيقِ بِجَمِيعِ الْحَقِّ فَكَانُوا أَوْلَى بِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْ أُمَّتِهِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنهم على ملته وطريقته مما قَدْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا، ثُمَّ لَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ قَدْ نَسَخَ اللَّهُ شريعة جميع الرسل بما بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي لَا يُغَيَّرُ وَلَا يُبَدَّلُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَلَا يَزَالُ قَائِمًا مَنْصُورًا ظَاهِرًا عَلَى كُلِّ دِينٍ، فَلِهَذَا فَتَحَ اللَّهُ لِأَصْحَابِهِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَاحْتَازُوا جَمِيعَ الْمَمَالِكِ، وَدَانَتْ لَهُمْ جَمِيعُ الدُّوَلِ وَكَسَرُوا كِسْرَى وَقَصَرُوا قَيْصَرَ، وَسَلَبُوهُمَا كُنُوزَهُمَا وَأُنْفِقَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ نَبِيُّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ عزَّ وجلَّ فِي قَوْلِهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ليستخلفهم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً، يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بي شيئاً} الآية. فلهذا لَمَّا كَانُوا هُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَسِيحِ حَقًّا سَلَبُوا النصارى بلاد الشام وألجؤوهم إلى الروم فلجأوا إِلَى مَدِينَتِهِمُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَلَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ فَوْقَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ المصدوق صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ بِأَنَّ آخِرَهُمْ سَيَفْتَحُونَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَيَسْتَفِيئُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَيَقْتُلُونَ الرُّومَ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهَا وَلَا يَرَوْنَ بَعْدَهَا نَظِيرَهَا، وَقَدْ جَمَعْتُ فِي هَذَا جُزْءًا مفرداً،

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ* فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ}، وَكَذَلِكَ فعل بِمَنْ كَفَرَ بِالْمَسِيحِ مِنَ الْيَهُودِ أَوْ غَلَا فيه أو أطراه مِنَ النَّصَارَى، عَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَإِزَالَةِ الْأَيْدِي عَنِ الْمَمَالِكِ وَفِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَذَابُهُمْ أَشَدُّ وَأَشَقُّ {وَمَا لَهُم من الله من واق}، {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فِي الدُّنْيَا بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْجَنَّاتِ الْعَالِيَاتِ {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} أَيْ هَذَا الذي قصصنا عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ فِي أَمْرِ عِيسَى وَمَبْدَأِ ميلاده وكيفية أمره، هو مما قاله تَعَالَى وَأَوْحَاهُ إِلَيْكَ، وَنَزَّلَهُ عَلَيْكَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَلَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ* مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وههنا قال تعالى:

- 59 - إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ - 60 - الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ - 61 - فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ - 62 - إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - 63 - فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين يقول جل وعلا: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} فِي قُدْرَةِ الله حَيْثُ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ {كَمَثَلِ آدَمَ} حيث خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، بَلْ {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عِيسَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَإِنْ جَازَ ادِّعَاءُ البُنُوَّة في عيسى لكونه مَخْلُوقًا مِنْ غَيْرِ أَبٍ فَجَوَازُ ذَلِكَ فِي آدَمَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَمَعْلُومٌ بِالِاتِّفَاقِ أَنَّ ذَلِكَ باطل، فدعواهم فِي عِيسَى أَشَدُّ بُطْلَانًا وَأَظْهَرُ فَسَادًا، وَلَكِنَّ الرب جل جلاله أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ قُدْرَتَهُ لِخَلْقِهِ حِينَ خَلَقَ آدَمَ لَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا مِنْ أُنْثَى، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، خلق عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، كَمَا خَلَقَ بَقِيَّةَ الْبَرِيَّةَ مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ}، وقال ههنا: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ} أي هذا هو القول الْحَقُّ فِي عِيسَى الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ وَلَا صَحِيحَ سِوَاهُ، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلَالُ! ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاهِلَ مَنْ عَانَدَ الْحَقَّ فِي أَمْرِ عِيسَى بَعْدَ ظُهُورِ الْبَيَانِ: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ} أَيْ نَحْضُرُهُمْ فِي حال المباهلة {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أَيْ نَلْتَعِنْ {فَنَجْعَل لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} أي منا ومنكم. وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْمُبَاهَلَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي وَفْدِ نجران: إن النصارى لما قدموا فجعلوا

يُحَاجُّونَ فِي عِيسَى وَيَزْعُمُونَ فِيهِ مَا يَزْعُمُونَ مِنَ البنوَّة وَالْإِلَهِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ صَدْرَ هَذِهِ السورة رداً عليهم. قال ابن إسحاق في سيرته: وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وفد نصارى من نَجْرَانَ سِتُّونَ رَاكِبًا، فِيهِمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم فَدَخَلُوا عَلَيْهِ مَسْجِدَهُ حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الْحِبَرَاتِ جُبَبٌ وَأَرْدِيَةٌ فِي جَمَالِ رِجَالِ بني الحارث بن كعب قال - يقول مَنْ رَآهُمْ مِنَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَيْنَا بَعْدَهَمْ وَفْدًا مِثْلَهُمْ - وَقَدْ حَانَتْ صَلَاتُهُمْ فَقَامُوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهُمْ»، فَصَلَّوْا إِلَى الْمَشْرِقِ. قَالَ: فَكَلَّمَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ أَبُو حَارِثَةَ بْنُ علقمة، والعاقب عبد المسيح، والأيهم - وَهُمْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ عَلَى دِينِ الْمَلِكِ مَعَ اخْتِلَافِ أَمْرِهِمْ - يَقُولُونَ: هُوَ اللَّهُ، وَيَقُولُونَ: هُوَ وَلَدُ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ: هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، تَعَالَى الله عن قولهم علواً كبيراً، وكذلك النَّصْرَانِيَّةِ فَهُمْ يَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ هُوَ اللَّهُ بأنه كان يحيى الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص والأسقام وَيُخْبِرُ بِالْغُيُوبِ، وَيَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فينفخ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِأَمْرِ اللَّهِ. وليجعله الله آيَةً لِلنَّاسِ، وَيَحْتَجُّونَ فِي قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ يَقُولُونَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يُعْلَمُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ بِشَيْءٍ لَمْ يَصْنَعْهُ أحد من بني آدم قبله، ويحتجون على قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَعَلْنَا، وَأَمَرْنَا وَخَلَقْنَا، وَقَضَيْنَا، فَيَقُولُونَ لَوْ كَانَ واحداً ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت، ولكنه هو عيسى ومريم - تعلى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً - وَفِي كُلِّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ. فَلَمَّا كَلَّمَهُ الْحَبْرَانِ قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أسلما» قال: قَدْ أَسْلَمْنَا. قَالَ «إِنَّكُمَا لَمْ تُسْلِمَا فَأَسْلِمَا» قال: بَلَى، قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ، قَالَ: «كَذَبْتُمَا يَمْنَعُكُمَا من الإسلام ادعاؤكما لِلَّهِ وَلَدًا وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ وَأَكْلُكُمَا الْخِنْزِيرَ»، قَالَا: فَمَنْ أَبَوْهُ يَا مُحَمَّدُ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا فَلَمْ يُجِبْهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَاخْتِلَافِ أمهم صدر سورة (آل عمران) إلى بضع وثماني آيَةً مِنْهَا. ثُمَّ تَكَلَّمَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَلَى تفسيرها إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ مِنَ اللَّهِ وَالْفَصْلُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَأُمِرَ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ مُلَاعَنَتِهِمْ إِنْ رَدُّوا ذَلِكَ عَلَيْهِ دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، دَعْنَا نَنْظُرْ فِي أَمْرِنَا، ثُمَّ نَأْتِيكَ بِمَا نُرِيدُ أَنْ نَفْعَلَ فِيمَا دَعَوْتَنَا إِلَيْهِ، ثم انصرفوا عَنْهُ، ثُمَّ خَلَوْا بِالْعَاقِبِ، وَكَانَ ذَا رَأْيِهِمْ، فَقَالُوا: يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ مَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى لَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْفَصْلِ مِنْ خَبَرِ صَاحِبِكُمْ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَا لَاعَنَ قَوْمٌ نَبِيًّا قَطُّ فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ وَلَا نَبَتَ صَغِيرُهُمْ، وَإِنَّهُ لَلِاسْتِئْصَالُ مِنْكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ، فَإِنْ كنتم أَبَيْتُمْ إِلَّا إِلْفَ؟؟ دِينِكُمْ وَالْإِقَامَةَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ فِي صَاحِبِكُمْ فَوَادِعُوا الرجل وانصرفوا إلى بلدكم. فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا أبا القاسم قد رأينا أن لا نُلَاعِنَكَ، وَنَتْرُكَكَ عَلَى دِينِكَ وَنَرْجِعَ عَلَى دِينِنَا، وَلَكِنِ ابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ تَرْضَاهُ لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفانا فيها في أموالنا فإنكم عندنا رضا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ائْتُونِي الْعَشِيَّةَ أَبْعَثُ مَعَكُمُ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» فَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ قَطُّ حُبِّي إِيَّاهَا يومئذٍ، رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ صَاحِبَهَا، فَرُحْتُ إِلَى الظُّهْرِ مهجِّراً، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ سَلَّمَ، ثُمَّ نَظَرَ عن يمينه وشماله فَجَعَلْتُ أَتَطَاوَلُ لَهُ لِيَرَانِي، فَلَمْ يَزَلْ يَلْتَمِسُ بِبَصَرِهِ حَتَّى رَأَى أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فدعاه، فقال: «اخْرُجْ مَعَهُمْ فَاقْضِ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ»، قَالَ عُمَرُ فَذَهَبَ بِهَا أَبُو عُبَيْدَةَ رضي

الله عنه. وقال البخاري، عن حذيفة رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبًا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ، قَالَ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تفعل فوالله لئن كَانَ نَبِيًّا فلاعنَّاه لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا، قَالَا: إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا وَلَا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلَّا أَمِينًا، فَقَالَ: «لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا، حَقَّ أَمِينٍ»، فَاسْتَشْرَفَ لَهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ» فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هذا أمين هذه الأمة» وفي الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ قبّحه الله: إن رأيت محمداً يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَأَ عَلَى رقبته. قَالَ، فَقَالَ: «لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا، ولو أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَلَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَجَعُوا لَا يجدون مالاً ولا أهلاً» (رواه أحمد والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح) وَالْغَرَضُ أَنَّ وُفُودَهُمْ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ قَالَ: كَانَ أَهْلُ نَجْرَانَ أَوَّلَ مَنْ أَدَّى الْجِزْيَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَآيَةُ الْجِزْيَةِ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخر} الآية. وقال أبو بكر بن مردويه عن جابر: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَاقِبُ وَالطَّيِّبُ فَدَعَاهُمَا إِلَى الْمُلَاعَنَةِ، فَوَاعَدَاهُ عَلَى أَنْ يُلَاعِنَاهُ الْغَدَاةَ، قَالَ: فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فَأَبَيَا أن يجيبا وأقرا له بِالْخَرَاجِ، قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَوْ قَالَا: لَا لَأَمْطَرَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي نَارًا". قَالَ جَابِرٌ: وفيهم نَزَلَتْ: {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ} (رواه ابن مردويه والحاكم في المستدرك ورواه الطيالسي عن الشعبي مرسلاً، قال ابن كثير: وهذا أصح. ثم قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} أَيْ هَذَا الَّذِي قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ فِي شَأْنِ عِيسَى هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَعْدِلَ عَنْهُ وَلَا مَحِيدَ، {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* فَإِن تَوَلَّوْاْ} أَيْ عَنْ هَذَا إِلَى غَيْرِهِ، {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} أَيْ مَنْ عَدَلَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ فَهُوَ الْمُفْسِدُ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِهِ وَسَيَجْزِيهِ عَلَى ذَلِكَ شَرَّ الْجَزَاءِ، وَهُوَ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ ونعوذ به من حلول نقمته.

- 64 - قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُواْ اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ هَذَا الْخِطَابُ يَعُمُّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ}، وَالْكَلِمَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ كَمَا قال ههنا، ثُمَّ وَصَفَهَا بِقَوْلِهِ: {سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أَيْ عَدْلٌ ونَصَف نَسْتَوِي نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا، ثُمَّ فسرها بقوله: {أن لا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} لا وثناً ولا صليباً ولا صنماً وَلَا طَاغُوتًا وَلَا نَارًا وَلَا شَيْئًا، بَلْ نُفْرِدُ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذِهِ دَعْوَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ

بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله واجتنبوا الطاغوت}، ثم قال تعالى: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} قال ابْنُ جُرَيْجٍ: يَعْنِي يُطِيعُ بَعْضُنَا بَعْضًا فِي معصية الله، وقال عكرمة: يَسْجُدُ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ، {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أَيْ فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ هَذَا النصف وهذه الدعوة فاشهدوا أَنْتُمْ عَلَى اسْتِمْرَارِكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِصَّتِهِ حِينَ دَخَلَ على قيصر، فسأله عَنْ نَسَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ صِفَتِهِ وَنَعْتِهِ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، فأخبره بجميع ذلك على الجلية، ثُمَّ جِيءَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ، وَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أن لا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يتخذ بعنا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بأنا مسلمون}»

- 65 - يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ - 66 - هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ - 67 - مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين - 68 - إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ينكر تبارك وتعالى عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي مُحَاجَّتِهِمْ فِي إِبْرَاهِيمَ الخليل عليه السلام وَدَعْوَى كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ، كما قال ابن عباس رضي الله عنه: اجْتَمَعَتْ نَصَارَى نَجْرَانَ وَأَحْبَارُ يَهُودَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَازَعُوا عِنْدَهُ، فَقَالَتِ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا نَصْرَانِيًّا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ} الآية. أَيْ كَيْفَ تَدَّعُونَ أَيُّهَا الْيَهُودُ أَنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا وَقَدْ كَانَ زَمَنُهُ قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى؟ وَكَيْفَ تَدَّعُونَ أَيُّهَا النصارى أنه كان صرانياً، وَإِنَّمَا حَدَثَتِ النَّصْرَانِيَّةُ بَعْدَ زَمَنِهِ بِدَهْرٍ؟ وَلِهَذَا قال تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ثم قال تعالى: {هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}؟ هَذَا إِنْكَارٌ عَلَى مَنْ يُحَاجُّ فِيمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى تَحَاجُّوا فِي إِبْرَاهِيمَ بِلَا عِلْمٍ، وَلَوْ تَحَاجُّوا فِيمَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْهُ عِلْمٌ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَدْيَانِهِمُ الَّتِي شُرِعَتْ لَهُمْ إِلَى حِينِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ أَوْلَى بِهِمْ، وَإِنَّمَا تكلموا فيما لا يعلمون، فَأَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِرَدِّ مَا لا علم لهم به إلىعالم الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الَّذِي يَعْلَمُ الْأُمُورَ عَلَى حَقَائِقِهَا وجلياتها، ولهذا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً، وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً} أَيْ متحنفاً عن الشرك

قاصداً إلى الإيمان {وَمَا كان من المشركين} وَهَذِهِ الْآيَةُ كَالَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَقَالُواْ كُونُواْ هودا أو نصارى تهتدوا} الآية، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} يَقُولُ تَعَالَى: أَحَقُّ النَّاسِ بِمُتَابَعَةِ إبراهيم الخليل الذين اتبعواه عَلَى دِينِهِ {وَهَذَا النَّبِيُّ} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَصْحَابِهِ المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل نبي ولاية مِنَ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ وَلِيِّي مِنْهُمْ - أَبِي وَخَلِيلُ ربي عز وجل - إبراهيم عليه السلام»، ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النبي والذين آمَنُواْ} (أخرجه وكيع في تفسيره) الآية، وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ وَلِيُّ جَمِيعِ المؤمنين برسله.

- 69 - وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ - 70 - يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ - 71 - يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - 72 - وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أهل الكتاب آمنوا بالذي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ - 73 - وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ - 74 - يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَسَدِ الْيَهُودِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَبَغْيِهِمْ إِيَّاهُمُ الْإِضْلَالَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ وَبَالَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَعُودُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ مَمْكُورٌ بِهِمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أَيْ تَعْلَمُونَ صِدْقَهَا وَتَتَحَقَّقُونَ حَقَّهَا، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ تَكْتُمُونَ مَا فِي كُتُبِكُمْ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنت تَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَتَتَحَقَّقُونَهُ، {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمنوا بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ} الآية. وهذه مَكِيدَةٌ أَرَادُوهَا لِيَلْبِسُوا عَلَى الضُّعَفَاءِ مِنَ النَّاسِ أَمْرَ دِينِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمُ اشتَوَروا بَيْنَهُمْ أَنْ يظهروا الإيمان أول النهار، ويصلوا مع المسليمن صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَإِذَا جَاءَ آخِرُ النَّهَارِ ارْتَدُّوا إِلَى دِينِهِمْ، لِيَقُولَ الْجَهَلَةُ مِنَ النَّاسِ إِنَّمَا رَدَّهُمْ إِلَى دِينِهِمُ اطِّلَاعُهُمْ عَلَى نَقِيصَةٍ وَعَيْبٍ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا قَالُوا: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قال مجاهد: يعني يهوداً صَلَّتْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الصبح، وَكَفَرُوا آخِرَ النَّهَارِ مَكْرًا مِنْهُمْ، لِيُرُوا النَّاسَ أن قد بدت لهم الضلالة منه بعد أن كانوا اتبعوه، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا لَقِيتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ أَوَّلَ النَّهَارِ فَآمِنُوا، وَإِذَا كَانَ آخِرُهُ فَصَلُّوا صَلَاتَكُمْ، لَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا.

وقوله تعالى: {وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} أَيْ لا تطمئنوا أو تظهروا سِرَّكُمْ وَمَا عِنْدَكُمْ إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وَلَا تُظْهِرُوا مَا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ وَيَحْتَجُّوا بِهِ عَلَيْكُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} أَيْ هُوَ الَّذِي يَهْدِي قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَتَمِّ الْإِيمَانِ، بما ينزله على عبده ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ وَالْحُجَجِ الْوَاضِحَاتِ، وَإِنْ كَتَمْتُمْ أَيُّهَا اليهود ما بأيديكم من صفة محمد النبي الأمي، فِي كُتُبِكُمُ الَّتِي نَقَلْتُمُوهَا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ. وَقَوْلُهُ: {أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ} يَقُولُونَ لَا تُظْهِرُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَتَعَلَّمُوهُ مِنْكُمْ، ويساوونكم فيه، يمتازون بِهِ عَلَيْكُمْ لِشِدَّةِ الْإِيمَانِ بِهِ، أَوْ يُحَاجُّوكُمْ به عند ربكم، أي يتخذوه حجة عليكم بما في أيديكم فتقوم به عليكم الدلالة وترتكب الْحُجَّةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} أي الأمور كلها تحت تصرفه وَهُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ، يمنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ بالإيمان والعلم والتصرف التام، ويضل من يشاء فيعمي بصره وبصيرته، ويختم على قلبه وسمعه وَيَجْعَلُ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً، وَلَهُ الْحُجَّةُ وَالْحِكْمَةُ البالغة {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أَيِ اخْتَصَّكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْفَضْلِ بِمَا لَا يُحدُّ وَلَا يوُصف، بِمَا شَرَّفَ بِهِ نَبِيَّكُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَدَاكُمْ به إلى أكمل الشرائع.

- 75 - وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ - 76 - بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ بأن منهم الْخَوَنَةَ، وَيُحَذِّرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِهِمْ، فَإِنَّ مِنْهُمْ {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} أَيْ مِنَ الْمَالِ {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} أَيْ وَمَا دُونَهُ بِطَرِيقِ الْأُولَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ إِلَيْكَ، {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} أَيْ بِالْمُطَالَبَةِ وَالْمُلَازَمَةِ وَالْإِلْحَاحِ فِي اسْتِخْلَاصِ حَقِّكَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا صَنِيعُهُ في الدينار، فما فوقه أولى أن لا يؤديه إليك. وَقَوْلُهُ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أَيْ إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى جُحُودِ الْحَقِّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي دِينِنَا حَرَجٌ فِي أَكْلِ أَمْوَالِ الْأُمِّيِّينَ (وَهُمُ الْعَرَبُ) فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّهَا لَنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي وقد اختلقوا هذه المقالة، وائتفكوها بِهَذِهِ الضَّلَالَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ الْأَمْوَالِ إِلَّا بِحَقِّهَا وَإِنَّمَا هُمْ قَوْمٌ بُهت. عَنْ أَبِي صَعْصَعَةَ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ رَجُلًا سأل ابن عباس، فقال: إِنَّا نُصِيبُ فِي الْغَزْوِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الدَّجَاجَةَ وَالشَّاةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَقُولُونَ مَاذَا؟ قَالَ، نَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ بَأْسٌ، قَالَ: هَذَا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}، إِنَّهُمْ إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ لَمْ تَحِلَّ لَكُمْ أَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِطِيبِ أنفسهم (أخرجه عبد الرزاق عن أبي صعصعة بن يزيد) وعن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَبَ أَعْدَاءُ اللَّهِ، مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الجاهلية إلى وهو تحت

قدميَّ هَاتَيْنِ إِلَّا الْأَمَانَةَ فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إِلَى البر والفاجر» (أخرجه ابن أبي حاتم) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى} أي لكن من أوفى بعهده واتقى منكم يَا أَهْلَ الكتاب. اتقى محارم الله وَاتَّبَعَ طَاعَتَهُ وَشَرِيعَتَهُ الَّتِي بَعَثَ بِهَا خَاتَمَ رسله وسيدهم {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.

- 77 - إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَقُولُ تعالى: إِنَّ الذي يعتاضون عماعاهدوا اللَّهُ عَلَيْهِ، مِنَ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وذكر صفته للناس وَبَيَانِ أَمْرِهِ، وَعَنْ أَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ الْفَاجِرَةِ الْآثِمَةِ، بالأثمان القليلة الزهيدة، وهي عروض هذه الحياة الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ، {أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} أَيْ لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا وَلَا حَظَّ لَهُمْ مِنْهَا، {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ بِرَحْمَةٍ منه لهم، يعني لا يكلمهم الله كَلَامَ لُطْفٍ بِهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ، {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} أَيْ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْأَدْنَاسِ، بَلْ يَأْمُرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ. (الحديث الأول) عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله من هم؟ خسروا وخابوا، قَالَ: وَأَعَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ: «الْمُسْبِلُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحلف الكاذب، والمنان» (رواه أحمد ومسلم ,اصحاب السنن) (الحديث الثاني): عن عدي بن عَمِيرَةَ الكِندي قَالَ: خَاصَمَ رَجُلٌ مِنْ كِنْدة يُقال له امرؤ القيس بن عامر رَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْضٍ، فَقَضَى عَلَى الْحَضْرَمِيِّ بِالْبَيِّنَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَقَضَى على امرىء القيس باليمين، فقال الحضرمي: أَمْكَنْتُهُ مِنَ الْيَمِينِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ذَهَبَتْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ أَرْضِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ أَحَدٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وجل وهو عليه غضبان»، وَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} فَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: مَاذَا لِمَنْ تَرَكَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «الْجَنَّةُ» قَالَ: فَاشْهَدْ أني قد تركتها له كلها (رواه أحمد والنسائي) (الحديث الثالث): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع مال امرىء مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»، قَالَ: فَجَاءَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَحَدَّثْنَاهُ فَقَالَ: كان في هَذَا الْحَدِيثُ، خَاصَمْتُ ابْنَ عَمٍّ لِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في بئر كانت لي فِي يَدِهِ فَجَحَدَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيِّنَتُكَ أَنَّهَا بِئْرُكَ وَإِلَّا فَيَمِينُهُ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِي بَيِّنَةٌ، وَإِنْ تَجْعَلْهَا بِيَمِينِهِ

تَذْهَبُ بِئْرِي، إِنَّ خَصْمِي امْرُؤٌ فَاجِرٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من اقتطع مال امرىء مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»، قَالَ: وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (رواه أحمد) (الحديث الرابع) قال أحمد، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أنَس عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادًا لَا يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ» قِيلَ: "ومن أولئك يا رسول الله؟ قال: «متبرىء من والديه راغب عنهما، ومتبرىء مِنْ وَلَدِهِ، وَرَجُلٌ أَنْعَمَ عَلِيْهِ قَوْمٌ فَكَفَرَ نعمتهم تبرأ منهم». (الحديث الخامس): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً لَهُ فِي السُّوقِ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطَهُ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية: {إن الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (أخرجه ابن أبي حاتم وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ العوَّام) الآية. (الحديث السادس): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، رَجُلٌ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ فَضْلَ مَاءٍ عِنْدَهُ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ - بَعْدَ الْعَصْرِ - يَعْنِي كَاذِبًا، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا فَإِنْ أَعْطَاهُ وَفَى لَهُ وَإِنْ لَمْ يعطه لم يف له» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ).

- 78 - وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ، أَنَّ مِنْهُمْ فَرِيقًا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَيُبَدِّلُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَيُزِيلُونَهُ عَنِ الْمُرَادِ به، ليوهموا الجهلة أنهم فِي كِتَابِ اللَّهِ كَذَلِكَ، وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا وَافْتَرَوْا فِي ذَلِكَ كله، ولهذا قال تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، قال مجاهد والحسن: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} يُحَرِّفُونَهُ، وَهَكَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عن ابن عباس أنهم يحرفون ويزيلون، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يُزِيلُ لَفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، لَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ يَتَأَوَّلُونَهُ على غير تأويله.

- 79 - مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ - 80 - وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ أَبُو رَافِعٍ الْقُرَظِيُّ: حِينَ اجْتَمَعَتِ الْأَحْبَارُ مِنَ (الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ: أَتُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ أَنْ نَعْبُدَكَ كَمَا تَعْبُدُ النَّصَارَى عيسى بن مَرْيَمَ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ نَصْرَانِيٌّ يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ، أَوْ أن نأمر بعبادة غير الله، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي وَلَا بِذَلِكَ أَمَرَنِي»، أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ الله فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة - إلى قوله - بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} (ذكره محمد بن إسحاق) أَيْ مَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ والحكمة وَالنُّبُوَّةَ، أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ اعْبُدُونِي مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ مَعَ اللَّهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا لا يصلح لنبي ولا لمرسل، فلا يَصْلُحَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرَهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى والأحرى لهذا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا يَنْبَغِي هَذَا لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ، قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانَ يَعْبُدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، يَعْنِي أَهْلَ الكتاب كانوا يعبدون أحبارهم وَرُهْبَانِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} الآية. وفي المسند أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَبَدُوهُمْ، قَالَ: «بَلَى، إِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ فَاتَّبَعُوهُمْ فَذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ»، فَالْجَهَلَةُ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ وَمَشَايِخِ الضَّلَالِ، يَدْخُلُونَ فِي هَذَا الذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ، بِخِلَافِ الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين. فَالرُّسُلُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، هُمُ السُّفَرَاءُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، فِي أَدَاءِ مَا حَمَلُوهُ مِنَ الرِّسَالَةِ، وَإِبْلَاغِ الْأَمَانَةِ فَقَامُوا بذلك أتم القيام ونصحوا الخلق، وبلغوهم الحق، وقوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} أَيْ وَلَكِنْ يَقُولُ الرَّسُولُ للناس: كونوا ربانيين، قال ابن عباس: أي حكماء علماء حلماء، وقال الحسن: فقهاء، وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: يَعْنِي أَهْلَ عِبَادَةٍ وَأَهْلَ تَقْوَى، وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} حَقٌّ عَلَى مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا، تَعْلمون: أي تفهمون معناه، وقرىء تُعَلِّمُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّعْلِيمِ، {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} تحفظون ألفاظه، ثم قال الله تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} أَيْ وَلَا يَأْمُرُكُمْ بِعِبَادَةِ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ، لَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَلَا مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، {ايامركُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ}؟ أَيْ لَا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله، ومن دَعَا إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ دَعَا إِلَى الْكَفْرِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِنَّمَا يَأْمُرُونَ بِالْإِيمَانِ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فعبدون}، وَقَالَ: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الله آلهة يعبدون}؟ وقال إِخْبَارًا عَنِ الْمَلَائِكَةِ: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فذكل نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نجزي الظالمين}.

- 81 - وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ

- 82 - فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ يخبر تعلاى أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَ كُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ مِنْ لدن آدم عليه السلام إلىعيسى عليه السلام، مهما آتى الله أحدهم من كتاب وحمكة وبلغ أي مبلغ، ثم جاء رَسُولٌ مِنْ بَعْدِهِ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ، وَلَا يَمْنَعْهُ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ مِنَ اتِّبَاعِ مَنْ بُعِثَ بَعْدَهُ وَنُصْرَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} أَيْ لَمَهْمَا أَعْطَيْتُكُمْ مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ، قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي}، قال ابن عباس ومجاهد: يَعْنِي عَهْدِي، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ {إِصْرِي} أَيْ مِيثَاقِي الشَّدِيدِ الْمُؤَكَّدِ، {قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ، فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ} أَيْ عَنْ هَذَا الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ {فأولئك هُمُ الفاسقون}، قال علي وابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُخِذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقُ، لئن بعث الله محمداً وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمّته لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ ليؤمنن به ولينصرنه، وقال الحسن الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ: أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ أَنْ يَصْدُقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهَذَا لَا يُضَادُّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَلَا يَنْفِيهِ بَلْ يستلزمه ويقتضيه، وقد قال الإمام أحمد: جَاءَ عُمَرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا رسول الله إني أمرت بأخ لي يهودي مِنْ قُرَيْظَةَ فَكَتَبَ لِي جَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ أَلَا أَعْرِضُهَا عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ قُلْتُ لَهُ: أَلَا تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ! فقال عمر: رضيت بِاللَّهِ رِبَّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، قَالَ: فسُرِّي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «والذي نفسي بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ، إِنَّكُمْ حَظِّي مِنَ الأمم، وأنا حظكم من النبيين» (رواه الإمام أحمد) (حديث آخر): وعن جابر، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، وَإِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حياُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ما حل له إلا أن يتبعني (رواه الحافظ أبو يعلى) وفي بعض الأحاديث: «لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّيْنِ لَمَا وَسِعَهُمَا إِلَّا اتِّبَاعِي» فَالرَّسُولُ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، هو الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ الَّذِي لَوْ وُجِدَ فِي أَيِّ عَصْرٍ وَجِدَ، لَكَانَ هُوَ الْوَاجِبُ الطَّاعَةِ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَلِهَذَا كَانَ إِمَامَهُمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ لَمَّا اجْتَمَعُوا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَذَلِكَ هُوَ الشفيع في المحشر في إتيان الرب جل جلاله لفصل القضاء بين عباده، وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي لَا يَلِيقُ إِلَّا لَهُ، وَالَّذِي يَحِيدُ عَنْهُ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ حَتَّى تَنْتَهِيَ النَّوْبَةُ إِلَيْهِ فَيَكُونَ هو المخصوص به، صلوات الله وسلامه عليه.

- 83 - أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ - 84 - قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ

مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ - 85 - وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى مَنْ أَرَادَ دِينًا سِوَى دِينِ اللَّهِ، الَّذِي أَنزَلَ به كتبه وأرسل به رسله، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الذي له أسلم من في السموات وَالْأَرْضِ، أَيِ اسْتَسْلَمَ لَهُ مِنْ فِيهِمَا طَوْعًا وَكَرْهًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السموات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً} وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فَالْمُؤْمِنُ مُسْتَسْلِمٌ بِقَلْبِهِ وَقَالَبِهِ لِلَّهِ، وَالْكَافِرُ مُسْتَسْلِمٌ لِلَّهِ كَرْهَا، فَإِنَّهُ تَحْتَ التَّسْخِيرِ وَالْقَهْرِ وَالسُّلْطَانِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يُخَالِفُ وَلَا يُمَانِعُ، وَقَدْ قال وكيع في تفسيره عن مجاهد: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن في السموات وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}، قَالَ: هُوَ كَقَوْلِهِ: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خلق السموات والأرض ليقولون الله}، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} أَيْ يَوْمَ الْمَعَادِ فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا} يَعْنِي الْقُرْآنَ، {وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وإسحق وَيَعْقُوبَ} أَيْ مِنَ الصُّحُفِ وَالْوَحْيِ، {وَالْأَسْبَاطِ} وَهُمْ بُطُونُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُتَشَعِّبَةُ مِنْ أَوْلَادِ إِسْرَائِيلَ - وهو يَعْقُوبُ - الِاثْنَيْ عَشَرَ، {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} يَعْنِي بِذَلِكَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، {وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ} وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ جُمْلَةً، {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} يَعْنِي بَلْ نُؤْمِنُ بِجَمِيعِهِمْ، {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ نَبِيٍّ أُرْسِلَ وَبِكُلِّ كِتَابٍ أُنْزِلَ، لَا يَكْفُرُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ هُمْ يصدقون بِمَا أُنْزِلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَبِكُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} الآية. أَيْ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا سِوَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رد».

- 86 - كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - 87 - أُولَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ - 88 - خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ - 89 - إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَالَ ابْنُ جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالشِّرْكِ، ثُمَّ ندم فأرسل إلى قومه أن سلو رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ لي من توبة؟ فَنَزَلَتْ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ - إلى قوله - فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، فأرسل إليه قومه فأسلم (رواه النسائي والحاكم وابن ماجة) {وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} أَيْ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ على صدق

مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ، وَوَضَحَ لَهُمُ الْأَمْرُ ثُمَّ ارْتَدُّوا إِلَى ظُلْمَةِ الشِّرْكِ، فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ هَؤُلَاءِ الْهِدَايَةَ بَعْدَ مَا تَلَبَّسُوا بِهِ مِنَ العماية؟ ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. ثُمَّ قَالَ تعالى: {أُولَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أَيْ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ خَلْقُهُ، {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ فِي اللَّعْنَةِ، {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أَيْ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ سَاعَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ وَبِرِّهِ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وعائدته على خلقه، أن مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ.

- 90 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ - 91 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ من ناصرين يبين تعالى متوعداً ومهدداً لم كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ ثُمَّ ازْدَادَ كُفْرًا أَيِ استمر عليه إلى الممات، ومخبراً بأنهم لن تقبل لهم توبة عند الممات، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت} الآية. ولهذا قال ههنا: {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} أَيِ الْخَارِجُونَ عَنِ الْمَنْهَجِ الْحَقِّ إِلَى طَرِيقِ الْغَيِّ، قال الحافظ أبو بكر البزار عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قَوْمًا أَسْلَمُوا ثمَّ ارْتَدُّوا، ثُمَّ أَسْلَمُوا، ثُمَّ ارْتَدُّوا فَأَرْسَلُوا إِلَى قَوْمِهِمْ يَسْأَلُونَ لَهُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هذه الآية: {وإن الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ توبتهم} (أخرجه البزار، قال ابن كثير: إسناده جيد) ثم قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كفار فن تُقبل مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}، أَيْ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ خَيْرٌ أَبَدًا، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبَا فِيمَا يَرَاهُ قُرْبَةً، كَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ - وَكَانَ يُقْرِي الضَّيْفَ وَيَفُكُّ الْعَانِي وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ - هَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: "لَا! إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ" وَكَذَلِكَ لَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ أَيْضًا ذَهَبًا مَا قُبِلَ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ}، وقال: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ}، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وَلَوِ افْتَدَى نَفْسَهُ مِنَ اللَّهِ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبَا، بِوَزْنِ جِبَالِهَا وَتِلَالِهَا وَتُرَابِهَا وَرِمَالِهَا وَسَهْلِهَا ووعرها وبرها وبحرها. عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ شَيْءٍ أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ قَالَ، فَيَقُولُ: نعم، فيقول الله: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ قَدْ أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ" (رواه البخاري ومسلم)

(طريق آخر): وقال الإمام أحمد، عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ كَيْفَ وَجَدْتَ مَنْزِلَكَ؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ خَيْرُ مَنْزِلٍ، فَيَقُولُ: سَلْ وَتَمَنَّ، فَيَقُولُ: مَا أَسْأَلُ وَلَا أَتَمَنَّى إِلَّا أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ عَشْرَ مِرَارٍ، لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، وَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ كَيْفَ وَجَدْتَ مَنْزِلَكَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ شَرُّ مَنْزِلٍ. فَيَقُولُ له: أتفتدي مِنِّي بِطِلَاعِ الْأَرْضِ ذَهَبًا؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نَعَمْ، فَيَقُولُ: كَذَبْتَ قَدْ سَأَلْتُكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَيْسَرَ فَلَمْ تَفْعَلْ فَيُرَدُّ إِلَى النَّارِ" (رواه الإمام أحمد) وَلِهَذَا قَالَ: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَّاصِرِينَ} أَيْ وَمَا لَهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا يُجِيرُهُمْ مِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ.

- 92 - لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِّن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عليم روى وكيع في تفسيره عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ} قال: الجنة، وقال الإمام أحمد عن أنَس بن مالك: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه (بير حاء) وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طيِّب. قَالَ أنَس: فَلَمَّا نَزَلَتْ: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إليّ (بير حاء)، وإنها صدقة لله أرجو بها بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَضَعْهَا يَا رسول الله حيث أراك اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَخٍ بَخٍ، ذَاكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَاكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ، وَأَنَا أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ»، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عمه (رواه البخاري ومسلم) وفي الصحيحين أن عمر قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْ سَهْمِي الَّذِي هو بخيبر، فما تأمرني به؟ قال: «أحبِسْ الأصل، وأسبِلْ الثمرة».

- 93 - كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 94 - فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - 95 - قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال ابن عباس: حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ نبيَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: حَدِّثْنَا عَنْ خلالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ، قَالَ: «سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ وَلَكِنِ اجْعَلُوا لِي ذِمَّةَ اللَّهِ وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَى بَنِيهِ، لَئِنْ أَنَا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا فَعَرَفْتُمُوهُ لَتُتَابِعُنِّي عَلَى الْإِسْلَامِ»، قالوا: فذلك لك، قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ أَرْبَعِ خِلَالٍ، أَخْبِرْنَا أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى

نفسه؟ وكيف مَاءُ الْمَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ الذَّكَرُ مِنْهُ وَالْأُنْثَى، وَأَخْبِرْنَا بِهَذَا النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ فِي النَّوْمِ وَمَنْ وَلَيُّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ العهد لئن أخبرهم ليتابعنه. فَقَالَ: «أَنْشُدُكُمْ بِالذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا وَطَالَ سُقْمُهُ فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ مِنْ سَقَمِهِ ليحرمنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها»؟ فقالوا: اللهم نعم: فقال: «اللهم اشهد عليهم»، قال: «أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الذي أَنزَلَ التوراة على موسى هل تعلمون أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رقيق، فأيهم عَلَا كَانَ لَهُ الْوَلَدُ وَالشَّبَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ، إِنْ عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ كَانَ ذَكَرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِنْ عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ كَانَ أُنثى بِإِذْنِ اللَّهِ» قَالُوا: نعم. قال: «اللهم اشهد عليهم» وقال: «وأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ؟» قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشهد». قال: «وإن وليي جبريل ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه»، قالوا: فعند ذلك نُفَارِقُكَ وَلَوْ كَانَ وَلِيُّكَ غَيْرَهُ لَتَابَعْنَاكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لجبريل} (رواه الإمام أحمد) الآية. وقال ابن جريج، عن ابن عباس: كان إسرائيل عليه السلام - وهو يعقوب - يَعْتَرِيهِ عِرْقُ النَّسَا بِاللَّيْلِ، وَكَانَ يُقْلِقُهُ وَيُزْعِجُهُ عَنِ النَّوْمِ وَيُقْلِعُ الْوَجَعَ عَنْهُ بِالنَّهَارِ، فَنَذَرَ لله لئن عافاه الله لا يأكل عرَرْقاً، ولا يأكل ولد ما له عَرق، فَاتَّبَعَهُ بَنُوهُ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ اسْتِنَانًا بِهِ واقتداء بطريقته، وَقَوْلُهُ: {مِن قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} أَيْ حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ، {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فَإِنَّهَا نَاطِقَةٌ بِمَا قُلْنَاهُ، {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فأولئك ثم الظَّالِمُونَ} أَيْ فَمَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَادَّعَى أَنَّهُ شَرَعَ لَهُمُ السَّبْتَ وَالتَّمَسُّكَ بِالتَّوْرَاةِ دَائِمًا، وأنه لم يبعث نبياً آخر يدعوا إلى الله تعالى بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ، بَعْدَ هَذَا الَّذِي بَيَّنَّاهُ مِنْ وقوع النسخ وظهور ما ذكرنا {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ صَدَقَ الله فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَفِيمَا شَرَعَهُ فِي الْقُرْآنِ، {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أَيِ اتَّبَعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي لَمْ يَأْتِ نَبِيٌّ بِأَكْمَلَ مِنْهَا وَلَا أَبْيَنَ وَلَا أَوْضَحَ وَلَا أَتَمَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

- 96 - إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ - 97 - فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أَيْ لِعُمُومِ النَّاسِ، لِعِبَادَتِهِمْ وَنُسُكِهِمْ يَطُوفُونَ بِهِ وَيُصَلُّونَ إِلَيْهِ وَيَعْتَكِفُونَ عِنْدَهُ {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} يَعْنِي الْكَعْبَةَ الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، الَّذِي يَزْعُمُ كُلٌّ مِنْ طَائِفَتَيِ

النصارى واليهود أنهم على دينه، ومنهجه، ويحجون إلى البيت الذي بناه عن أم الله، ولهذا قال تعالى: {مُبَارَكاً} أي وضع مباركاً {وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قال: «المسجد الأقصى»، قلت: كم بينهم؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فكلها مسجد (رواه أحمد وأخرجه الشيخان بنحوه)» وعن علي رضي عنه فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} قَالَ: كَانَتِ الْبُيُوتُ قبله ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله. وَزَعَمَ السُّدِّيُّ أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، مُطْلَقًا، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عنه. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} بَكَّةُ مِنْ أَسْمَاءِ مَكَّةَ عَلَى الْمَشْهُورِ، قِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تبك أعناق الظلمة والجبابرة، بمعنى أنهم يذلون بِهَا وَيَخْضَعُونَ عِنْدَهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّ النَّاسَ يَتَبَاكُّونَ فِيهَا أَيْ يَزْدَحِمُونَ، قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ بَكَّ بِهِ النَّاسَ جَمِيعًا، فَيُصَلِّي النِّسَاءُ أَمَامَ الرجال ولا يفعل ذلك ببلد غيرها، وقال شعبة عن إبراهيم: بكة البيت والمسجد، وقال عكرمة: الْبَيْتُ وَمَا حَوْلَهُ بَكَّةُ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مكة، وقال مقاتل بْنُ حَيَّانَ: بَكَّةُ مَوْضِعُ الْبَيْتِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مَكَّةُ، وَقَدْ ذَكَرُوا لِمَكَّةَ أَسْمَاءً كَثِيرَةً (مَكَّةَ وَبَكَّةَ، وَالْبَيْتَ الْعَتِيقَ وَالْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَالْبَلَدَ الأمين وأم القرى - والقادس لأنها تطهر من الذنوب، والمقدسة والحاطمة والرأس والبلدة، والبنية والكعبة). وقوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} دَلَالَاتٌ ظَاهِرَةٌ أَنَّهُ مِنْ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّ الله عَظَّمَهُ وَشَرَّفَهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} يَعْنِي الَّذِي لَمَّا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى رَفْعِ الْقَوَاعِدِ مِنْهُ وَالْجُدْرَانِ، حَيْثُ كَانَ يَقِفُ عَلَيْهِ وَيُنَاوِلُهُ وَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ، وَقَدْ كَانَ مُلْتَصِقًا بِجِدَارِ الْبَيْتِ حَتَّى أخَّره عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي إِمَارَتِهِ إِلَى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطواف منه، وَلَا يُشَوِّشُونَ عَلَى الْمُصَلِّينَ عِنْدَهُ بَعْدَ الطَّوَافِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ عِنْدَهُ حَيْثُ قَالَ: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ فَأَغْنَى عَنْ إعادته ههنا ولله الحمد والمنة، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبراهيم} أي فمنهن مقام إبراهيم والمشاعر، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَثَرُ قَدَمَيْهِ فِي الْمَقَامِ آيَةٌ بينة، وقال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة: وموطىء إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ * عَلَى قَدَمَيْهِ حافياَ غير ناعل وقال ابن أبي حاتم عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} قَالَ: الْحَرَمُ كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. وقوله تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} يَعْنِي حَرَمُ مَكَّةَ إِذَا دَخَلَهُ الْخَائِفُ يَأْمَنُ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْتُلُ فَيَضَعُ فِي عُنُقِهِ صُوفَةً وَيَدْخُلُ الْحَرَمَ، فَيَلْقَاهُ ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج، وعن ابن عباس قَالَ: مَنْ عَاذَ بِالْبَيْتِ أَعَاذَهُ الْبَيْتُ، وَلَكِنْ لَا يُؤْوَى وَلَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى، فَإِذَا خرج أخذ بذنبه، وقال الله تعالى: {أَوَ لم يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم من خوف} وَحَتَّى إِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ تَحْرِيمِهَا حُرْمَةُ اصْطِيَادِ صيدها وتنفيره عن أوكاره، وحرمة قطع شجرها وَقَلْعِ حَشِيشِهَا، كَمَا ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي ذلك.

فَفِي الصَّحِيحَيْنِ - وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فانفروا»، وقال يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ"إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا فِي سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خلاها"، فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: «إِلَّا الْإِذْخِرَ». وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يحرمها الناس فلا يحل لامرىء يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دماً، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، فَقُولُوا لَهُ: إن الله أذن لنبيه وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كحرمتها بالأمس فليبلغ الغائب"، فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرِبَةٍ (رَوَاهُ الشيخان واللفظ لمسلم، والخربة: أصلها سرقة الإبل، وتطلق على كل خيانة وقيل هي الفساد فِي الدين. مِنْ الخارب وهو اللص المفسد في الأرض) وعن جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لأحد أن يحمل السلاح بمكة» (رواه مسلم) وعن عبد الله بْنِ الْحَمْرَاءِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وهو واقف بالحرورة بسوق مكة يقول: «وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخرجت مِنْكِ ما خرجت» (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة) وقال بعضهم فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} قال: آمناً من النار. وقوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليه سبيلاً} هذه أول آيَةُ وُجُوبِ الْحَجِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ بَلْ هي قوله: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَعَدِّدَةُ بِأَنَّهُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَدَعَائِمِهِ وَقَوَاعِدِهِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعًا ضَرُورِيًّا، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَاحِدَةً بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ فَحُجُّوا»، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ»، ثُمَّ قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» (رواه أحمد ومسلم) وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ»، فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فقال: «لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَعْمَلُوا بها ولن تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْمَلُوا بِهَا، الْحَجُّ مَرَّةً فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ)

وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ فَأَقْسَامٌ: تَارَةً يَكُونُ الشَّخْصُ مُسْتَطِيعًا بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً بِغَيْرِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كتب الأحكام عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنِ الْحَاجُّ يَا رَسُولَ الله؟ قال: «الشعث التفل» (الشعث: مغبر الشعر متلبده. (التَّفِل): منتن الرائحة) فقال آخَرُ فَقَالَ: أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ يَا رَسُولَ الله؟ قال: «العج والثج» (العج رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة دم الهدْي) فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَا السَّبِيلُ يَا رَسُولَ الله، قال: «الزاد والراحلة» (رواه الترمذي وابن ماجة) وعن أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سئل عن قول الله عز وجل: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فَقِيلَ: مَا السَّبِيلُ؟ قال: «الزاد والراحلة» (رواه الحاكم وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ - يَعْنِي الْفَرِيضَةَ - فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ له» (رواه الإمام أحمد) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أراد الحج فليتعجل» (رواه أحمد وأبو داود) وروى وكيع بن الجراح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سبيلا} قال: «الزاد والبعير». وقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، قال ابن عباس: أَيْ وَمَنْ جَحَدَ فَرِيضَةَ الْحَجِّ فَقَدْ كَفَرَ وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عن عكرمة: لَمَّا نَزَلَتْ: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} قَالَتِ الْيَهُودُ: فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَاخْصَمْهُمْ فَحَجَّهُمْ يَعْنِي، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ فرض على المسليمن حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، فَقَالُوا: لم يكتب علينا، وأبو أن يحجوا، قال الله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} " عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "من مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَلَمْ يَحُجَّ بَيْتَ اللَّهِ فلا يضره مات يهودياً أو نصرانياً، وذلك بِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا* وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} " (رواه ابن مردويه وابن جرير) وروى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (لَقَدْ هَمَمْتُ أَنَّ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى هَذِهِ الأمصار فينظروا إلى كل من كان عنده جَدَة (أي سعة) فَلَمْ يَحُجَّ، فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ).

- 98 - قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ - 99 - قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ هَذَا تَعْنِيفٌ من الله تعالى للكفرة أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى عِنَادِهِمْ لِلْحَقِّ، وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ الله وصدهم عن سبيل الله مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ حق من الله، وقد توعدهم الله على ذلك، وأخبر بأنه شهيد على صنيعهم بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء، ومعاملتهم الرسول المبشر بالتكذيب والجحود والعناد، فأخبر تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ، أَيْ وسيجزيهم على ذلك: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ}.

- 100 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ - 101 - وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صراط مستقيم يحذر تبارك وتعالى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يُطِيعُوا طَائِفَةً مِنَ أهل الكتاب، الذي يَحْسُدُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فضله، وما منحهم مِنْ إِرْسَالِ رَسُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ حسداً من مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} الآية، وهكذا قال ههنا: {إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} ثم قال تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وفيكم رسوله} يعيني أَنَّ الْكُفْرَ بَعِيدٌ مِنْكُمْ - وَحَاشَاكُمْ مِنْهُ - فَإِنَّ آيَاتِ اللَّهِ تَنْزِلُ عَلَى رَسُولِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَهُوَ يَتْلُوهَا عَلَيْكُمْ وَيُبَلِّغُهَا إِلَيْكُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مؤمنين} وكما جاء فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأصحابه يوما «أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيمَانًا؟» قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ، قَالَ: «وَكَيْفَ لَا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ»، قَالُوا: فَنَحْنُ، قَالَ: «وَكَيْفَ لَا تُؤْمِنُونَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ»، قَالُوا: فَأَيُّ النَّاسِ أَعْجَبُ إِيمَانًا؟ قَالَ: «قَوْمٌ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يَجِدُونَ صُحُفًا يؤمنون بما فيها». ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، أَيْ وَمَعَ هَذَا فَالِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ هُوَ الْعُمْدَةُ فِي الهداية، والعدة في مباعددة الْغَوَايَةِ، وَالْوَسِيلَةُ إِلَى الرَّشَادِ، وَطَرِيقِ السَّدَادِ وَحُصُولِ المراد.

- 102 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - 103 - وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ عن عبد الله بن مسعود: {اتقو اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قَالَ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكَرَ فلا يكفر، وروي مرفوعاً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اتقو اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى» (رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين، قال ابن كثير: والأظهر أنه موقوف) وَرُوِيَ عَنْ أنَس أَنَّهُ قَالَ: لَا يَتَّقِي اللَّهَ العبدُ حق تقاته حتى يخزن لِسَانِهِ، وَقَدْ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو العالية إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فاتقو الله مَا استطعتم} وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس في قوله تعالى: {اتقو اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قَالَ: لَمْ تُنْسَخْ وَلَكِنْ حَقَّ تُقَاتِهِ أَنْ يُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَلَا تَأْخُذْهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَيَقُومُوا بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ. وقوله تعالى: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، أَيْ حَافَظُوا عَلَى الْإِسْلَامِ فِي حَالِ صِحَّتِكُمْ وَسَلَامَتِكُمْ، لِتَمُوتُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ قَدْ أَجْرَى عَادَتَهُ بِكَرَمِهِ، أَنَّهُ مَنْ عَاشَ عَلَى شَيْءٍ مَاتَ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى شَيْءٍ بُعِثَ عَلَيْهِ، فَعِيَاذًا بالله من خلاف ذلك.

روى الإمام أحمد عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وابن عباس جالس معه محجن (عصا منعطفة الرأس) فَقَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، ولو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فَكَيْفَ بِمَنْ لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ إِلَّا الزَّقُّومُ»!؟ (رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة) وقال الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتُدْرِكْهُ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْتِي إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إليه». وفي الحديث الصحيح عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بالله عزَّ وجلَّ» وعن أنَس قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مَرِيضًا فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَوَافَقَهُ فِي السُّوقِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: «كَيْفَ أَنْتَ يَا فُلَانُ»؟ قَالَ بِخَيْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْجُو اللَّهَ وَأَخَافُ ذُنُوبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عبدٍ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يخاف» (رواه الحافظ البزار والترمذي والنسائي). وقوله تعالى: {واعتصوموا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} قِيلَ: {بِحَبْلِ اللَّهِ} أَيْ بِعَهْدِ اللَّهِ كَمَا قَالَ فِي الآية بعدها: {ضربت عليه الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ الناس} أي بعهد وذمة، وقيل: {بِحَبْلِ اللَّهِ} يَعْنِي الْقُرْآنَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْحَارِثِ الأوعور عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ: «هُوَ حبل الله المتين وصراطه المستقيم». وروى ابن مردويه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ، وَهُوَ الشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمَةٌ لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه». وقوله تعالى: {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} أَمَرَهُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفْرِقَةِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَعَدِّدَةُ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ، وَالْأَمْرِ بِالِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا: يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ ولَّاه اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ". وقوله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذا كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَهَذَا السِّيَاقُ فِي شَأْنِ الأوس والخزرج، فإنه قد كان بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَدَاوَةٌ شَدِيدَةٌ وضغائن وإحن، طَالَ بِسَبَبِهَا قِتَالُهُمْ وَالْوَقَائِعُ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَدَخَلَ فِيهِ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ صَارُوا إِخْوَانًا مُتَحَابِّينَ بِجَلَالِ اللَّهِ، مُتَوَاصِلِينَ فِي ذَاتِ اللَّهِ؛ مُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قولبهم ولكن الله أَلَّفَ بينهم} إلى آخر الآية. وَكَانُوا عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ بِسَبَبِ كفرهم فأنقذهم اللَّهُ مِنْهَا أَنْ هَدَاهُمْ لِلْإِيمَانِ. وَقَدِ امْتَنَّ عليهم

بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، فَعَتَبَ مَنْ عَتَبَ منهم، بما فضَّل عليهم في القسمة بما أراده الله، فخطيهم فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي!! وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي!! وعالة فأغناكم الله بي!؟» فكلما قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أمنُّ. وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ (الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ)، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ، مَرَّ بِمَلَأٍ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَسَاءَهُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاتِّفَاقِ وَالْأُلْفَةِ، فَبَعَثَ رَجُلًا مَعَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَهُمْ، وَيُذَكِّرَهُمْ مَا كَانَ مِنْ حُرُوبِهِمْ يَوْمَ بُعَاثٍ وَتِلْكَ الْحُرُوبِ فَفَعَلَ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى حَمِيَتْ نُفُوسُ الْقَوْمِ، وَغَضِبَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَتَثَاوَرُوا وَنَادَوْا بشعارهم، وطلبو أَسْلِحَتَهُمْ وَتَوَاعَدُوا إِلَى الْحَرَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُمْ فَجَعَلَ يُسَكِّنُهُمْ ويقول: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهرركم؟» وَتَلَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ فَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ وَاصْطَلَحُوا وَتَعَانَقُوا، وَأَلْقَوُا السِّلَاحَ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ.

- 104 - وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - 105 - وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - 106 - يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ - 107 - وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهم فِيهَا خَالِدُونَ - 108 - تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ - 109 - وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يَقُولُ تَعَالَى: وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أمة مُنْتَصِبَةٌ لِلْقِيَامِ بِأَمْرِ اللَّهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} قَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ خَاصَّةُ الصَّحَابَةِ، وَخَاصَّةُ الرُّوَاةِ يَعْنِي الْمُجَاهِدِينَ وَالْعُلَمَاءَ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} ثُمَّ قَالَ: «الْخَيْرُ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ وَسُنَّتِي» (أخرجه ابْنُ مَرْدَوَيْهِ) وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تكون فرقة من هذه الْأُمَّةِ مُتَصَدِّيَةٌ لِهَذَا الشَّأْنِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأُمَّةِ بِحَسْبِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ». وروى الإمام أحمد عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ

الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لكم" (أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة) {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تفروقا واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات} الآية. ينهى تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين، في افتراقهم وَاخْتِلَافِهِمْ وَتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، مع قيام الحجة عليهم. روى الإمام أحمد عن أبي عامر (عبد الله بن يحيى) قَالَ: حَجَجْنَا مَعَ (مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ)، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَامَ حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الظُّهْرِ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ الْكَتَابَيْنِ افْتَرَقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً - يَعْنِي الْأَهْوَاءَ - كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةٌ - وَهِيَ الْجَمَاعَةُ - وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تتجارى بهم الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الكَلَب بِصَاحِبِهِ لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ» وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَئِنْ لَمْ تَقُومُوا بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به" (رواه أحمد وأبو داود) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}؟ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، وَهَذَا الْوَصْفُ يَعُمُّ كُلَّ كَافِرٍ، {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يَعْنِي الْجَنَّةَ مَاكِثُونَ فِيهَا أبداً لا يبغون عنها حولاً. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} أَيْ هَذِهِ آيَاتُ اللَّهِ وَحُجَجُهُ وبيِّناته نَتْلُوهَا عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ {بِالْحَقِّ} أَيْ نَكْشِفُ مَا الأمر عليه في الديا وَالْآخِرَةِ، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} أَيْ لَيْسَ بِظَالِمٍ لَهُمْ، بَلْ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا يَجُورُ، لِأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، ولهذا قال تعالى: {وَللَّهِ ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ} أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكٌ لَهُ وَعَبِيدٌ لَهُ، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أَيْ هو الحاكم المتصرف فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

- 110 - كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ - 111 - لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ - 112 - ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ الناس وباؤوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِأَنَّهُمْ خير الأمم، قال الْبُخَارِيِّ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {كُنْتُمْ

خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، قَالَ: خَيْرَ النَّاسِ، تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يدخلوا في الإسلام، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ وَأَنْفَعُ النَّاسِ لِلنَّاسِ، ولهذا قال: {تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عن النكر وَتُؤْمِنُونَ بالله}، قال الإمام أحمد: قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أي الناس خير؟ قال: «خير الناس أقرأهم وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ وَآمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ» وعن ابن عباس في قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قَالَ: هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المدينة. والصحيح أنه هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأُمَّةِ كُلُّ قَرْنٍ بِحَسْبِهِ، وَخَيْرُ قُرُونِهِمُ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي خياراً {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} الآية. وفي مسند أحمد وجامع الترمذي مِنْ رِوَايَةِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أنتم خيرها وأكرمها عَلَى اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ» وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، وقد حسَّنه الترمذي، وَإِنَّمَا حَازَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَصَبَ السَّبْقِ إِلَى الخيرات، بنبيِّها محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرُّسُلِ عَلَى اللَّهِ، وَبَعَثَهُ اللَّهُ بِشَرْعٍ كَامِلٍ عظيم، لم يعطه نبي قبله ولا رسول مِنَ الرُّسُلِ، فَالْعَمَلُ عَلَى مِنْهَاجِهِ وَسَبِيلِهِ، يَقُومُ الْقَلِيلُ مِنْهُ مَا لَا يَقُومُ الْعَمَلُ الْكَثِيرُ من أعمال غيرهم مقامه، وفي الحديث: «وجعلت أمتي خير الأمم» (رواه الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب) وقد وردت أحاديث يناسب ذكرها ههنا: عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قلب رجل واحد، فاستزدت ربي فَزَادَنِي مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعِينَ أَلْفًا»، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَرَأَيْتُ أَنَّ ذَلِكَ آتٍ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى وَمُصِيبٌ مِنْ حافات البوادي (رواه الإمام أحمد) (حديث آخر): قال الإمام أحمد، عَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأمم بالموسم فراثت (فراثت: تأخرت) عليّ أمتي، ثم رأيتهم فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم، قد ملؤوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ، فَقَالَ: أَرَضِيتَ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ: فَإِنَّ مَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"، فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: «أَنْتَ مِنْهُمْ»، فَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ». (حَدِيثٌ آخَرُ): قَالَ الطبراني، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عقاب»، قِيلَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ لَا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».

(حَدِيثٌ آخَرُ) ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ وَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ البدر»، قال أبو هريرة: فقام عكاشة بن حصين الأسدي يرفع نمرة (ثوب من صوف) عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ»، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنَ الأنصار فقال مثله، فقال: «سبقك بها عكاشة». (حديث آخر): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه قَالَ: "عُرِضَتْ عليَّ الْأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ معه أحد، إذا رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي؛ فَقِيلَ لِي هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِيَ: انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ الْآخَرِ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ"، ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟» فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: «هُمُ الذي لا يرقون ولا يستقرون ولا يكتوون وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»، فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: «أَنْتَ مِنْهُمْ»، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قال: «سبقك بها عكاشة» (رواه مسلم) (حَدِيثٌ آخَرُ): قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عاصم في كتاب السنن، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَذَابَ، وَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حثيات (حَثَيات: مفردها حَثْي وهو ما غرف باليد) ربي عز وجل". (حديث آخر): قال أبو القاسم الطبراني: عَنْ عَامِرُ بْنُ زَيْدٍ الْبِكَالِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عُتْبَةَ بْنَ عَبْدٍ السُّلَمِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رَبِّي عزَّ وَجَلَّ وَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب، ثُمَّ يَشْفَعُ كُلُّ أَلْفٍ لِسَبْعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ يَحْثِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ بِكَفَّيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ». فَكَبَّرَ عُمَرُ وَقَالَ: إِنَّ السَّبْعِينَ الْأُوَلَ يُشَفِّعُهُمُ الله في آبائهم وأبنائهم وعشيرتهم، وَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَنِي اللَّهُ فِي إِحْدَى الْحَثَيَاتِ الأواخر. قال الحافظ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ صِفَةِ الْجَنَّةِ: لَا أَعْلَمُ لِهَذَا الْإِسْنَادِ عِلَّةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدِيثٌ آخَرُ): قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عن عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ رِفَاعَةَ الْجُهَنِيَّ حَدَّثَهُ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْكُدَيْدِ - أَوْ قَالَ بِقُدَيْدٍ - فَذَكَرَ حَدِيثًا وَفِيهِ ثُمَّ قَالَ: «وَعَدَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنِّي لأرجوا أن لا يدخلوها حتى تبوؤا أَنْتُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَذُرِّيَّاتِكُمْ مَسَاكِنَ في الجنة» قال الضياء: وَهَذَا عِنْدِي عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. (حَدِيثٌ آخَرُ): قال عبد الرزاق، أنبأنا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أنَس قال، قال رسول الله: «إِنَّ اللَّهَ وَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أمتي أربعمائة ألف»، قال أبو بكر رضي الله عنه. زِدْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «وَاللَّهِ هَكَذَا»، قال عُمَرُ: حَسْبُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: دَعْنِي وَمَا عَلَيْكَ أَنْ يُدْخِلَنَا اللَّهُ الجنة كلنا. قال عمر: إن الله إن شاء أَدْخَلَ خَلْقَهُ الْجَنَّةَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ عُمَرُ» هَذَا الحديث بهذا الإسناد تفرد به عبد الرزاق. قال الضِّيَاءُ: وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنَس عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يدخل

الجنة من أمتي مائة ألف»، فقال له أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنَا، قَالَ: «وَهَكَذَا»، وَأَشَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ بِيَدِهِ كَذَلِكَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنَا، فَقَالَ عُمَرُ: إن الله قادر على أَنْ يُدْخِلَ النَّاسَ الْجَنَّةَ بِحَفْنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ عُمَرُ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. (حديث آخر): عَنْ أنَس، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا»، قَالُوا: زِدْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «لِكُلِّ رَجُلٍ سَبْعُونَ أَلْفًا»، قَالُوا: زِدْنَا وَكَانَ على كثيب، فقالوا: فقال: «هكذا» وحثا بيديه، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أّبْعد اللهُ مَنْ دخل النار بعد هذا" (رواه الحافظ أبو يعلى، قال ابن كثير: وإسناده جيد.) ومن الأحاديث الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضِيلَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَشَرَفِهَا وكرامتها على الله عزَّ وجل، وأنها خير الأمم في الدنيا والآخرة ما ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: «أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» فَكَبَّرْنَا، ثم قال: «إني لأرجوا أن تكونوا شطر أهل الجنة». (حديث آخر): قال الإمام أحمد بسنده عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أهل بالجنة عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنْ ذَلِكَ ثمانون صفاً». (حديث آخر) قال الطبراني عن أبي هريرة: لَمَّا نَزَلَتْ: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتُمْ رُبُعُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْتُمْ ثُلُثُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَنْتُمْ نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَنْتُمْ ثُلُثَا أهل الجنة». (حديث آخَرَ): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ أَوَّلُ النَّاسِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، فَهَذَا الْيَوْمُ الذي اختلفوا فيه، الناس لنا في تبع، غداً لليهود، وللنصارى بعد غد» (رواه الحافظ أبو يعلى، قال ابن كثير: وإسناده جيد)

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، فَمَنِ اتَّصَفَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي هذا المدح، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا رأى من الناس دَعَة، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، ثُمَّ قَالَ: (مَن سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ من هذه الْأُمَّةِ فَلْيُؤَدِّ شَرْطَ اللَّهِ فِيهَا)، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِذَلِكَ أَشْبَهَ أَهْلَ الكتاب الذين ذمهم الله بقوله تعالى: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} الآية، ولهذا لما مدح تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، شَرَعَ في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم، فقال تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ} أَيْ بِمَا أُنْزِلَ على محمد، {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ، مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} أَيْ قَلِيلٌ مِنْهُمْ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى الضلالة والكفر والفسوق وَالْعِصْيَانِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُبَشِّرًا لَهُمْ: أَنَّ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ لَهُمْ عَلَى أهل الكتاب الكفرة الملحدين فقال تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ}، هكذا وَقَعَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَ خَيْبَرَ أَذَلَّهُمُ اللَّهُ وَأَرْغَمَ أنوفهم، وَكَذَلِكَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ (بَنِي قَيْنُقَاعَ) وَبَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ كُلُّهُمْ أَذَلَّهُمُ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ النَّصَارَى بِالشَّامِ كَسَرَهُمُ الصَّحَابَةُ فِي غَيْرِ مَا مَوْطِنٍ، وَسَلَبُوهُمْ مُلْكَ الشَّامِ أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ، وَلَا تَزَالُ عِصَابَةُ الْإِسْلَامِ قائمة بالشام حتى ينزل عيسى بن مريم وهم كذلك، ويحكم بملة الإسلام وشرع مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ}، أَيْ أَلْزَمَهُمُ اللَّهُ الذِّلَّةَ وَالصَّغَارَ أينما كانوا فلا يؤمنون {إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ} أَيْ بِذِمَّةٍ مِنَ الله وهو عقد الذمة لهم، وضربت الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ وَإِلْزَامُهُمْ أَحْكَامَ الْمِلَّةِ، {وَحَبْلٍ مِّنَ الناس} أي أمان منهم لهم كَمَا فِي الْمُهَادَنِ وَالْمُعَاهَدِ وَالْأَسِيرِ إِذَا أَمَّنَهُ واحد من المسلمين ولو امرأة، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} أَيْ بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ وعهد من الناس، وَقَوْلُهُ: {وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} أَيْ أُلْزِمُوا، فَالْتَزَمُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ، {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة} أَيْ أُلْزِمُوهَا قَدَرًا وَشَرْعًا، وَلِهَذَا قَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} أي إنما حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْكِبْرُ وَالْبَغْيُ وَالْحَسَدُ، فَأَعْقَبَهُمْ ذلك الذلة والصغار والمسكنة أبداً متصلا بذل الْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} أَيْ إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بآيات الله وقتل رسول اللَّهِ - وقُيِّضوا لِذَلِكَ - أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْثِرُونَ الْعِصْيَانَ لأوامر الله وَالْغَشَيَانَ لِمَعَاصِي اللَّهِ وَالِاعْتِدَاءَ فِي شَرْعِ اللَّهِ، فعياذاً بالله من ذلك، والله عز وجل المستعان.

- 113 - لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ - 114 - يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ - 115 - وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ والله عَلِيمٌ بالمتقين - 116 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا

أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - 117 - مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ المشهور عند كثير من المفسرين أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِيمَنْ آمَنَ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، و (أسد بن عبيد) و (ثعلبة بن شعبة) وَغَيْرِهِمْ، أَيْ لَا يَسْتَوِي مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ بِالذَّمِّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَيْسُواْ سَوَآءً} أَيْ لَيْسُوا كُلُّهُمْ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، بَلْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ ومنهم المجرم، ولهذا قال تعالى: {ومن أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} أَيْ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ مُطِيعَةٌ لِشَرْعِهِ، مُتَّبِعَةٌ نَبِيَّ اللَّهِ فَهِيَ (قَائِمَةٌ) يَعْنِي مُسْتَقِيمَةً، {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} أي يقيمون اللَّيْلَ، وَيُكْثِرُونَ التَّهَجُّدَ، وَيَتْلُونَ الْقُرْآنَ فِي صَلَوَاتِهِمْ، {يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي آخِرِ السُّورَةِ {وإنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ} الآية، ولهذا قال تعالى ههنا: {وما يفعلا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفروه} أَيْ لَا يَضِيعُ عند الله بل يجزيهم بِهِ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ عَمَلُ عَامِلٍ وَلَا يَضِيعُ لَدَيْهِ أَجْرُ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مُخْبِرًا عَنِ الْكَفَرَةِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُ {لَنْ يغني عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي لا ترد عَنْهُمْ بَأْسُ اللَّهِ وَلَا عَذَابُهُ إِذَا أَرَادَهُ بِهِمْ، {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ثم ضرب مثلاً لا ينفقه الكفار في هذه الدار فقال: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فيه صِرٌّ} أَيْ بَرْدٌ شَدِيدٌ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وقال عطاء: برد وجليد، {فِيهَا صِرٌّ} أَيْ نَارٌ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الأول، فإن البرد الشديد ولا سِيَّمَا الْجَلِيدُ يَحْرِقُ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ كَمَا يُحْرَقُ الشَّيْءُ بِالنَّارِ، {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} أي فأحرقته يعني بذلك الصعقة إذا نزلت على حرث قد آن جذاذه أَوْ حَصَادُهُ فَدَمَّرَتْهُ، وَأَعْدَمَتْ مَا فِيهِ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، فَذَهَبَتْ بِهِ وَأَفْسَدَتْهُ فَعَدِمَهُ صَاحِبُهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ يَمْحَقُ اللَّهُ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا كما يذهب ثَمَرَةَ هَذَا الْحَرْثِ بِذُنُوبِ صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ بَنَوْهَا عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ وَعَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.

- 118 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ - 119 - هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ - 120 - إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ

كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَاهِيًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْمُنَافِقِينَ بِطَانَةً، أَيْ يُطْلِعُونَهُمْ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَمَا يُضْمِرُونَهُ لِأَعْدَائِهِمْ، وَالْمُنَافِقُونَ بِجُهْدِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ لَا يَأْلُونَ الْمُؤْمِنِينَ خَبَالًا، أَيْ يَسْعَوْنَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ وما يضرهم بكل ممكن، وبما يستطيعون مِنَ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ؛ وَيَوَدُّونَ مَا يُعْنِتُ الْمُؤْمِنِينَ ويحرجهم ويشق عليهم، وقوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} أَيْ مِنْ غَيْرِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَبِطَانَةُ الرَّجُلِ هُمْ خَاصَّةُ أَهْلِهِ الَّذِينَ يَطَّلِعُونَ عَلَى دَاخِلِ أَمْرِهِ، وقد روى البخاري والنسائي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وتحضُّه عَلَيْهِ وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله ". وقال ابن أبي حاتم: قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أن ههنا غُلَامًا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ حَافِظٌ كَاتِبٌ، فَلَوِ اتَّخَذْتَهُ كَاتِبًا! فَقَالَ: قَدِ اتَّخَذْتُ إِذًا بِطَانَةً مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. فَفِي هَذَا الْأَثَرِ مَعَ هذه الآية دليل عَلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُمْ فِي الْكِتَابَةِ الَّتِي فِيهَا اسْتِطَالَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاطِّلَاعٌ عَلَى دَوَاخِلِ أُمُورِهِمُ الَّتِي يُخْشَى أَنْ يُفْشُوهَا إِلَى الْأَعْدَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} أي تمنوا وقوعكم في المشقة. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} أَيْ قَدْ لاح عل صَفَحَاتِ وُجُوهِهِمْ وَفَلَتَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ، مَعَ مَا هُمْ مُشْتَمِلُونَ عَلَيْهِ فِي صُدُورِهِم مِّنْ الْبَغْضَاءِ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، مَا لَا يَخْفَى مِثْلُهُ على لبيب عاقل، ولهذا قال تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}، وقوله تعالى: {هَا أنتم أولاء تحبوهم وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} أي أنتم أيها المؤمنون تحبون المنافقين بما يُظْهِرُونَ لَكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ فَتُحِبُّونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهُمْ لَا يُحِبُّونَكُمْ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا، {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ} أي ليس عندكم من شَيْءٍ مِنْهُ شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ، وَهُمْ عِنْدَهُمُ الشك والريب والحيرة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} أَيْ بِكِتَابِكُمْ وَكِتَابِهِمْ وَبِمَا مَضَى مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِكِتَابِكُمْ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِالْبَغْضَاءِ لهم منهم لكم، {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} وَالْأَنَامِلُ أَطْرَافُ الْأَصَابِعِ قاله قتادة. وقال الشاعر: «وَمَا حَمَلَتْ كَفَّايَ أَنْمُلِي الْعَشْرَا». وَقَالَ ابْنُ مسعود والسدي: الْأَنَامِلُ الْأَصَابِعُ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ يُظْهِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ وَالْمَوَدَّةَ، وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} وَذَلِكَ أَشَدُّ الْغَيْظِ وَالْحَنَقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ مَهْمَا كُنْتُمْ تَحْسُدُونَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَغِيظُكُمْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مُتِمٌّ نِعْمَتَهُ على عباده المؤمنين ومكمل دينه، ومعلي كَلِمَتَهُ وَمُظْهِرٌ دِينَهُ، فَمُوتُوا أَنْتُمْ بِغَيْظِكُمْ، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ ضَمَائِرُكُمْ، وَتُكِنُّهُ سَرَائِرُكُمْ مِنَ الْبَغْضَاءِ وَالْحَسَدِ وَالْغِلِّ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تأملون، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ فِي النَّارِ الَّتِي أنتم خالدون فيها، لا محيد لكم عنها، ولا خروج لكم منها.

ثم قال تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا} وَهَذِهِ الْحَالُ دَالَّةٌ عَلَى شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ خِصْبٌ وَنَصْرٌ وَتَأْيِيدٌ وَكَثُرُوا وَعَزَّ أَنْصَارُهُمْ ساء ذلك المافقين، وَإِنْ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ سَنَةٌ أَيْ جَدْبٌ أَوْ أديل عليهم الأعداء - لما لله تعالى فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ كَمَا جَرَى يَوْمَ اُحُد - فَرِحَ الْمُنَافِقُونَ بِذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مخاطباً للمؤمنين: {وَإِن تَصْبِرُواْ وتتَّقوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} الآية، يُرْشِدُهُمْ تَعَالَى إِلَى السَّلَامَةِ مِنْ شَرِّ الْأَشْرَارِ وَكَيْدِ الْفُجَّارِ، بِاسْتِعْمَالِ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، الَّذِي هُوَ مُحِيطٌ بِأَعْدَائِهِمْ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لَهُمْ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ إِلَّا بِتَقْدِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ. ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ قِصَّةِ أُحُد وَمَا كَانَ فِيهَا مِنَ الِاخْتِبَارِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَالتَّمْيِيزِ بين المؤمنين والنافقين، وبيان الصَّابِرِينَ فَقَالَ تَعَالَى:

- 121 - وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - 122 - إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ - 123 - وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الوقعة يوم أُحُد عند الجمهور، وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ. وَكَانَتْ وَقْعَةُ أُحُد يَوْمَ السَّبْتِ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ حِينَ قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَسَلِمَتِ الْعِيرُ بِمَا فِيهَا مِنَ التِّجَارَةِ الَّتِي كَانَتْ مَعَ أبي سفيان قَالَ أَبْنَاءُ مَنْ قُتِلَ وَرُؤَسَاءُ مَنْ بَقِيَ لِأَبِي سُفْيَانَ: ارْصُدْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ لِقِتَالِ مُحَمَّدٍ فأنفقوها في ذلك، فجمعوا الجموع والأحابيش وأقبلوا في نحو ثَلَاثَةِ آلَافٍ حَتَّى نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْ أُحُد تِلْقَاءَ الْمَدِينَةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا استشار النَّاسَ: «أَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ أَمْ يَمْكُثُ بِالْمَدِينَةِ»؟ فَأَشَارَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي) بِالْمُقَامِ بِالْمَدِينَةِ، فَإِنْ أَقَامُوا بِشَرِّ مَحْبِسٍ، وَإِنْ دَخَلُوهَا قَاتَلَهُمُ الرِّجَالُ في وجوههم، ورماهم النساء والصبينان بِالْحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ، وَأَشَارَ آخَرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدْ بدراً بالخروح إِلَيْهِمْ. فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلب لَأْمَتَهُ وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ نَدِمَ بَعْضُهُمْ، وَقَالُوا: لَعَلَّنَا اسْتَكْرَهْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ شِئْتَ أَنْ نَمْكُثَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ لَهُ»، فسار صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه، فلما كانوا بالشوط رجع (عبد الله بن أُبي) بثلث الْجَيْشِ مُغْضَبًا لِكَوْنِهِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِهِ، وَقَالَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ: لَوْ نَعْلَمُ الْيَوْمَ قِتَالًا لاتبعناكم ولكنا لا نراكم تقاتلون، وَاسْتَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَائِرًا حَتَّى نَزَلَ الشِّعْبَ مِنْ أُحُدٍ فِي عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلىأحد، وَقَالَ: «لَا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حَتَّى نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ». وَتَهَيَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْقِتَالِ وَهُوَ فِي سَبْعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وأمَّر عَلَى الرُّمَاةِ (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ) أَخَا بني عمرو ابن عَوْفٍ، وَالرُّمَاةُ يَوْمَئِذٍ خَمْسُونَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُمْ: «انْضَحُوا الْخَيْلَ عَنَّا وَلَا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكُمْ، وَالْزَمُوا مَكَانَكُمْ إِنْ كَانَتِ النَّوْبَةُ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخَطَّفُنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ»، وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ،

وَأَعْطَى اللِّوَاءَ (مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ) أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الغلمان يومئذٍ وأخر آخَرِينَ حَتَّى أَمْضَاهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ هَذَا اليوم بقريب من سنتين وتهيأ قريش وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائة فَرَسٍ قَدْ جَنَبُوهَا فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ الْخَيْلِ (خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ) وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ (عِكْرِمَةَ بْنَ أبي جهل) ودفعوا اللواء إلى بني عبد الدار، ثُمَّ كَانَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ في موضعه إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وإذا غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} أي تنزلهم وَتَجْعَلُهُمْ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَحَيْثُ أَمَرْتَهُمْ {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أَيْ سَمِيعٌ لِمَا تَقُولُونَ عَلِيمٌ بِضَمَائِرِكُمْ. وقوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} الآية قال البخاري، قال عمر: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: فِينَا نَزَلَتْ: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} الآية قال: نحن الطائفتان (بنو حارثة) و (بنو سلمة)، وما يسرني أنها لم تنزل لقوله تعالى: {والله وَلِيُّهُمَا}. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} أي يوم بدر، وكان يوم الجمعة وافق السابع عشر من شهر رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ يَوْمُ الْفُرْقَانِ الَّذِي أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وأهله، ودمغ فيه الشرك وخرب محله وحزبه، هَذَا مَعَ قِلَّةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ، فَإِنَّهُمْ كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً، فيهم فارسان وَسَبْعُونَ بَعِيرًا وَالْبَاقُونَ مُشَاةٌ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنَ الْعَدَدِ جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ الْعَدُوُّ يَوْمَئِذٍ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةٍ إِلَى الْأَلْفِ فِي سَوَابِغِ الْحَدِيدِ وَالْبَيْضِ وَالْعِدَّةِ الْكَامِلَةِ، وَالْخُيُولِ المسوَّمة وَالْحُلِيِّ الزَّائِدِ. فَأَعَزَّ اللَّهُ رَسُولَهُ وَأَظْهَرَ وَحْيَهُ وَتَنْزِيلَهُ وَبَيَّضَ وَجْهَ النَّبِيِّ وَقَبِيلَهُ وَأَخْزَى الشَّيْطَانَ وَجِيلَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَحِزْبِهِ الْمُتَّقِينَ، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وأنم أَذِلَّةٌ} أي قليل عددكم لتعلموا أَنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا بكثرة العَدَد والعُدَد، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذا أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} وقال الإمام أحمد، عَنْ سِمَاكٍ قَالَ: سَمِعْتُ عِيَاضًا الْأَشْعَرِيَّ قَالَ: شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء. وقال عمر: إذا كان قتالاً فَعَلَيْكُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ، قَالَ: فَكَتَبْنَا إِلَيْهِ إِنَّهُ قَدْ جَاشَ إِلَيْنَا الْمَوْتُ وَاسْتَمْدَدْنَاهُ، فَكَتَبَ إِلَيْنَا إنه قد جائني كِتَابُكُمْ تَسْتَمِدُّونَنِي وَإِنِّي أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ هُوَ أَعَزُّ نَصْرًا، وَأَحْصَنُ جُنْدًا، اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَاسْتَنْصِرُوهُ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نصر في يَوْمَ بَدْرٍ فِي أَقَلِّ مِنْ عِدَّتِكُمْ، فَإِذَا جاءكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني. قال: فقاتلناهم فهزمناهم أربع فَرَاسِخَ، قَالَ: وَأَصَبْنَا أَمْوَالًا فَتَشَاوَرْنَا. فَأَشَارَ عَلَيْنَا عِيَاضٌ أَنْ نُعْطِيَ عَنْ كُلِّ ذِي رَأْسٍ عشرة. و (بدر) مَحَلَّةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ تُعْرَفُ بِبِئْرِهَا مَنْسُوبَةٌ إِلَى رَجُلٍ حَفَرَهَا يُقَالُ لَهُ (بَدْرُ بْنُ النَّارَيْنِ) قَالَ الشَّعْبِيُّ: بَدْرٌ بِئْرٌ لِرَجُلٍ يُسَمَّى بَدْرًا، وَقَوْلُهُ: {فَاتَّقُواْ اللًّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أَيْ تقومون بطاعته.

- 124 - إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ - 125 - بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ - 126 - وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ - 127 - لِيَقْطَعَ طَرَفاً

مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ - 128 - لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ - 129 - وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْوَعْدِ: هَلْ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أَوْ يَوْمَ أُحُد؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، (أَحَدُهُمَا): أَنَّ قَوْلَهُ: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} مُتَعَلِّقٌ بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله ببدر} وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. قَالَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عن الحسن في قوله: {إذا تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ}، قَالَ: هَذَا يَوْمُ بدر. ووقال الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: أَمَدَّ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَلْفٍ، ثُمَّ صَارُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ ثُمَّ صَارُوا خَمْسَةَ آلَافٍ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ على هذا القول وبين قوله فِي قِصَّةِ بَدْرٍ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ - إلى قوله - إِن الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}؟ فالجواب أن التنصيص على الألف ههنا لَا يُنَافِي الثَّلَاثَةَ الْآلَافَ فَمَا فَوْقَهَا لِقَوْلِهِ: {مُرْدِفِينَ} بِمَعْنَى يَرْدَفُهُمْ غَيْرُهُمْ وَيَتْبَعُهُمْ أُلُوفٌ أُخَرُ مِثْلُهُمْ، وَهَذَا السِّيَاقُ شَبِيهٌ بِهَذَا السِّيَاقِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَنَّ قِتَالَ الْمَلَائِكَةِ إِنَّمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَاللَّهُ أعلم (الْقَوْلُ الثَّانِي): أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} وَذَلِكَ يَوْمُ أحُد، وَهُوَ قول مجاهد وعكرمة والضحاك، لَكِنْ قَالُوا: لَمْ يَحْصُلِ الْإِمْدَادُ بِالْخَمْسَةِ الْآلَافِ لأن المسلمين فروا يومئذٍ وقوله تعالى: {بلى إِن تَصْبِرُواْ تتقوا} يعني تصبروا على مصابرة عدوكم، تتقوني وتطيعوا أمري، وقوله تعالى: {وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَيْ مِنْ وَجْهِهِمْ هَذَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: أي من غضبهم هذا. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ سَفَرِهِمْ هَذَا، وَيُقَالُ: مِنْ غضبهم هذا، وقوله تعالى: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بخمسة آلالف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ} أي معلمين بالسيما. عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ الصُّوفَ الْأَبْيَضَ، وَكَانَ سِيمَاهُمْ أَيْضًا فِي نَوَاصِي خيولهم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه فِي هَذِهِ الْآيَةِ {مُسَوِّمِينَ} قَالَ: بِالْعِهْنِ الْأَحْمَرِ، وقال ابن عباس رضي الله عنه: أَتَتِ الْمَلَائِكَةُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَوِّمِينَ بِالصُّوفِ فَسَوَّمَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنْفُسَهُمْ وَخَيْلَهُمْ على سيماهم بالصوف، وقال قتادة وعكرمة: {مُسَوِّمِينَ} أي بسيما القتال. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بدر عمائم بيض قَدْ أَرْسَلُوهَا فِي ظُهُورِهِمْ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عَمَائِمَ حمر، وَلَمْ تَضْرِبِ الْمَلَائِكَةُ فِي يَوْمٍ سِوَى يَوْمِ بدر، وكانوا يكونون عدداً ومدداً لا يضربون. وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} أَيْ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ وأعلمكم بإنزالهم إِلَّا بِشَارَةً لَكُمْ وَتَطْيِيبًا لِقُلُوبِكُمْ وَتَطْمِينًا، وَإِلَّا فَإِنَّمَا النَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الَّذِي لَوْ شَاءَ لَانْتَصَرَ مِنْ أَعْدَائِهِ بِدُونِكُمْ، وَمِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى قِتَالِكُمْ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ أَمْرِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ ليبو بعضكم بِبَعْضٍ}، ولهذا قال ههنا: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} أَيْ هُوَ ذُو الْعِزَّةِ الَّتِي لَا تُرَامُ، وَالْحِكْمَةِ فِي قَدَرِهِ وَالْإِحْكَامِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ أَمَرَكُمْ بِالْجِهَادِ وَالْجِلَادِ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَلِهَذَا ذَكَرَ جَمِيعَ الْأَقْسَامِ الْمُمْكِنَةِ فِي الْكُفَّارِ الْمُجَاهِدِينَ، فَقَالَ: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً} أَيْ لِيُهْلِكَ أُمَّةً {مِنَ الذين كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ} أَيْ يَرْجِعُوا {خَآئِبِينَ}، أَيْ لَمْ يَحْصُلُوا عَلَى مَا أَمَّلُوا، ثُمَّ اعْتَرَضَ بِجُمْلَةٍ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَقَالَ تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}، أَيْ بَلِ الأمر كله إليّ، كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وعلينا الحساب} وقال: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكنَّ الله يهد من يشاء} وَقَالَ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَن يشاء} وقال مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أَيْ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْحُكْمِ شَيْءٌ فِي عِبَادِي إِلَّا مَا أَمَرْتُكَ به فيهم. ثم ذكر بَقِيَّةَ الْأَقْسَامِ فَقَالَ: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أَيْ مما هم فيه من الكفر فيهديهم بَعْدَ الضَّلَالَةِ {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} أي يستحقون ذلك، قال البخاري: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَى رِجَالٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ حتى أنزل اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية. وقال البخاري أيضاً، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أراد أن يدعوا عَلَى أَحَدٍ أَوْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَرُبَّمَا قَالَ، إِذَا قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ" يَجْهَرُ بِذَلِكَ، وَكَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا» لِأَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية. وقال الإمام أَحْمَدَ: عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أَحُد وشج في وجهه حَتَّى سَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَالَ: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى ربهم عزَّ وجلَّ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (أخرجه مسلم والإمام أحمد في المسند) وقال ابن جرير: عن قتادة قال: أصيب النبي يَوْمَ أُحُدٍ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَفُرِقَ حَاجِبُهُ، فَوَقَعَ وَعَلَيْهِ دِرْعَانِ وَالدَّمُ يَسِيلُ، فَمَرَّ بِهِ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ فَأَجْلَسَهُ وَمَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ، فَأَفَاقَ وَهُوَ يَقُولُ: «كَيْفَ بِقَوْمٍ فَعَلُوا هَذَا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله عز وجل؟» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية. ثم قال تعالى: {وَللَّهِ مَا فِي السموات وما في الأرض} الآية، أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكٌ لَهُ، وَأَهْلُهُمَا عَبِيدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

- 130 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - 131 - وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ - 132 - وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ - 133 - وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا

السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - 134 - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ - 135 - وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ - 136 - أُولَئِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ تَعَاطِي الرِّبَا وأكله أضعافاً مضاعفة، كما كانوا في الجاهلية يقولون إذا حل أجل الدَّيْنُ: إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، فَإِنْ قَضَاهُ وَإِلَّا زَادَهُ فِي الْمُدَّةِ وَزَادَهُ فِي الْقَدْرِ، وَهَكَذَا كُلُّ عَامٍ فَرُبَّمَا تَضَاعَفَ الْقَلِيلُ حَتَّى يَصِيرَ كَثِيرًا مُضَاعَفًا، وَأَمَرَ تَعَالَى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى وفي الآخرة، ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها، فقال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ثُمَّ نَدَبَهُمْ إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَالْمُسَارِعَةِ إِلَى نَيْلِ الْقُرُبَاتِ، فقال تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السموات وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} أَيْ كَمَا أُعِدَّتِ النَّارُ للكافرين. وقد قيل: إن في معنى قوله: {عرضها السموات وَالْأَرْضُ} تَنْبِيهًا عَلَى اتِّسَاعِ طُولِهَا، كَمَا قَالَ فِي صِفَةِ فَرْشِ الْجَنَّةِ: {بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} أَيْ فَمَا ظَنُّكَ بِالظَّهَائِرِ، وَقِيلَ: بَلْ عَرْضُهَا كطولها لأنها قبة تحت العرش، والشي الْمُقَبَّبُ وَالْمُسْتَدِيرُ عَرْضُهُ كَطُولِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تفجَّر أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَسَقْفُهَا عرش الرحمن» وهذه الآية كقوله في (سورة الحديد): {سابقوا إلى غفرة مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الآية. وَقَدْ رُوِّينَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ (هِرَقْلَ) كَتَبَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات وَالْأَرْضُ فَأَيْنَ النَّارُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ فَأَيْنَ اللَّيْلُ إِذَا جاء النهار». وَهَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، (أَحَدُهُمَا): أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يَكُونَ فِي مَكَانٍ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُهُ، وَكَذِلَكَ النَّارُ تَكُونُ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وجل، وهذا أظهر، (الثَّانِي): أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ النَّهَارَ إِذَا تَغَشَّى وَجْهَ الْعَالَمِ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ يَكُونُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَكَذَلِكَ الْجَنَّةُ في أعلى عليين فوق السموات تَحْتَ الْعَرْشِ وَعَرْضُهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وجلّ: {كعرض السموات والأرض} وَالنَّارُ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ كونها كعرض السموات وَالْأَرْضِ وَبَيْنَ وُجُودِ النَّارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى صفةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّاءِ} أَيْ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، كَمَا قَالَ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ والنهار سراً وعلانية}، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَشْغَلُهُمْ أَمْرٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِنْفَاقِ فِي مَرَاضِيهِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ مِنْ قَرَابَاتِهِمْ وَغَيْرِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، أَيْ إِذَا ثار بهم

الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعملوه، وعفو مَعَ ذَلِكَ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ وَرَدَ في بعض الآثار: «يقول تعالى يا ابْنَ آدَمَ اذْكُرْنِي إِذَا غَضِبْتَ، أَذْكُرُكَ إِذَا غَضِبْتُ فَلَا أُهْلِكُكَ فِيمَنْ أُهْلِكُ» (رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُرعة وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغضب» (أخرجه الإمام أحمد) وقال الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ من ماله»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ، قَالَ: «اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ مال وارثه أحب إليه من ماله، مالَكَ من مالِكَ إِلاَّ مَا قدمت، وما لوارثك إلا مَا أَخَّرْتَ» قَالَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما تعدون الصرعة فيكم! قلنا الذي لا تصرعه الرجال، قال: «لا، ولكن الذي يملك نفسه عن الغضب». قَالَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتدرون ما الرقوب» قُلْنَا الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ، قَالَ «لَا، ولكن الرقوب الذي لا يقدم من ولده شيئاً» (رواه أحمد وأخرج البخاري النّص الأول منه). (حديث آخر) قال الإمام أحمد، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أنَس عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ». (حديث آخَرَ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله جوفه أمناً وإيماناً». فقوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} أَيْ لَا يَعْمَلُونَ غَضَبَهُمْ فِي النَّاسِ بَلْ يَكُفُّونَ عَنْهُمْ شَرَّهُمْ وَيَحْتَسِبُونَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} أَيْ مَعَ كَفِّ الشَّرِّ يَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يَبْقَى فِي أَنْفُسِهِمْ مَوْجِدَةً عَلَى أَحَدٍ، وَهَذَا أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فَهَذَا مِنْ مَقَامَاتِ الْإِحْسَانِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، مَا نَقَصَ مالٌ مِنْ صَدَقَةٍ، وَمَا زَادَ الله عبداً بعفو إلاعزاً، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ». وَرَوَى الْحَاكِمُ في مستدركه، عَنْ أُبّي بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «ومن سَرَّهُ أَنْ يُشْرَفَ لَهُ الْبُنْيَانُ وَتُرْفَعَ لَهُ الدَّرَجَاتُ، فَلْيَعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَهُ، ويعطِ مَنْ حَرَمَهُ، ويصلْ من قطعه». وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى منادٍ يَقُولُ: أَيْنَ الْعَافُونَ عَنِ النَّاسِ، هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، وَخُذُوا أجوركم، وحق على كل امرىء مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة" (أخرجه ابن مردويه) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} أَيْ إِذَا صَدَرَ مِنْهُمْ ذَنْبٌ أَتْبَعُوهُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ. قال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن رجلاً أذنب ذنباً فَقَالَ: رَبِّ إِنَّ أذنبت ذنباً فاغفره لي، فَقَالَ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ: عَبْدِي عَمِلَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ به قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنبا آخَرَ فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ قَدْ غَفَرْتُ لعبدي، ثم عمل ذنبا آخر فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي عملت ذنباً

فاغفر لِي، فَقَالَ عزَّ وجلَّ: عَلِمَ عَبْدَيْ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ قَدْ غفرت لعبدي، ثم عمل ذنبا آخر فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي عملت ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ فَقَالَ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ عَبْدِي عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ ما شاء" وعن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ. وَإِذَا حدثني عنه غيره اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَنِي، وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذنباً فيتوضأ ويحسن الوضوء ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إلا غفر له» (رواه أحمد وأهل السنن وابن حبان) وَمِمَّا يَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ ابن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغَ - أَوْ فَيُسْبِغَ - الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثمانية يدخل من أيها شاء". عن أنَس رضي الله عنه قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} بكى. وعن أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ، فَأَكْثِرُوا مِنْهُمَا فَإِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: أَهْلَكْتُ النَّاسَ بِالذُّنُوبِ، وَأَهْلَكُونِي بِلَا إله إلا الله والاستغفار، فلم رَأَيْتُ ذَلِكَ أَهْلَكْتُهُمْ بِالْأَهْوَاءِ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مهتدون" (رواه الحافظ أبو يعلى) وروى الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ إِبْلِيسُ: يَا رَبِّ وعزتك لا أزال أغوي بني آدم مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ تعالى: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا استغفروني" وقوله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} أَيْ لَا يغفرها أحد سواه، وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَيْ تَابُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَرَجَعُوا إِلَى الله عز وجل عَنْ قَرِيبٍ، وَلَمْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَيُصِرُّوا عَلَيْهَا غَيْرَ مُقْلِعِينَ عَنْهَا وَلَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُمُ الذنب تابوا منه، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ في اليوم سبعين مرة» (أخرجه أبو داود والترمذي والبزار) {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَنَّ مَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} وكقوله: {ومن يعلم سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً} ونظائر هذا كثيرة جداً، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ وَصْفِهِمْ بِمَا وَصَفَهُمْ به: {أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} أَيْ جَزَاؤُهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ {مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشْرُوبَاتِ، {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا، {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} يَمْدَحُ تَعَالَى الْجَنَّةَ.

- 137 - قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ - 138 - هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ - 139 - وَلَا تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ - 140 - إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ

الظَّالِمِينَ - 141 - وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ - 142 - أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ - 143 - وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا عباده المؤمنين لما أُصِيبُوا يَوْمَ أُحُدٍ وَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}، أَيْ قَدْ جَرَى نَحْوَ هَذَا عَلَى الْأُمَمِ الَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِكُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ كَانَتِ الْعَاقِبَةُ لهم والدائرة على الكافرين، ولهذا قال تعالى: {فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين}، ثم قال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} يَعْنِي الْقُرْآنَ فِيهِ بَيَانٌ الأمور عَلَى جَلِيَّتِهَا وَكَيْفَ كَانَ الْأُمَمُ الْأَقْدَمُونَ مَعَ أَعْدَائِهِمْ، {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} يَعْنِي الْقُرْآنَ فِيهِ خَبَرُ ما قبلكم وهدى لقلوبكم وموعظة أَيْ زَاجِرٌ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ. ثُمَّ قَالَ تعالى مُسَلِّيًا لِلْمُؤْمِنِينَ: {وَلاَ تَهِنُوا} أَيْ لَا تَضْعُفُوا بِسَبَبِ مَا جَرَى، {وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَيِ الْعَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} أَيْ إِنْ كُنْتُمْ قَدْ أصبتكم جراح وقتل منكم طائفة فقد أصاب أعدائكم قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ قَتْلٍ وَجِرَاحٍ، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} أَيْ نُدِيلُ عَلَيْكُمُ الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي مِثْلِ هَذَا لِنَرَى مَنْ يَصْبِرُ عَلَى مُنَاجَزَةِ الْأَعْدَاءِ {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} يَعْنِي يُقْتَلُونَ فِي سَبِيلِهِ وَيَبْذُلُونَ مُهَجَهُمْ فِي مَرْضَاتِهِ، {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} أَيْ يكفِّر عَنْهُمْ مِنْ ذنوبهم إن كانت لَهُمْ ذُنُوبٌ، وَإِلَّا رُفِعَ لَهُمْ فِي دَرَجَاتِهِمْ بحسب ما أصيبوا به. وقوه تعالى: {وَيَمْحَقَ الكافرين} أي فإنهم إذا ظفرا بَغَوْا وَبَطَرُوا، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ دَمَارِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ ومحقهم وفنائهم، ثم قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تدخلو الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}، أَيْ أَحَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمْ تُبْتَلَوْا بِالْقِتَالِ وَالشَّدَائِدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وزلزلوا} وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} الآية، ولهذا قال ههنا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} أَيْ لَا يَحْصُلُ لَكُمْ دُخُولُ الْجَنَّةِ حَتَّى تُبْتَلَوْا، وَيَرَى اللَّهُ مِنْكُمُ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، وَالصَّابِرِينَ على مقاومة الأعداء. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} أَيْ قَدْ كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم تتمونون لقاء العدو، وتحترقون عليه وَتَوَدُّونَ مُنَاجَزَتَهُمْ وَمُصَابَرَتَهُمْ، فَهَا قَدْ حَصَلَ لَكُمُ الَّذِي تَمَنَّيْتُمُوهُ وَطَلَبْتُمُوهُ فَدُونَكُمْ فَقَاتِلُوا وَصَابِرُوا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «لا تتمنوا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ»، ولهذا قال تعالى: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} يعني الموت شاهدتموه وقت حدِّ الْأَسِنَّةِ وَاشْتِبَاكِ الرِّمَاحِ، وَصُفُوفِ الرِّجَالِ لِلْقِتَالِ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ يُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا بِالتَّخْيِيلِ، وَهُوَ مُشَاهَدَةُ مَا لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ كَالْمَحْسُوسِ، كَمَا تَتَخَيَّلُ الشَّاةَ صَدَاقَةَ الْكَبْشِ، وَعَدَاوَةَ الذِّئْبِ.

- 144 - وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ - 145 - وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ - 146 - وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ - 147 - وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ - 148 - فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ لَمَّا انْهَزَمَ مَنِ انْهَزَمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أحُد وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، نَادَى الشَّيْطَانُ: أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، وَرَجَعَ (ابْنُ قَمِيئَةَ) إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ لَهُمْ: قَتَلْتُ مُحَمَّدًا، وَإِنَّمَا كَانَ قَدْ ضَرَبَ رسول الله فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قُتِلَ وَجَوَّزُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ - كَمَا قَدْ قَصَّ اللَّهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السلام - فحصل ضعف ووهن وَتَأَخُّرٌ عَنِ الْقِتَالِ، فَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أَيْ لَهُ أُسْوَةٌ بِهِمْ فِي الرِّسَالَةِ وَفِي جَوَازِ الْقَتْلِ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا فُلَانُ أَشَعَرْتَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: إِنْ كَانَ محمداً قَدْ قُتِلَ فَقَدْ بلَّغ، فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ، فنزل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رسول فقد خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} (رواه الحافظ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى مَنْ حَصَلَ لَهُ ضَعْفٌ: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} أَيْ رَجَعْتُمُ الْقَهْقَرَى، {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} أَيِ الَّذِينَ قَامُوا بِطَاعَتِهِ وَقَاتَلُوا عَنْ دِينِهِ، وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ والمسانيد والسنن أن الصدّيق رضي الله عنه تلاهذه الْآيَةَ لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. عن عائشة رضي الله عنها أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْبَلُ عَلَى فَرَسٍ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسَّنْحِ حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فتيمَّم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وهو مغطى بثوب حبرة: فكشف عن وجهه ثم أكب عليه قبّله وبكى، ثم قال: بأبي أن وَأُمِّي وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ: أما الموتة التي كتب عليك فقد متها (رواه البخاري)، وروى الزهري: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر، قال أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا بَعْدُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، فقال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ - إِلَى قَوْلِهِ - وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}، قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يعلموا أن

الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلاها منه الناس كلهم فما أسمع بشراً من الناس إلاّ يتلوها. وَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بكر تلاها فعرقت حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلَايَ، وَحَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأرض. وقال أبو القاسم الطبراني، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عَلِيًّا كان يقول فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} والله لا ننقلب على أعقابنا عبد إذا هَدَانَا اللَّهُ، وَاللَّهُ لَئِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ لَأُقَاتِلَنَّ عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ حَتَّى أَمُوتَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخُوهُ وَوَلِيُّهُ وَابْنُ عَمِّهِ وَوَارِثُهُ فم أحق به مني؟ وقوله تعالى: {وما كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تموت إلا ذبإذن اللَّهِ كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} أَيْ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ إِلَّا بِقَدَرِ اللَّهِ وَحَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْمُدَّةَ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} كَقَوْلِهِ: {وَمَا يُعَمَّر مِن مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ}، وَكَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ} وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا تَشْجِيعٌ لِلْجُبَنَاءِ وَتَرْغِيبٌ لَهُمْ في القتال، فإن الإقدام الإحجام لَا يَنْقُصُ مِنَ الْعُمُرِ وَلَا يَزِيدُ فِيهِ، كما قال ابن أبي حاتم عن حبيب بن ظبيان: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ (حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ): مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَعْبُرُوا إِلَى هَؤُلَاءِ العدو هذه النطفة - يعني دجلة - {ما كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} ثُمَّ أَقْحَمَ فَرَسَهُ دِجْلَةَ، فَلَمَّا أَقْحَمَ أَقْحَمَ النَّاسُ، فَلَمَّا رَآهُمُ الْعَدُوُّ قَالُوا: ديوان ... فهربوا. وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا، وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} أَيْ مَنْ كان عمله للدنيا فقط ناله مِنْهَا مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ، وَمَنْ قَصَدَ بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها وما قسم له في الدنيا كما قال تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نصيب}، وَقَالَ تَعَالَى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً}، ولهذا قال ههنا: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} أَيْ سَنُعْطِيهِمْ مِنْ فَضْلِنَا وَرَحْمَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِحَسْبِ شُكْرِهِمْ وَعَمَلِهِمْ. ثُمَّ قال تعالى مسلياً للمؤمنين عَمَّا كَانَ وَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ، {وَكَأَيِّن مِّن نبيّ قالت مع رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} قِيلَ مَعْنَاهُ: كَمْ مِنْ نَبِيٍّ قبل وَقُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ مِنْ أَصْحَابِهِ كَثِيرٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَقَدْ عاتب الله بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَالَّتِي قَبْلَهَا مَنِ انْهَزَمَ يَوْمَ أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَعَذَلَهُمُ اللَّهُ عَلَى فِرَارِهِمْ وَتَرْكِهِمُ الْقِتَالَ فَقَالَ لَهُمْ: {أَفإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ}، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ارْتَدَدْتُمْ عَنْ دِينِكُمْ {وَانْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} وَقِيلَ: وَكَمْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ أَصْحَابِهِ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ. وَكَلَامُ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ يَقْتَضِي قَوْلًا آخَرَ، فإنه قال: وَكَأَيِّن مِّن نبي أصابه القتل ومع رِبِّيُّونَ أَيْ جَمَاعَاتٌ فَمَا وَهَنُوا بَعْدَ نَبِيِّهِمْ، وَمَا ضَعُفُوا عَنْ عَدُوِّهِمْ، وَمَا اسْتَكَانُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي الْجِهَادِ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ الصَّبْرُ {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} فَجَعَلَ قَوْلَهُ: {مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} حَالًا، وَقَدْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ السُّهَيْلِيُّ وَبَالَغَ فِيهِ، وَلَهُ اتِّجَاهٌ لِقَوْلِهِ: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ} الآية. وقرأ بعضهم: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} أَيْ أُلُوفٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد وقتادة: الربيون الجموع الكثيرة، وقال الْحَسَنِ: {رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}، أَيْ عُلَمَاءُ كَثِيرٌ، وَعَنْهُ أيضاً: علماء صبر أي أَبْرَارُ أَتْقِيَاءُ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ أَنَّ الرِّبِّيِّينَ هُمُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الرب

عزَّ وجلَّ قال: ورد بعضهم عليه فقال: لَوْ كَانَ كذلك لقيل الربيون بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرِّبِّيُّونَ الْأَتْبَاعُ والرعية والربانيون الْوُلَاةُ، {فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُوا} قَالَ قَتَادَةُ: {وَمَا ضَعُفُواْ} بِقَتْلِ نَبِيِّهِمْ، {وَمَا اسْتَكَانُوا} يَقُولُ: فَمَا ارْتَدُّوا عَنْ نُصْرَتِهِمْ وَلَا عَنْ دِينِهِمْ أَنْ قَاتَلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ نَبِيُّ اللَّهِ حَتَّى لَحِقُوا بِاللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَمَا استكانوا} تخشعوا، قال ابن زيد: وما ذلوا لعدوهم، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ* وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الكافرين} أي لم يكن لهم هجير (أي دأب وعادة وما يكثر على اللسان جريانه) إِلَّا ذَلِكَ، {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} أَيِ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ وَالْعَاقِبَةَ {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} أَيْ جَمَعَ لَهُمْ ذَلِكَ مَعَ هَذَا {وَاللَّهُ يُحِبُّ المحسنين}.

- 149 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ - 150 - بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ - 151 - سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ - 152 - وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ - 153 - إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ يُحَذِّرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ طَاعَةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّ طَاعَتَهُمْ تُورِثُ الرَّدَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قال تعالى: {إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ}، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ به والتوكل عليه فقال تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}، ثُمَّ بَشَّرَهُمْ بِأَنَّهُ سَيُلْقِي فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمُ الْخَوْفَ مِنْهُمْ وَالذِّلَّةَ لَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ مَعَ مَا ادَّخَرَهُ لَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، فَقَالَ: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً" وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا: بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِمَنْ كَانَ قبلي، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَلَيْسَ مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ سأل الشفاعة وإني قد اختبأت شفاعتي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً". قال ابن عباس في قوله تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِ أَبِي سُفْيَانَ الرُّعْبَ فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَدْ

أَصَابَ مِنْكُمْ طَرَفًا، وَقَدْ رَجَعَ وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ الرُّعْبَ» (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} قال ابن عباس: وعدهم الله النصر، {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} أَيْ تَقْتُلُونَهُمْ {بِإِذْنِهِ} أَيْ بِتَسْلِيطِهِ إياكم عليهم {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} الْفَشَلُ: الْجُبْنُ {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ} كَمَا وَقَعَ لِلرُّمَاةِ {مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} وهو الظفر بهم {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} وَهْمُ الَّذِينَ رَغِبُوا فِي الْمَغْنَمِ حِينَ رَأَوُا الْهَزِيمَةَ {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} ثُمَّ أَدَالَهُمْ عَلَيْكُمْ لِيَخْتَبِرَكُمْ وَيَمْتَحِنَكُمْ {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} أي غفر لكم ذلك الصنيع. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} قال: لم يستأصلكم {والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين}. عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَوْمَ أحُد، خَلْفَ الْمُسْلِمِينَ يُجْهِزْنَ عَلَى جَرْحَى الْمُشْرِكِينَ، فَلَوْ حَلَفْتُ يَوْمَئِذٍ رَجَوْتُ أَنْ أَبَرَّ، أنه ليس منا أحد يريد الدنيا حتى أنزل الله: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ}، فَلَمَّا خَالَفَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصوا ما أمروا به أفرد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِسْعَةٍ، سَبْعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ عَاشِرُهُمْ صلى الله عليه وسلم، فلما أرهقوه قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا رَدَّهُمْ عَنَّا»، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ سَاعَةً حَتَّى قتل، فلما أرهقوه أَيْضًا قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا رَدَّهُمْ عَنَّا» فلم يزل يقول ذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله لصاحبيه: «مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا»، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: اعلُ هُبَل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُولُوا اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ»، فَقَالُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُولُوا اللَّهُ مَوْلَانَا والكافرون لاَ مولى لَهُمْ»، فقال أبو سفيان يوم بيوم بدر (فيوم عَلَيْنَا وَيَوْمٌ لَنَا: وَيَوْمٌ نُساء وَيَوْمٌ نُسر) حنظلة بحنظلة وَفُلَانٌ بِفُلَانٍ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا سَوَاءً: أَمَّا قَتْلَانَا فَأْحَيْاءٌ يرزقون؛ وأما قتلاكم ففي النار يعذبون"، فقال أبو سفيان: لقد كَانَ فِي الْقَوْمِ مُثْلة - وَإِنْ كَانَتْ لَعَنْ غير مَليّ (المليُّ بفتح الميم الهوى) مِنَّا مَا أَمَرْتُ وَلَا نَهَيْتُ وَلَا أَحْبَبْتُ وَلَا كَرِهْتُ، وَلَا سَاءَنِي وَلَا سَرَّنِي، قَالَ: فَنَظَرُوا فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ بُقِرَ بَطْنُهُ، وَأَخَذَتْ هِنْدُ كَبِدَهُ فَلَاكَتْهَا فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَأْكُلَهَا، فقال رسو اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكَلَتْ شَيْئًا»؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: «مَا كَانَ اللَّهُ لِيُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ فِي النَّارِ»، قَالَ: فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْزَةَ فصلى عليه، وجيء برجل من الأنثار فَوُضِعَ إِلَى جَنْبِهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ فَرُفِعَ الْأَنْصَارِيُّ وترك حمزة، حتى جيء بآخر فوضع إِلَى جَنْبِ حَمْزَةَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ رُفِعَ وَتُرِكَ حَمْزَةُ، حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ صلاة (رواه الإمام أحمد في المسند). وقال البخاري عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَقِينَا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ وَأَجْلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا مِنَ الرماة وأمر عليهم (عبد الله ابْنَ جُبَيْرٍ)، وَقَالَ: «لَا تَبْرَحُوا، إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلَا تَبْرَحُوا، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلَا تُعِينُونَا». فَلَمَّا لَقِينَاهُمْ هَرَبُوا حَتَّى رأيت النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ فِي الْجَبَلِ رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ. وقد بدل خَلَاخِلُهُنَّ فَأَخَذُوا يَقُولُونَ: الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ، فَقَالَ عَبْدُ الله بن جبير: عَهِدَ إليَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا تَبْرَحُوا فَأَبَوْا، فَلَمَّا أَبَوْا صَرَفَ وُجُوهَهُمْ فَأُصِيبَ سَبْعُونَ قَتِيلًا، فَأَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ، فَقَالَ: «لَا تُجِيبُوهُ»، فَقَالَ: أَفِي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: «لَا تُجِيبُوهُ»، فَقَالَ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ، فقال: إن هؤلاء قُتِلُوا فَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءً لَأَجَابُوا، فَلَمْ يَمْلِكْ عمر

نفسه فقال له: كذبت يا عدو الله، أبقى الله لك ما يحزنك؛ قال أَبُو سُفْيَانَ: اعلُ هُبَل، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَجِيبُوهُ»، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قال: "قولوا: الله أعلى وأجل"، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَجِيبُوهُ»، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ"، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ؛ وستجدون مُثلة لم آمر بها ولم تسؤني. وعن الزبير بن العبوام قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْظُرُ إِلَى خَدَمِ هِنْدَ وَصَوَاحِبَاتِهَا مُشَمِّرَاتٍ هَوَارِبَ مَا دُونُ أَخْذِهِنَّ كَثِيرٌ وَلَا قَلِيلٌ، وَمَالَتِ الرُّمَاةُ إِلَى الْعَسْكَرِ حِينَ كَشَفْنَا الْقَوْمَ عَنْهُ يُرِيدُونَ النَّهْبَ، وَخَلَّوْا ظهورنا للخيل فأوتينا مِنْ أَدْبَارِنَا، وَصَرَخَ صَارِخٌ أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَانْكَفَأْنَا وَانْكَفَأَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ بَعْدَ أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنوا مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمْ يَزَلْ لِوَاءُ الْمُشْرِكِينَ صَرِيعًا حَتَّى أخذته (عمرة بنت علقمى الحارثية) فدفعته لقريش فلاثوا بها (رواه ابن أبي إسحاق) وقال السدي عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الدُّنْيَا حَتَّى نزل فِينَا مَا نَزَلَ يَوْمَ أحُد {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة}. وقوله تعالى: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ}، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: انْتَهَى أنَس بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أنَس بْنِ مالك إلى (عمر بن الخطاب) و (طلحة بن عبد اللَّهِ) فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ قَدْ ألقوا ما بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: مَا يُخَلِّيكُمْ؟ فَقَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ؟ قُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ؛ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قتل رضي الله عنه - وقال البخاري عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَمَّهُ يَعْنِي (أنَس بْنَ النَّضْرِ) غَابَ عَنْ بَدْرٍ فَقَالَ: غبت عن أول قتال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ أَشْهَدَنِي اللَّهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرينَّ اللَّهُ مَا أُجِدُّ، فَلَقِيَ يَوْمَ أُحُدٍ فهزم الناس، فقال اللهم إن أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ؛ فَتَقَدَّمَ بِسَيْفِهِ فَلَقِيَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ: أَيْنَ يا سعد إني أجد ريحح الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ، فَمَضَى فَقُتِلَ فَمَا عُرِفَ حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه وَبِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ وَرَمْيَةٍ بسهم (رواه ابن أبي إسحاق). وقوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ} أَيْ صرفكم عنهم إذا تصعدون أي في الجبال هاربين من أعدائكم {وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} أي ,أنتم لَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الدَّهَشِ وَالْخَوْفِ وَالرُّعْبِ، {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} أَيْ وَهُوَ قَدْ خَلَّفْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ يَدْعُوكُمْ إِلَى تَرْكِ الْفِرَارِ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَإِلَى الرَّجْعَةِ وَالْعَوْدَةِ وَالْكَرَّةِ، قال السدي: لما اشتد الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأُحُدٍ فَهَزَمُوهُمْ دَخَلَ بَعْضُهُمُ المدينة، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها، فجعل الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ: «إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ»، فَذَكَرَ الله صعودهم إلى الْجَبَلِ ثُمَّ ذَكَرَ دُعَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم غياهم فَقَالَ: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ}. عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرُّمَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ - وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا - (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ)، قَالَ: وَوَضَعَهُمْ مَوْضِعًا، وَقَالَ: "إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخَطَّفُنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، قَالَ، فَهَزَمُوهُمْ، قَالَ: فلقد والله رأيت النساء يشتددن على جبل وقد بدت أسواقهن وَخَلَاخِلُهُنَّ رَافِعَاتٌ ثِيَابَهُنَّ

فَقَالَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ: الْغَنِيمَةَ أَيْ قَوْمُ الغنيمة! ظهر أصحابكم فما تنظرون؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: إنا لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَلِكَ الَّذِي يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا اثنا عَشَرَ رَجُلًا فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ أَصَابُوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين، سَبْعِينَ أَسِيرًا وَسَبْعِينَ قَتِيلًا. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ، أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ، أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ ثَلَاثًا - قَالَ فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ، أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا وكفيتموهم، فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لأحياء كلهم، وقد أبقى الله لك ما يسوؤك، فَقَالَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ. إِنَّكُمْ ستجدون في لاقوم مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي. ثُمَّ أخذ يرتجز يقول: اعلُ هُبَل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تُجِيبُوهُ»؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ الله ما نقول؟ قال: «قولاوا اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ»، قَالَ: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عزى لكم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تُجِيبُوهُ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا نقول؟ قال: «قولوا مولانا ولا مولى لكم» (رواه الإمام أحمد) وقد روى البخاري عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ شَلَّاءَ وَقَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ، وَفِي الصحيحين، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَسَعْدٍ عَنْ حَدِيثِهِمَا. وعن سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أبي وقاص يَقُولُ: نَثُلَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنانته يوم أحد، وقال: «ارم فداك أبي وأمي»، وعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ أَنَّهُ رَمَى يَوْمَ أُحُدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَعْدٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاوِلُنِي النَّبْلَ، وَيَقُولُ: «ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» حَتَّى إِنَّهُ لَيُنَاوِلُنِي السَّهْمَ لَيْسَ لَهُ نَصْلٌ فَأَرْمِي بِهِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ يَمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ يَسَارِهِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ أَشَدَّ الْقِتَالِ مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا بَعْدَهُ، يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام، وعن أنَس بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي سبعة من الأنصار واثنين من قريش، فلما أرهقوه قَالَ: «مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ - أَوْ هو رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ -»، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فقاتل حتى قتل، ثم أرهقوه أَيْضًا فَقَالَ: «مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ»، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبَيْهِ: «ما أنصفنا أصحابنا» (رواه مسلم. وقال أبو الأسود عن عروة ابن الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ (أُبيّ بْنُ خَلَفٍ) أَخُو بَنِي جُمَحٍ قَدْ حَلَفَ وَهُوَ بِمَكَّةَ لَيَقْتُلَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَلَغَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلْفَتُهُ قَالَ: «بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُد أَقْبَلَ (أُبيّ) في الحديد مقناعاً وَهُوَ يَقُولُ: لَا نجوتُ إِنْ نَجَا مُحَمَّدٌ، فَحَمَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ (مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ) أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ يَقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ فَقُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَأَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْقُوَةَ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ مِنْ فَرْجَةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الدِّرْعِ

وَالْبَيْضَةِ وَطَعَنَهُ فِيهَا بِحَرْبَتِهِ فَوَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ عن فرسه، ولم يَخْرُجْ مِنْ طَعْنَتِهِ دَمٌ، فَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ فَاحْتَمَلُوهُ وَهُوَ يَخُورُ خُوَارَ الثَّوْرِ، فَقَالُوا لَهُ: مَا أَجْزَعَكَ إِنَّمَا هُوَ خَدْشٌ؟ فَذَكَرَ لَهُمْ قَوْلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَنَا أَقْتُلُ أُبيَّا»، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي بِي بِأَهْلِ ذِي الْمَجَازِ لَمَاتُوا أَجْمَعُونَ، فَمَاتَ إِلَى النَّارِ {فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير} (يتبع ... )

(تابع ... 1): 149 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم ... ... وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: لَمَّا أُسْنِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشِّعْبِ أَدْرَكَهُ (أُبيّ بْنُ خَلَفٍ) وَهُوَ يَقُولُ: لَا نجوتُ إِنْ نجوتَ، فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَعْطِفُ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوُهُ» فلما دنا منه تَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَرْبَةَ مَنَ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ، فَقَالَ بَعْضُ القوم كما ذَكَرَ لِي: فَلَمَّا أَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه انتفض بها انتقاضة تَطَايَرْنَا عَنْهُ تَطَايُرَ الشَّعْرِ عَنْ ظَهْرِ الْبَعِيرِ إذا انفضَّ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَعَنَهُ فِي عُنُقِهِ طَعْنَةً تَدَأْدَأَ مِنْهَا عن فرسه مراراً (تدأدأ: سقط) وثبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اشتد غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حينئذ يشير إلى رباعيته - واشتد غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وعن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كان أبو بكر إِذَا ذَكَرَ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ كُلُّهُ لِطَلْحَةَ، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ، قَالَ: كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَاءَ يَوْمَ أُحُدٍ فَرَأَيْتُ رَجُلًا يُقَاتِلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دونه - وأراه قال حميَّة - فَقُلْتُ: كُنْ طَلْحَةَ حَيْثُ فَاتَنِي مَا فَاتَنِي، فَقُلْتُ: يَكُونُ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي أَحَبُّ إِلَيَّ، وبين وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ رَجُلٌ لَا أَعْرِفُهُ وَأَنَا أَقْرَبُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وهو يخطف المشي خطفاً لا أعرفه فإذا هو (أبو عبيدة بن الجراح) فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَدْ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ، وَقَدْ دخل في وجنته من حلق المغفر، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَلَيْكُمَا صَاحِبَكُمَا يُرِيدُ طَلْحَةَ» وَقَدْ نَزَفَ فَلَمْ نلتفت إلى قوله قَالَ: وذهبت لأنزع ذَلِكَ مِنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ (أَبُو عُبَيْدَةَ:): أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي لَمَا تَرَكْتَنِي فَتَرَكْتُهُ، فَكَرِهَ أَنْ يتناولها بيده فيؤذي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأزمَّ عَلَيْهَا بِفِيهِ فَاسْتَخْرَجَ إِحْدَى الْحَلْقَتَيْنِ، وَوَقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ مَعَ الْحَلْقَةِ، وذهبت لِأَصْنَعَ مَا صَنَعَ فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي لَمَا تَرَكْتَنِي قَالَ، فَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ في المرة الأولى، ووقعت ثَنِيَّتُهُ الْأُخْرَى مَعَ الْحَلْقَةِ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ من أَحْسَنَ النَّاسِ هَتْمًا، فَأَصْلَحْنَا مِنْ شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَتَيْنَا (طَلْحَةَ) فِي بَعْضِ تِلْكَ الْجِفَارِ، فَإِذَا بِهِ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ وَضَرْبَةٍ، وَإِذَا قَدْ قُطِعَتْ إِصْبَعُهُ، فأصلحنا من شأنه (أخرجه أبو داود الطيالسي والطبراني) وقال ابن وهب: أَنَّ (مَالِكًا) أَبَا أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَمَّا جُرِحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أحد مصَّ الجرج حَتَّى أَنْقَاهُ وَلَاحَ أَبْيَضَ فَقِيلَ لَهُ: مُجَّهُ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمُجُّهُ أَبَدًا ثُمَّ أَدْبَرَ يُقَاتِلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا فَاسْتُشْهِدَ». وقد ثبت في الصحيحين عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: جُرِحَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَهُشِمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رأسه صلى الله عليه وسلم، فكانت فاطمة تغسل الدم وكان علي يسكب عليه الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أَنَّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً أخذت قطعة من حصير فأحرقتها، حتى إذا صارت رماداً ألصقته بالجرح فاستمسك الدم

وقوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ} أي فجزاكم غَمًّا عَلَى غَمٍّ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: نَزَلْتُ ببني فلان نزلت على بني فلان، وقال ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ بِسَبَبِ الْهَزِيمَةِ وَحِينَ قِيلَ قُتِلَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثَّانِي حِينَ عَلَاهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَوْقَ الْجَبَلِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا»، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ بِسَبَبِ الْهَزِيمَةِ، وَالثَّانِي حِينَ قِيلَ: قُتل مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ عندهم أشد وأعظم من الهزيمة. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ بِسَبَبِ مَا فَاتَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَتْحِ، وَالثَّانِي بِإِشْرَافِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ} أي كرباً بعد كرب من قَتْلُ مَنْ قُتِلَ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، وَعُلُوُّ عَدُوِّكُمْ عليكم، وما وقع في أنفسكم من قتل نبيكم، فكان ذلك متتابعاً عليك غَمًّا بِغَمٍّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ سَمَاعُهُمْ قَتْلَ مُحَمَّدٍ،، وَالثَّانِي مَا أَصَابَهُمْ مِنَ القتل والجراح. وقوله تعالى: {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ} أَيْ عَلَى ما فاتكم من الغنيمة والظفر بعدوكم {وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ} من الجراح والقتل قاله ابن عباس والسدي {والله خيبر بِمَا تَعْمَلُونَ} سبحانه وبحمده، لا إله إلا هو جلّ وعلا.

- 154 - ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ - 155 - إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عنهم إِنَّ الله غَفُورٌ حليم يمتن الله تعالى عَلَى عِبَادِهِ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّكِينَةِ والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم وهم مشتملون السِّلَاحِ فِي حَالِ هَمِّهِمْ وَغَمِّهِمْ، وَالنُّعَاسُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمَانِ. كَمَا قال فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ} الآية، وقال ابن أبي حاتم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (النُّعَاسُ فِي الْقِتَالِ مِنَ اللَّهِ، وَفِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ) وَقَالَ البخاري، عن أبي طلحة قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ تَغَشَّاهُ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ، حَتَّى سَقَطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي مِرَارًا يَسْقُطُ وَآخُذُهُ وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ. وعن أنَس بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: غَشِيَنَا النُّعَاسُ وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنَا يَوْمَ أُحُدٍ فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ، قَالَ: وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى الْمُنَافِقُونَ لَيْسَ لَهُمْ همٌّ إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحق (أخرجه البهيقي) {يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية} أي إنما هم أَهْلُ شَكٍّ وَرَيْبٍ فِي اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ} يَعْنِي أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ وَالثَّبَاتِ والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله ينجز لَهُ مَأْمُولَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} يَعْنِي لَا يَغْشَاهُمُ النُّعَاسُ مِنَ الْقَلَقِ وَالْجَزَعِ وَالْخَوْفِ {يَظُنُّونَ

بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إلى أَهْلِيهِمْ أبداً} وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما أظهروا تِلْكَ السَّاعَةِ أَنَّهَا الْفَيْصَلَةُ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ باد وأهله، وهذا شَأْنُ أَهْلِ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ، إِذَا حَصَلَ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ الْفَظِيعَةِ تَحْصُلُ لَهُمْ هَذِهِ الظُّنُونُ الشَّنِيعَةُ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ {يَقُولُونَ} فِي تِلْكَ الْحَالِ {هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ} فقال تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ}، ثُمَّ فَسَّرَ مَا أَخْفَوْهُ فِي أَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِ: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قتلنا ههنا}، أَيْ يُسِرُّونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن إسحاق، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اشْتَدَّ الْخَوْفُ عَلَيْنَا أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْنَا النَّوْمَ، فَمَا مِنَّا مِنْ رَجُلٍ إِلَّا ذَقْنُهُ فِي صَدْرِهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ إني لأسمع قول متعب بْنِ قُشَيْرٍ مَا أَسْمَعُهُ إِلَّا كَالْحُلْمِ يَقُولُ: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قتلنا ههنا)، فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا ههنا) لِقَوْلِ مُعْتَبٍ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} أي هذا قدر قدره الله عز وجل وحكم حتم لا محيد عنه ولا مناص منه. وقوله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أَيْ يَخْتَبِرَكُمْ بِمَا جَرَى عَلَيْكُمْ ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر المؤمن من المنافق لِلنَّاسِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ بِمَا يَخْتَلِجُ فِي الصُّدُورِ مِنَ السرائر والضمائر. ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} أَيْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمُ السَّالِفَةِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا، وَإِنَّ مِنْ جَزَاءِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ بَعْدَهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} أَيْ عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مَنَ الْفِرَارِ، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} أَيْ يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَحْلُمُ عَنْ خَلْقِهِ ويتجاوز عنهم.

- 156 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ - 157 - وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ - 158 - وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ يَنْهَى تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مشابهة المؤمنين مُشَابَهَةِ الْكُفَّارِ فِي اعْتِقَادِهِمُ الْفَاسِدِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ عَنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْأَسْفَارِ والحروب: لَوْ كَانُوا تَرَكُوا ذَلِكَ لَمَا أَصَابَهُمْ مَا أصابهم، فقال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ} أَيْ عَنْ إِخْوَانِهِمْ، {إِذَا ضَرَبُواْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ سَافَرُوا لِلتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا، {أَوْ كَانُواْ غزَّى} أي كانوا فِي الْغَزْوِ، {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا} أَيْ فِي الْبَلَدِ، {مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} أَيْ مَا ماتوا في السفر وما قتلوا في الغزو. وقوله تعالى: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أَيْ خَلَقَ هَذَا الِاعْتِقَادَ فِي نُفُوسِهِمْ لِيَزْدَادُوا حَسْرَةً على موتاهم، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أَيْ بِيَدِهِ الْخَلْقُ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الْأَمْرُ،

ولا يحيا أحد ولا يموت أحد إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وقَدَره، وَلَا يُزَادُ فِي عُمُرِ أحد ولا ينقص منه شيء إِلَّا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي علمه وَبَصَرُهُ نَافِذٌ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ، لَا يَخْفَى عليه من أمورهم شيء، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} تَضَمَّنَ هَذَا أَنَّ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَوْتَ أَيْضًا وَسِيلَةٌ إِلَى نَيْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ الْبَقَاءِ فِي الدنيا وجمع حطامها الفاني، ثم أخبر تعالى بِأَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَمَصِيرُهُ وَمَرْجِعُهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَجْزِيهِ بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ فَقَالَ تعالى: {وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}

- 159 - فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ - 160 - إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ - 161 - وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ - 162 - أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ - 163 - هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ - 164 - لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا رَسُولَهُ مُمْتَنًّا عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا أَلان بِهِ قَلْبَهُ عَلَى أُمَّتِهِ الْمُتَّبِعِينَ لِأَمْرِهِ التَّارِكِينَ لِزَجْرِهِ وَأَطَابَ لَهُمْ لَفْظَهُ {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لنت لهم} أي بأي شيء جعلك الله لَهُمْ لَيِّنًا لَوْلَا رَحْمَةُ اللَّهِ بِكَ وَبِهِمْ، وقال قَتَادَةُ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} يَقُولُ: فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ (مَا) صِلَةٌ، وَالْعَرَبُ تَصِلُهَا بِالْمَعْرِفَةِ كَقَوْلِهِ {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ}، وبالنكرة كقوله: {عَمَّا قليل} وهكذا ههنا. قَالَ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أَيْ بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَذَا خُلُقُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رحيم} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} والفظ: الغليظ والمراد به ههنا غَلِيظُ الْكَلَامِ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أي لو كنت سيء الْكَلَامِ قَاسِيَ الْقَلْبِ عَلَيْهِمْ لَانْفَضُّوا عَنْكَ وَتَرَكُوكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَمَعَهُمْ عَلَيْكَ، وَأَلَانَ جَانِبَكَ لَهُمْ تأليفا لقولبهم، كما قال عبد الله بن عمرو: إني أرى صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ «أَنَّهُ لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو ويصفح». وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وَلِذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي الأمر إذا حدث، تطييباً لقلوبهم، ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه، كَمَا شَاوَرَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الذَّهَابِ إِلَى العير، فقالوا:

يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا عُرْضَ الْبَحْرِ لَقَطَعْنَاهُ مَعَكَ، وَلَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغَمَادِ لِسِرْنَا مَعَكَ، وَلَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إنا ها هنا قَاعِدُونَ، وَلَكِنْ نَقُولُ: اذْهَبْ فَنَحْنُ مَعَكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ مُقَاتِلُونَ. وَشَاوَرَهُمْ أَيْضًا أَيْنَ يَكُونُ الْمَنْزِلُ، حَتَّى أَشَارَ الْمُنْذِرُ بن عمرو بالتقدم أمام القوم، وشاروهم فِي أُحُد فِي أَنْ يَقْعُدَ فِي الْمَدِينَةِ أَوْ يَخْرُجَ إِلَى الْعَدْوِّ، فَأَشَارَ جُمْهُورُهُمْ بِالْخُرُوجِ إليهم فخرج إليهم، وشاروهم يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي مُصَالَحَةِ الْأَحْزَابِ بِثُلُثِ ثِمَارِ المدينة عامئذ فأبى ذلك عليه السعدان، سعد ابن معذ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَشَاوَرَهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي أَنْ يَمِيلَ عَلَى ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ، فقال له الصديق: إنا لمن نجيء لِقِتَالِ أَحَدٍ وَإِنَّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ما قال، فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَاوِرُهُمْ فِي الحروب ونحوها. وروينا عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَكَانَا حَوَارِيَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَزِيرَيْهِ وَأَبَوَيِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بكر وعمر: «لو اجتمعتما فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا»، وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عن علي بن أبي طالب قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن العزم؟ فقال: «مُشَاوَرَةُ أَهْلِ الرَّأْيِ ثُمَّ اتِّبَاعُهُمْ»، وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «المستشار مؤتمن». وقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، أَيْ إِذَا شَاوَرْتَهُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَزَمْتَ عَلَيْهِ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِيهِ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}، وَقَوْلُهُ تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} وهذه الآية كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ من عند الله العزيز الحكيم}، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فَقَالَ: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون}، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}، قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَخُونَ، وَقَالَ ابْنُ أبي حاتم، عن ابن عباس: فَقَدُوا قَطِيفَةً يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالُوا: لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أَيْ يخون. وقال ابن جرير، عن ابن عباسن أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} نَزَلَتْ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ يَوْمَ بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله أخذها، فَأَكْثَرُوا فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، وعنه قَالَ: اتَّهَمَ الْمُنَافِقُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ فُقد، فأنزل الله تعالى: {وما كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ} وهذا تنزيه له صلوات الله وسلامه عليه من جَمِيعِ وُجُوهِ الْخِيَانَةِ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَقَسْمِ الغنيمة وغير ذلك {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}، وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا في أحاديث متعددة. قال الإمام أحمد عن أبي مالك الأشجعي، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أعظم الغلول عند الله ذراع في الْأَرْضِ، تَجِدُونَ الرَّجُلَيْنِ جَارَيْنِ فِي الْأَرْضِ - أَوْ فِي الدَّارِ - فَيَقْطَعُ أَحَدُهُمَا مِنْ حَظِّ صِاحِبِهِ ذراعاً فإذا قطعه طوّقه من سبع أرضين يوم القيامة». (حديث آخر): قال الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُسْتَوْرِدَ بْنَ شَدَّادٍ يَقُولُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ وَلِيَ لَنَا عَمَلًا وَلَيْسَ لَهُ مَنْزِلٌ فَلْيَتَّخِذْ مَنْزِلًا، أَوْ لَيْسَتْ لَهُ زَوْجَةٌ فَلْيَتَزَوَّجْ، أَوْ لَيْسَ له خادم فليتخذ خادماً، أو ليس لَهُ دَابَّةٌ فَلْيَتَّخِذْ دَابَّةً، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا سوى ذلك فهو غال».

(حديث آخر): قال ابْنِ جَرِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لأعرفن أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ شَاةً لَهَا ثُغَاءٌ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ! فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُكَ، ولأعرفن أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ جَمَلًا لَهُ رغاء يقول: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ؟ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله شيئاً قد بلغتك، ولأعرفن أحدكم يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ فَرَسًا لَهُ حَمْحَمَةٌ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ! فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله شيئا قد بلغتك، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قسماً مِنْ أُدْمٍ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ! فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا قد بلغتك" (أخرجه ابن جرير، قال ابن كثير: لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ) (حديث آخر): قال الإمام أحمد: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنَ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَجَاءَ فَقَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: "مَا بَالُ العامل نبعثه على عمل فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يأتي أحدكم مِنْهَا بِشَيْءٍ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ على رقبته، وإن كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ؟؟ "، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ هل بلغت»؟ ثلاثاً (حديث آخر): قال أبو عيسى الترمذي، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ، فَلَمَّا سِرْتُ أَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَرُدِدْتُ، فَقَالَ: "أَتَدْرِي لِمَ بَعَثْتُ إِلَيْكَ؟ لَا تُصِيبَنَّ شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِي فَإِنَّهُ غُلُولٌ: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لِهَذَا دَعَوْتُكَ فَامْضِ لعملك" (قال الترمذي: حديث حسن غريب) (حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: "لَا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شيئاً قد بلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ بلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا قد بلغتك". أخرجه الشيخان. وقوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أَيْ لَا يَسْتَوِي مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ فِيمَا شرعه فاستحق رضوان الله وجزيل ثوابه، ومن استحق غضب الله وألزمه بِهِ فَلَا مَحِيدَ لَهُ عَنْهُ وَمَأْوَاهُ يَوْمَ القيامة جهنم وبئس المصير، وهذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى}، كقوله: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا} الآية. ثم قال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي أَهْلُ الْخَيْرِ وَأَهْلُ الشَّرِّ دَرَجَاتٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ: مَنَازِلُ، يَعْنِي مُتَفَاوِتُونَ فِي منازلهم، درجاتهم في الجنة ودركاتهم في النار، كقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عملوا} الآية، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}، أَيْ وَسَيُوَفِّيهِمْ إِيَّاهَا، لَا يَظْلِمُهُمْ خَيْرًا وَلَا يَزِيدُهُمْ شَرًّا، بَلْ يجازي كل عامل بعمله. وقوله تعالى: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ مُخَاطَبَتِهِ وَسُؤَالِهِ وَمُجَالَسَتِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، كَمَا قال تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ

مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسواق}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ}؟ فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسول إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ، بِحَيْثُ يُمْكِنُهُمْ مُخَاطَبَتَهُ وَمُرَاجَعَتَهُ فِي فهم الكلام عنه، ولهذا قال تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {وَيُزَكِّيهِمْ} أَيْ يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عن المنكر لتزكوا نُفُوسُهُمْ، وَتَطْهُرَ مِنَ الدَّنَسِ وَالْخَبَثِ الَّذِي كَانُوا مُتَلَبِّسِينَ بِهِ فِي حَالِ شِرْكِهِمْ وَجَاهِلِيَّتِهِمْ، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} يَعْنِي الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ} أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الرَّسُولِ، {لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} أَيْ لَفِي غَيٍّ وَجَهْلٍ ظاهر جلي بيِّن لكل أحد.

- 165 - أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 166 - وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ - 167 - وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ - 168 - الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فادرؤوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ يَقُولُ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ} وَهِيَ مَا أُصِيبَ منهم يوم أحُد من قتلى السَّبْعِينَ مِنْهُمْ، {قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ فَإِنَّهُمْ قَتَلُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ سَبْعِينَ قَتِيلًا، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ أَسِيرًا {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} أَيْ مِنْ أَيْنَ جَرَى عَلَيْنَا هَذَا؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ عُوقِبُوا بِمَا صَنَعُوا يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، وَفَرَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَهُشِمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ، وَسَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ، فَأَنْزَلَ الله {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} يأخذكم الفداء (رواه ابن أبي حاتم) وهكذا قال الحسن البصري وقوله {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أَيْ بِسَبَبِ عصيانكم لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَمَرَكُمْ أَنْ لَا تَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِكُمْ فَعَصَيْتُمْ، يَعْنِي بِذَلِكَ الرُّمَاةَ، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أَيْ فِرَارُكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَدُوِّكُمْ، وَقَتْلُهُمْ لِجَمَاعَةٍ مِنْكُمْ وَجِرَاحَتُهُمْ لِآخَرِينَ، كَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ فِي ذلك، {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيِ الَّذِينَ صَبَرُوا وَثَبَتُوا وَلَمْ يَتَزَلْزَلُوا، {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} يَعْنِي بِذَلِكَ أَصْحَابَ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ) الَّذِينَ رجعوا معه في أثناء الطريق فاتبعهم رجال من المؤمنين يحرضونهم على الإتيان وَالْقِتَالِ وَالْمُسَاعَدَةِ وَلِهَذَا قَالَ: {أَوِ ادْفَعُوا}، قَالَ ابن عباس وعكرمة: يعني كثروا سواد المسلمين، وقال الحسن: ادفعوا بالدعاء،

وقال غيره: رابطوا، فتعللوا قائلين: {لَوْ نعمل قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ}، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنُونَ لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَلْقَوْنَ حَرْبًا لَجِئْنَاكُمْ، وَلَكِنْ لَا تَلْقَوْنَ قتالاً. وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خَرَجَ إِلَى اُحد فِي أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشَّوْطِ بَيْنَ أُحد وَالْمَدِينَةِ انْحَازَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابن سلول بثلث الناس فقال: أطاعهم فخرج وعصاني، والله ما ندري علام نقتل انفسنا ههنا أَيُّهَا النَّاسُ، فَرَجَعَ بِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ النَّاسِ مِنْ قَوْمِهِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَأَهْلِ الرَّيْبِ، وَاتَّبَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ يَقُولُ: يَا قَوْمِ أذكِّركم اللَّهَ أَنْ تَخْذُلُوا نَبِيَّكُمْ وَقَوْمَكُمْ عِنْدَمَا حَضَرَ مِنْ عَدُوِّكُمْ، قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ مَا أسلمناكم، ولكن لَا نَرَى أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ، فَلَمَّا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ وَأَبَوْا إِلَّا الِانْصِرَافَ عَنْهُمْ قَالَ: أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ أَعْدَاءَ اللَّهِ فَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ذَكَرَهُ ابن إسحاق عن الزهري)، قال الله عز وجل: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ}، اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ الشَّخْصَ قَدْ تَتَقَلَّبُ بِهِ الْأَحْوَالُ فَيَكُونُ فِي حَالٍ أَقْرَبَ إِلَى الْكُفْرِ، وَفِي حَالٍ أَقْرَبَ إِلَى الْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ}. قال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْقَوْلَ وَلَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ هَذَا: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} فَإِنَّهُمْ يَتَحَقَّقُونَ أَنَّ جُنْدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ جَاءُوا مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ يَتَحَرَّقُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ ما اصيب من أشرافهم يوم بدر، وهم أضعاف المسلمين، وأنه كَائِنٌ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {والله أعلم بِمَا يَكْتُمُونَ}، ثم قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} أَيْ لَوْ سَمِعُوا مِنْ مَشُورَتِنَا عَلَيْهِمْ فِي الْقُعُودِ وَعَدَمِ الْخُرُوجِ مَا قُتِلُوا مَعَ مَنْ قُتِلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ إِنْ كَانَ الْقُعُودُ يَسْلَمُ بِهِ الشَّخْصُ مِنَ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ فَيَنْبَغِي أَنَّكُمْ لَا تَمُوتُونَ، وَالْمَوْتُ لَا بُدَّ آتٍ إِلَيْكُمْ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، فَادْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، قال مجاهد: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سلول وأصحابه.

- 169 - وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - 170 - فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ - 171 - يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ - 172 - الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ - 173 - الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - 174 - فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ - 175 - إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الشُّهَدَاءِ بِأَنَّهُمْ، وَإِنْ قُتِلُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ حَيَّةٌ مَرْزُوقَةٌ في دار القرار، روى ابن جرير بسنده عن أنَس بن مالك في قصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبي الله إلى أهل (بئر بعونة) قَالَ: لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ، وَعَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ الْجَعْفَرِيُّ، فَخَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حتى أتو غَارًا مُشْرِفًا عَلَى الْمَاءِ فَقَعَدُوا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَيُّكُمْ يُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ هَذَا الماء؟ فقال - اراه أبو مِلْحَانَ الْأَنْصَارِيَّ - أَنَا أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى حول بيتهم فاجتثى أَمَامَ الْبُيُوتِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ بِئْرِ مَعُونَةَ إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَخَرَجَ إليه رجل من كسر البيت برمح فضربه فِي جَنْبِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَاتَّبَعُوا أثره حتى أتو أصحابه في الغار فقتلهم أجميعن (عامر بن الطفيل). وقال ابن اسحق: حدثني أنس بن مالك إن الله أَنْزَلَ فِيهِمْ قُرْآنًا، بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ، ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناها زماناً وأنزل الله تَعَالَى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وَقَدْ قال مسلم في صحيحه، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فَقَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ عليهم رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ فَقَالُوا: أَيُّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا: يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تردَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حاجة تركوا". (حديث آخر): عَنْ أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا إِلَّا الشَّهِيدُ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى مما يرى من فضل الشهادة» (رواه أحمد وأخرجه مسلم). (حديث آخر): عَنْ جَابِرٍ قَالَ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "أعلمت أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ لَهُ: تمنَّ، فقال له: أردُّ إلى الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى، قال: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون" (رواه أحمد عن جبار بن عبد الله) وقال البخاري، عن ابن المنكدر، سَمِعْتُ جَابِرًا قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَبْكِي وَأَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، فَجَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ينهوني وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تبكيه - أَوْ مَا تَبْكِيهِ - مَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بأجنحتها حتى رفع» (أخرجه البخاري ومسلم والنسائي) (حديث آخر): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ يوم أُحد جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، وحسن مقيلهم، قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ الله بنا لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي

الْجِهَادِ، وَلَا يَنْكُلُوا عَنِ الْحَرْبِ، فَقَالَ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الْآيَاتِ: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وما بعدها". (حديث آخر): عن طلحة بن خراش الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَظَرَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «يَا جَابِرُ مالي أراك مهتماً؟» قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ ديناً عليه، قَالَ، فَقَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّهُ كلَّم أَبَاكَ كفاحاً»، قال علي: والكفاح المواجهة؟ "قال سَلْنِي أُعْطِكَ قَالَ: أَسْأَلُكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيْكَ ثَانِيَةً فَقَالَ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ أنه قد سَبَقَ مِنِّي الْقَوْلُ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ، قَالَ: أَيْ رَبِّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أمواتاً} (أخرجه ابن مردويه ورواه البهيقي في دلائل النبوة) الآية". وَقَدْ رُوِّينَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ حَدِيثًا فِيهِ الْبِشَارَةُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ بِأَنَّ رُوحَهُ تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ تَسْرَحُ أَيْضًا فِيهَا وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَرَى مَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ، وتشاهد ما أعد اللَّهُ لَهَا مِنَ الْكَرَامَةِ، وَهُوَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَزِيزٍ عَظِيمٍ اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ (أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْمُتَّبَعَةِ) فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رحمه الله رواه عن مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أنَس الْأَصْبَحِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، عَنِ الزهري عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجِرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ» (أخرج الإمام أحمد في المسند) قوله: «يعلق» أي يأكل وفي الْحَدِيثِ: «إِنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ تَكُونُ عَلَى شَكْلِ طَائِرٍ فِي الْجَنَّةِ» وَأَمَّا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فَكَمَا تَقَدَّمَ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ فَهِيَ كَالْكَوَاكِبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَرْوَاحِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهَا تَطِيرُ بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان. وقوله تعالى: {فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله} إلىآخر الآية: أَيِ الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أحياء عند ربهم، وهم فرحون بماهم فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْغِبْطَةِ، وَمُسْتَبْشِرُونَ بِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ بَعْدَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنَّهُمْ يَقْدَمُونَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ مِمَّا أَمَامَهُمْ وَلَا يَحْزَنُونَ على ما تركوه وراءهم، نسأل الله الجنة. وقال مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: {وَيَسْتَبْشِرُونَ} أَيْ وَيُسَرُّونَ بِلُحُوقِ من لحقهم مِنْ إِخْوَانِهِمْ عَلَى مَا مَضَوْا عَلَيْهِ مِنْ جِهَادِهِمْ، لِيُشْرِكُوهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ ثَوَابِ الله الذي أعطاهم. قَالَ السُّدِّيُّ: يُؤْتَى الشَّهِيدُ بِكِتَابٍ فِيهِ يَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلَانٌ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَيَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلَانٌ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَيُسَرُّ بِذَلِكَ كَمَا يسر أهل الدنيا بغائبهم إذا قدم. قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَرَأَوْا مَا فِيهَا مِنَ الْكَرَامَةِ لِلشُّهَدَاءِ قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ فِي الدُّنْيَا يَعْلَمُونَ مَا عرفناه من الكرامة، فإذا شهدوا القتال بَاشَرُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ حَتَّى يُسْتَشْهَدُوا فَيُصِيبُوا مَا أَصَبْنَا مِنَ الْخَيْرِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِمْ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ - أَيْ رَبُّهُمْ - أَنِّي قَدْ أَنْزَلْتُ عَلَى نَبِيِّكُمْ وَأَخْبَرْتُهُ بِأَمْرِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ فاستبشرا بِذَلِكَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} الْآيَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصحيحين عن أنَس فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ السَّبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَنَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا على الذين قتلوهم وَيَلْعَنُهُمْ. قَالَ أنَس: وَنَزَلَ فِيهِمْ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ حَتَّى رُفِعَ: «أَنْ بلِّغوا

عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عنا وأرضانا». ثم قال تعالى: {يستبشون بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين} قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هَذِهِ الْآيَةُ جَمَعَتِ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ سَوَاءً الشُّهَدَاءُ وَغَيْرُهُمْ، وَقَلَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ فَضْلًا ذَكَرَ بِهِ الأنبياء وثواباً أعطاهم الله إياه إلا ذكر الله ما أعطى المؤمنين من بعدهم. وقوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} هَذَا كَانَ يَوْمَ (حَمْرَاءِ الْأَسَدِ) وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَصَابُوا مَا أَصَابُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا استمروا في سيرهم ندموا لِمَ لَا تمَّموا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَجَعَلُوهَا الْفَيْصَلَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ندب المسلمين إلى الذاهب وَرَاءَهُمْ لِيُرْعِبَهُمْ وَيُرِيَهُمْ أَنَّ بِهِمْ قُوَّةً وَجَلَدًا، وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ سِوَى مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ يَوْمَ أُحُدٍ سِوَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لما سنذكره، فانتذب المسلمون على ما بهم ما الْجِرَاحِ وَالْإِثْخَانِ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. وعن عكرمة أنه: لَمَّا رَجَعَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ أُحُدٍ قَالُوا: لَا مُحَمَّدًا قَتَلْتُمْ، وَلَا الْكَوَاعِبَ أَرْدَفْتُمْ، بِئْسَمَا صَنَعْتُمْ، ارْجِعُوا فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغوا (حمراء الأسد) فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: نَرْجِعُ مَنْ قَابِلٍ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ تُعَدُّ غزوة فأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}. قال محمد بن إسحاق، عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى عَائِشَةَ بِنْتِ عُثْمَانَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان قد شهد أُحداً، قال: شهدنا أُحداً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا وأخي ورجعنا جَرِيحَيْنِ، فَلَمَّا أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ قلت لأخي: أَتُفَوِّتُنَا غَزْوَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَاللَّهِ مَا لَنَا مِن دَابَّةٍ نَرْكَبُهَا، وَمَا مِنَّآ إِلاَّ جَرِيحٌ ثَقِيلٌ، فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْتُ أَيْسَرَ جِرَاحًا مِنْهُ؛ فَكَانَ إِذَا غُلِبَ حملته عُقْبَةً؛ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ المسلمون. وقال البخاري عن عائشة رضي الله عنها: {الذي استجابوا لله والرسول} الآية، قلت لعروة: يا ابن أختي كان أبوك منهم (الزبير) و (أبو بَكْرٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا أَصَابَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا فَقَالَ: «مَنْ يَرْجِعُ فِي إِثْرِهِمْ»، فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ. وروي عن عروة قال، قالت لي عائشة إِنَّ أَبَاكَ مِنَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ من بعد ما أصابهم القرح. وَكَانَتْ وَقْعَةُ أُحُد فِي شَوَّالٍ، وَكَانَ التُّجَّارُ يَقْدَمُونَ الْمَدِينَةَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَيَنْزِلُونَ بِبَدْرٍ الصُّغْرَى فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُمْ قَدِمُوا بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُد، وَكَانَ أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ الْقَرْحُ وَاشْتَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ النَّاسَ لِيَنْطَلِقُوا مَعَهُ وَيَتَّبِعُوا مَا كَانُوا مُتَّبِعِينَ، وَقَالَ: «إِنَّمَا يَرْتَحِلُونَ الْآنَ فَيَأْتُونَ الْحَجَّ وَلَا يَقْدِرُونَ على مثلها حتىعام مقبل»، فجاء الشيطان يخوف أَوْلِيَاءَهُ فَقَالَ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ أَصَابُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَصَابُوا وَرَجَعُوا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَدْ رَجَعَ وَقَدْ قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ الرُّعْبَ، فَمَنْ يَنْتَدِبُ فِي طَلَبِهِ»، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وعلي وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فتبعوهم فَبَلَغَ أَبَا سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطْلُبُهُ فَلَقِيَ عِيرًا مِنَ التُّجَّارِ فَقَالَ: رُدُّوا مُحَمَّدًا وَلَكَمْ مِنَ الْجُعْلِ كَذَا وكذا، وأخبروهم أني قد جمعت جموعاً وأني راجع إليهم، فجاء التجار فأخبروا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

«حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآية. وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} الآية، أَيِ الَّذِينَ تَوَعَّدَهُمُ النَّاسُ بِالْجُمُوعِ وَخَوَّفُوهُمْ بِكَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ فَمَا اكْتَرَثُوا لِذَلِكَ، بَلْ تَوَكَّلُوا عَلَى الله واستعانوا به، {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله نعم الوكيل}، وقال البخاري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قَالَ لَهُمُ النَّاسُ {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً، وَقَالُواْ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوكيل} وفي رواية له: كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ ألقي في الناس: {حسبنا الله ونعم الوكيل} وعن أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَّهَ عَلِيًّا فِي نَفَرٍ مَعَهُ فِي طَلَبِ أَبِي سُفْيَانَ فَلَقِيَهُمْ أَعْرَابِيٌّ مَنْ خُزَاعَةَ فقال: أن القوم قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الآية. وفي الحديث: "إِذَا وَقَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ الْعَظِيمِ فَقُولُوا: حَسْبُنَا الله ونعم الوكيل" (رواه ابن مردويه وقالك حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) وَقَدْ قَالَ الإمام أحمد، عن عوف ابن مَالِكٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَا أَدْبَرَ: حسبيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ» فَقَالَ: «مَا قُلْتَ؟» قَالَ: قُلْتُ حَسْبِي اللَّهُ ونعم الوكيل"، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الوكيل". (يتبع ... )

(تابع ... 1): 169 - وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أحياء عند ربهم ... ... قَالَ تَعَالَى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} أَيْ لَمَّا تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ كَفَاهُمْ مَا أَهَمَّهُمْ، وَرَدَّ عَنْهُمْ بَأْسَ ما أَرَادَ كَيْدَهُمْ فَرَجَعُوا إِلَى بَلَدِهِمْ: {بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} مِمَّا أَضْمَرَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ، {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}. عن ابن عباس في قوله الله: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ}، قَالَ (النِّعْمَةُ) أنهم سلموا، و (الفضل) أن عيراً مرت فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فَاشْتَرَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَبِحَ فِيهَا مَالًا فَقَسَّمَهُ بين أصحابه (رواه البيهقي عن عكرمة عن ابن عباس) وقال مجاهد في قوله الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} قَالَ هَذَا أَبُو سُفْيَانَ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِدُكُمْ بَدْرٌ حَيْثُ قَتَلْتُمْ أَصْحَابَنَا، فَقَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَسَى»، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَوْعِدِهِ حَتَّى نَزَلَ بدراً فوافقوا السوق فيها فابتاعوا، فذلك اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يمسسهم سوء} الآية، قال: هي غزوة بدر الصغرى (أخرجه ابن جرير عن مجاهد.) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أَيْ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ وَيُوهِمُكُمْ أَنَّهُمْ ذَوُو بَأْسٍ وَذَوُو شِدَّةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} إذا سوَّل لكم وأوهمكم فتوكلوا عليّ والجأوا إليَّ فإني كَافِيكُمْ وَنَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضعيفاً}، وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ}، وقال: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}، وقال: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن ينصره}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ الله بنصركم} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يقوم الأشهاد} والآيات في ذلك كثيرة.

- 176 - وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - 177 - إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 178 - وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُهِينٌ - 179 - مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ - 180 - وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى النَّاسِ، كَانَ يُحْزِنُهُ مُبَادَرَةُ الْكُفَّارِ إِلَى الْمُخَالَفَةِ وَالْعِنَادِ وَالشِّقَاقِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَا يُحْزِنُكَ ذَلِكَ {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ الله أَن لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الْآخِرَةِ} أَيْ حِكْمَتُهُ فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته أن لا يَجْعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا فِي الْآخِرَةِ {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ذَلِكَ إخبارً مُقَرَّرًا: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} أَيِ اسْتَبْدَلُوا هَذَا بِهَذَا، {لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً} أَيْ وَلَكِنْ يَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}، كَقَوْلِهِ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ}، وَكَقَوْلِهِ: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لا يعلمون}، وكقوله: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} أَيْ لَا بُدَّ أَنْ يعقد شيئاً من المحنة، يظهر فيه وليه ويفضح به عَدُوُّهُ، يُعْرَفُ بِهِ الْمُؤْمِنُ الصَّابِرُ، وَالْمُنَافِقُ الْفَاجِرُ، يعني بذلك (يوم أحد) الذي امتحن الله بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَظَهَرَ بِهِ إِيمَانُهُمْ وَصَبْرُهُمْ وَجَلَدُهُمْ وَثَبَاتُهُمْ وَطَاعَتُهُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وهتك به ستار الْمُنَافِقِينَ، فَظَهْرَ مُخَالَفَتُهُمْ وَنُكُولُهُمْ عَنِ الْجِهَادِ، وَخِيَانَتُهُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، قَالَ مُجَاهِدٌ: مَيَّزَ بَيْنَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مَيَّزَ بَيْنَهُمْ بِالْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالُوا: إِن كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فَلْيُخْبِرْنَا عَمَّنْ يُؤْمَنُ بِهِ منا وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} أَيْ حَتَّى يُخْرِجَ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ رَوَى ذَلِكَ ابن جرير. ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} أَيْ أَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ غَيْبَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ حَتَّى يَمِيزَ لَكُمُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْمُنَافِقِ، لَوْلَا مَا يَعْقِدُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْكَاشِفَةِ عَنْ ذَلِكَ، ثم قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ}.

كقوله تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} الآية. ثم قال تعالى: {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أَيْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاتَّبِعُوهُ فِيمَا شَرَعَ لَكُمْ، {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} وقوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} أَيْ لَا يَحْسَبَنَّ الْبَخِيلُ أَنَّ جَمْعَهُ الْمَالَ يَنْفَعُهُ بَلْ هُوَ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي دُنْيَاهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَآلِ أَمْرِ مَالِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من آتَاهُ اللَّهُ مَالَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ له شجاعاً (شُجاعاً وشِجاعاً: نوع من الحيات) أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَأْخُذُ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - ثم يَقُولُ أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ".، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} (أخرجه البخاري عن أبي هريرة) إلى آخر الآية. (حديث آخر): عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الَّذِي لَا يُؤَدِّي زكاة ماله يمثل لَهُ مَالَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زبيبتان ثم يلزمه يطوقه يقول. أنا مالك، أنا كنزك» (رواه أحمد والنسائي). (حديث آخر): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا جُعِلَ له شجاع أقرع يتبعه يفر منه فيتبعه فَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ"، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة). وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ بَخِلُوا بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ أَنْ يُبَيِّنُوهَا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَإِنْ دَخَلَ هَذَا فِي مَعْنَاهُ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا أَوْلَى بِالدُّخُولِ والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله تعالى: {وَللَّهِ ميراث السموات وَالْأَرْضِ} أَيْ {فَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}، فَإِنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا مَرْجِعُهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وجلّ. فقدموا مِنْ أَمْوَالِكُمْ مَا يَنْفَعُكُمْ يَوْمَ مَعَادِكُمْ {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خبير} أي بيناتكم وضمائركم.

- 181 - لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ - 182 - ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ - 183 - الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 184 - فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير

قال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أضعافا كثيرة}، قالت اليهود: يا محمد! افتقر ربك فسأل عِبَادَهُ الْقَرْضَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} الآية؟ وقال محمد بن إسحاق، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: دخل أبو بكر الصدّيق بيت المدراس (المدراس: المعلم المدرس) فوجد من يهود ناساً كثيرة قد اجتمعوا على رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ (فِنْحَاصُ) وَكَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ، وَمَعَهُ حَبْرٌ يُقَالُ لَهُ أَشْيَعَ، فقال له أَبُو بَكْرٍ: وَيْحَكَ يَا فِنْحَاصُ اتَّقِ اللَّهَ وَأَسْلِمْ فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ من عند اللَّهِ قَدْ جَاءَكُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِهِ، تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإِنجيل. فَقَالَ فِنْحَاصُ: وَاللَّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا بِنَا إِلَى اللَّهِ مِنْ حَاجَةٍ مِنْ فَقْرٍ، وَإِنَّهُ إِلَيْنَا لَفَقِيرٌ، مَا نَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ كَمَا يَتَضَرَّعُ إِلَيْنَا، وَإِنَّا عَنْهُ لَأَغْنِيَاءُ، وَلَوْ كَانَ عَنَّا غَنِيًّا مَا اسْتَقْرَضَ مِنَّا كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ، يَنْهَاكُمْ عن الربا ويعطينا، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا مَا أَعْطَانَا الرِّبَا، فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَضَرَبَ وَجْهَ فِنْحَاصَ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مِنَ الْعَهْدِ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ فَاكْذِبُونَا مَا اسْتَطَعْتُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، فَذَهَبَ (فِنْحَاصُ) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا محمد أَبْصِرْ مَا صَنَعَ بِي صَاحِبُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وما حملك على ما صنعت يا أبا بكر؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ قال قولاً عظيماً، يزعم أَنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَأَنَّهُمْ عَنْهُ أَغْنِيَاءُ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ غَضِبْتُ لِلَّهِ مِمَّا قَالَ فَضَرَبْتُ وجهه، فجحد فنحاص ذلك وقال: ما قلت ذلك، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} الْآيَةَ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) وَقَوْلُهُ {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ، وَلِهَذَا قرنه تعالى بِقَوْلِهِ: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} أَيْ هَذَا قولهم في الله، وهذه معاملتهم رسل اللَّهِ، وَسَيَجْزِيهِمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ شَرَّ الْجَزَاءِ، ولهذا قال تعالى: {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ* ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا وَتَحْقِيرًا وتصغيراً. وقوله تعالى: {الذين قالوا إِنَّ الله عهد إلينا أن لا يؤمن لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ}، يَقُولُ تعالى تكذيباً لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْهِمْ في كتبهم، أن لا يؤمنوا لرسول حَتَّى يَكُونَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ بصدقة من أمته فتقبلت مِنْهُ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ تَأْكُلُهَا، قالها ابن عباس والحسن وغيرهما، قال الله عز وجل: {قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} أَيْ وَبِنَارٍ تأكل القرابين المتقبلة، {قلم قَتَلْتُمُوهُمْ}؟ أَيْ فَلِمَ قَابَلْتُمُوهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُخَالَفَةِ وَالْمُعَانَدَةِ وَقَتَلْتُمُوهُمْ، {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَنَّكُمْ تَتَّبِعُونَ الْحَقَّ وَتَنْقَادُونَ لِلرُّسُلِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} أَيْ لَا يُوهِنُكَ تَكْذِيبُ هَؤُلَاءِ لك، فلك أسوة بمن قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ، الَّذِينَ كُذِّبُوا مَعَ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَهِيَ الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ {وَالزُّبُرِ} وَهِيَ الْكُتُبُ الْمُتَلَقَّاةُ مِنَ السَّمَاءِ كَالصُّحُفِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} أَيِ والواضح الجلي.

- 185 - كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ - 186 - لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يُخْبِرُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَامًّا يَعُمُّ جَمِيعَ الْخَلِيقَةِ بِأَنَّ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت كقوله تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام}، فهو تعالى وحده الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يَمُوتُونَ، وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ وَيَنْفَرِدُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْقَهَّارُ بِالدَّيْمُومَةِ وَالْبَقَاءِ فَيَكُونُ آخِرًا كَمَا كَانَ أَوَّلًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا تَعْزِيَةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى أَحَدٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ حَتَّى يَمُوتَ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَفَرَغَتِ النُّطْفَةُ الَّتِي قَدَّرَ اللَّهُ وُجُودَهَا مِنْ صُلْبِ آدَمَ وَانْتَهَتِ الْبَرِيَّةُ، أَقَامَ اللَّهُ الْقِيَامَةَ وَجَازَى الْخَلَائِقَ بِأَعْمَالِهَا جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، كَثِيرِهَا وَقَلِيلِهَا، كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا. فَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلِهَذَا قال تعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَتِ التَّعْزِيَةُ، جَاءَهُمْ آتٍ يَسْمَعُونَ حِسَّهُ وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا من كل هالك، دركاً من كل فائت، فبالله ثقوا وإياه فارجو، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ هَذَا الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} أَيْ مَنْ جُنِّبَ النَّارَ وَنَجَا مِنْهَا وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ كُلَّ الفوز. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمَ: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فاز} (رواه ابن أبي حاتم وأصله في الصحيحين) ". وقوله تعالى: {وَما الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} تصغير لشأن الدنيا، وتحقير لِأَمْرِهَا، وَأَنَّهَا دَنِيئَةٌ فَانِيَةٌ قَلِيلَةٌ زَائِلَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، وقال: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وزينتها، وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى} وَفِي الْحَدِيثِ: «وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَغْمِسُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فلينظر بم ترجع إليه». وقال قتادة: هِيَ مَتَاعٌ مَتْرُوكَةٌ أَوْشَكَتْ - وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ - أَنْ تَضْمَحِلَّ عَنْ أَهْلِهَا، فَخُذُوا مِنْ هَذَا الْمَتَاعِ طَاعَةَ اللَّهِ إِنِ استطعتم ولا قوة إلا الله. وقوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}، كقوله تعالى: {ولنبلونك بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ والأنفس والثمرات} إلى آخر الآيتين، أَيْ لَا بُدَّ أَنْ يُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ أَهْلِهِ، وَيُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي الْبَلَاءِ {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً} يَقُولُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ مَقْدَمِهِمُ الْمَدِينَةَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، مسلياً لهم عما ينالهم

مِنَ الْأَذَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَآمِرًا لهم بالصفح والعفو حتى يفرج الله، فقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} قال ابن أبي حاتم، عن أسامة بن زيد: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ الله، ويصبرون على الأذى، قال تَعَالَى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً} قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَوَّلُ فِي الْعَفْوِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حتى أذن الله فيهم. وعن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ (فطيفة فَدَكية: كساء غليظ منسوب إلى فَدَك بلد على مرحلتين من المدينة) وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَرَاءَهُ يَعُودُ (سَعْدَ بن عبادة) ببني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، حتى مر على مجلس فيه (عبد الله بن أُبي بن سلول) وذلك قبل أن يسلم ابن أبي، وإذا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأوثان، وأهل الكتاب وَالْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ وَقَالَ: لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم وقف، فنزل ودعاهم إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي: أَيُّهَا الْمَرْءُ إِنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا، ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا، ثُمَّ رَكِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى (سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟» يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبي، قَالَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رسول الله اعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل عَلَيْكَ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ عَلَى أن يتوجوه فيعصبوه بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ الَّذِي فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ، فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رواه البخاري). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يردوكم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً، حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} الْآيَةَ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَوَّلُ فِي الْعَفْوِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أذن الله له فِيهِمْ، فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ صَنَادِيدَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ فَبَايَعُوا الرَّسُولَ على الإسلام، فبايعوا وأسلموا، فكل مَنْ قَامَ بِحَقٍّ أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤْذَى فَمَا لَهُ دَوَاءٌ إِلَّا الصَّبْرُ فِي اللَّهِ، والاستعانة بالله والرجوع إلى الله.

- 187 - وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ واشتروا

بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ - 188 - لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 189 - وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هَذَا تَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ وَتَهْدِيدٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الذين أخذ الله عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يُنَوِّهُوا بذكره في الناس فيكونوا عَلَى أُهْبَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، فَإِذَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَابَعُوهُ، فَكَتَمُوا ذَلِكَ وَتَعَوَّضُوا عَمَّا وَعَدُوا عَلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِالدُّونِ الطَّفِيفِ، والحظ الدنيوي السخيف، فبئس الصَّفْقَةُ صَفْقَتُهُمْ، وَبِئْسَتِ الْبَيْعَةُ بَيْعَتُهُمْ، وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ لِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَسْلُكُوا مَسْلَكَهُمْ فَيُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، وَيُسْلَكَ بِهِمْ مَسْلَكُهُمْ، فَعَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يَبْذُلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ، الدَّالِّ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَا يَكْتُمُوا مِنْهُ شَيْئًا، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} الْآيَةَ، يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُرَائِينَ الْمُتَكَثِّرِينَ بِمَا لَمْ يُعْطَوْا، كما جاء فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا لم يزده الله إلى قلة} وفي الصحيحين أيضاً: الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ". وقد روي أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرىء منا فرح بما أوتي وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لنعذبن أجمعين!! فقال ابن عباس: ما لكم وهذه، وإنما نَزَلَتْ هَذِهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ تَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ* لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} الآية، وقال ابن عباس: سأله النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَخَرَجُوا قَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه (رواه أحمد وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي) وفي رواية عن أبي سعيد الخدري: أن رجالاً من المنافقين فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَزْوِ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا، وَأَحَبُّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزل: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بما لم يفعلوا} الآية (أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري) وقد روى ابن مردويه عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ (ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّ) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ هَلَكْتُ، قَالَ: لمَ؟ قَالَ: نَهَى اللَّهُ الْمَرْءَ أَنْ يُحِبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْحَمْدَ، وَنَهَى اللَّهُ عَنِ الْخُيَلَاءِ وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْجَمَالَ، وَنَهَى اللَّهُ أَنْ نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فَوْقَ صوتك وأنا امرؤ جهير الصَّوْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا وَتُقْتَلَ شَهِيدًا وَتَدْخُلَ الجنة» فقال: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَعَاشَ حَمِيدًا وَقُتِلَ شهيداً يوم مسيلمة الكذاب. وقوله تعالى: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب} أي لا تحسب

أَنَّهُمْ نَاجُونَ مِنَ الْعَذَابِ، بَلْ لَا بُدَّ لهم منه، ولهذا قال تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، ثم قال تعالى: {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض، والله عَلَى كل شي قَدِيرٌ} أَيْ هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، فَهَابُوهُ ولا تخالفوه، واحذروا غضبه ونقمته، فَإِنَّهُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا أَعْظَمَ مِنْهُ، الْقَدِيرُ الَّذِي لَا أَقْدَرَ مِنْهُ.

- 190 - إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب - 191 - الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ - 192 - رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ - 193 - رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ - 194 - رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ معنى الآية إِنَّ الله تعالى يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ} أَيْ هَذِهِ فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا، وَهَذِهِ في انفخاضها وَكَثَافَتِهَا وَاتِّضَاعِهَا، وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُشَاهَدَةِ العيظمة مِنْ كَوَاكِبَ سَيَّارَاتٍ، وَثَوَابِتَ وَبِحَارٍ وَجِبَالٍ وَقِفَارٍ وَأَشْجَارٍ وَنَبَاتٍ وَزُرُوعٍ وَثِمَارٍ وَحَيَوَانٍ وَمَعَادِنَ، وَمَنَافِعَ مختلفة الألوان والطعوم والراوئح وَالْخَوَاصِّ، {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أَيْ تَعَاقُبُهُمَا وَتَقَارُضُهُمَا الطُّولَ وَالْقِصَرَ، فَتَارَةً يَطُولُ هَذَا وَيَقْصُرُ هَذَا، ثُمَّ يَعْتَدِلَانِ ثُمَّ يَأْخُذُ هَذَا مِنْ هَذَا فَيَطُولُ الَّذِي كَانَ قَصِيرًا، وَيَقْصُرُ الَّذِي كَانَ طويلاً وكل ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم، ولهذا قال تعالى: {لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب} أي العقول التامة الزكية الَّتِي تُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ بِحَقَائِقِهَا عَلَى جَلِيَّاتِهَا، وَلَيْسُوا كَالصُّمِّ الْبُكْمِ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، الَّذِينَ قَالَ الله فيهم: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السموات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى أُولِي الْأَلْبَابِ فَقَالَ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} كَمَا ثبت في الصحيحين عَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِكَ} أَيْ لَا يَقْطَعُونَ ذِكْرَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ بِسَرَائِرِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ وألسنتهم، {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خلق السموات وَالْأَرْضِ} أَيْ يَفْهَمُونَ مَا فِيهِمَا مِنَ الْحِكَمِ الدالة على عظمة الخالف وقدرته وحكمته واختياره ورحمته. وقال الداراني: أين لَأَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِي فَمَا يَقَعُ بَصَرِي عَلَى شَيْءٍ أَلاَ رَأَيْتُ لِلَّهِ عَلَيَّ فِيهِ نِعْمَةٌ ولي فيه عبرة، وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خير من قيام ليلة، وقال: الحسن: الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك. وَعَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: طُوبَى لِمَنْ كَانَ قِيلُهُ تَذَكُّرًا، وَصَمْتُهُ تَفَكُّرًا، وَنَظَرُهُ عبراً. وَقَالَ مُغِيثٌ الْأَسْوَدُ: زُورُوا الْقُبُورَ كُلَّ يَوْمِ تفكركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلى المصرف بالفريقين إلى الجنة أوالنار، وَأَشْعِرُوا قُلُوبَكُمْ وَأَبْدَانَكُمْ ذِكْرَ النَّارِ وَمَقَامِعَهَا وَأَطْبَاقَهَا، وَكَانَ يَبْكِي عِنْدَ ذَلِكَ حَتَّى يُرْفَعَ صَرِيعًا من بين

أصحابه. وقال ابن الْمُبَارَكِ: مَرَّ رَجُلٌ بِرَاهِبٍ عِنْدَ مَقْبَرَةٍ وَمَزْبَلَةٍ فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا رَاهِبُ إِنَّ عِنْدَكَ كَنْزَيْنِ مِنْ كُنُوزِ الدُّنْيَا لَكَ فِيهِمَا مُعْتَبَرٌ: كَنْزُ الرجال، وكنزل الْأَمْوَالِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَعَاهَدَ قَلْبَهُ يَأْتِي الْخَرِبَةَ فَيَقِفُ عَلَى بَابِهَا فَيُنَادِي بِصَوْتٍ حَزِينٍ فَيَقُولُ: أَيْنَ أَهْلُكِ؟ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وجهه} وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ نَظَرَ إِلَى الدُّنْيَا بِغَيْرِ الْعِبْرَةِ انْطَمَسَ مِنْ بَصَرِ قَلْبِهِ بِقَدْرِ تلك الغفلة. وقال بشر الْحَافِي: لَوْ تَفَكَّرَ النَّاسُ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ تعالى لما عصوه، وَعَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: يَا ابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت، وكن في الدنيا ضعيفاً، وَاتَّخِذِ الْمَسَاجِدَ بَيْتًا، وَعَلِّمْ عَيْنَيْكَ الْبُكَاءَ، وَجَسَدَكَ الصَّبْرَ وَقَلْبَكَ الْفِكْرَ، وَلَا تَهْتَمَّ بِرِزْقِ غَدٍ. وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَكَى يَوْمًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: فَكَّرْتُ فِي الدُّنْيَا وَلِذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا فَاعْتَبَرْتُ مِنْهَا بِهَا، مَا تَكَادُ شَهَوَاتُهَا تَنْقَضِي حَتَّى تُكَدِّرَهَا مَرَارَتُهَا. وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عِبْرَةٌ لِمَنِ اعْتَبَرَ، إِنَّ فيها مواعظ لمن ادكر. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَا يَعْتَبِرُ بِمَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدْرِهِ وآياته فقال: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ في السموات وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ* وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} وَمَدَحَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خلق السموات وَالْأَرْضِ}، قَائِلِينَ: {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} أَيْ مَا خَلَقْتَ هَذَا الْخَلْقَ عَبَثًا، بَلْ بِالْحَقِّ لِتَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُوا، وَتَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى، ثُمَّ نَزَّهُوهُ عَنِ الْعَبَثِ وَخَلْقِ الْبَاطِلِ، فَقَالُوا: {سُبْحَانَكَ} أَيْ عَنْ إِنَّ تَخْلُقَ شَيْئًا بَاطِلًا. {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أَيْ يَا مَنْ خَلَقَ الْخَلْقَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ؛ يَا مَنْ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْعَيْبِ وَالْعَبَثِ، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك، وَوَفِّقْنَا لِعَمَلٍ صَالِحٍ تَهْدِينَا بِهِ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَتُجِيرُنَا بِهِ مِنْ عَذَابِكَ الْأَلِيمِ، ثُمَّ قالوا: {بنا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} أَيْ أهنته وأظهرت خزيهه لِأَهْلِ الْجَمْعِ، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن أَنْصَارٍ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا مُجِيرَ لَهُمْ مِنْكَ، وَلَا مَحِيدَ لَهُمْ عَمَّا أَرَدْتَ بِهِمْ، {رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ} أَيْ دَاعِيًا يَدْعُو إِلَى الْإِيمَانِ، وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} أَيْ يَقُولُ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا أَيْ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَاتَّبَعْنَاهُ أي بإيماننا بنبيك، {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} أَيِ اسْتُرْهَا، {وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} أَيْ أَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ} قِيلَ: مَعْنَاهُ عَلَى الْإِيمَانِ بِرُسُلِكَ، وَقِيلَ: معناه عَلَى ألسنة رسلك، وهذا أظهر {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} أي على رؤوس الْخَلَائِقِ، {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أَيْ لَا بد من الميعاد الذين أَخْبَرْتَ عَنْهُ رُسُلَكَ وَهُوَ الْقِيَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بين يديك. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَشْرَ مِنْ آخِرِ آلِ عِمْرَانَ إِذَا قَامَ مِنَ الليل لتهجده فقال البخاري رحمه الله، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ثُمَّ رَقَدَ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الْأَلْبَابِ} الآيات، ثم قام فتوضأ واستن، ثم صلى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ فَصَلَّى ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم خرج ذات ليلة بعدما مَضَى لَيْلٌ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، وَتَلَا هَذِهِ الآية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الْأَلْبَابِ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي

نُورًا، وَعَنْ شِمَالِي نُورًا، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيَّ نُورًا، وَمِنْ خَلْفِي نُورًا، وَمِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا وَأَعْظِمْ لِي نُورًا يَوْمَ القيامة» (رواه ابن مردويه عن ابن عباس). وعن عَطَاءٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَدَخَلْنَا عَلَيْهَا وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا حِجَابٌ، فَقَالَتْ: يَا عُبَيْدُ مَا يَمْنَعُكَ مِنْ زِيَارَتِنَا، قَالَ: قَوْلُ الشَّاعِرِ (زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا)، فَقَالَ ابْنُ عمر: ذرينا أخبرينا بأعجب ما رأيتيه مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!؟ فَبَكَتْ وَقَالَتْ: كُلُّ أَمْرِهِ كَانَ عَجَبًا، أَتَانِي فِي لَيْلَتِي حَتَّى مَسَّ جِلْدُهُ جِلْدِي ثُمَّ قَالَ «ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ»، قَالَتْ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَإِنِّي أُحِبُّ أن تعبد ربك، فَقَامَ إِلَى الْقِرْبَةِ فَتَوَضَّأَ وَلَمْ يُكْثِرْ صَبَّ الْمَاءِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ سَجَدَ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى جَنْبِهِ فَبَكَى حَتَّى إِذَا أَتَى بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ، قَالَتْ، فَقَالَ: يارسول اللَّهِ مَا يُبْكِيكَ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: "وَيْحَكَ يَا بِلَالُ وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَبْكِيَ وقد أنزل الله عَلَيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض واختلاف اليل وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الْأَلْبَابِ} "، ثُمَّ قَالَ: «وَيْلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها» (رواه ابن مردويه وعبد بن حميد).

- 195 - فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ يَقُولُ تَعَالَى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} أَيْ فَأَجَابَهُمْ رَبُّهُمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وداعٍ دَعَا يا من يجيب إلى الندا * فلم يستجبه عند ذاك مجيب عن أم سلمة قالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا نَسْمَعُ اللَّهَ ذَكَرَ النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَالَتِ الْأَنْصَارُ هِيَ أَوَّلُ ظَعِينَةٍ قدمت علينا، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ ذَوِي الْأَلْبَابِ لَمَّا سألوا ما سَأَلُوا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وقوله تعالى: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْإِجَابَةِ أَيْ قال لهم مخبراً أَنَّهُ لَا يَضِيعُ عَمَلُ عَامِلٍ لَدَيْهِ، بَلْ يُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ بِقِسْطِ عَمَلِهِ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، وَقَوْلُهُ: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أَيْ جَمِيعُكُمْ فِي ثَوَابِي سَوَاءٌ، {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} أَيْ تَرَكُوا دَارَ الشِّرْكِ وَأَتَوْا إِلَى دَارِ الْإِيمَانِ، وفارقوا الأحباب والإخوان والخلان وَالْجِيرَانَ، {وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} أَيْ ضَايَقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بالأذى حتى ألجأوهم إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي} أَيْ إِنَّمَا كَانَ ذَنْبُهُمْ إِلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُخْرِجُونَ

الرسول وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بالله ربكم} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ العزيز الحميد} وقوله تعالى: {وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ} وَهَذَا أَعْلَى الْمَقَامَاتِ أَنْ يُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُعْقَرَ جَوَادُهُ وَيُعَفَّرَ وَجْهُهُ بدمه وترابه، وقد ثبت في الصحيحين أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، أَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، ثُمَّ قَالَ: «كَيْفَ قُلْتَ»؟ فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَا قَالَ، فَقَالَ: «نَعَمْ، إِلَّا الدَّيْنَ قَالَهُ لِي جِبْرِيلُ آنِفًا»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ تَجْرِي فِي خِلَالِهَا الْأَنْهَارُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشَارِبِ مِنْ لَبَنٍ وَعَسَلٍ وَخَمْرٍ وَمَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. وَقَوْلُهُ: {ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ} أَضَافَهُ إِلَيْهِ وَنَسَبَهُ إِلَيْهِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ عَظِيمٌ، لِأَنَّ الْعَظِيمَ الْكَرِيمَ لَا يُعْطِي إِلَّا جَزِيلًا كَثِيرًا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِنْ يُعذّبْ يكنْ غَرَامًا وَإِنْ يُعْ * طِ جَزِيلَا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} أَيْ عِنْدَهُ حُسْنُ الجزاء لمن عمل صالحاً.

- 196 - لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَادِ - 197 - مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ - 198 - لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ومعناه: لا تنظر إِلَى مَا هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مُتْرَفُونَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْغِبْطَةِ وَالسُّرُورِ، فَعَمَّا قَلِيلٍ يَزُولُ هَذَا كُلُّهُ عَنْهُمْ، وَيُصْبِحُونَ مُرْتَهَنِينَ بِأَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ، فَإِنَّمَا نَمُدُّ لَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ اسْتِدْرَاجًا، وَجَمِيعُ مَا هُمْ فِيهِ {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فلا يغرنك تَقَلُّبُهُمْ فِي البلاد} وَقَالَ تَعَالَى: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}، وقال تعالى: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} أَيْ قَلِيلًا وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}؟ وَهَكَذَا لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا وذكر أن مآالهم إلى النار قال بعده: {لمن الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ الله وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} عن عبد الله بن عمروا قال: إنما سمّاهم الْأَبْرَارَ لِأَنَّهُمْ بَرُّوا الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ، كَمَا أَنَّ لِوَالِدَيْكَ عَلَيْكَ حَقًّا، كَذَلِكَ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ، وَمَا مِنْ كَافِرٍ إِلَّا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْنِي فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} وَيَقُولُ: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ أنفسهم، إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ يزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مهين} (أخرجه ابن جرير).

- 199 - وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لَا يَشْتَرُونَ

بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ - 200 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُوا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ حَقَّ الإيمان، ويؤمنون بما أنزل على محمد مع ما هم مؤمنون بِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَنَّهُمْ خَاشِعُونَ لِلَّهِ أَيْ مُطِيعُونَ لَهُ خَاضِعُونَ مُتَذَلِّلُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أَيْ لا يكتمون ما بأيديهم مِنَ الْبِشَارَةِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفته أمته، وهؤلاء ثم خِيرَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَصَفْوَتُهُمْ سَوَاءً كَانُوا هُودًا أو نصارى، وقد قال تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يؤمنون} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ} الآية. وقد قال تَعَالَى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى {لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يسجدون} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لمفعولا} وهذه الصفات توجد في اليهود ولكن قليلاًن كَمَا وُجِدَ فِي (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ) وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ آمَنُ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَلَمْ يَبْلُغُوا عَشَرَةَ أَنْفُسٍ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يهتدون وَيَنْقَادُونَ لِلْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نصارى}، إلى قوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} الآية. وهكذا قال ههنا: {أولئك لهم أجرهم عند رَبِّهِمْ} الْآيَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَرَأَ سُورَةَ {كهيعص} بِحَضْرَةِ النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ وعند الْبَطَارِكَةُ وَالْقَسَاوِسَةُ بَكَى وَبَكَوْا مَعَهُ حَتَّى أَخْضَبُوا لِحَاهُمْ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّجَاشِيَّ لَمَّا مَاتَ نَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: {إِنَّ أَخًا لَكُمْ بِالْحَبَشَةِ قد مات فصلّوا عليه" فخرج إِلَى الصَّحْرَاءِ فَصَفَّهُمْ وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَرَوَى ابْنُ أبي حاتم، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ النَّجَاشِيُّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «استغفرا لِأَخِيكُمْ»، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَسْتَغْفِرَ لِعِلْجٍ مَاتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَنَزَلَتْ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ} الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يَعْنِي مُسْلِمَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ عن قول الله: {وَإِنَّ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الْآيَةَ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبَعُوهُ وَعَرَفُوا الْإِسْلَامَ فَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَجْرَ اثْنَيْنِ، لِلَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، واتباعهم محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مرتين» فذكر منهم رجلاً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي، وقوله تعالى: {لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} أَيْ لا يكتمون ما بأيديدهم من العلم كما فعلته الطَّائِفَةُ الْمَرْذُولَةُ مِنْهُمْ بَلْ يَبْذُلُونَ ذَلِكَ مَجَّانًا، ولهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: سَرِيعُ الْحِسَابِ يَعْنِي سريع الإحصاء.

وقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ} قال الحسن البصري: أُمِرُوا أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى دِينِهِمُ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ لَهُمْ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، فَلَا يَدْعُوهُ لِسَرَّاءَ وَلَا لِضَرَّاءَ وَلَا لِشِدَّةٍ وَلَا لِرِخَاءٍ، حَتَّى يَمُوتُوا مُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُصَابِرُوا الْأَعْدَاءَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ دِينَهُمْ، وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ، وَأَمَّا الْمُرَابَطَةُ فَهِيَ الْمُدَاوَمَةُ فِي مَكَانِ الْعِبَادَةِ وَالثَّبَاتِ وَقِيلَ: انْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ قاله ابن عباس ويشهد له حديث: «ألا أخبركم بما يمحوا اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ!! إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرابط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» (رواه مسلم والنسائي) وعن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيَّ أَبُو هُرَيْرَةَ يَوْمًا فَقَالَ: أَتَدْرِي يَا ابْنَ أَخِي فِيمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُوا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ} قُلْتُ: لَا، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ يُرَابِطُونَ فِيهِ، وَلَكِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ يُعَمِّرُونَ المساجد ويصلون الصَّلَاةَ فِي مَوَاقِيتِهَا، ثُمَّ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهَا فَعَلَيْهِمْ أُنْزِلَتْ: {اصْبِرُوا} أَيْ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، {وَصَابِرُواْ} أَنْفُسِكُمْ وَهَوَاكُمْ، {وَرَابِطُواْ} فِي مَسَاجِدِكُمْ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيما عليكم {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيُكَفِّرُ بِهِ الذُّنُوبَ؟» قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي أَمَاكِنِهَا وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمُ الرباط» (أخرجه ابن مردويه والحاكم) وقيل: المراد بالمرابطة ههنا (مُرَابَطَةُ الْغَزْوِ) فِي نُحُورِ الْعَدُوِّ، وَحِفْظُ ثُغُورِ الْإِسْلَامِ، وَصِيَانَتُهَا عَنْ دُخُولِ الْأَعْدَاءِ إِلَى حَوْزَةِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِالتَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ وَذِكْرِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ فِيهِ، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا». (حَدِيثٌ آخَرُ): رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ». (حَدِيثٌ آخر): قال صلى الله عليه وسلم «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا المرابط في سبيل الله يجري عليه عمله حتى يبعث ويأمن الفتان» (رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر). (حديث آخر): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ الصَّالِحُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ مِنَ الْفَتَّانِ وَبَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آمِنًا من الفزع الأكبر» (رواه ابن ماجة في سننه) (طريق آُخرى) قال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا وُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَأَمِنَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وغدا عليه ريح بِرِزْقِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَكُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْمُرَابِطِ إلى يوم القيامة». (طريق أُخرى: قال الترمذي، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ

إِنِّي كَتَمْتُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرَاهِيَةَ تَفَرُّقِكُمْ عَنِّي ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُحَدِّثَكُمُوهُ لِيَخْتَارَ امْرُؤٌ لِنَفْسِهِ مَا بَدَا لَهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فيما سواه من المنازل». (حديث آخر): قال الترمذي: مرّ سلمان الفارسي بشرحبيل بن الصمت وهو في مرابطة لَهُ وَقَدْ شَقَّ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: ألا أحدثك يا ابن الصمت بِحَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ - أَوْ قَالَ خَيْرٌ - مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَمَنْ مَاتَ فيه وقي فتنة القبر ونمي له عمله إلى يَوْمَ الْقِيَامَةِ». (حَدِيثٌ آخَرُ): قَالَ أَبُو دَاوُدَ: عن سهل بن الحنظلة أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين حَتَّى كَانَتْ عَشِيَّةً، فَحَضَرْتُ الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَجُلٌ فَارِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي انْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِمْ بِظُعُنِهِمْ ونعمهم وشياههم، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ»؟ قَالَ أنَس بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قال: «فاركب»، فركب فرساً، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ حَتَّى تَكُونَ في أعلاه ولا تغز مِنْ قِبَلِكَ اللَّيْلَةَ» فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُصَلَّاهُ فركع ركعيتين، فقال: «هل أحسستم فارسكم؟»، فقال رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَسْنَاهُ، فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ، حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ، قَالَ: «أَبْشِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ فَارِسُكُمْ»، فجعلنا ننظر في خِلَالِ الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ فَإِذَا هُوَ قَدْ جاء، حتى وقف عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَى هَذَا الشعب حيث أمرتني، فلما أصبحنا طَلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ نَزَلْتَ اللَّيْلَةَ؟» قَالَ: لَا، إِلَّا مصلياً أو قاضي حاجة، فقال له: «أوجبتَ فلا عليك أن لا تعمل بعدها» (أخرجه ابو داود والنسائي في السنن) (حديث آخر): قال الإمام أحمد بسنده عن أبي ريحانة، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ فَأَتَيْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ إِلَى شَرَفٍ فَبِتْنَا عَلَيْهِ، فَأَصَابَنَا بَرْدٌ شَدِيدٌ حتى رأيت من يحفر في الأرض يدخل فيها ويلقي عليه الحجفة (يَعْنِي التِّرَسَ) فَلِمَا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّاسِ نَادَى: «من يحرسنا هذه الليلة فأدعوا لَهُ بِدُعَاءٍ يَكُونُ لَهُ فِيهِ فَضْلٌ؟» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قال: «ادن» فدنا منه، فَقَالَ: «مَنْ أَنْتَ»؟ فَتَسَمَّى لَهُ الْأَنْصَارِيُّ، فَفَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدُّعَاءِ فأكثر منه. قال أَبُو رَيْحَانَةَ: فَلَمَّا سَمِعْتُ مَا دَعَا بِهِ قُلْتُ: أَنَا رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: «ادْنُ»، فَدَنَوْتُ، فقال: «من أنت»؟ فقال، فقلت: أبو ريحانة، فدعا بدعاء دون ما دعا به لِلْأَنْصَارِيِّ، ثُمَّ قَالَ: «حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ دَمَعَتْ - أَوْ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَحُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْهُ: «حُرِّمَتِ النَّارُ» إِلَى آخِرِهِ. (حديث آخر): قال الترمذي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهما النَّارُ، عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وعين باتت تحرس في سبيل الله». (حَدِيثٌ آخَرُ): رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ

وعبد الدرهم وعبد الخميصة (الخميصة: الثوب المخطط) إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش (قوله (فلا انتقش) قال الحافظ في الفتح: أي إذا أصابته الشوكة فلا وجد من يخرجها منه بالمنقاش) طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغَبَّرَةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ في الحراسة كان في الحراسة (قال ابن الجوزي: المعنى أنه خامل الذكر لا يقصد السمو والرفعة) وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لم يشفع". فهذا آخر مَا تَيَسَّرَ إِيرَادُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْمَقَامِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى جَزِيلِ الْإِنْعَامِ، عَلَى تعاقب الأعوام والأيام. تنبيه: قال ابن جرير: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يَذْكُرُ لَهُ جُمُوعًا مِنَ الرُّومِ وَمَا يَتَخَوَّفُ مِنْهُمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مَنْزِلَةِ شِدَّةٍ يَجْعَلِ الله لَهُ بَعْدَهَا فَرَجَا، وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، وأن اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُوا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. وروى الحافظ ابن عساكر عن مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي سُكَيْنَةَ قَالَ: أَمْلَى عليَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ هَذِهِ الأبيات بطرسوس وأنشدها إِلَى الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ) فِي سَنَةِ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ: يَا عَابِدَ الْحَرَمَيْنِ لَوْ أَبْصَرْتَنَا * لَعَلِمْتَ أَنَّكَ فِي الْعِبَادَةِ تَلْعَبُ مَنْ كَانَ يَخْضِبُ خَدَّهُ بِدُمُوعِهِ * فَنُحُورُنَا بِدِمَائِنَا تَتَخَضَّبُ أَوْ كَانَ يُتْعِبُ خَيْلَهُ فِي بَاطِلٍ * فَخُيُولُنَا يَوْمَ الصَّبِيحَةِ تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا * رهج السَّنَابِكِ وَالْغُبَارُ الْأَطْيَبُ وَلَقَدْ أَتَانَا مِنْ مَقَالِ نَبِيِّنَا * قَوْلٌ صَحِيحٌ صَادِقٌ لَا يَكْذِبُ لَا يستوي غبَّار خيل الله في * أنف امرىء وَدُخَانِ نَارٍ تَلْهَبُ هَذَا كِتَابُ اللَّهِ يَنْطِقُ بَيْنَنَا * لَيْسَ الشَّهِيدُ بِمَيِّتٍ لَا يَكْذِبُ قَالَ: فَلَقِيتُ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ بِكِتَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلَمَّا قَرَأَهُ ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ وَقَالَ: صَدَقَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَنَصَحَنِي، ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ؟ قَالَ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَاكْتُبْ هَذَا الْحَدِيثَ كِرَاءَ حَمْلِكَ كِتَابَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَيْنَا، وَأَمْلَى عَلَيَّ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يا رسول الله علِّمن عَمَلًا أَنَالُ بِهِ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُصَلِّيَ فَلَا تَفْتُرُ، وَتَصُومَ فَلَا تُفْطِرُ؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَضْعَفُ مِنْ أَنْ أَسْتَطِيعَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ طُوِّقت ذَلِكَ مَا بَلَغْتَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْفَرَسَ الْمُجَاهِدَ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ فَيُكْتَبُ له بذلك الحسنات؟! وقوله تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أَيْ فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ وَأَحْوَالِكُمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أَيْ فِي الدُّنْيَا والآخرة. انتهى تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، ونسأله الموت على الكتاب والسنة آمين.

4 - سورة النساء

- 4 - سورة النساء

[مقدمة] قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ سُورَةُ النساء بالمدينة وقال عبد الله بن مسعود: إِنَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ لَخَمْسَ آيَاتٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الْآيَةَ، {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الْآيَةَ، {إِنَّ الله لا يغفر أن يشر بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}، {لو أنه إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جاؤك} الآية، وَقَوْلُهُ {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} رواه ابن جرير.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- 1 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رقيبا أمر الله تعالى خَلْقَهُ بِتَقْوَاهُ، وَهِيَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُمْ بِهَا مِّن {نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} وَهِيَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وَهِيَ حَوَّاءُ عَلَيْهَا السَّلَامُ، خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِهِ الْأَيْسَرِ مِنْ خَلْفِهِ وهو نائم فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليه وأنست إليه. وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس: خلقت المرأة من الرجل فجعلت نَهْمَتُهَا فِي الرَّجُلِ، وَخُلِقَ الرَّجُلُ مِنَ الْأَرْضِ فجعلت نهمته في الأرض فاحبسوا نساءكم (رواه ابن أبي حاتم عن قتادة عن ابن عباس) وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ» وَقَوْلُهُ: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} أَيْ وَذَرَأَ مِنْهُمَا: أَيْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً، ونَشَرَهُمْ فِي أَقْطَارِ الْعَالَمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَعَادُ وَالْمَحْشَرُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} أَيْ وَاتَّقُوا اللَّهَ بِطَاعَتِكُمْ إياه، قال مجاهد وَالْحَسَنُ: {الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ} أَيْ كَمَا يُقَالُ أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَبِالرَّحِمِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الذي تعاقدون وتعاهدون به وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا وَلَكِنْ بِرُّوهَا وَصِلُوهَا قاله ابن عباس وعكرمة. وقرأ بعضهم: {والأرحام} بالخفض عطفاً عَلَى الضَّمِيرِ فِي (بِهِ) أَيْ تَسَاءَلُونَ بِاللَّهِ وَبِالْأَرْحَامِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} أَيْ هُوَ مُرَاقِبٌ لجميع أحوالكم وأعمالكم، كَمَا قَالَ: {وَاللَّهُ عَلَى

كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}؛ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، وَهَذَا إِرْشَادٌ وَأَمْرٌ بِمُرَاقَبَةِ الرَّقِيبِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ أَصْلَ الْخَلْقِ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ واحدة، ليعطف بعضهم على بعض ويحثهم عَلَى ضُعَفَائِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ (جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ مُضَرَ - وَهُمْ مُجْتَابُو النِّمار أَيْ مِنْ عُرْيِهِمْ وَفَقْرِهِمْ - قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} حَتَّى خَتَمَ الآية، ثم قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قدمت لغد} ثُمَّ حَضَّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: «تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، من صاع تمره» (هو جزء من حديث آخرجه مسلم وأصحاب السُّنَنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ) وذكر تمام الحديث.

- 2 - وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً - 3 - وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا - 4 - وَآتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئًا يَأْمُرُ تَعَالَى بِدَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَيْهِمْ إِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ كَامِلَةً مُوَفَّرَةً، وَيَنْهَى عَنْ أَكْلِهَا وَضَمِّهَا إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَا تَعْجَلْ بِالرِّزْقِ الْحَرَامِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ الرِّزْقُ الْحَلَالُ الَّذِي قُدِّرَ لَكَ، وَقَالَ سَعِيدُ بن جبير: لا تتبدلوا الْحَرَامَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْحَلَالِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، يقول: لا تبدلوا أَمْوَالَكُمُ الْحَلَالَ وَتَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمُ الْحَرَامَ، وَقَالَ سَعِيدُ بن المسيب: لا تعط مهزولاً وتأخذ سميناً، وقال الضحاك لا تعط زيقاً وَتَأْخُذْ جَيِّدًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ أَحَدُهُمْ يَأْخُذُ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مَكَانَهَا الشَّاةَ الْمَهْزُولَةَ، وَيَقُولُ: شَاةٌ بِشَاةٍ، وَيَأْخُذُ الدِّرْهَمَ الْجَيِّدَ وَيَطْرَحُ مَكَانَهُ الزَّيِّفَ وَيَقُولُ دِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ. وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} قال مجاهد وسعيد بن جبير: أَيْ لَا تَخْلِطُوهَا فَتَأْكُلُوهَا جَمِيعًا، وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيرًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ إثماً عظيماً. وفي الحديث المروي في سنن أبو دَاوُدَ: «اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا» وَرَوَى ابْنُ مردويه بإسناده عن ابن عباس: أنا أيا أَيُّوبَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا أَيُّوبَ إِنَّ طَلَاقَ أُمِّ أَيُّوبَ كَانَ حُوبًا» قَالَ ابْنُ سيرين: الحوب الإثم، وعن أنَس: أن أبا ايوب أرد طلاق أم أيوب، فاستأذن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ طلاق أم أيوب لحوب» فأمسكها وَالْمَعْنَى: إِنَّ أَكْلَكُمْ أَمْوَالَهُمْ مَعَ أَمْوَالِكُمْ إِثْمٌ عَظِيمٌ وَخَطَأٌ كَبِيرٌ فَاجْتَنِبُوهُ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى} أَيْ إِذَا كَانَ تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف أن لا يُعْطِيَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا فَلْيَعْدِلْ إِلَى مَا سِوَاهَا، فَإِنَّهُنَّ كَثِيرٌ وَلَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ البخاري عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ يَتِيمَةٌ فَنَكَحَهَا وَكَانَ لَهَا عَذْقٌ، وَكَانَ يُمْسِكُهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ فَنَزَلَتْ

فيه {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ} أَحْسَبُهُ قَالَ: كَانَتْ شَرِيكَتَهُ فِي ذَلِكَ الْعَذْقِ وفي ماله، ثم قال البخاري: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى} قَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا تَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسط فِي صَدَاقِهَا فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يقسطوا إليهن، وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أن ينكحوا ما طاب له مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ، قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَإِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللَّهِ في الآية الأخرى: و {ترغبون أَن تَنكِحُوهُنَّ} رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال، فنهو أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من النِّسَاءِ إِلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ إِذَا كُنَّ قَلِيلَاتِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ. وَقَوْلُهُ {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} أَيِ انْكِحُوا مَا شِئْتُمْ مِّن النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ إِنْ شَاءَ أَحَدُكُمْ ثِنْتَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ ثَلَاثًا، وَإِنْ شَاءَ أَرْبَعًا، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} أي منهم من له جناحان، ومنه مَنْ لَهُ ثَلَاثَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعَةٌ، وَلَا يَنْفِي مَا عَدَا ذَلِكَ فِي الْمَلَائِكَةِ لِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ قَصْرِ الرِّجَالِ عَلَى أربع فمن هذه الآية كما قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ امْتِنَانٍ وَإِبَاحَةٍ، فَلَوْ كَانَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لَذَكَرَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبِيِّنَةُ عَنِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نسوة، وهذا الذي قاله الشافعي مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الشِّيعَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى تِسْعٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِلَا حَصْرٍ وَقَدْ يَتَمَسَّكُ بَعْضُهُمْ بِفِعْلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في جَمْعِهِ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى تِسْعٍ كما ثبت في الصحيح، وهذا عند العلماء من خصائصه دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الأحاديث الدالة على الحصر في أربع، ولنذكر الأحاديث في ذلك. قال الإمام أحمد عَنْ سَالِمٍ عَنِ أَبِيهِ: أَنَّ (غَيْلَانَ بْنَ سلمة الثقفي) أسلم وتحته عشر نِسْوَةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا»، فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ طَلَّقَ نِسَاءَهُ، وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَقَالَ: إِنِّي لَأَظُنُّ الشَّيْطَانَ فِيمَا يَسْتَرِقُ مِنَ السَّمْعِ سَمِعَ بِمَوْتِكَ فقذفه في نفسك، ولعلك لا تلبث إِلَّا قَلِيلًا، وَايْمُ اللَّهِ لَتُرَاجِعَنَّ نِسَاءَكَ وَلَتَرْجِعَنَّ مَالِكَ أَوْ لَأُورِثُهُنَّ مِنْكَ وَلَآمُرَنَّ بِقَبْرِكَ فَيُرْجَمُ كما رجم قبر أبي رغال (رواه الترمذي وابن ماجة والدارقطني إلى قوله: {اختر منهن أربعاً} والباقي من رواية أحمد} وعن ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ (غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ) كَانَ عِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، هَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ. فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لَسَوَّغَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَائِرَهُنَّ فِي بقاء العشرة وقد أسلمن، فَلَمَّا أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِ أَرْبَعٍ وَفِرَاقِ سَائِرِهِنَّ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ من أربع بحال، فإذا كَانَ هَذَا فِي الدَّوَامِ، فَفِي الِاسْتِئْنَافِ بِطَرِيقِ الأولى والأحرى، والله سبحانه أعلم بالصواب. (حديث آخر) قال الشافعي في مسنده عن نوفل بن معاوية الديلي قَالَ: أَسْلَمْتُ وَعِنْدِي خَمْسُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اخْتَرْ أَرْبَعًا أَيَّتَهُنَّ شِئْتَ وَفَارِقِ الْأُخْرَى»، فَعَمَدْتُ إِلَى أَقْدَمِهِنَّ صُحْبَةً، عَجُوزٍ عَاقِرٍ

مَعِي مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً فَطَلَّقْتُهَا، فَهَذِهِ كُلُّهَا شواهد لحديث غيلان كما قاله البيهقي، وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} أي إن خفتم من تعداد النساء أن لا تَعْدِلُوا بَيْنَهُنَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ ولو حرصتم} فمن خاف من ذلك فليقتصر عَلَى وَاحِدَةٍ أَوْ عَلَى الْجَوَارِي السَّرَارِي، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ قَسْمٌ بَيْنَهُنَّ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ، فَمَنْ فَعَلَ فَحَسَنٌ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ. وَقَوْلُهُ: {ذلك أدنى أَن لا تعولو} قال بعضهم: ذلك أدنى أَن لاتكثر عيالكم قاله زيد بن أسلم والشافعي وهو مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِن خِفْتُمْ عَيْلَةً} أَيْ فَقْرًا {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ} وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ * ومَا يَدرِي الْغَنِيُّ مَتَى يُعِيلُ؟ وَتَقُولُ الْعَرَبُ: عَالَ الرَّجُلُ يُعِيلُ عَيْلَةً إِذَا افْتَقَرَ، وَلَكِنْ في هذا التفسير ههنا نَظَرٌ، فَإِنَّهُ كَمَا يُخْشَى كَثْرَةُ الْعَائِلَةِ مِنْ تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراي أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} أَيْ لَا تَجُورُوا يُقَالُ: عَالَ فِي الْحُكْمِ إِذَا قَسَطَ وَظَلَمَ وَجَارَ، وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ: بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَخِيسُ شُعَيْرَةً * لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عائل عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} قَالَ: «لَا تجوروا»، روي مرفوعاً والصحيح عن عائشة أنه موقوف، وروي عن ابن عباس وعائشة ومجاهد أنهم قالوا: لا تميلوا. وقوله تعالى: {وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} قال ابن عباس: النحلة: المهر عن عائشة نحلة: فريضة، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: النِّحْلَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الواجب، يقول: لا تنكحها إلا بشي واجب لها، وليس ينبغي لأحد بعيد النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْكِحَ امرأة إلا بصداق واجب، وَمَضْمُونُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الرَّجُلَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الصَّدَاقِ إِلَى الْمَرْأَةِ حَتْمًا، وَأَنْ يَكُونَ طَيِّبَ النَّفْسِ بِذَلِكَ، كَمَا يَمْنَحُ الْمَنِيحَةَ وَيُعْطِي النِّحْلَةَ طيباً، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُعْطِيَ الْمَرْأَةَ صَدَاقَهَا طَيِّبًا بِذَلِكَ، فَإِنْ طَابَتْ هِيَ لَهُ بِهِ بَعْدَ تَسْمِيَتِهِ أَوْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ فَلْيَأْكُلْهُ حَلَالًا طيباً، ولهذا قال: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} وقال هشيم: كان الرجل إذا زوج بنته أَخَذَ صَدَاقَهَا دُونَهَا فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَنَزَلَ: {وَآتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم وابن جرير).

- 5 - وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا - 6 - وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيباً ينهى سبحانه وتعالى عَنْ تَمْكِينِ السُّفَهَاءِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ، الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِلنَّاسِ قِيَامًا، أَيْ تَقُومُ بها

معايشهم من التجارات وغيرها، ومن ههنا يُؤْخَذُ [الْحَجْرُ عَلَى السُّفَهَاءِ] وَهُمْ أَقْسَامٌ: فَتَارَةً يَكُونُ الْحَجْرُ لِلصِّغَرِ، فَإِنَّ الصَّغِيرَ مَسْلُوبُ الْعِبَارَةِ، وَتَارَةً يَكُونُ الْحَجْرُ لِلْجُنُونِ، وَتَارَةً لِسُوءِ التَّصَرُّفِ لنقص العقل أو الدين، وتارة للفَلس وَهُوَ مَا إِذَا أَحَاطَتِ الدُّيُونُ بِرَجُلٍ وَضَاقَ مَالُهُ عَنْ وَفَائِهَا، فَإِذَا سَأَلَ الْغُرَمَاءُ الحاكم الحجر عليه حجر عليه، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} قال: هم بَنُوكَ والنساء، وقال الضحاك: هُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيرٍ: هم اليتامى، وقال مجاهد وعكرمة: هم النساء، وقال ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إن النساء سفهاء إلا التي أطاعت قيّمها» (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه ابن مردويه مطولاً) وَقَوْلُهُ: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} قال ابن عباس لَا تَعْمَدْ إِلَى مَالِكَ وَمَا خَوَّلَكَ اللَّهُ وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك أو بنتك، ثُمَّ تُنْظُرَ إِلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَلَكِنْ أَمْسِكْ مَالَكَ وَأَصْلِحْهُ، وَكُنْ أَنْتَ الَّذِي تُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْ كِسْوَتِهِمْ وَمُؤْنَتِهِمْ وَرِزْقِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جرير عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ فلا يستجيب لَهُمْ، رَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا، وَرَجُلٌ أَعْطَى مَالَهُ سَفِيهًا، وَقَدْ قَالَ الله: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}، وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} يَعْنِي فِي البر والصلة، وهذه الآية الكريمة تضمنت الإحسان إلى العائلة في الكساوى والأرزاق، بالكلام الطَّيِّبِ وَتَحْسِينِ الْأَخْلَاقِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} أَيِ اخْتَبِرُوهُمْ {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْحُلُمَ، قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْبُلُوغُ فِي الْغُلَامِ تَارَةً يَكُونُ بِالْحُلُمِ، وَهُوَ أَنْ يَرَى فِي مَنَامِهِ مَا يُنْزِلُ بِهِ الماء الدافق الذي يكون منه الولد، وعن علي: قَالَ حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُتْمَ (1) بَعْدَ احْتِلَامٍ، وَلَا صُمَات يومٍ إِلَى اللَّيْلِ» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عن عائشة وغيرها مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يحلم - أي يستكمل خمس عشرة سنة - وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يفيق»، وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحن عن ابن عُمَرَ قَالَ: عُرِضتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحد وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشَرَةَ فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني، فقال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا بَلَغَهُ هَذَا الْحَدِيثُ: إِنَّ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وقال أبو عبيد في الغريب عَنْ عُمَرَ: أَنَّ غُلَامًا ابْتَهَرَ جَارِيَةً فِي شعره، فقال عمر: انْظُرُوا إِلَيْهِ فَلَمْ يُوجَدْ أَنْبَتَ فَدَرَأَ عَنْهُ الحد، قال أبو عبيدة: ابْتَهَرَهَا أَيْ قَذَفَهَا، وَالِابْتِهَارُ: أَنْ يَقُولَ فَعَلْتُ بِهَا وَهُوَ كَاذِبٌ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَهُوَ الإبتهار قَالَ الْكُمَيْتُ فِي شِعْرِهِ: قَبِيحٌ بِمِثْلِي نَعْتُ الفتاة * إما ابتهاراً وإما ابتياراً وقوله عزَّ وجلَّ: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} يعني صلاحاً في دينهم وحفظاً لأموالهم كذا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِ واحد من الأئمة، وهكذا قال الفقهاء: إذا بَلَغَ الْغُلَامُ مُصْلِحًا لِدِينِهِ وَمَالِهِ انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ، فَيُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالُهُ الَّذِي تَحْتَ يَدِ وليه، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} يَنْهَى تَعَالَى عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى مِنْ غير حاجة ضرورية {إِسْرَافاً وَبِدَاراً} أي مبادرة قَبْلَ بُلُوغِهِمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} عنه ولا يأكل منه شيئاً، وقال الشَّعْبِيُّ: هُوَ عَلَيْهِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ،

{وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} نَزَلَتْ فِي وَالِي الْيَتِيمِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ وَيُصْلِحُهُ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي وَالِي الْيَتِيمِ {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} بِقَدْرِ قِيَامِهِ عَلَيْهِ. قال الفقهاء: له أن يأكل من أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ أَوْ قَدَرَ حَاجَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَرُدُّ إِذَا أَيْسَرَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) لَا، لِأَنَّهُ أَكَلَ بِأُجْرَةِ عَمَلِهِ وَكَانَ فَقِيرًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الْآيَةَ أَبَاحَتِ الْأَكْلَ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ. روي أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي يَتِيمًا عِنْدَهُ مَالٌ وَلَيْسَ لي مال، آكل من ماله؟ قال: «كل بالمعروف غير مسرف» (رواه ابن أبي حاتم وأبو داود والنسائي). وقال ابن جرير: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّ فِي حِجْرِي أَيْتَامًا، وَإِنَّ لَهُمْ إِبِلًا وَلِي إبل، وأنا أمنح من إبلي فقراء، فماذا يحل مِنْ أَلْبَانِهَا؟ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تَبْغِي ضَالَّتَهَا وتهنا جرباها وتلوط حوضها وتسعى عَلَيْهَا فَاشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ، وَلَا نَاهِكٍ في الحلب (أخرجه ابن جرير ورواه مالك في الموطأ). (وَالثَّانِي): نَعَمْ، لِأَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ عَلَى الْحَظْرِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ، فَيَرُدُّ بَدَلَهُ كَأَكْلِ مَالِ الغير للمضطر عند الحاجة، وقد قال ابن أبي الدنيا: قال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي من هذا المال منزلة وَالِي الْيَتِيمِ، إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفَتُ، وَإِنِ احْتَجْتُ استقرضت، فإذا أيسرت قضيت. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}، قال: يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم، وَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: لَا يَأْكُلْ مِنْهُ إِلَّا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة فإن أكل منه قضاه {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} يَعْنِي مِنَ الْأَوْلِيَاءِ {وَمَن كَانَ فَقِيراً} أَيْ مِنْهُمْ {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أَيْ بِالَّتِي هِيَ أحسن كما قال في الآية الأخرة: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي لا تقربوه إلا مصلحين له فإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف. وقوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} يَعْنِي بَعْدَ بُلُوغِهِمُ الحلم وإيناسكم الرشد منهم فحينئذ سلموا إليهم أَمْوَالَهُمْ، فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ {فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} وهذا أمر من اللَّهِ تَعَالَى لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُشْهِدُوا عَلَى الْأَيْتَامِ إِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ وَسَلَّمُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ لِئَلَّا يَقَعَ مِنْ بَعْضِهِمْ جُحُودٌ وَإِنْكَارٌ لِمَا قَبَضَهُ وَتَسَلَّمَهُ. ثُمَّ قَالَ: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} أَيْ وكفى بالله حَسِيباً وشاهداً وَرَقِيبًا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ، فِي حَالِ نَظَرِهِمْ لِلْأَيْتَامِ وحال تسليمهم لأموالهم، هَلْ هِيَ كَامِلَةٌ مُوَفَّرَةٌ أَوْ مَنْقُوصَةٌ مَبْخُوسَةٌ؟ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي: لَا تَأَمرنَّ عَلَى اثنين، ولا تَلِينَ مال يتيم".

_ (1) لا يُتْم: بسكون التاء. يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام صغار الأيتام

- 7 - لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضًا - 8 - وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا - 9 - وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وليقولوا قولا

سَدِيدًا - 10 - إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْعَلُونَ الْمَالَ لِلرِّجَالِ الْكِبَارِ، وَلَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلَا الْأَطْفَالَ شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مما ترك الوالدان والأقربون} الآية. أَيِ الْجَمِيعُ فِيهِ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، يَسْتَوُونَ فِي أَصْلِ الْوِرَاثَةِ، وَإِنْ تَفَاوَتُوا بحسب ما فرض الله لِكُلٍّ مِنْهُمْ، بِمَا يُدْلِي بِهِ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْ قَرَابَةٍ، أَوْ زَوْجِيَّةٍ، أَوْ وَلَاءٍ، فَإِنَّهُ لحمة كلحمة النسب. وروى ابن مردويه عن جابر قال: {أتت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِيَ ابْنَتَيْنِ قد مَاتَ أَبُوهُمَا وَلَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} الآية. وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة} الآية. قِيلَ: الْمُرَادُ: وَإِذَا حَضَرَ قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ ذَوُو الْقُرْبَى مِمَّنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ، {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} فَلْيَرْضَخْ لَهُمْ مِنَ التَّرِكَةِ نَصِيبٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَاجِبًا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فقال البخاري عن ابن عباس: هي محكمة وليست بمنسوخة، وقال عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذَا حضر القسمة أولو الْقُرْبَى} نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا {يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أَوْلاَدِكُمْ} وروى العوفي عن ابن عباس: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْفَرَائِضُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَرَائِضَ فَأَعْطَى كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ، فَجُعِلَتِ الصَّدَقَةُ فِيمَا سمَّى الْمُتَوَفَّى، وقال ابن أبي حاتم عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَجُعِلَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ نُصِيبُهُ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أو كثر. وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِمْ، والمعنى: أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءُ مِنَ الْقَرَابَةِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ قِسْمَةَ مَالٍ جَزِيلٍ، فَإِنَّ أَنْفُسَهُمْ تَتُوقُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وإذا رأوا هذا يَأْخُذُ وَهَذَا يَأْخُذُ وَهُمْ يَائِسُونَ لَا شَيْءَ يُعطَونه، فأمر الله تعالى وهو الرؤوف الرَّحِيمُ أَنْ يُرْضَخَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَسَطِ يَكُونُ بِرًّا بِهِمْ وَصَدَقَةً عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ وَجَبْرًا لِكَسْرِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَذَمَّ الَّذِينَ يَنْقُلُونَ الْمَالَ خِفْيَةً خَشْيَةَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمُ الْمَحَاوِيجُ وَذَوُو الْفَاقَةِ كَمَا أَخْبَرَ به عَنِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ: {إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} أَيْ بِلَيْلٍ، وَقَالَ: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ* أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ} ف {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} فَمَنْ جَحَدَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ عَاقَبَهُ فِي أعز ما يملكه. وقوله تعالى: {وليخش الذي لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ} الآية، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذَا فِي الرَّجُلِ يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ، فيسمعه رجل يُوصِي بِوَصِيَّةٍ تَضُرُّ بِوَرَثَتِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي يَسْمَعُهُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ وَيُوَفِّقَهُ وَيُسَدِّدَهُ للصواب، فينظر لورثته كما كان يجب أَنْ يُصْنَعَ بِوَرَثَتِهِ إِذَا خَشِيَ عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ؛ وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ يَعُودُهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةً، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي، قَالَ: لَا، قَالَ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَالثُّلُثُ قَالَ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٍ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خر مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» وَفِي الصحيح عن ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى الرُّبُعِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ». قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنْ كَانَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ أغنياء استحب للميت أن يستوفي في وصيته الثلث، وَإِنْ كَانُوا فَقُرَاءَ اسْتُحِبَّ

أن ينقص الثلث؛ وقيل: المراد بالآية فليتقوا الله في مباشرة أموال اليتامى {ولا يأكلوها إسرافاً وبداراً} حكاه ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ يَتَأَيَّدُ بما بعده من التهديد في أكل أموال الْيَتَامَى ظُلْمًا، أَيْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ تُعَامَلَ ذريتك من بعدك، فعامل الناس في ذراريهم إِذَا وَلِيتَهُمْ، ثُمَّ أَعْلِمْهُمْ أَنَّ مَنْ أَكَلَ أموال اليتامى ظُلْمًا فَإِنَّمَا يَأْكُلُ فِي بَطْنِهِ نَارًا وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} أَيْ إِذَا أَكَلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى بِلَا سَبَبٍ فإنما يأكلون ناراً تتأجج في بطونهم يوم القيامة - وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ؛ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ؛ وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ؛ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ المؤمنات". وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُبْعَثُ آكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهَبُ النَّارِ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ وَمِنْ مسامعه وأنفه وعينيه، يعرفه كل من رآه بأكل مال اليتيم، وقال ابن مردويه عَنْ أَبِي بَرْزَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْقَوْمُ مِنْ قُبُورِهِمْ تَأَجَّجُ أَفْوَاهُهُمْ نَارًا» قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: أَلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الْآيَةَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُحَرِّج مَالَ الضَّعِيفَيْنِ: المرأة، واليتيم" (رواه ابن مردويه من حديث أبي هريرة) أي أوصيكم باجتناب مالهما

- 11 - يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيمًا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا، وَالْآيَةُ الَّتِي هِيَ خَاتِمَةُ هَذِهِ السُّورَةِ هُنَّ آيَاتُ عِلْمِ الْفَرَائِضِ، وَهُوَ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مِمَّا هو كَالتَّفْسِيرِ لِذَلِكَ، وَلْنَذْكُرْ مِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِتَفْسِيرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا تَقْرِيرُ الْمَسَائِلِ وَنَصْبُ الْخِلَافِ والأدلة، والحجاج بين الأئمة، فموضعه كتب الأحكام والله الْمُسْتَعَانُ. وَقَدْ وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي تَعَلُّمِ الْفَرَائِضِ، وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك؛ روى أبو دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمروا مرفوعاً: "الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادَلةٌ"، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «تعلموا الفرائض وعلموه الناس فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ، وَهُوَ يُنْسَى، وَهُوَ أَوَّلُ شيء ينزع مِنْ أُمَّتِي» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَفِي إِسْنَادِهِ ضعيف) قال ابْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّمَا سَمَّى الْفَرَائِضَ نِصْفَ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ يُبْتَلَى بِهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ عند تفسيره هذه الآية: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي بَنِي سَلَمَةَ مَاشِيَيْنِ، فَوَجَدَنِي

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَعْقِلُ شَيْئًا، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ ثُمَّ رَشَّ عليَّ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي مَالِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنَزَلَتْ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث جابر} (حديث آخر) عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي يوم أُحد شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا وَلَا يُنْكَحَانَ إِلَّا وَلَهُمَا مال، فقال: «يقضي الله في ذلك» فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: «أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فهو لك» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} أَيْ يَأْمُرُكُمْ بِالْعَدْلِ فِيهِمْ، فَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَجْعَلُونَ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ للذكر دُونَ الْإِنَاثِ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِي أَصْلِ الْمِيرَاثِ، وَفَاوَتَ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَذَلِكَ لِاحْتِيَاجِ الرَّجُلِ إِلَى مُؤْنَةِ النَّفَقَةِ وَالْكُلْفَةِ، وَمُعَانَاةِ التِّجَارَةِ وَالتَّكَسُّبِ، تحمل المشاق فناسب أن يعطي ضعفي ما تأخذه مَا تَأْخُذُهُ الْأُنْثَى، وَقَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْأَذْكِيَاءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} أَنَّهُ تَعَالَى أَرْحَمُ بخلقه من الوالدة بولدها، حَيْثُ أَوْصَى الْوَالِدَيْنِ بِأَوْلَادِهِمْ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرْحَمُ بهم منهم. وقال البخاري عن ابن عباس: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ؛ فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهما السدس والثلث، وجعل للزوجة الثمن الربع، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عباس: لَمَّا نَزَلَتِ الْفَرَائِضُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ فِيهَا مَا فَرَضَ لِلْوَلَدِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْأَبَوَيْنِ كَرِهَهَا النَّاسُ أَوْ بَعْضُهُمْ وَقَالُوا: تُعْطَى الْمَرْأَةُ الرُّبُعَ أو الثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يُقَاتِلُ الْقَوْمَ؛ وَلَا يَحُوزُ الْغَنِيمَةَ؛ اسْكُتُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْسَاهُ؛ أَوْ نَقُولُ لَهُ فَيُغَيِّرُ! فقالوا: يا رسول الله تعطى الْجَارِيَةَ نِصْفَ مَا تَرَكَ أَبُوهَا؛ وَلَيْسَتْ تَرْكَبُ الفرس؛ ولا تقاتل القوم، ويعطى الصَّبِيَّ الْمِيرَاثَ وَلَيْسَ يُغْنِي شَيْئًا؛ وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ لَا يُعْطُونَ الْمِيرَاثَ إِلَّا لمن قاتل القوم؛ ويعطونه الأكبر فالأكبر، فنزلت الآية. وَقَوْلُهُ: {فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: قَوْلُهُ «فَوْقَ» زَائِدَةٌ، وَتَقْدِيرُهُ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً اثْنَتَيْنِ كما في قوله: {فاضربوا فوق الأعناق} وَهَذَا غَيْرُ مسلَّم لَا هُنَا وَلَا هُنَاكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ زَائِدٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَهَذَا مُمْتَنِعٌ، ثُمَّ قَوْلُهُ: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا قَالُوهُ لَقَالَ فَلَهُمَا ثُلُثَا مَا تَرَكَ: وَإِنَّمَا اسْتُفِيدَ كَوْنُ الثُّلُثَيْنِ لِلْبِنْتَيْنِ مِنْ حُكْمِ الْأُخْتَيْنِ فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ فِيهَا لِلْأُخْتَيْنِ بِالثُّلُثَيْنِ. وَإِذَا وَرِثَ الْأُخْتَانِ الثُّلُثَيْنِ فَلَأَنْ يرث البنتان الثلثين بالطريق الْأَولَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ لِابْنَتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بِالثُّلُثَيْنِ فَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف}، فلو كانت للبنتين النصف لنص عليه أيضاً لما حَكَمَ بِهِ لِلْوَاحِدَةِ عَلَى انْفِرَادِهَا؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْبِنْتَيْنِ فِي حُكْمِ الثَّلَاثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحد منهما السدس} إلى آخره، الأبوان لهما في الإرث أَحْوَالٌ: (أَحَدُهَا) أَنْ يَجْتَمِعَا مَعَ الْأَوْلَادِ فَيُفْرَضُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ إِلَّا بِنْتٌ وَاحِدَةٌ، فُرِضَ

لَهَا النِّصْفُ، وَلِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ؛ وَأَخَذَ الْأَبُ السُّدُسَ الْآخَرَ بِالتَّعْصِيبِ فَيُجْمَعُ لَهُ والحالة هذه بين الْفَرْضُ وَالتَّعْصِيبُ (الْحَالُ الثَّانِي): أَنْ يَنْفَرِدَ الْأَبَوَانِ بالميراث، فيفرض للأم الثلث والحالة هذه أخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض؛ فيكون قد أخذ ضعفي ما حصل للأم وهو الثلثان، فلو كان معهما زوج أو زوجة ويأخذ الزَّوْجُ النِّصْفَ وَالزَّوْجَةُ الرُّبُعَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: ماذا تأخذ الأم بعد ذلك، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا): أَنَّهَا تَأْخُذُ ثُلُثَ الْبَاقِي فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ كَأَنَّهُ جَمِيعُ الْمِيرَاثِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهَا نِصْفَ مَا جَعَلَ لِلْأَبِ، فَتَأْخُذُ ثُلُثَ الْبَاقِي ويأخذ الأب الباقي ثلثيه؛ هذا قول عمر وعثمان؛ وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ العلماء (والثاني): أَنَّهَا تَأْخُذُ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ}، فَإِنَّ الْآيَةَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ أَوْ لَا؛ وهو قول ابن عباس، وهو ضعيف. (وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ): أَنَّهَا تَأْخُذُ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ في (مسألة الزوجة) خاصة، فَإِنَّهَا تَأْخُذُ الرُّبُعَ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَتَأْخُذُ الْأُمُّ الثُّلُثَ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، فَيَبْقَى خَمْسَةٌ لِلْأَبِ، وَأَمَّا فِي (مَسْأَلَةِ الزَّوْجِ) فَتَأْخُذُ ثُلُثَ الْبَاقِي لِئَلَّا تَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنَ الْأَبِ لَوْ أَخَذَتْ ثُلُثَ الْمَالِ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ ستة: للزوج النصف ثلاثة وللأم ثلث الباقي بعد ذلك وَهُوَ سَهْمٌ، وَلِلْأَبِ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ سهمان. ويحكى هذا عن ابن سيرين، وهو مركب من القولين الأولين، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (وَالْحَالُ الثَّالِثُ) مِنْ أَحْوَالِ الْأَبَوَيْنِ وَهُوَ اجْتِمَاعُهُمَا مع الأخوة، سواء كَانُوا مِنَ الْأَبَوَيْنِ أَوْ مِنَ الْأَبِ أَوْ مِنَ الْأُمِّ، فَإِنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ مَعَ الْأَبِ شَيْئًا، وَلَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، فَيُفْرَضُ لَهَا مَعَ وُجُودِهِمُ السدس، فإن لم يكن وراث سِوَاهَا وَسِوَى الْأَبِ أَخَذَ الْأَبُ الْبَاقِي وَحُكْمُ الْأَخَوَيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ كَحُكْمِ الْإِخْوَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وقوله: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} أَضَرُّوا بالأم ولا يرثون، ولا يحجبها الأخر الواحد عن الثُّلُثِ وَيَحْجُبُهَا مَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَكَانَ أَهْلُ العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم عن الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم ونفقتهم عليه دون أمهم، وهذا كلام حسن. وقوله {مِّن بعد وصية يوصي بها أو دَيْنٍ} أجمع العلماء من السلف والخلف على أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ إِمْعَانِ النَّظَرِ يُفْهَمُ مِنْ فَحْوَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وروى أحمد والترمذي عن علي بن أبي طالب قال: إنكم تقرأون {مِن بعد وصية يوصي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، وَإِنَّ أَعْيَانَ بَنِي الأم يتوارثون دون بني العلات (الاعيان: الإخوة من الأب والأم و (العلات): الذين أبوهم واحد وأمهاتهم شتى)، يَرِثُ الرَّجُلُ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ دُونَ أَخِيهِ لأبيه. وقوله: {آياؤكم وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} أي إنما فرضنا للآباء والأبناء، وَسَاوَيْنَا بَيْنَ الْكُلِّ فِي أَصْلِ الْمِيرَاثِ، عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَأْتِيهِ النَّفْعُ الدُّنْيَوِيُّ أَوِ الْأُخْرَوِيُّ أَوْ هُمَا مِنْ أَبِيهِ مَا لَا يأتيه من ابنه، وقد يكون بالعكس، ولذا قَالَ: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} أي أن النَّفْعَ مُتَوَقَّعٌ وَمَرْجُوٌّ مِنْ هَذَا كَمَا هُوَ مُتَوَقَّعٌ وَمَرْجُوٌّ مِنَ الْآخَرِ، فَلِهَذَا فَرَضْنَا لِهَذَا وهذا، وَسَاوَيْنَا بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ فِي أَصْلِ الْمِيرَاثِ، وَاللَّهُ أعلم.

وقوله: {فَرِيضَةً مِّنَ الله} أي هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَفْصِيلِ الْمِيرَاثِ وَإِعْطَاءِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ هُوَ فَرْضٌ مِنَ اللَّهِ حَكَمَ بِهِ وَقَضَاهُ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، والحكيم: الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مَحَالِّهَا وَيُعْطِي كُلًّا مَا يَسْتَحِقُّهُ بِحَسَبِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيمًا}.

- 12 - وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى: وَلَكُمْ أَيُّهَا الرِّجَالُ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِذَا مُتْنَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ الوصية أو الدين، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَبَعْدَهُ الْوَصِيَّةُ ثُمَّ الْمِيرَاثُ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَحُكْمُ أَوْلَادِ الْبَنِينَ وَإِنْ سَفُلُوا حُكْمُ أَوْلَادِ الصُّلْبِ، ثُمَّ قَالَ: {وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ} إلى آخره، وَسَوَاءٌ فِي الرُّبُعِ أَوِ الثُّمُنِ الزَّوْجَةُ وَالزَّوْجَتَانِ الِاثْنَتَانِ، وَالثَّلَاثُ وَالْأَرْبَعُ يَشْتَرِكْنَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} إِلَخْ. الْكَلَامُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وقوله تعالى: {وَإِن كان رجل يوث كَلاَلَةً} الْكَلَالَةُ: مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْإِكْلِيلِ، وَهُوَ الَّذِي يُحِيطُ بِالرَّأْسِ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَنْ يَرِثُهُ مِنْ حَوَاشِيهِ لَا أُصُولِهِ وَلَا فُرُوعِهِ، كَمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْكَلَالَةِ فَقَالَ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ ولا والد. فلما ولي عمر قال: إني لأستحي أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ فِي رَأْيٍ رَآهُ، كذا رواه ابن جرير وغيره، وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف وقد حكى الإجماع عليه غير واحد. وقوله تعالى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} أَيْ مِنْ أُمٍّ كما هو في قراءة (سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) وَكَذَا فَسَّرَهَا أَبُو بكر الصدّيق: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ} وَإِخْوَةُ الْأُمِّ يُخَالِفُونَ بَقِيَّةَ الْوَرَثَةِ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَعَ مَنْ أَدْلَوْا بِهِ وَهِيَ الأم، (والثاني) أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء، (والثالث) لا يرثون إلا إن كَانَ مَيِّتُهُمْ يُورَثُ كَلَالَةً فَلَا يَرِثُونَ مَعَ أَبٍ وَلَا جَدٍّ وَلَا وَلَدٍ وَلَا وَلَدِ ابْنٍ، (الرَّابِعُ) أَنَّهُمْ لَا يُزَادُونَ عَلَى الثُّلُثِ وإن كثر ذكورهم وإناثهم، قضى عمر أَنَّ مِيرَاثَ الْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مثل حظ الأنثى، قال الزهري: ولا أرى عمر قضى بذلك حتىعلم ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذه الآية هي التي قال الله تعالى فيها: {فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثلث}.

واختلف العلماء في المسألة المشتركة وفي (زَوْجٌ وَأَمٌّ أَوْ جَدَّةٌ وَاثْنَانِ مَنْ وَلَدِ الْأُمِّ وَوَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ مَنْ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ)، فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ أَوِ الْجَدَّةِ السُّدُسُ، وَلِوَلَدِ الْأُمِّ الثُّلُثُ وَيُشَارِكُهُمْ فِيهِ وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ بِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ إِخْوَةُ الْأُمِّ، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ المسألة في زمان أمير المؤمنين عمر فَأَعْطَى الزَّوْجَ النِّصْفَ وَالْأُمَّ السُّدُسَ، وَجَعَلَ الثُّلُثَ لِأَوْلَادِ الْأُمِّ فَقَالَ لَهُ أَوْلَادُ الْأَبَوَيْنِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا ألسنا من أم واحدة؟ فشرك بينهم وهو مذهب مالك والشافعي. وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَا يُشَرِّكُ بَيْنَهُمْ، بَلْ يَجْعَلُ الثُّلُثَ لِأَوْلَادِ الْأُمِّ، وَلَا شي لِأَوْلَادِ الْأَبَوَيْنِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِأَنَّهُمْ عَصَبَةٌ، وَقَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ: لَمْ يُخْتلف عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي موسى الأشعري وهو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ اللَّبَّانِ الْفَرَضِيُّ رَحِمَهُ الله في كتاب الإيجاز. وقوله: {إِلاَّ مِن بَعْدِ وصية يوصي بها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ} أي لتكن وَصِيَّتُهُ عَلَى الْعَدْلِ لَا عَلَى الْإِضْرَارِ وَالْجَوْرِ وَالْحَيْفِ، بِأَنْ يَحْرِمَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ أَوْ يَنْقُصَهُ، أو يزيده على ما فرض الله له من الفريضة، فمن سَعَى فِي ذَلِكَ كَانَ كَمَنْ ضَادَّ اللَّهَ في حكمه وشرعه، ولهذا قال ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ» (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) ورواه ابن جرير عن ابن عباس موقوفاً، قال: وَالصَّحِيحُ الْمَوْقُوفُ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا): لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ التُّهْمَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وصية لوارث»، وهذا مذهب مالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وَالْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَذَهَبَ فِي الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِقْرَارُ، وَهُوَ مَذْهَبُ طاوس وعطاء وهو اختيار الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَافِعَ بْنَ خديج أوصى أن لا تَكْشِفَ الفَزَارِيَّةُ عَمَّا أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُهَا قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ لِسُوءِ الظن بالورثة، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الْأَمَانَاتِ إِلَى أهلها} فَلَمْ يَخُصَّ وَارِثًا وَلَا غَيْرَهُ، انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ، فَمَتَى كَانَ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا مُطَابِقًا لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، جَرَى فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ، وَمَتَى كَانَ حِيلَةً وَوَسِيلَةً إِلَى زِيَادَةِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ وَنُقْصَانِ بَعْضِهِمْ فَهُوَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَبِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ الله، والله عَلِيمٌ حليم}.

- 13 - تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - 14 - وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ أَيْ هَذِهِ الْفَرَائِضُ وَالْمَقَادِيرُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِلْوَرَثَةِ، بِحَسَبِ قُرْبِهِمْ مِنَ الْمَيِّتِ وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ وَفَقْدِهِمْ لَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ، هِيَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَلَا تُجَاوِزُوهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أَيْ فِيهَا فَلَمْ يَزِدْ بَعْضُ الْوَرَثَةِ، وَلَمْ يَنْقُصْ بعضهم بِحِيلَةٍ وَوَسِيلَةٍ بَلْ تَرَكَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَفَرِيضَتِهِ وَقِسْمَتِهِ: {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ

تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أَيْ لِكَوْنِهِ غيَّر مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ، وَضَادَّ اللَّهَ فِي حُكْمِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ عَدَمِ الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ وَحَكَمَ بِهِ، وَلِهَذَا يُجَازِيهِ بِالْإِهَانَةِ فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ الْمُقِيمِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْخَيْرِ سَبْعِينَ سَنَةً، فَإِذَا أَوْصَى وحاف فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيُدْخُلُ الْجَنَّةَ»، قَالَ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ: {تِلْكَ حُدُودُ الله - إلى قوله - عَذَابٌ مُّهِينٌ} وقال أَبُو دَاوُدَ فِي بَابِ الْإِضْرَارِ فِي الْوَصِيَّةِ عن شَهْرُ بْنُ حَوشَبٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إن الرجل ليعم أَوِ الْمَرْأَةَ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ثُمَّ يحضرهما الموت فيضران فِي الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ» وَقَالَ: قَرَأَ عليَّ أبو هريرة من ههنا: {من بعد وصية يوصي بها أو دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ - حتى بلغ - ذَلِكَ الفوز العظيم}.

- 15 - وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا - 16 - وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا كَانَ الْحُكْمُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ أَنَّ المرأة إذا ثبت زِنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ، حُبِسَتْ فِي بَيْتٍ فَلَا تُمَكَّنُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهُ إِلَى أَنْ تَمُوتَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} يَعْنِي الزِّنَا {مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا علين أَرْبَعةً مِّنْكُمْ؛ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} فَالسَّبِيلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ هُوَ النَّاسِخُ لذلك، قال ابن عباس رضي الله عنه: كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ النور فنسخها بالجلد أو الرجم؛ وهو أمر متفق عليه، وروى مسلم وأصحاب السنن عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي؛ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا؛ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عام؛ والثب بالثيب جلد مائة والرجم» وقد روى الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي؛ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا؛ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سنة؛ والثيب بالثيب جلد مائة والرجم». وَقَدْ ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى الْقَوْلِ بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الثَّيِّبَ الزَّانِي إِنَّمَا يُرْجَمُ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ جَلْدٍ، قَالُوا: لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ وَالْيَهُودِيَّيْنِ، وَلَمْ يَجْلِدْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَلْدَ لَيْسَ بِحَتْمٍ، بَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ على قولهم، والله أعلم. وقوله تعالى: {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} أي واللّان يفعلان الفاحشة فآذوهما، قال ابن عباس: أَيْ بِالشَّتْمِ وَالتَّعْيِيرِ وَالضَّرْبِ بِالنِّعَالِ، وَكَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ حَتَّى نَسَخَهُ اللَّهُ بِالْجَلْدِ أَوِ الرَّجْمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي الرَّجُلَيْنِ إِذَا فَعَلَا اللواط وقد روى أهل السنن عن ابن عباس مرفوعاً قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من رأيتموه يعمل علم قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ». وَقَوْلُهُ {فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا} أي أقلعا نزعا عَمَّا كَانَا عَلَيْهِ

وَصَلُحَتْ أَعْمَالُهُمَا وَحَسُنَتْ: {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ} أَيْ لَا تُعَنِّفُوهُمَا بِكَلَامٍ قَبِيحٍ بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ ولا يثرب عليها» أي لا يعريرها بِمَا صَنَعَتْ بَعْدَ الْحَدِّ الَّذِي هُوَ كَفَّارَةٌ لما صنعت.

- 17 - إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيمًا - 18 - وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ومعناه: إنما يقبل اللَّهُ التَّوْبَةَ مِمَّنْ عَمِلَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يتوب قبل الغرغرة، قال مجاهد: كُلَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ خَطَأً أَوْ عَمْدًا فَهُوَ جَاهِلٌ حَتَّى يَنْزِعَ عَنِ الذَّنْبِ، وَقَالَ قتادة، كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} قَالَ: مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَلَكِ اموت. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا كَانَ دُونَ الْمَوْتِ فَهُوَ قَرِيبٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: مَا دَامَ فِي صحته، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ}، ما لم يغرغر، (ذكر الأحاديث في ذلك): قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ}، مَا لم يغرغر، (ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ) قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يغرغر» (حديث آخر): قال ابن مردويه عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يَتُوبُ قَبْلَ الْمَوْتِ بِشَهْرٍ إِلَّا قبل الله منه أدنى مِن ذَلِكَ؛ وَقَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمٍ وَسَاعَةٍ يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ التَّوْبَةَ وَالْإِخْلَاصَ إِلَيْهِ إِلَّا قَبِلَ منه». (وحديث أخر): قال أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عمر، يقول: إن تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ تِيبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ تِيبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِجُمُعَةٍ تِيبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمٍ تِيبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَاعَةٍ تِيبَ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} فقال إنما أحدثك ما سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (حَدِيثٌ آخَرُ): قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ توبة عبده ما لم يغرغر».

- 19 - يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُواْ النِّسَاءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً - 20 - وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً - 21 - وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظًا - 22 - وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً

روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاءَ كَرْهاً} قال: كانوا إذا ات الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقُّ بِامْرَأَتِهِ إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنَّ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} هكذا ذكره البخاري وأبو داود والنسائي وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَجَاءَ رَجُلٌ فَأَلْقَى عَلَيْهَا ثَوْبًا كَانَ أَحَقَّ بِهَا، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاءَ كَرْهاً} وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ في الآية: كَانَ أَهْلُ يَثْرِبَ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَرِثَ امْرَأَتَهُ مَنْ يَرِثُ مَالَهُ وَكَانَ يَعْضُلُهَا حَتَّى يَرِثَهَا، أَوْ يُزَوِّجَهَا مَنْ أَرَادَ، وَكَانَ أَهْلُ تِهَامَةَ يُسِيءُ الرَّجُلُ صُحْبَةَ الْمَرْأَةِ حَتَّى يُطَلِّقَهَا، وَيَشْتَرِطَ عَلَيْهَا أَن لاَّ تَنْكِحَ إِلَّا مَنْ أَرَادَ حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِبَعْضِ مَا أَعْطَاهَا فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذلك. وقال أبو بكر بن مردويه عن محمد ابن أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ أَرَادَ ابْنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ وَكَانَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لاَ يحل لكم أن رثوا النسآء كَرْهاً} وقال ابن جريرج: نَزَلَتْ فِي (كُبَيْشَةَ بِنْتِ مَعْنِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ الْأَوْسِ) تُوُفِّيَ عَنْهَا أَبُو قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ فَجَنَحَ عَلَيْهَا ابْنُهُ فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَا أَنَا وَرِثْتُ زَوْجِي وَلَا أَنَا تركت فأنكح، فأنزل الله هذه الآية. فَالْآيَةُ تَعُمُّ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَكُلَّ مَا كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} أَيْ لَا تُضارُّوهُنَّ فِي الْعِشْرَةِ لِتَتْرُكَ لَكَ مَا أَصْدَقْتَهَا أَوْ بَعْضَهُ أَوْ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهَا عَلَيْكَ، أَوْ شَيْئًا مِنْ ذلك على وجه القهر لها والإضرار، وقال ابن عباس في قَوْلُهُ: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ}، يَقُولُ: وَلَا تَقْهَرُوهُنَّ {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} يَعْنِي الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ المرأة وَهُوَ كَارِهٌ لِصُحْبَتِهَا وَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ فَيَضُرُّهَا لتفتدي به، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ المبارك عن ابن السلاماني قَالَ: نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ إِحْدَاهُمَا فِي أَمْرِ الجاهلية، والأخرى في أمر الإسلام يعني قوله تَعَالَى: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاءَ كَرْهاً} فِي الْجَاهِلِيَّةِ، {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} فِي الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُهُ: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} قَالَ ابن مسعود، وابن عباس: يَعْنِي بِذَلِكَ الزِّنَا، يَعْنِي إِذَا زَنَتْ فَلَكَ أَنْ تَسْتَرْجِعَ مِنْهَا الصَّدَاقَ الَّذِي أَعْطَيْتَهَا، وتُضَاجِرَهَا حَتَّى تَتْرُكَهُ لَكَ وَتُخَالِعَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أن يخافاً أن لا يُقِيمَا حُدُودَ الله} الآية، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ النُّشُوزُ وَالْعِصْيَانُ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ يَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّهُ الزِّنَا وَالْعِصْيَانَ، وَالنُّشُوزَ وَبَذَاءَ اللِّسَانِ، وغير ذلك، يعني أن كُلَّهُ يُبِيحُ مُضَاجَرَتَهَا حَتَّى تُبْرِئَهُ مِنْ حَقِّهَا أَوْ بَعْضِهِ وَيُفَارِقَهَا، وَهَذَا جَيِّدٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السِّيَاقُ كُلُّهُ كَانَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَكِنْ نُهِيَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ فعله في الإسلام: وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: كَانَ الْعَضْلُ فِي قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ: يَنْكِحُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ الشَّرِيفَةَ، فَلَعَلَّهَا لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَيَأْتِي بِالشُّهُودِ فَيَكْتُبُ ذَلِكَ عَلَيْهَا ويشهد، فإذا جاء الخاطب، فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلاعضلها، قَالَ فَهَذَا قَوْلُهُ: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} الْآيَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ ما آيتمون} هو كالعضل في سورة البقرة، وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أَيْ طَيِّبُوا أَقْوَالَكُمْ لَهُنَّ وَحَسِّنُوا أَفْعَالَكُمْ وَهَيْئَاتِكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتِكُمْ، كَمَا تُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهَا فَافْعَلْ أَنْتَ بِهَا مِثْلَهُ،

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بالمعروف}، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ؛ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي». وَكَانَ من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أن جَمِيلُ الْعِشْرَةِ، دَائِمُ الْبِشْرِ؛ يُدَاعِبُ أَهْلَهُ؛ وَيَتَلَطَّفُ بِهِمْ ويُوسِعُهُمْ نَفَقَتَهُ، وَيُضَاحِكُ نِسَاءَهُ حَتَّى إِنَّهُ كان يسابق عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها يَتَوَدَّدُ إِلَيْهَا بِذَلِكَ، قَالَتْ: سَابَقَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَقْتُهُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ أَحْمِلَ اللَّحْمَ، ثُمَّ سَابَقْتُهُ بَعْدَ مَا حملت اللحم فسبقين، فقال: "هذه بتلك ويجمع نساءه كُلَّ لَيْلَةٍ فِي بَيْتِ الَّتِي يَبِيتُ عِنْدَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل مَعَهُنَّ الْعَشَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، ثُمَّ تَنْصَرِفُ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى مَنْزِلِهَا، وَكَانَ يَنَامُ مَعَ الْمَرْأَةِ مِنْ نِسَائِهِ فِي شِعَارٍ وَاحِدٍ، يَضَعُ عن كتفيه الرداء وينام بالإزر، وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ يَسْمُرُ مَعَ أَهْلِهِ قَلِيلًا قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، يُؤَانِسُهُمْ بِذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وَأَحْكَامُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ موضعه كتب الْأَحْكَامِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}، أَيْ فَعَسَى أَن يَكُونَ صَبْرُكُمْ في إمساكهن مع الكراهة، فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كما قال ابن عباس: هُوَ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا فَيُرْزَقَ مِنْهَا وَلَدًا، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَلَدِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ سَخِطَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ». وَقَوْلُهُ تعالى: {وَإِن أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} أَيْ إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَةً وَيَسْتَبْدِلَ مَكَانَهَا غَيْرَهَا، فَلَا يأخذ مِمَّا كَانَ أَصْدَقَ الْأُولَى شَيْئًا وَلَوْ كَانَ قنطاراً من المال، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْإِصْدَاقِ بِالْمَالِ الْجَزِيلِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نَهَى عَنْ كَثْرَةِ الْإِصْدَاقِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذلك كما قال الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تغالوا فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوًى عِنْدَ اللَّهِ كَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَصْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلَا أُصْدِقَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً. (طَرِيقٌ أُخرى عَنْ عُمَرَ): قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يعلى عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: رَكِبَ عُمَرُ بن الخطاب مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: أيها الناس ما إكثاركم في صداق النِّسَاءِ!! وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه والصدقات فِيمَا بَيْنَهُمْ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَمَا دُونَ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ الْإِكْثَارُ فِي ذَلِكَ تَقْوًى عِنْدَ الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فلأعرفن مَا زَادَ رَجُلٌ فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ. قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ. فَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَهَيْتَ الناس عن يزيدوا في مهر النساء عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَتْ أَمَا سَمِعْتَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: وَأَيُّ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} الآية. قال: اللَّهُمَّ غَفْرًا، كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ. ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَزِيدُوا النِّسَاءَ فِي صدقاتهن عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ مَالِهِ مَا أَحَبَّ. قَالَ أَبُو يَعْلَى: وظنه قَالَ: فَمَنْ طَابَتْ نَفْسُهُ فَلْيَفْعَلْ. إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قوي. وفي رواية: امرأة أصابت ورجل أخطأ، ولهذا قال مُنْكِرًا: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} أَيْ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَ الصَّدَاقَ مِنَ الْمَرْأَةِ وَقَدْ أَفْضَيْتَ إِلَيْهَا وَأَفْضَتْ إِلَيْكَ قَالَ ابْنُ عباس: يَعْنِي بِذَلِكَ الْجِمَاعَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنْ تَلَاعُنِهِمَا: «اللَّهُ

يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ» قالها ثَلَاثًا فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي - يَعْنِي مَا أُصْدِقُهَا - قَالَ: «لَا مَالَ لَكَ، إن كنت صدقت فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كذبت عليها فهو أبعد لك منها». وقوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} المراد بذلك العقد، وقال سفيان الثوري فِي قَوْلِهِ: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} قَالَ: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقال الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي الْآيَةِ: هُوَ قَوْلُهُ: «أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ»، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ فِي خُطْبَةِ حجة الوداع: أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فيها: «واستوصوا بالنساء خيراً فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ». وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء} الآية، يحرم الله تَعَالَى زَوْجَاتِ الْآبَاءِ تَكْرِمَةً لَهُمْ، وَإِعْظَامًا وَاحْتِرَامًا أَنْ تُوطَأَ مِنْ بَعْدِهِ، حَتَّى إِنَّهَا لَتَحْرُمُ عَلَى الِابْنِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَمْرٌ مجمع عليه. قال ابن أبي حاتم عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسٍ - يَعْنِي ابْنَ الْأَسْلَتِ - وَكَانَ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ، فَخَطَبَ ابْنُهُ قَيْسٌ امْرَأَتَهُ فَقَالَتْ: إِنَّمَا أعدُّك وَلَدًا وأنت من صالحي قومك، ولكني أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبَا قَيْسٍ تُوُفِّيَ فَقَالَ: «خَيْرًا»، ثم قالت: إن ابنته قَيْسًا خَطَبَنِي وَهُوَ مِنْ صَالِحِي قَوْمِهِ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أعدُّه وَلَدًا فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَهَا: «ارجعي إلى بيتك» قال فنزلت: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ} الآية. وَقَدْ زَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ نِكَاحَ نِسَاءِ الْآبَاءِ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} كَمَا قَالَ: {وَإِن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} قَالَ: وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ كِنَانَةُ بْنُ خُزَيْمَةَ، تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ فَأَوْلَدَهَا ابْنَهُ النَّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ، قَالَ: وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وُلِدْتَ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ» قَالَ: فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ سَائِغًا لَهُمْ ذلك، فأراد أنهم كانوا يعدونه نكاحاً؛ وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا امْرَأَةَ الْأَبِ وَالْجَمْعَ بين الأختين، فأنزل الله تَعَالَى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ}، {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}، وَهَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ، وَلَكِنْ فِيمَا نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ مِنْ قصة كنانة نظر والله أعلم، وعلى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ حَرَامٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، مبشع غاية التشبع، ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً}، وقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، وَقَالَ: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سبيلاً} فزاد ههنا: {وَمَقْتاً} أَيْ بُغْضًا أَيْ هُوَ أَمْرٌ كَبِيرٌ فِي نَفْسِهِ، وَيُؤَدِّي إِلَى مَقْتِ الِابْنِ أَبَاهُ بَعْدَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَتِهِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ يُبْغِضُ مَنْ كَانَ زَوْجَهَا قَبْلَهُ، وَلِهَذَا حُرِّمَتْ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْأُمَّةِ لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَاتٌ لِكَوْنِهِنَّ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وهو كالأب، بَلْ حَقُّهُ أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ الْآبَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ حُبُّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حُبِّ النُّفُوسِ صَلَوَاتُ الله وسلامه عليه. وقال عطاء في قوله تعالى: {وَمَقْتاً} أَيْ يَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ، {وَسَآءَ سَبِيلاً} أَيْ وَبِئْسَ طَرِيقًا لِمَنْ سَلَكَهُ مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَعَاطَاهُ بَعْدَ هَذَا فَقَدِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ، فَيُقْتَلُ وَيَصِيرُ مَالُهُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ، كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ خَالِهِ أَبِي بردة: أَنَّهُ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ، وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: مَرَّ بِي عمي (الحارث بن عمير) وَمَعَهُ لِوَاءٌ قَدْ عَقَدَهُ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ: أَيْ عَمِّ أين بعثك النبي؟ قَالَ: بَعَثَنِي إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ فأمرني أن أضرب عنقه.

- 23 - حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا - 24 - وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ هِيَ آيَةُ تَحْرِيمِ الْمَحَارِمِ مِنَ النَّسَبِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الرَّضَاعِ وَالْمَحَارِمِ بِالصِّهْرِ، كَمَا قال ابن عباس: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ سبعُ نَسَبًا وَسَبْعٌ صِهْرًا، وَقَرَأَ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} الآية. وَقَدِ اسْتَدَلَّ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ مَاءِ الزَّانِي عَلَيْهِ، بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَنَاتُكُمْ} فَإِنَّهَا بِنْتٌ فَتَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ شَيْءٌ فِي إِبَاحَتِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتًا شَرْعِيَّةً، فَكَمَا لَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حظ الأنثيين} فَإِنَّهَا لَا تَرِثُ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَذَلِكَ لَا تَدْخُلُ في هذه الآية والله أعلم. وقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} أَيْ كما يحرم عَلَيْكَ أُمُّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ، كَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْكَ أمك التي أرضعتك، ولهذا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يحرم من النسب». ثُمَّ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي عَدَدِ الرَّضَعَاتِ الْمُحَرِّمَةِ، فَذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّهُ يُحَرِّمُ مُجَرَّدُ الرَّضَاعِ لعموم هذه الآية، وهذا قول مالك، ويروى عن ابن عمر، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُحَرِّمُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثِ رضعات لما ثبت في صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «لا تحرم المصة وَلَا الْمَصَّتَانِ»، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «لَا تُحَرِّمُ الإملاجة ولا الإملاجتان». وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بن حنبل، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُحَرِّمُ أَقَلُّ مِنْ خَمْسِ رضعات لما ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (كَانَ فيما أنزل مِنَ الْقُرْآنِ «عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ» ثُمَّ نسخن بخمس معلومات فتوفي النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ) وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَأْمُرُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ عليها أن يرضع خمس رضعات، ولهذا قال الشافعي وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الرَّضَاعَةُ فِي سِنِّ الصِّغَرِ دُونَ الْحَوْلَيْنِ على قول الجمهور، وقد قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ البقرة عند قوله: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حولين كاملين لم أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة}. وَقَوْلُهُ: {وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} أَمَّا (أمُّ الْمَرْأَةِ) فَإِنَّهَا تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ على بنتها،

سواء دخل بها أو لم يدخل بها، وَأَمَّا (الرَّبِيبَةُ) وَهِيَ بِنْتُ الْمَرْأَةِ فَلَا تَحْرُمُ حتى يدخل بأمها، فَإِنْ طَلَّقَ الْأُمَّ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا جَازَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بهنَّ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بهنَّ فَلاَ جُنَاحَ عليكم} فِي تَزْوِيجِهِنَّ، فَهَذَا خَاصٌّ بِالرَّبَائِبِ وَحْدَهُنَّ، وَقَدْ فهم بعضهم عود الضمير إلى الأمهات والربائب فَقَالَ: لَا تَحْرُمُ وَاحِدَةٌ مِنَ الْأُمِّ وَلَا الْبِنْتِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى الْأُخْرَى حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا لِقَوْلِهِ: {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وجمهور العلماء على أن الربيبة لا تحرم بالعقد على الأم بخلاف الأم فإنها تحرم بمجرد العقد، قال ابن أبي حاتم: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا طلق الرجل المرأة قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَوْ مَاتَتْ لَمْ تحل لها أمها، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَجُمْهُورُ الفقهاء قديماً وحديثاً، ولله الحمد والمنة. وأما قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ} فالجمهور عَلَى أَنَّ الرَّبِيبَةَ حَرَامٌ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ أَوْ لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ، قَالُوا: وَهَذَا الْخِطَابُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تحصنا} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ (عَزَّةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ) قَالَ: «أَوْ تُحِبِّينَ ذَلِكَ»؟ قَالَتْ: نَعَمْ لَسْتُ بك بِمُخَلِّيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي، قَالَ: «فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِي» قَالَتْ: فَإِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: «بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ» قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: «إِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّهَا لَبِنْتُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضُنَّ عليَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ». وَفِي رواية للبخاري: «إن لَوْ لَمْ أَتَزَوَّجْ أُمَّ سَلَمَةَ مَا حَلَّتْ لي» فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة وحكم بالتحريم بذلك، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ وَجُمْهُورِ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ، وَقَدْ قِيلَ بِأَنَّهُ لَا تَحْرُمُ الرَّبِيبَةُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِ الرجل فإذا لم تكن كذلك فلا تحرم وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ داود الظاهري وأصحابه، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَحَكَى لِي شَيْخُنَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ أَنَّهُ عَرَضَ هَذَا عَلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ تقي الدين ابن تيمية رحمه الّه فاستشكله وتوقف في ذلك والله أعلم؛ وَأَمَّا الرَّبِيبَةُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ فَقَدْ قَالَ الإمام مالك بن أنس: إن عمر ابن الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ تُوطَأُ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى فَقَالَ عُمَرُ: ما أحب أن أجيزهما جَمِيعًا: يُرِيدُ أَنْ أَطَأَهُمَا جَمِيعًا بِمِلْكِ يَمِينِي، وعن طارق بن عبد الرحمن بن قَيْسٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَيَقَعُ الرَّجُلُ على المرأة وابنتها مملوكين له؟ فقال آية وحرمتهما آية، ولم أكن لأفعله، وقال الشيخ ابن عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَطَأَ امرأة وبنتها مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ لِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ، قَالَ: {وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ}، وملك اليمين عندهم تَبَعٌ لِلنِّكَاحِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى وَلَا مَنْ تَبِعَهُمْ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ: بِنْتُ الرَّبِيبَةِ وَبِنْتُ ابْنَتِهَا لَا تصلح إن كانت أسفل ببطون كثيرة، ومعنى قوله: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} أَيْ نَكَحْتُمُوهُنَّ قَالَهُ ابْنُ عباس وغير واحد، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أن خلوة الرجل بامرأة لا تحرم ابْنَتَهَا عَلَيْهِ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ مَسِيسِهَا وَمُبَاشَرَتِهَا، وقبل النَّظَرِ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ هُوَ الْوُصُولُ إِلَيْهَا بِالْجِمَاعِ. وقوله تعالى: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} أَيْ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ زَوْجَاتُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ وَلَّدْتُمُوهُمْ

مِنْ أَصْلَابِكُمْ، يُحْتَرَزُ بِذَلِكَ عَنِ الْأَدْعِيَاءِ الَّذِينَ كانوا يتبنونهم في الجاهلية. قال ابن جريرج: سَأَلْتُ عَطَاءً عَنْ قَوْلِهِ: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} قَالَ: كُنَّا نُحَدِّثُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَكَحَ امْرَأَةَ زَيْدٍ قَالَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} ونزلت: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أبناءكم}، وَنَزَلَتْ: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِجَالِكُمْ}. وقوله تعالى: {وَإِن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية، أي وحرم عليكم الجمع بن الْأُخْتَيْنِ مَعًا فِي التَّزْوِيجِ وَكَذَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْكُمْ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ فقد عفونا عنه وَغَفَرْنَاهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَثْنَوِيَّةَ فِيمَا يستقبل لأنه استثنى مما سلف، كما قال: {وَلاَ يذوقون فيه الموت إِلاَّ الموتة الأولى} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ أَبَدًا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَالْأَئِمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ، وَمَنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ خُيِّرَ فَيُمْسِكُ إِحْدَاهُمَا وَيُطَلِّقُ الْأُخْرَى لَا محالة، قال الإمام أحمد: عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اسلمت وعند امْرَأَتَانِ أُخْتَانِ فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن أطلق إحداهما، وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «اختر أيتهما شئت» (أخرجه أحمد والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن) وعن أَبِي خِرَاشٍ الرُّعَيْنِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي أُخْتَانِ تَزَوَّجْتُهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: «إِذَا رَجَعْتَ فَطَلِّقْ إحداهما». وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ فحرام أيضاً لعموم الآية، وروى ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَكَرِهَهُ، فَقَالَ لَهُ - يَعْنِي السائل - يقول الله تعالى: {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ}، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مسعود رضي الله تعالى عنه: وَبَعِيرُكَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينَكَ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بعض السلف قد توقف في ذلك، وقال الإمام مالك: سأل رجل (عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانٍ) عَنِ الْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ اليمين هل يجع بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، وما كنت لأمنع ذَلِكَ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ لِيَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ ثُمَّ وَجَدْتُ أَحَدًا فَعَلَ ذَلِكَ لجعلته نكالاً، وقال مَالِكٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَرَاهُ عَلِيَّ بْنَ أبي طالب. وعن إِيَاسُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ أبي طالب فَقُلْتُ: إِنَّ لِي أُخْتَيْنِ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينِي اتَّخَذْتُ إِحْدَاهُمَا سُرِّيَّةً فَوَلَدَتْ لِي أَوْلَادًا ثُمَّ رَغِبْتُ فِي الْأُخْرَى فَمَا أَصْنَعُ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَعْتِقُ الَّتِي كُنْتَ تَطَأُ ثُمَّ تَطَأُ الْأُخْرَى، قُلْتُ: فَإِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ بَلْ تزوّجُها ثُمَّ تَطَأُ الْأُخْرَى، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَرَأَيْتَ إِنْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا أَلَيْسَ تَرْجِعُ إِلَيْكَ؟ لَأَنْ تَعْتِقَهَا أَسْلَمُ لَكَ، ثُمَّ أَخَذَ عَلِيٌّ بِيَدِي فَقَالَ لِي: إِنَّهُ يحرم عليك مما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ مِنَ الْحَرَائِرِ إِلَّا الْعَدَدَ أَوْ قَالَ إِلَّا الْأَرْبَعَ وَيَحْرُمُ عَلَيْكَ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ من النسب (رواه ابن عبد البر في الاستذكار) ثم قال أبو عمر: هذا الحديث لو رحل رجل ولم يصب من أقصى المغرب والمشرق إلى مكة غيره لما خابت رحلته. وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَحْرُمُ مِنَ الْإِمَاءِ ما يحرم من الحرائر إلا العدد، وَجَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْوَطْءِ كَمَا لَا يَحِلُّ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ، وَقَدْ أجمع المسلمون على أن معنى قوله: {حرمت عليكم أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} إلى آخر

الْآيَةِ أَنَّ النِّكَاحَ وَمِلْكَ الْيَمِينِ فِي هَؤُلَاءِ كلهن سواء، وكذلك يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَظَرًا وَقِيَاسًا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَأُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَالرَّبَائِبِ، وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ وَهُمُ الْحُجَّةُ الْمَحْجُوجُ بِهَا مَنْ خَالَفَهَا وشذ عنها. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي وحرم عليكم من الْأَجْنَبِيَّاتُ الْمُحْصَنَاتُ وَهُنَّ الْمُزَوَّجَاتُ {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} يَعْنِي إِلَّا مَا مَلَكْتُمُوهُنَّ بِالسَّبْيِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَكُمْ وَطْؤُهُنَّ إِذَا اسْتَبْرَأْتُمُوهُنَّ فَإِنَّ الْآيَةَ نزلت في ذلك، وقال الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبياً مِنْ سَبْيِ أَوْطَاسَ، وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ فَكَرِهْنَا أَنْ نَقَعَ عَلَيْهِنَّ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَسَأَلْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاّ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فاستحللنا فروجهن. وفي رواية مسلم أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أصابوا سبياً يَوْمَ أَوَطَاسَ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، فكان أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفُّوا وَتَأَثَّمُوا مِنْ غَشَيَانِهِنَّ قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النساء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ يَكُونُ طَلَاقًا لَهَا مِنْ زَوْجِهَا أخذاً بعموم هذه الآية، وقال ابن جرير: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ: بَيْعُهَا طَلَاقُهَا وَيَتْلُو هذه الآية: {والمحصنات من النساء إلا مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وعن ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا بِيعَتِ الْأَمَةُ وَلَهَا زوج فسيدها أحق ببضعها وعن ابن المسيب قوله: {المحصنات مِنَ النساء}، قال: هذه ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ حَرَّمَ اللَّهُ نِكَاحَهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يمينك فبيعها طلاقها. فهذا قول هؤلاء من السلف وَقَدْ خَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَرَأَوْا أَنَّ بيع الأمة ليس طلاقاً لها، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ نَائِبٌ عَنِ الْبَائِعِ، وَالْبَائِعَ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ عَنْ مِلْكِهِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ وَبَاعَهَا مَسْلُوبَةً عَنْهَا، وَاعْتَمَدُوا فِي ذَلِكَ عَلَى حَدِيثِ بَرِيرَةَ الْمُخَرَّجِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّ عَائِشَةَ أمّ المؤمنين اشترتها وأعتقتها وَلَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهَا مِنْ زَوْجِهَا مُغِيثٍ، بَلْ خيّرها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْبَقَاءِ، فَاخْتَارَتِ الْفَسْخَ وَقِصَّتُهَا مَشْهُورَةٌ فَلَوْ كَانَ بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ مَآ خَيَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا خَيَّرَهَا دَلَّ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْمَسْبِيَّاتُ فَقَطْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ قِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} يَعْنِي الْعَفَائِفَ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَمْلِكُوا عِصْمَتَهُنَّ بِنِكَاحٍ وَشُهُودٍ وَمُهُورٍ وَوَلِيٍّ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَطَاوُسٍ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ عُمَرُ وَعُبَيْدَةُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} مَا عَدَا الْأَرْبَعِ حَرَامٌ عليكم إلا مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. وقوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أَيْ هَذَا التَّحْرِيمُ كِتَابٌ كتبه الله عليكم، يعني الأربع فَالْزَمُوا كِتَابَهُ، وَلَا تَخْرُجُوا عَنْ حُدُودِهِ، وَالْزَمُوا شرعه وما فرضه. وقال عطاء وَالسُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} يَعْنِي الْأَرْبَعَ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} يَعْنِي ما حرم عليكم، وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} أَيْ مَا عدا من ذكرن مِنَ الْمَحَارِمِ هُنَّ لَكُمْ حَلَالٌ، قَالَهُ عَطَاءٌ وغيره، وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}: يعني مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وهذه الآية الَّتِي احْتَجَّ بِهَا مَنِ احْتَجَّ عَلَى تَحْلِيلِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آية وحرمتهما آية، وقوله تعالى: {وَإِن تبتغوا بأمواركم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أَيْ تَحَصَّلُوا بِأَمْوَالِكُمْ مِنَ الزَّوْجَاتِ إِلَى أَرْبَعٍ، أَوِ السَّرَارِي مَا شِئْتُمْ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ، وَلِهَذَا قَالَ: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}. (يتبع ... )

(تابع ... 1): 23 - حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وبنات الأخ ... ... وقوله تعالى: {فَمَا استمعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أجورهم فَرِيضَةً} أي كما تستمعون بهن فآتوهن مهورهن

في مقابلة ذلك، كما قَالَ تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} كما قَالَ تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلى بعض} وكقوله تعالى: {وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وَكَقَوْلِهِ: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتيتموهن شيئا} وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ مَشْرُوعًا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ أُبِيحَ، ثُمَّ نُسِخَ ثُمَّ أُبِيحَ ثُمَّ نُسِخَ مرتين. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا أُبِيحَ مَرَّةً ثُمَّ نُسِخَ ولم يبح بعد ذلك، وقد قيل بإباحتها لضرورة وهي رواية عن الإمام أحمد، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَالْعُمْدَةُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَلِهَذَا الْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ مُقَرَّرَةٌ هِيَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فقال: «يا أيها النَّاسُ إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهُ وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا»، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وله ألفاظ موضعها كتاب الأحكام. وقوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بعد الفريضة} أَيْ إِذَا فَرَضْتَ لَهَا صَدَاقًا فَأَبْرَأَتْكَ مِنْهُ أَوْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ وَلَا عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَنَّ رِجَالًا كَانُوا يَفْرِضُونَ الْمَهْرَ، ثُمَّ عَسَى أَنْ يُدْرِكَ أَحَدُهُمُ الْعُسْرَةُ فَقَالَ: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، يَعْنِي إِنْ وَضَعَتْ لَكَ مِنْهُ شيئاً فهو لك سائغ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس: {ولا جناج عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} والتراضي أن يوفيها صداقها، ثم يخيرها يعني في المقام أو الفراق، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} مُنَاسِبُ ذِكْرِ هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات.

- 25 - وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مِنكُمْ طَوْلاً} أَيْ سَعَةً وَقُدْرَةً {أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ المؤمنات} أي الحرائر العفائف المؤمنات، {فمما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} أَيْ فَتَزَوَّجُوا من الإمام الْمُؤْمِنَاتِ اللَّاتِي يَمْلِكُهُنَّ الْمُؤْمِنُونَ، وَلِهَذَا قَالَ: {مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات} قال ابن عباس: فلينكح من إماء المؤمنين، ثُمَّ اعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ} أَيْ هُوَ الْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَسَرَائِرِهَا، وَإِنَّمَا لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ الظَّاهِرُ مِنَ الْأُمُورِ، ثُمَّ قَالَ: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ هُوَ وَلِيُّ أَمَتِهِ لَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَكَذَلِكَ هُوَ وَلِيُّ عَبْدِهِ

ليس له أن يتزوج بغير إذنه، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذَنْ مَوَالِيهِ فَهُوَ عَاهِرٌ» أَيْ زَانٍ، فَإِنْ كَانَ مَالِكُ الْأَمَةِ امْرَأَةٌ زَوَّجَهَا مَنْ يُزَوِّجُ الْمَرْأَةَ بِإِذْنِهَا لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلَا الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا». وَقَوْلُهُ تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أَيْ وَادْفَعُوا مُهُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْكُمْ، وَلَا تَبْخَسُوا مِنْهُ شَيْئًا اسْتِهَانَةً بِهِنَّ لِكَوْنِهِنَّ إِمَاءً مَمْلُوكَاتٍ، وقوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ} أَيْ عَفَائِفَ عَنِ الزِّنَا لَا يَتَعَاطَيْنَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} وَهُنَّ الزَّوَانِي اللَّاتِي لا يمعنعن من أرادهن بالفاحشة، وقوله تعالى {وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُسَافِحَاتُ هن الزواني المعلنات يَعْنِي الزَّوَانِي اللَّاتِي لَا يَمْنَعْنَ أَحَدًا أَرَادَهُنَّ بالفاحشة ومتخذات أخدان يعني أَخِلَّاءَ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي الصَّدِيقَ، وَقَالَ الضحاك: ذات الخليل الواحد الْمُقِرَّةُ بِهِ، نَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ يَعْنِي تزويجها ما دامت كذلك. وقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ فاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي {أُحْصِنَّ} فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ مَبْنِيٌّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فاعله، وقرىء بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالصَّادِ فِعْلٌ لَازِمٌ، ثُمَّ قِيلَ: مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أحدها) أن المراد بالإحصان ههنا الإسلام روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وقيل: المراد به ههنا التزويج وهو قَوْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وغيرهم، وقد روى عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: إِحْصَانُ الاّمَة أَنْ يَنْكِحَهَا الْحُرُّ، وَإِحْصَانُ الْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ الْحُرَّةَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تفسيره، وَقِيلَ: مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَبَايِنٌ، فَمَنْ قَرَأَ {أحصنَّ} بضم الهمزة فمراده التزيج، ومن قرأ بفتحها فمراده الإسلام، اختاره أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَرَّرَهُ وَنَصَرَهُ؛ وَالْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَانِ ههنا التَّزْوِيجُ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَيْثُ يقول سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فمما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات}، والآية الكريمة سياقها فِي الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} أَيْ تَزَوَّجْنَ كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عباس وغيره. وَعَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ إِشْكَالٌ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَمَةَ إِذَا زَنَتْ فَعَلَيْهَا خَمْسُونَ جِلْدَةً سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً، مُزَوَّجَةً أَوْ بِكْرًا، مَعَ أَنَّ مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد غير المحصنة من الإماء، وقد اختلف أجوبتهم عن ذلك، فأما الجمهور فقالوا: الْمَنْطُوقَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ عَامَّةٌ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْإِمَاءِ فَقَدَّمْنَاهَا عَلَى مَفْهُومِ الْآيَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أقيموا الحد على إمائكم من أحصن منهن وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ، فَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَنَتْ فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا، فَإِذَا هِيَ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ فَخَشِيتُ إِنْ جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَحْسَنْتَ اتْرُكْهَا حتى تتماثل» وفي رواية: «فإذا تعافت من نفاسها فاجلدها خَمْسِينَ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّانِيَةَ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ من شعر». (الْجَوَابُ الثَّانِي): جَوَابُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَمَةَ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا تُضْرَبُ تَأْدِيبًا

وهو المحكي عن ابن عباس رضي الله عنه، وإليه ذهب طاووس وسعيد بن جبير وغيرهما. وَعُمْدَتُهُمْ مَفْهُومُ الْآيَةِ، وَهُوَ مِنْ مَفَاهِيمِ الشَّرْطِ، وهو حجة عند أكثرهم فقدم عَلَى الْعُمُومِ عِنْدَهُمْ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ؟ قَالَ: "إِنْ زَنَتْ فحدُّوها، ثُمَّ إِنَّ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا. ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ. قال ابن شهاب: لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة. أخرجاه في الصحيحين. وعن مُسْلِمٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: الضَّفِيرُ: الْحَبْلُ"، قَالُوا: فلم يؤقت فيه عدد كما أقت في المحصنة، وكما وقت في القرآن بنصف ما على المحصنات، فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ بِذَلِكَ وَاللَّهُ أعلم. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمُسْلِمُونَ فِي أَنْ لَا رَجْمَ عَلَى مَمْلُوكٍ فِي الزِّنَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْمُحْصَنَاتِ لِلْعَهْدِ، وَهُنَّ الْمُحْصَنَاتُ الْمَذْكُورَاتُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات} وَالْمُرَادُ بِهِنَّ الْحَرَائِرُ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ للتزويج بحرة. وَقَوْلِهِ: {نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يمكن تبعيضه وهو الجلد لا الرجم، والله أعلم. وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} أَيْ إِنَّمَا يُبَاحُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا، وَشَقَّ عَلَيْهِ الصبر عن الجماع، فله حينئذ أن يتزوج بالأمة، وإن ترك تزوجها وَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي الْكَفِّ عَنِ الزِّنَا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ، لِأَنَّهُ إِذَا تَزَوَّجَهَا جَاءَ أَوْلَادُهُ أرقاء لسيدها، إلا أن يكون الزوج غريباً فَلَا تَكُونُ أَوْلَادُهُ مِنْهَا أَرِقَّاءَ فِي قَوْلٍ قَدِيمٍ لِلشَّافِعِيِّ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الكريمة استدل جمهور العلماء في جواز العلماء نِكَاحِ الْإِمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عدم الطول لنكاح الحرائر، من خَوْفِ الْعَنَتِ، لِمَا فِي نِكَاحِهِنَّ مِنْ مَفْسَدَةِ رِقِّ الْأَوْلَادِ، وَلِمَا فِيهِنَّ مِنَ الدَّنَاءَةِ فِي العدول عن الحرائر إليهن، وخالف الجمهور أبو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ فِي اشْتِرَاطِ الْأَمْرَيْنِ فَقَالُوا: مَتَى لَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ مُزَوَّجًا بِحُرَّةِ جَازَ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ أَيْضًا، سَوَاءٌ كَانَ واجداً لطول حرة أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ خَافَ الْعَنَتَ أَمْ لَا وعمدتهم فيما ذهبوا إليه قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِّن قَبْلِكُمْ} أَيِ الْعَفَائِفُ وَهُوَ يَعُمُّ الْحَرَائِرَ وَالْإِمَاءَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ وَهَذِهِ أَيْضًا ظَاهِرَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

- 26 - يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - 27 - وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا - 28 - يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مَا أَحَلَّ لَكُمْ وَحَرَّمَ عَلَيْكُمْ، مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} يَعْنِي طَرَائِقَهُمُ الْحَمِيدَةَ وَاتِّبَاعَ شَرَائِعِهِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا، {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} أَيْ مِنَ الْإِثْمِ وَالْمَحَارِمِ، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} أَيْ يُرِيدُ أَتْبَاعُ الشَّيَاطِينِ مِنَ الْيَهُودِ والنصارى والزناة أن تميلوا عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ

مَيْلًا عَظِيمًا. {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ أي في شرائعه وأوامره ونواهي وما يقدره لكم، ولهذا أباح الإماء بشروط كما قال مجاهد وغيره، {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} فَنَاسَبَهُ التَّخْفِيفُ لِضِعْفِهِ فِي نَفْسِهِ وضعف عزمه وهمته. وقال: طاووس: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} أَيْ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ، وَقَالَ وكيع: يذهب عقله عندهن، وقال موسى عليه السلام لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء. مَاذَا فَرَضَ عَلَيْكُمْ؟ فَقَالَ: أَمَرَنِي بِخَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ عَلَى مَا هُوَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَجَزُوا، وَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ أَسْمَاعًا وَأَبْصَارًا وَقُلُوبًا؛ فَرَجَعَ فَوَضَعَ عَشْرًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى فَلَمْ يزل كذلك حتى بقيت خمساً.

- 29 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً - 30 - وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا - 31 - إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً ينهى تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ أَنْ يَأْكُلُوا أَمْوَالَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالْبَاطِلِ، أَيْ بِأَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ شَرْعِيَّةٍ كَأَنْوَاعِ الرِّبَا وَالْقِمَارِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ صُنُوفِ الحيل، وإن ظهرت في قلب الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِمَّا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ مُتَعَاطِيَهَا إِنَّمَا يُرِيدُ الْحِيلَةَ عَلَى الرِّبَا، حَتَّى قَالَ ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي مِنَ الرَّجُلِ الثَّوْبَ فَيَقُولُ: إِنْ رَضِيتُهُ أَخَذْتُهُ وَإِلَّا رددت مَعَهُ دِرْهَمًا، قَالَ: هُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فيه: {ولا تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} وعن علقمة بن عبد الله في الآية قال: إنها مَحْكَمَةٌ مَا نُسِخَتْ وَلَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ القيامة، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} قَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَالطَّعَامُ هُوَ أَفْضَلُ أموالنا، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ فَكَيْفَ لِلنَّاسِ؟! فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} الآية. وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} الاستثناء مُنْقَطِعٌ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَتَعَاطَوُا الْأَسْبَابَ الْمُحَرَّمَةَ فِي اكْتِسَابِ الْأَمْوَالِ، لَكِنَّ الْمَتَاجِرَ الْمَشْرُوعَةَ الَّتِي تَكُونُ عَنْ تَرَاضٍ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَافْعَلُوهَا، وَتَسَبَّبُوا بِهَا فِي تَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بالحق}، وَكَقَوْلِهِ: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى}، ومن هذه الآية الكريمة احتج الشافعي عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إِلَّا بِالْقَبُولِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّرَاضِي نَصًّا بِخِلَافِ الْمُعَاطَاةِ فإنها قد لا تدل على الرضا، وَخَالَفَ الْجُمْهُورَ فِي ذَلِكَ (مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وأحمد) فَرَأَوْا أَنَّ الْأَقْوَالَ كَمَا تَدُلُّ عَلَى التَّرَاضِي، فكذلك الْأَفْعَالُ تَدُلُّ فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ قَطْعًا، فَصَحَّحُوا بَيْعَ الْمُعَاطَاةِ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَصِحُّ فِي الْمُحَقَّرَاتِ وَفِيمَا يَعُدُّهُ النَّاسُ بَيْعًا، وَهُوَ احْتِيَاطُ نَظَرٍ مِنْ مُحَقِّقِي الْمَذْهَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقال مُجَاهِدٌ: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} بَيْعًا أَوْ عَطَاءً يُعْطِيهِ أَحَدٌ أَحَدًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ، وَالْخِيَارُ بَعْدَ الصَّفْقَةِ، وَلَا يحل لمسلم أن يغش مسلماً» (أخرجه ابن جرير وهو حديث مرسل" هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، وَمِنْ تَمَامِ التَّرَاضِي

إِثْبَاتُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {البيِّعان بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا"، وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ: «إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا»، وَذَهَبَ إِلَى القول يمقتضى هذا الحديث أحمد والشافعي وَأَصْحَابُهُمَا وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ الشَّرْطِ بَعْدَ الْعَقْدِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، بحسب ما يتبين فيه حال الْبَيْعِ وَلَوْ إِلَى سَنَةٍ فِي الْقَرْيَةِ وَنَحْوِهَا كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَصَحَّحُوا بَيْعَ الْمُعَاطَاةِ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَصِحُّ بَيْعُ الْمُعَاطَاةِ فِي الْمُحَقَّرَاتِ فِيمَا يَعُدُّهُ النَّاسُ بَيْعًا، وهو اختيار طائفة من الأصحاب كما هو متفق عليه. وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أَيْ بِارْتِكَابِ مَحَارِمِ اللَّهِ وَتَعَاطِي مَعَاصِيهِ وَأَكْلِ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} أَيْ فِيمَا أمركم به ونهاكم عنه. عن عمروا بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ (ذَاتِ السَّلَاسِلِ) قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، قال: فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ»؟ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يقل شيئاً (رواه أحمد وأبو داود) وأورد ابن مردويه عند هذه الآية الكريمة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا بَطْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِسُمٍّ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مخلداً فيها أبداً»، وفي الصحيحين: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القيامة». وفي الصحيحين أيضاً عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ بِهِ جُرْحٌ فَأَخَذَ سِكِّينًا نَحَرَ بِهَا يَدَهُ فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: عَبْدِي بَادَرَنِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" ولهذا قال تَعَالَى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً} أَيْ ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه معتدياً فِيهِ، ظَالِمًا فِي تَعَاطِيهِ، أَيْ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ متجاسراً على انتهاكه {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ فَلْيَحْذَرْ مِنْهُ كُلُّ عَاقِلٍ لَبِيبٍ مِمَّنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ. وقوله تعالى: {وَإِن تجتنبوا كبارئر ما تهون عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية. أَيْ إِذَا اجْتَنَبْتُمْ كَبَائِرَ الْآثَامِ الَّتِي نُهِيتُمْ عَنْهَا، كَفَّرْنَا عَنْكُمْ صَغَائِرَ الذُّنُوبِ وَأَدْخَلْنَاكُمُ الْجَنَّةَ، ولهذا قال: {ولنخلكم مُّدْخَلاً كَرِيماً}، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ. قَالَ أبو جعفر بن جرير عن صهيب مولى الصواري، أنه سمع أبا هريرة وأبا سَعِيدٍ يَقُولَانِ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَكَبَّ فَأَكَبَّ كُلُّ رَجُلٍ منا يبكي لا ندري مَاذَا حَلَفَ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَفِي وَجْهِهِ الْبِشْرُ فَكَانَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ حُمْرِ النعم فقال: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ، وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ثُمَّ قِيلَ لَهُ ادخل بسلام» (رواه النسائي والحاكم وابن حبان)

(تَفْسِيرُ هَذِهِ السَّبْعِ): وَذَلِكَ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات». فَالنَّصُّ عَلَى هَذِهِ السَّبْعِ بِأَنَّهُنَّ كَبَائِرُ، لَا يَنْفِي مَا عَدَاهُنَّ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ بِالْمَنْطُوقِ عَلَى عَدَمِ الْمَفْهُومِ كَمَا سَنُورِدُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَضَمَّنَةِ من الكبائر غير هذه السبع (حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ عَبَدَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ وَاجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ فَلَهُ الْجَنَّةُ - أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ - فَسَأَلَهُ رَجُلٌ مَا الْكَبَائِرُ؟ فَقَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَقَتْلُ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ، وَالْفِرَارُ من الزحف». وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ، وبعث به مع (عمرو بن حزم) وَكَانَ فِي الْكِتَابِ: "إِنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِشْرَاكٌ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْفِرَارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَرَمْيُ الْمُحْصَنَةِ، وَتَعَلُّمُ السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم" (أخرجه ابن مردويه) (حديث آخر فيه ذكر شهادة الزور): عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَبَائِرَ أَوْ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ فَقَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ»، وَقَالَ: أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قلنا: بلى، قال: «الإشراك بالله، وقول الزور - أو شهادة الزور -» وأخرجه الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بكر عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ»؟ قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ -» - وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: «أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ»، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. (حَدِيثٌ آخَرُ فيه ذكر قتل الولد): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ وَفِي رِوَايَةٍ أَكْبَرُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قُلْتُ: ثُمَّ أي؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»، ثُمَّ قَرَأَ: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ - إلى قوله - إِلاَّ من تاب} (الحديث في الصحيحين) (حديث آخر في اليمن الغموس): قال ابن أبي حاتم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمني الْغَمُوسُ، وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاللَّهِ يَمِينَ صَبْرٍ فَأَدْخَلَ فِيهَا مِثْلَ جَنَاحِ الْبَعُوضَةِ إِلَّا كَانَتْ وكتة في قلبه إلى يوم القيامة». (حديث آخر) في التسبب إلى شتم الوالدين: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «من أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ». قَالُوا: وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: «يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أمه» (رواه البخاري ومسلم) وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ».

(حديث آخر): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ من الكبائر»، قال ابن أبي حاتم: هو صحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ (حَدِيثٌ آخَرُ في ذلك): قال ابن جرير عن أبي أمامة: أن أناساً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكروا الكبائر وهو متكىء فقالوا: الشرك بالله، وأكل مال اليتيم، والفرار مِنَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَوْلُ الزُّورِ، وَالْغُلُولُ، وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ الرِّبَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَيْنَ تَجْعَلُونَ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قليلاُ»؟ إلى آخر الآية (قال ابن كثير: فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ وَهُوَ حَسَنٌ) (ذِكْرُ أَقْوَالِ السلف في ذلك) قال ابن جرير عن الحسن: أنا نَاسًا سَأَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو بِمِصْرَ، فقالوا: نرى أشاياء من كتاب الله عزَّ وجلَّ أمر أن يعمل بها لا يُعْمَلُ بِهَا، فَأَرَدْنَا أَنْ نَلْقَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ في ذلك فقدم وقدموا معه، فلقي عمر رضي الله عنه، فقال: متىقدمت؟ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: أبإذنٍ قَدِمْتَ؟ قَالَ: فَلَا أَدْرِي كَيْفَ رَدَّ عَلَيْهِ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ نَاسًا لَقَوْنِي بِمِصْرَ، فَقَالُوا: إنا نرى أشياء في كتبا اللَّهِ أَمَرَ أَنْ يُعْمَلَ بِهَا فَلَا يُعْمَلُ بها، فأحبوا أن يلقوك في ذلك. قال فاجمعهم لِي قَالَ: فَجَمَعْتُهُمْ لَهُ. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ - أَظُنُّهُ قَالَ فِي بَهْوٍ -: فَأَخَذَ أَدْنَاهُمْ رَجُلًا فقال: أنشدك بالله بحق الْإِسْلَامِ عَلَيْكَ، أَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قال: فهل أحصيته في نفسك؟ فقال: اللَّهُمَّ لَا، قَالَ: وَلَوْ قَالَ نَعَمْ لَخَصَمَهُ. قَالَ: فَهَلْ أَحْصَيْتَهُ فِي بَصَرِكَ؟ فَهَلْ أَحْصَيْتَهُ في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك؟ ثم تتبعهم حتى أتى علي آخرهم، فقال: ثكلت عُمَرَ أُمُّهُ أَتُكَلِّفُونَهُ أَنْ يُقِيمَ النَّاسَ عَلَى كتاب الله؟ قد علم ربنا أن سَتَكُونُ لَنَا سَيِّئَاتٌ، قَالَ: وَتَلَا {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية. ثُمَّ قَالَ: هَلْ عَلِمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؟ أَوْ قَالَ: هَلْ عَلِمَ أَحَدٌ بِمَا قَدِمْتُمْ؟ قَالُوا: لا، قال: لو علموا لوعظت بكم (أخرجه ابن جرير وقال ابن كثير: إسناد صحيح ومتن حسن) (أَقْوَالُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ) رَوَى ابْنُ جرير عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ الَّتِي ذَكَرَهُنَّ اللَّهُ مَا هُنَّ؟ قَالَ: هُنَّ إِلَى السَّبْعِينَ أَدْنَى مِنْهُنَّ إِلَى سَبْعٍ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قِيلَ: لِابْنِ عَبَّاسٍ الْكَبَائِرُ سَبْعٌ؟ قَالَ: هُنَّ إلى السبعين أقرب؛ وقال ابن جرير عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ النب عَبَّاسٍ: كَمِ الْكَبَائِرُ، سَبْعٌ؟ قَالَ: هُنَّ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى سَبْعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ: وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إصرار. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} قَالَ: الْكَبَائِرُ كُلُّ ذَنْبٍ خَتَمَهُ اللَّهُ بِنَارٍ، أَوْ غَضِبَ، أَوْ لَعْنَةٍ، أو عذاب. وسئل ابن عباس عن الكبائر فقال: كل شيء عصي الله به فهو كبيرة. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ، فَمِنْ قَائِلٍ: هِيَ مَا عَلَيْهِ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَا عليه وعيد مخصوص مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ أبو القاسم عبد الكريم الرافعي في كتابه

(الشرح الكبير): ثم اختلف الصحابة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ فَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الْكَبَائِرِ، وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّغَائِرِ، وَلِبَعْضِ الْأَصْحَابِ فِي تَفْسِيرِ الْكَبِيرَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْمَعْصِيَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ، (وَالثَّانِي): أَنَّهَا الْمَعْصِيَةُ الَّتِي يَلْحَقُ صَاحِبَهَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَهَذَا أَكْثَرُ ما يوجد لهم وَإِلَى الْأَوَّلِ أَمِيلُ، لَكِنَّ الثَّانِيَ أَوْفَقُ لِمَا ذَكَرُوهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْكَبَائِرِ، (وَالثَّالِثُ): قَالَ إِمَامُ الحرمين: كل جريمة تنبىء بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ فَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِلْعَدَالَةِ، (وَالرَّابِعُ): ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو سَعِيدٍ الْهَرَوِيُّ: أَنَّ الْكَبِيرَةَ كُلُّ فِعْلٍ نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ تُوجِبُ فِي جِنْسِهَا حداً من قتل أو غيره. ثم قال: وفصَّل الرُّويَانِيُّ فَقَالَ: الْكَبَائِرُ سَبْعٌ: قَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ الحق، والزنا واللواطة، وَشُرْبُ الْخَمْرِ، وَالسَّرِقَةُ، وَأَخْذُ الْمَالِ غَصْبًا، وَالْقَذْفُ؛ وَزَادَ فِي (الشَّامِلِ) عَلَى السَّبْعِ الْمَذْكُورَةِ: شَهَادَةَ الزور، أضاف إِلَيْهَا صَاحِبُ (الْعُدَّةِ): أَكْلَ الرِّبَا، وَالْإِفْطَارَ فِي رَمَضَانَ بِلَا عُذْرٍ، وَالْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ، وَقَطْعَ الرَّحِمِ، وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ، وَأَكْلَ مَالِ اليتيم، والخيانة في الكيل والوزن، وتقديم اللاة عَلَى وَقْتِهَا، وَتَأْخِيرَهَا عَنْ وَقْتِهَا بِلَا عُذْرٍ، وضرب المسلم بلا حق، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عَمْدًا؛ وَسَبَّ أَصْحَابِهِ، وَكِتْمَانَ الشَّهَادَةِ بِلَا عُذْرٍ، وَأَخْذَ الرِّشْوَةِ، وَالْقِيَادَةَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالسِّعَايَةَ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَمَنَعَ الزَّكَاةِ، وَتَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والنهي عن النكر مَعَ الْقُدْرَةِ، وَنِسْيَانَ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ، وَإِحْرَاقَ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ، وَامْتِنَاعَ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا بِلَا سَبَبٍ، وَالْيَأْسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَيُقَالُ الْوَقِيعَةُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ. وَمِمَّا يُعَدُّ مِنَ الْكَبَائِرِ: الظِّهَارُ، وَأَكَلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالْمِيتَةِ إِلَّا عَنْ ضَرُورَةٍ. قُلْتُ: وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي الْكَبَائِرِ مُصَنَّفَاتٌ مِنْهَا مَا جَمَعَهُ شَيْخُنَا الْحَافِظُ (أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ) الَّذِي بَلَغَ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ كبيرة، وَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الكبيرة ما توعد عليها الشارع بِالنَّارِ بِخُصُوصِهَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ وما يتبع ذَلِكَ، اجْتَمَعَ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَإِذَا قِيلَ: كل ما نهى الله عنه فكثير جداً. والله أعلم.

- 32 - وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا نَغْزُو، وَلَنَا نصف الميراث؟ فأنزل الله: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ على بعض} (رواه أحمد والترميذي) وقال عبد الرزاق عن معمر قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْلِ النِّسَاءِ لَيْتَنَا الرِّجَالُ فَنُجَاهِدَ كَمَا يُجَاهِدُونَ، وَنَغْزُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في الآية، قال: أتت امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ برجل، ونحن في العمل هكذا، إن فعلت امرأة حسنة كتب لَهَا نِصْفُ حَسَنَةٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ} الآية (أخرجه ابن أبي حاتم) قال ابن عباس: لا يَتَمَنَّى الرَّجُلُ فَيَقُولُ: لَيْتَ لَوْ أَنَّ لِي مَالَ فُلَانٍ وَأَهْلَهُ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، ولكن يسأل الله مِن فَضْلِهِ. وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: "لَا حَسَدَ

إلافي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، فَيَقُولُ رَجُلٌ: لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانٍ لَعَمِلْتُ مِثْلَهُ فَهُمَا في الأجر سواء" الحديث فإن هذا شيء غير ما نهت عنه الآية، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ حَضَّ عَلَى تَمَنِّي مِثْلَ نِعْمَةِ هَذَا، وَالْآيَةُ نَهَتْ عَنْ تَمَنِّي عَيْنَ نعمة هذا، ويقول: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أَيْ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَكَذَا الدينية، لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَكَذَا قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: نَزَلَتْ فِي النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي مَا لِفُلَانٍ، وَفِي تَمَنِّي النِّسَاءِ أَنْ يكنَّ رِجَالًا فَيَغْزُونَ (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ) ثم قال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} أَيْ كُلٌّ لَهُ جَزَاءٌ عَلَى عَمَلِهِ بِحَسَبِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. هذا قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ فِي الميراث أي كل يرث بحسبه، رواه الوابلي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا يصلحهم، فقال: {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فضلنا بِهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ محتوم، أي أن التمني لَا يُجْدِي شَيْئًا، وَلَكِنْ سَلُونِي مِنْ فَضْلِي أُعْطِكُمْ، فَإِنِّي كَرِيمٌ وَهَّابٌ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يسأل، وإن أفضل العبادة انتظار الفرج» (أخرجه الترمذي من حديث ابن مسعود) ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الدُّنْيَا فَيُعْطِيهِ مِنْهَا، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْفَقْرَ فَيُفْقِرُهُ، وَعَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْآخِرَةَ فَيُقَيِّضُهُ لِأَعْمَالِهَا، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْخِذْلَانَ فَيَخْذُلُهُ عَنْ تَعَاطِي الْخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}.

- 33 - وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مما ترك الوالدان والأقربون وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا وقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} أَيْ وَرَثَةً، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: أَيْ عَصَبَةً، قَالَ ابْنُ جرر: وَالْعَرَبُ تُسَمِّي ابْنَ الْعَمِّ مَوْلًى كَمَا قَالَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ: مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا، مَهْلًا موالينا * لا يظهرن بيننا ما كَانَ مَدْفُونَا قَالَ: وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} مِنْ تَرِكَةِ وَالِدَيْهِ وَأَقْرَبِيهِ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَلِكُلِّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ جَعَلْنَا عَصَبَةً يَرِثُونَهُ مِمَّا تَرَكَ وَالِدَاهُ وَأَقْرَبُوهُ من ميراثهم له. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أَيْ وَالَّذِينَ تَحَالَفْتُمْ بِالْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ أَنْتُمْ وَهُمْ، فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ كَمَا وَعَدْتُمُوهُمْ فِي الْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ، إِنَّ اللَّهَ شَاهِدٌ بَيْنَكُمْ فِي تِلْكَ الْعُهُودِ وَالْمُعَاقَدَاتِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأُمِرُوا أَنْ يُوَفُّوا من عاقدوا ولا ينسوا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مُعَاقَدَةً، قَالَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قَالَ وَرَثَةً، {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رحمه للأخوة التي آخرى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نُسِخَتْ، ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} مِنَ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصَى لَهُ (أخرجه البخاري عن ابن عباس)

وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قوله: {والذن عقَدت أَيْمَانُكُمْ} الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ بِالْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} نُسِخَتْ، ثُمَّ قَالَ: والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ، ولك حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً وَمَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَإِنِّي نَقَضْتُ الْحِلْفَ الَّذِي كَانَ فِي دار الندوة» (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ). وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ (دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) قَالَ: كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أُمِّ سَعْدٍ بِنْتِ الرَّبِيعِ مَعَ ابْنِ ابنها (موسى بن سعد) وكان يتيماً فِي حِجْرِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهَا: وَالَّذِينَ عاقدت أَيْمَانُكُمْ فَقَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَتْ: إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حِينَ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَحَلَفَ أبو بكر أن لا يروثه، فلما أسلم حُمِلَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالسَّيْفِ، أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يورثه نصيبه (رواه ابن جرير) وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَأَنَّ هَذَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ يَتَوَارَثُونَ بِالْحِلْفِ ثُمَّ نُسِخَ وَبَقِيَ تَأْثِيرُ الْحِلْفِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ أُمِرُوا أن يوفوا بالعهود والعقود، والحلف الذي كانوا قد تعاقدوه قبل ذلك. وهذا نص في الرد على من ذَهَبَ إِلَى التَّوَارُثِ بِالْحِلْفِ الْيَوْمَ، كَمَا هُوَ مذهب أبو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، والصحيح قول الجمهور (مالك وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ) فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ والأقربون} أي ورثة من قراباته مِنْ أَبَوَيْهِ وَأَقْرَبِيهِ، وَهُمْ يَرِثُونَهُ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فلأولى رَجُلٍ ذَكَرٍ» أَيِ اقْسِمُوا الْمِيرَاثَ عَلَى أَصْحَابِ الفرائض الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي آيَتَيِ الْفَرَائِضِ، فَمَا بقي بعد ذلك فأعطوه للعصبة، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} أَيْ قَبْلَ نُزُولِ هذه الآية فآتوهم نصبهم أَيْ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَأَيُّمَا حِلْفٌ عُقِدَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتِ الْحِلْفَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَحُكْمَ الحلف الْمَاضِي أَيْضًا فَلَا تَوَارُثَ بِهِ، كَمَا قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قَالَ: مِنَ النُّصْرَةِ والنصيحة والرفادة، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أَيْ من الميراث، وقد اختار ابن جرر أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أَيْ مِنَ النُّصْرَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَالْمَعُونَةِ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ حَتَّى تَكُونَ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً، وَلَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حُكْمًا ثُمَّ نُسِخَ، بَلْ إِنَّمَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْحِلْفِ الْمَعْقُودِ عَلَى النُّصْرَةِ وَالنَّصِيحَةِ فَقَطْ، فَهِيَ (مَحْكَمَةٌ) لا (مسوخة) وهذا الذي قال فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مِنَ الْحِلْفِ مَّا كَانَ عَلَى الْمُنَاصَرَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ، وَمِنْهُ مَّا كَانَ عَلَى الأرض كَمَا حَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَكَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ الْمُهَاجِرِيُّ يَرِثُ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ قِرَابَاتِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ، حَتَّى نُسِخَ ذَلِكَ فكيف يقولون إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ؟ وَاللَّهُ أعلم.

- 34 - الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ واضربوهن

فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيراً يَقُولُ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} أَيِ الرَّجُلُ قَيِّمٌ عَلَى الْمَرْأَةِ، أَيْ هُوَ رَئِيسُهَا وَكَبِيرُهَا وَالْحَاكِمُ عَلَيْهَا وَمُؤَدِّبُهَا إِذَا اعْوَجَّتْ {بِمَا فضَّل اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أَيْ لِأَنَّ الرِّجَالَ أَفْضَلُ مِنَ النِّسَاءِ، وَالرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ الْمَرْأَةِ وَلِهَذَا كَانَتِ النُّبُوَّةُ مُخْتَصَّةٌ بِالرِّجَالِ، وَكَذَلِكَ الْمُلْكُ الْأَعْظَمُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ ولَّو أمرهم امرأة» رواه البخاري، وَكَذَا مَنْصِبُ الْقَضَاءِ وَغَيْرُ ذَلِكَ {وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أَيْ مِنَ الْمُهُورِ وَالنَّفَقَاتِ وَالْكُلَفِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَهُنَّ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالرَّجُلُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهِ، وَلَهُ الْفَضْلُ عَلَيْهَا وَالْإِفْضَالُ، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ قَيِّمًا عَلَيْهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} الآية، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} يَعْنِي أمراء عليهن، أي تطيعه فيما أمرها الله بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ، وطاعتُه أَنْ تَكُونَ مُحْسِنَةً لأهله حافظة لماله. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم تشكو أن زوجها لَطَمَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقِصَاصُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الْآيَةَ. فَرَجَعَتْ بِغَيْرِ قِصَاصٍ، وقد أسنده ابن مردويه عنعلي قَالَ: أَتَى رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِامْرَأَةٍ لَهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوْجَهَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْأَنْصَارِيُّ وَإِنَّهُ ضَرَبَهَا فَأَثَّرَ فِي وَجْهِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ له ذلك، فأنزل الله تعالى: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} أي فِي الْأَدَبِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَدْتُ أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ غَيْرَهُ» أورد ذلك كله ابن جرير. وقوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ} أَيْ مِنَ النِّسَاءِ {قَانِتَاتٌ}، قَالَ ابْنُ عباس: يعني مطيعات لأزواجهن {حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ} وقال السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: أَيْ تَحْفَظُ زَوْجَهَا فِي غَيْبَتِهِ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ، وَقَوْلُهُ: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} أي المحفوظ من حفظه الله. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي نَفْسِهَا وَمَالِكَ»، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} إلى آخرها (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ) وَقَالَ الإمام أحمد عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ الأبواب شئت" وقوله تعالى: {والاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} أي النساء اللَّاتِي تَتَخَوَّفُونَ أَنْ يَنْشُزْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَالنُّشُوزُ هُوَ الِارْتِفَاعُ، فَالْمَرْأَةُ النَّاشِزُ هِيَ الْمُرْتَفِعَةُ عَلَى زوجها، التاركة لأمره، والمعرضة عنه، المبغضة له، فمتى ظهر لها مِنْهَا أَمَارَاتُ النُّشُوزِ فَلْيَعِظْهَا، وَلْيُخَوِّفْهَا عِقَابَ اللَّهِ فِي عِصْيَانِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ حَقَّ الزوج عليها طاعته، وحرم عليها معصيته لما له عليه مِنَ الْفَضْلِ وَالْإِفْضَالِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا» (أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة) وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ عَلَيْهِ لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ: «إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعْنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ}.

وقوله تعالى: {واهجروهن فِي المضاجع) قال ابن عباس: الهجر هُوَ أَنْ لَا يُجَامِعَهَا، وَيُضَاجِعَهَا عَلَى فِرَاشِهَا وَيُوَلِّيَهَا ظَهْرَهُ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ وَزَادَ آخرون فِي رِوَايَةٍ: وَلَا يُكَلِّمُهَا مَعَ ذَلِكَ وَلاَ يحدثها، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعِظُهَا فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ، وَإِلَّا هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ وَلَا يُكَلِّمْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يرد نِكَاحَهَا وَذَلِكَ عَلَيْهَا شَدِيدٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ: الهجر هو أن لا يضاجعها. وَفِي السُّنَنِ وَالْمُسْنَدِ عَنْ (مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ) أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ امرأة أحدنا عليه؟ قَالَ: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبَ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحَ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ». وَقَوْلُهُ: {وَاضْرِبُوهُنَّ} أَيْ إِذَا لَمْ يَرْتَدِعْنَ بِالْمَوْعِظَةِ وَلَا بِالْهِجْرَانِ، فَلَكُمْ أَنْ تَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عندكم عوان (عوان: أي أسيرات، شبههنّ عليه السلام بالأسيرات شفقة ورحمة) ولكم عليهن أن لا يطئن فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسَوْتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ". وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي غَيْرَ مُؤَثِّرٍ، قال الفقهاء: هو أن لا يكسر فيها عضواً ولا يؤثر فيها شيناً، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَهْجُرُهَا فِي الْمَضْجَعِ فَإِنْ أَقْبَلَتْ وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَا تَكْسِرَ لَهَا عَظْمًا فإن أقبلت، وإلا فقد أَحَلَّ الله لَكَ منها الفدية. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ الله»، فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرت النساء على أزواجهن، فرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضَرْبِهِنَّ، فَأَطَافَ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساء كثير يشتكين أَزْوَاجَهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أَطَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يشتكين من أَزْوَاجَهُنَّ لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والنسائي وابن ماجة) وقوله تعالى: {فَإِن أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أَيْ إذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده مِنْهَا، مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُ مِنْهَا فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ ضَرْبُهَا وَلَا هِجْرَانُهَا. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} تَهْدِيدٌ لِلرِّجَالِ إِذَا بَغَوْا عَلَى النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، فَإِنَّ اللَّهَ الْعَلِيَّ الكبير وليهُنَّ، وهو ينتقم مِمَّنْ ظلمهُنَّ وَبَغَى عَلَيْهِنَّ.

- 35 - وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خبيرا ذكر الْحَالَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ: إِذَا كَانَ النُّفُورُ وَالنُّشُوزُ مِنَ الزَّوْجَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَالَ الثَّانِيَ: وَهُوَ إِذَا كَانَ النُّفُورُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ}، وقال الْفُقَهَاءُ: إِذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَسْكَنَهُمَا الْحَاكِمُ إِلَى جَنْبِ ثِقَةٍ، يَنْظُرُ فِي أَمْرِهِمَا وَيَمْنَعُ الظَّالِمَ مِنْهُمَا مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنْ تَفَاقَمَ أَمَرُهُمَا وَطَالَتْ خُصُومَتُهُمَا، بَعَثَ الْحَاكِمُ ثِقَةً مَنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ وَثِقَةً مِنْ قَوْمِ الرَّجُلِ، لِيَجْتَمِعَا فينظرا فِي أَمْرِهِمَا وَيَفْعَلَا مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، مِمَّا يَرَيَانِهِ مِنَ التَّفْرِيقِ أَوِ التَّوْفِيقِ، وتشوَّف الشَّارِعُ إلى التوفيق، ولهذا قال تَعَالَى: {إِنْ يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ}، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أَنْ يَبْعَثُوا رَجُلًا صَالِحًا مَنْ أَهْلِ الرَّجُلِ، وَرَجُلًا من أهل

الْمَرْأَةِ، فَيَنْظُرَانِ أَيُّهُمَا الْمُسِيءُ فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ هُوَ الْمُسِيءُ حَجَبُوا عَنْهُ امْرَأَتَهُ وَقَصَرُوهُ عَلَى النَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُسِيئَةُ قَصَرُوهَا عَلَى زَوْجِهَا وَمَنَعُوهَا النَّفَقَةَ، فَإِنِ اجْتَمَعَ رَأْيُهُمَا عَلَى أَنْ يُفَرَّقَا أَوْ يُجْمَعَا فَأَمْرُهُمَا جَائِزٌ، فَإِنْ رَأَيَا أَنْ يُجْمَعَا فَرَضِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وكره الْآخَرُ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّ الَّذِي رَضِيَ يرث الذي لم يرض ولا يرث الكاره الراضي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بُعِثْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ حَكَمَيْنِ، قَالَ مَعْمَرٌ: بَلَغَنِي أَنَّ عُثْمَانَ بَعَثَهُمَا وَقَالَ لَهُمَا: إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُجْمَعَا جُمِعْتُمَا، وإن رأيتمان أن تفرقا ففرقا. وَقَالَ أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ (عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) تَزَوَّجَ (فاطمة بنت عتبة بن ربيعة) فقالت: تصبر إِلَيَّ وَأُنْفِقُ عَلَيْكَ، فَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَالَتْ: أَيْنَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ ربيعة) فقال: عَلَى يَسَارِكِ فِي النَّارِ إِذَا دَخَلْتِ؛ فَشَدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا، فَجَاءَتْ عُثْمَانَ فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فضحك، فأرسل ابْنَ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَهُمَا فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا كُنْتُ لِأُفَرِّقَ بَيْنَ شخصين من بني عبد مناف، فأتياهما فوجاهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا (أخرجه عبد الرزاق من حديث ابن عباس) وعن مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيَّا وَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ وَزَوْجُهَا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ منهما فئام (الفئام: الجماعة لا واحد له) مِنَ النَّاسِ، فَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ حَكَمًا وَهَؤُلَاءِ حَكَمًا، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْحَكَمَيْنِ: أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ إِنَّ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُجْمَعَا جُمِعْتُمَا. فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ رَضِيتُ بِكِتَابِ اللَّهِ لِي وعليَّ، وَقَالَ الزَّوْجُ أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا، فَقَالَ: عَلِيٌّ كَذَبْتَ، وَاللَّهِ لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَرْضَى بِكِتَابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لَكَ وَعَلَيْكَ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حاتم. وقد أجمع العلماء على ان الحكمين لهما الْجَمْعُ وَالتَّفْرِقَةُ، حَتَّى قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ إِنْ شَاءَ الْحَكَمَانِ أَنْ يُفَرِّقَا بَيْنَهُمَا بِطَلْقَةٍ أَوْ بِطَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ فَعَلَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْحَكَمَانِ يُحَكَّمَانِ فِي الجمع لا في التفرقة، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ، وَمَأْخَذُهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ}، وَلَمْ يُذْكَرِ التَّفْرِيقَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَا وَكِيلَيْنِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَيْنِ فَإِنَّهُ يُنَفَّذُ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خوف. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي الْحُكْمَيْنِ: هَلْ هُمَا منصوبان من جهة الْحَاكِمِ فَيَحْكُمَانِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجَانِ؟ أَوْ هُمَا وَكِيلَانِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَيْنِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، والجمهور على الأول لقوله تعالى: {فابعثوا حكمً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} فَسَمَّاهُمَا حَكَمَيْنِ، وَمِنْ شَأْنِ الْحَكَمِ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِ رِضَا الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَالْجَدِيدُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، والثاني منهما لقول عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلزَّوْجِ حِينَ قَالَ أما الفرقة قَالَ: كَذَبْتَ حَتَّى تُقِرَّ بِمَا أَقَرَّتْ بِهِ، قالوا: فلو كانا حكمين لَمَا افْتَقَرَ إِلَى إِقْرَارِ الزَّوْجِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

- 36 - وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا يَأْمُرُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ عَلَى خَلْقِهِ فِي جميع

الحالات، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُمْ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا به شيئاً من مخلوقاته، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: «أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟» قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا»، ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذلك؟ أن لا يُعَذِّبَهُمْ» ثُمَّ أَوْصَى بالإِحسان إِلَى الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَهُمَا سَبَبًا لِخُرُوجِكَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ عِبَادَتِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، كَقَوْلِهِ: {أَنِ اشكر لِي ولوالديك}، وَكَقَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}، ثم عطف على الإحسان إليهما بالإحسان إِلَى الْقَرَابَاتِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ صدقة وصلة» (أخرجه النسائي حديث سلمان بن عامر). ثم قال تعالى: {واليتامى} وذلك لأنهم فَقَدُوا مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ وَمَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَالْحُنُوِّ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: {وَالْمَسَاكِينِ} وَهُمُ الْمَحَاوِيجُ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ الذين لاَ يَجِدُونَ من يقوم بكفايتهم، فأمر الله سبحانه بِمُسَاعَدَتِهِمْ بِمَا تَتِمُّ بِهِ كِفَايَتُهُمْ وَتَزُولُ بِهِ ضَرُورَتُهُمْ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَقَوْلُهُ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الجنب} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} يَعْنِي الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} الَّذِي لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قُرَابَةٌ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ ومجاهد، وقال نَوْفٍ الْبُكَالِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} يعني الجار الْمُسْلِمَ {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} يَعْنِي الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ) وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} يَعْنِي: الرَّفِيقَ فِي السَّفَرِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بالوصايا بالجار فلنذكر منها ما تيسر وبالله المستعان. (الحديث الأول) قال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سيورثه» أخرجاه في الصحيحين. (الحدث الثاني): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» (رواه أحمد والترمذي) (الحدث الثالث): قال الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا»؟ قَالُوا: حرام حرمه الله ورسوله وهو حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بحليلة جاره»، قال: «ما تقولون في السرقة»؟ قالو: حرمها الله ورسوله فهي حرام إلى يوم القيامة، قَالَ: «لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ» (تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ) (الحديث الرابع): قال أبو بكر البزار عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ، جَارٌ لَهُ حَقٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَدْنَى الجيران حقاً. جار لَهُ حَقَّانِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ وَهُوَ أفضل الجيران حقاً، فأما الجار الَّذِي لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ فَجَارٌ مُشْرِكٌ لَا رحم له، له حق الجوار، وأما الجار الَّذِي لَهُ حَقَّانِ فَجَارٌ مُسْلِمٌ لَهُ حَقُّ الْإِسْلَامِ، وَحَقُّ الْجِوَارِ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ لَهُ حَقُّ الجوار، وحق الإسلام، وحق الرحم».

(الحديث الخامس): روى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: «إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكَ بَابًا» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ. وقوله تعالى: {والصاحب بالجنب} عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ قَالَا: هِيَ الْمَرْأَةُ، وقال ابن عباس ومجاهد: هُوَ الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرَّفِيقُ الصَّالِحُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ جَلِيسُكَ فِي الْحَضَرِ وَرَفِيقُكَ فِي السَّفَرِ، وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وجماعة هو الضيف، وقال مجاهد وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ الَّذِي يَمُرُّ عَلَيْكَ مُجْتَازًا فِي السَّفَرِ، وَهَذَا أَظْهَرُ وَإِنْ كَانَ مُرَادُ الْقَائِلِ بِالضَّيْفِ الْمَارَّ فِي الطَّرِيقِ فَهُمَا سَوَاءٌ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى أَبْنَاءِ السَّبِيلِ فِي سُورَةِ براءة وبالله الثقة وعليه التكلان. وقوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وَصِيَّةٌ بِالْأَرِقَّاءِ لِأَنَّ الرَّقِيقَ ضعيف الحيلة، أسير في أيدي الناس، فلهذا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يُوصِي أُمَّتَهُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ يَقُولُ: «الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» فَجَعَلَ يُرَدِّدُهَا حَتَّى مَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ، وَقَالَ الإمام أحمد عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكَرِبَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زووجتك فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ خَادِمَكَ فَهُوَ لك صدقة» ورواه النسائي وإسناده صحيح. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ لِقَهْرَمَانَ لَهُ: هَلْ أَعْطَيْتَ الرَّقِيقَ قُوتَهُمْ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إثماً أن يحبس عمن يملك قوتهم» (رواهما مُسْلِمٌ) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيقُ» (رواهما مسلم) وعنه أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَوْ أَكْلَةً أَوْ أَكْلَتَيْنِ فَإِنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلَاجَهُ» أَخْرَجَاهُ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ وَلِمُسْلِمٍ: «فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ فَلْيَأْكُلْ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا قَلِيلًا، فَلْيَضَعْ فِي يَدِهِ أَكْلَةً أَوْ أَكْلَتَيْنِ» وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هُمْ إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» أخرجاه. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} أي مختالاً في نفسه، بمعجباً مُتَكَبِّرًا فَخُورًا عَلَى النَّاسِ يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُمْ، فَهُوَ فِي نَفْسِهِ كَبِيرٌ، وَهُوَ عِندَ اللَّهِ حَقِيرٌ، وَعِنْدَ النَّاسِ بَغِيضٌ، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً} يعني متكبراً، {فَخُوراً} يعني: بعدما أعطى وهو لا يشكر الله تعالى، يَعْنِي: يَفْخَرُ عَلَى النَّاسِ بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ نِعَمِهِ، وَهُوَ قَلِيلُ الشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى ذلك، وقال ابن جرير عن أبي رجاء الهروي: لا تجد سيء الْمَلَكَةِ إِلَّا وَجَدَّتَهُ مُخْتَالًا فَخُورًا، وَتَلَا: {وَمَا ملكت أيمانكم} الآية، وَلَا عَاقًّا إِلَّا وَجَدَّتَهُ جَبَّارًا شَقِيًّا، وَتَلَا: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جباراً شقياً} وقال مُطَرِّفٌ: كَانَ يَبْلُغُنِي عَنْ أَبِي ذَرٍّ حَدِيثٌ كُنْتُ أَشْتَهِي لِقَاءَهُ، فَلَقِيتُهُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا ذَرٍّ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ثَلَاثَةً وَيُبْغِضُ ثَلَاثَةً، قَالَ: أجل، قُلْتُ: مَنِ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يُبْغِضُ اللَّهُ؟ قَالَ: الْمُخْتَالُ الْفَخُورُ أَوَلَيْسَ تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ فِي كِتَابِ الله

الْمُنَزَّلِ، ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي قَالَ: «إِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ. فَإِنَّ إِسْبَالَ الْإِزَارِ مِنَ الْمَخِيلَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ».

- 37 - الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِينًا - 38 - وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قَرِينًا - 39 - وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِأَمْوَالِهِمْ أَنْ يُنْفِقُوهَا فِيمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى، وَالْجَارِ الْجُنُبِ، وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن الْأَرِقَّاءِ، وَلَا يَدْفَعُونَ حَقَّ اللَّهِ فِيهَا وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أَيْضًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالشُّحَ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا». وَقَوْلُهُ تعالى: {وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فَالْبَخِيلُ جحودُ لنعمة الله ولا تظهر عليه، ولا تبين لا في مأكله وَلَا فِي مَلْبَسِهِ وَلَا فِي إِعْطَائِهِ وَبَذْلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ* وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} أَيْ بِحَالِهِ وَشَمَائِلِهِ، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} وقال ههنا: {وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، وَلِهَذَا تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} وَالْكَفْرُ هُوَ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ، فَالْبَخِيلُ يَسْتُرُ نِعْمَةَ اللَّهِ عليه، ويكتمها ويجحدها فهو كافر لنعمة اللَّهِ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْعَمَ نِعْمَةً عَلَى عَبْدٍ أَحَبَّ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهَا عَلَيْهِ"، وَفِي الدُّعَاءِ النَّبَوِيِّ: «وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لنعمتك، مثنين بها عليك قابليها - وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا» وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ السَّلَفِ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى بُخْلِ الْيَهُودِ بِإِظْهَارِ الْعِلْمِ الَّذِي عندهم مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتْمَانِهِمْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قال تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} ولا شكر أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السِّيَاقَ فِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الْبُخْلُ بِالْعِلْمِ داخلاً في ذلك بطريق الأوْلى، فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء كذلك الآية التي بعدها، وهي قوله: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ الناس} فإنه ذكر الممسكين المذمومني وهم البخلاء، ثم ذكر الباذلين المرائين الذين يَقْصِدُونَ بِإِعْطَائِهِمُ السُّمْعَةَ وَأَنْ يُمْدَحُوا بِالْكَرَمِ، وَلَا يريدون بذلك وجه الله. وفي حديث: "الثلاة الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَجَّرُ بِهِمُ النَّارُ، وهم: (العالم والغازي والمنفق والمراؤون بِأَعْمَالِهِمْ) يَقُولُ صَاحِبُ الْمَالِ مَا تَرَكْتُ مِنْ شي تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهِ إِلَّا أَنْفَقْتُ فِي سَبِيلِكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْتَ إِنَّمَا أَرَدْتَ أَنْ يقال جواد فقد قيل: أي أَخَذْتَ جَزَاءَكَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي أَرَدْتَ بِفِعْلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال لعدي بن حاتم: «إن أباك أرد أَمْرًا فَبَلَغَهُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سئل عن (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ) هَلْ يَنْفَعُهُ إِنْفَاقُهُ وَإِعْتَاقُهُ؟ فَقَالَ: «لَا، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ»، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} الآية. أَيْ إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى صَنِيعِهِمْ هَذَا الْقَبِيحِ، وَعُدُولِهِمْ عَنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ عَلَى وَجْهِهَا الشَّيْطَانُ، فَإِنَّهُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ، وَقَارَنَهُمْ فَحَسَّنَ لهم القبائح، ولهذا قال تعالى:

{وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً}، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ: عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ * فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمَقَارَنِ يَقْتَدِي ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} الآية، أي وأيّ شيء يضرهم لو آمنوا بالله وسلكوا الطَّرِيقَ الْحَمِيدَةَ، وَعَدَلُوا عَنِ الرِّيَاءِ إِلَى الْإِخْلَاصِ والإيمان بالله، رجاء موعوده في الدار الآخرة لمن يحسن عمله، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا؟! وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيماً} أَيْ وَهُوَ عَلِيمٌ بِنِيَّاتِهِمُ الصَّالِحَةِ وَالْفَاسِدَةِ، وَعَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ التَّوْفِيقَ مِنْهُمْ فَيُوَفِّقُهُ وَيُلْهِمُهُ رُشْدَهُ، وَيُقَيِّضُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ يَرْضَى بِهِ عَنْهُ، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْخِذْلَانَ وَالطَّرْدَ عَنْ جَنَابِهِ الْأَعْظَمِ الْإِلَهِيِّ، الَّذِي مَنْ طُرِدَ عَنْ بَابِهِ فَقَدْ خَابَ، وَخَسِرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عِيَاذًا بِاللَّهِ من ذلك.

- 40 - إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيمًا - 41 - فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً - 42 - يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا يُخْبِرُ جلَّ ثناؤه عباده بأنه سيوفيهم أجورهم، ولا يظلم خلقه يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْقَالَ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، وَلَا مِثْقَالَ ذرة بل يوفيها له وَيُضَاعِفُهَا لَهُ إِنْ كَانَتْ حَسَنَةً، كَمَا قَالَ تعالى: {وَنَضَعُ الموازين القسط} الآية، وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ لُقْمَانَ: أَنَّهُ قَالَ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الطويل، وفيه: «يقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ مِنَ النَّارِ»؛ وَفِي لَفْظٍ: أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ مِنَ النَّارِ، «فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو سَعِيدٍ: اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الْآيَةَ وقال ابن أبي حاتم، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يُؤْتَى بِالْعَبْدِ أو الأمة يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنَادِي مُنَادٍ عَلَى رُؤُوسِ الْأَوَّلِينَ الآخرين: هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، مَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ، فَتَفْرَحُ الْمَرْأَةُ أَنْ يكون لها الحق على أبيها أو أمها أَوْ أَخِيهَا أَوْ زَوْجِهَا، ثُمَّ قَرَأَ: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} فَيَغْفِرُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ مَا يَشَاءُ وَلَا يَغْفِرُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ شَيْئًا، فَيُنْصَبُ لِلنَّاسِ، فيقول ائتوا إلى الناس حقوقهم، فيقول: يا رَبِّ فَنِيَتِ الدُّنْيَا مِنْ أَيْنَ أُوتِيهِمْ حُقُوقَهُمْ؟ فيقول: خُذُوا مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ فَأَعْطُوا كُلَّ ذِي حق حقه بقدر مظلمته، فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ فَفَضَلَ لَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ضَاعَفَهَا اللَّهُ لَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ بِهَا الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا}، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا شَقِيًّا. قَالَ الْمَلَكُ: رَبِّ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ وَبَقِيَ طَالِبُونَ كَثِيرٌ، فَيَقُولُ: خُذُوا مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَأَضِيفُوهَا إِلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ صُكُّوا لَهُ صَكًّا إِلَى النَّارِ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَلِبَعْضِ هَذَا الْأَثَرِ شَاهَدٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.

وروي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} فَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَيُخَفَّفُ عَنْهُ الذاب يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُخْرَجُ مِنَ النَّارِ أَبَدًا، وقد يستدل لَهُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ يَا رسول الله: إن عمك أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَنْصُرُكَ فَهَلْ نَفَعْتَهُ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نار، ولوال أن لكان في الدرك الأسفل مِنَ النَّارِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا خَاصًّا بِأَبِي طَالِبٍ مِنْ دُونِ الْكَفَّارِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً يُثَابُ عَلَيْهَا الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَمْ يكن له حسنة» (أخرجه مسلم من حديث أنَس) وقال الحن وقتادة: {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} يَعْنِي الْجَنَّةَ، نسأل الله رضاه والجنة وروى ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ، قُلْتُ: يَا أَبَا هريرة سمعت إخواني بالبصرة يزعمون أَنَّكَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي بِالْحَسَنَةِ ألف ألف حسنة»، فقال أبو هريرة: والله بل سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي بِالْحَسَنَةِ أَلْفَيْ أَلْفِ حَسَنَةٍ»، ثُمَّ تلا هذه الآية: {وما مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}، وقوله تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً} يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشِدَّةِ أَمْرِهِ وَشَأْنِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ وَالْحَالُ يَوْمَ القيامة، حين يَجِيءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية. روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ عليَّ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ "قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي أُحِبُّ أَنَّ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي" فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً}؟ فقال: «حسبك الآن» فإذا عيناه تذرفان. وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} أَيْ لَوِ انْشَقَّتْ وَبَلَعَتْهُمْ مِمَّا يَرَوْنَ مِنْ أَهْوَالِ الْمَوْقِفِ وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْفَضِيحَةِ وَالتَّوْبِيخِ، كَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} الآية. وقوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حديثا} إخبار عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِجَمِيعِ مَا فَعَلُوهُ وَلَا يكتمون منه شيئاً، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ له: سَمِعْتُ اللَّهَ عزَّ وَجَلَّ يَقُولُ - يَعْنِي إِخْبَارًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَنَّهُمْ قَالُواْ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} فقال ابن عباس: أَمَّا قَوْلُهُ {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا أَهْلُ الْإِسْلَامِ، قَالُوا: تَعَالَوْا فَلْنَجْحَدْ، فَقَالُوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَكَلَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حديثاً} (أخرجه ابن جرير) وقال عبد الرزاق عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَشْيَاءٌ تَخْتَلِفُ عليَّ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ مَا هُوَ، أَشُكُّ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: لَيْسَ هُوَ بِالشَّكِّ، وَلَكِنِ اخْتِلَافٌ قَالَ: فَهَاتِ مَا اخْتَلَفَ عَلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، وَقَالَ: {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} فَقَدْ كَتَمُوا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا قَوْلُهُ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ

أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، فإنهم لما رأووا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ إِلَّا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا يغفر شركاً، جَحَدَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالُوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} رَجَاءَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ، فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَتَكَلَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يعلمون، فَعِنْدَ ذَلِكَ {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حديثا} وقال الضَّحَّاكِ: إِنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ أَتَى ابنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ قَوْلُ اللَّهِ تعالى {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَحْسَبُكَ قُمْتَ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِكَ، فَقُلْتَ أُلْقِي عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مُتَشَابِهُ الْقُرْآنِ فَإِذَا رَجَعْتَ إِلَيْهِمْ فَأَخْبِرْهُمْ: أَنَّ الله تعالى يجمع الناس يوم القياة فِي بَقِيعٍ وَاحِدٍ، فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ: إِنِ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا إِلَّا مِمَّنْ وحَّده، فيقولون تعالوا نجحد، فَيَسْأَلُهُمْ فَيَقُولُونَ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، فعند ذلك يتمنون لو أن الأرض سويت لهم {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حديثاً} (أخرجه ابن جرير عن الضحاك).

- 43 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ينهى تبارك وتعالى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكْرِ، الَّذِي لَا يَدْرِي مَعَهُ الْمُصَلِّي مَا يقول، وعن قربان محالها - التي هي الْمَسَاجِدُ - لِلْجُنُبِ إِلَّا أَنَّ يَكُونَ مُجْتَازًا مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ مِنْ غَيْرِ مُكْثٍ؛ وَقَدْ كَانَ هَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَمَا دَلَّ عليه الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} الْآيَةَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَاهَا عَلَى عُمَرَ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا»، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَلَاهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا»، فَكَانُوا لَا يشربون الخمر في أوقات الصلوات، حتى نَزَلَتْ: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ واليمسر والأنصاب والأزلام رجلس مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، إِلَى قوله تعالى: {فهل أنت منتهون}؟ فقال عمر: انتهينا انتهينا وفي رواية عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخُطَّابِ فِي قِصَّةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَنَزَلَتِ الْآيَةُ التِي فِي النِّسَاءِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فكان منادي رسول الله إذا قامت الصلاة ينادي: أن لا يقربن الصلاة سكران. (سبب آخر): عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنَ الْخَمْرِ

فأخذت الخمر منا، وحضرت فَقَدَّمُوا فُلَانًا قَالَ فَقَرَأَ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ مَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ ما تعبدون، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تقولون} (رواه ابن أبي حاتم والترمذي) وقال العوفي عن ابن عباس في الآية: إن رجالاً كانوا يأتون وهم سكارى قبل أن يحرم الْخَمْرُ، فَقَالَ اللَّهُ: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سكارى} الآية، رواه ابن جرير، وعن قَتَادَةَ: كَانُوا يَجْتَنِبُونَ السُّكْرَ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَوَاتِ، ثم نسخ بتحريم الخمر، وقال الضحاك: لَمْ يَعْنِ بِهَا سُكْرَ الْخَمْرِ، وَإِنَّمَا عَنَى بها سكر النوم. ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ سُكْرُ الشَّرَابِ، قَالَ: وَلَمْ يَتَوَجَّهِ النَّهْيُ إِلَى السَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَفْهَمُ الْخِطَابَ لِأَنَّ ذَاكَ فِي حُكْمِ الْمَجْنُونِ، وَإِنَّمَا خُوطِبَ بِالنَّهْيِ الثَّملُ الَّذِي يَفْهَمُ التَّكْلِيفَ، وَهَذَا حَاصِلُ مَا قَالَهُ. وَقَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكالم دُونَ السَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا يُقَالُ لَهُ، فَإِنَّ الْفَهْمَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أن يكون المراد التعريض بالنيه عَنِ السُّكْرِ بِالْكُلِّيَّةِ لِكَوْنِهِمْ مَأْمُورِينَ بِالصَّلَاةِ فِي الْخَمْسَةِ الْأَوْقَاتِ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَلَا يَتْمَكَنُّ شَارِبُ الْخَمْرِ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا دَائِمًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} وَهُوَ الْأَمْرُ لَهُمْ بِالتَّأَهُّبِ لِلْمَوْتِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الطَّاعَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} هَذَا أَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي حَدِّ السَّكْرَانِ إِنَّهُ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ، فَإِنَّ الْمَخْمُورَ فِيهِ تَخْلِيطٌ فِي الْقِرَاءَةِ وَعَدَمُ تَدَبُّرِهِ وَخُشُوعِهِ فِيهَا، وَقَدْ قَالَ الإمام أحمد عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يصلي فينصرف ولينم حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُ» (انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ) وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: «فَلَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فيسب نفسه». وقوله تعالى: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ} عن ابن عباس قَالَ: لَا تَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ وَأَنْتُمْ جُنُبٌ إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ، قَالَ تَمُرُّ بِهِ مَرًّا وَلَا تجلس، يروى أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَتْ أَبْوَابُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَتْ تُصِيبُهُمُ الْجَنَابَةُ وَلَا مَاءَ عِنْدَهُمْ، فَيَرِدُونَ الْمَاءَ وَلَا يَجِدُونَ مَمَرًّا إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلاَ جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سبيل}، ويشهد لصحته مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سُدُّوا كُلَّ خَوْخَةٍ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ»، وَهَذَا قَالَهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا مِنْهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَيَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ كَثِيرًا لِلْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ فِيمَا يَصْلُحُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَمَرَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ رَوَى (إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ) كَمَا وقع في بعض السنن فهو خطأ، والصواب مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ. وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ احْتَجَّ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ على الجنب المكث فِي الْمَسْجِدِ، وَيَجُوزُ لَهُ الْمُرُورُ، وَكَذَا الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ أَيْضًا فِي مَعْنَاهُ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَهَمْ قال: يحرم مُرُورَهُمَا لِاحْتِمَالِ التَّلْوِيثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ أَمِنَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا التَّلْوِيثَ فِي حَالِ الْمُرُورُ وَإِلَّا فَلَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَاوِلِينِي الخُمرة مِنَ الْمَسْجِدِ»، فَقُلْتُ: إِنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ: «إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ» وفيه دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ مُرُورِ الْحَائِضِ فِي الْمَسْجِدِ وَالنُّفَسَاءُ فِي مَعْنَاهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى أَبُو داود عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ»، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَطَّابِيُّ: ضعف هذا

الحديث جماعة، لكن رواه ابن ماجه عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَلِيُّ لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك» فإنه حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ، فَإِنَّ سَالِمًا هَذَا متروك وشيخه عطية ضعيف والله أعلم. وعن علي: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عابر سَبِيلٍ} قَالَ: لَا يَقْرَبُ الصَّلَاةَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ فَلَا يَجِدُ الْمَاءَ فيصلي حتى يجد الماء، ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ حِجَجٍ فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير لك» (رواه أحمد وأهل السنن من حديث أبي ذر) ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ حِكَايَتِهِ الْقَوْلَيْنِ: وَالْأَوْلَى قَوْلُ مَنْ قَالَ {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} أي إلا عابري طَرِيقٍ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ بيَّن حُكْمَ الْمُسَافِرِ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ وَهُوَ جُنُبٌ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إِلَى آخِرِهِ، فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ} لَوْ كَانَ مَعْنِيًّا بِهِ الْمُسَافِرُ لَمْ يَكُنْ لِإِعَادَةِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} مَعْنًى مَفْهُومٌ، وَقَدْ مَضَى حَكْمُ ذِكْرِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الْمَسَاجِدَ لِلصَّلَاةِ مُصَلِّينَ فِيهَا وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، وَلَا تَقْرَبُوهَا أَيْضًا جَنْبًا حَتَّى تَغْتَسِلُوا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ. قَالَ: وَالْعَابِرُ السَّبِيلَ الْمُجْتَازُ مَرًّا وَقَطْعًا، يُقَالُ منه: عبرت بهذا الطريق فأنا أعبره عبراً وعبوراً، ومنه يقال: عَبَرَ فُلَانٌ النَّهْرَ إِذَا قَطَعَهُ وَجَاوَزَهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّاقَةِ الْقَوِيَّةِ عَلَى الْأَسْفَارِ: هِيَ عُبْرُ الأسفار لِقُوَّتِهَا عَلَى قَطْعِ الْأَسْفَارِ، وَهَذَا الَّذِي نَصَرَهُ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ تَعَاطِي الصَّلَاةِ عَلَى هيئة ناقصة تناقص مَقْصُودَهَا، وَعَنِ الدُّخُولِ إِلَى مَحَلِّهَا عَلَى هَيْئَةٍ نَاقِصَةٍ، وَهِيَ الْجَنَابَةُ الْمُبَاعِدَةُ لِلصَّلَاةِ وَلِمَحَلِّهَا أَيْضًا. والله أعلم. وقوله تعالى: {حَتَّى تَغْتَسِلُواْ} دَلِيلٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ (أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالُكٌ وَالشَّافِعِيُّ) أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَغْتَسِلَ أَوْ يَتَيَمَّمَ إِنَّ عَدِمَ الْمَاءَ، أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ بِطَرِيقَةٍ، وَذَهَبَ (الْإِمَامُ أَحْمَدُ) إِلَى أَنَّهُ مَتَى تَوَضَّأَ الْجُنُبُ جَازَ لَهُ المكث في المسجد، لما روي بسند صَحِيحٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. قَالَ سعيد بن منصور في سننه عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: رَأَيْتُ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ مُجْنِبُونَ إِذَا تَوَضَؤُوا وُضُوءَ الصَّلَاةِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شرط مسلم، والله أعلم. وقوله تعالى: {وإن، كنتم مرضى على عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} أَمَّا الْمَرَضُ الْمُبِيحُ لِلتَّيَمُّمِ فَهُوَ الَّذِي يُخَافُ مَعَهُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَوَاتُ عُضْوٍ أَوْ شَيْنُهُ أَوْ تَطْوِيلُ الْبُرْءِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ التَّيَمُّمَ بِمُجَرَّدِ الْمَرَضِ لعموم الآية، قال مجاهد: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ مَرِيضًا، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُومَ فَيَتَوَضَّأَ، وَلَمْ يَكُنْ له خادم فيناوله، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فأنزل الله هذه الآية وَالسَّفَرُ مَعْرُوفٌ وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ، وَقَوْلُهُ: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} الْغَائِطُ هُوَ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ، كَنَّى بِذَلِكَ عَنِ التَّغَوُّطِ وَهُوَ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ. وأما قوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء} فقرئ لمستم ولامستم، واختلف المفسرون الأئمة فِي مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى

قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ الْجِمَاعِ لِقَوْلِهِ: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} وقال تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أن تمسوهن} قال ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء} قال: الجماع. وقال ابن جرير عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: ذَكَرُوا اللَّمْسَ، فَقَالَ نَاسٌ مِنَ الْمَوَالِي: لَيْسَ بِالْجِمَاعِ، وَقَالَ ناس من العرب اللمس: الجماع، قال: فلقيت ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَهُ: إِنْ نَاسًا مِنَ الْمَوَالِي وَالْعَرَبِ اخْتَلَفُوا فِي اللَّمْسِ، فَقَالَتِ الْمَوَالِي: ليس بالجماع، وقالت العرب: الجماع قال: فمن أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كُنْتَ؟ قُلْتُ: كُنْتُ مِنَ الْمَوَالِي، قَالَ غُلِبَ فَرِيقُ الْمُوَالِي، إِنَّ اللَّمْسَ وَالْمَسَّ وَالْمُبَاشَرَةَ: الْجِمَاعُ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُكَنِّي مَا شَاءَ بما شاء وَقَدْ صَحَّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ ذلك، وقال آخرون: عنى الله تعالى بذلك كل من لمس بيد أَوْ بِغَيْرِهَا مِنْ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ وَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ مَنْ مَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ شيئاً من جسدها مفضياً إليه. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الْقُبْلَةُ من المس وفيها الوضوء، وروى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: يتوضأ الرجل من المباشرة، ومن اللمس بيده، ومن القبلة، وكان يقول في هذه الآية: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء} هو الغمز، وروى مالك عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قُبْلَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَجَسُّهُ بِيَدِهِ مِنَ الْمُلَامَسَةِ، فَمَنْ قبَّل امْرَأَتَهُ أَوْ جَسَّهَا بِيَدِهِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الدارقطني في سننه عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ رُوِّينَا عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ كَانَ يُقَّبِلُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ، فَالرِّوَايَةُ عَنْهُ مُخْتَلِفَةٌ، فَيَحْمِلُ مَا قَالَهُ فِي الْوُضُوءِ إِنْ صَحَّ عَنْهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنَ الْمَسِّ هُوَ قَوْلُ (الشَّافِعِيِّ ومالك) والمشهور عن أحمد بن حنبل، قال ناصروه: قد قرىء فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَامَسْتُمُ وَلَمَسْتُمْ، وَاللَّمْسُ يُطْلَقُ في الشرع على الجس باليد قال تَعَالَى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بايديهم} أي جسوه، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَاعِزٍ حِينَ أَقَرَّ بِالزِّنَا يُعَرِّضُ لَهُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ لَمَسْتَ» وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «وَالْيَدُ زِنَاهَا اللَّمْسُ» وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ عَلَيْنَا فَيُقَبِّلُ وَيَلْمِسُ، وَمِنْهُ ما ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ هو يَرْجِعُ إِلَى الْجَسِّ بِالْيَدِ عَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ، قَالُوا: وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْجَسِّ بِالْيَدِ، كما يطلق على الجماع، قال الشاعر: «ولمست كفي كفه أطلب الغنى». وقال ابْنُ جَرِيرٍ وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} الْجِمَاعَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مَعَانِي اللَّمْسِ لِصِحَّةِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قبَّل بَعْضَ نِسَائِهِ ثم صلى ولم يتوضأ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يُقَبِّلُ، ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ، وحدَّث عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبَّل بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، قُلْتُ: مَنْ هِيَ إلا أنت؟ فضحكت (رواه أبو داود والترمذي وابن اجة) وعن أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ لا يفطر ولا يحدث وضوءاً. وقوله تَعَالَى: {فَإِن لَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} اسْتَنْبَطَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِعَادِمِ الْمَاءِ إلا بعد طلب الماء، فَمَتَى طَلَبَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ جَازَ لَهُ حِينَئِذٍ التيمم لحديث (عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) أَنَّ رَسُولَ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا معتزلاً لم يصلِّ مع الْقَوْمِ، فَقَالَ: «يَا فُلَانُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ، أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ»؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنْ أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ، قَالَ: «عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ» (رواه الإمام أحمد من حديث عمران بن حصين) وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} فَالتَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْقَصْدُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: تَيَمَّمَكَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ أَيْ قصدك، ومنه قول امرىء القيس شعراً: وَلَمَّا رَأَتْ أَنَّ الْمَنِيَّةَ وِرِدُهَا * وَأَنَّ الْحَصَى من تحت أقدامها دامي تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ * يَفِيءُ عَلَيْهَا الفيء عرمضها طامي وَالصَّعِيدُ قِيلَ: هُوَ كُلُّ مَا صَعِدَ عَلَى وجه الارض، فيدخل الأرض، فيدخل فيه التراب والرمل والشجر وَالنَّبَاتُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقِيلَ: مَا كَانَ من جنس التراب كالرمل وَالزَّرْنِيخُ وَالنَّوْرَةُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: هو التراب فقط، وهو قول الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِمَا وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} أَيْ تُرَابًا أَمْلَسَ طَيِّبًا، وَبِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ" وَفِي لَفْظٍ: «وَجُعِلَ تُرَابُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ» قَالُوا فَخَصَّصَ الطَّهُورِيَّةَ بِالتُّرَابِ في مقام الإمتنانن فلو كان غيره يقوم مقام لذكره معه، والطيب ههنا: قيل الحلال، وقيل الذي ليس بنجس. (يتبع ... )

(تابع ... 1): 43 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سكارى حتى تعلموا ما ... ... وقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنِ الْوُضُوءِ في التطهير بِهِ، لَا أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ فِي جَمِيعِ أَعْضَائِهِ، بَلْ يَكْفِي مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فَقَطْ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّيَمُّمِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ - أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَمْسَحَ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ بِضَرْبَتَيْنِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْيَدَيْنِ يَصْدُقُ إطلاقها عَلَى مَا يَبْلُغُ الْمَنْكِبَيْنِ وَعَلَى مَا يَبْلُغُ الْمِرْفَقَيْنِ كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِمَا مَا يَبْلُغُ الْكَفَّيْنِ كَمَا فِي آيَةِ السرقة: {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا}، قالو: وحمل ما أطلق ههنا عَلَى مَا قُيِّدَ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ أَوْلَى لجامع الطهورية، وذكر بعضهم ما رواه الدارقطني عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ، ضَرْبَةٌ للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» (أخرجه الإمام أحمد والدارقطني عن ابن عمر) وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَجِبُ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إلى الكفين بضربتين، وهو قول الشافعي في القديم، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَكْفِي مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ بِضَرْبَةٍ واحدة لما روي أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدْ مَاءً؛ فَقَالَ عُمَرُ: لَا تُصَلِّ. قال عَمَّارٌ: أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِي سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْنَا فَلَمْ نَجِدْ مَاءً، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ فَصَلَّيْتُ، فَلَمَّا أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ وَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ نَفَخَ فيها ومسح بها وجهه وكفيه» (رواه النسائي وأحمد)؟ (طريق أخرى): قال أحمد عن سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا شَقِيقٌ قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا مع (عبد الله) و (أبي موسى) فقال أبو يعلى لِعَبْدِ اللَّهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَمْ يَجِدِ الماء، لم يصلِّ؟ فقال عبد الله أت تذكر ما قال عمرا لعمر؟ أَلَا تَذْكُرُ إِذْ بَعَثَنِي

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيَّاكَ فِي إِبِلٍ فَأَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فَتَمَرَّغْتُ فِي التُّرَابِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أخبرته، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ هَكَذَا، وَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ مَسَحَ كَفَّيْهِ جَمِيعًا، ومسح وَاحِدَةً بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ»؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا جرم ما رأيت عمر قنع بذلك، قال، فقال له أبو موسى: فيكف بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فيتمموا صَعِيداً طَيِّباً}؟ قَالَ: فَمَا دَرَى عَبْدُ اللَّهِ مَا يَقُولُ. وَقَالَ: لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ فِي التَّيَمُّمِ لَأَوْشَكَ أَحَدُهُمْ إِذَا بَرَدَ الْمَاءُ عَلَى جلده أن يتيمم. وقال في المائدة: {فامسحو بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ}، فقد استدل بذلك الشافعي عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي التَّيَمُّمِ أَنْ يَكُونَ بِتُرَابٍ طَاهِرٍ لَهُ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْوَجْهِ واليدين منه شيء. وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} أَيْ فِي الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ لَكُمْ {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} فلهذا أباح التيمم. إِذَا لَمْ تَجِدُوا الْمَاءَ أَنْ تَعْدِلُوا إِلَى التيمم بالصعيد، والتيمم نعمة عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ مخصوصة بمشروعية التَّيَمُّمِ دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصحيحن عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ؛ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أدركته الصلاة فليصل»، وفي لفظ: «فعنده مسجده وطهوره، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وأعطيت الشفاعة وكان يبعث النبي إلى قومه وبعثت إلى الناس كافة» وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} أي ومن عفوه عنكم وغفرانه ولكم أن شرع لكم التَّيَمُّمَ، وَأَبَاحَ لَكُمْ فِعْلَ الصَّلَاةِ بِهِ إِذَا فَقَدْتُمِ الْمَاءَ، تَوْسِعَةً عَلَيْكُمْ وَرُخْصَةً لَكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ فِيهَا تَنْزِيهُ الصَّلَاةِ أَنْ تُفْعَلَ عَلَى هَيْئَةٍ نَاقِصَةٍ مِنْ سُكْرٍ حتى يصحوا الْمُكَلَّفُ وَيَعْقِلَ مَا يَقُولُ، أَوْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْتَسِلَ، أَوْ حَدَثٍ حَتَّى يَتَوَضَّأَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا أَوْ عَادِمًا لِلْمَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجلَّ قَدْ أَرْخَصَ فِي التَّيَمُّمِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - رَحْمَةً بِعِبَادِهِ وَرَأْفَةً بِهِمْ، وَتَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. (ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ مَشْرُوعِيَّةِ التيمم) وإنما ذكرنا ذلك ههنا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي النِّسَاءِ مُتَقَدِّمَةُ النُّزُولِ عَلَى آيَةِ الْمَائِدَةِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذِهِ نزلت قبل تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَالْخَمْرُ إِنَّمَا حُرِّمَ بَعْدَ أُحُد بيسير، فِي مُحَاصَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبني النضير، وأما المائدة فإنها من آخر مانزل وَلَا سِيَّمَا صَدْرُهَا، فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ السَّبَبُ هنا وبالله الثقة. قال البخاري عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حتى إذا كنا بالبيداء أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حبستِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ!! قَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَجَعَلَ يَطْعَنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، وَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التحرك إلا مكان رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غير ماء حين أصبح، فأنزل الله آية التيمم فتيموا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ.

(حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرَّس بذات الجيش ومعه زوجته عائشة، فَانْقَطَعَ عِقْدٌ لَهَا مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ، فَحَبَسَ الناس ابتغاء عقدها ذلك حَتَّى أَضَاءَ الْفَجْرُ وَلَيْسَ مَعَ النَّاسِ مَاءٌ، فأنزل الله على رسوله رخصة التطهير بِالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، فَقَامَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضربوا بأيديهم إِلَى الأرض ثُمَّ رفعوا أيديهم ولم ينفضوا مِنَ التُّرَابِ شَيْئًا فَمَسَحُوا بِهَا وُجُوهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ إِلَى الْمَنَاكِبِ، وَمِنْ بُطُونِ أَيْدِيهِمْ إِلَى الْآبَاطِ. (حديث آخر): قال الحافظ بن مردويه عَنْ الْأَسْلَعِ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ: كُنْتُ أرحِّل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، وَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرِّحْلَةَ، فَكَرِهْتُ أن أُرَحِّلُ نَاقَةَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جُنُبٌ، وَخَشِيتُ أَنْ أَغْتَسِلَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَأَمُوتَ أَوْ أَمْرَضَ، فَأَمَرْتُ رجُلاً مِنَ الْأَنْصَارِ فَرَحَّلَهَا، ثُمَّ رَضَفْتُ أَحْجَارًا فَأَسْخَنْتُ بِهَا مَاءً واغتسلت، ثُمَّ لَحِقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَ: «يَا أَسْلَعُ مَالِي أَرَى رحلتك قد تغيرت»، قلت يا رسول الله: ألم أُرَحِّلْهَا، رَحَّلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: "وَلِمَ؟ قالت: إِنِّي أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ فَخَشِيتُ الْقُرَّ عَلَى نَفْسِي، فَأَمَرْتُهُ أَنْ يُرَحِّلَهَا وَرَضَفْتُ أَحْجَارًا فَأَسْخَنْتُ بِهَا مَاءً فَاغْتَسَلْتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ.

- 44 - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ - 45 - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً - 46 - مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَيُعْرِضُونَ عما أنزل الله على رسوله، وَيَتْرُكُونَ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ} أَيْ يَوَدُّونَ لَوْ تَكْفُرُونَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَتَتْرُكُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ النافع {والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} أي: هو أعلم بِهِمْ وَيُحَذِّرُكُمْ مِنْهُمْ، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً} أَيْ: كَفَى بِهِ وَلَيًّا لِمَنْ لجأ إليه نصيراً لِمَنِ اسْتَنْصَرَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ} «من» في هذا لِبَيَانِ الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}، وقوله: {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} أي: يتأولونه عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَيُفَسِّرُونَهُ بِغَيْرِ مُرَادِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ قَصْدًا مِنْهُمْ وَافْتِرَاءً، {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا} أي: سَمْعَنَا مَا قُلْتَهُ يَا مُحَمَّدُ، وَلَا نُطِيعُكَ فيه ... هكذا فسره مجاهد وهو المراد، وهذا أبلغ في كفرهم وعنادهم، وأنهم يتولون عن كتاب الله بعدما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ من الإثم والعقوبة. وقولهم: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} أَيْ: اسْمَعْ مَا نَقُولُ لا سمعت، رواه ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: وَاسْمَعْ

غَيْرَ مَقْبُولٍ مِنْكَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَهَذَا اسْتِهْزَاءٌ مِنْهُمْ واستهتار، عليهم لعنة الله {وَرَاعِنَا ليَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ} أَيْ: يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ رَاعِنَا سَمْعَكَ بِقَوْلِهِمْ رَاعَنَا، وإنما يريدون الرعونة بسبهم النبي، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وقولا انظرنا}، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بِكَلَامِهِمْ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَهُ: ليَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ} يَعْنِي: بِسَبِّهِمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أَيْ: قُلُوبُهُمْ مَطْرُودَةٌ عَنِ الْخَيْرِ مُبْعَدَةٌ مِنْهُ فَلَا يَدْخُلُهَا مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ نَافِعٌ لَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ على قوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ}، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِيمَانًا نَافِعًا.

- 47 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا - 48 - إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا يأمر الله تعالى أهل الكتاب بالإيمان بِمَا نُزِّلَ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَظِيمِ، الَّذِي فِيهِ تَصْدِيقُ الْأَخْبَارِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ من البشارات، ومتهدداً لهم إن لم يفعلوا بقوله: {ومن قبل أن نطمس وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وجوها، فطمسها هُوَ رَدُّهَا إِلَى الْأَدْبَارِ وَجَعْلُ أَبْصَارِهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَبْلِ أن نطمس وجوها فلا نبقي لها سمعاً ولا بصراً ولا أنفاً، ومع ذلك نردها إلى ناحية الأدبار، وقال ابن عباس: طمسها أَنْ تَعْمَى {فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ} يَقُولُ: نَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ مِنْ قِبَلِ أَقَفِيَتِهِمْ فَيَمْشُونَ الْقَهْقَرَى، وَنَجْعَلُ لأحدهم عينين من قفاه، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ، وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي صَرْفِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَرَدِّهِمْ إِلَى الْبَاطِلِ، وَرُجُوعِهِمْ عَنِ الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ إلى سبيل الضَّلَالَةِ يَهْرَعُونَ وَيَمْشُونَ الْقَهْقَرَى عَلَى أَدْبَارِهِمْ، وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلَالًا فهي إلا الْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سداً} الآية: أي هَذَا مَثَلُ سُوءٍ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ وَمَنْعِهِمْ عَنِ الْهُدَى، قَالَ مُجَاهِدٌ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَّطْمِسَ وُجُوهاً} يَقُولُ عَنْ صِرَاطِ الحق {فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} أي في الضلال، قَالَ السُّدِّيُّ: {فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ} فَنَمْنَعَهَا عَنِ الحق، قال: نرجعها كفاراً ونردهم قردة. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ أَسْلَمَ حِينَ سمع هذه الآية. قَالَ ابن جرير عَنْ عِيسَى بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ إِسْلَامَ كَعْبٍ، فَقَالَ: أَسْلَمَ كَعْبٌ زَمَانَ عُمَرَ، أَقْبَلَ وَهُوَ يُرِيدُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَمَرَّ عَلَى الْمَدِينَةِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا كعب أسلم فقال: ألستم تقولون في كتابكم: {مَثَلُ الذين حملوا التوراة - إلى أَسْفَارًا}، وَأَنَا قَدْ حَمَلْتُ التَّوْرَاةَ، قَالَ: فَتَرَكَهُ عُمَرُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى حِمْصَ فَسَمِعَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِهَا حَزِينًا، وَهُوَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ} الْآيَةَ. قَالَ كعب: يَا رَبُّ أَسْلَمْتُ مَخَافَةَ أَنْ تُصِيبَهُ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَتَى أَهْلَهُ فِي الْيَمَنِ، ثم جاء بهم مسلمين.

وقوله تعالى: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ} يَعْنِي: اعْتَدَوْا فِي سَبْتِهِمْ بِالْحِيلَةِ عَلَى الِاصْطِيَادِ وَقَدْ مسخوا قردة وخنازير، وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} أَيْ: إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ فَإِنَّهُ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانِعُ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ أَيْ لَا يَغْفِرُ لِعَبْدٍ لَقِيَهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ، أي من الذنوب، لم يَشَآءُ: أَيْ مِنْ عِبَادِهِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا مَا تيسر. (الحديث الأول): عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الظُّلْمُ ثَلَاثَةٌ، فَظُلْمٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَظُلْمٌ يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَظُلْمٌ لا يترك الله منه شيئاً. فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّرْكُ، وقال: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عظيم}، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ لِأَنْفُسِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يَتْرُكُهُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا حتى يدين لبعضهم من بعض" (رواه الشيخان) (الحديث الثاني): عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ قَالَ، سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَن يَغْفِرَهُ إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً» (الحديث الثالث): عن أبي ذر أن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ. قُلْتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وَإِنْ سَرَقَ. قُلْتُ: وَإِنَّ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنَّ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ - ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ"، قَالَ فَخَرَجَ أَبُو ذَرٍّ وَهُوَ يَجُرُّ إِزَارَهُ وَهُوَ يَقُولُ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ بِهَذَا بَعْدُ ويقول: وإن رغم أنف أبي ذر (رواه الشيخان) وعن أبي ذر قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ عِشَاءً وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَى أُحُدٍ، فقال: "يا أبا ذر! قلت: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي أُحُدًا ذَاكَ عِنْدِي ذَهَبًا أُمْسِي ثَالِثَةً وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلَّا دِينَارًا أَرْصُدُهُ، يَعْنِي لِدَيْنٍ، إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عباد الله هكذا وهكذا» فحثا عن يمينه وعن يساره وبين يديه، قَالَ ثُمَّ مَشَيْنَا فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمُ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا من قال هكذا وَهَكَذَا»، فَحَثَا عَنْ يَمِينِهِ وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، قَالَ: ثُمَّ مَشَيْنَا فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ كَمَا أَنْتَ حَتَّى آتِيَكَ»، قَالَ: فانطلق حتى تورى عَنِّي، قَالَ: فَسَمِعْتُ لَغَطًا، فَقُلْتُ: لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ لَهُ، قال: فهممت أن أتبعه، قال: فذكرت قَوْلَهُ لَا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى جَاءَ، فَذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي سَمِعْتُ، فَقَالَ: "ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِي، فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخْلَ الْجَنَّةَ". قُلْتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق» (رواه أحمد والشيخان) (الحديث الرابع): عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُوَجِبَتَانِ؟ قَالَ: «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَجَبَتْ لَهُ النار». (الحديث الخامس): قال الإمام أحمد، عن ضمضم بن جوش الْيَمَامِيِّ قَالَ، قَالَ لِي أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا يمامي! لا تقولن لرجل لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ الجنة أبداً، فقلت: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا أحدنا لأخيه

وَصَاحِبِهِ إِذَا غَضِبَ، قَالَ: لَا تَقُلْهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "كان في بني إسرائيل رجلان أحدهما مجتهد فِي الْعِبَادَةِ، وَكَانَ الْآخَرُ مُسْرِفًا عَلَى نَفْسِهِ، وَكَانَا مُتَآخِيَيْنِ، وَكَانَ الْمُجْتَهِدُ لَا يَزَالُ يَرَى الآخر على الذنب فَيَقُولُ: يَا هَذَا أَقْصِرْ، فَيَقُولُ: خلِّني وَرَبِّي أبعثت عليّ رقيباً؟ إِلَى أَنْ رَآهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ اسْتَعْظَمَهُ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ أَقْصِرْ، قَالَ: خلِّني وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عليَّ رَقِيبًا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ الله لك ولا يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ أَبَدًا، قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمَا مَلَكًا فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا وَاجْتَمَعَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَكُنْتَ عَالِمًا أَكُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟ اذهبوا به إلى النار. قال: والذي نفس أبي القاسم بيده إنه لتكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته".

- 49 - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً - 50 - انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِينًا - 51 - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً - 52 - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَّصِيراً قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ - وَهِيَ قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} - فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حِينَ قَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وأحباؤه، وفي قولهم {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أو نصارى}، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يُقَدِّمُونَ الصِّبْيَانَ أَمَامَهُمْ فِي الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنوب لهم، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: إن أبناءنا توفوا وهم لنا قربة ويشفعون لنا ويزكوننا، فأنزل الله على محمد: {أم تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} الآية. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَالُوا لَيْسَ لَنَا ذُنُوبٌ كَمَا ليس لأبنائنا ذنوب، فأنزل اللَّهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} فِيهِمْ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ذَمِّ التَّمَادُحِ وَالتَّزْكِيَةِ؛ وفي صحيح مُسْلِمٍ عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نحثوا في وجوه المداحين التراب، وفي الصحيحين عن عبد الله بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ: «وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ» ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا صَاحِبَهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسَبُهُ كَذَا وَلَا يزكي على الله أحداً"، وروى ابن مردويه عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ إِعْجَابُ الْمَرْءِ بِرَأْيِهِ، فَمَنْ قَالَ إنه مُؤْمِنٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ قَالَ هُوَ عَالَمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَمَنْ قَالَ هُوَ فِي الْجَنَّةِ فهو في النار، وقال الإمام أحمد عَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ قَلَّمَا كان يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: وكان قلما يكاد يَدَعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِنَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوٌ خَضِرٌ، فمن يأخذه بحقه يبارك فيه، وإياكم والتمادح فإنه الذبح» وقال ابن جرير قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الرَّجُلَ ليغدوا بِدِينِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ وَمَا مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ يلقى الرجل ليس يملك له ضراً ولا نفعاً فيقول له إنك والله كيت وكيت فلعله أن يرجع ولم يحظ مِنْ حَاجَتِهِ بِشَيْءٍ وَقَدْ أَسْخَطَ اللَّهَ ثُمَّ قَرَأَ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} الآية ولهذا قال

تَعَالَى: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ} أَيْ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ لأنه أعلم بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَغَوَامِضِهَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أَيْ وَلَا يُتْرَكُ لِأَحَدٍ مِنَ لأجر مَا يُوَازِنُ مِقْدَارَ الْفَتِيلِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هو ما يكون في شق النواة. وقوله تعالى: {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} أَيْ فِي تَزْكِيَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَقَوْلِهِمْ: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أو نصارى}، وقولهم: {لن تمسنا النار إلا أياما معدودات}، وَاتِّكَالِهِمْ عَلَى أَعْمَالِ آبَائِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْآبَاءِ لَا تُجْزِي عَنِ الْأَبْنَاءِ شَيْئًا فِي قَوْلِهِ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} الآية، ثُمَّ قَالَ: {وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً} أَيْ وكفى بصنيعهم هَذَا كَذِبًا وَافْتِرَاءً ظَاهِرًا. وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}. أَمَّا الجبت فقال عمر بن الخطاب: (الجبتْ) السِّحْرُ، وَ (الطَّاغُوتُ) الشَّيْطَانُ، وَهَكَذَا رُوِيَ عن ابن عباس ومجاهد. وعن ابن عباس وأبي العالية: (الجبت) الشيطان، وعنه: الجبت الأصنام. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْجِبْتُ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ. وَقَالَ الجوهري في كتاب الصِّحَاحِ: الْجِبْتُ كَلِمَةٌ تَقَعُ عَلَى الصَّنَمِ وَالْكَاهِنِ وَالسَّاحِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الطِّيَرَةُ وَالْعِيَافَةُ والطرق من الجبت». وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الطَّاغُوتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ههنا. وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً} أَيْ يُفَضِّلُونَ الْكَفَّارَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِجَهْلِهِمْ، وَقِلَّةِ دِينِهِمْ، وَكَفْرِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ الَّذِي بأيديهم، وقد روى ابن أبي حاتم عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: جَاءَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالُوا لَهُمْ: أَنْتُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ فَأَخْبِرُونَا عَنَّا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ، فَقَالُوا: مَا أَنْتُمْ وَمَا مُحَمَّدٌ؟ فَقَالُوا نَحْنُ نَصِلُ الْأَرْحَامَ، وَنَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العاني، وَنَسْقِي الْحَجِيجَ، وَمُحَمَّدٌ صُنْبُورٌ قَطَّعَ أَرْحَامَنَا وَاتَّبَعَهُ سراق الحجيج من غِفَارٍ فَنَحْنُ خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ فَقَالُوا: أَنْتُمْ خَيْرٌ وَأَهْدَى سَبِيلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً} الآية. وقال الإمام أحمد عن ابن عباس لَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: أَلَا تَرَى هَذَا الصُّنْبُورَ الْمُنْبَتِرَ مِنْ قَوْمِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا، وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَجِيجِ وَأَهْلُ السِّدَانَةِ، وَأَهْلُ السِّقَايَةِ، قَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ، قَالَ: فَنَزَلَتْ: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} وَنَزَلَ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} إِلَى قَوْلِهِ عزَّ وجلَّ {وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيمًا}، وَهَذَا لَعْنٌ لَهُمْ وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا ذَهَبُوا يَسْتَنْصِرُونَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا قَالُوا لَهُمْ ذَلِكَ لِيَسْتَمِيلُوهُمْ إِلَى نُصْرَتِهِمْ، وَقَدْ أَجَابُوهُمْ وَجَاءُوا مَعَهُمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ حَتَّى حَفَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ الْخَنْدَقَ فَكَفَى اللَّهُ شَرَّهُمْ، {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عزيزاً}.

- 53 - أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً - 54 - أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً - 55 - فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً

يَقُولُ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ} وهذا استفهام إنكاري أَيْ لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِالْبُخْلِ فَقَالَ: {فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} أَيْ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ فِي الْمُلْكِ وَالتَّصَرُّفِ لَمَا أَعْطَوْا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، وَلَا مَا يَمْلَأُ النَّقِيرَ وَهُوَ النُّقْطَةُ الَّتِي فِي النَّوَاةِ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرِينَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق} أَيْ خَوْفَ أَنْ يَذْهَبَ مَا بِأَيْدِيكُمْ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَتَصَوَّرُ نَفَادُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بخلكم وشحكم، ولهذا قال تعالى: {وَكَانَ الإنسان قَتُوراً} أَيْ بَخِيلًا. ثُمَّ قَالَ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} يَعْنِي بِذَلِكَ حَسَدَهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا رَزَقَهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَمَنَعَهَمْ مِنْ تَصْدِيقِهِمْ إِيَّاهُ حَسَدُهُمْ لَهُ لِكَوْنِهِ من العرب وليس من بني إسرائيل، {فقد آتينا آل إبراهم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} أَيْ فَقَدْ جَعَلْنَا فِي أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ النُّبُوَّةَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ، وحكموا فيهم بالسنن وهي الحكمة وجعلنا منهم الْمُلُوكَ، وَمَعَ هَذَا {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ} أَيْ بِهَذَا الْإِيتَاءِ وَهَذَا الْإِنْعَامِ {وَمِنْهُمْ مَّن صدَّ عَنْهُ} أَيْ كَفَرَ بِهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ وَسَعَى فِي صَدِّ النَّاسِ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْهُمْ وَمِنْ جِنْسِهِمْ أَيْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ بِكَ يَا مُحَمَّدُ وَلَسْتَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} أَيْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} فَالْكَفَرَةُ مِنْهُمْ أَشَدُّ تَكْذِيبًا لَكَ، وَأَبْعَدُ عَمَّا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْهُدَى، وَالْحَقِّ الْمُبِينِ وَلِهَذَا قَالَ مُتَوَعِّدًا لَهُمْ: {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} أَيْ وَكَفَى بِالنَّارِ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ كُتُبَ الله ورسله.

- 56 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا - 57 - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا يُعَاقِبُ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ مَنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ وَصَدَّ عَنْ رُسُلِهِ، فَقَالَ: {إِنَّ الذين كفروا بِآيَاتِنَا} الْآيَةَ، أَيْ نُدْخِلُهُمْ نَارًا دُخُولًا يُحِيطُ بِجَمِيعِ أَجْرَامِهِمْ وَأَجْزَائِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ دَوَامِ عُقُوبَتِهِمْ وَنَكَالِهِمْ فَقَالَ: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} قَالَ الْأَعْمَشُ عَنِ ابْنِ عمر: إذا احترقت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها بيضاً أمثال القراطيس، وعن الحسن قوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} الْآيَةَ قَالَ: تُنْضِجُهُمْ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ أَلْفَ مرة، ثم قيل لهم: عودوا فعادوا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ عُمَرَ هَذِهِ الْآيَةَ: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} فَقَالَ عُمَرُ: أَعِدْهَا عليَّ، فَأَعَادَهَا، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: عِنْدِي تَفْسِيرُهَا، تُبَدَّلُ فِي سَاعَةٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، فَقَالَ عُمَرُ: هَكَذَا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ) وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ جِلْدَ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَسِنَّهُ سبعون ذِرَاعًا، وَبَطْنَهُ لَوْ وُضِعَ فِيهِ جَبَلٌ لَوَسِعَهُ،

فَإِذَا أَكَلَتِ النَّارُ جُلُودَهُمْ بُدِّلُوا جُلُودًا غَيْرَهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مَا هُوَ أَبْلَغُ من هذا، قال الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَعْظُمُ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ حَتَّى إِنَّ بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِ أَحَدِهِمْ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةَ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ، وَإِنَّ غِلَظَ جِلْدِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَإِنَّ ضِرْسَهُ مِثْلُ أُحُدٍ». وقوله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً}، هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ مَآلِ السُّعَدَاءِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا الْأَنْهَارُ فِي جَمِيعِ فِجَاجِهَا، ومحالها وأرجائها حيث شاءوا وَأَيْنَ أَرَادُوا، وَهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا لَا يُحَوَّلُونَ وَلَا يَزُولُونَ وَلَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا. وَقَوْلُهُ: {لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} أَيْ مِنَ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالْأَذَى، وَالْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَالصِّفَاتِ النَّاقِصَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْأَقْذَارِ والأذى. وقال مجاهد: مطهرة من البول والحيض النخام وَالْبُزَاقِ وَالْمَنِيِّ وَالْوَلَدِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْأَذَى وَالْمَآثِمِ، وَلَا حَيْضَ وَلَا كَلَفَ. وَقَوْلُهُ: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظليلاُ} أَيْ ظَلَّا عَمِيقًا كَثِيرًا غزيراً طيباً أنيقاً، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يقطعها - شجرة الخلد» (رواه ابن جرير وأخرجه الشيخان بنحوه)

- 58 - إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ الله كَانَ سميعا بصيرا يخبر الله تَعَالَى أَنَّهُ يَأْمُرُ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وفي الحديث: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخنمن خانك» (رواه أحمد وأصحاب السنن) وهو يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَمَانَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ، مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الصلاة والزكاة والصيام والكفارات النذور وغير ذلك، ما هُوَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ، وَمِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، كَالْوَدَائِعِ وغير ذلك مما يأتمون به مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعِ بَيِّنَةٍ عَلَى ذَلِكَ فَأَمَرَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ بِأَدَائِهَا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا حَتَّى يُقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ»، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ الشَّهَادَةَ تُكَفِّرُ كُلَّ ذَنْبٍ إِلَّا الْأَمَانَةَ، يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقَالُ: أَدِّ أَمَانَتَكَ، فَيَقُولُ: فأنَّى أُؤَدِّيهَا وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ فَتُمَثَّلُ لَهُ الْأَمَانَةُ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ فَيَهْوِي إِلَيْهَا فَيَحْمِلُهَا عَلَى عاتقه فَتَنْزِلُ عَنْ عَاتِقِهِ فَيَهْوِي عَلَى أَثَرِهَا أَبَدَ الآبدين (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً) قال أَبُو الْعَالِيَةِ: الْأَمَانَةُ مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عنه. وروى ابن أبي حاتم عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ، قَالَ (أُبيّ بْنُ كَعْبٍ): من الأمانات أَنَّ الْمَرْأَةَ ائْتُمِنَتْ عَلَى فَرْجِهَا، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هِيَ مِنَ الْأَمَانَاتِ فِيمَا بَيْنَكَ وبين الناس. وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ (عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ) حَاجِبُ الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الَّذِي صَارْتِ الْحِجَابَةُ فِي نَسْلِهِ إِلَى الْيَوْمِ، أَسْلَمَ عُثْمَانُ هَذَا فِي الْهُدْنَةِ بَيْنَ

صُلْحِ الحُدَيبية وَفْتُحِ مَكَّةَ هُوَ وَخَالِدُ بْنُ الوليد وعمرو بن العاص. وَسَبَبُ نُزُولِهَا فِيهِ لَمَّا أَخَذَ مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بن إسحاق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَاطْمَأَنَّ النَّاسُ خَرَجَ حَتَّى جاء إلى الْبَيْتَ فَطَافَ بِهِ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ فِي يَدِهِ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافَهُ دَعَا (عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ) فَأَخْذَ مِنْهُ مِفْتَاحَ الكعبة ففتحت له فدخلها، وفوجد فِيهَا حَمَامَةً مِنْ عِيدَانٍ فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ ثُمَّ طَرَحَهَا، ثُمَّ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدِ استكن له الناس في المسجد فَقَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأحزاب وحده، أن كُلُّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدْعَى فَهُوَ تَحْتَ قدميَّ هَاتَيْنِ، إِلَّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجِّ» وَذَكَرَ بقيِّة الْحَدِيثِ فِي خُطْبَةِ النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ إلىأن قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ إِلَيْهِ (عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السِّقَايَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ»؟ فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: «هَاكَ مِفْتَاحَكَ يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ». قال ابن جرير: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، قَبَضَ مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاحَ الكعبة فدخل في الْبَيْتَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} الآية، فدعا عثمان إليه فدفع إليه المفتاح، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَعْبَةِ وهو يتلو هَذِهِ الْآيَةَ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فِدَاهُ أَبِي وَأُمِّي مَا سَمِعْتُهُ يَتْلُوهَا قَبْلَ ذلك. وَهَذَا مِنَ الْمَشْهُورَاتِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ في ذلك، وسواء كانت فِي ذَلِكَ أَوْ لَا فَحَكَمُهَا عَامٌّ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، أَيْ هِيَ أَمْرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} أَمْرٌ مِنْهُ تَعَالَى بِالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ بَيْنَ الناس، ولهذا قال زيد بن أسلم: أن هذه الآية: إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْأُمَرَاءِ يَعْنِي الْحُكَّامِ بَيْنَ النَّاسِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِ اللَّهَ مَعَ الْحَاكِمِ مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ»، وَفِي الْأَثَرِ: «عَدْلُ يَوْمٍ كَعِبَادَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً»، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ نعمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} أَيْ يَأْمُرُكُمْ بِهِ مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوَامِرِهِ وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة، وقوله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} سميعاً لأقوالكم، بصيراً بأفعالكم.

- 59 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً قال البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، قَالَ نَزَلَتْ: فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ إِذْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية، وقال الإمام أحمد عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رجُلاً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا خَرَجُوا وَجَدَ عَلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ قَالَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَكُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم إن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لِي حَطَبًا - ثُمَّ دَعَا بِنَارٍ فَأَضْرَمَهَا فِيهِ، ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها، قَالَ، فَقَالَ لَهُمْ شَابٌّ مِنْهُمْ: إِنَّمَا فَرَرْتُمْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنَ النَّارِ، فَلَا تَعْجَلُوا حَتَّى تَلْقَوْا

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أَمَرَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوهَا فَادْخُلُوهَا، قَالَ: فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: «لَوْ دَخَلْتُمُوهَا مَا خَرَجْتُمْ مِنْهَا أبداً، إنما الطاعة في المعروف». وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سمع ولا طاعة» (رواه أبو داود) وعن عبادة ابن الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، قَالَ: «إِلاَّ أَن تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ» (رواه البخاري ومسلم) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنَّ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ وَإِنْ كان عبداً حبشياً مجدوع الأطراف». رواه مسلم وروى ابن جرير عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «سيليكم ولاة بعدي فيليكم البر ببره، والفاجر بِفُجُورِهِ، فَاسْمَعُوا لَهُمْ وَأَطِيعُوا فِي كُلِّ مَا وَافَقَ الْحَقَّ، وَصَلُّوا وَرَاءَهُمْ، فَإِنْ أَحْسَنُوا فَلَكُمْ ولهم، وإن أساءوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «كانت بنوا إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ». قَالُوا، يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَأَعْطَوْهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» أَخْرَجَاهُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "من رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً} أَخْرَجَاهُ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر فنزلنا منزلاً فما مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا من هو في جشره (أصل الجشر: الدواب ترعى في مكان وتبيت فيه اهـ) إذا نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ! فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يكن نبي من قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شر ما يعلمه لهم، وإن هذه الأمة جعلت عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ ينكرونها، وتجيء فتن يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر، وليأتي إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ فؤاده فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ، قَالَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَنْتَ؟؟ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَأَهْوَى إِلَى أذنيه وقلبه بيده وَقَالَ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أموالنا بيننا بالباطل،

ويقتل بعضاً بعضاً، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رحيماً} قَالَ فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَالْأَحَادِيثُ في هذا كثيرة. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} يَعْنِي أَهَّلَ الفقه والدين، وكذا قال مجاهد وعطاء {وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} يَعْنِي الْعُلَمَاءُ، وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أعلم - أنها عامة في كل أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، وقال تَعَالَى: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ}، وفي الحديث الصحيح المتفق على صحته عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدَ عَصَا اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عصا أمير فَقَدْ عَصَانِي»، فَهَذِهِ أَوَامِرٌ بِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُواْ اللَّهَ} أَيْ اتَّبِعُوا كِتَابَهُ، {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} أَيْ خُذُوا بِسُنَّتِهِ، {وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} أَيْ فِيمَا أَمَرُوكُمْ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ لَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المعروف». وقال الإمام أحمد عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ» وَقَوْلُهُ: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرسول} قال مجاهد: أَيْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسَنَةِ رَسُولِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ أَنْ يَرُدَّ التَّنَازُعَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله}، فما حكم به الكتاب والسنّة وَشَهِدَا لَهُ بِالصِّحَّةِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلَالُ؟ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أَيْ رَدُّوا الْخُصُومَاتِ وَالْجَهَالَاتِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وسنَّة رَسُولِهِ، فَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِمَا فِيمَا شَجَرَ بَيْنَكُمْ {إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ من لم يتحاكم في محل النِّزَاعِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَرْجِعْ إِلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ خَيْرٌ} أَيِ التَّحَاكُمُ إِلَى كتاب الله وسنة رسوله، والرجوع إليهما في فصل النزاع خَيْرٌ {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، أَيْ وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمَآلًا كما قاله السدي وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَأَحْسَنُ جَزَاءً، وَهُوَ قَرِيبٌ.

- 60 - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا - 61 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً - 62 - فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أيديهم ثُمَّ جَاؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقًا - 63 - أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً هَذَا إِنْكَارٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَلَى مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ الأقدمين، وهو مع

ذلك يريد أن يتحاكم فِي فَصْلِ الْخُصُومَاتِ إِلَى غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، كَمَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ تَخَاصَمَا، فَجَعَلَ الْيَهُودِيُّ يَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ مُحَمَّدٌ، وَذَاكَ يَقُولُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ (كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ) وَقِيلَ: فِي جَمَاعَةٍ مِنَ المنافقين ممن أظهر الْإِسْلَامَ، أَرَادُوا أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى حُكَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْآيَةُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنَّهَا ذَامَّةٌ لِمَنْ عَدَلَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَحَاكَمُوا إِلَى مَا سِوَاهُمَا مِنَ الْبَاطِلِ وهو المراد بالطاغوت هنا، وَلِهَذَا قَالَ: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} إلى آخرها، وقوله: {ويصدون عَنكَ صُدُوداً} أَيْ يُعْرِضُونَ عَنْكَ إِعْرَاضًا كَالْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّ الْمُنَافِقِينَ: {فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أَيْ فَكَيْفَ بِهِمْ إِذَا سَاقَتْهُمُ الْمَقَادِيرُ إِلَيْكَ فِي مَصَائِبَ تَطْرُقُهُمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ، وَاحْتَاجُوا إِلَيْكَ فِي ذلك؟ {ثم جاؤك يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} أَيْ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكَ وَيَحْلِفُونَ مَا أَرَدْنَا بِذَهَابِنَا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى أعدائك إِلَّا الْإِحْسَانَ وَالتَّوْفِيقَ أَيِ الْمُدَارَاةَ وَالْمُصَانَعَةَ لَا اعتقاداً منا صحة تلك الحكومة، كما في قوله تَعَالَى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ}، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ (أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ) كَاهِنًا يَقْضِي بَيْنَ الْيَهُودِ فِيمَا يَتَنَافَرُونَ فيه، فتنافر إليه ناس من المشركين فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ - إِلَى قَوْلِهِ - إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} (رواه الطبراني). ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} هَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فَاكْتَفِ بِهِ يا محمد فيهم فإنه عَالِمٌ بِظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أَيْ لَا تُعَنِّفْهُمْ عَلَى مَا فِي قلوبهم، {وَعِظْهُمْ} أي وانههم عما فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ وَسَرَائِرِ الشَّرِّ، {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} أَيْ وَانْصَحْهُمْ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ رَادِعٍ لَهُمْ

- 64 - وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً - 65 - فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ} أَيْ فُرِضَتْ طَاعَتُهُ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ: {بِإِذْنِ اللَّهِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لَا يطيع أحد إلى بإذني، يعني لا يطيعه إِلَّا مَنْ وَفَّقْتُهُ لِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تحسونه بإذنه} أَيْ عَنْ أَمْرِهِ وَقَدْرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَتَسْلِيطِهِ إِيَّاكُمْ عليهم، وقوله: {ولو أنهم إذا ظلموا أَنْفُسَهُمْ} الآية، يُرْشِدُ تَعَالَى الْعُصَاةَ وَالْمُذْنِبِينَ إِذَا وَقَعَ مِنْهُمُ الْخَطَأُ وَالْعِصْيَانُ أَنْ يَأْتُوا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسْتَغْفِرُوا اللَّهَ عِنْدَهُ وَيَسْأَلُوهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ وَغَفَرَ لَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَوَجَدُواْ اللَّهَ

تَوَّاباً رَّحِيماً} وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أبو منصور الصَّبَّاغِ فِي كِتَابِهِ «الشَّامِلِ» الْحِكَايَةَ الْمَشْهُورَةَ عَنْ الْعُتْبِيِّ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْتُ اللَّهَ يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} وَقَدْ جِئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا لِذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِكَ إِلَى رَبِّي، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ * فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ نَفْسِي الْفِدَاءُ لقبرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ * فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ ثُمَّ انْصَرَفَ الأعرابي، فغلبنتي عَيْنِي فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَقَالَ: «يَا عُتْبِيُّ الْحَقِ الْأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ». وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}، يُقْسِمُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ الْمُقَدَّسَةِ، أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ حَتَّى يُحَكِّمَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، فَمَا حَكَمَ بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ الِانْقِيَادُ لَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} أَيْ إِذَا حَكَّمُوكَ يُطِيعُونَكَ فِي بَوَاطِنِهِمْ، فَلَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا حَكَمْتَ بِهِ، وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَيُسَلِّمُونَ لِذَلِكَ تَسْلِيمًا كُلِّيًّا، مِنْ غَيْرِ مُمَانِعَةٍ وَلَا مُدَافِعَةٍ وَلَا مُنَازِعَةٍ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتى يكون هواه تباً لما جئت به»، وقال البخاري عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا فِي شراج الحرة، فقال النبي «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ» فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فتلوَّن وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الجَدْر ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ»؟؟ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ حِينَ أَحْفَظَهُ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ أشار عليهما صلى الله عليه وسلم بِأَمْرٍ لَهُمَا فِيهِ سَعَةٌ، قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلاَّ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بينهمْ الْآيَةَ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى لِلزُّبَيْرِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّمَا قَضَى لَهُ لِأَنَّهُ ابْنُ عَمَّتِهِ فَنَزَلَتْ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} الآية.

- 66 - وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً - 67 - وَإِذاً لأَتَيْنَاهُم مِّن لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا - 68 - وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً - 69 - وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً - 70 - ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ أَنَّهُمْ لَوْ أُمِرُوا بِمَا هم مرتكبوه مِنَ الْمَنَاهِي لَمَا فَعَلُوهُ، لَأَنَّ طِبَاعَهُمُ الرَّدِيئَةَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَهَذَا مِنْ عِلْمِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمَا لَمْ يَكُنْ أَوْ كَانَ فَكَيْفَ كَانَ يَكُونُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ

أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةَ، قال ابن جرير {وَلَوْ أنها كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةَ، قَالَ رَجُلٌ: لَوْ أُمِرْنَا لَفَعَلْنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي لَرِجَالًا الْإِيمَانُ أثبت في قلوبهم من الجبال الرواس»، وَقَالَ السُّدِّيُّ: افْتَخَرَ (ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ) بْنِ شَمَّاسٍ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْقَتْلَ فَقَتَلْنَا أَنْفُسَنَا، فَقَالَ ثَابِتٌ: وَاللَّهِ لَوْ كَتَبَ عَلَيْنَا {أَنِ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ} لفعلنا، فأنزل الله هذه الآية. قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} أَيْ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ وَتَرَكُوا مَا يُنْهَوْنَ عَنْهُ، {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} أَيْ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَارْتِكَابِ النَّهْيِ {وأشد تثيبتاً} قال السدي: أي وأشد تصديقاً، {وغذا لأَتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّآ} أَيْ مِنْ عِنْدِنَا {أَجْراً عَظِيماً} يعني الجنة، {ولهدذناهم صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} أَيْ من عمل بما أمره الله به وَرَسُولُهُ وَتَرَكَ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجلَّ يُسْكِنُهُ دَارَ كَرَامَتِهِ، وَيَجْعَلُهُ مُرَافِقًا لِلْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ لِمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الرُّتْبَةِ، وَهُمُ الصِّدِّيقُونَ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ، ثُمَّ عُمُومُ المؤمنين، وهم الصالحون الذي صَلُحَتْ سَرَائِرُهُمْ وَعَلَانِيَتُهُمْ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِمْ تَعَالَى، فقال: {حسن أولئك رَفِيقاً} وقال البخاري عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمْرَضُ إِلَّا خيِّر بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»، وَكَانَ في شكواه التي قبض فيها أخذته بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} فعلمت أنه خُيِّر. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الآخر: «اللهم الرَّفِيقِ الْأَعْلَى» ثَلَاثًا ثُمَّ قَضَى، عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ. (ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الكريمة) روى ابن جرير عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَحْزُونٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا فلان مالي أراك محزوناً»؟ فقال: يا نبي الله شيء فكرت فيه، فقال ما هو؟ قال: نحن نغدوا وَنَرُوحُ نَنْظُرُ إِلَى وَجْهِكَ وَنُجَالِسُكَ، وَغَدًا تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ، فَلَا نَصِلُ إِلَيْكَ، فَلَمْ يَرُدَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النبيين} الآية، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَشَّرَهُ وعن عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ لَأَحَبُّ إليَّ مِنْ نَفْسِي، وَأَحَبُّ إليَّ مِنْ أَهْلِي، وَأَحَبُّ إليَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لَأَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَكَ فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتَكَ عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دخلتَ الْجَنَّةَ رفعتَ مَعَ النبييّن، وإن دخلتُ الجنة خشيت أن لا أَرَاكَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}. وثبت في صحيح مسلم عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوُضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: سَلْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟» قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» وقال الإمام أحمد عن عمروا بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ؛ وَصَلَّيْتُ الْخَمْسَ، وَأَدَّيْتُ زكاة

مَالِي وَصُمْتُ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ عَلَى ذلك كَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَكَذَا - وَنَصَبَ أُصْبُعَيْهِ - مَا لَمْ يعقَّ وَالِدَيْهِ» تفرد به أحمد. وروى الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مع النبيين والصديقين والشهدآء» وقد ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متوترة عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ، فَقَالَ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ». قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ فَرَحَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أنس أنه قال: إني لأحب رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُحِبُّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وأرجوا أن الله يبعثني معهم، وإن لم أعمل كعملهم. قال الإمام مالك بن أَنس عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا تراءون الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: «بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وصدَّقوا الْمُرْسَلِينَ» (أخرجه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم) قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} أَيْ من عند الله برحمته، وهو الَّذِي أَهَّلَهُمْ لِذَلِكَ لَا بِأَعْمَالِهِمْ، {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ والتوفيق.

- 71 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً - 72 - وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيدًا - 73 - وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا - 74 - فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً يَأْمُرُ اللَّهُ تعالى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّأَهُّبَ لَهُمْ بِإِعْدَادِ الْأَسْلِحَةِ والعُدَدْ وَتَكْثِيرِ العدد بالنفير في سبيل الله، {ثباتٍ} أَيْ جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ، وَفِرْقَةً بَعْدَ فِرْقَةٍ، وَسَرِيَّةً بَعْدَ سَرِيَّةٍ، وَالثُّبَاتُ: جَمْعُ ثُبَةٍ وقد تجمع الثبة على ثبين، قال ابن عباس: يَعْنِي سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} يَعْنِي كلكم. وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} قال مجاهد نزلت في المنافقين لَّيُبَطِّئَنَّ أَيْ لَيَتَخَلَّفَنَّ عَنِ الْجِهَادِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون المراد أن يتباطأ هو في نفسه، ويبطىء غَيْرَهُ عَنِ الْجِهَادِ، كَمَا كَانَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي بْنِ سَلُولٍ) قَبَّحَهُ اللَّهُ يَفْعَلُ، يَتَأَخَّرُ عَنِ الْجِهَادِ وَيُثَبِّطُ النَّاسَ عَنِ الْخُرُوجِ فِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ وَابْنِ جَرِيرٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمُنَافِقِ أَنَّهُ يَقُولُ إِذَا تَأَخَّرَ عَنِ الْجِهَادِ {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ} أَيْ قَتْلٌ وَشَهَادَةٌ وَغَلَبُ الْعَدُوِّ لَكُمْ لِمَا لِلَّهِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عليَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً} أي إذا لَمْ أَحْضُرْ مَعَهُمْ وَقْعَةَ الْقِتَالِ، يَعُدُّ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَدْرِ مَا فَاتَهُ مِنَ الْأَجْرِ فِي الصَّبْرِ أَوِ الشَّهَادَةِ إِنْ قُتِلَ، {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} أَيْ نَصْرٌ وَظَفَرٌ وَغَنِيمَةٌ {لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بينك وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} أَيْ كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ {يَا لَيْتَنِي

كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} أَيْ بِأَنْ يُضْرَبَ لِي بِسَهْمٍ مَعَهُمْ فَأَحْصُلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَكْبَرُ قَصْدِهِ وَغَايَةُ مُرَادِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَلْيُقَاتِلْ} أَيِ الْمُؤْمِنُ النَّافِرُ {فِي سَبِيلِ اللَّهِ الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة} أي بيعون دِينَهُمْ بِعَرَضٍ قَلِيلٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِكُفْرِهِمْ وَعَدَمِ إِيمَانِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} أَيْ كُلُّ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَوَاءٌ قُتِلَ أو غلب فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر عظيم، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَتَكَفَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ إِنْ تَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ بما نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ.

- 75 - وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا واجعل لنا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً - 76 - الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا يحرِّض تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَعَلَى السَّعْيِ فِي اسْتِنْقَاذِ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الْمُتَبَرِّمِينَ من المقام بِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} يَعْنِي مَكَّةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أخرجتك} ثُمَّ وَصَفَهَا بِقَوْلِهِ: {الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً} أَيْ سَخِّرْ لَنَا مِنْ عِنْدِكَ وَلِيًّا وناصراً. قال البخاري عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والذي كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}.

- 77 - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً - 78 - أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ فما لهؤلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا - 79 - مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً كَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة، وكانوا مَأْمُورِينَ بِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ،

وَكَانُوا مَأْمُورِينَ بِالصَّفْحِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّبْرِ إِلَى حِينٍ، وَكَانُوا يَتَحَرَّقُونَ وَيَوَدُّونَ لَوْ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ لِيَشْتَفُوا مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَلَمْ يَكُنِ الْحَالُ إذا ذَاكَ مُنَاسِبًا لِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا قِلَّةُ عَدَدِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَثْرَةِ عَدَدِ عَدُّوِهِمْ، وَمِنْهَا كَوْنُهُمْ كَانُوا فِي بَلَدِهِمْ وَهُوَ بَلَدٌ حَرَامٌ وَأَشْرَفُ بِقَاعِ الْأَرْضِ فَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ فِيهِ ابتداء كما يقال، فَلِهَذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْجِهَادِ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ لَمَّا صارت لهم دار منعة وَأَنْصَارٌ، وَمَعَ هَذَا لَمَّا أُمِرُوا بِمَا كَانُوا يَوَدُّونَهُ، جَزِعَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ وَخَافُوا مِنْ مُوَاجَهَةِ النَّاسِ خَوْفًا شَدِيدًا: {وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي لولا أَخَّرْتَ فَرْضَهُ إِلَى مُدَّةٍ أُخْرَى فَإِنَّ فِيهِ سفك الدماء، ويتم الأولاد، وتأَيَّمَ النساء، وهذه الآية كقوله تَعَالَى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} الآيات. عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَأَصْحَابًا لَهُ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَقَالُوا يَا نبي الله: كنا في عزة وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ، فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً قَالَ: «إني أمرت بالعفوا فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ» فَلَمَّا حَوَّلَهُ اللَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُ بِالْقِتَالِ فَكَفُّوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} (رواه ابن أبي حاتم والنسائي والحاكم) الآية. وقال السُّدِّيِّ: لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إِلَّا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، فَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ، فَلَمَّا فرض عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} وَهُوَ الْمَوْتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى} أَيْ آخِرَةُ الْمُتَّقِي خَيْرٌ مِنْ دُنْيَاهُ {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أَيْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، بَلْ تُوَفَّوْنَهَا أَتَمَّ الْجَزَاءِ، وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ لَهُمْ عَنِ الدُّنْيَا وَتَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَتَحْرِيضٌ لَهُمْ على الجهاد، وقال ابن أبي حاتم عن هشام قَالَ: قَرَأَ الْحَسَنُ {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا صَحِبَهَا عَلَى حَسَبِ ذلك وما الدُّنْيَا كُلُّهَا أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا إِلَّا كَرَجُلٍ نَامَ نَوْمَةً فَرَأَى فِي مَنَامِهِ بَعْضَ مَا يُحِبُّ، ثُمَّ انْتَبَهَ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: كَانَ أَبُو مصهر ينشد: ولا خير في الدنيا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ * مِنَ اللَّهِ فِي دَارِ الْمُقَامِ نَصِيبُ فِإِنْ تُعْجِبِ الدُّنْيَا رِجَالًا فإنها * متاع قليل والزوال قريب وقوله تَعَالَى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} أَيْ أَنْتُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ لا محالة وَلاَ ينجوا مِنْهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} الآية، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ} وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ صَائِرٌ إِلَى الْمَوْتِ لَا مَحَالَةَ، وَلاَ يُنْجِيهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ سواء جَاهَدَ أَوْ لَمْ يُجَاهِدْ فَإِنَّ لَهُ أَجَلًا محتوماً، ومقاماً مَقْسُومًا، كَمَا قَالَ (خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) حِينَ جاء الْمَوْتُ عَلَى فِرَاشِهِ: لَقَدْ شَهِدْتُ كَذَا وَكَذَا مَوْقِفًا، وَمَا مِنْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِي إِلَّا وَفِيهِ جُرْحٌ مِنْ طَعْنَةٍ أَوْ رَمْيَةٍ، وَهَا أَنَا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي، فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} أي حصينة منيعة عالية رفيعة، أَيْ لَا يُغْنِي حَذَرٌ وَتَحَصُّنٌ مِنَ الْمَوْتِ كَمَا قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى: وَمَنْ هاب أسباب المنايا ينلنه * وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بسُلَّم ثُمَّ قِيلَ: المُشَيَّدة هِيَ المُشَيَّدة كَمَا قَالَ (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) وَقِيلَ: بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُشَيَّدَةَ بِالتَّشْدِيدِ هِيَ الْمُطَوَّلَةُ، وَبِالتَّخْفِيفِ هِيَ الْمُزَيَّنَةُ بِالشَّيْدِ وهو الجص.

وقوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} أَيْ خِصْبٌ وَرِزْقٌ مِنْ ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك، وهذا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيِّ {يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أَيْ قَحْطٌ وَجَدْبٌ وَنَقْصٌ فِي الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ أَوْ مَوْتُ أَوْلَادٍ أَوْ نَتَاجٍ أَوْ غير ذلك {يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ} أَيْ مِنْ قِبَلِكَ وَبِسَبَبِ اتِّبَاعِنَا لَكَ وَاقْتِدَائِنَا بِدِينِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ: {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ، وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن معه} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآية. وَهَكَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ، الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا وَهُمْ كَارِهُونَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلِهَذَا إِذَا أَصَابَهُمْ شَرٌّ إِنَّمَا يَسْنُدُونَهُ إِلَى اتِّبَاعِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} قَالَ، وَالْحَسَنَةُ: الخصب تنتج مواشيهم وخيولهم ويحسن حالهم وَتَلِدُ نِسَاؤُهُمُ الْغِلْمَانَ، قَالُوا: {هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} وَالسَّيِّئَةُ: الْجَدْبُ وَالضَّرَرُ فِي أَمْوَالِهِمْ تَشَاءَمُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: {هَذِهِ مِنْ عِندِكَ} يَقُولُونَ بِتَرْكِنَا ديننا وَاتِّبَاعِنَا مُحَمَّدًا أَصَابَنَا هَذَا الْبَلَاءُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ} فَقَوْلُهُ: قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندَ اللَّهِ أَيِ الْجَمِيعُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَهُوَ نَافِذٌ فِي البر والفاجر والمؤمن والكافر، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندَ اللَّهِ} أَيِ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الصَّادِرَةِ عَنْ شَكٍّ وَرَيْبٍ، وَقِلَّةِ فهم وعلم وكثرة جهل وظلم {فما لهؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}؟ ثم قال تَعَالَى مُخَاطِبًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْإِنْسَانِ لِيَحْصُلَ الْجَوَابُ: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أَيْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ومنِّه وَلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ، {وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} أَيْ فَمِنْ قِبَلِكَ، وَمِنْ عَمَلِكَ أَنْتَ، كَمَا قال تعالى: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عَن كَثِيرٍ} قال السدي: {فَمِن نَّفْسِكَ} أي بذنبك، وقال قتادة في الآية: {فَمِن نَّفْسِكَ} عقوبة لك يَا ابْنَ آدَمَ بِذَنْبِكَ، قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُصِيبُ رَجُلًا خَدْشُ عُودٍ وَلَا عَثْرَةُ قدم، والا اخْتِلَاجُ عِرْقٍ إِلَّا بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ أَكْثَرُ»، وَهَذَا الَّذِي أَرْسَلَهُ قَتَادَةُ قَدْ رُوِيَ مُتَّصِلًا فِي الصَّحِيحِ، «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ، وَلَا نَصَبٌ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ»، وقال أبو صالح {وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} أَيْ بذنبك وأنا الذي قدرتها عليك وراه ابن جرير. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} أَيْ تُبْلِغُهُمْ شرائع الله وَمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَمَا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} أَيْ عَلَى أَنَّهُ أَرْسَلَكَ وَهُوَ شَهِيدٌ أَيْضًا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، وَعَالِمٌ بِمَا تُبْلِغُهُمْ إِيَّاهُ وَبِمَا يَرُدُّونَ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ كفراً وعناداً.

- 80 - مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً - 81 - وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن مَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَاهُ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ {مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} قال ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ؛ وَمَنْ أَطَاعَ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى الأمير فقد

عصاني» (الحديث ثابت في الصحيحين) وَقَوْلُهُ: {وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أي ما عَلَيْكَ مِنْهُ، إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ فَمَنْ اتبعك سَعِدَ وَنَجَا، وَكَانَ لَكَ مِنَ الْأَجْرِ نَظِيرُ مَا حَصَلَ لَهُ، وَمَنْ تَوَلَّى عَنْكَ خَابَ وَخَسِرَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ أَمْرِهِ شَيْءٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَن يعصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ لا يضر إلا نفسه». وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الْمُوَافَقَةَ وَالطَّاعَةَ {فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ} أَيْ خَرَجُوا وَتَوَارَوْا عَنْكَ {بيَّت طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} أَيْ اسْتَسَرُّوا لَيْلًا فِيمَا بينهم بغير ما أظهروه لك، فَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} أَيْ يَعْلَمُهُ وَيَكْتُبُهُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ حَفِظْتَهُ الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد، والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى يخبر بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يُضْمِرُونَهُ وَيُسِرُّونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَمَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ لَيْلًا مِنْ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَعِصْيَانِهِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَظْهَرُوا لَهُ الطَّاعَةَ وَالْمُوَافَقَةَ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ويقولن آمَنَّا بالله وبالرسول وأطعنا} الآية، وَقَوْلُهُ: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أَيِ اصْفَحْ عَنْهُمْ وَاحْلُمْ عَلَيْهِمْ وَلَا تُؤَاخِذْهُمْ، وَلَا تَكْشِفْ أُمُورَهُمْ لِلنَّاسِ، وَلَا تَخَفْ مِنْهُمْ أَيْضًا، {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أَيْ كَفَى بِهِ وَلِيًّا وَنَاصِرًا وَمُعِينًا لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَأَنَابَ إِلَيْهِ.

- 82 - أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا - 83 - وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قليلا يقول تعالى آمراً لهم بتدبر القرآن ناهياً لَهُمْ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَعَنْ تَفَهُّمِ مَعَانِيهِ الْمُحْكَمَةِ وَأَلْفَاظِهِ الْبَلِيغَةِ، وَمُخْبِرًا لَهُمْ أَنَّهُ لَا اختلاف فيه ولا اضطراب، وَلَا تَعَارُضَ لِأَنَّهُ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فَهُوَ حَقٌّ مِنْ حَقٍّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ} أَيْ لَوْ كَانَ مُفْتَعَلًا مُخْتَلَقًا، كَمَا يقوله من يقول من جهلة المشركين والنافقين في بواطنهم لوجدوا فيه اختلافاً، أي اضطراباً وتضاداً كثيراً، وَهَذَا سَالِمٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ فَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ حَيْثُ قَالُوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} أَيْ مُحْكَمُهُ وَمُتَشَابِهُهُ حَقٌّ، فَلِهَذَا رَدُّوا الْمُتَشَابِهَ إِلَى الْمُحْكَمِ فَاهْتَدَوْا، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا، وَلِهَذَا مَدَحَ تَعَالَى الرَّاسِخِينَ وَذَمَّ الزَّائِغِينَ. قَالَ الإمام أحمد عن عمرو ابن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ فَكَأَنَّمَا يُفقأ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ، فَقَالَ لَهُمْ: «مَا لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ ببعض، بهذا هلك من كان قبلكم»، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: هَجَّرْتُ إِلَى رسول الله يوماً، فإنّا لجلوس إذا اخْتَلَفَ اثْنَانِ فِي آيَةٍ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَقَالَ: «إِنَّمَا هَلَكَتِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ» (رواه مسلم والنسائي) وقوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ} إِنْكَارٌ عَلَى مَنْ يُبَادِرُ إِلَى الْأُمُورِ قَبْلَ تَحَقُّقِهَا

فَيُخْبِرُ بِهَا وَيُفْشِيهَا وَيَنْشُرُهَا، وَقَدْ لَا يَكُونُ لَهَا صِحَّةٌ، وَقَدْ قَالَ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع» وَفِي الصَّحِيحِ: «مَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ وَهُوَ يَرَى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» ولنذكر ههنا حديث عمر بن الخطاب المتفق على صحته حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم طلق نساءه فجاء مِنْ مَنْزِلِهِ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ النَّاسَ يَقُولُونَ ذَلِكَ فَلَمْ يَصْبِرْ حَتَّى اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْهَمَهُ، أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فقال: «لَا» فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وعن مُسْلِمٍ فَقُلْتُ: أَطَلَّقْتَهُنَّ فَقَالَ: «لَا»، فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الأمر، ومعنى يستنبطونه أي يستخرجونه مِنْ مَعَادِنِهِ، يُقَالُ: اسْتَنْبَطَ الرَّجُلُ الْعَيْنَ إِذَا حفرها واستخرجها من قعورها، وقوله: {لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً} قال ابن عباس: يعني المؤمنين، وقال قَتَادَةَ {لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} يَعْنِي: كُلَّكُمْ وَاسْتَشْهَدَ مَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ بِقَوْلِ الطِّرْمَاحِ في مدح يزيد بن المهلب: أشم، نديّ، كثير النوادي * قَلِيلَ الْمَثَالِبِ، وَالْقَادِحَةْ يَعْنِي لَا مَثَالِبَ لَهُ وَلَا قَادِحَةَ فِيهِ.

- 84 - فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا - 85 - مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً - 86 - وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا - 87 - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا يَأْمُرُ تَعَالَى عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يباشر القتال بنفسه، ومن نكل عنه فَلَا عَلَيْهِ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ، قُلْتُ لِلْبَرَاءِ: الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَهْوَ مِمَّنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إلى التهلكة؟ قال: لا إن الله بعث برسوله صلى الله عليه وسلم قولا: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} إنما فذلك في النفقة (رواه أحمد وابن أبي حاتم). وقوله: {حرض الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ عَلَى الْقِتَالِ وَرَغِّبْهُمْ فِيهِ وَشَجِّعْهُمْ عليه، كما قال لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ يسوي الصفوف: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي التَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُبَشِّرُ النَّاسَ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سبيل

اللَّهِ بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ فإذا سألتم الله فاسأوله الفردوس فإنه وسط الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ؛ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تفجَّر أنهار الجنة». وقوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ بِتَحْرِيضِكَ إِيَّاهُمْ عَلَى الْقِتَالِ تَنْبَعِثُ هِمَمُهُمْ عَلَى مُنَاجَزَةِ الْأَعْدَاءِ، وَمُدَافَعَتِهِمْ عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ وأهله، ومقاومتهم ومصابرتهم، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ ليبلو بعضكم ببعض} الآية، وَقَوْلُهُ {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} أي من يسعى في أمر فيترتب عَلَيْهِ خَيْرٌ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، {وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يكن له كفر مِّنْهَا} أي يكون علي وِزْرٌ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَى سعيه ونيته كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا؛ وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ» وَقَالَ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَفَاعَاتِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لبعض وقول: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} قَالَ ابن عباس: أَيْ حَفِيظًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَهِيدًا، وَفِي رِوَايَةٍ عنه حسيباً. وقال الضحاك: المقيت الرزاق، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ: وَسَأَلَهُ رجُل عَنْ قول الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} قَالَ: مقيت لكل إنسان بقدر عمله. وقوله تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} أَيْ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْمُسْلِمُ فَرَدُّوا عَلَيْهِ أَفْضَلَ مِمَّا سَلَّمَ، أَوْ رَدُّوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا سلم فَالزِّيَادَةُ مَنْدُوبَةٌ، وَالْمُمَاثَلَةُ مَفْرُوضَةٌ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «وَعَلَيْكَ السَّلَامُ ورحمة الله» ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ»، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركات، فَقَالَ لَهُ: «وَعَلَيْكَ» فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي: أَتَاكَ فُلَانٌ وفلان فسلما عليك فرددت عليهم أَكْثَرَ مِمَّا رَدَدْتَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: "إِنَّكَ لَمْ تَدَعْ لَنَا شَيْئًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} فرددناها عليك" وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِي السَّلَامِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ [السَّلَامُ عليكم ورحمة الله وبركاته]، إذا لَوْ شُرِعَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ لَزَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: السلام عليكم يا رسول الله فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: «عَشْرٌ» ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ يا رسول اللَّهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ «عِشْرُونَ» ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ: «ثلاثون». وقال ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: من سلّم عَلَيْكَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَارْدُدْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَجُوسِيًّا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} وقال فأما أهل الذمة فلا يُبدأون بِالسَّلَامِ وَلَا يُزَادُونَ بَلْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ السام عليكم فَقُلْ وَعَلَيْكَ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لا تبدأوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ فاضطروهم إلى أضيقه»، وقال الحسن البصري: السَّلَامُ تَطَوُّعٌ وَالرَّدُّ فَرِيضَةٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ قَاطِبَةً أَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ سُلِّمَ

عَلَيْهِ فَيَأْثَمُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ، لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بسنده إلى أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم». وقوله تعالى: {آللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} إِخْبَارٌ بِتَوْحِيدِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَتَضَمَّنَ قَسَمًا لِقَوْلِهِ: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} هذه الام موطئة للقسم فقوله تالله لا غله إلا هو خير وقسم أنه يجمع الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} أَيْ لَا أَحَدَ أَصْدَقُ مِنْهُ فِي حَدِيثِهِ وَخَبَرِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.

- 88 - فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا - 89 - وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً - 90 - إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً - 91 - سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قومهم كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُنَافِقِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاخْتُلِفَ في سبب ذلك، فقال الإمام أحمد عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ فَرَجَعَ نَاسٌ خَرَجُوا مَعَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ، فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، هم المؤمنون فأنزل الله: {فما لهم فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا طَيْبَةُ وَإِنَّهَا تَنْفِي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد» (رواه الشيخان) وقد ذكر محمد بن إسحاق فِي وَقْعَةِ أُحد: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبي بْنِ سَلُولٍ رجع يومئذ بثلث الجيش، رجع بثلثمائة وَبَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سبعمائة، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} أَيْ رَدَّهُمْ وَأَوْقَعَهُمْ فِي الْخَطَأِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أَرْكَسَهُمْ} أَيْ أَوْقَعَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَهْلَكَهُمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَضَلَّهُمْ، وَقَوْلُهُ: {بِمَا كَسَبُوا} أَيْ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمُ الرَّسُولَ وَاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أَيْ لَا طَرِيقَ لَهُ

إلى الهدى ولا مخلص له إليه، وقوله: {دوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً} أَيْ هُمْ يَوَدُّونَ لَكُمُ الضَّلَالَةَ لِتَسْتَوُوا أَنْتُمْ وَإِيَّاهُمْ فِيهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ وَبُغْضِهِمْ لَكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي تركوا الهجرة قاله ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَظْهَرُوا كُفْرَهُمْ {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}، أَيْ لَا تُوَالُوهُمْ وَلَا تَسْتَنْصِرُوا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك ثم استثنى الله مِنْ هَؤُلَاءِ فَقَالَ: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} أَيْ إِلَّا الَّذِينَ لجأوا وَتَحَيَّزُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مُهَادَنَةٌ أَوْ عَقْدُ ذِمَّةٍ فَاجْعَلُوا حُكْمَهُمْ كَحُكْمِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ السدي وَابْنِ جَرِيرٍ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ (سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيَّ) قال: لما ظهر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ وأُحد وَأَسْلَمَ مَنْ حَوْلَهُمْ، قَالَ سُرَاقَةُ بَلَغَنِي أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ (خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ) إِلَى قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ النِّعْمَةَ، فَقَالُوا صَهٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «دَعُوهُ، مَا تُرِيدُ؟» قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى قَوْمِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنَّ تُوَادِعَهُمْ، فَإِنْ أَسْلَمَ قَوْمُكَ أَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا لَمْ تَخْشُنْ قُلُوبُ قَوْمِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَقَالَ: «اذْهَبْ مَعَهُ فَافْعَلْ مَا يُرِيدُ»، فصالحهم خالد على أن لا يُعِينُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ} وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الحُرُم فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وجدتموهم} الآية، وقوله: {أَوْ جاؤوكم حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} هؤلاء قوم آخرون من المستثنين من الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ يَجِيئُونَ إِلَى الْمَصَافِّ وَهُمْ حَصِرَةٌ صُدُورُهُمْ أَيْ ضَيِّقَةٌ صُدُورُهُمْ، مُبْغِضِينَ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ وَلَا يَهُونُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَنْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ مَعَكُمْ بَلْ هُمْ لَا لَكُمْ وَلَا عَلَيْكُمْ {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} أَيْ مِنْ لُطْفِهِ بِكُمْ أَنْ كَفَّهُمْ عنكم {فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يقاتلوكم وألقو إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} أَيِ الْمُسَالَمَةَ {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} أَيْ فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تقاتلوهم مَا دَامَتْ حَالُهُمْ كَذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ كَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا يَوْمَ بِدْرٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَحَضَرُوا الْقِتَالَ وَهُمْ كَارِهُونَ كَالْعَبَّاسِ وَنَحْوِهِ وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره. وقوله تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ} الْآيَةَ، هَؤُلَاءِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ كَمَنْ تَقَدَّمَهُمْ، وَلَكِنْ نِيَّةُ هَؤُلَاءِ غَيْرُ نِيَّةِ أُولَئِكَ، فَإِنَّ هؤلاء قوم مُنَافِقُونَ، يُظْهِرُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَصْحَابِهِ الْإِسْلَامَ لِيَأْمَنُوا بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، وَيُصَانِعُونَ الْكَفَّارَ فِي الْبَاطِنِ فَيَعْبُدُونَ مَعَهُمْ مَا يَعْبُدُونَ لِيَأْمَنُوا بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ مَعَ أُولَئِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} الآية، وقال ههنا: {كُلَّمَا رُدّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا} أَيْ انهمكوا فيها، وقال السدي: الفتنة ههنا الشِّرْكُ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُونَ رِيَاءً، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى قُرَيْشٍ فَيَرْتَكِسُونَ فِي الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا، فأمر بقتلهم إِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا وَيُصْلِحُوا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ويلقوا إِلَيْكُمُ السلم} المهادنة والصلح {ويكفوا أَيْدِيَهُمْ} أي عن القتال {فَخُذُوهُمْ} أسراء {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أَيْ أَيْنَ لَقِيتُمُوهُمْ {وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} أَيْ بَيِّنًا واضحاً.

- 92 - وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيمًا - 93 - وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيماً يَقُولُ تَعَالَى: لَيْسَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امرىء مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، والثب الزَّانِي، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ"، ثُمَّ إِذَا وقع شي مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ آحَادِ الرَّعِيَّةَ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَقَوْلُهُ: {إِلاَّ خَطَأً} قَالُوا: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: مِنَ الْبِيضِ لَمْ تَظْعَنْ بَعِيدًا وَلَمْ تَطَأْ * عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ ريط بردٍ مرحّل واختلف في سبب نزول هذه، فقال مجاهد: نزلت في (عياش بن أبي ربيعة) وذلك أنه قتل رجلاً يُعَذِّبُهُ مَعَ أَخِيهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ (الْحَارِثُ بن يزيد الغامدي) فَأَسْلَمَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَهَاجَرَ، وَعِيَاشٌ لَا يَشْعُرُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ رَآهُ فَظَنَّ أَنَّهُ عَلَى دِينِهِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الآية. قال ابن أَسْلَمَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي الدَّرْدَاءِ لِأَنَّهُ قَتَلَ رجلاُ وقد قال كلمة الإيمان حين رفع عليه السَّيْفَ فَأَهْوَى بِهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ كَلِمَتَهُ، فَلَمَّا ذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّمَا قَالَهَا مُتَعَوِّذًا، فَقَالَ لَهُ: هَلْ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ فِي الصَّحِيحِ لغير أبو الدرداء. وقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ}، هَذَانَ وَاجِبَانِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ، أَحَدُهُمَا: الْكَفَّارَةُ لِمَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ وَإِنْ كَانَ خطأ، ومن شروطها أن تكون عتق {رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} فلا تجزىء الكافرة، وفي موطأ مالك ومسند الشافعي وأحمد عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ: أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِتِلْكَ الْجَارِيَةِ السَّوْدَاءِ، قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ اللَّهُ» قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: «مَنْ أَنَا» قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» وَقَوْلُهُ: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} هُوَ الْوَاجِبُ الثَّانِي فِيمَا بَيْنُ الْقَاتِلِ وَأَهْلِ القتيل عوضاً لهم عما فاتهم من قتيلهم، وَهَذِهِ الدِّيَةُ إِنَّمَا تَجِبُ أَخْمَاسًا كَمَا رَوَاهُ أحمد وأهل السنن عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ (عِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرِينَ بَنِي مَخَاضٍ ذُكُورًا وَعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرِينَ جَذَعَةً، وَعِشْرِينَ حِقَّةً) وإنما تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ لَا فِي مَالِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ حَدِيثِ الْخَاصَّةِ، وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةُ عبد أو

أَمَةٍ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا» وَهَذَا يقتضي أن حكم عمد الْخَطَأِ الْمَحْضِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، لَكِنَّ هَذَا تجب فيه الدية أثلاثاً لشبهة العمد. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جُذَيْمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» وَبَعَثَ علياً فودى قتلاهم، وما أتلف من أمولاهم حتى مليغة الْكَلْبِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ خَطَأَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَقَوْلُهُ: {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} أَيْ فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِهَا فَلَا تَجِبُ، وَقَوْلُهُ: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} أَيْ إِذَا كَانَ الْقَتِيلُ مُؤْمِنًا، وَلَكِنْ أَوْلِيَاؤُهُ مِنَ الْكُفَّارِ أَهْلَ حَرْبٍ فَلَا دِيَةَ لهم على الْقَاتِلِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَا غَيْرَ. وَقَوْلُهُ تعالى: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} الْآيَةَ أَيْ فَإِنْ كَانَ الْقَتِيلُ أَوْلِيَاؤُهُ أَهْلَ ذِمَّةٍ أَوْ هُدْنَةٍ فَلَهُمْ دِيَةُ قَتِيلِهِمْ، فَإِنْ كان مؤمناً فيدة كَامِلَةٌ وَكَذَا إِنْ كَانَ كافراُ أَيْضًا عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقِيلَ: يَجِبُ فِي الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَقِيلَ: ثُلُثُهَا كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَيَجِبُ أَيْضًا عَلَى الْقَاتِلِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} أَيْ لَا إِفْطَارَ بَيْنَهُمَا، بَلْ يَسْرُدُ صَوْمَهُمَا إِلَى آخِرِهِمَا، فَإِنْ أَفْطَرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ اسْتَأْنَفَ، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّفَرِ هَلْ يقطع أم لا على قولين، وقول: {تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} أَيْ هَذِهِ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ خَطَأً إِذَا لَمْ يَجِدِ الْعِتْقَ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا كَمَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ في كفارة الظهار، وإنما لم يذكر ههنا لِأَنَّ هَذَا مَقَامُ تَهْدِيدٍ وَتَخْوِيفٍ وَتَحْذِيرٍ، فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ الْإِطْعَامُ لِمَا فِيهِ من التسهيل والترخيص، والقول الثاني: لا يعدل إلى الطعام لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَخَّرَ بَيَانَهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ شَرَعَ فِي بينا حُكْمِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، فَقَالَ: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً متعمدا} الآية، وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِمَنْ تَعَاطَى هَذَا الذَّنْبَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ مَقْرُونٌ بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {والذين لاَ يَدْعُونَ من اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عليكم أن لا تشركوا به شيئاً} ً الآية. والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً فَمِنْ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ الناس يوم القيامة في الدماء»، وفي حديث آخر: «لزوال الدنيا أهول عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ»، وَفِي الحديث الآخر: «لو اجتمع أهل السموات وَالْأَرْضِ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «مَنْ أَعَانَ على قتل المسلم وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ»، وَقَدْ كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمداً، وقال البخاري عن المغيرة بن النعمان قال: سمعت بان جُبَيْرٍ قَالَ: اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ فَرَحَلْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم} هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ. وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:

{وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى آخرها قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ. وَقَالَ ابْنُ جرير عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّم} قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا عَرَفَ الْإِسْلَامَ وَشَرَائِعَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فجزآؤه جهنم لا تَوْبَةَ لَهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُجَاهِدٍ فَقَالَ: إِلَّا من ندم، وروى سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابن عباس بعدما كُفَّ بَصَرُهُ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَنَادَاهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ مَّا تَرَى فِي رَجُلٍ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا؟ فَقَالَ: جَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا، قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ وَالْهُدَى؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ قَاتِلُ مُؤْمِنٍ مُتَعَمِّدًا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذَهُ بِيَمِينِهِ أَوْ بِشَمَالِهِ تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه يقول: يا رب سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي"، وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ عَبْدِ اللَّهِ بِيَدِهِ لَقَدْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَمَا نَسَخَتْهَا مِنْ آيَةٍ حَتَّى قُبِضَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا نَزَلْ بَعْدَهَا من برهان (أخرجه ابن جرير عن سالم بن أبي الجعد) وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يجيء المقتلول مُتَعَلِّقًا بِقَاتِلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذًا رَأْسَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى، فَيَقُولُ: يَا رَبُّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ قَالَ، فَيَقُولُ: قَتَلْتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ، فَيَقُولُ: فَإِنَّهَا لِي، قَالَ: وَيَجِيءُ آخَرُ مُتَعَلِّقًا بِقَاتِلِهِ، فَيَقُولُ: رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ قَالَ، فَيَقُولُ: قَتَلَتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لِفُلَانٍ قَالَ: فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ بُؤْ بِإِثْمِهِ، قَالَ فَيَهْوِي في النار سبعين خريفاً" (رواه أحمد والنسائي. ومعنى (بؤ) أي ارجع بإثمه) (حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَن يَغْفِرَهُ إِلَّا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً». وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا: أَنَّ الْقَاتِلَ لَهُ تَوْبَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الله عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ تَابَ وَأَنَابَ، وَخَشَعَ وَخَضَعَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا بَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ، وعوَّض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله أله آخَرَ - إِلَى قَوْلِهِ: إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} الآية وَهَذَا خَبَرٌ لَا يَجُوزُ نُسْخُهُ وَحَمْلُهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَحَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيَحْتَاجُ حَمْلُهُ إِلَى دَلِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقوله تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ من رحمة الله} الآية، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الذُّنُوبِ مِنْ كُفْرٍ وَشِرْكٍ وَشَكٍّ وَنِفَاقٍ وَقَتْلٍ وَفِسْقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كل من تاب تاب الله عليه، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يشاء} فَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الذُّنُوبِ مَا عَدَا الشِّرْكَ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَبْلَهَا، لِتَقْوِيَةِ الرَّجَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ خَبَرُ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، ثُمَّ سَأَلَ عَالِمًا هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى بَلَدٍ يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ، فَهَاجَرَ إِلَيْهِ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ مرة. وإذا كَانَ هَذَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَأَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى والأحرى، لأن الله وضع عنا الآصار والأغلال الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ، وَبَعَثَ نَبِيَّنَا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، فَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} الآية، فَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، هذا جزاؤه إن جازاه، وَكَذَا كُلُّ وَعِيدٍ عَلَى ذَنْبٍ لَكِنْ قَدْ يكون كذلك

مُعَارَضٌ مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ تَمْنَعُ وُصُولَ ذَلِكَ الجزاء إليه على قولي أصحاب الموازنة والاحباط، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُسْلَكُ فِي بَابِ الْوَعِيدِ، والله أعلم بالصواب. وبتقدير دخول القاتل في النَّارِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُ، أَوْ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ حَيْثُ لَا عَمَلَ لَهُ صَالِحًا ينجو به فليس بمخلد فِيهَا أَبَدًا، بَلِ الْخُلُودُ هُوَ الْمُكْثُ الطَّوِيلُ، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كان في قلبه أدنى مثقال ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ»، وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ: «كُلُّ ذنب عَسَى الله أَن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً» فعسى لِلتَّرَجِّي، فَإِذَا انْتَفَى التَّرَجِّي فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ لانتفى وُقُوعُ ذَلِكَ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْقَتْلُ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَأَمَّا مَنْ مَاتَ كَافِرًا فالنص إن الله لَا يُغْفَرُ لَهُ الْبَتَّةَ، وَأَمَّا مُطَالَبَةُ الْمَقْتُولِ الْقَاتِلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من ردها إليهم وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَقْتُولِ وَالْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَالْمَقْذُوفِ وَسَائِرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة، ولكنه لا بد من ردها إِلَيْهِمْ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ فَإِنَّ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فلا بد من المطالبة يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ المطالبة وقوع المجازاة، إذ قد يَكُونُ لِلْقَاتِلِ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ تُصْرَفُ إِلَى الْمَقْتُولِ أَوْ بَعْضُهَا، ثُمَّ يَفْضُلُ لَهُ أَجْرٌ يَدْخُلُ به الجنة أو يعوض الله المقتول بما يشاء مِن فَضْلِهِ مِنْ قُصُورِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا، وَرَفْعِ دَرَجَتِهِ فِيهَا نحو ذلك والله أعلم. ثم لقاتل الْعَمْدِ أَحْكَامٌ فِي الدُّنْيَا وَأَحْكَامٌ فِي الْآخِرَةِ، فأما فِي الدُّنْيَا فَتَسَلُّطُ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} الآية، ثُمَّ هُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلُوا، أَوْ يَعْفُوا، أَوْ يَأْخُذُوا دِيَةً مُغَلَّظَةً - أَثْلَاثًا - ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذْعَةً وَأَرْبَعُونَ خِلْفَةً، كَمَا هُوَ مقرر في كتاب الْأَحْكَامِ، وَاخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ عِتْقُ رَقَبَةٍ، أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ إِطْعَامٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْخَطَأِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: نَعَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إذا وجبت عليه الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ فَلَأَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِي العمد أولى فطردوا هذا في كفارة اليمن الغموس، وقال أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَآخَرُونَ: قَتْلُ الْعَمْدِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَكَذَا اليمين الغموس، وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فَقَالُوا: إِنَّ صَاحِبًا لَنَا قَدْ أَوْجَبَ، قَالَ: «فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً يَفْدِي اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ منها عضواً منه من النار».

- 94 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً روى أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ بِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرعى غنماً له فسلم عليهم فقالوا: لا يسلم عَلَيْنَا إِلَّا لِيَتَعَوَّذَ مِنَّا، فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، واتو بِغَنَمِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الذين

آمَنُواْ} إلى آخرها (رواه أحمد والترمذي والحاكم) وقال البخاري عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَتَلُوهُ وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مؤمناْ قال ابن عباس: عرض الدنيا تلك الغنيمة وقرأ ابن عباس (السلام)، وقال الحافظ أبو بكر البزار عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سرية فيه (الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ) فَلَمَّا أَتَوُا الْقَوْمَ وَجَدُوهُمْ قَدْ تَفَرَّقُوا وَبَقِيَ رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ ولم يَبْرَحْ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَهْوَى إِلَيْهِ الْمِقْدَادُ فَقَتَلَهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَقَتَلْتَ رَجُلًا شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ وَاللَّهِ لَأَذْكُرَنَّ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ رَجُلًا شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَتَلَهُ الْمِقْدَادُ فَقَالَ: «ادْعُوَا لِي الْمِقْدَادَ، يَا مِقْدَادُ أَقَتَلْتَ رَجُلًا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ فَكَيْفَ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ غَدًا؟» قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا}، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمِقْدَادِ: «كَانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِي إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ فَقَتَلْتَهُ، وَكَذَلِكَ كنت تخفي إيمانك بمكة قبل» (أخرجه الحافظ البزار من حديث ابن عباس) وَقَوْلُهُ: {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} أَيْ خَيْرٌ مِمَّا رَغِبْتُمْ فِيهِ مِنْ عَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّذِي حَمَلَكُمْ عَلَى قَتْلِ مِثْلِ هَذَا الَّذِي ألقى إليكم السلام، وأظهر لكم الْإِيمَانَ فَتَغَافَلْتُمْ عَنْهُ وَاتَّهَمْتُمُوهُ بِالْمُصَانَعَةِ وَالتَّقِيَّةِ لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرزق الْحَلَّالِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ مَالِ هَذَا. وَقَوْلُهُ تعالى {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أَيْ قَدْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْحَالِ كَهَذَا الَّذِي يُسِرُّ إِيمَانَهُ وَيُخْفِيهِ مِنْ قَوْمِهِ كما قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض} الآية. عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ} تَسْتَخْفُونَ بِإِيمَانِكُمْ كَمَا اسْتَخْفَى هَذَا الرَّاعِي بِإِيمَانِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَوْلُهُ: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ} لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ، {فمنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أَيْ تَابَ عَلَيْكُمْ فَحَلَفَ أُسَامَةُ لَا يَقْتُلُ رَجُلًا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَمَا لَقِيَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ {فَتَبَيَّنُواْ} تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ.

- 95 - لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً - 96 - دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً قَالَ البخاري عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا فَكَتَبَهَا، فَجَاءَ ابْنُ أم مكتوم فشكا ضرارته، فأنزل الله {غَيْرُ أُوْلِي الضرر} وقال البخاري أيضاً عن سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ: أَنَّهُ رَأَى مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: فَأَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَأَخْبَرَنَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَخْبَرَهُ أنَّ

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْلَى عليَّ: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمْلِيهَا عليَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ وَكَانَ أعمى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان فخذه عَلَى فَخِذِي فَثَقُلَتْ عليَّ حَتَّى خِفْتُ أَنْ تُرضَّ فَخِذِي ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {غَيْرُ أُوْلِي الضرر} وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضرر} عن بدر والخارجون إلى بدر، ولما نَزَلَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ: إِنَّا أَعْمَيَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلْ لَنَا رُخْصَةٌ؟ فَنَزَلَتْ: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً فَهَؤُلَاءِ الْقَاعِدُونَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ} عَلَى القاعدين من المءمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر. فقوله {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} كَانَ مُطْلَقًا فَلَمَّا نَزَلَ بِوَحْيٍ سَرِيعٍ {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} صَارَ ذَلِكَ مَخْرَجًا لِذَوِي الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِتَرْكِ الْجِهَادِ مِنِ الْعَمَى وَالْعَرَجِ وَالْمَرَضِ عَنْ مُسَاوَاتِهِمْ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِفَضِيلَةِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} وَكَذَا يَنْبَغِي أن يكون كما ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سرتم من مسير وقال قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ فِيهِ قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نعم حبسهم العذر" وفي رواية عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لقد تركتم بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ وَلَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إلا وهم معكم فيه» قالوا: وكيف يكونون معنا فيه يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» قال الشاعر في هذا المعنى: يَا رَاحِلِينَ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ لَقَدْ * سِرْتُمْ جُسُومًا وَسِرْنَا نَحْنُ أَرْوَاحَا إنَّا أَقَمْنَا عَلَى عُذْرٍ وَعَنْ قَدَرٍ * وَمَنْ أَقَامَ عَلَى عُذْرٍ فقد راحا وقوله تعالى: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أَيِ الْجَنَّةَ وَالْجَزَاءَ الْجَزِيلَ، وَفِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ بَلْ هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} ثم أخبر سبحانه بِمَا فَضَّلَهُمْ بِهِ مِنَ الدَّرَجَاتِ، فِي غُرَفِ الجنات العاليات، ومغفرة الذنوب والزلات، وأحوال الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَاتِ، إِحْسَانًا مِنْهُ وَتَكْرِيمًا وَلِهَذَا قَالَ: {دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».

- 97 - إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً - 98 - إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا - 99 - فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُورًا - 100 - وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى

اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيمًا عن ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مع المشركين، يكثرون سوادهم عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يأتي السهم يرمى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يُضْرَبُ عُنُقُهُ فيقتل، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} (رَوَاهُ البخاري) وقال ابن أبي حاتم عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَكَانُوا يَسْتَخِفُونَ بِالْإِسْلَامِ، فَأَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَهُمْ فَأُصِيبَ بعضهم، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: كَانَ أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ وَأُكْرِهُوا فَاسْتَغْفَرُوا لَهُمْ فَنَزَلَتْ {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظالمي أَنْفُسِهِمْ} الْآيَةِ، قَالَ: فَكَتَبَ إِلَى مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَا عُذْرَ لَهُمْ. قَالَ: فخرجوا فلقيهم المشركون فأعطوهم التقية فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يِقُولُ آمَنَّا بالله} (أخرجه ابن أبي حاتم) الآية، قال الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَخَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فَأُصِيبُوا فِيمَنْ أُصِيبَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَامَّةً فِي كُلِّ مَنْ أَقَامَ بَيْنَ ظَهَرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَيْسَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُرْتَكِبٌ حَرَامًا بِالْإِجْمَاعِ، وَبِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أَيْ بِتَرْكِ الْهِجْرَةِ {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} أَيْ لِمَ مكثتم ها هنا وَتَرَكْتُمُ الْهِجْرَةَ؟ {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} أَيْ لَا نَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ، وَلَا الذَّهَابِ فِي الْأَرْضِ {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً} الآية، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» (أخرجه أبو داود في السنن) وقوله تعالى: {إِلاَّ المستضعفين} إلى آخر الآية، هذا عذر من الله لِهَؤُلَاءِ فِي تَرْكِ الْهِجْرَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ قَدَرُوا مَا عَرَفُوا يَسْلُكُونَ الطَّرِيقَ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} قَالَ مجاهد: يَعْنِي طَرِيقًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} أي يتجاوز الله عنهم بترك الهجرة، و (عسى) مِنَ اللَّهِ مُوجِبَةٌ {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} قال البخاري عن أبي هريرة قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ إِذْ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ ثُمَّ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ: "اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ}، وَقَالَ البخاري عن ابن عباس: {إِلاَّ المستضعفين} قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ. وقوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} وهذا تَحْرِيضٌ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرْغِيبٌ فِي مُفَارَقَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ حَيْثُمَا ذَهَبَ وَجَدَ عَنْهُمْ مَنْدُوحَةً وملجأ يتحصن فيه، والمراغم مَصْدَرٌ تَقُولُ الْعَرَبُ: رَاغَمَ فُلَانُ قَوْمَهُ مُرَاغَمًا ومراغمة، قال النابغة ابن جَعْدَةَ: كَطَوْدٍ يُلَاذُ بِأَرْكَانِهِ * عَزِيزُ الْمُرَاغَمِ وَالْمَهْرَبِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَاغَمُ التَّحَوُّلُ مِنْ أَرْضٍ إلى أرض، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مُرَاغَماً كَثِيراً} يَعْنِي: مُتَزَحْزَحًا عَمَّا يكره، والظاهر والله أعلم أنه المنع الذي يتخلص بِهِ وَيُرَاغَمُ بِهِ الْأَعْدَاءُ، قَوْلُهُ: {وَسَعَةً} يَعْنِي الرِّزْقَ قَالَهُ غَيْرُ

وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَتَادَةُ حَيْثُ قَالَ فِي قَوْلِهِ {يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} إِي مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَمِنِ الْقِلَّةِ إِلَى الغنى. وقوله تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ على الله} أي وَمَن يَخْرُجْ مِن مَنْزِلِهِ بِنِيَّةِ الْهِجْرَةِ فَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ الطريق فقد حصل له عند اللَّهِ ثَوَابُ مَنْ هَاجَرَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصحيحين عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بالنيات وإنما لكل امرىء مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَن كَانَتْ هجرته إلى دنيا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» وَهَذَا عَامٌّ فِي الْهِجْرَةِ وَفِي جميع الْأَعْمَالِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرجل الذي قتل تسعو وَتِسْعِينَ نَفْسًا، ثُمَّ أَكْمَلَ بِذَلِكَ الْعَابِدِ الْمِائَةَ ثُمَّ سَأَلَ عَالِمًا هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ، فقال له: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ أخرى يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ مِنْ بَلَدِهِ مهاجراً إلى البلد الأخرى أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَ هَؤُلَاءِ إِنَّهُ جَاءَ تَائِبًا، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: إِنَّهُ لَمْ يَصِلْ بَعْدُ، فَأُمِرُوا أَنَّ يَقِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا كان أقرب فهو منها، فأمر الله هذه أن تقترب مِنْ هَذِهِ، وَهَذِهِ أَنْ تَبْعُدَ فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا بِشِبْرٍ، فَقَبَضَتْهُ ملائكة الرحمة. قال الإمام أحمد عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله، فخرَّ عن دابته فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، أَوْ لَدَغَتْهُ دَابَّةٌ فَمَاتَ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ على الله» وقال ابن أبي حاتم عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنهما قَالَ: خَرَجَ (ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فنزلت الآية، وقال الحافظ أبو يعلى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَرَجَ حَاجًّا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْحَاجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْمُعْتَمِرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أجر الغازي إلى يوم القيامة».

- 101 - وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِيناً يَقُولُ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ سَافَرْتُمْ فِي الْبِلَادِ كَمَا قَالَ تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض} وَقَوْلُهُ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ} أَيْ تُخَفِّفُوا فِيهَا إِمَّا مِنْ كَمِّيَّتِهَا بِأَنْ تُجْعَلَ الرُّبَاعِيَّةُ ثُنَائِيَّةً كَمَا فَهِمَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ فَمِنْ قَائِلٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَفَرَ طَاعَةٍ: مِنْ جِهَادٍ، أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أو طلب علم، أو زيارة، أو غير ذلك. وَمِنْ قَائِلٍ لَا يُشْتَرَطُ سَفَرُ الْقُرْبَةِ، بَلْ لا بد أن كون مُبَاحًا لِقَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ متجانف لإثم} الآية، كما أباح له تناول الميتة مع الاضطرار بشرط أن لا يَكُونَ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ

وغيرهما من الأئمة، وَمِنْ قَائِلٍ: يَكْفِي مُطْلَقُ السَّفَرِ سَوَاءٌ كَانَ مُبَاحًا أَوْ مَحْظُورًا حَتَّى لَوْ خَرَجَ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ تَرَخَّصَ لِوُجُودِ مُطْلَقِ السَّفَرِ وهذا قول أبي حنيفة وَالثَّوْرِيِّ وَدَاوُدَ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَقَدْ يَكُونُ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ حال نزل هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ فِي مَبْدَأِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ كَانَ غَالِبُ أَسْفَارِهِمْ مَخُوفَةً، بَلْ مَا كَانُوا يَنْهَضُونَ إِلَّا إِلَى غَزْوٍ عَامٍّ، أَوْ في سرية خاصة، وسائر الأحيان حرب للإسلام وَأَهْلِهِ، وَالْمَنْطُوقُ إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ أَوْ على حادثة فَلَا مَفْهُومَ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تحصناً} وكقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ من نسائكم}. وقال الإمام أحمد عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمية قَالَ: سَأَلْتُ عُمَرَ بن الخطاب قلت له قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَقَدْ أمن الناس، فقال لي عمر رضي الله عنه: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسلأت رسول الله عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصْدَّقَ اللَّهُ بِهَا عليكم فاقبلوا صدقته». وعن أَبِي حَنْظَلَةَ الْحَذَّاءِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ صَلَاةِ السَّفَرِ فَقَالَ: رَكْعَتَانِ، فَقُلْتُ أَيْنَ يقوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَنَحْنُ آمِنُونَ، فَقَالَ: سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أخرجه ابن أبي شيبة) وقال ابن مردويه عن أبي الوداك قال: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: هِيَ رُخْصَةٌ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ فَإِنْ شئتم فردوهما. وقال أبو بكر بن أبي شيبة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَكَّةَ والمدينة ونحن آمنوا لا نخاف بينهم ركعتين ركعتين. وقال البخاري عن أنس يَقُولُ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ، قُلْتُ: أَقَمْتُمْ بِمَكَّةَ شَيْئًا قَالَ: أَقَمْنَا بِهَا عشراً. وقال الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين وأبي بكر وعمر وعثمان صدراً من إمارته ثم أتمها، وحدثنا إبراهيم قال: سمعت عبد الله بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقِيلَ فِي ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْتُ مَعَ عمر ابن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان (أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري). فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ صَرِيحًا عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ مَنْ شَرْطِهِ وُجُودُ الْخَوْفِ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ القصر ههنا إِنَّمَا هُوَ قَصْرُ الْكَيْفِيَّةِ لَا الْكَمِّيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَاعْتَضْدُوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: فُرَضَتِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي السِّفْرِ وَالْحَضَرِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السفر؛ وزيد في صلاة الحضر، قَالُوا: فَإِذَا كَانَ أَصْلُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر ههنا قَصْرَ الْكَمِّيَّةِ لِأَنَّ مَا هُوَ الْأَصْلُ لَا يُقَالُ فِيهِ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ} وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى هذا ما رواه الإمام أحمد عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زاد مسلم والنسائي عن عبد الله بن عابس قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الخوف ركعة، فَكَمَا يُصَلَّى فِي الْحَضَرِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا فَكَذَلِكَ يصلي في السفر. فَهَذَا ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ عَنْ عائشة رضي الله عنها لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ أَنَّ أَصْلَ الصَّلَاةِ رَكْعَتَانِ وَلَكِنْ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ ذَلِكَ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَرْضَ صَلَاةِ الْحَضَرِ أَرْبَعٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَكِنِ اتَّفَقَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَأَنَّهَا تَامَّةٌ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ} قَصْرَ الْكَيْفِيَّةِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} الآية، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهَا: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} الْآيَةَ، فبين المقصود من القصر ههنا وَذَكَرَ صِفَتَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ وَلِهَذَا لَمَّا عَقَدَ الْبُخَارِيُّ كِتَابَ صَلَاةِ الْخَوْفِ صدَّره بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ علكيم جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة}، وقال مُجَاهِدٍ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ} يَوْمَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بِعُسْفَانَ وَالْمُشْرِكُونَ بِضَجْنَانَ فَتَوَافَقُوا فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بِرُكُوعِهِمْ، وَسُجُودِهِمْ، وَقِيَامِهِمْ مَعًا جَمِيعًا، فهمَّ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى أمتعتهم وأثقالهم. وقال ابن جرير عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بن أسيد قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: إِنَّا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَصْرَ (صَلَاةِ الْخَوْفِ) وَلَا نَجِدُ قَصْرَ (صَلَاةِ الْمُسَافِرِ) فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّا وَجَدْنَا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ عَمَلًا عَمِلْنَا بِهِ، فَقَدْ سَمَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ مَقْصُورَةً وَحَمَلَ الْآيَةَ عَلَيْهَا لَا عَلَى قَصْرِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ، وَأَقَرَّهُ ابْنُ عُمَرَ عَلَى ذلك واحتج على قصر الصلاة بِفِعْلِ الشَّارِعِ لَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَأَصْرَحُ مِنْ هذا ما رواه ابن جرير أيضاً عن سماك الحنفي قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ صَلَاةِ السَّفَرِ فَقَالَ: رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ إِنَّمَا الْقَصْرُ في صَلَاةُ الْمَخَافَةِ فَقُلْتُ: وَمَا صَلَاةُ الْمَخَافَةِ؟ فَقَالَ: يُصَلِّي الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً ثُمَّ يَجِيءُ هَؤُلَاءِ إِلَى مَكَانِ هَؤُلَاءِ وَيَجِيءُ هَؤُلَاءِ إِلَى مَكَانِ هَؤُلَاءِ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً فَيَكُونُ لِلْإِمَامِ رَكْعَتَانِ وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ.

- 102 - وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً صَلَاةُ الْخَوْفِ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ فَإِنَّ الْعَدُوَّ تَارَةً يَكُونُ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي غَيْرِ صَوْبِهَا، والصلاة تارة تكون رباعية، وتارة تكون ثلاثة كالمغرب، وتارة تكون ثُنَائِيَّةً كَالصُّبْحِ وَصَلَاةِ السَّفَرِ، ثُمَّ تَارَةً يُصَلُّونَ جَمَاعَةً وَتَارَةً يَلْتَحِمُ الْحَرْبُ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الجماعة، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة غير مُسْتَقْبِلِيهَا وَرِجَالًا وَرَكِبَانَا، وَلَهُمْ أَنْ يَمْشُوا وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَيَضْرِبُوا الضَّرْبَ الْمُتَتَابِعَ فِي مَتْنِ الصَّلَاةِ. وَمِنِ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: يُصَلُّونَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ رَكْعَةً وَاحِدَةً لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ وَبِهِ قال أحمد بن حنبل، وقال إسحاق بن راهوية: أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدى تومىء بِهَا إِيمَاءً. فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ فَسَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لأنها ذِكْرِ الله. وَمَن الْعُلَمَاءِ مَنْ أَبَاحَ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ لِعُذْرِ

الْقِتَالِ وَالْمُنَاجَزَةِ كَمَا أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يوم الأحزاب الظهر والعصر فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْغُرُوبِ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهُمَا الْمَغْرِبَ ثُمَّ الْعَشَاءَ، وَكَمَا قَالَ بَعْدَهَا يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ جَهَّزَ إِلَيْهِمُ الْجَيْشَ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بين قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ: لَمْ يُرِدْ مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا تَعْجِيلَ الْمَسِيرِ وَلَمْ يُرِدْ مِنَّا تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلَّوُا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فِي الطَّرِيقِ، وَأَخَّرَ آخَرُونَ منهم صلاة الْعَصْرَ فَصَلَّوْهَا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَلَمْ يُعَنِّفْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أحداً من الفريقين. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: هَذَا كُلُّهُ مَنْسُوخٌ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ بَعْدُ، فَلَمَّا نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} أَيْ إِذَا صَلَّيْتَ بِهِمْ إِمَامًا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَهَذِهِ حَالَةٌ غَيْرُ الْأُولَى، فَإِنَّ تلك قصرها إلى ركعتة - كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ - فُرَادَى وَرِجَالًا وَرُكْبَانَا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِمَامِ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ وَمَا أَحْسَنَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَيْثُ اغْتُفِرَتْ أَفْعَالٌ كثيرة لأجل الجماعة فلولا أنها واجبة ما سَاغَ ذَلِكَ وَأَمَّا مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَنْسُوخَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} فَبَعْدَهُ تَفُوتُ هَذِهِ الصِّفَةُ فَإِنَّهُ اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِ مَانِعِي الزَّكَاةِ الَّذِينَ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سكن لهم} قَالُوا: فَنَحْنُ لَا نَدْفَعُ زَكَاتَنَا بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَحَدٍ، بَلْ نُخْرِجُهَا نحن بأيديدنا معلى من نراه، ولا ندفعها إلى إلى صِلَاتُهُ أَيْ دُعَاؤُهُ سَكَنٌ لَنَا، وَمَعَ هَذَا رَدَّ عَلَيْهِمُ الصَّحَابَةُ وَأَبَوْا عَلَيْهِمْ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ وَأَجْبَرُوهُمْ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَقَاتَلُوا مَنْ مَنَعَهَا منهم. ولنذكر سبب نزل هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَوَّلًا قَبْلَ ذِكْرِ صِفَتِهَا قال ابن جرير عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلَ قَوْمٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ فَكَيْفَ نُصَلِّي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ} ثم انقطع الوحي، فلما كان كذلك بِحَوْلٍ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لَقَدْ أَمْكَنَكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ مِنْ ظُهُورِهِمْ هلاَّ شَدَدْتُمْ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إِنَّ لَهُمْ أُخْرَى مِثْلَهَا فِي إِثْرِهَا قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآيتين فنزلت صلاة الخوف. وعن أبي عياش الزرقي قال: منا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُسْفَانَ فَاسْتَقْبَلَنَا الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وهم بيننا وبين القبلة فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ فَقَالُوا: لَقَدْ كَانُوا عَلَى حَالٍ لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: يأتي عَلَيْهِمُ الْآنَ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بين الظهر العصر {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} قَالَ: فحضرت فَأَمَرَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذُوا السِّلَاحَ قَالَ: فَصَفَّنَا خَلْفَهُ صَفَّيْنِ قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ فَرَفَعْنَا جَمِيعًا ثُمَّ سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا سَجَدُوا وَقَامُوا جَلَسَ الْآخَرُونَ فَسَجَدُوا فِي مَكَانِهِمْ، ثُمَّ تَقَدَّمَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ ثم هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعُوا جَمِيعًا ثُمَّ رَفَعَ فَرَفَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا جَلَسُوا جَلَسَ الْآخَرُونَ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ قَالَ: فَصَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً

بعسفان ومرة بأرض بني سليم (رواه أحمد وأصحاب السنن) وروى الإمام أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَاتِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَارِبَ خَصَفَةَ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ (غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ) حَتَّى قَامَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: «اللَّهُ» فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «وَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي» قَالَ: كُنْ خَيْرَ آخِذٍ قَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ»؟ قَالَ: لَا، وكن أعاهدك أن لا أُقَاتِلَكَ وَلَا أَكُونُ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ فَخَلَّى سبيله، فَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ، فَلَمَّا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ فَكَانَ النَّاسُ طَائِفَتَيْنِ، طائفة بإزاء العدو. وَطَائِفَةٌ صَلَّوْا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَتَيْنِ وانصرفوا فكانوا مكان الطائفة الذين كانوا بإزاء العدو ثم انصرف الذين كانوا بإزاء العدو فَصَّلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ (تفرد به الإمام أحمد) وَأَمَّا الْأَمْرُ بِحَمْلِ السِّلَاحِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فَمَحْمُولٌ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوُجُوبِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَيَدُلُّ عليه قول الله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أن تضعو أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} أَيْ بِحَيْثُ تَكُونُونَ عَلَى أُهْبَةٍ إِذَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهَا لَبِسْتُمُوهَا بِلَا كُلْفَةٍ {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}.

- 103 - فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا - 104 - وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيمًا يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ عُقَيْبَ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا مُرَغَّبًا فِيهِ أَيْضًا بعد غيرها ولكن ها هنا آكَدُ، لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ التَّخْفِيفِ فِي أَرْكَانِهَا، وَمِنَ الرُّخْصَةِ فِي الذَّهَابِ فِيهَا وَالْإِيَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا كما قال تعالى في الأشهر الحرام: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أنفسكم} وإن كان منهياًعنه في غيرها، ولكن فيه آكَدُ لِشِدَّةِ حُرْمَتِهَا وَعِظَمِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} أَيْ فِي سَائِرِ أَحْوَالِكُمْ، ثُمَّ قال تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ} أَيْ فَإِذَا أَمِنْتُمْ وَذَهَبَ الْخَوْفُ، وَحَصَلَتِ الطُّمَأْنِينَةُ {فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ} أَيْ فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها، وخشوعها، وركعوعها، وسجودها، وجميع شؤونها وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} قال ابن عباس: أي مفروضاً، وقال ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ لِلصَّلَاةِ وَقْتًا كَوَقْتِ الْحَجِّ، وقال زيد بن أسلم: منجماً كلما مضى نجم جاء نجم، يَعْنِي كُلَّمَا مَضَى وَقْتٌ جَاءَ وَقْتٌ. وَقَوْلُهُ تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} أَيْ لَا تَضْعُفُوا فِي طَلَبِ عَدُّوِّكُمْ، بَلْ جِدُّوا فِيهِمْ، وَقَاتَلُوهُمْ، وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ} أَيْ كَمَا يُصِيبُكُمُ الْجِرَاحُ وَالْقَتْلُ كَذَلِكَ

يحصل لهم كما قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مثله} ثم قال تعالى: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} أَيْ أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم مِنَ الْجِرَاحِ وَالْآلَامِ، وَلَكِنْ أَنْتُمْ تَرْجُونَ مِنَ الله المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهو وعد حق، وخبر صدق، وَهُمْ لَا يَرْجُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَنْتُمْ أولى بالجهاد منهم وأشد رغبة فيه، وفي إِقَامَةِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَإِعْلَائِهَا {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} أَيْ هُوَ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ فِيمَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ وَيُنَفِّذُهُ وَيُمْضِيهِ مِنْ أَحْكَامِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

- 105 - إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً - 106 - وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً - 107 - وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا - 108 - يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا - 109 - هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم الْقِيَامَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أَيْ هُوَ حَقٌّ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْحَقَّ فِي خَبَرِهِ وَطَلَبِهِ، وَقَوْلُهُ: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} احْتَجَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ من علماء الأصول إلى أنه كان صلى الله عليه وسلم لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالِاجْتِهَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِمَا ثبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «أَلَا إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها» وقال الإمام أحمد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ يَخْتَصِمَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَارِيثَ بَيْنَهُمَا قَدْ دَرَسَتْ لَيْسَ عِنْدَهُمَا بيِّنه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَإِنَّمَا أنا بشر، ولعل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ يَأْتِي بِهَا انتظاماً فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَبَكَى الرَّجُلَانِ وَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: حَقِّي لِأَخِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمَّا إِذَا قُلْتُمَا فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه». وقد روى ابن مردويه عن ابن عباس: إِنَّ نَفَرًا مِنَ الْأَنْصَارِ غَزَوْا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فَسُرِقَتْ دِرْعٌ لِأَحَدِهِمْ فَأُظِنَّ بِهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَتَى صَاحِبُ الدِّرْعِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: {إِنْ طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ) سَرَقَ دِرْعِي، فَلَمَّا رَأَى السَّارِقُ ذَلِكَ عَمَدَ إِلَيْهَا فَأَلْقَاهَا فِي بَيْتِ رَجُلٍ بَرِيءٍ وَقَالَ لِنَفَرٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ: إِنِّي غيَّبتُ الدِّرْعَ وَأَلْقَيْتُهَا فِي بَيْتِ فُلَانٍ وَسَتُوجَدُ عِنْدَهُ، فَانْطَلِقُوا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ صَاحِبَنَا بَرِيءٌ وَإِنَّ صَاحِبَ الدِّرْعِ فُلَانٌ وَقَدْ أَحَطْنَا بِذَلِكَ عِلْمًا فَاعْذُرْ صَاحِبَنَا عَلَى رُؤُوسِ الناس وجادل عنه، فإنه إن لم يَعْصِمْهُ اللَّهُ بِكَ يَهْلِكْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَرَّأَهُ وَعَذَرَهُ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ

بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً}. ثم قال تعالى لِلَّذِينِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِينَ بِالْكَذِبِ: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} يَعْنِي الَّذِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِينَ يُجَادِلُونَ عَنِ الْخَائِنِينَ ثُمَّ قال عزَّ وجلّ: {وَمَن يَعْمَلْ سوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} الآية يَعْنِي الَّذِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِينَ بِالْكَذِبِ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} يَعْنِي السارق والذين جادلوا عن السارق. وقد روى هذه القصة الترمذي وابن جرير عن (قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كان أهل بيت منا يقال لهم (بنوا أُبَيْرِقٍ) بِشْرٌ وَبُشَيْرٌ وَمُبَشِّرٌ، وَكَانَ بُشَيْرٌ رَجُلًا منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يمحله لبعض الْعَرَبِ، ثُمَّ يَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا سَمِعَ أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشِّعْرَ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ إلا هذا الرجل الْخَبِيثُ - أَوْ كَمَا قَالَ الرَّجُلُ - وَقَالُوا: ابْنُ الْأُبَيْرِقِ قَالَهَا، قَالُوا: وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا طَعَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا كان له يسار فقدمت ضافطة (المكارون الذين ينقلون التجارة من بلد إلى بلد) من الشام من الدرمك الدقيق الابيض) ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، أما الْعِيَالُ فَإِنَّمَا طَعَامُهُمُ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنَ الشَّامِ فَابْتَاعَ عَمِّي (رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ) حملاً من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح ودرع وَسَيْفٌ، فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ فَنُقِبَتِ الْمَشْرَبَةُ وَأُخِذَ الطَّعَامُ وَالسِّلَاحُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَانِي عَمِّي (رِفَاعَةُ) فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ فَنُقِبَتْ مشربتنان فذهب بطعامنا وسلاحنا، قال فتحسسنا فِي الدَّارِ وَسَأَلْنَا فَقِيلَ لَنَا: قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ اسْتَوْقَدُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَلَا نَرَى فِيمَا نَرَى إِلَّا عَلَى بَعْضِ طَعَامِكُمْ قال: وكان بنوا أُبَيْرِقٍ قَالُوا - وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ - وَاللَّهِ مَا نَرَى صَاحِبَكُمْ إِلَّا (لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ) رَجُلًا مِنَّا لَهُ صَلَاحٌ وَإِسْلَامٌ، فَلَمَّا سَمِعَ لَبِيدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ، وَقَالَ: أَنَا أَسْرِقُ!؟ وَاللَّهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ، أَوْ لتبينُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ، قالو: إِلَيْكَ عَنَّا أَيُّهَا الرَّجُلُ فَمَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا، فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حَتَّى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا، فَقَالَ لِي عَمِّي: يَا ابْنَ أَخِي لَوْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتَ ذَلِكَ لَهُ قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: إِنَّ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَّا أَهَّلُ جَفَاءٍ عَمَدُوا إِلَى عَمِّي رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ فَنَقَبُوا مُشْرَبَةً له، أخذوا سِلَاحَهُ وَطَعَامَهُ، فَلْيَرُدُّوا عَلَيْنَا سِلَاحَنَا، فَأَمَّا الطَّعَامُ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سَآمُرُ فِي ذَلِكَ» فَلَمَّا سمع بذلك (بنوا أبيرق) أتو رجلاً منها يقال له (أسيد بن عروة) فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ عَمِدَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إِسْلَامٍ وَصَلَاحٍ يَرْمُونَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبْتٍ، قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلكلمته فَقَالَ: «عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إِسْلَامٌ وَصَلَاحٌ تَرْمِيهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ ثَبْتٍ وَلَا بَيِّنَةٍ»، قَالَ: فَرَجَعْتُ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ بَعْضِ مَالِي وَلَمْ أُكَلِّمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَأَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مَا صَنَعْتَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ المتاب بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} يعني بين أبيرق {واستغفر الله} أي مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً، ولا تجادل الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ - إِلَى قَوْلِهِ - رَّحِيماً} أَيْ لَوِ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ لَغَفَرَ لَهُمْ {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نفسه

إلى قوله - إثماً مبيناً} قوله لِلَبِيدٍ: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ - إِلَى قَوْلِهِ - فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسِّلَاحِ فَرَدَّهُ إِلَى رِفَاعَةَ، فَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا أَتَيْتُ عَمِّي بِالسِّلَاحِ وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عمي أو عشي فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكُنْتُ أَرَى إِسْلَامَهُ مَدْخُولًا فَلَمَّا أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هي فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَعَرَفْتُ أَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ صَحِيحًا، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ لَحِقَ بُشَيْرٌ بِالْمُشْرِكِينَ فَنَزَلَ عَلَى (سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ سُمَيَّةَ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى ويتع غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} فلما نزل على سلافة بنت سعد هجاها (حسان بن ثابت) بأبيات من شعر فَأَخَذَتْ رَحْلَهُ فَوَضَعَتْهُ عَلَى رَأْسِهَا ثُمَّ خَرَجَتْ به فرمته فِي الْأَبْطَحِ، ثُمَّ قَالَتْ: أَهْدَيْتَ لِي شِعْرَ حسان ما كنت تأتيني بخير (رواه الترمذي وابن جرير من حديث قتادة بن النعمان) وقوله تَعَالَى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} الْآيَةَ، هَذَا إِنْكَارٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي كَوْنِهِمْ يَسْتَخْفُونَ بِقَبَائِحِهِمْ مِنَ النَّاسِ لِئَلَّا يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ، ويجاهرون الله بها مع أنه مُطَّلِعٌ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَعَالَمٌ بِمَا فِي ضَمَائِرِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ، ثُمَّ قَالَ تعالى: وها أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية، أَيْ هَبْ أَنَّ هَؤُلَاءِ انْتَصَرُوا فِي الدُّنْيَا بِمَا أَبْدَوْهُ أَوْ أُبْدِيَ لَهُمْ عِنْدَ الْحُكَّامِ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِالظَّاهِرِ وَهُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِذَلِكَ، فَمَاذَا يَكُونُ صَنِيعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تعالى الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي يتوكل لهم يومئذ يوم القيامة في ترويج دعواهم؟ أي لا أحد يومئذ يكون لَهُمْ وَكِيلًا، وَلِهَذَا قَالَ: {أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}؟ ..

- 110 - ومن يعمل سوء أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً - 111 - وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيمًا - 112 - وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً - 113 - وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كَرَمِهِ وَجُودِهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} قَالَ ابن عباس: أخبر الله عباده بعفوه وحلمه وَكَرَمِهِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَمَغْفِرَتِهِ، فَمَنْ أَذْنَبَ ذَنَبًا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ أعظم من السموات والأرض والجبال (أخرجه ابن جري عن ابن عباس) وقال ابن جرير قال عبد الله: كان بنوا إِسْرَائِيلَ إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمْ ذَنْبًا أَصْبَحَ

قَدْ كُتِبَ كَفَّارَةُ ذَلِكَ الذَّنْبِ عَلَى بَابِهِ، وإذا أصاب البول منه شيئاً قَرَضَهُ بِالْمِقْرَاضِ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَقَدْ آتَى اللَّهُ بني إسرائيل خيراً، فقال عبد الله رضي الله عنه: ما آتاكم الله خير مِمَّا آتَاهُمْ جَعَلَ الْمَاءَ لَكُمْ طَهُورًا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لذنوبهم} وَقَالَ: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} وقال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم شيئاً نفعني الله فيه بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي مِنْهُ، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مسلم يذنب ذنباً ثم يتوضأ ثم يصلي ركعتين ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله لذلك الذنب إلاغفر لَهُ» وَقَرَأَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} الآية، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (رواه أحمد) الآية. وقوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} الآية، كقوله تعالى: {ولا تزرو وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} الآية، يعني أنه لا يغني أحد عن أَحَدٍ، وَإِنَّمَا عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ لَا يَحْمِلُ عَنْهَا غَيْرُهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} أَيْ مِنْ عِلْمِهِ وَحَكْمَتِهِ، وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ كَانَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} الآية يَعْنِي كَمَا اتَّهَمَ بَنُو أُبَيْرِقٍ: بِصَنِيعِهِمُ الْقَبِيحِ ذَلِكَ الرَّجُلَ الصَّالِحَ وَهُوَ لَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ زَيْدُ بْنُ السَّمِينِ الْيَهُودِيُّ عَلَى مَا قَالَهُ الْآخَرُونَ وَقَدْ كَانَ بَرِيئًا وَهُمُ الظَّلَمَةُ الْخَوَنَةُ كَمَا أَطْلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ثُمَّ هَذَا التَّقْرِيعُ وَهَذَا التَّوْبِيخُ عَامٌّ فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بصفتهم فارتكب مِثْلَ خَطِيئَتِهِمْ فَعَلَيْهِ مَثَلَ عُقُوبَتِهِمْ، وَقَوْلُهُ: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} وقال الإمام ابن أبي حاتم عن قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَذَكَرَ قِصَّةَ بَنِي أُبَيْرِقٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} يعني أسيد بْنَ عُرْوَةَ وَأَصْحَابَهُ يَعْنِي بِذَلِكَ لَمَّا أَثْنَوْا عَلَى بَنِي أُبَيْرِقٍ وَلَامُوا قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ فِي كَوْنِهِ اتَّهَمَهُمْ وَهُمْ صُلَحَاءُ بُرَآءُ وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا أَنْهَوْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ فصل القضية وجلاءها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْهِ بِتَأْيِيدِهِ إِيَّاهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ؛ وَعِصْمَتِهِ لَهُ؛ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْحِكْمَةُ؛ وَهِيَ السُّنَّةُ {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} أي قَبِلَ نُزُولِ ذَلِكَ عَلَيْكَ كَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب} إلى آخر السورة؛ وقال تعالى: {وما كُنتَ ترجوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} ولهذا قال: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}.

- 114 - لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مرضات اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيمًا - 115 - وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءْتُ مَصِيرًا

يَقُولُ تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} يَعْنِي كَلَامَ النَّاسِ {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} أَيْ إِلَّا نَجْوَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلَامُ ابْنِ آدَمَ كله عليه لا له إلا ذكر الله عزَّ وجلَّ؛ أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ؛ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ»، وفي الحديث: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خيراً؛ أو يقول خيراً»، وقال الإمام أحمد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة» قالوا بلى يا رسول الله قَالَ: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ» قَالَ: «وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مرضات اللَّهِ} أَيْ مُخْلِصًا فِي ذَلِكَ مُحْتَسِبًا ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} أي ثواباً جزيلاً كثيراً واسعاً. وقوله تَعَالَى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} أَيْ وَمَنْ سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَ فِي شِقٍّ، وَالشَّرْعُ فِي شِقٍّ وَذَلِكَ عَنْ عَمْدٍ مِنْهُ، بَعْدَمَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ وَتَبَيَّنَ لَهُ وَاتَّضَحَ لَهُ، وَقَوْلُهُ: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} هَذَا مُلَازِمٌ لِلصِّفَةِ الْأُولَى، وَلَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ لِنَصِّ الشارع وقد تكون لما اجتمعت عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، فِيمَا عُلِمَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا، فَإِنَّهُ قَدْ ضُمِنَتْ لَهُمُ الْعِصْمَةُ فِي اجْتِمَاعِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ، تَشْرِيفًا لَهُمْ وَتَعْظِيمًا لِنَبِيِّهِمْ، وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك. وَمِنِ الْعُلَمَاءِ مَنِ ادَّعَى تَوَاتُرَ مَعْنَاهَا، وَالَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً تَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بَعْدَ التَّرَوِّي وَالْفِكْرِ الطَّوِيلِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِنْبَاطَاتِ وَأَقْوَاهَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قد استشكل ذلك فاستبعد الدِّلَالَةَ مِنْهَا عَلَى ذَلِكَ وَلِهَذَا تَوَعَّدَ تَعَالَى على ذلك بقول: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه علىذلك بِأَنْ نُحْسِّنَهَا فِي صَدْرِهِ وَنُزَيِّنَهَا لَهُ اسْتِدْرَاجًا لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وَجَعْلَ النَّارَ مَصِيرَهُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْهُدَى لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا إِلَى النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} الآية وَقَالَ تَعَالَى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مصرفاً}.

- 116 - إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا - 117 - إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً - 118 - لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً - 119 - وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا - 120 - يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا - 121 - أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا - 122 - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ

جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك} الآية، وَذَكَرْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي صدر هذه السورة وقد روى الترمذي عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية. وَقَوْلُهُ: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} أَيْ فَقَدْ سَلَكَ غَيْرَ الطَّرِيقِ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنِ الْهُدَى وَبَعُدَ عَنِ الصَّوَابِ وَأَهْلَكَ نفسه، وخسرها في الدنيا والآخرة، فاتته سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقَوْلُهُ: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً}، عن عائشة قالت: أوثاناً، وقال ابن جرير عن الضحاك في الآية قال المشركون للملائكة: بَنَاتُ اللَّهِ، وَإِنَّمَا نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زلفى، قال: فاتخذوهن أبابا وصوروهن جواري فَحَكَمُوا وَقَلَّدُوا، وَقَالُوا: هَؤُلَاءِ يُشْبِهْنَ بَنَاتَ اللَّهِ الَّذِي نَعْبُدُهُ يَعْنُونُ الْمَلَائِكَةَ وَهَذَا التَّفْسِيرُ شَبِيهٌ بقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً}، وقال: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً} قال: عني موتى، وقال الْحَسَنُ: الْإِنَاثُ كُلُّ شَيْءٍ مَيِّتٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ، إِمَّا خَشَبَةٌ يَابِسَةٌ، وَإِمَّا حَجَرٌ يَابِسٌ، وَقَوْلُهُ: {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيداً} أَيْ هو الذي أمرهم بذلك وحسنه وزينه لهم وهم إنما يعبدون إبليس في نفسه الأمر كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إليك يا بني آدم إلا تعبدوا الشيطان} الآية، وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ يوم القيامة عن المشركني الذي ادَّعَوْا عِبَادَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} وقول: {لَّعَنَهُ اللَّهُ} أَيْ طَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ جِوَارِهِ وَقَالَ: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} أَيْ مُعَيَّنًا مُقَدَّرًا مَعْلُومًا، قَالَ قتادة مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ {وَلأُضِلَّنَّهُمْْ} أَيْ عَنِ الْحَقِّ {وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} أَيْ أُزَيِّنُ لَهُمْ تَرْكَ التَّوْبَةِ، وَأَعِدُهُمُ الْأَمَانِيَ، وَآمُرُهُمْ بِالتَّسْوِيفِ وَالتَّأْخِيرِ، وَأَغُرُّهُمْ مِنْ أنفسهم. قوله: {وَلأَمُرَنَّهُمْ فلّيبتكنَّ آذَانَ الأنعام} قال قتادة يَعْنِي تَشْقِيقَهَا وَجَعْلَهَا سِمَةً، وَعَلَامَةً لِلْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ والوصيلة {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يعني بذللك خصي الدواب، وقال الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْوَشْمَ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ النَّهْيُ عَنِ الْوَشْمِ فِي الْوَجْهِ، وَفِي لَفْظٍ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَعَنَ الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات (النامصات: ناتفات الزغب والشعر من الوجه، والمتنمصات: اللواتي ينتف الشعر من وجوههن) والمتفلجات (المتفلجات: اللواتي يبردن أطراف أسنانهن للتجميل) للحُسْن الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ قَالَ أَلَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ يَعْنِي قَوْلَهُ: {وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَمُجَاهِدٌ والضحاك فِي قَوْلِهِ: {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} يَعْنِي دين الله عزَّ وجلَّ وهذا كقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لخلق الله} عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ أَمْراً أَيْ لا تبدلوا فطرة الله ودعوا النا عَلَى فِطْرَتِهِمْ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُولَدُ البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها مِنْ جَدْعَاءَ»؟ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بن حماد قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وجلَّ: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم (صرفتهم عن الهدى) عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ" ثم قال تَعَالَى: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} أَيْ فَقَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَتِلْكَ خَسَارَةٌ لَا جَبْرَ لها ولا استدراك لفائتها. وقوله تَعَالَى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} وهذا إخبار عن الواقع فإن الشَّيْطَانَ يَعِدُ أَوْلِيَاءَهُ وَيُمَنِّيهِمْ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ كَذَبَ وَافْتَرَى فِي ذلك، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إلاغروراً}، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْلِيسَ يَوْمَ الْمَعَادِ: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ - إلى قوله - وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أليم}. وقوله: {أولئك} أَيِ الْمُسْتَحْسِنُونَ لَهُ فِيمَا وَعَدَهُمْ ومنَّاهم {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة {وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ عَنْهَا مَنْدُوحَةٌ وَلَا مَصْرِفٌ، وَلَا خَلَاصٌ، وَلَا مناص، ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء وما لهم من الكرامة التامة فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أَيْ صَدَّقَتْ قُلُوبُهُمْ وَعَمِلَتْ جَوَارِحُهُمْ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْخَيِّرَاتِ، وتركوا ما نهو عنها مِنَ الْمُنْكَرَاتِ {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهار} أي يصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أَيْ بِلَا زَوَالٍ وَلَا انْتِقَالٍ {وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً} أَيْ هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ وَوَعْدُ اللَّهِ مَعْلُومٌ حَقِيقَةً أَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا أَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَى تَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ {حَقًّا} ثُمَّ قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}؟ أَيْ لَا أحد أصدق منه قولاً أي خبراً لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: «إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هديُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، كل ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ».

- 123 - لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يعمل سوء يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً - 124 - وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَالِحَاتِ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً - 125 - وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا - 126 - وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ فَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ ونبينا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزّ بِهِ} {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً

مِمَّنْ أسلم وجهه لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} الآية، ثم أفلج اللَّهُ حُجَّةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ مِنْ أهل الأديان. وكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَخَاصَمَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ، فَقَالَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ: كِتَابُنَا خَيْرُ الْكُتُبِ، وَنَبِيُّنَا خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ: مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ: لَا دِينَ إِلَّا الْإِسْلَامُ، وَكِتَابُنَا نَسَخَ كُلَّ كِتَابٍ؛ وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ النبيين، وأمرتهم وَأُمِرْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِكِتَابِكُمْ وَنَعْمَلَ بِكِتَابِنَا فَقَضَى الله بينهم وقال: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يعمل سوءاً يُجْزَ بِهِ} الآية؛ وخيِّر بَيْنَ الْأَدْيَانِ فَقَالَ: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وجهه لله وهو مُحْسِنٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَتِ الْعَرَبُ لَنْ نُبعث وَلَنْ نُعذب؛ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أو نصارى} وقالوا: {لن تمسنا النار إلا أياما معدودات} وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الدِّينَ لَيْسَ بالتحلي ولا بالتمني؛ ولكن ما قر في القلوب وصدقته الأعمال، وَلَيْسَ كُلُّ مَنِ ادَّعَى شَيْئًا حَصَلَ لَهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَلَا كُلُّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ هو على الحق سُمِعَ قَوْلُهُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سوءاً يُجْزَ بِهِ} أَيْ لَيْسَ لَكُمْ وَلَا لَهُمُ النَّجَاةُ بِمُجَرَّدِ التمني؟ بل العبرة بطاعة الله سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الْكِرَامِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}، كَقَوْلِهِ: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ؛ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ الإمام أحمد بسنده أخبرت إن أبا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كيف الفلاح بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يعمل سوءاً يجزبه} فكل سوء عملناه جُزيناه بِهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْتَ تمرض؟ ألست تنصب؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ»؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: «فَهُوَ مما تجزون به» وروى أبو بكر بن مردويه عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت عليّ» قلت: بلى يا رسول الله قال: فأقرأنيها فلا أعلم أني قد وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مالك يَا أَبَا بَكْرٍ»؟ قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يا رسول الله، وأينا لم يعلم السُّوءَ، وَإِنَّا لَمَجْزِيُّونَ بِكُلِّ سُوءٍ عَمِلْنَاهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة». وقال ابن جرير: لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما هي المصيبات في الدنيا». (حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عائشة: أن رجلاً تلى هذه الآية: {من يعمل سوءا يُجْزَ بِهِ} فقال: إنا لنجزى بكل ما عملناه هَلَكْنَا إذًا فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «نَعَمْ يُجْزَى بِهِ الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا فِي نَفْسِهِ فِي جَسَدِهِ فِيمَا يُؤْذِيهِ». (طَرِيقٌ أُخْرَى) قَالَ ابْنُ أَبِي حاتم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَشَدَّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: "ما هي يا عائشة؟ قتل: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} فَقَالَ: «هُوَ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ حَتَّى النَّكْبَةُ يُنْكَبُهَا». وعن علي بن زيد عن ابنته أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {مَنْ يعلم سوءاً يُجْزَ بِهِ} فقالت: ما سألني أحد عن هذه الآية منه سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ هَذِهِ مُبَايَعَةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ مِمَّا يُصِيبُهُ مِنَ الْحُمَّى وَالنَّكْبَةِ وَالشَّوْكَةِ حَتَّى البضاعة فيضعها فِي كُمِّهِ فَيَفْزَعُ لَهَا فَيَجِدُهَا فِي جَيْبِهِ حَتَّى إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِيَخْرُجُ

من ذنوبه كما أن الذهب يخرج من الكير» (رواه أبو داود والطيالسي) (حديث آخر): قال سعد بن منصور عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمةَ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا فَإِنَّ فِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا وَالنَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا» وَهَكَذَا رَوَاهُ أحمد وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} بَكَيْنَا وَحَزِنَّا وَقُلْنَا يَا رسول الله: ما أبقت هذه الأمة مِنْ شَيْءٍ قَالَ: «أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنها لكما أنزلت وَلَكِنْ أَبْشِرُوا وَقَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ أحداً منكم مصيبة في الدنيا إلا كفر الله بِهَا مِن خَطِيئَتَهُ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا أَحَدُكُمْ فِي قَدَمِهِ» (حديث آخر): روى ابن مردويه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قَالَ: «نَعَمْ وَمَنْ يَعْمَلْ حَسَنَةً يُجْزَ بِهَا عَشْرًا» فهلك من غلب واحدته عشراته. وقال ابن جرير عَنِ الْحَسَنِ {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قَالَ: الْكَافِرُ ثُمَّ قَرَأَ: {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الكفور}، وَقَوْلُهُ {وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَّا أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ وَاللَّهُ أعلم. وقوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الْآيَةَ، لما ذكر الجزاء على السيئات ولأنه لَا بُدَّ أَنْ يَأْخُذَ مُسْتَحَقَّهَا مِنَ الْعَبْدِ أما في الدنيا وهو أجود لَهُ، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ؛ وَنَسْأَلُهُ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالصَّفْحَ وَالْعَفْوَ وَالْمُسَامَحَةَ، شَرَعَ فِي بَيَانِ إِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ ورحمته في قبول الأعمال الصلاحة مِنْ عِبَادِهِ، ذُكْرَانِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ وَلَا يَظْلِمُهُمْ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَلَا مِقْدَارَ النَّقِيرِ، وَهُوَ النَّقْرَةُ الَّتِي فِي ظَهْرِ نَوَاةِ التَّمْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْفَتِيلِ، وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي فِي شِقِّ النَّوَاةِ، وَهَذَا النقير وهما في نواة التمرة والقطمير وهو اللفاقة التي على نوات التمرة، والثلاثة في القرآن. ثم قال تعالى: {وم أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أسلم وجهه لله}؟ ايأخلص الْعَمَلَ لِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ فَعَمِلَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أَيِ اتَّبَعَ فِي عَمَلِهِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ وَمَا أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَهَذَانَ الشَّرْطَانِ لَا يَصِحُّ عَمَلُ عَامِلٍ بِدُونِهِمَا أَيْ يَكُونُ (خَالِصًا صواباً) والخالص أن يكون له، والصواب أن يكون متابعاً للشرعة فَيَصِحُّ ظَاهِرُهُ بِالْمُتَابَعَةِ، وَبَاطِنُهُ بِالْإِخْلَاصِ فَمَتَى فَقَدَ الْعَمَلُ أَحَدَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فَسَدَ، فَمَنْ فَقَدَ الْإِخْلَاصَ كَانَ مُنَافِقًا وَهُمُ الَّذِينَ يُرَاؤُونَ النَّاسَ، وَمَنْ فَقَدَ الْمُتَابَعَةَ كَانَ ضَالًّا جَاهِلًا وَمَتَى جمعهما كان عمل المؤمنين {الَّذِينَ يَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَتَجَاوَزُ عن سيئاتهم}، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} وَهُمْ مُحَمَّدٌ وَأَتْبَاعُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَالْحَنِيفُ هُوَ الْمَائِلُ عَنِ الشِّرْكِ قَصْدًا أَيْ تَارِكًا لَهُ عَنْ بَصِيرَةٍ وَمُقْبِلٌ عَلَى الْحَقِّ بِكُلِّيَّتِهِ لَا يَصُدُّهُ عَنْهُ صَادٌّ، وَلَا يَرُدُّهُ عنه راد. وقوله تعالى: {واتخذ الله إبراهم خَلِيلاً} وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّرْغِيبِ فِي اتِّبَاعِهِ، لِأَنَّهُ إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ حَيْثُ وَصَلَ

إلى غاية ما يتقرب به العباد فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي أَرْفَعُ مَقَامَاتِ الْمُحِبَّةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِكَثْرَةِ طَاعَتِهِ لِرَبِّهِ كَمَا وَصَفَهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفَّى} قال كثير من علماء السَّلَفِ: أَيْ قَامَ بِجَمِيعِ مَا أُمِرَ بِهِ، وفي كُلَّ مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَشْغَلُهُ أَمْرٌ جَلِيلٌ عَنْ حَقِيرٍ، وَلَا كَبِيرٌ عَنْ صَغِيرٍ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إبراهيمَ ربُه بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} الآية، وقال البخاري عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: إِنَّ مُعَاذًا لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فَقَرَأَ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: لَقَدْ قَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ، وإنما سمي خليل الله لشدة محبته لربه عزّض وجلَّ لما قام به مِنَ الطَّاعَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَهُمْ فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قُحَافَةَ خَلِيلًا وَلَكِنَّ صاحبكم خليل الله». وروى أبو بكر بن مردويه عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ فَسَمِعَ حَدِيثَهُمْ وَإِذَا بَعْضُهُمْ يقول: عجب إِنِ اللَّهَ اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلًا فَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُهُ، وَقَالَ آخَرُ: مَاذَا بِأَعْجَبِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَقَالَ آخَرُ: فَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، وَقَالَ آخَرُ: آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ وَقَالَ: "قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَتَعَجُّبَكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى كَلِيمُهُ، وَعِيسَى رُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ، وَآدَمَ اصطفاه الله، وهو كذلك، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم قال: أَلَا وَإِنِّي حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح الله ويدخلنيها، وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ". وَهَذَا حديث غريب ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها وعن إسحاق بن يسار قال: لما اتخذ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا أَلْقَى فِي قَلْبِهِ الْوَجَلَ حَتَّى أن خَفَقَانُ قَلْبِهِ لَيُسْمَعُ مِنْ بَعِيدٍ كَمَا يُسْمَعُ خَفَقَانُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَهَكَذَا جَاءَ فِي صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُسْمَعُ لِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ إذا اشتد غليانها من البكاء وقوله: {وَللَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ} أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ وَخَلْقُهُ، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، لَا رَادَّ لِمَا قَضَى، وَلَا مُعَقِّبَ لِمَا حَكَمَ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لِعَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ وَلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً} أَيْ عِلْمُهُ نَافِذٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ ذَرَّةٌ لِمَا تَرَاءَى لِلنَّاظِرِينَ وَمَا تَوَارَى.

- 127 - وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ

خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ - إلى قوله - وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} قالت عائشة: هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ هُوَ وَلِيُّهَا ووارثها فأشركته فِي مَالِهِ حَتَّى فِي الْعَذْقِ، فَيَرْغَبُ أَنْ يَنْكِحَهَا وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلًا فَيَشْرَكَهُ فِي مَالِهِ بِمَا شَرِكَتْهُ فَيَعْضُلُهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} الْآيَةَ، قَالَتْ: وَالَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يتلى عليه فِي الْكِتَابِ، الْآيَةُ الْأَوْلَى الَّتِي قَالَ اللَّهُ: {وَإِنْ خفتم أن لا تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا ماطاب لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ} وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَقَوْلُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حِجْرِهِ، حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجِمَالِ، فَنُهُوا أَنْ ينكحوا من رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجِمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلَّا بِالْقِسْطِ، مِنْ أَجْلِ رغبتهم عنهن. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ فِي حِجْرِهِ يَتِيمَةٌ يَحِلُّ لَهُ تَزْوِيجُهَا فَتَارَةً يَرْغَبُ فِي أن يتزوجها فأمره الله أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء، إن لَمْ يَفْعَلْ فَلْيَعْدِلْ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى الَّتِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وتارة لا يكون له فِيهَا رَغْبَةٌ لِدَمَامَتِهَا عِنْدَهُ أَوْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَنَهَاهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أَنْ يُعْضِلَهَا عَنِ الْأَزْوَاجِ، خَشْيَةَ أَنْ يَشْرَكُوهُ فِي مَالِهِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ، وهي قوله: {فِي يَتَامَى النسآء} كان الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ فَيُلْقِي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لم يقدر أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَبَدًا، فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً وَهَوِيَهَا تَزَوَّجَهَا وَأَكَلَ مَالَهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَمِيمَةً مَنْعَهَا الرِّجَالَ أَبَدًا حَتَّى تَمُوتَ، فَإِذَا مَاتَتْ وَرِثَهَا، فحرم الله ذلك ونهى عنه. وقال ابن عباس: {والمستضعفين مِنَ الولدان} وكانوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُورِثُونَ الصِّغَارَ وَلَا الْبَنَاتَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لاَ تؤتونهنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَبَيَّنَ لِكُلِّ ذِي سَهْمٍ سَهْمَهُ فَقَالَ: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} صغيرا أو كبيرا، وقال سعيد بن جبير: {وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} كَمَا إِذَا كَانَتْ ذَاتَ جِمَالٍ وَمَالٍ نَكَحْتَهَا وَاسْتَأْثَرْتَ بِهَا، كَذَلِكَ إذا لم تكن ذات مال ولا جمال فأنكحها وستأثر بِهَا. وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ به عليماً} تهييجاً على فعل الخيرات وامتثالاً للأوامر، وَأَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ عَالِمٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَسَيَجْزِي عَلَيْهِ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ وَأَتَمَّهُ.

- 128 - وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً - 129 - وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً - 130 - وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيماً

يقول تعالى مخبراً ومشرعاً من حَالِ الزَّوْجَيْنِ تَارَةً فِي حَالِ نُفُورِ الرَّجُلِ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَتَارَةً فِي حَالِ اتِّفَاقِهِ مَعَهَا، وَتَارَةً فِي حَالِ فِرَاقِهِ لَهَا، فَالْحَالَةُ الْأُولَى: مَا إِذَا خَافَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا أَنْ يَنْفِرَ عَنْهَا أَوْ يُعْرِضَ عَنْهَا، فَلَهَا أَنْ تسقط عنه حَقَّهَا أَوْ بَعْضَهُ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ كُسْوَةٍ أو مبيت أو غير ذلك من حقوقها عَلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهَا فَلَا حرج عَلَيْهَا فِي بَذْلِهَا ذَلِكَ لَهُ، وَلَا عَلَيْهِ فِي قَبُولِهِ مِنْهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} ثُمَّ قَالَ: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} أَيْ مِنَ الْفِرَاقِ، وَقَوْلُهُ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} أَيِ الصُّلْحُ عِنْدَ الْمُشَاحَّةِ خَيْرٌ مِنَ الْفِرَاقِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَبِرَتْ (سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ} عَزْمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِرَاقِهَا، فَصَالَحَتْهُ عَلَى أَنْ يُمْسِكَهَا وَتَتْرُكَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهَا أبقاها على ذلك {ذكر الرواية بذلك): عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَشِيَتْ سَوْدَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَا تُطَلِّقْنِي وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فلا جناح عليها} الْآيَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ من شيء فهو جائز (أخرجه الطيالسي والترمذي وقال: حسن غريب) وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا كَبِرَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زمعة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لَهَا بِيَوْمِ سودة. وعن عروة عن عائشة، أنها قالت لها يَا ابْنَ أُخْتِي: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفضل بعضاً عَلَى بَعْضٍ فِي مُكْثِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ قلَّ يوم إلاّ وهو يطوف علينا فيدنوا مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى مَنْ هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتَ عِنْدَهَا، وَلَقَدْ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ حِينَ أَسَنَّتْ، وَفَرِقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمِي هَذَا لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ عَائِشَةُ، فَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إعراضاً} (ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه) وروى ابن جرير عَنْ عَائِشَةَ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} قَالَتْ: هَذَا في المرأة تكون عند الرجل، فلعله لا يكون بمستكثر منها، ولا يكون لها ولد، ويكون لها صُحْبَةٌ فَتَقُولُ: لَا تُطَلِّقْنِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ من شأني، وفي رواية أخرى عن عائشة: هو الرجل لها المرأتان إحداهما قد كبرت والآخرى دَمِيمَةٌ وَهُوَ لَا يَسْتَكْثِرُ مِنْهَا فَتَقُولُ: لَا تطلقني وأنت في حل من شأني. وعن ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بن الخطاب فسأله عن آية فكرهه فضربه بِالدِّرَّةِ، فَسَأَلَهُ آخَرُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} ثم قال مثل هذا فاسألوا، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ قَدْ خَلَا مِنْ سِنِّهَا فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ الشَّابَّةَ يَلْتَمِسُ وَلَدَهَا، فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فهو جائز. وقال ابن أبي حاتم عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلى علي بن أبي طالب فسأله عن قوله الله عزَّ وجلَّ {وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا شوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ} قَالَ عَلِيٌّ: يكون الرجل عنده المرأة فتنبوا عيناه عنها من دمامته، أَوْ كِبَرِهَا، أَوْ سُوءِ خُلُقِهَا، أَوْ قُذَذِهَا فَتَكْرَهُ فِرَاقَهُ، فَإِنْ وَضَعَتْ لَهُ مِنْ مَهْرِهَا شَيْئًا حَلَّ لَهُ، وَإِنْ جَعَلَتْ لَهُ مِنْ أيامها فلا حرج. وقال الحافظ أبو بكر البيهقي عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: أَنَّ السُّنَّةَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اللتين ذكر الله فيهما نشوز الرجل وَإِعْرَاضَهُ عَنِ امْرَأَتِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً}

إِلَى تَمَامِ الْآيَتَيْنِ، أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا نَشَزَ عَنِ امْرَأَتِهِ وَآثَرَ عَلَيْهَا، فَإِنَّ مِنَ الْحَقِّ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهَا أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ تَسْتَقِرَّ عِنْدَهُ عَلَى مَا كَانَتْ مِنْ أَثَرَةٍ فِي الْقَسْمِ مِنْ مَالِهِ وَنَفْسِهِ، صَلَحَ لَهُ ذَلِكَ وكان صُلْحُهَا عَلَيْهِ، كَذَلِكَ ذَكَرَ (سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ) و (سليمان) الصلحَ الذي قاله اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ الْأَنْصَارِيَّ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ حَتَّى إِذَا كبرتْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَتَاةً شَابَّةً وَآثَرَ عَلَيْهَا الشَّابَّةَ، فَنَاشَدَتْهُ الطَّلَاقَ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً، ثُمَّ أَمْهَلَهَا حَتَّى إِذَا كادت تحل راجعها، ثم عاد فآثر عليها الشابة فَنَاشَدَتْهُ الطَّلَاقَ، فَقَالَ لَهَا: مَا شِئْتِ إِنَّمَا بَقِيَتْ لَكِ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ شِئْتِ اسْتَقْرَرْتِ عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنَ الْأَثَرَةِ وَإِنْ شِئْتِ فَارَقْتُكِ، فَقَالَتْ: لَا بَلْ أَسْتَقِرُّ عَلَى الْأَثَرَةِ، فَأَمْسَكَهَا عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ صُلْحَهُمَا، وَلَمْ يَرَ رَافِعٌ عَلَيْهِ إِثْمًا حِينَ رَضِيَتْ أَنْ تَسْتَقِرَّ عِنْدَهُ عَلَى الْأَثَرَةِ فِيمَا آثَرَ بِهِ عليها (أخرجه البهيقي وابن أبي حاتم) وقوله تعالى: {والصلح خير} قال ابن عباس: يعني التخيير، وهذه هي الحالة الثانية: أَنْ يُخَيِّرَ الزَّوْجُ لَهَا بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالْفِرَاقِ خَيْرٌ مِنْ تَمَادِي الزَّوْجِ عَلَى أَثَرَةِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ صُلْحَهُمَا عَلَى تَرْكِ بَعْضِ حَقِّهَا لِلزَّوْجِ وَقَبُولِ الزَّوْجِ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ الْمُفَارَقَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا أَمْسَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ) عَلَى أَنْ تَرَكَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَلَمْ يُفَارِقْهَا بَلْ تَرَكَهَا مِنْ جُمْلَةِ نِسَائِهِ، وَفِعْلُهُ ذَلِكَ لِتَتَأَسَّى بِهِ أُمَّتُهُ فِي مَشْرُوعِيَّةٍ ذَلِكَ وَجَوَازِهِ، فَهُوَ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَمَّا كَانَ الْوِفَاقُ أَحَبَّ إلى الله مِنَ الْفِرَاقِ قَالَ: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}، بَلِ الطَّلَاقُ بَغِيضٌ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْغَضُ الحلال إلى الله الطلاق». وقوله تعالى: {وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}، وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تَكْرَهُونَ مِنْهُنَّ، وَتُقْسِمُوا لَهُنَّ أُسْوَةَ أَمْثَالِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِذَلِكَ وَسَيَجْزِيَكُمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أَيْ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْ تُسَاوُوا بَيْنَ النِّسَاءِ مِنْ جميع الوجوه، فإنه وإن وقع الْقَسْمُ الصُّورِيُّ لَيْلَةً وَلَيْلَةً فَلَا بُدَّ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ وَالْجِمَاعِ كَمَا قَالَهُ ابن عباس ومجاهد والضحاك. وجاء فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السنن عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ، ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أملك»، يعني القلب. وَقَوْلُهُ: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ} أَيْ فَإِذَا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في اميل بِالْكُلِّيَّةِ {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أَيْ فَتَبْقَى هَذِهِ الْأُخْرَى معلقة، قال ابن عباس وآخرون: معناه لا ذات زوج ولا مطلقة؛ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شقيه ساقط» (رواه أحمد وأصحاب السنن) وقوله تعالى: {وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} أَيْ وَإِنْ أَصْلَحْتُمْ فِي أُمُورِكُمْ، وَقَسَمْتُمْ بِالْعَدْلِ فِيمَا تَمْلِكُونَ، وَاتَّقَيْتُمِ اللَّهَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ مَا كَانَ مِنْ مَيْلٍ إِلَى بَعْضِ النِّسَاءِ دُونَ بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} وَهَذِهِ هِيَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ حَالَةُ الْفِرَاقِ: وَقَدْ أخبر الله تَعَالَى أَنَّهُمَا إِذَا تَفَرَّقَا فَإِنَّ اللَّهَ يُغْنِيهِ عنها ويغنيها عنه، بأن يعوضه الله مَنْ هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْهَا وَيُعَوِّضَهَا

عَنْهُ بِمَنْ هُوَ خَيْرٌ لَهَا مِنْهُ، {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} أَيْ وَاسْعَ الْفَضْلِ عَظِيمَ الْمَنِّ حَكِيمًا فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْدَارِهِ وَشَرْعِهِ.

- 131 - وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا - 132 - وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً - 133 - إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً - 134 - مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيرًا يُخْبِرُ تَعَالَى أنه مالك السموات وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ الْحَاكِمُ فِيهِمَا وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} أَيْ وَصَّيْنَاكُمْ بِمَا وَصَّيْنَاهُمْ بِهِ مِنْ تَقْوَى الله عزّض وجلَّ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السموات وما في الأرض} الآية، كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} وَقَالَ: {فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أَيْ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادِهِ، {حَمِيدٌ أَيْ مَحْمُودٌ فِي جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَشْرَعُهُ، وَقَوْلُهُ: {وَللَّهِ مَا فِي السموات وما في الأرض الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أَيْ هُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، الرَّقِيبُ الشَّهِيدُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَقَوْلُهُ: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً} أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِذْهَابِكُمْ وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه، كما قال: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} قال بَعْضُ السَّلَفِ: مَا أَهْوَنَ الْعِبَادَ عَلَى اللَّهِ إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ!! وَقَالَ تَعَالَى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ* وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ} أي وما هو عليه بممتنع. وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدينا والآخرة} أي يا من ليس له هَمُّهُ إِلَّا الدُّنْيَا اعْلَمْ أَنَّ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِذَا سَأَلْتَهُ مِنْ هَذِهِ وَهَذِهِ أَعْطَاكَ وَأَغْنَاكَ وَأَقْنَاكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حرثه} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لمن نريد} الآية. وقوله: {فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} ظَاهِرٌ فِي حصول الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَيْ بِيَدِهِ هَذَا وهذا، فلا يقتصران قَاصِرُ الْهِمَّةِ عَلَى السَّعْيِ لِلدُّنْيَا فَقَطْ، بَلْ لِتَكُنْ هِمَّتُهُ سَامِيَةٌ إِلَى نَيْلِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ مَرْجِعَ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى الَّذِي بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، الَّذِي قَدْ قسم السعادة والشقاوة بين الناس في الدنيا والآخرة، وَعَدَلَ بَيْنَهُمْ فِيمَا عَلِمَهُ فِيهِمْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ هَذَا، وَمِمَّنْ يَسْتَحِقُّ هَذَا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}

- 135 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً

يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ أَيْ بِالْعَدْلِ فَلَا يَعْدِلُوا عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شَمَالًا، وَلَا تَأْخُذَهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا يَصْرِفَهُمْ عَنْهُ صَارِفٌ، وَأَنْ يَكُونُوا مُتَعَاوِنِينَ مُتَسَاعِدِينَ مُتَعَاضِدِينَ مُتَنَاصِرِينَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: {شُهَدَآءَ للَّهِ} كَمَا قَالَ: {وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} أَيْ أدوها ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ صَحِيحَةً عَادِلَةً حَقًّا، خَالِيَةً مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَالْكِتْمَانِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أَيْ اشْهَدِ الْحَقَّ وَلَوْ عَادَ ضَرَرُهَا عَلَيْكَ، وَإِذَا سُئِلْتَ عَنِ الأمر فقل الحق فيه لو عادت مضرته عَلَيْكَ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لِمَنْ أَطَاعَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مَنْ كُلِّ أَمْرٍ يَضِيقُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: {أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} أَيْ وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى وَالِدَيْكَ وَقَرَابَتِكَ فَلَا تُرَاعِهِمْ فِيهَا، بَلِ اشهد الحق وَإِنَّ عَادَ ضَرَرُهَا عَلَيْهِمْ فَإِنَّ الْحَقَّ حَاكِمٌ على كل أحد، وقوله: {وإن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أَيْ لَا تَرْعَاهُ لِغِنَاهِ وَلَا تُشْفِقْ عَلَيْهِ لِفَقْرِهِ، اللَّهُ يَتَوَلَّاهُمَا، بَلْ هُوَ أَوْلَى بِهِمَا مِنْكَ وَأَعْلَمُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمَا وَقَوْلُهُ: {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ} أَيْ فَلَا يَحْمِلْنَّكُمُ الهوى والعصبية وبغض النَّاسِ إِلَيْكُمْ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِي أُمُورِكُمْ وَشُؤُونِكُمْ، بَلِ الْزَمُوا الْعَدْلَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} ومن هذا قَوْلُ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ) لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهمم، فَأَرَادُوا أَنْ يَرْشُوهُ لِيَرْفُقَ بِهِمْ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَيَّ وَلْأَنْتَمْ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ أَعْدَادِكُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَمَا يَحْمِلُنِي حُبِّي إِيَّاهُ، وَبُغْضِي لَكُمْ على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض. وقوله تعالى: {وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ} قال مجاهد: تلووا أن تُحَرِّفُوا الشَّهَادَةَ وَتُغَيِّرُوهَا، وَاللَّيُّ: هُوَ التَّحْرِيفُ وَتَعَمُّدُ الكذب. قال تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} الآية، والإعراض: هو كتمان الشهادة وتركها. قال تعالى: {ون يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قلبه}، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الشهداء الذي يأتي بالشهادة قَبْلَ أَنْ يُسألها»، وَلِهَذَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أَيْ وسيجازيكم بذلك.

- 136 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بعيدا يأمر تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالدُّخُولِ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ وَشُعَبِهِ وَأَرْكَانِهِ وَدَعَائِمِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ باب تحصيل الحاصل، بل هو من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته الاستمرار عَلَيْهِ، كَمَا يَقُولُ الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ {اهدنا الصراط المستقيم} أي بصّرنا وَزِدْنَا هُدَى، وَثَبِّتْنَا عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ}، وَقَوْلُهُ: {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} وَهَذَا جِنْسٌ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَالَ فِي الْقُرْآنِ {نَزَّلَ} لِأَنَّهُ نَزَلَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا عَلَى الوقائع بحسب ما يحتج إليه العباد في معاشهم ومعادهم، وَأَمَّا الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَكَانَتْ تَنْزِلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، لهذا قال تعالى: {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ}، ثُمَّ قَالَ تعالى: {ومن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وكتبه ورسله اليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ صلالاً بَعِيداً} أَيْ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، وَبَعُدَ عَنِ الْقَصْدِ كُلَّ الْبُعْدِ.

- 137 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا - 138 - بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً - 139 - الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعًا - 140 - وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّنْ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ فِيهِ، ثُمَّ رَجَعَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى ضَلَالِهِ وَازْدَادَ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ لَا تَوْبَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ، وَلَا يَجْعَلُ لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَرَجًا وَلَا مَخْرَجًا وَلَا طَرِيقًا إِلَى الْهُدَى، وَلِهَذَا قَالَ: {لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} قَالَ ابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله تعالى: {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} قال: تمادوا على كفرهم حتى ماتوا. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}، ثُمَّ قَالَ: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} يَعْنِي أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا، فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مَعَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ يُوَالُونَهُمْ وَيُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ إِذَا خَلَوْا بِهِمْ {إنما نحن مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مستهزءون} أَيْ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي إِظْهَارِنَا لَهُمُ الْمُوَافَقَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِيمَا سَلَكُوهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ} ثُمَّ أَخْبَرَ الله تعالى بأن العزة كلها له وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِمَنْ جَعَلَهَا لَهُ كما قال تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يعلمون}، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّهْيِيجِ عَلَى طَلَبِ الْعِزَّةِ من جناب الله، والإقبال على عُبُودِيَّتِهِ وَالِانْتِظَامِ فِي جُمْلَةِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ لهم النصرة في الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ نزَّل عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ}، أَيْ إنكم إِذَا ارْتَكَبْتُمِ النَّهْيَ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَيْكُمْ، وَرَضِيتُمْ بِالْجُلُوسِ مَعَهُمْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُكْفَرُ فِيهِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيُسْتَهْزَأُ وَيُنْتَقَصُ بِهَا، وَأَقْرَرْتُمُوهُمْ عَلَى ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم في فلهذا قال تعالى: {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} فِي الْمَأْثَمِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ» وَالَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ النَّهْيِ فِي ذَلِكَ، هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} الآية. قَالَ مُقَاتِلُ بُنُ حَيَّانَ: نَسَختْ هَذِهِ الْآيَةُ التي في سورة الْأَنْعَامِ، يَعْنِي نُسِخَ قَوْلُهُ: {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ}، لِقَوْلِهِ: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ من شيء ولكن ذكرى لَعَلَّهُمْ يتقون} وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً}، أَيْ كَمَا أَشْرَكُوهُمْ فِي الْكُفْرِ، كذلك يشارك اللَّهُ بَيْنَهُمْ فِي الْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أبداً، ويجمع بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ وَالْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ وشراب الحميم والغسلين.

- 141 - الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ دَوَائِرَ السُّوءِ، بِمَعْنَى يَنْتَظِرُونَ زَوَالَ دَوْلَتِهِمْ وظهور الكفرة عَلَيْهِمْ وَذَهَابَ مِلَّتِهِمْ، {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ} أَيْ نَصْرٌ وَتَأْيِيدٌ وَظَفَرٌ وَغَنِيمَةٌ: {قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ}؟ أَيْ يَتَوَدَّدُونَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ}: أَيْ إِدَالَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ كَمَا وَقَعَ يَوْمَ أُحد، فَإِنَّ الرُّسُلَ تُبْتَلَى ثُمَّ يَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ، {قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}؟ أَيْ سَاعَدْنَاكُمْ فِي الْبَاطِنِ وَمَا أَلَوْنَاهُمْ خَبَالًا وَتَخْذِيلًا حَتَّى انْتَصَرْتُمْ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ: نَغْلِبْ عَلَيْكُمْ، كقوله: {استحوذ عليهم الشيطان} وَهَذَا أَيْضًا تَوَدُّدٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُصَانِعُونَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لِيَحْظَوْا عِنْدَهُمْ وَيَأْمَنُوا كَيْدَهُمْ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ وَقِلَّةِ إِيقَانِهِمْ. قال تَعَالَى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ مِنِ الْبَوَاطِنِ الرَّدِيئَةِ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْكُمْ ظاهراً في الحياة الدنيا، لما له فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تَنْفَعُكُمْ ظَوَاهِرُكُمْ، بَلْ هُوَ يَوْمٌ تُبْلَى فِيهِ السرائر ويحصل مَا فِي الصدور. وقوله تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سبيلاًؤ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: كَيْفَ هَذِهِ الْآيَةُ {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}؟ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ الله عنه: ادنه ادنه {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} قَالَ ذَاكَ يوم القيامة، وكذا روى السدي: يعني يوم القيامة، وقال السدي {سَبِيلاً} أي حجة، ويحتمل أن يكون المعنى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أَيْ فِي الدُّنْيَا، بِأَنْ يُسَلَّطُوا عَلَيْهِمُ اسْتِيلَاءَ اسْتِئْصَالٍ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ ظَفَرٌ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدنيا} الآية، وعلى هذا يكون رداً على المافقين فيما أمَّلوه ورجوه وَانْتَظَرُوهُ مِنْ زَوَالِ دَوْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِيمَا سَلَكُوهُ مِنْ مُصَانَعَتِهِمُ الْكَافِرِينَ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ، إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم، كا قَالَ تَعَالَى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ - إلى قوله - نَادِمِينَ}، وقد استدل كثير من العلاماء بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ وهو المنع من بيع (العبد المسلم) للكافرين لِمَا فِي صِحَّةِ ابْتِيَاعِهِ مِنَ التَّسْلِيطِ لَهُ عَلَيْهِ وَالْإِذْلَالِ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِالصِّحَّةِ يَأْمُرُهُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ فِي الْحَالِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}

- 142 - إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً - 143 - مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً

قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلُهُ تعالى: {يُخَادِعُونَ الله والذين آمنوا}، وقال ههنا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وَلَا شك أن الله لَا يُخَادَعُ، فَإِنَّهُ الْعَالِمُ بِالسَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ، وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَمْرَهُمْ - كَمَا رَاجَ عِنْدَ النَّاسِ وَجَرَتْ عَلَيْهِمْ أحكام الشريعة ظاهراً - فكذلك يكون حكمهم عند الله يوم القيامة، وإن أمرهم يروج عنده، كما أخبر تعالى عنهم أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْلِفُونَ لَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالسَّدَادِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ نَافِعٌ لهم عنده، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يحلفون لكم} الآية، وقتوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أَيْ هُوَ الَّذِي يَسْتَدْرِجُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَيَخْذُلُهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ في الدنيا، وكذلك يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نوركم - إلى قوله - وَبِئْسَ المصير}، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ سمَّع سَمَّعَ الله به، ومن رايا رايا الله به»، وفي الحديث الآخر: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَبْدِ إِلَى الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَيُعْدَلُ بِهِ إِلَى النَّارِ» عِيَاذًا بالله من ذلك. وقوله تعالى: {إذا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى} الآية، هَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ فِي أَشْرَفِ الْأَعْمَالِ وَأَفْضَلِهَا وَخَيْرِهَا، وَهِيَ (الصَّلَاةُ) إِذَا قَامُوا إِلَيْهَا قَامُوا وَهُمْ كُسَالَى عَنْهَا، لِأَنَّهُمْ لَا نِيَّةَ لَهُمْ فِيهَا وَلَا إِيمَانَ لَهُمْ بِهَا وَلَا خَشْيَةَ، وَلَا يَعْقِلُونَ مَعْنَاهَا كَمَا رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ كَسْلَانُ وَلَكِنْ يَقُومُ إِلَيْهَا طَلْقَ الْوَجْهِ، عَظِيمَ الرَّغْبَةِ شَدِيدَ الْفَرَحِ، فإنه يناجي الله، وإن الله تجاهه يَغْفِرُ لَهُ وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُواْ كسالى}، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُواْ كُسَالَى} هَذِهِ صِفَةُ ظَوَاهِرِهِمْ كَمَا قَالَ: {وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى}، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى صِفَةَ بَوَاطِنِهِمُ الْفَاسِدَةِ، فَقَالَ: {يُرَآءُونَ النَّاسَ} أَيْ لَا إِخْلَاصَ لَهُمْ وَلَا مُعَامَلَةَ مَّعَ الله، بَلْ إنما يشهدون الناس تقيَّة لهم ومصانعة، وَلِهَذَا يَتَخَلَّفُونَ كَثِيرًا عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي لاَ يَرَوْنَ فِيهَا غالباً ك (صلاة العشاء) في وَقْتَ الْعَتَمَةِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي وَقْتِ الْغَلَسِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ ومعهم حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ عَلِمَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عِرْقاً سَمِينًا أَوْ مَرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الصَّلَاةَ، وَلَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ والذرية لحرقت عليهم بوتهم بالنار» وقال الحافظ أبو يعلى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْسَنَ الصَّلَاةَ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ، وَأَسَاءَهَا حَيْثُ يَخْلُو، فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ اسْتَهَانَ بِهَا رَبَّهُ عزَّ وجلَّ»؛ وَقَوْلُهُ: {وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} أَيْ فِي صلاتهم لا يخشعون وَلَا يَدْرُونَ مَا يَقُولُونَ، بَلْ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ لَاهُونَ، وَعَمَّا يُرَادُ بِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ مُعَرِضُونَ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنِ أنس بن مالك عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تلكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ: يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ الله فيها إلا قليلاً". وقوله تَعَالَى: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلَاءِ} يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مُحَيَّرِينَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ فَلَا هُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلَا مَعَ الْكَافِرِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، بَلْ ظَوَاهِرُهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَوَاطِنُهُمْ مَعَ الْكَافِرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ فَتَارَةً يَمِيلُ إِلَى هَؤُلَاءِ وَتَارَةً يَمِيلُ إِلَى أُولَئِكَ، {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عليهم

قاموا}، وقال مُجَاهِدٌ {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلَاءِ} يَعْنِي أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَلاَ إِلَى هؤلاء} يعني اليهود، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مثل المنافق كمثل الشاة العاثرة بين الغنمين» (رواه أحمد عن ابن عمر مرفوعاً) وقال ابن جرير عَنْ قَتَادَةَ {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلَاءِ} يَقُولُ: لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ مُخْلِصِينَ، وَلَا مُشْرِكِينَ مُصَرِّحِينَ بِالشِّرْكِ قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَضْرِبُ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَلِلْمُنَافِقِ وَلِلْكَافِرِ كَمَثَلِ رَهْطٍ ثَلَاثَةٍ دَفَعُوا إِلَى نَهْرٍ فَوَقَعَ الْمُؤْمِنُ فَقَطَعَ، ثُمَّ وَقَعَ الْمُنَافِقُ حَتَّى إِذَا كَادَ يَصِلُ إِلَى الْمُؤْمِنِ نَادَاهُ الْكَافِرُ: أَنْ هلم إليّ فإني أخشى عليك، وناداه المؤمنين: أن هلم إلي فإن عِنْدِي وَعِنْدِي يُحْصَى لَهُ مَا عِنْدَهُ، فَمَا زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى عليه الماء فَغَرَّقَهُ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ لَمْ يَزَلْ فِي شَكٍّ وَشُبْهَةٍ حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ الْمَوْتُ وَهُوَ كَذَلِكَ، قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ ثَاغِيَةٍ بَيْنَ غَنَمَيْنِ رَأَتْ غَنَمًا عَلَى نَشَزٍ فَأَتَتْهَا وَشَامَّتْهَا فَلَمْ تَعْرِفْ، ثُمَّ رَأَتْ غنماً على نشز فأتتها فشامتها فَلَمْ تَعْرِفْ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أَيْ وَمَنْ صَرَفَهُ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى {فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِدًا}، فَإِنَّهُ {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ}، وَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ النَّجَاةِ فَلَا هَادِيَ لَهُمْ، وَلَا مُنْقِذَ لَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.

- 144 - يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِينًا - 145 - إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً - 146 - إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً - 147 - مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عليما ينهى الله تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي مُصَاحَبَتَهُمْ وَمُصَادَقَتَهُمْ، وَمُنَاصَحَتَهُمْ وَإِسْرَارَ الْمَوَدَّةِ إِلَيْهِمْ، وَإِفْشَاءَ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْبَاطِنَةِ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين} ولهذا قال ههنا: {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً}؟ أَيْ حُجَّةً عَلَيْكُمْ فِي عُقُوبَتِهِ إِيَّاكُمْ، قَالَ ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {سُلْطَاناً مُّبِيناً} قَالَ: كُلُّ سُلْطَانٍ فِي الْقُرْآنِ حُجَّةٌ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صحيح، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَزَاءً على كفرهم الغليظ، قال ابن عباس: أَيْ فِي أَسْفَلِ النَّارِ، وَقَالَ غَيْرُهُ النَّارُ (دَرَكَاتٌ) كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ (دَرَجَاتٌ) وَقَالَ سُفْيَانُ الثوري {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} قال: في توابيت تُرْتَج عليهم. وعن أبي هريرة قَالَ {الدَّرْكُ الْأَسْفَلُ}: بُيُوتٌ لَهَا أَبْوَابٌ تُطْبَقُ عليهم فتوقد عليهم من تحتهم ومن فوقهم، قال ابن جرير عن عبد الله بن مَسْعُودٍ {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} قَالَ: فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ تُطْبِقُ عليهم

أي مغلقة مقفلة، {وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} أَيْ يُنْقِذَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ وَيُخْرِجَهُمْ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ تَابَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا تَابَ عَلَيْهِ وَقَبِلَ نَدَمَهُ إِذَا أَخْلَصَ فِي تَوْبَتِهِ وَأَصْلَحَ عَمَلَهُ، وَاعْتَصَمَ بِرَبِّهِ فِي جميع أمره، فقال تعالى: {إِلاَّ الذين تابوا أصلحوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} أَيْ بَدَّلُوا الرِّيَاءَ بِالْإِخْلَاصِ، فَيَنْفَعُهُمُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَإِنَّ قَلَّ. قال ابن أبي حاتم عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ الْقَلِيلُ مِنَ الْعَمَلِ». {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ فِي زُمْرَتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً}، ثم قال تعالى مُخْبِرًا عَنْ غِنَاهُ عَمَّا سِوَاهُ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يعذب العباد بذنوبهم {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ}؟ أَيْ أَصْلَحْتُمِ الْعَمَلَ وَآمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} أَيْ مَنْ شَكَرَ شَكَرَ لَهُ، وَمَنْ آمَنَ قَلْبُهُ بِهِ عَلِمَهُ وَجَازَاهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ.

- 148 - لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظَلَمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيمًا - 149 - إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا قال ابن عباس في الآية يقول: لا يحب الله أن يدعوا أحدا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا، فَإِنَّهُ قد أرخص له يدعوا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِلاَّ مَن ظُلِمَ}، وَإِنْ صَبَرَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا يدعُ عَلَيْهِ، وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِ وَاسْتَخْرِجْ حَقِّي مِنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: قَدْ أُرْخِصَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَدِيَ عليه، وقال عبد الكريم الْجَزَرِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ الرَّجُلُ يَشْتُمُكَ فَتَشْتُمُهُ، وَلَكِنْ إِنِ افْتَرَى عَلَيْكَ فَلَا تَفْتَرِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ}، وقال أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فعلى البادىء منهما ما لم يعتد المظلوم» وعن مُجَاهِدٍ {لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} قَالَ، قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَنْزِلُ بِالرَّجُلِ فَلَا يُحْسِنُ ضِيَافَتَهُ فَيَخْرُجُ فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن. وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ فَلَا يقرونا، فما ترى في ذلك؟ "فقال: إذا نزلت بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضيف الذي ينبغي لهم"، وعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ ضَافَ قَوْمًا فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا فَإِنَّ حَقًا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ نَصْرَهُ حَتَّى يَأْخُذَ بِقِرَى لَيْلَتِهِ مِنْ زَرْعِهِ وَمَالِهِ» تَفَرَّدَ به أحمد. وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَأَمْثَالِهَا ذَهَبَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ إِلَى وُجُوبِ الضِّيَافَةِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إن لي جَارًا يُؤْذِينِي، فَقَالَ لَهُ: «أَخْرِجْ مَتَاعَكَ فَضَعْهُ عَلَى الطَّرِيقِ»، فَأَخَذَ الرَّجُلُ مَتَاعَهُ فَطَرَحَهُ عَلَى الطريق، فكل مَنْ مَرَّ بِهِ قَالَ: مَالَكَ؟ قَالَ جَارِي يُؤْذِينِي، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، اللَّهُمَّ أَخْزِهِ قَالَ، فقال الرجل ارجع إلى منزلك والله لا أوذيك أبداً. وَقَوْلُهُ: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً}، أي إن أظهرتم أَيُّهَا النَّاسُ خَيْرًا أَوْ أَخْفَيْتُمُوهُ أَوْ عَفَوْتُمْ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُقَرِّبُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَيُجْزِلُ ثَوَابَكُمْ لَدَيْهِ، فَإِنَّ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْ عِبَادِهِ مَعَ قدرته على عقابهم، ولهذا قال: {فَإِن اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً}، وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ

اللَّهَ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: سُبْحَانَكَ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: سُبْحَانَكَ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَا نَقَصَ مالٌ من صدقة، ولا زاد الله عبداً بعفوا إلاّ عزاً، ومن تواضع لله رفعه» (الحديث رواه مسلم ومالك والترمذي، وقد رواه الحافظ ابن كثير بلفظ (ومن تواضع لله رفعه) ولفظه عندهم (ولا تواضع عبدٌ لله إلاّ رفعه الله)

- 150 - إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً - 151 - أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِينًا - 152 - وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيمًا يَتَوَعَّدُ تَبَارَكَ وتعالى الْكَافِرِينَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ فِي الْإِيمَانِ فَآمَنُوا بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالْعَادَةِ وَمَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ، لَا عَنْ دَلِيلٍ قَادَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةِ، فَالْيَهُودُ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ إِلَّا عِيسَى ومحمد عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ وَكَفَرُوا بِخَاتَمِهِمْ وَأَشْرَفِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ كَفَرَ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَاجِبٌ بكل نبيب بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَنْ رَدَّ نُبُوَّتَهُ لِلْحَسَدِ أَوِ الْعَصَبِيَّةِ أَوِ التَّشَهِّي تَبَيَّنَ أَنَّ إِيمَانَهُ بِمَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ إِيمَانًا شَرْعِيًّا، إِنَّمَا هُوَ عَنْ غَرَضٍ وَهَوًى وَعَصَبِيَّةٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} فَوَسْمَهُمْ بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} أَيْ فِي الْإِيمَانِ، {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أَيْ طَرِيقًا وَمَسْلَكًا، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ فَقَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} أَيْ كُفْرُهُمْ مُحَقَّقٌ لَا مَحَالَةَ بِمَنِ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ بِهِ لأنه ليس شرعياً، إذا لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ لِكَوْنِهِ رَسُولَ اللَّهِ لَآمَنُوا بِنَظِيرِهِ، وَبِمَنْ هُوَ أَوْضَحُ دَلِيلًا وَأَقْوَى برهاناً منه، أو نظروا حق النظر في نبوته. وقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} أَيْ كَمَا اسْتَهَانُوا بِمَنْ كَفَرُوا بِهِ إِمَّا لِعَدَمِ نَظَرِهِمْ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى جَمْعِ حُطَامِ الدُّنْيَا مِمَّا لَا ضَرُورَةَ إلي، وَإِمَّا بِكُفْرِهِمْ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حَيْثُ حَسَدُوهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ وَعَادُوهُ وَقَاتَلُوهُ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الذُّلَّ الدُّنْيَوِيَّ الْمَوْصُولَ بِالذُّلِّ الْأُخْرَوِيِّ، {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} يَعْنِي بِذَلِكَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله بكل نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ ربه والمؤمنيون كُلٌّ آمَنَ بالله} الآية، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَدْ أَعَدَّ لَهُمُ الْجَزَاءَ الْجَزِيلَ وَالثَّوَابَ الْجَلِيلَ وَالْعَطَاءَ الْجَمِيلَ، فَقَالَ: {أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} عَلَى مَا آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} أَيْ لِذُنُوبِهِمْ، أَيْ إِنْ كَانَ لِبَعْضِهِمْ ذُنُوبٌ.

- 153 - يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِينًا - 154 - وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظًا قال السدي وَقَتَادَةُ: سَأَلَ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ كَمَا نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى مَكْتُوبَةً وقال ابْنُ جُرَيْجٍ: سَأَلُوهُ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ صُحُفًا مِنَ اللَّهِ مَكْتُوبَةً إِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ بِتَصْدِيقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ وَالْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ، كَمَا سَأَلَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَبْلَهُمْ نَظِيرَ ذَلِكَ كَمَا هو مذكور في سورة الإسراء: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} الْآيَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ، فَقَالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ}، أَيْ بِطُغْيَانِهِمْ وَبَغْيِهِمْ، وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَهَذَا مُفَسَّرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تنظرون}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْأَدِلَّةِ الْقَاهِرَةِ عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بِلَادِ مِصْرَ، وما كان من إهلاك عدوهم فِرْعَوْنَ وَجَمِيعِ جُنُودِهِ فِي الْيَمِّ، فَمَا جَاوَزُوهُ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى أَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ فَقَالُوا لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ مَبْسُوطَةً فِي سُورَةِ (الْأَعْرَافِ) وَفِي سُورَةِ (طَهَ) بَعْدَ ذَهَابِ مُوسَى إِلَى مُنَاجَاةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ وَكَانَ مَا كَانَ، جَعَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ مِنَ الَّذِي صَنَعُوهُ وَابْتَدَعُوهُ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ لَمْ يَعْبُدِ الْعِجْلَ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَهُ فَجَعَلَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ أَحْيَاهُمُ الله عزَّ وجلَّ، وقال الله تعالى: {فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً}، ثم قال: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ}، وَذَلِكَ حِينَ امْتَنَعُوا مِنَ الِالْتِزَامِ بِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَظَهَرَ مِنْهُمْ إِبَاءٌ عما جاءهم به موسى عليه السلام رفع الله على رؤوسهم جبالً، ثُمَّ أُلْزِمُوا فَالْتَزَمُوا وَسَجَدُوا وَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَى فَوْقِ رُؤُوسِهِمْ خَشْيَةَ أَنْ يَسْقُطَ عَلَيْهِمْ، كَمَا قال تعالى: {وإذن نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خذوا ما آتيناكم بقوة} الآية، {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أَيْ فَخَالَفُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَإِنَّهُمْ أمروا أن يدخلوا باب (بيت المقدس) سُجَّدًا وَهُمْ يَقُولُونَ حِطَّةٌ، أَيْ «اللَّهُمَّ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا» فِي تَرْكِنَا الْجِهَادَ وَنُكُولِنَا عَنْهُ حَتَّى تُهْنَا فِي التِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى اسْتَاهِهِمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ حِنْطَةٌ فِي شَعْرَةٍ {وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ} أَيْ وُصَّيْنَاهُمْ بِحِفْظِ السَّبْتِ وَالْتِزَامِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا دَامَ مَشْرُوعًا لَهُمْ، {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} أَيْ شَدِيدًا فَخَالَفُوا وَعَصَوْا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم اللَّهِ عزَّ وجلَّ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي سورة الأعراف عند قوله: {اسألهم عَنِ القرية التي كَانَت حاضرة البحر} الْآيَاتِ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وفيه «وعليكم خاصة يهود أن لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ».

- 155 - فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً - 156 - وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً - 157 - وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً - 158 - بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا - 159 - وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا وهذا مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا مِمَّا أَوْجَبَ لَعْنَتَهُمْ ورطدهم وَإِبْعَادَهَمْ عَنِ الْهُدَى، وَهُوَ نَقْضُهُمُ الْمَوَاثِيقَ وَالْعُهُودَ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ {وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ} أَيْ حججه وبراهينه، والمعجزات التي شاهدوها على يد الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، قَوْلُهُ: {وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ إِجْرَامِهِمْ وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ قَتَلُوا جَمًّا غَفِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} قَالَ ابْنُ عباس: أَيْ فِي غِطَاءٍ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} الآية، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ قُلُوبَهُمْ غُلُفٌ لِلْعِلْمِ أَيْ أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ قَدْ حَوَتْهُ وَحَصَّلَتْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: كَأَنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ بِأَنَّ قُلُوبَهُمْ لَا تَعِي مَا يَقُولُ لِأَنَّهَا في غلف وفي أكنة، قال الله بل هي مَطْبُوعٌ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: عَكَسَ عَلَيْهِمْ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ البقرة. {فلا يؤمنون إِلاَّ قَلِيلاً} أي تمرنت قُلُوبُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَقِلَّةِ الْإِيمَانِ {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} قال ابن عباس: يعني أنهم رموها بالزنا. قال السدي: والظاهر مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُمْ رَمَوْهَا وَابْنَهَا بِالْعَظَائِمِ، فَجَعَلُوهَا زَانِيَةً وَقَدْ حَمَلَتْ بِوَلَدِهَا مِنْ ذَلِكَ. زَادَ بَعْضُهُمْ وَهِيَ حَائِضٌ، فَعَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةِ إلى يوم القيامة، وقوله: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} أَيْ هَذَا الَّذِي يَدَّعِي لِنَفْسِهِ هَذَا الْمَنْصِبَ قَتَلْنَاهُ وَهَذَا مِنْهُمْ مَنْ بَابِ (التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ) كَقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}. وَكَانَ مِنْ خَبَرِ الْيَهُودِ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ وَسُخْطِهِ وَغَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ عيسى بن مَرْيَمَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، حَسَدُوهُ عَلَى مَا آتَاهُ الله تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات، التي كان يبرىء بِهَا الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَيُصَوِّرُ مِنَ الطِّينِ طَائِرًا ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا يُشَاهَدُ طَيَرَانُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أكرمه الله بها أجراها عَلَى يَدَيْهِ وَمَعَ هَذَا كَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ، وَسَعَوْا فِي أَذَاهُ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُمْ، حَتَّى جَعَلَ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُسَاكِنُهُمْ فِي بَلْدَةِ، بَلْ يُكْثِرُ السِّيَاحَةَ هُوَ وَأُمُّهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، ثُمَّ لَمْ يُقْنِعْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى سَعَوْا إِلَى مَلِكِ دِمَشْقَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَكَانَ رَجُلًا مُشْرِكًا مِنْ عَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ، وَكَانَ يُقَالُ لِأَهْلِ مِلَّتِهِ الْيُونَانُ، وَأَنْهُوا إِلَيْهِ أَنَّ في بيت الْمَقْدِسِ رَجُلًا يَفْتِنُ النَّاسَ وَيُضِلُّهُمْ وَيُفْسِدُ عَلَى الْمَلِكِ رَعَايَاهُ، فَغَضِبَ الْمَلِكُ مِنْ هَذَا وَكَتَبَ إلى نائبه بالمقدس أَنْ يَحْتَاطَ عَلَى هَذَا الْمَذْكُورِ، وَأَنْ يَصْلُبَهُ ويضع الشوك على رأسه ويكف أذاه عن الناس، فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس ذلك وذهب هو طائفة مِنَ الْيَهُودِ إِلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي فِيهِ عِيسَى

عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ اثني عَشَرَ أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَقِيلَ سَبْعَةَ عَشَرَ نَفَرًا - وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ لَيْلَةَ السَّبْتِ - فَحَصَرُوهُ هُنَالِكَ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ وأنه لامحالة من دخولهم عليه أو خروجه إليهم - قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَيُّكُمْ يُلقى عَلَيْهِ شَبَهِي وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟ فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ شَابٌّ مِنْهُمْ فَكَأَنَّهُ اسْتَصْغَرَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَعَادَهَا ثَانِيَةً وَثَالِثَةً، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَنْتَدِبُ إِلَّا ذَلِكَ الشَّابُّ، فَقَالَ: أَنْتَ هُوَ! وَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ شَبَهَ عِيسَى حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ، وَفُتِحَتْ رَوْزَنَةٌ مِنْ سَقْفِ الْبَيْتِ وَأَخَذَتْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَنَةً مِنَ النَّوْمِ فَرُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يا عيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلي} الآية، فَلَمَّا رُفِعَ خَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَرُ، فَلَمَّا رَأَى أُولَئِكَ ذَلِكَ الشَّابَ ظَنُّوا أَنَّهُ عِيسَى فَأَخَذُوهُ فِي اللَّيْلِ وَصَلَبُوهُ وَوَضَعُوا الشَّوْكَ عَلَى رَأْسِهِ، وأظهر الْيَهُودُ أَنَّهُمْ سَعَوْا فِي صَلْبِهِ وَتَبَجَّحُوا بِذَلِكَ، وَسَلَّمَ لَهُمْ طَوَائِفُ مِنَ النَّصَارَى ذَلِكَ، لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ، مَا عَدَا مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ مَعَ الْمَسِيحِ فَإِنَّهُمْ شَاهَدُوا رَفْعَهُ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا - كَمَا ظَنَّ الْيَهُودُ - أَنَّ المصلوب هو المسيح بن مَرْيَمَ، حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّ مَرْيَمَ جَلَسَتْ تَحْتَ ذَلِكَ الْمَصْلُوبِ وَبَكَتْ، وَيُقَالُ إِنَّهُ خَاطَبَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنِ امْتِحَانِ اللَّهِ عِبَادَهُ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَقَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ الْأَمْرَ وَجَلَّاهُ وَبَيَّنَهُ وَأَظْهَرَهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ الكريم، المؤيد المعجزات وَالْبَيِّنَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ، فَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ القائلين: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} أي رأوا شهبه فَظَنُّوهُ إِيَّاهُ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن} يعني ذلك من ادعى أنه قتله من اليهود ومن سلمه إليهم مِنْ جُهَّالِ النَّصَارَى كُلُّهُمْ فِي شَكٍّ مِّنَ ذلك وحيرة وضلال. وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أَيْ وَمَا قَتَلُوهُ مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُ هُوَ، بَلْ شَاكِّينَ مُتَوَهِّمِينَ {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً} أَيْ مَنِيعَ الْجَنَابِ لَا يُرَامُ جَنَابُهُ وَلَا يُضَامُ مَنْ لَاذَ بِبَابِهِ، {حَكِيماً} أَيْ فِي جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يخلقها، وله الحكمة البالغة الحجة الدامغة والسلطان العظيم. رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَفِي الْبَيْتِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الحواريين، فخرج عليهم وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً، فَقَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يكفر بي اثني عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِي، قَالَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يُلقى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلُ مَكَانِي وَيَكُونَ مَعِي فِي دَرَجَتِي؟ فَقَامَ شَابٌّ من أحدثم سِنًّا، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ ذَلِكَ الشَّابُّ، فَقَالَ: اجْلِسْ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ الشَّابُّ، فَقَالَ: أنا، فقال: هو أنت ذَاكَ، فأُلقي عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسَى وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ فِي الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: وَجَاءَ الطَّلَبُ مِنَ الْيَهُودِ، فَأَخَذُوا الشَّبَهَ فَقَتَلُوهُ، ثم صلبوه، فكفر بِهِ بَعْضُهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمن به، وافترقوا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ اللَّهُ فِينَا مَا شَاءَ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ وَهَؤُلَاءِ (الْيَعْقُوبِيَةُ) وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا ابْنُ اللَّهِ مَا شَاءَ ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ (النُّسْطُورِيَّةُ) وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ (الْمُسْلِمُونَ) فَتَظَاهَرَتِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ فَقَتَلُوهَا، فَلَمْ يَزَلِ الْإِسْلَامُ طامساً حتى يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم (قال الحافظ ابن كثير: هذا إسناد صحيح إلى ابن عباس) وروى ابن جرير عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: كَانَ اسْمُ مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي بُعِثَ إِلَى عِيسَى لِيَقْتُلَهُ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ (دَاوُدُ)، فَلَمَّا أَجْمَعُوا لِذَلِكَ مِنْهُ لَمْ يَفْظَعْ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ بِالْمَوْتِ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - فَظَعَهُ، وَلَمْ يجزع منه جزعه ولم يدع فِي صَرْفِهِ عَنْهُ دُعَاءَهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ فِيمَا يَزْعُمُونَ: اللَّهُمَّ إِنَّ كُنْتَ صَارِفًا هَذِهِ الْكَأْسَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ

فَاصْرِفْهَا عَنِّي، وَحَتَّى إِنَّ جِلْدَهُ مِنْ كَرْبِ ذَلِكَ لَيَتَفَصَّدُ دَمًا، فَدَخَلَ الْمَدْخَلَ الَّذِي أَجْمَعُوا أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ فِيهِ لِيَقْتُلُوهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا أَيْقَنَ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ عَلَيْهِ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ مِنَ الحواريين - وكانوا اثني عَشَرَ رَجُلًا سِوَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَحَدَتْهُ النصارى، فَجَحَدُوهُ حِينَ أَقَرُّوا لِلْيَهُودِ بِصَلْبِ عِيسَى وَكَفَرُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخبر. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، أَنَّ عِيسَى حِينَ جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ إني رافعك إِلَيَّ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ أَيُّكُمْ يُحِبُّ أن يكون رفيقي في الجنة حتى يُشَبَّهَ لِلْقَوْمِ فِي صُورَتِي فَيَقْتُلُوهُ فِي مَكَانِي؟ فَقَالَ (سِرْجِسُ): أَنَا يَا رُوحَ اللَّهِ، قَالَ: فَاجْلِسْ فِي مَجْلِسِي فَجَلَسَ فِيهِ، وَرُفِعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَأَخَذُوهُ فَصَلَبُوهُ، فَكَانَ هُوَ الَّذِي صَلَبُوهُ وَشُبِّهَ لَهُمْ بِهِ، وَكَانَتْ عِدَّتُهُمْ حِينَ دَخَلُوا مَعَ عِيسَى مَعْلُومَةً، قَدْ رأوهم فأحصوا عدتهم، فلما دخلوا عليهم ليأخذوه وجدوا عيسى وأصحابه فيما يرون وَفَقَدُوا رَجُلًا مِنَ الْعِدَّةِ، فَهُوَ الَّذِي اخْتَلَفُوا فيه، وكانوا لا يعرفون عيسى جعلوا ل (ليودس ركريا يُوطَا) ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا عَلَى أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَيْهِ وَيُعَرِّفَهُمْ إِيَّاهُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَيْهِ فَإِنِّي سَأُقَبِّلُهُ، وَهُوَ الَّذِي أقبِّل فَخُذُوهُ، فَلَمَّا دَخَلُوا وَقَدْ رُفِعَ عِيسَى وَرَأَى سِرْجِسَ فِي صورة عيسى فلم يشك أنه هو، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، فَأَخَذُوهُ فَصَلَبُوهُ، ثُمَّ إِنْ (ليودس ركريا يُوطَا) نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ، فَاخْتَنَقَ بِحَبْلٍ حَتَّى قَتَلَ نَفْسَهُ وَهُوَ مَلْعُونٌ فِي النَّصَارَى، وَقَدْ كَانَ أَحَدَ الْمَعْدُودِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَبَعْضُ النصارى يزعم أنه (ليودس ركريا يوطا) وهو الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ فَصَلَبُوهُ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ بِصَاحِبِكُمْ، أَنَا الَّذِي دَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عن مجاهد: صلبوا رجلاً شبه بِعِيسَى وَرَفَعَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ حَيًّا، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ شَبَهَ عِيسَى أُلْقِيَ عَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى ذَلِكَ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} يَعْنِي قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، يُوَجِّهُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ جَمِيعَهُمْ يُصَدِّقُونَ بِهِ إِذَا نَزَلَ لِقَتْلِ الدَّجَّالِ، فَتَصِيرُ الْمِلَلُ كُلُّهَا وَاحِدَةً، وَهِيَ مِلَّةُ (الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِيَّةُ) دِينُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. عن ابن عباس {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قَالَ: قَبْلَ موت عيسى بن مريم عليه السلام، وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: {إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قَالَ: ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ عيسى وقبل موت عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أهل الكتاب إلا آمن به وقال: الحسن: قبل موت عيسى والله إنه لحي الآن عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ آمَنُوا بِهِ أجمعون. قال ابن جرير وقال آخرون يعني بذلك {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} بعيسى قبل موت صاحب الكتاب لِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ لَمْ تَخْرُجْ نَفْسُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ مِنَ الباطل في دينه. قال ابن عباس في الآية: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى وعن مجاهد: كُلُّ صَاحِبِ كِتَابٍ يُؤْمِنُ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِ؛ قبل موت صاحب الكتاب. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قَالَ: هِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ (قَبْلَ مَوْتِهِمْ) لَيْسَ يَهُودِيٌّ يَمُوتُ أَبَدًا حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى، قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ إِنْ خَرَّ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ بِهِ فِي الهويّ قيل: أرأيت إن ضربت عنق أحدهم قال: يلجلج بها لسانه، فَهَذِهِ كُلُّهَا أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وكذا صح عن مجاهد وعكرمة وابن سيرين وبه يقول الضحاك وقال السدي وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،

وَنَقَلَ قِرَاءَةَ (أَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ) قَبْلَ مَوْتِهِمْ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ آخَرُونَ مَعْنَى ذَلِكَ: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتاب. قَالَ عِكْرِمَةُ: لَا يَمُوتُ النَّصْرَانِيُّ وَلَا الْيَهُودِيُّ حَتَّى يُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصِّحَّةِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى عليه السلام إلا آمن به قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَلَا شَكَّ أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح، لأنه المقصود من سياق الآية فِي تَقْرِيرِ بُطْلَانِ مَا ادَّعَتْهُ الْيَهُودُ مِنْ قَتْلِ عِيسَى وَصَلْبِهِ، وَتَسْلِيمِ مَنْ سَلَّمَ لَهُمْ من النصارى الجهلة ذلك، فأختبر اللَّهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا شبه لهم فقتلوا الشبه وَهُمْ لَا يَتَبَيَّنُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ رَفَعَهُ إِلَيْهِ وَإِنَّهُ بَاقٍ حَيٌّ، وَإِنَّهُ سَيَنْزِلُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ التي سنودرها إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَرِيبًا فَيَقْتُلُ مَسِيحَ الضَّلَالَةِ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ يَعْنِي لَا يَقْبَلُهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، بَلْ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يُؤْمِنَ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ حِينَئِذٍ وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنِ التَّصْدِيقِ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أَيْ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى عَلَيْهِ السلام الَّذِي زَعَمَ الْيَهُودُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ النَّصَارَى أَنَّهُ قُتِلَ وَصُلِبَ. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أَيْ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي شَاهَدَهَا مِنْهُمْ قَبْلَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَبَعْدَ نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ كِتَابِيٍّ لَا يَمُوتُ حَتَّى يُؤْمِنَ بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة وَالسَّلَامُ فَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ أحد عند احتضاره، ينجلي لَهُ مَا كَانَ جَاهِلًا بِهِ فَيُؤْمِنُ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِيمَانًا نَافِعًا لَهُ إِذَا كَانَ قَدْ شَاهَدَ الْمَلَكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} الآية. (ذكر الأحاديث الواردة في نزول (عيسى بن مَرْيَمَ) إِلَى الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ فِي آخِرِ الزمان (يتبع ... )

(تابع ... 1): 155 - فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ ... ... قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي (كِتَابِ ذِكْرِ الأنبياء) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، وحتى تكون السجدة خيراً له مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري) وقال أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ينزل عيسى بن مَرْيَمَ فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَمْحُو الصَّلِيبَ وَتُجْمَعُ لَهُ الصَّلَاةُ وَيُعْطِي الْمَالَ حَتَّى لَا يُقْبَلَ وَيَضَعُ الْخَرَاجَ وَيَنْزِلُ الرَّوْحَاءَ فَيَحُجُّ مِنْهَا أَوْ يَعْتَمِرُ أَوْ يَجْمَعُهُمَا» قَالَ وَتَلَا أَبُو هُرَيْرَةَ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية، فَزَعَمُ حَنْظَلَةُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: يُؤْمِنُ بِهِ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، فَلَا أَدْرِي هَذَا كُلُّهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو شيء قاله أبو هريرة. (طريق أخرى): قال البخاري عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح بن مريم وإمامكم منكم» (أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد)

(طريق أخرى): قال الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ وَإِنِّي أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى بن مريم لأنه لم يكن نبي بيني وبينه وَإِنَّهُ نَازِلٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إلى الحمرة والبياض عليه ثوبان ممصَّران (مصبوغان بالمِصْر وهو تراب أحمر) كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويدعوا النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، ثُمَّ تَقَعُ الْأَمَنَةُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الْأُسُوَدُ مَعَ الْإِبِلِ وَالنِّمَارُ مَعَ الْبَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ، وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ لَا تَضُرُّهُمْ فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يتوفى ويصلي عليه المسلمون». وقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَنَا أَوْلَى الناس بعيسى بن مريم والأنبياء أولاد علات ليس بين وبينه نبي». وفي رواية: «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ». (حديث آخر): وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى تنزل الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فإذا تصافوا قالت الرُّومُ: خَلَوْا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا وَاللَّهِ لَا نُخَلِّي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلوهم فيهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً يقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث لا يفتنون أبداً فيفتحون (قُسْطَنْطِينِيَّةَ) فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ إِذْ صَاحَ فِيهِمُ الشَّيْطَانُ: إِنَّ المسيح قد خلفَكم (خَلَفكم في أهليكم: أي طرق أهلهم وهم غائبون عنهم) في أهليكم فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاءوا الشَّامَ خَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصفوف، إذا أقيمت الصلاة فينزل عيسى بن مريم فيؤمهم، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الملح في الماء، فلو تركه لذاب حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دمه في حربته". (حديث آخر): روى ابن ماجة في سننه عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَكْثَرُ خُطْبَتِهِ حَدِيثًا حَدَّثَنَاهُ عَنِ الدَّجَّالِ وَحَذَّرَنَاهُ فَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ قَالَ: "لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ مُنْذُ ذَرَأَ اللَّهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا حَذَّرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ وَأَنَا آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنْتُمْ آخَرُ الْأُمَمِ، وَهُوَ خَارِجٌ فِيكُمْ لَا مَحَالَةَ، فَإِنْ يَخْرُجْ وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج كل مُسْلِمٍ، وَإِنْ يَخْرُجْ مِنْ بَعْدِي فَكَلٌّ حَجِيجُ نفسه، وأن الله خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خَلَّة بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَيَعِيثُ يَمِينًا وَيَعِيثُ شمالاً، ألا يَا عِبَادَ اللَّهِ: أَيُّهَا النَّاسُ فَاثْبُتُوا وَإِنِّي سَأَصِفُهُ لَكُمْ صِفَةً لَمْ يَصِفْهَا إِيَّاهُ نَبِيٌّ قَبْلِي: إِنَّهُ يَبْدَأُ فَيَقُولُ: أَنَا نَبِيٌّ فَلَا نَبِيَّ بَعْدِي، ثُمَّ يُثَنِّي فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ وَلَا تَرَوْنَ رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا. وَإِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ عزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ وَغَيْرِ كَاتِبٍ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنَّ مَعَهُ جَنَّةً وَنَارًا فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ فَمَنِ ابْتُلِيَ بِنَارِهِ فَلْيَسْتَغِثْ بِاللَّهِ، وَلْيَقْرَأْ فَوَاتِحَ الْكَهْفِ فَتَكُونُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتِ النار بَرْداً وسلاما على إبراهيم وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرايت إن بعثت لك أمك وأباك أَتَشْهَدُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ شيطان فِي صُورَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَقُولَانِ: يَا بَنُيَّ اتَّبِعْهُ فَإِنَّهُ رَبُّكَ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يسلط على نفس واحدة فينشرها

بالمنشار حتى تلقى شقتين، ثم يقول انظر إِلَى عَبْدِي هَذَا فَإِنِّي أَبْعَثُهُ الْآنَ، ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا غَيْرِي، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ فَيَقُولُ لَهُ الْخَبِيثُ مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَأَنْتَ عَدُوُّ اللَّهِ الدَّجَّالُ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ بَعْدُ أَشُدَّ بَصِيرَةً بِكَ مِنِّي الْيَوْمَ". وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ: أَنْ يَأْمُرَ السَّمَاءَ أَنْ تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُكَذِّبُونَهُ فَلَا تَبْقَى لَهُمْ سَائِمَةٌ إِلَّا هَلَكَتْ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُصَدِّقُونَهُ فَيَأْمُرُ السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تُنْبِتَ فَتُنْبِتَ، حَتَّى تَرُوحَ مَوَاشِيهِمْ مِنْ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ أَسْمَنَ مَا كَانَتْ وَأَعْظَمَهُ، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ وأدره ضروعاً، وأنه لا يبقى شء مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا وَطِئَهُ وَظَهَرَ عَلَيْهِ إِلَّا (مكة) و (المدينة) فإنه لا يأتيهم مِنْ نَقْبٍ مِنْ نِقَابِهِمَا إِلَّا لَقِيَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّيُوفِ صَلْتَةً حَتَّى يَنْزِلَ عِنْدَ الظَّرِيبِ الْأَحْمَرِ عِنْدَ مُنْقَطَعِ السَّبَخَةِ فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رجفات فال يَبْقَى مُنَافِقٌ وَلَا مُنَافِقَةٌ إِلَّا خَرَجَ إِلَيْهِ، فينفى الْخَبَثَ مِنْهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ، وَيُدْعَى ذَلِكَ الْيَوْمُ (يَوْمَ الْخَلَاصِ) فَقَالَتْ أُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ أَبِي الْعَكَرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "هُمْ قَلِيلٌ وَجُلُّهُمْ يومئذ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِمَامُهُمْ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَبَيْنَمَا إِمَامُهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ يُصَلِّي بِهِمُ الصُّبْحَ إِذْ نَزَلَ عليه عيسى بن مريم عليه السلام، فرجع ذلك الإمام يمشي القهقرى ليتقدم عيسى عليه السلام فيضع عيسى يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: تَقَدَّمَ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَكَ أُقِيمَتْ، فَيُصَلِّي بِهِمْ إِمَامُهُمْ، فَإِذَا انصرف قال عيسى: افْتَحُوا الْبَابَ فَيُفْتَحُ وَوَرَاءَهُ الدَّجَّالُ مَعَهُ سَبْعُونَ ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وتاج، فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ الدَّجَّالُ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الملح في الماء وينطلق هارباً، فيقول عيسى إن لي فيك ضربة لن تسبقني بِهَا فَيُدْرِكُهُ عِنْدَ بَابَ لُدّ) الشَّرْقِيِّ فَيَقْتُلُهُ، وَيَهْزِمُ اللَّهُ الْيَهُودَ فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِمَّا خلق الله تعالى يتوارى به يهودي إِلَّا أَنْطَقَ اللَّهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ - لَا حَجَرَ وَلَا شَجَرَ وَلَا حَائِطَ وَلَا دَابَّةَ، إِلَّا الفرقدة فَإِنَّهَا مِنْ شَجَرِهِمْ لَا تَنْطِقُ - إِلَّا قَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ الْمُسْلِمَ: هَذَا يَهُودِيٌّ فَتَعَالَ اقْتُلْهُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّ أَيَّامَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، السَّنَةُ كَنِصْفِ السَّنَةِ، وَالسَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَآخِرُ أَيَّامِهِ كَالشَّرَرَةِ يُصْبِحُ أَحَدُكُمْ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ فَلَا يَبْلُغُ بَابَهَا الْآخَرَ حَتَّى يُمْسِيَ»، فَقِيلَ لَهُ: كيف نصلي يا نبي الله في تلك الأيام القصار؟ قال: «تقدرون الصَّلَاةَ كَمَا تُقَدِّرُونَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الطِّوَالِ ثُمَّ صَلُّوا»، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فيكون عيسى بن مَرْيَمَ فِي أُمَّتِي حَكَمًا عَدْلًا وَإِمَامًا مُقْسِطًا، يدق الصليب ويذبح الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيَتْرُكُ الصَّدَقَةَ، فَلَا يُسْعَى عَلَى شَاةٍ وَلَا بَعِيرٍ، وَتَرْتَفِعُ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ، وتنزح حُمَةُ كُلِّ ذَاتِ حُمَةٍ حَتَّى يُدْخِلَ الْوَلِيدُ يَدَهُ فِي الْحَيَّةِ فَلَا تَضُرَّهُ، وَتُفِرُّ الْوَلِيدَةُ الْأَسَدَ فَلَا يَضُرَّهَا، وَيَكُونُ الذِّئْبُ فِي الْغَنَمِ كَأَنَّهُ كَلْبُهَا، وَتُمْلَأُ الْأَرْضُ مِنَ السِّلْمِ كَمَا يُمْلَأُ الْإِنَاءُ مِنَ الْمَاءِ، وَتَكُونُ الْكَلِمَةُ وَاحِدَةً فَلَا يُعْبَدُ إِلَّا اللَّهُ، وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض لها نور الفضة، وتنبت نَبَاتَهَا كَعَهْدِ آدَمَ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّفَرُ عَلَى الْقِطْفِ مِنَ الْعِنَبِ فَيُشْبِعَهُمْ، وَيَجْتَمِعَ النَّفَرُ عَلَى الرُّمَّانَةِ فَتُشْبِعَهُمْ، وَيَكُونُ الثَّوْرُ بِكَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَالِ وَيَكُونُ الْفَرَسُ بِالدُّرَيْهِمَاتِ» قِيلَ يَا رَسُولَ الله ومايرخص الْفَرَسَ؟ قَالَ: «لَا تُرْكَبُ لِحَرْبٍ أَبَدًا»، قِيلَ له فما يغلي الثور؟ قال: «يحرث الْأَرْضُ كُلُّهَا، وَإِنَّ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ شِدَادٍ يُصِيبُ النَّاسَ فِيهَا جُوعٌ شَدِيدٌ، ويأمر اللَّهُ السَّمَاءَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى أَنْ تَحْبِسَ ثُلُثَ مَطَرِهَا، وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتَحْبِسُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا، ثم يأمر الله السماء في السنة الثَّانِيَةِ فَتَحْبِسُ ثُلُثَيْ مَطَرِهَا، وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتَحْبِسُ ثلثي نباتها، ثم يأمر الله عزَّ وجلَّ السَّمَاءَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ فَتَحْبِسُ مَطَرَهَا كُلَّهُ فَلَا تَقْطُرُ قَطْرَةً،

وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ أَنْ تَحْبِسَ نَبَاتَهَا كُلَّهُ فَلَا تُنْبِتُ خَضْرَاءَ، فَلَا تَبْقَى ذَاتُ ظِلْفٍ إِلَّا هلكت إلا ما شآء الله» قيل: فَمَا يُعِيشُ النَّاسَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ؟ قَالَ: «التَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَيَجْرِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مجرى الطعام» (أخرجه ابن ماجة، قال الحافظ ابن كثير: غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ من أحاديث أُخر) (حديث آخر): وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبيء اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله - إلا الفرقد فإنه من شجر اليهود" (رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً). (حديث آخر): وقال مسلم في صحيحه عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَلَمَّا رُحْنَا إليه عرف ذلك في وجوهنا، فَقَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ»؟ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النخل، قال: «غَيْرُ الدَّجَّالِ أخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ، إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ، فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ، عَيْنُهُ طَافِيَةٌ كَأَنِّي أَشْبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ، مِنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، إنه خارج من خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا، يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا» قُلْنَا: يَا رسول الله فما لبثه في الأرض؟ قال: «أربعون يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ» قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وذلك الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قا: «لَا، اقْدِرُوا لَهُ قَدْرَهُ»، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: "كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَأْتِي عَلَى قَوْمٍ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذرى أسبغه ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فيردون عليهم قَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ، فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل (يعاسيب النحل: ذكروها)، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وتهلل وَجْهُهُ وَيَضْحَكُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ الله (المسيح بن مَرْيَمَ) عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذار رفعه تحَّر منه كجمان اللُّؤْلُؤِ، وَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمًا قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ، وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ في الجنة، فبينما هو كذلك إذا أَوْحَى اللَّهُ عزَّ وجلَّ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ. وَيَبْعَثُ اللَّهُ (يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ ينسلون، فيمر أولهم عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخرهم فيقولون: لقد كان بهذا مرة ماء، ويحضر نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فرْسى (أي: قتلى) كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الأرض موضع شبر إلا

ملأه زهمهم (رائحتهم النتنة المتغيرة) وَنَتْنُهُمْ فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ البُخْت فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يُكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزَّلفة (الزلفة بالتحريك: المرآة). ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ أَخْرِجِي ثَمَرَكِ وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقَحْفِهَا، وَيُبَارِكُ اللَّهُ فِي الرِّسْلِ حَتَّى إِنَّ اللَّقْحَةَ مِنَ الْإِبِلِ لتكفي الفئام (الرسل بالتحريك: القطيع الجمع أرسال، واللقحة - بالكسر وبالفتح لغة - هي ذات اللبن، والفئام الجماعة) مِنَ النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم، فيقبض الله رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ الساعة" (أخرجه مسلم ورواه أحمد وأهل السنن) (يتبع ... )

(تابع ... 2): 155 - فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأنبياء بغير حق ... ... (حديث آخر}: قال مسلم في صحيحه عن يَعْقُوبَ بْنَ عَاصِمِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثقفي يقول، سمعت عبد الله ابن عَمْرٍو - وَجَاءَهُ رَجُلٌ - فَقَالَ: مَا هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي تُحَدِّثُ بِهِ؟ تَقُولُ: إِنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ إِلَى كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ) أَوْ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أو كلمة نحوهما، لقد هممت أن لا أُحَدِّثَ أَحَدًا شَيْئًا أَبَدًا، إِنَّمَا قُلْتُ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدَ قَلِيلٍ أَمْرًا عَظِيمًا: يُحْرَّقُ الْبَيْتُ وَيَكُونُ وَيَكُونُ، ثُمَّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمتي فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ، لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا، أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا، فَيَبْعَثُ الله تعالى عيسى بن مَرْيَمَ كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ - أَوْ إِيمَانٍ - إِلَّا قَبَضَتْهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبَدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ». قَالَ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "بيبقى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لهم الشيطان، فيقول: لا تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم، حسُ عَيْشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا، قَالَ: وأول من سمعه رجل يلوط حوض إبله، فيصعق ويصعق الناسن ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ - أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ - مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ - أَوْ قَالَ الظِّلُّ - نُعْمَانُ الشَّاكُّ - فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ. ثُمَّ يقال: أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولون}، ثم يقال: أخرجوا بعث الناس، فَيُقَالُ مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تسعمائة وتسعة وتسعين، قال فذلك {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شَيْبًا} وَذَلِكَ {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن ساق} (أخرجه مسلم والنسائي) (حديث آخر) قال الإمام أحمد، أخبرنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عبد الله بن عبيد الله ابن ثعلبة الأنصاري، عن عبد الله بن زيد الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ، قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «يَقْتُلُ ابْنُ مَرْيَمَ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ بِبَابِ لُدٍّ - أَوْ إِلَى جَانِبِ لُدٍّ -» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مِنْ

حَدِيثِ اللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيِّ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَمِّهِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقْتُلُ ابْنُ مَرْيَمَ الدَّجَّالَ بِبَابِ لُدٍّ» وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ بِهِ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حصين ونافع بن عيينة وَأَبِي بَرْزَةَ وَحُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَيْسَانَ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَجَابِرٍ وَأَبِي أُمَامَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ وَالنَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، وَعَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمُرَادُهُ بِرِوَايَةِ هَؤُلَاءِ مَا فِيهِ ذِكْرُ الدجال، وقتل عيسى بن مريم عليه السلام له. (حديث آخر): وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدُّخَانُ، وَالدَّابَّةُ، وَخُرُوجُ يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مَرْيَمَ، وَالدَّجَّالُ، وَثَلَاثَةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمُشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنٍ تَسُوقُ - أَوْ تَحْشُرُ - النَّاسَ، تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا" (رواه أحمد ومسلم واصحاب السنن) وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي ترجمة عيسى بن مَرْيَمَ مِنْ تَارِيخِهِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: أَنَّهُ يُدْفَنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَتِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} قَالَ قَتَادَةُ: يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَهُمُ الرِّسَالَةَ مِنَ اللَّهِ، وأقر بعبودية الله عزَّ وجلَّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ - إلى قوله - العزيز الحكيم}.

- 160 - فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا - 161 - وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً - 162 - لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ بِسَبَبِ ظُلْمِ الْيَهُودِ بِمَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ كَانَ أَحَلَّهَا لهم، كما قال ابن أبي حاتم عن عمرو، قال قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (طَيِّبَاتٍ كَانَتْ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وَهَذَا التَّحْرِيمُ قَدْ يَكُونُ (قَدَرِيًّا) بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَيَّضَهُمْ لِأَنْ تَأَوَّلُوا فِي كِتَابِهِمْ، وحرَّفوا وَبَدَّلُوا أَشْيَاءَ كَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ، فَحَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ تَشْدِيدًا مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَتَضْيِيقًا وَتَنَطُّعًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ (شَرْعِيًّا) بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ أَشْيَاءَ كَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تنزل التوراة} وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ كَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ، مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ مَا عَدَا مَا كَانَ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى

حَرَّمَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فِي التَّوْرَاةِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} أَيْ إِنَّمَا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ بِسَبَبِ بَغْيِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، وَمُخَالَفَتِهِمْ رَسُولَهُمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً}، أَيْ صَدُّوا النَّاسَ وَصَدُّوا أَنْفُسَهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَهَذِهِ سَجِيَّةٌ لَهُمْ مُتَّصِفُونَ بِهَا مِنْ قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ، وَلِهَذَا كَانُوا أَعْدَاءَ الرُّسُلِ، وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَّبُوا عِيسَى وَمُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا. وقوله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ}، {أَيْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَاهُمْ عَنِ الرِّبَا فَتَنَاوَلُوهُ وَأَخَذُوهُ وَاحْتَالُوا عَلَيْهِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِيَلِ وَصُنُوفٍ مِنَ الشُّبَهِ، وَأَكَلُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} أَيِ الثَّابِتُونَ فِي الدِّينِ، لَهُمْ قَدَمٌ رَاسِخَةٌ فِي العلم النافع، {والمؤمنون} عطف على الرسخين، وَخَبَرُهُ {يُؤْمِنُونَ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُنْزِلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ (في نسخة الأميرية: تحريف في هذه الأسماء واعتمد في تصحيحها على ما في الإصابة وغيرها، وسعيه بفتح السين المهملة وسكون الياء التحتانية) وأسد بْنِ سَعْيَةَ وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ الَّذِينَ دَخَلُوا في الإسلام صدقوا بِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {والمقيمين الصلاة} هكذا، هو في جميع مصاحف الْأَئِمَّةِ وَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفِ (أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ)، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهَا فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ {وَالْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، قَالَ: وَالصَّحِيحُ قِرَاءَةُ الجميع، رَدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ غَلَطِ الْكُتَّابِ، ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ والضراء وَحِينَ البأس}، قال وَهَذَا سَائِغٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا قَالَ الشاعر: لا يبعدن قومي الذن همو * أسد الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ * وَالطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الْأَزْرِ وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَخْفُوضٌ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ} يَعْنِي وَبِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةِ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: وبإقامة الصلاة التي يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم. وَقَوْلُهُ: {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ، وَيَحْتَمِلُ زَكَاةَ النُّفُوسِ، وَيَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أَيْ يُصَدِّقُونَ بِأَنَّهُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وَيُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ} هُوَ الْخَبَرُ عَمَّا تَقَدَّمَ، {سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} يَعْنِي الْجَنَّةَ.

- 163 - إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ

وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا - 164 - وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا - 165 - رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً قال ابن عباس، قال سكن وَعَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ: يَا مُحَمَّدُ مَا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ مُوسَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ. ثُمَّ ذَكَرَ فَضَائِحَهُمْ وَمَعَايِبَهُمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ الْآنَ مِنَ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَوْحَى إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَقَالَ: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ والنبيين من بعده}، إلى قوله: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} وَالزَّبُورُ اسْمُ الْكِتَابِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسَنَذْكُرُ تَرْجَمَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عِنْدَ قَصَصِهِمْ من سورة الأنبياء إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. وقوله تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}، أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، يَعْنِي فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَغَيْرِهَا وَهَذِهِ تسمية الأنبياء الذين نص الله عَلَى أَسْمَائِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَهُمْ: (آدَمُ، وَإِدْرِيسُ، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهرون، وَيُونُسُ، وَدَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ، وَإِلْيَاسُ وَالْيَسَعُ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وعيسى، وَكَذَا ذُو الْكِفْلِ، عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَسَيِّدُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَقَوْلُهُ: {ورسلاً لمن نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} أَيْ خَلْقًا آخَرِينَ لَمْ يُذْكَرُوا فِي الْقُرْآنِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عِدَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالْمَشْهُورُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلُ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ رَحِمَهُ الله في تفسيره عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: «مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ؟ قَالَ: «ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، جَمٌّ غَفِيرٌ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ كَانَ أَوَّلَهُمْ؟ قَالَ: «آدَمُ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ من روحه ثم سواه قبيلاً» وقد روى هذا الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ، فقال ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: «مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وعشرون ألفاً، والرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر، جماً غفيراً». وقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}، وَهَذَا تَشْرِيفٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُ الْكِلِيمُ، وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَأُ {وَكَلَّمَ اللهَ مُوسَى (قرأ هذا الرجل لفظ الجلالة بالنصب وموسى بالرفع) تَكْلِيمًا}، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا قَرَأَ هَذَا إِلَّا كَافِرٌ. قَرَأْتُ عَلَى الْأَعْمَشِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ عَلَى يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَقَرَأَ أبو عبد الرحمن السلمي عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَرَأَ

عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}، وَإِنَّمَا اشْتَدَّ غَضَبُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ قَرَأَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ حَرَّفَ لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ، وَكَانَ هَذَا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ يُكَلِّمُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ كَمَا رُوِّينَاهُ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى بَعْضِ الْمَشَايِخِ {وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا}، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ اللَّخْنَاءِ! كيف تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ ربه}؟ يَعْنِي أَنَّ هَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّحْرِيفَ وَلَا التأويل. وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ عَلَى مُوسَى يَوْمَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ جُبَّةُ صُوفٍ، وَكِسَاءُ صُوفٍ، وَسَرَاوِيلُ صُوفٍ؛ وَنَعْلَانِ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ ذكي». وقوله تعالى: {رُّسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} أَيْ يُبَشِّرُونَ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَاتَّبَعَ رِضْوَانَهُ بِالْخَيِّرَاتِ، وَيُنْذِرُونَ مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وكذَّب رُسُلَهُ بِالْعِقَابِ وَالْعَذَابِ، وَقَوْلُهُ: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}، أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ كُتُبَهُ وَأَرْسَلَ رُسُلَهُ بِالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ، وَبَيَّنَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، لِئَلَّا يَبْقَى لِمُعْتَذِرٍ عُذْرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى}، وكذا قوله: {وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} الآية، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا أحد أغيرَ من الله، من أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ من الله عزَّ وجلَّ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ»، وَفِي لَفْظٍ آخر: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ».

- 166 - لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً - 167 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالًا بَعِيدًا - 168 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا - 169 - إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا - 170 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لَمَّا تَضْمَّنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إليك} إِلَى آخَرِ السِّيَاقِ إِثْبَاتَ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّدَّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّتَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ} أَيْ وَإِنْ كَفَرَ بِهِ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِمَّنْ كَذَّبَكَ وَخَالَفَكَ، فَاللَّهُ يَشْهَدُ لَكَ بِأَنَّكَ رَسُولُهُ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الذِي: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بيه يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حميد}، وَلِهَذَا قَالَ: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ}، أَيْ فِيهِ عِلْمُهُ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يُطْلِعَ الْعِبَادَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى وَالْفَرْقَانِ، وَمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَمَا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ بِالْغُيُوبِ مِنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ صِفَاتِهِ تَعَالَى الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ إِلَّا أَنْ

يُعْلِمَهُ اللَّهُ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} وقال: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ علماً}. وقال ابن أبي حاتم عن عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ قَالَ: أَقْرَأَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلُمِيُّ الْقُرْآنَ، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ عَلَيْهِ أَحَدُنَا الْقُرْآنَ قَالَ: قَدْ أَخَذْتَ عِلْمَ اللَّهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ الْيَوْمَ أَفْضَلَ مِنْكَ إِلَّا بِعَمَلٍ، ثم يقرأ قوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} قوله: {وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} أَيْ بِصِدْقِ مَا جَاءَكَ وَأُوحِيَ إِلَيْكَ وَأُنْزِلَ عَلَيْكَ مَعَ شَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بذلك، {وكفى بالله شَهِيداً} قال محمد بن إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ لَهُمْ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ»، فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} الآية. وقوله تعالى: {إن الذين كفورا وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالًا بَعِيدًا} أَيْ كَفَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ فَلَمْ يَتَّبِعُوا الْحَقَّ، وَسَعَوْا فِي صَدِّ النَّاسِ عَنِ اتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، قَدْ خَرَجُوا عَنِ الْحَقِّ وَضَلُّوا عَنْهُ وَبَعُدُوا مِنْهُ بُعْدًا عَظِيمًا شَاسِعًا، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حُكْمِهِ فِي الْكَافِرِينَ بِآيَاتِهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ، الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ وَبِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَارْتِكَابِ مَآثِمِهِ، وَانْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ بِأَنَّهُ لَا يغفر لهم {ولا يهديهم طَرِيقاً} أَيْ سَبِيلًا إِلَى الْخَيْرِ {إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ}، وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} الآية. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ}، أَيْ قَدْ جَاءَكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَالْبَيَانِ الشَّافِي مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فَآمِنُوا بِمَا جَاءَكُمْ به وابتعوه يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ} أَيْ فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَعَنْ إِيمَانِكُمْ، وَلَا يَتَضَرَّرُ بِكُفْرَانِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}، وقال ههنا: {وَكَانَ الله عَلِيماً} أي بمن يستحق منكم الهداية فيهديه، وبم يَسْتَحِقُّ الْغَوَايَةَ فَيُغْوِيهِ {حَكِيماً} أَيْ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ.

- 171 - يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً يَنْهَى تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ عَنِ الْغُلُوِّ وَالْإِطْرَاءِ، وَهَذَا كَثِيرٌ في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حَتَّى رَفَعُوهُ فَوْقَ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَنَقَلُوهُ مِنْ حَيِّزِ النُّبُوَّةِ إِلَى أَنِ اتَّخَذُوهُ إِلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ يَعْبُدُونَهُ كَمَا يعبدونه، بل قد غلوا في أبتاعه وَأَشْيَاعِهِ مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَلَى دِينِهِ فَادَّعَوْا فيهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوا سَوَاءٌ كَانَ حَقًا أَوْ بَاطِلًا، أَوْ ضَلَالًا أَوْ رَشَادًا، أَوْ صَحِيحًا أَوْ كَذِبًا، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} الآية، وقال الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تطروني كما أطرت النصارى عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ». وهكذا رواه البخاري عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ

وَلَفْظُهُ: «فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ ورسوله»، وقال الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يا مُحَمَّدٌ، يَا سَيِّدَنَا، وَابْنَ سَيِّدِنَا، وَخَيْرَنَا، وَابْنَ خَيْرِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِقَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عزَّ وجلَّ" تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَوْلُهُ تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} أَيْ لَا تَفْتَرُوا عَلَيْهِ وَتَجْعَلُوا لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، تعالى الله عزَّ وجلَّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَتَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ وَتَوَحَّدَ فِي سُؤْدُدِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّمَا المسيح ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} أَيْ إِنَّمَا هُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَخَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَ لَهُ كُن فَكَانَ، وَرَسُولٌ مِنْ رُسُلِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ أَيْ خَلَقَهُ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي أَرْسَلَ بِهَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مَرْيَمَ فَنَفْخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، فكان عيسى بإذنه عزَّ وجلَّ، وكانت تِلْكَ النَّفْخَةُ الَّتِي نَفَخَهَا فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، فَنَزَلَتْ - حَتَّى وَلَجَتْ فَرْجَهَا - بِمَنْزِلَةِ لَقَاحِ الْأَبِ والأم، وَالْجَمِيعُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وَلِهَذَا قِيلَ لِعِيسَى: إِنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ تَوَلَّدَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هو ناشىء عَنِ الْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَ لَهُ بِهَا كُنْ فَكَانَ، وَالرُّوحِ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا جِبْرِيلُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وقال تَعَالَى: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} إلى آخر السورة. وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ الْمَسِيحِ: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} الآية، وقال قتادة: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} هو كقوله: {كُن فيكون}. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سنان الوسطي قَالَ: سَمِعْتُ شَاذَّ بْنَ يَحْيَى يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} قَالَ: لَيْسَ الْكَلِمَةُ صَارَتْ عِيسَى، وَلَكِنْ بِالْكَلِمَةِ صَارَ عِيسَى، وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا ادَّعَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ. {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أَيْ أَعْلَمَهَا بِهَا كَمَا زَعَمَهُ فِي قَوْلِهِ: {إذا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} أي يعلمك بكلمة منه، ويجعل ذلك كقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ}، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّهَا الْكَلِمَةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا جِبْرِيلُ إِلَى مَرْيَمَ فَنَفْخَ فِيهَا بِإِذْنِ اللَّهِ فكان عيسى عليه السلام، وقال البخاري عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حُقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى ما كان من العمل». وقوله فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ: «وَرُوحٌ مِنْهُ»، كَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ} أَيْ مِنْ خَلْقِهِ وَمِنْ عِنْدِهِ وَلَيْسَتْ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ كَمَا تَقُولُهُ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ بَلْ هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} أَيْ وَرَسُولٌ مِنْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: ومحبة منه، والأظهر الأول، وهو أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ رُوحٍ مَخْلُوقَةٍ، وَأُضِيفَتِ الرُّوحُ إِلَى اللَّهِ عَلَى وَجْهِ التَّشْرِيفِ، كَمَا أُضِيفَتِ النَّاقَةُ وَالْبَيْتُ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {هَذِهِ نَاقَةُ الله}، وفي قوله: {وَطَهِّرْ بيتي للطائفين}، وكما روي فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «فَأَدْخُلُ عَلَى رَبِّي فِي داره»، أضافها إليه إضافة تشريف وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ قَبِيلٍ وَاحِدٍ وَنَمَطٍ وَاحِدٍ.

وقوله تعالى: {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أَيْ فَصَدِّقُوا بِأَنَّ اللَّهَ واحد أحد لا ولد له ولا صاحبة، وَاعْلَمُوا وَتَيَقَّنُوا بِأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ} أَيْ لَا تَجْعَلُوا عِيسَى وَأُمَّهُ مَعَ اللَّهِ شَرِيكَيْنِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذلك علواً كبيراً، وهذه الآية والتي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وَكَمَا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني} الآية. وَقَالَ فِي أَوَّلِهَا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الْآيَةَ، والنصارى عليهم لعائن اللَّهِ مِنْ جَهْلِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ ضَابِطٌ، وَلَا لِكُفْرِهِمْ حَدٌّ، بَلْ أَقْوَالُهُمْ وَضَلَالُهُمْ مُنْتَشِرٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ إِلَهًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ شَرِيكًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ وَلَدًا، وَهُمْ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ لَهُمْ آرَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَقْوَالٌ غَيْرُ مُؤْتَلِفَةٍ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ حَيْثُ قَالَ: لَوِ اجْتَمَعَ عشرة من النصارى لافترقوا عن أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا. وَلَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ عُلَمَائِهِمُ المشاهير عندهم وهو (بَتْرَكُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ) فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا الْمَجْمَعَ الْكَبِيرَ الَّذِي عَقَدُوا فِيهِ الْأَمَانَةَ الْكَبِيرَةَ الَّتِي لَهُمْ - وَإِنَّمَا هِيَ الْخِيَانَةُ الْحَقِيرَةُ الصَّغِيرَةُ - وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ قسطنطين باني المدينة المشهورة، وأنه اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ اخْتِلَافًا لَا يَنْضَبِطُ وَلَا يَنْحَصِرُ، فَكَانُوا أَزْيَدَ مِنْ أَلْفَيْنِ أَسْقُفًا، فَكَانُوا أَحْزَابًا كَثِيرَةً كُلُّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ عَلَى مَقَالَةٍ، وَعِشْرُونَ عَلَى مَقَالَةٍ، وَمِائَةٌ عَلَى مَقَالَةٍ، وَسَبْعُونَ عَلَى مَقَالَةٍ وَأَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْقَصُ، فَلَمَّا رَأَى منهم عصابة قد زادوا على الثلثمائة بثمانية عشر نفر وَقَدْ تَوَافَقُوا عَلَى مَقَالَةٍ، فَأَخَذَهَا الْمَلِكُ وَنَصَرَهَا وأيدها، وكان فيلسوفاً داهية، وَمَحَقَ مَا عَدَاهَا مِنَ الْأَقْوَالِ وَانْتَظَمَ دَسْتُ أولئك الثلثمائة وَالثَّمَانِيَةَ عَشَرَ وَبُنِيَتْ لَهُمُ الْكَنَائِسُ، وَوَضَعُوا لَهُمْ كتباً وقوانين وأحدثوا فيها الْأَمَانَةَ الَّتِي يُلَقِّنُونَهَا الْوِلْدَانَ مِنَ الصِّغَارِ لِيَعْتَقِدُوهَا ويعمدونهم عليها، وأتباع هؤلاء هم (الملكانية)، ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا مَجْمَعًا ثَانِيًا فَحَدَثَ فِيهِمِ (الْيَعْقُوبِيَّةُ)، ثُمَّ مَجْمَعًا ثَالِثًا فَحَدَثَ فِيهِمُ (النُّسْطُورِيَّةُ) وَكُلُّ هَذِهِ الْفِرَقِ تُثْبِتُ الْأَقَانِيمَ الثَّلَاثَةَ فِي الْمَسِيحِ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ وَفِي اللَّاهُوتِ والناسوت على زعمهم، هل اتحدوا أو ما اتحدوا، أو امْتَزَجَا أَوْ حَلَّ فِيهِ؟ عَلَى ثَلَاثِ مَقَالَاتٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يُكَفِّرُ الْفِرْقَةَ الْأُخْرَى، وَنَحْنُ نُكَفِّرُ الثَّلَاثَةَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {انْتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ} أَيْ يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ، {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} أَيْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا {لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وكفى بالله وَكِيلاً} أي الجميع ملكه وخلقه وجميع ما فيهما عُبَيْدُهُ، وَهُمْ تَحْتَ تَدْبِيرِهِ وَتَصْرِيفِهِ، وَهُوَ وَكِيلٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ مِنْهُمْ صاحبة وولد كما قال في الآية الأخرى: {بديع السموات والأرض أنى يَكُونُ له ولد} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شيئاً إداً} الآيات.

- 172 - لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا - 173 - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً قال عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {لَّن يَسْتَنكِفَ} لَنْ يَسْتَكْبِرَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَنْ يَحْتَشِمَ {الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ

عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ مِنْ ذَهَبَ إِلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ حَيْثُ قَالَ: {وَلاَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} وَلَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ دِلَالَةٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا عَطَفَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الْمَسِيحِ، لِأَنَّ الِاسْتِنْكَافَ هُوَ الِامْتِنَاعُ، وَالْمَلَائِكَةُ أَقْدَرُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَسِيحِ، فَلِهَذَا قَالَ: {وَلاَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ أَقْوَى وَأَقْدَرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا ذُكِرُوا لِأَنَّهُمُ اتُّخِذُوا آلِهَةً مَعَ اللَّهِ كَمَا اتُّخِذَ الْمَسِيحُ، فأخبر تعالى أنهم عبيد من عباده وخلق من خلقه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مكرمون} الآيات، ولهذا قال: {وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عبادته ويستكبر فسيحشهرم إِلَيهِ جَمِيعاً} أَيْ فَيَجْمَعُهُمْ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ، الَّذِي لَا يَجُورُ فِيهِ وَلَا يَحِيفُ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ}، أي فيعطيهم من الثواب على قد أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وَيَزِيدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَامْتِنَانِهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مردويه عن عبد الله مرفوعاً قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ}، أجورهم، قال: «أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ» {وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} قَالَ: «الشَّفَاعَةُ فِيمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ مِمَّنْ صَنَعَ إِلَيْهِمُ الْمَعْرُوفَ فِي دُنْيَاهُمْ»، وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا يَثْبُتُ، وَإِذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا فَهُوَ جَيِّدٌ، {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا} أَيِ امْتَنَعُوا عن طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَاسْتَكْبَرُوا عَنْ ذَلِكَ {فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا لا نَصِيراً} كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أَيْ صَاغِرِينَ حَقِيرِينَ ذَلِيلِينَ، كَمَا كَانُوا مُمْتَنِعِينَ مستكبرين.

- 174 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِينًا - 175 - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيمًا يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا جَمِيعَ النَّاسِ وَمُخْبِرًا بِأَنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مِنْهُ بُرْهَانٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ للعذر والحجة المزيلة للشبه، وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} أَيْ ضِيَاءً وَاضِحًا عَلَى الْحَقِّ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ الْقُرْآنُ {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} أَيْ جَمَعُوا بَيْنَ مَقَامَيِ الْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، وَقَالَ ابن جريج: آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ} أَيْ يَرْحَمُهُمْ فيدخلهم الجنة، ويزيدهم ثواباً مضاعفة وَرَفْعًا فِي دَرَجَاتِهِمْ مِنْ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} أَيْ طَرِيقًا وَاضِحًا قَصْدًا قَوَامًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى مِنْهَاجِ الِاسْتِقَامَةِ وَطَرِيقِ السلامة في جميع الاعتقادات العمليات وَفِي الْآخِرَةِ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُفْضِي إِلَى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، وَفِي حَدِيثِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْقُرْآنُ صِرَاطُ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمُ، وَحَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ»، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

- 176 - يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ

إِن لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عليم قال البخاري عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ، قَالَ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ، وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ وقال الإمام أحمد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِلُ، قَالَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ - أَوْ قَالَ صُبُّوا عَلَيْهِ - فَعَقِلْتُ فَقُلْتُ: إِنَّهُ لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فأنزل الله آية الفرائض. وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} الآية (أخرجه الشيخان) وَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: يَسْتَفْتُونَكَ عَنِ الْكَلَالَةِ {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} فِيهَا، فَدَلَّ الْمَذْكُورُ عَلَى الْمَتْرُوكِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْكَلَالَةِ واشتقاقها، وأنها مأخوذة من الإكليل الذي يحدي بِالرَّأْسِ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَلِهَذَا فَسَّرَهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: بِمَنْ يَمُوتُ وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ: {إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}، وَقَدْ أُشْكِلَ حُكْمُ الْكَلَالَةِ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجَدُّ، والكلالة، وباب من أبواب الربا (يعني ما نزل آخر سورة البقرة من آيات الربا وقد نزلت بعد آية آل عمران {لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} فهل الربا فيهما واحد على القاعدة، أم هو في الأخيرة أعم؟ استشكل عمر رضي الله عنه والجمهور على الثاني واستشكاله في إرث الجد والكلالة أشهر وأظهر) عَنْ عُمَرَ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الْكَلَالَةِ فَقَالَ: «يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ» فَقَالَ: لَأَنْ أكون سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لي حمر النعم (قال ابن كثير: وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا) وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِآيَةِ الصَّيْفِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمَّا أَرْشَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَفَهُّمِهَا فَإِنَّ فِيهَا كِفَايَةً، نَسِيَ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَعْنَاهَا، وَلِهَذَا قَالَ: فَلَأَنْ أَكُونُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي حُمْرُ النَّعَمِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذلك» فنزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ} الآية. قال قتادة: وذكر لنا أن أبا بكر الصديق قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَلَا إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي نزلت فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ فِي شَأْنِ الْفَرَائِضِ أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ أَنْزَلَهَا فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ النِّسَاءِ أَنْزَلَهَا فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ الْأَنْفَالِ أَنْزَلَهَا فِي أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مما جرت الرحم من العصبة. قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِن امْرُؤٌ هَلَكَ} أَيْ مَاتَ، قال الله تعالى: {كُلُّ شي هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} كل شي يَفْنَى وَلَا يَبْقَى إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وجلَّ، كَمَا قَالَ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} وقوله:

{لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إلى إنه ليس من شرط الكلالة انتقاء الْوَالِدِ، بَلْ يَكْفِي فِي وُجُودِ الْكَلَالَةِ انْتِفَاءُ الْوَلَدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَوَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ، ولكن الذي يرجع إِلَيْهِ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَضَاءُ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ الذي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} وَلَوْ كَانَ مَعَهَا أَبٌ لَمْ تَرِثْ شَيْئًا لِأَنَّهُ يَحْجُبُهَا بِالْإِجْمَاعِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلَا والد بالنص عند التأمر أَيْضًا، لِأَنَّ الْأُخْتَ لَا يُفْرَضُ لَهَا النِّصْفُ مَعَ الْوَالِدِ بَلْ لَيْسَ لَهَا مِيرَاثٌ بِالْكُلِّيَّةِ. وقال الإمام أحمد عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ (زَوْجٍ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ) فَأَعْطَى الزَّوْجَ النِّصْفَ وَالْأُخْتَ النِّصْفَ، فَكُلِّمَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بذلك. وقد روى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ فِي الْمَيِّتِ تَرَكَ بِنْتًا وَأُخْتًا إِنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ لِقَوْلِهِ: {إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} قَالَ فَإِذَا تَرَكَ بِنْتًا فَقَدْ ترك ولداً فلا شي للأخت، خالفهما الْجُمْهُورُ فَقَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ بِالْفَرْضِ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ الْآخَرُ بِالتَّعْصِيبِ، بِدَلِيلٍ غَيْرِ هذه الآية، وهذه الآية نصت أَنْ يُفْرَضَ لَهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَأَمَّا وراثتها بالتعصيب، فلما رواه البخاري عَنِ الْأَسْوَدِ، قَالَ: قَضَى فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم النصف للبنت والنصف للأخت. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ سُئِلَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَنِ ابْنَةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ فَقَالَ: لِلِابْنَةِ النِّصْفُ وللأخت النصف وأت ابن مسعود فسيتابعني، فسأل ابن مسعود فأخبره بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إذًا وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُهْتَدِينَ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قضى النبي صلى الله عليه وسلم النصف للبنت ولبنت الِابْنِ السُّدُسَ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ، فأتيا فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي ما دام هذا الحبر فيكم. وقوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ} أي والأخ يرث جميع مالها إِذَا مَاتَتْ كَلَالَةً وَلَيْسَ لَهَا وَلَدٌ أَيْ ولا والد، لأنها لَوْ كَانَ لَهَا وَالِدٌ لَمْ يَرِثِ الْأَخُ شَيْئًا فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ مَعَهُ مَنْ لَهُ فَرْضٌ صُرِفَ إِلَيْهِ فَرْضُهُ كَزَوْجٍ أَوْ أَخٍ مِنْ أُمٍّ، وَصُرِفَ الْبَاقِي إِلَى الْأَخِ لِمَا ثت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَقَوْلُهُ: {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}، أَيْ فَإِنْ كَانَ لِمَنْ يَمُوتُ كَلَالَةً أُخْتَانِ فُرِضَ لَهُمَا الثُّلُثَانِ وَكَذَا مَا زاد على الأختين في حكمهما، ومن ههنا أَخَذَ الْجَمَاعَةُ حُكْمَ الْبِنْتَيْنِ كَمَا اسْتُفِيدَ حُكْمُ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْبَنَاتِ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنَّ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} وَقَوْلُهُ: {وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} هَذَا حُكْمُ الْعَصَبَاتِ مِنَ الْبَنِينَ وَبَنِي الْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ إِذَا اجْتَمَعَ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ أُعْطِيَ الذَّكَرُ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَقَوْلُهُ تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ} أَيْ يَفْرِضُ لَكُمْ فَرَائِضَهُ، وَيَحُدُّ لَكُمْ حُدُودَهُ، وَيُوَضِّحُ لَكُمْ شَرَائِعَهُ. وَقَوْلُهُ: {أَن تَضِلُّواْ} أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ الْبَيَانِ، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَمَصَالِحِهَا وَمَا فِيهَا من الخير لعباده وما يستحقه كل واد من القرابات بحسب قربه من المتوفى. وقال ابن جرير عن سعيد ابن الْمُسَيَّبِ: أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ فِي الْجَدِّ وَالْكَلَالَةِ كتاباً فمكث يستخير الله يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ عَلِمْتَ فِيهِ خَيْرًا فَأَمْضِهِ، حَتَّى إِذَا طَعِنَ دَعَا بِكِتَابٍ فَمُحِيَ وَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا كَتَبَ فِيهِ، فَقَالَ: إِنِّي كتبت كتاباً في الجد والكلالة،

وكنت أتسخير اللَّهَ فِيهِ، فَرَأَيْتُ أَنْ أَتْرُكَكُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحِي أَنْ أُخَالِفَ فِيهِ أَبَا بَكْرٍ، وَكَأَنَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: هُوَ مَا عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ، وَهَذَا الَّذِي قاله الصديق عليه جمهور الصحابة والتابعين، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ وَقَوْلُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ قَاطِبَةً، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَمَا أَرْشَدَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ وَوَضَّحَهُ فِي قَوْلِهِ {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عليم} والله أعلم.

5 - سورة المائدة

- 5 - سورة المائدة

[مقدمة] قال الإمام أحمد عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، قَالَتْ: إِنِّي لَآخِذَةٌ بِزِمَامِ الْعَضْبَاءِ، نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْمَائِدَةُ كُلُّهَا، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة. وقال أحمد أيضاً، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: أُنْزِلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَلَمْ تستطع أن تحمله، فنزل عنها، وقد روى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: آخِرُ سورة أنزلت سورة المائدة والفتح، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ والفتح}، وعن جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: حَجَجْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لِي: يَا جُبَيْرُ تَقْرَأُ الْمَائِدَةَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَاسْتَحِلُّوهُ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه (رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ) ورواه الإمام أحمد عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، وَزَادَ: وَسَأَلْتُهَا عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: القرآن.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- 1 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ - 2 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ قال ابن أبي حاتم عن مَعْنٌ وَعَوْفٌ، أَوْ أَحَدِهِمَا: أَنَّ رَجُلًا أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: اعْهَدْ إِلِيَّ،

فَقَالَ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ يَأْمُرُ به، أو شر ينهى عنه. وعن خَيْثَمَةَ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} فَهُوَ فِي التَّوْرَاةِ يَا أيها المساكين. وكتب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا لعمرو ابن حَزْمٍ، حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ يُفَقِّهَ أَهْلَهَا وَيُعَلِّمُهُمُ السُّنَّةَ، وَيَأْخُذَ صَدَقَاتِهِمْ، فَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَعَهْدًا، وَأَمَرَهُ فِيهِ بِأَمْرِهِ، فَكَتَبَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} عَهْدٌ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كلهن فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ» (رواه ابن أبي حاتم وأخرج مثله ابن جرير) وقوله تعالى: {أَوْفُواْ بالعقود}، قال ابن عباس يعني بالعقود: العهود؛ قال: والعهود: ما كانوا يتعاقدون عَلَيْهِ مِنَ الْحِلْفِ وَغَيْرِهِ؛ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس العهود: يَعْنِي مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَمَا حَرَّمَ، وَمَا فرض وما حد في القرآن كله، ولا تَغْدِرُوا وَلَا تَنْكُثُوا، ثُمَّ شَدَّدَ فِي ذَلِكَ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ}، إلى قوله: {سوء الدار} وقال الضحاك: {أَوْفُواْ العقود} قال: ما أحل الله وحرم وَمَا أَخَذَ اللَّهُ مِنَ الْمِيثَاقِ عَلَى مَنْ أقر بالإيمان بالنبي وَالْكِتَابِ أَنْ يُوفُوا بِمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَرَائِضِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} قَالَ: هِيَ سِتَّةٌ، عَهْدُ اللَّهِ، وَعَقْدُ الْحِلْفِ، وَعَقْدُ الشَّرِكَةِ، وَعَقْدُ البيع، وعقد اليمين. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لا خيار في الْبَيْعِ بِهَذِهِ الْآيَةِ {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}، قَالَ: فَهَذَا يدل على لزوم العقد وثبوته، ويقتضي نَفْيَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ومالك، وخالفهما في ذلك الشافعي وأحمد وَالْجُمْهُورُ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «البيِّعان بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا»، وَفِي لَفْظِ آخر لِلْبُخَارِيِّ؛ «إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا»، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إِثْبَاتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ الْمُتَعَقِّبِ لِعَقْدِ الْبَيْعِ، وَلَيْسَ هَذَا مُنَافِيًا لِلُزُومِ الْعَقْدِ، بَلْ هُوَ مِنْ مقتضياته شرعاً، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} هِيَ الإبل والبقر والغنم، قاله قتادة وَغَيْرُ وَاحِدٍ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِبَاحَةِ الْجَنِينِ إِذَا وُجِدَ مَيِّتًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ إِذَا ذُبِحَتْ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ في السنن. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَنْحَرُ النَّاقَةَ وَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ أَوِ الشَّاةَ، فِي بَطْنِهَا الْجَنِينُ، أَنُلْقِيهِ أَمْ نَأْكُلُهُ؟ فَقَالَ: «كُلُوهُ إِنْ شِئْتُمْ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ»، وقال أبو داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ذَكَاةُ الجنين ذكاة أمه» وقوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْمَيْتَةَ وَمَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ}، فَإِنَّ هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَنْعَامِ، إِلَّا أَنَّهَا تَحْرُمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} يَعْنِي مِنْهَا، فَإِنَّهُ حَرَامٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ وَتَلَاحُقُهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أَيْ إِلَّا مَا سَيُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنْ تَحْرِيمِ بَعْضِهَا في بعض الأحوال، والمراد بالأنعام ما تعم الْإِنْسِيَّ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَمَا يَعُمُّ الْوَحْشِيَّ كَالظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمُرِ،

فَاسْتَثْنَى مِنَ الْإِنْسِيِّ مَا تَقَدَّمَ، وَاسْتَثْنَى مِنَ الْوَحْشِيِّ الصَّيْدَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ: وَقِيلَ الْمُرَادُ، أحللنا لَكُمُ الأنعام إِلاَّ ما استثني منها لمن التزم تحريم الصيد وهو حرام، لقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، أَيْ أَبَحْنَا تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ بِشَرْطِ أَنْ يكون غير باغ ولا متعد، وهكذا هنا، أي كما أحللنا الأنعام فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَحَرِّمُوا الصَّيْدَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بِهَذَا، وَهُوَ الْحَكِيمُ فِي جَمِيعِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ، وَالْهَدْيَ وَالْبُدْنَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَقِيلَ: شَعَائِرُ اللَّهِ محارمه، أَيْ لَا تُحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ الَّتِي حَرَّمَهَا الله تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ} يَعْنِي بِذَلِكَ تَحْرِيمَهُ وَالِاعْتِرَافَ بِتَعْظِيمِهِ وَتَرْكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْ تَعَاطِيهِ فِيهِ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالْقِتَالِ، وَتَأْكِيدَ اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فيه كبير}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثنا عَشَرَ شهرا} الآية، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمرحم، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ"، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ تَحْرِيمِهَا إِلَى آخِرِ وَقْتٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ} يَعْنِي لَا تَسْتَحِلُّوا القتال فيه، واختاره ابن جرير أيضاً، وذهب الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَأَنَّهُ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} قَالُوا: فَلَمْ يَسْتَثْنِ شَهْرًا حَرَامًا مِنْ غيره، وقد حكى الإمام أبو جعفر الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ قِتَالَ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي الْأَشْهُرِ الحُرُم وَغَيْرِهَا مِنْ شهور السنة. وقوله تعالى: {وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلَائِدَ} يَعْنِي لَا تَتْرُكُوا الإهداء إلى البيت الحرام، فإن فيه تعظيم شَعَآئِرَ اللَّهِ، وَلاَ تَتْرُكُوا تَقْلِيدَهَا فِي أَعْنَاقِهَا لِتَتَمَيَّزَ بِهِ عَمَّا عَدَاهَا مِنَ الْأَنْعَامِ وَلِيَعْلَمَ أَنَّهَا هَدْيٌ إِلَى الْكَعْبَةِ فَيَجْتَنِبُهَا مَنْ يُرِيدُهَا بِسُوءٍ، وَتَبْعَثُ مَنْ يَرَاهَا عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، فَإِنَّ مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَلِهَذَا لَمَّا حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَهُوَ وَادِي الْعَقِيقِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ وَكُنَّ تِسْعًا، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَتَطَيَّبَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أشعر هديه وقلده، وأهلَّ للحج وَالْعُمْرَةِ، وَكَانَ هَدْيُهُ إِبِلًا كَثِيرَةً تُنِيفُ عَلَى السِّتِّينَ مِنْ أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} وقال بعض السلف: إعظامها استحسانها واستسمانها، قال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ. «رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ»، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حيان قوله: {وَلاَ القلائد} فلا تستحلوها، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا خَرَجُوا مِنْ أَوْطَانِهِمْ فِي غَيْرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ قَلَّدُوا أَنْفُسَهُمْ بِالشَّعْرِ والوبر، وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره فيأمنون به. وقوله تعالى: {ولا آمِّينَ البيت الحرام يتبغون فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} أَيْ وَلَا تَسْتَحِلُّوا قِتَالَ الْقَاصِدِينَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَكَذَا مَنْ قَصَدَهُ طَالِبًا فَضْلَ اللَّهِ، وَرَاغِبًا فِي رِضْوَانِهِ فَلَا تَصُدُّوهُ وَلَا تَمْنَعُوهُ وَلَا تُهَيِّجُوهُ، قَالَ مُجَاهِدٌ وعطاء فِي قَوْلِهِ: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ} يَعْنِي بِذَلِكَ التِّجَارَةَ وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} وقوله:

{وَرِضْوَاناً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَرَضَّوْنَ اللَّهَ بِحَجِّهِمْ، وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جرير أن هذه الآية نزلت في (الحطيم بْنِ هِنْدٍ الْبَكْرِيِّ)، كَانَ قَدْ أَغَارَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ اعْتَمَرَ إِلَى الْبَيْتِ، فَأَرَادَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنْ يَعْتَرِضُوا فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْبَيْتِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجلَّ: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ربهم ورضواناً} (أخرج ابن جرير: أن الحطيم قدم المدينة في عير له يحمل طعاماً فباعه ثم دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبايعه واسلم، فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام، وخرج في عير له يريد مكة، فتهيأ له نفر من المهاجرين والأنصار ليقطعوه في عيره، فأنزل الله هذه الآية) وقد حكى ابن جرير بالإجماع عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ يَجُوزُ قَتْلُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَمَانٌ، وَإِنْ أمَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ أو بيت المقدس، وأن هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ فِي حَقِّهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَأَمَّا مَنْ قَصَدَهُ بِالْإِلْحَادِ فِيهِ وَالشِّرْكِ عِنْدَهُ والكفر به فهذا يمنع، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا}، وَلِهَذَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تِسْعٍ لَمَّا أمَّر الصديقُ عَلَى الْحَجِيجِ عَلِيًّا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ عَلَى سَبِيلِ النِّيَابَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببراءة، وأن لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بالبيت عريان. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}: يَعْنِي مَنْ تَوَجَّهَ قِبَل الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَكَانَ المؤمنون والمشركون يحجون، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحداً مِنْ مُؤْمِنٍ أَوْ كَافِرٍ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَهَا: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ واليوم الآخر} فنفى المشركين مِّنَ المسجد الحرام. وقال قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {وَلاَ الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} قَالَ: مَنْسُوخٌ. كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يُرِيدُ الْحَجَّ تَقَلَّدَ مِنَ الشَّجَرِ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ، فإذا رَجَعَ تَقَلَّدَ قِلَادَةً مِنْ شَعْرٍ، فَلَمْ يَعْرِضْ له أحد (ونقل: أن الآية نزلت في الحطيم البكري، وشريح بن ضبيعة القيسي وكانا معتمرين، والحطيم: هو الذي قال فيه الرسول «دخل بوجه كافر، وخرج بقنا غادر».) وَكَانَ الْمُشْرِكُ يَوْمئِذٍ لَا يُصَدُّ عَنِ الْبَيْتِ، فأمروا أن لا يُقَاتِلُوا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَلَا عِنْدَ الْبَيْتِ، فنسخها قوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وجدتموهم}. وقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} أَيْ إِذَا فَرَغْتُمْ مِنْ إِحْرَامِكُمْ وَأَحْلَلْتُمْ مِنْهُ، فَقَدْ أَبَحْنَا لَكُمْ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْكُمْ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ مِنَ الصيد، وهذا أمر بعد الحظر، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ} أَيْ لَا يَحَمِّلَنَكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ قَدْ كَانُوا صَدُّوكُمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ عام الحديبية على أن تعتدوا حكم الله فيهم فَتَقْتَصُّوا مِنْهُمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، بَلِ احْكُمُوا بِمَا أمركم الله به من العدل في حق كُلِّ أَحَدٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ قوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قوم على أن لا تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا عَامَلْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ، وَالْعَدْلُ بِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ. وَقَالَ ابْنُ أبي حاتم، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَأَصْحَابُهُ حِينَ صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ، وَقَدِ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَمَرَّ بِهِمْ أُنَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ يُرِيدُونَ الْعُمْرَةَ، فَقَالَ

أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَصُدُّ هَؤُلَاءِ كَمَا صَدَّنَا أَصْحَابُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَالشَّنَآنُ: هُوَ الْبُغْضُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ شَنَأْتُهُ أَشْنَؤُهُ شَنَآنًا بالتحريك، وقال ابن جرير: من العرب من يسقط بالتحريك في شنآن فيقول: شنان، وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا قَرَأَ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ومَا الْعَيْشُ إِلَّا مَا تُحِبُّ وَتَشْتَهِي * وَإِنْ لَامَ فِيهِ ذُو الشَّنَّانِ وفَنَّدَا وَقَوْلُهُ تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُعَاوَنَةِ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَهُوَ الْبَرُّ، وَتَرْكِ الْمُنْكِرَاتِ وَهُوَ التَّقْوَى، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّنَاصُرِ عَلَى الْبَاطِلِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الْإِثْمُ: تَرْكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِفِعْلِهِ، وَالْعُدْوَانُ مُجَاوَزَةُ مَا حَدَّ اللَّهُ فِي دِينِكُمْ وَمُجَاوَزَةُ ما فرض الله عَلَيْكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ وَفِي غَيْرِكُمْ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «انْصُرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً» قيل: يارسول اللَّهِ هَذَا نَصَرْتُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ إِذَا كان ظالماً! قال: «تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره»، (رواه البخاري وأحمد عن أنَس بن مالك)، وقال أحمد عن يحيى بن وثاب - رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لَا يخالط الناس ولا يصبر عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لَا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدال على الخير كفاعله»، وَفِي الصَّحِيحِ: «مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شيئاً».

- 3 - حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يُخْبِرُ تَعَالَى عِبَادَهُ خَبَرًا مُتَضَمِّنًا النَّهْيَ عَنْ تَعَاطِي هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْمِيتَةِ، وَهِيَ مَا مَاتَ مِنَ الحيوانات حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ وَلَا اصْطِيَادٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَضَرَّةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ الدَّمِ الْمُحْتَقِنِ، فَهِيَ ضَارَّةٌ لِلدِّينِ وَلِلْبَدَنِ، فَلِهَذَا حَرَّمَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَسْتَثْنِي مِنَ الْمَيْتَةِ السَّمَكُ فَإِنَّهُ حَلَالٌ سَوَاءٌ مَاتَ بِتَذْكِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ والترمذي والنسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ؟ فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته». وقوله: {والدم} يعني به المسفوح كقوله: {أَوْ دَماً مسفوحاً}، قال ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الطُّحَالِ؟ فقال: كلوه. فقالواك إِنَّهُ دَمٌ فَقَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمُ الدَّمُ المسفوح. وعن عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّمَا نَهَى عَنِ الدَّمِ السَّافِحِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمِيتَتَانِ فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» (رواه أحمد وابن ماجة واليهيقي عن ابن عمر مروفعاً) وقال ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَهُوَ (صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ) قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم

إِلَى قَوْمِي أَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَعْرِضُ عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم؛ فبينما نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة من دم، فاجتمعوا عليها يأكلونها، فقالوا: هلمَّ يَا صُدَيُّ، فَكُلْ، قَالَ قُلْتُ: وَيَحْكَمُ إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم، فأقبلوا عليه، قالوا: وما ذاك؟ فتلوت عليهم هذه الآية: {حُرِّمَتْ عليك الميتة والدم} الآية، وَمَا أَحْسَنَ مَا أَنْشَدَ الْأَعْشَى فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ: وَإِيَّاكَ وَالْمَيْتَاتِ لَا تقربَنَّها * وَلَا تَأْخُذَنَّ عَظْمًا حَدِيدًا فَتَفْصِدَا أَيْ لا تفعل فعل الْجَاهِلِيَّةُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ إِذَا جَاعَ يأخذ شَيْئًا مُحَدَّدًا مَنْ عَظْمٍ وَنَحْوِهِ، فَيَفْصِدُ بِهِ بِعِيرَهَ أَوْ حَيَوَانًا مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانَ، فَيَجْمَعُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ مِنَ الدَّمِ فَيَشْرَبُهُ، وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ الدَّمَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ. قوله تعالى: {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} يَعْنِي إِنْسِيَّهُ وَوَحْشِيَّهُ، وَاللَّحْمُ يَعُمُّ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ حَتَّى الشَّحْمَ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تحذلق «الظاهرية» في جمودهم ههنا، وَتَعَسُّفِهِمْ فِي الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِهِ: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا} يَعْنُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} أَعَادُوا الضَّمِيرَ فِيمَا فَهِمُوهُ عَلَى الْخِنْزِيرِ حَتَّى يَعُمَّ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَّا إِلَى الْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ اللَّحْمَ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَجْزَاءِ، كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَمِنَ الْعُرْفِ الْمُطَّرِدِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْخَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ»، فَإِذَا كَانَ هَذَا التَّنْفِيرُ لِمُجَرَّدِ اللَّمْسِ، فَكَيْفَ يَكُونُ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ الْأَكِيدُ عَلَى أَكْلِهِ وَالتَّغَذِّي بِهِ!؟ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى شُمُولِ اللَّحْمِ لِجَمِيعِ الْأَجْزَاءِ مِنَ الشَّحْمِ وَغَيْرِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ»، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهَا تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: «لَا، هُوَ حَرَامٌ» وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ لِهِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ: نَهَانَا عَنِ الْمِيتَةِ وَالدَّمِ. وَقَوْلِهِ: {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أَيْ مَا ذُبِحَ فَذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غير الله، فهو حرام، لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقات عَلَى اسْمِهِ الْعَظِيمِ، فَمَتَى عُدِلَ بِهَا عَنْ ذَلِكَ، وَذُكِرَ عَلَيْهَا اسْمُ غَيْرِهِ مِنْ صَنَمٍ أَوْ طَاغُوتٍ أَوْ وَثَنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ من سائر المخلوقات، فإنها حرام بالإجماع. وقوله تعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} وَهِيَ الَّتِي تَمُوتُ بِالْخَنْقِ، إِمَّا قَصْدًا، وإما اتِّفَاقًا، بِأَنْ تَتَخَبَّلَ فِي وَثَاقَتِهَا فَتَمُوتُ بِهِ فَهِيَ حَرَامٌ؛ وَأَمَّا {الْمَوْقُوذَةُ} فَهِيَ الَّتِي تُضْرَبُ بِشَيْءٍ ثَقِيلٍ غَيْرِ مُحَدَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هِيَ الَّتِي تضرب بالخشبة حتى يوقذها فتموت، قال قَتَادَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَضْرِبُونَهَا بِالْعَصَى حَتَّى إِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ الصَّيْدَ فَأُصِيبُ، قَالَ: «إِذَا رميت بالمعراض فخرق، فكله، وإن أصاب بِعَرْضِهِ فَإِنَّمَا هُوَ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْهُ»، فَفَرَّقَ بَيْنَ مَا أَصَابَهُ بِالسَّهْمِ أَوْ بِالْمِزْرَاقِ وَنَحْوِهِ بحده فأحله، وما أصاب بعرضه فجعله وقيذاً لم يحله، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا صَدَمَ الْجَارِحَةُ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ بِثِقَلِهِ وَلَمْ يَجْرَحْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ، هُمَا قَوْلَانِ للشافعي رحمه الله: (أحدهما) لَا يَحِلُّ كَمَا فِي السَّهْمِ وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَيِّتٌ بِغَيْرِ جُرْحٍ فَهُوَ وَقِيذٌ، (وَالثَّانِي): أَنَّهُ يَحِلُّ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِإِبَاحَةِ مَا صَادَهُ الْكَلْبُ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ، فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي الْعُمُومِ. (فَإِنْ قِيلَ): فَلِمَ لَا فَصَّلَ

فِي حُكْمِ الْكَلْبِ، فَقَالَ مَا ذَكَرْتُمْ: إِنْ جَرحه فَهُوَ حَلَالٌ وَإِنْ لَمْ يَجْرَحْهُ فَهُوَ حَرَامٌ؟ (فَالْجَوَابُ): أَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْكَلْبِ أَنْ يَقْتُلَ بِظُفُرِهِ أَوْ نَابِهِ أَوْ بِهِمَا مَعًا، وَأَمَّا اصْطِدَامُهُ هُوَ وَالصَّيْدُ فَنَادِرٌ وَكَذَا قَتْلُهُ إِيَّاهُ بِثِقْلِهِ، فَلَمْ يُحْتَجَّ إِلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ لِنُدُورِهِ، أَوْ لِظُهُورِ حُكْمِهِ عِنْدَ مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ وَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَأَمَّا السَّهْمُ وَالْمِعْرَاضُ فَتَارَةً يخطىء لسوء رمي راميه أو للهو أو لنحو ذَلِكَ، بَلْ خَطَؤُهُ أَكْثَرُ مِنْ إِصَابَتِهِ، فَلِهَذَا ذَكَرَ كُلًّا مِنْ حُكْمَيْهِ مُفَصِّلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْكَلْبُ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ قَدْ يَأْكُلُ مِنَ الصَّيْدِ ذَكَرَ حُكْمَ مَا إِذَا أَكَلَ مِنَ الصَّيْدِ فَقَالَ: «إِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ»، وَهَذَا صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ أَيْضًا مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ آيَةِ التَّحْلِيلِ عِنْدَ كَثِيرِينَ، فَقَالُوا: لَا يَحِلُّ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وابن عباس، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَرَوَى ابْنُ جرير في تفسيره عن ابن عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الصَّيْدَ يُؤْكَلُ وَإِنْ أكل منه الكلب، حتى قال سعيد وسلمان وأبو هريرة وَغَيْرُهُمْ: يُؤْكَلُ وَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا بِضْعَةٌ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ، وَأَوْمَأَ فِي الْجَدِيدِ إِلَى قَوْلَيْنِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَوِيٍّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ، وَكُلْ مَا ردت عليك يدك». فأما الجوارح من الطيور، فنص الشافعي على أنها كالكلب، فَيَحْرُمُ مَا أَكَلَتْ مِنْهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَحْرُمُ عِنْدَ الْآخَرِينَ، وَاخْتَارَ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ أَكْلُ مَا أَكَلَتْ مِنْهُ الطيور والجوارح، وهو مذهب أي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيمُهَا كَمَا يُعَلَّمُ الْكَلْبُ بِالضَّرْبِ وَنَحْوِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهَا لَا تُعَلَّمُ إِلَّا بِأَكْلِهَا مِنَ الصَّيْدِ، فَيُعْفَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَالنَّصُّ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الكلب لا في الطير، وَأَمَّا {الْمُتَرَدِّيَةُ} فَهِيَ الَّتِي تَقَعُ مِنْ شَاهِقٍ أَوْ مَوْضِعٍ عَالٍ فَتَمُوتُ بِذَلِكَ فَلَا تَحِلُّ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُتَرَدِّيَةُ الَّتِي تَسْقُطُ مِنْ جَبَلٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الَّتِي تَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ الَّتِي تَقَعُ مِنْ جَبَلٍ أَوْ تَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ، وَأَمَّا {النَّطِيحَةُ} فَهِيَ الَّتِي مَاتَتْ بِسَبَبِ نَطْحَ غَيْرِهَا لَهَا فَهِيَ حَرَامٌ، وَإِنْ جَرَحَهَا الْقَرْنُ وَخَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ وَلَوْ مِنْ مَذْبَحِهَا، وَالنَّطِيحَةُ فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى مُفْعُولَةٍ أَيْ مَنْطُوحَةٍ، وَأَكْثَرُ مَا تَرِدُ هَذِهِ الْبِنْيَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِدُونِ تَاءِ التَّأْنِيثِ، فَيَقُولُونَ: عين كحيل، وكف خضيب، وَلَا يَقُولُونَ: كَفُّ خَضِيبَةٍ، وَلَا عَيْنُ كَحِيلَةٍ، وَأَمَّا هَذِهِ فَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ إِنَّمَا اسْتَعْمَلَ فِيهَا تَاءَ التَّأْنِيثِ لِأَنَّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ طَرِيقَةٌ طَوِيلَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أُتِيَ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ فِيهَا لِتَدُلَّ عَلَى التَّأْنِيثِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، بِخِلَافِ عَيْنٍ كَحِيلٍ وَكَفٍّ خَضِيبٍ، لِأَنَّ التَّأْنِيثَ مُسْتَفَادٌ مِنْ أَوَّلِ الكلام. وقوله تعالى {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} أَيْ مَا عَدَا عَلَيْهَا أَسَدٌ أَوْ فَهْدٌ أَوْ نَمِرٌ أَوْ ذِئْبٌ أَوْ كَلْبٌ فَأَكَلَ بَعْضَهَا فَمَاتَتْ بِذَلِكَ فَهِيَ حرام، وإن كان قد سال منها الدم، وَلَوْ مِنْ مَذْبَحِهَا، فَلَا تَحِلُّ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ مَا أَفْضَلَ السَّبُعُ من الشاة أو البعير أو البقرة أو نحو ذَلِكَ، فَحَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلُهُ: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} عَائِدٌ عَلَى مَا يُمْكِنُ عوده عليه مما انعقد بسبب مَوْتِهِ، فَأَمْكَنَ تَدَارَكُهُ بِذَكَاةٍ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَعُودُ عَلَى قَوْلِهِ: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ}. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} يَقُولُ: إِلَّا مَا ذَبَحْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَفِيهِ روح فكلوه فهو ذكي، وقال ابن أبي حاتم عن علي في الآية قَالَ: إِنْ مَصَعَتْ بِذَنَبِهَا أَوْ رَكَضَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ طَرَفَتْ بِعَيْنِهَا فَكُلْ، وَقَالَ ابْنُ

جرير، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إِذَا أَدْرَكْتَ ذَكَاةَ الْمَوْقُوذَةِ والمرتدية وَالنَّطِيحَةِ وَهِيَ تُحَرِّكُ يَدًا أَوْ رِجْلًا فَكُلْهَا، وهكذا روي عن طاووس والحسن: أَنَّ المُذكاة مَتَى تَحَرَّكَتْ بِحَرَكَةٍ تَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْحَيَاةِ فِيهَا بَعْدَ الذَّبْحِ فَهِيَ حَلَالٌ؛ وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الشَّاةِ الَّتِي يَخْرِقُ جَوْفَهَا السَّبُعُ حَتَّى تَخْرُجَ أَمْعَاؤُهَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى أَنْ تُذَكِّي، أَيَّ شَيْءٍ يُذَكَّى مِنْهَا، وَقَالَ أَشْهَبُ سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الضَّبُعِ يَعْدُو عَلَى الْكَبْشِ فَيَدُقُّ ظَهْرَهُ أَتُرَى أَنْ يذكى قبل أن يموت فيؤكل؟ فقال: إن كان قد بلغ السحر؟؟ فَلَا أَرَى أَنْ يُؤْكَلَ، وَإِنْ كَانَ أَصَابَ أَطْرَافَهُ فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، قِيلَ لَهُ: وَثَبَ عَلَيْهِ فَدَقَّ ظَهْرَهُ، فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي، هَذَا لَا يَعِيشُ مِنْهُ، قِيلَ لَهُ: فَالذِّئْبُ يعدو على الشاة فيثقب بطنها ولا يثقب الْأَمْعَاءَ، فَقَالَ: إِذَا شَقَّ بَطْنَهَا فَلَا أَرَى أَنْ تُؤْكَلَ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ وَظَاهِرُ الْآيَةِ عَامٌّ فِيمَا اسْتَثْنَاهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي بَلَغَ الْحَيَوَانُ فِيهَا إِلَى حَالَةٍ لَا يَعِيشُ بَعْدَهَا، فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مُخَصَّصٍ لِلْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّهُ قَالَ، قُلْتُ: يا رسول الله إنا لاقوا الْعَدُوِّ غَدًا وَلَيْسَ مَعَنَا مُدَى أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ فَقَالَ: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ لَيْسَ السِّنُّ والظُّفُرُ. وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة"، وفي الحديث الذي رواه الدارقطني مرفوعاً، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَهُوَ أَصَحُّ: "أَلَا إِنَّ الذَّكَاةَ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ وَلَا تُعَجِّلُوا الْأَنْفُسَ أَنْ تَزْهَقَ. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أحمد وأهل السنن عَنْ أَبِي الْعَشْرَاءِ الدَّارِمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلَّا مِنَ اللَّبَّةِ وَالْحَلْقِ؟ فَقَالَ: «لَوْ طُعِنَتْ فِي فَخْذِهَا لَأَجْزَأَ عَنْكَ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ولكنه محمول على ما لا يَقْدِرُ عَلَى ذَبْحِهِ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ. وَقَوْلُهُ تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} كَانَتِ النُّصُبُ حِجَارَةً حَوْلَ الْكَعْبَةِ، قَالَ ابْنُ جريج: وهي ثلثمائة وستون نصباً، كانت الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا يَذْبَحُونَ عِنْدَهَا وَيَنْضَحُونَ مَا أَقْبَلَ مِنْهَا إِلَى الْبَيْتِ بِدِمَاءِ تِلْكَ الذَّبَائِحِ، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ هَذَا الصَّنِيعِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ هَذِهِ الذَّبَائِحِ الَّتِي فُعِلَتْ عِنْدَ النُّصُبِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ يُذْكَرُ عَلَيْهَا اسْمُ الله فالذبح عِنْدَ النُّصُبِ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى هَذَا، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ تَحْرِيمُ مَا أُهِلَّ بِهِ لغير الله. وقوله تعالى: {وأن تسقسموا بِالْأَزْلَامِ} أَيْ حَرُمَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الِاسْتِقْسَامُ بالأزلام، واحدها زلم، وقد تفتح الزاء فَيُقَالُ: زَلم، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا يَتَعَاطَوْنَ ذَلِكَ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قِدَاحٍ ثَلَاثَةٍ عَلَى أَحَدِهَا مَكْتُوبٌ أَفْعَلُ، وَعَلَى الْآخَرِ لَا تَفْعَلْ وَالثَّالِثُ غُفْلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: مَكْتُوبٌ عَلَى الْوَاحِدِ أَمَرَنِي ربي، على الْآخَرِ نَهَانِي رَبِّي، وَالثَّالِثُ غُفْلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ شيء، فإذا أجالها فطلع سهم الأمر فعله، أو النهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد، وَالِاسْتِقْسَامُ مَأْخُوذٌ مِنْ طَلَبِ الْقِسْمِ مِنْ هَذِهِ الأزلام، هكذا قرر ابن جرير، وعن ابن عباس {وَإِنَّ تسقسموا بِالْأَزْلَامِ} قَالَ: وَالْأَزْلَامُ قِدَاحٌ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا في الْأُمُورَ، وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: أَنَّ أَعْظَمَ أَصْنَامِ قُرَيْشٍ صَنَمٌ كَانَ يُقَالُ لَهُ هبل منصوب على بئر داخل الكبعة فيها توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه، وكان عِنْدَهُ سَبْعَةُ أَزْلَامٍ مَكْتُوبٌ فِيهَا مَا يَتَحَاكَمُونَ فيه مما أشكل عليهم، فلما خَرَجَ لَهُمْ مِنْهَا رَجَعُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يَعْدِلُوا عنه، وثبت فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَجَدَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ مُصَوَّرَيْنِ فِيهَا، وَفِي أَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ فَقَالَ: «قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا أَبَدًا»، وَفِي الصحيحين أَنَّ (سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ) لَمَّا خَرَجَ فِي طَلَبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَهُمَا

ذَاهِبَانِ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرَيْنِ قَالَ: فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ هَلْ أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهَ: لَا تَضُرَّهُمْ، قَالَ: فَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ، وَأَتْبَعْتُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَقْسَمَ بِهَا ثَانِيَةً، وَثَالِثَةً، كُلُّ ذَلِكَ يَخْرُجُ الَّذِي يَكْرَهُ: لَا تَضُرَّهُمْ، وَكَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ سُرَاقَةُ لَمْ يُسلِمْ إِذْ ذَاكَ ثُمَّ أسلم بعد ذلك. {ذلكم فِسْقٌ} أي تعاطيه فسق وغي وضلالة وَجَهَالَةٌ وَشِرْكٌ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا ترددوا في أمورهم أن يتسخيروه بِأَنْ يَعْبُدُوهُ ثُمَّ يَسْأَلُوهُ الْخِيَرَةَ فِي الْأَمْرِ الذي يريدونه، كما روى الإمام أحمد والبخاري عَنْ جَابِرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الاستخارة في الأمور كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَقُولُ: "إِذَا همَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم إن هذا الأمر - ويسميه باسمه - خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمير - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم! وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفني عنه، واصرفه عنه، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّني به". (يتبع ... )

(تابع ... 1): 3 - حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لغير الله به ... ... وقوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي يَئِسُوا أَنْ يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ، وكذا روي عن عطاء ومقاتل وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرِدُ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ بِالتَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ». وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَئِسُوا من مشابهة المسلمين لما تَمَيَّزَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُخَالِفَةِ للشرك وأهله، ولهذا قال تعالى آمراً لعباده الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَصْبِرُوا وَيَثْبُتُوا فِي مُخَالَفَةِ الْكُفَّارِ وَلَا يَخَافُوا أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ، فَقَالَ: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون} أي لا تخافوهم في مخالفتكم إياهم واخشوني أنصركم عليهم وأوؤيدكم وأظفركم بهم، أشف صُدُورَكُمْ مِنْهُمْ، وَأَجْعَلْكُمْ فَوْقَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً} هَذِهِ أَكْبَرُ نعم الله تعالى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ أَكْمَلَ تَعَالَى لَهُمْ دِينَهُمْ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى دِينِ غَيْرِهِ، وَلَا إِلَى نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه، ولهذا جعله الله تعالى خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَعَثَهُ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَلَا حَلَالَ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ وَلَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ، وَلَا دِينَ إِلَّا مَا شَرَعَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْبَرَ بِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ لَا كَذِبَ فِيهِ وَلَا خُلْفَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} أَيْ صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الْأَوَامِرِ والنواهي. فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً} أي فارضوه أنتم لأنفسكم فإنه لدين الذي أحبه الله ورضيه بعث به أفضل الرسل الكرام، أنزل به أشرف كتبه، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وَهُوَ الْإِسْلَامُ أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين أنه قد أَكْمَلَ لَهُمُ الْإِيمَانَ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى زِيَادَةٍ أَبَدًا، وَقَدْ أَتَمَّهُ اللَّهُ فَلَا يَنْقُصُهُ أَبَدًا، وَقَدْ رَضِيَهُ اللَّهُ فَلَا يَسْخَطُهُ أَبَدًا. وَقَالَ السدي: نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام. وقال ابن جرير: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً. لَمَّا نَزَلَتْ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وَذَلِكَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ بَكَى عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُبْكِيكَ»؟ قَالَ أَبْكَانِي أَنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ ديننا، فأما إذا أُكْمِلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ شَيْءٌ إِلَّا نَقُصَ، فَقَالَ: «صَدَقْتَ»، وَيَشْهَدُ

لِهَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثُ الثَّابِتُ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»، وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المؤمنين إنكم تقرأون آيَةً فِي كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ قَوْلُهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأعمل الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشية عرفة في يوم جمعة. ولفظ البخاري قال، قالت اليهود لعمر: إنكم تقرأون آيَةً لَوْ نَزَلَتْ فِينَا لَاتَّخَذَنَاهَا عِيدًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ حِينَ أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أُنْزِلَتْ: يَوْمَ عَرَفَةَ وَأَنَا وَاللَّهِ بِعَرَفَةَ، قَالَ سُفْيَانُ: وَأَشُكُّ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمْ لا {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية، وقال كَعْبٌ: لَوْ أَنَّ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ لَنَظَرُوا الْيَوْمَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ عَلَيْهِمْ فَاتَّخَذُوهُ عِيدًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّ آيَةٍ يَا كَعْبُ؟ فَقَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَلِمْتُ اليوم الذي أنزلت، والمكان الذي أنزلت فيه: في يوم الجمعة وَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَكَلَاهُمَا بِحَمْدِ اللَّهِ لَنَا عِيدٌ. وعن علي قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِمٌ عَشِيَّةَ عرفة {اليوم أَكْمَلْتُ لكم دينكم} (رواه ابن مردويه) وقوله تعالى: {فَمَن اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أَيْ فَمَنِ احْتَاجَ إلى تناول شيء من هذه المحرامات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك، فله تناوله، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لَهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ حَاجَةَ عَبْدِهِ الْمُضْطَرِّ وَافْتِقَارَهُ إِلَى ذَلِكَ فَيَتَجَاوَزُ عنه ويغفر له. وفي المسند عن ابن عمر مرفوعاً قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخْصَتُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» لَفْظُ ابْنِ حِبَّانَ؛ وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: «مَنْ لَمْ يَقْبَلْ رُخْصَةَ اللَّهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلَ جِبَالِ عَرَفَةَ»، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: قَدْ يَكُونُ تَنَاوَلُ الْمَيْتَةِ وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَهُوَ ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها، وقد يكون مندوباً، وقد يَكُونُ مُبَاحًا بِحَسْبِ الْأَحْوَالِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَتَنَاوَلُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يَسُدُّ بِهِ الرَّمَقَ، أَوْ لَهُ أَنْ يَشْبَعَ أَوْ يَشْبَعُ وَيَتَزَوَّدُ؟ عَلَى أَقْوَالٍ؛ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ. وَلَيْسَ مِنْ شِرْطِ جَوَازِ تَنَاوَلِ الْمَيْتَةِ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَا يَجِدُ طَعَامًا، كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعَوَامِّ وَغَيْرِهِمْ، بَلْ مَتَى اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُ. وقد قال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضٍ تُصِيبُنَا بِهَا الْمَخْمَصَةُ فَمَتَى تَحِلُّ لَنَا بِهَا الْمَيْتَةُ؟ فَقَالَ: «إِذَا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا، ولم تحتفئوا بها بقلاً فشأنكم بها»، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «مَا لَمْ تَصْطَبِحُوا» يَعْنِي بِهِ الْغَدَاءَ «وَمَا لَمْ تَغْتَبِقُوا» يَعْنِي بِهِ الْعَشَاءَ «أو تحتفئوا بقلاً فشأنكم بها» فَكُلُواْ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يُرْوَى هَذَا الحرف، يعني قوله «أو تحتفئوا» على أربعة أوجه: تحتفئوا بِالْهَمْزَةِ، وَتَحْتَفِيُوا: بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ، وَتَحْتَفُوا بِتَشْدِيدِ الفاء، وتحتفوا بالحاء والتخفيف ويحتمل الهمز، كذا رواه فِي التَّفْسِيرِ. (حَدِيثٌ آخَرُ): قَالَ أَبُو دَاوُدَ عن النجيع الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا يَحِلُّ لَنَا مِنَ الميتة؟ قال: «ما طعامكم؟» قلنا: نصطبح ونغتبق. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَسَّرَهُ لِي عُقْبَةُ، قَدَحُ غُدْوَةٍ وَقَدَحُ عَشِيَّةٍ، قَالَ: ذَاكَ وَأَبِي الْجُوعُ، وَأُحِلَّ لَهُمُ الْمَيْتَةُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَصْطَبِحُونَ وَيَغْتَبِقُونَ شَيْئًا لَا يَكْفِيهِمْ، فَأَحلَّ لَهُمُ الْمَيْتَةَ لِتَمَامِ كِفَايَتِهِمْ، وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ

يَرَى جَوَازَ الْأَكْلِ مِنْهَا حَتَّى يَبْلُغَ حَدَّ الشِّبَعِ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِسَدِّ الرَّمَقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدِيثٌ آخَرُ): قَالَ أَبُو دَاوُدَ عن جابر عن سمرة: أن رجلاً نزل الحرة ومعه أهل وولده، فقال له رجل: إن ناقتي ضَلَّتْ فَإِنْ وَجَدْتَهَا فَأَمْسِكْهَا، فَوَجَدَهَا وَلَمْ يَجِدْ صاحبها، فمرضت فقالت له امْرَأَتُهُ: انْحَرْهَا، فَأَبَى، فَنَفَقَتْ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أسلخها حتى تقدد شحمها ولحمها فنأكله، قال: لا، حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَكُلُوهَا»، قَالَ: فَجَاءَ صَاحِبُهَا فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: هَلَّا كُنْتَ نَحَرْتَهَا؟ قال: استحييت منك. وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُجَوِّزُ الْأَكْلَ وَالشِّبَعَ وَالتَّزَوُّدُ مِنْهَا مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} أي مُتَعَاطٍ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ ذَلِكَ لَهُ، وَسَكَتَ عَنِ الْآخَرِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ لَا يَتَرَخَّصُ بِشَيْءٍ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ لِأَنَّ الرُّخَصَ لَا تَنَالُ بِالْمَعَاصِي، وَاللَّهُ أعلم.

- 4 - يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا علَّمتم مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا حَرَّمَهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ الْخَبَائِثِ الضَّارَّةِ لِمُتَنَاوِلِهَا، إِمَّا فِي بَدَنِهِ أَوْ فِي دِينِهِ أَوْ فِيهِمَا، وَاسْتَثْنَى مَا اسْتَثْنَاهُ فِي حَالَةِ الضرورة كما قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا ما اضطررتم إليه} قَالَ بَعْدَهَا: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} كما فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ، ويحرم عليهم الخبائث. قال ابن أبي حاتم عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطَّائِيَّيْنِ سَأَلَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ فَمَاذَا يَحِلُّ لَنَا مِنْهَا؟ فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} قال سعيد: يَعْنِي الذَّبَائِحَ الْحَلَالَ الطَّيِّبَةَ لَهُمْ، وَقَالَ مُقَاتِلُ: الطيبات ما أحل لهم من كل يء أن يصيبوه وهو الحلال من الرزق. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} أَيْ أُحِلَّ لَكُمُ الذَّبَائِحُ الَّتِي ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ الرِّزْقِ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما صدتموه بالجوارح وهي: (الكلاب والفهود والصقور وأشباهها)، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ والأئمة، ممن قال ذلك ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}، وَهُنَّ الْكِلَابُ الْمُعَلَّمَةُ وَالْبَازِي وَكُلُّ طَيْرٍ يُعَلَّمُ لِلصَّيْدِ، وَالْجَوَارِحُ يَعْنِي الْكِلَابَ الضَّوَارِي والفهد والصقور وأشباهها. رواه ابن أبي حاتم، وريى عن الحسن أنه قال: البازي والصقر من الجوارح، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَرِهَ صَيْدَ الطير كله، وقرأ قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ}، ثم قال: أَخْبَرْنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَمَّا مَا صَادَ مِنَ الطَّيْرِ البازات وَغَيْرُهَا مِنَ الطَّيْرِ فَمَا أَدْرَكْتَ فَهُوَ لَكَ وَإِلَّا فَلَا تَطْعَمْهُ. قُلْتُ: وَالْمَحْكِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ أن الصيد بالطيور كالصيد بالكلاب لِأَنَّهَا تَكْلَبُ الصَّيْدَ بِمَخَالِبِهَا كَمَا تَكْلُبُهُ الْكِلَابُ فلا فرق، وهو مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. واحتج في ذلك بما رواه عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْدِ البازي فقال: «ما أمسك عليك فكل»، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ الَّتِي يُصْطَادُ بِهِنَّ جَوَارِحَ: مِنَ الْجُرْحِ وَهُوَ الْكَسْبُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ جَرَحَ أَهْلَهُ خَيْرًا أَيْ كَسَبَهُمْ خَيْرًا، وَيَقُولُونَ. فُلَانٌ لَا جَارِحَ لَهُ أَيْ لَا

كاسب له؛ وقال الله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} أَيْ مَا كَسَبْتُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي سَبَبِ نزول هذه الآية الشريفة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، فقلت، فَجَاءَ النَّاسُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فَسَكَتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قال أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} الْآيَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَرْسَلَ الرَّجُلُ كَلْبَهُ وَسَمَّى فَأَمْسَكَ عَلَيْهِ فَلْيَأْكُلْ ما لم يأكل". وقوله تعالى: {ملكبين} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي {عَلَّمْتُمْ} فيكون حالاً من الفاعل، ويحتمل أين يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ وَهُوَ {الْجَوَارِحُ} أَيْ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ فِي حَالِ كَوْنِهِنَّ مكلبات للصيد، وذلك أن تقتنصه بمخالبها أو أظفاهرا، فيستدل بذلك والحالة هذه على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته وبمخالبه وظفره إنه لا يحل له كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَرْسَلَهُ اسْتَرْسَلَ، وَإِذَا أَشْلَاهُ اسْتَشْلَى، وَإِذَا أَخَذَ الصَّيْدَ أُمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يَجِيءَ إِلَيْهِ وَلَا يُمْسِكُهُ لِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا ام الله عَلَيْهِ} فمتى كان الجارح مُعَلَّمًا وَأَمْسَكَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ السم الله عليه وقت إِرْسَالِهِ، حَلَّ الصَّيْدُ وَإِنْ قَتَلَهُ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِمِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رسول اللَّهِ إِنِّي أُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ وَأَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ، فَقَالَ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ» قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَتَلْنَ، مَا لَمْ يُشْرِكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مِنْهَا، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ». قُلْتُ: قُلْتُ لَهُ: فَإِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ الصَّيْدَ فَأُصِيبُ؟ فَقَالَ: «إِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ فَكُلْهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضٍ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْهُ»، وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قُتِلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاتُهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: «فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ»، فَهَذَا دَلِيلٌ لِلْجُمْهُورِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنَ الصَّيْدِ يَحْرُمُ مُطْلَقًا وَلَمْ يَسْتَفْصِلُوا، كَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ، وحكي عن طائفة من السلف أنهم قال لا يحرم مطلقاً. وقوله تَعَالَى: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهِ} أي عند إرساله، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعدي ابن حَاتِمٍ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ»، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْمُخَرَّجِ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَإِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ»، وَلِهَذَا اشْتَرَطَ مَنِ اشترط من الأئمة، كالإمام أحمد رحمه الله فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ إِرْسَالِ الْكَلْبِ وَالرَّمْيِ بِالسَّهْمِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا الْحَدِيثِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ. كَمَا قال السدي وغيره. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} يَقُولُ: إِذَا أَرْسَلْتَ جَارِحَكَ فَقُلْ بِاسْمِ اللَّهِ وَإِنْ نَسِيتَ فَلَا حَرَجَ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الأكل، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَّم رَبِيبَهُ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ: «سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بيمينك وكل مما يليك». وفي صحيح الباخاري عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ بلُحْمَانٍ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ فَقَالَ: «سَمُّوا اللَّهَ أَنْتُمْ وَكُلُوا» (حَدِيثٌ آخر): وقال الإمام أحمد عن عائشة: أن رسول

الله كَانَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ فِي سِتَّةِ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُ لَوْ كان ذكر السم الله لكفاكم، فإذا أكل أحدكم طعاماً فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِاسْمِ اللَّهِ أوله وآخره». (حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا مَعَ النبي عَلَى طَعَامٍ لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رسول الله، فَيَضَعُ يَدَهُ، وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ طَعَامًا فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّمَا تُدْفَعُ، فَذَهَبَتْ تَضَعُ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهَا، وَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ فَذَهَبَ يَضَعُ يَدَهُ فِي الطَّعَامِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ بِيَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ إِذَا لَمْ يُذْكِرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، وَجَاءَ بِهَذَا الْأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بيده إن يده في يدي مع يديهما»، يَعْنِي الشَّيْطَانَ، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ والنسائي. (حَدِيثٌ آخَرُ): رَوَى مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ إِلَّا الترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا دَخَلَ الرجل بيته فذكر اسم اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ ولم يُذْكَرِ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ" لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ (حَدِيثٌ آخَرُ): قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا نَأْكُلُ وَمَا نَشْبَعُ، قَالَ: «فَلَعَلَّكُمْ تَأْكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ، اجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ»، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وابن ماجه.

- 5 - الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا حَرَّمَهُ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْخَبَائِثِ وَمَا أَحَلَّهُ لَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ قَالَ بَعْدَهُ: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}، ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ}، قال ابن عباس: يَعْنِي ذَبَائِحَهُمْ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ العلماء، أن ذبائحهم حلال للمسلمن لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا يَذْكُرُونَ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ إِلَّا اسْمَ اللَّهِ، وَإِنِ اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عبد الله بن مغفل قال: أدلي بجراب من شحم يوم خيبر، فحضنته، وَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ مِنْ هَذَا أَحَدًا وَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتبسم، وفي الصَّحِيحِ أَنَّ أَهْلَ خَيْبَرَ أَهْدَوْا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ مَصْلِيَّةً وَقَدْ سَمُّوا ذِرَاعَهَا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ الذِّرَاعُ، فَتَنَاوَلَهُ فَنَهَشَ مِنْهُ نَهْشَةً، فَأَخْبَرَهُ الذِّرَاعُ أَنَّهُ مَسْمُومٌ فَلَفَظَهُ، وأثر ذلك فِي ثَنَايَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أبْهَرِهِ، وَأَكَلَ مَعَهُ مِنْهَا بِشْرُ بن البراء بن عرور فَمَاتَ، فَقَتَلَ الْيَهُودِيَّةَ الَّتِي سَمَّتْهَا، وَكَانَ اسْمُهَا زينب وقال ابن أبي حاتم، عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ ذكر اسم الله عليه} ثم نسخه الرَّبُّ عزَّ وجلَّ وَرَحِمَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وطعام الذين أوتو الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} فَنَسَخَهَا بِذَلِكَ وَأَحَلَّ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي هَذَا الَّذِي قَالَهُ مَكْحُولٌ رَحِمَهُ اللَّهُ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِبَاحَتِهِ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِبَاحَةُ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ وَقَرَابِينِهِمْ وَهُمْ

مُتَعَبِّدُونَ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يُبِحْ ذَبَائِحَ مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ لِأَنَّهُمْ لم يذكرا اسْمَ اللَّهِ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ، بَلْ وَلَا يَتَوَقَّفُونَ فِيمَا يَأْكُلُونَهُ مِنَ اللَّحْمِ عَلَى ذَكَاةٍ، بَلْ يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَمَنْ شَاكَلَهُمْ من السامرة والصائبة ومن يتمسك بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ وَشِيثَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَنَصَارَى الْعَرَبِ كَبَنِي تَغْلِبَ وتنوخ وبهرا وَجُذَامٍ وَلَخْمٍ وَعَامِلَةَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ، لَا تُؤْكَلُ ذبائحهم عند الجمهور. وقال أبو جعفر بن جرير عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ، قَالَ عَلِيٌّ: لَا تَأْكُلُوا ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَمَسَّكُونَ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَكَذَا قَالَ غير واحد من الخلف والسلف. وقوله تعالى: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} أَيْ وَيَحِلُّ لَكُمْ أَنَّ تُطْعِمُوهُمْ مِنْ ذَبَائِحِكُمْ، وَلَيْسَ هَذَا إِخْبَارًا عَنِ الحكم عندهم، الله إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْأَكْلِ مِنْ كُلِّ طَعَامٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ أَوْ غَيْرِهَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى أَيْ وَلَكُمْ أَنْ تُطْعِمُوهُمْ مِنْ ذَبَائِحِكُمْ كَمَا أَكَلْتُمْ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُكَافَأَةِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُجَازَاةِ، كَمَا أَلْبَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ثوبه لعبد الله بن أُبي بن سَلُولَ حِينَ مَاتَ وَدَفَنَهُ فِيهِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ كَسَا الْعَبَّاسَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ثَوْبَهُ، فَجَازَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ: «لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ» (أخرجه الترمذي وأبو داود عن أبي سعيد) فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} أَيْ وَأَحِلُّ لَكُمْ نِكَاحُ الْحَرَائِرِ الْعَفَائِفِ مِنَ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَذِكْرُ هَذَا توطئة لما بعده وهو قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} فَقِيلَ أَرَادَ بِالْمُحَصَّنَاتِ الْحَرَائِرُ دُونَ الْإِمَاءِ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَإِنَّمَا قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُحْصَنَاتُ الْحَرَائِرُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَا حَكَاهُ عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْحُرَّةِ العفيفة، كما قال فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ههنا، وَهُوَ الْأَشْبَهُ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ فِيهَا أَنْ تَكُونَ ذِمِّيَّةً وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ عَفِيفَةٍ، فَيُفْسِدُ حَالَهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَيَتَحَصَّلُ زَوْجُهَا عَلَى مَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ: «حَشَفًا وَسُوءَ كَيْلَةٍ» وَالظَّاهِرُ مِنَ الآية أن المراد من المحصنات: العفيفات عن الزنا كما قال تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}؛ وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يَرَى التَّزْوِيجَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَيَقُولُ: لَا أَعْلَمَ شِرْكًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ إِنَّ رَبَّهَا عِيسَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حتى يُؤْمِنَّ} الآية. وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} قَالَ: فَحَجَزَ النَّاسُ عَنْهُنَّ حَتَّى نَزَلَتِ الآية الَّتِي بَعْدَهَا: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فنكح الناس نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَزَوَّجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ نِسَاءِ النَّصَارَى وَلَمْ يَرَوْا بِذَلِكَ بأساً أخذاً بهذا الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} إِنْ قِيلَ بِدُخُولِ الْكِتَابِيَّاتِ فِي عُمُومِهَا، وَإِلَّا فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ انفصلوا فِي ذِكْرِهِمْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كقوله تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} وَقَوْلُهُ: {إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أَيْ مُهُورَهُنَّ، أَيْ كَمَا هُنَّ مُحْصَنَاتٌ عَفَائِفُ، فَابْذُلُوا لَهُنَّ الْمُهُورَ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ. وَقَدْ أَفْتَى جَابِرُ بْنُ عبد الله وإبراهيم النخعي وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: بِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا

نَكَحَ امْرَأَةً فَزَنَتْ قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا أَنَّهُ يفرق بينهما، وَتَرُدُّ عَلَيْهِ مَا بَذَلَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ، رواه ابن جرير عنهم. وقوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} فَكَمَا شَرَطَ الْإِحْصَانَ فِي النِّسَاءِ، وَهِيَ الْعِفَّةُ عَنِ الزِّنَا، كَذَلِكَ شَرَطَهَا فِي الرِّجَالِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ أَيْضًا مُحْصَنًا عَفِيفًا، وَلِهَذَا قَالَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، وَهُمُ الزُّنَاةُ الَّذِينَ لَا يَرْتَدِعُونَ عَنْ مَعْصِيَةٍ وَلَا يَرُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَمَّنْ جَاءَهُمْ {وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} أَيْ ذَوِي الْعَشِيقَاتِ الَّذِينَ لا يفعلون إلاّ معهن، وَلِهَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ الْبَغِيِّ حَتَّى تَتُوبَ، وَمَا دَامَتْ كَذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَزْوِيجُهَا مِنْ رَجُلٍ عَفِيفٍ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ عَقْدُ الرَّجُلِ الْفَاجِرِ عَلَى عَفِيفَةٍ حَتَّى يَتُوبَ وَيُقْلِعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الزنا لهذا الآية، وللحديث: «لَا يَنْكِحُ الزَّانِي الْمَجْلُودُ إِلَّا مِثْلَهُ»، وَقَالَ ابن جرير عَنِ الْحَسَنِ قَالَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَقَدْ هَمَمْتُ أن لا أَدَعَ أَحَدًا أَصَابَ فَاحِشَةً فِي الإِسلام أَنْ يَتَزَوَّجَ مُحْصَنَةً، فَقَالَ لَهُ أُبِيُّ بْنُ كَعْبٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ يُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا تَابَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ على هذه المسألة مستقصى عِنْدَ قَوْلِهِ: {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} ولهذا قال تعالى ههنا: {وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.

- 6 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا برؤوسكم وأرجلَكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ قَالَ كَثِيرُونَ من السلف في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} يعني وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ، وَقَالَ آخَرُونَ إِذَا قُمْتُمْ مِنَ النَّوْمِ إِلَى الصَّلَاةِ وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَالْآيَةُ آمِرَةٌ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَكِنْ هُوَ في حق المحدث واجب، وفي حق المتطهر ندب، وكان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَصَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ فَعَلْتَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ، قَالَ: «إِنِّي عمداً فعلته يا عمر» رواه مسلم وأهل السنن. وقال ابن جرير عن الْفَضْلُ بْنُ الْمُبَشِّرِ قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا بَالَ أَوْ أَحْدَثَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِفَضْلِ طَهُورِهِ الخفين، فقلت: يا أبا عبد الله أشيء تَصْنَعُهُ بِرَأْيِكَ؟ قَالَ: بَلْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فَأَنَا أَصْنَعُهُ كَمَا رأيت رسول الله يصنعه، وفي فعل ابن عمر وَمُدَاوَمَتِهِ عَلَى إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. وكان عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَيَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قمتم إلى الصلاة} الآية. وقال ابن جرير عَنْ أَنَسٍ قَالَ: تَوَضَّأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَضَوْءًا فِيهِ تَجَوَّزَ خَفِيفًا فَقَالَ: هَذَا وُضُوءُ من لم

يُحْدِثْ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سيرين: كان الخلفاء يتوضأون لكل صلاة، أما مَشْرُوعِيَّتُهُ اسْتِحْبَابًا فَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى ذَلِكَ، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، قَالَ: قُلْتُ: فَأَنْتُمْ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الصَّلَوَاتِ كلها بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ نُحْدِثْ. وَقَدْ رَوَاهُ البخاري وأهل السنن. وقال ابن جرير عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طهر كتب له عشر حسنات». وقال ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ إِعْلَامًا مِنَ اللَّهِ إِن الْوُضُوءَ لَا يَجِبُ إِلَّا عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا أَحْدَثَ امْتَنَعَ مِنَ الْأَعْمَالِ كلها حتى يتوضأ، وعن عبد الله بن علقمة بن وقاص عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَاقَ الْبَوْلَ نُكَلِّمُهُ فَلَا يُكَلِّمُنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَلَا يَرُدُّ عَلَيْنَا، حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الرُّخْصَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} الآية، وقال أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ فَقُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ فَقَالُوا: أَلَا نَأْتِيكَ بِوَضُوءٍ؟ فَقَالَ: "إِنَّمَا أُمِرْتُ بِالْوُضُوءِ إِذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ لَهَا، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ إِذَا رَأَيْتَ الْأَمِيرَ فَقُمْ، أَيْ لَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وإنما لكل امرىء مَا نَوَى» وَيُسْتَحَبُّ قَبْلَ غَسْلِ الْوَجْهِ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وُضُوئِهِ، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقٍ جَيِّدَةٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ»، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْسِلَ كَفَّيْهِ قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» وَحَدُّ الْوَجْهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا بَيْنَ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالصَّلَعِ وَلَا بِالْغَمَمِ إِلَى مُنْتَهَى اللَّحْيَيْنِ وَالذَّقْنِ طُولًا، وَمِنَ الْأُذُنِ إِلَى الإذن عرضاً، ويستحب للمتوضىء أن يخلل لحيته إذا كانت كثيفة. قال أبو داود عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ يُخَلِّلُ بِهِ لِحْيَتَهُ، وَقَالَ: «هَكَذَا أَمَرَنِي بِهِ ربي عزَّ وجلَّ»، قال البهيقي: وَرُوِّينَا فِي تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ عَنْ عَمَّارٍ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وَرُوِّينَا فِي الرُّخْصَةِ فِي تَرْكِهِ عَنِ ابْنِ عمر والحسن بن علي، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، فَاخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ، هَلْ هُمَا وَاجِبَانِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَوْ مُسْتَحَبَّانِ فِيهِمَا كَمَا هو مذهب الشافعي ومالك، أَوْ يَجِبَانِ فِي الْغَسْلِ دُونَ الْوُضُوءِ، كَمَا هو مذهب أي حَنِيفَةَ، أَوْ يَجِبُ الِاسْتِنْشَاقُ دُونَ الْمَضْمَضَةِ كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، لِمَا ثَبَتَ في الصحيحن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ فليستنشق»، وَفِي رِوَايَةٍ: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي منخريه من الماء ثم لينثر» وَالِانْتِثَارُ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الِاسْتِنْشَاقِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَتَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا، يَعْنِي أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بها يده

الْيُمْنَى، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ رَشَّ عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى حَتَّى غَسْلَهَا، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً من ماء فَغَسَلَ بِهَا رِجْلَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعني يتوضأ. ورواه البخاري. وَقَوْلُهُ: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} أَيْ مَعَ الْمَرَافِقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حوباً كبيراً} ويستحب للمتوضىء أن يشرع في العضد فيغسله مع ذراعيه، لما روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ». وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، سَمِعْتُ خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ». وقوله تعالى: {وأمسحو بِرُؤُوسِكُمْ} اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْبَاءِ هَلْ هِيَ لِلْإِلْصَاقِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَوْ لِلتَّبْعِيضِ؟ وَفِيهِ نَظَرٌ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ وَمِنَ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ قَالَ: هَذَا مُجْمَلٌ فَلْيُرْجَعْ فِي بَيَانِهِ إِلَى السُّنَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَ في الصحيحين عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ - وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: نَعَمْ، فَدَعَا بِوُضُوءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثلاثا، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثم غسل رجليه. وروى أبو داود عن معاوية والمقداد بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ فِي صِفَةِ وَضَوْءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ؛ فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَالَةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ تكيمل مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْبَيَانِ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلى وجوب رُبْعِ الرَّأْسِ وَهُوَ مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ، وَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسم مسح، ولا يَتَقَدَّرُ ذَلِكَ بِحَدٍّ، بَلْ لَوْ مَسَحَ بَعْضَ شعرة من راسه أجزأه، لحديث الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: تَخَلَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَخَلَّفْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَ: هَلْ مَعَكَ مَاءٌ؟ فَأَتَيْتُهُ بِمِطْهَرَةٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ ثُمَّ ذَهَبَ يَحْسِرُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ كُمُّ الْجُبَّةِ، فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ وَأَلْقَى الْجُبَّةَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَعَلَى خُفَّيْهِ. وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وغيره، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ ثَلَاثًا كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ إِنَّمَا يُسْتَحَبُّ مَسْحَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَنْ تابعه لحديث حُمْرَانَ بْنِ أَبَانٍ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ تَوَضَّأَ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ثَلَاثًا فَغَسَلَهُمَا، ثم تمضمض وَاسْتَنْشَقَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا، ثُمَّ الْيُسْرَى ثَلَاثًا مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيْهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين. وفي سنن أبي داود عَنْ عُثْمَانَ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مرة واحدة، وَاحْتَجَّ مَنِ اسْتَحَبَّ تَكْرَارَ مَسْحِ الرَّأْسِ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وقال أبو داود عن حُمْرَانُ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ تَوَضَّأَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ، قَالَ فِيهِ: ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ

رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ هكذا، وقال: «من توضأ هكذا كَفَاهُ» تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ، ثُمَّ قَالَ: وأحاديث عثمان في الصِّحَاحُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَسَحَ الرَّأْسَ مَرَّةً واحدة. وقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} قرىء {وَأَرْجُلَكُمْ} بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} رجعت إلى الغسل وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي وُجُوبِ الْغَسْلِ، كَمَا قاله السلف. ومن ههنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب في الوضوء كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطِ التَّرْتِيبَ، بَلْ لَوْ غَسَلَ قدميه ثم مسح رأسه وغسل يديه ووجهه أَجَزْأَهُ ذَلِكَ؛ لَأَنَّ الْآيَةَ أَمَرَتْ بِغَسْلِ هَذِهِ الأعضاء، والواو لا تدل على الترتيب قال بعضهم: لما ذكر الله تَعَالَى هَذِهِ الصِّفَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، فَقَطَعَ النَّظِيرَ عَنِ النَّظِيرِ، وَأَدْخَلَ الْمَمْسُوحَ بَيْنَ الْمَغْسُولَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِرَادَةِ الترتيب، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى، وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ {وأرجلِكم} بِالْخَفْضِ، فَقَدِ احْتَجَّ بِهَا الشِّيعَةُ فِي قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ مَعْطُوفَةٌ على مسح الرأس. وَإِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِالْخَفْضِ إِمَّا عَلَى الْمُجَاوَرَةِ وَتَنَاسُبِ الْكَلَامِ، كَمَا فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} وهذا ذائع شائع في لغة العرب سائغ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَسْحِ القدمين إذا كان عليهما الخفان، قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ دَالَّةٌ عَلَى مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ. وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْغَسْلُ الْخَفِيفُ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْوَاجِبُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فَرْضًا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي سَنُورِدُهَا، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَسْحَ يُطْلَقُ عَلَى الْغَسْلِ الْخَفِيفِ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ البيهقي عن على ابن أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ حَتَّى حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَخَذَ مِنْهُ حَفْنَةً وَاحِدَةً فَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَرَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فضلته وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم صنع كما صنعت، وقال: «هذا وضوء من يحدث»، رواه البخاري في الصحيح بِبَعْضِ مَعْنَاهُ. وَمَنْ أَوْجَبَ مِنَ الشِّيعَةِ مَسْحَهُمَا كَمَا يَمْسَحُ الْخُفَّ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ، وَكَذَا مَنْ جَوَّزَ مَسْحَهُمَا وَجَوَّزَ غَسْلَهُمَا فَقَدْ أَخْطَأَ أَيْضًا، وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ أَوْجَبَ غَسْلَهُمَا لِلْأَحَادِيثِ وَأَوْجَبَ مَسْحَهُمَا لِلْآيَةِ فَلَمْ يُحَقِّقْ مَذْهَبَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ كَلَامَهُ فِي تَفْسِيرِهِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يَجِبُ دَلْكُ الرِّجْلَيْنِ مِنْ دُونِ سَائِرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لِأَنَّهُمَا يَلِيَانِ الْأَرْضَ وَالطِّينَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَأَوْجَبَ دَلْكَهُمَا لِيَذْهَبَ مَا عَلَيْهِمَا، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الدَّلْكِ بِالْمَسْحِ، فَاعْتَقَدَ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْ كَلَامَهُ أَنَّهُ أَرَادَ وُجُوبَ الْجَمْعِ بَيْنَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَمَسْحِهِمَا فَحَكَاهُ مَنْ حَكَاهُ كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يَسْتَشْكِلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَعْذُورٌ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْمَسْحِ والغسل سواء تقدمه أو تأخر عليه لا لندارجه فِيهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الرَّجُلُ مَا ذَكَرْتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ تَأَمَّلْتُ كَلَامَهُ أَيْضًا فَإِذَا هُوَ يُحَاوِلُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {وَأَرْجُلَكُمْ} خَفْضًا عَلَى الْمَسْحِ وَهُوَ الدَّلْكُ، وَنَصْبًا عَلَى الْغَسْلِ فَأَوْجَبَهُمَا أَخْذًا بِالْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ. (ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَأَنَّهُ لا بد منه) (يتبع ... )

(تابع ... 1): 6 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ... ... قد تقدم في حديث أمير المؤمنين عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسَلَ الرِّجْلَيْنِ فِي وُضُوئِهِ إِمَّا مَرَّةً وَإِمَّا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَاتِهِمْ، وَفِي حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

تَوَضَّأَ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا، وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ: صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ وَيْلٌ للأعقاب من النار»، وفي رواية: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ»، رَوَاهُ البيهقي والحاكم. وقال الإمام أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِجل رجلٍ مثل الدرهم لم يغسله فقال: «ويل للأعقاب من النار». وقال ابن جرير عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أبصر قوماً يصلون وَفِي عَقِبِ أَحَدِهِمْ أَوْ كَعْبِ أَحَدِهِمْ مِثْلُ مَوْضِعِ الدِّرْهَمِ أَوْ مَوْضِعِ الظُّفُرِ لَمْ يَمَسَّهُ الْمَاءُ فَقَالَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ»، قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا رَأَى فِي عَقِبِهِ شَيْئًا لم يصبه الماء أعاد وضوءه. ووجه الدلاة من هذه الأحاديث ظاهر، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضُ الرِّجْلَيْنِ مَسْحُهُمَا أَوْ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِمَا لَمَا تَوَعَّدَ عَلَى تَرْكِهِ، لِأَنَّ الْمَسْحَ لَا يَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ الرِّجْلِ بَلْ يَجْرِي فِيهِ مَا يَجْرِي فِي مسح الخف، وهكذا وجه هذه الدَّلَالَةِ عَلَى الشِّيعَةِ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وقد روى مسلم في صحيحه عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ رَجُلًا تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وضوءك». وقال الإمام أحمد عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرُ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِيدَ الوضوء. ورواه أبو داود وَزَادَ «وَالصَّلَاةَ» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ صَحِيحٌ، والله أعلم. وقال الإمام أحمد، قال أبو أمامة: حدثنا عمرو بن عبس، قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنِ الْوُضُوءِ؟ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَقْرَبُ وُضُوءُهُ ثُمَّ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ وَيَنْتَثِرُ، إِلَّا خَرَّتْ خطايه مِنْ فَمِهِ وَخَيَاشِيمِهِ مَعَ الْمَاءِ حِينَ يَنْتَثِرُ، ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ أَنَامِلِهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا قَدَمَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ مَعَ الْمَاءِ ثُمَّ يَقُومُ فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: يَا عَمْرُو انْظُرْ مَا تَقُولُ، سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُعْطَى هَذَا الرَّجُلُ كُلَّهُ فِي مَقَامِهِ؟ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ لَقَدْ كَبُرَتْ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَاقْتَرَبَ أجلين وَمَا بِي حَاجَةٌ أَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أو ثلاثاً، لقد سمعته سَبْعَ مَرَّاتٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ: ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَأْمُرُ بالغسل، وهكذا روي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: اغْسِلُوا الْقَدَمَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ كما أمرتم، وقد روى أبو داود عَنْ أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى سُبَاطَةَ قَوْمٌ فَبَالَ وَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ وَقَدَمَيْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ شعبة ثم قال: وهذا محمول على أنه تضأ كَذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْدِثٍ، إِذْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ فَرَائِضُ اللَّهِ وَسُنَنُ رَسُولِهِ مُتَنَافِيَةً مُتَعَارِضَةً، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرُ بِعُمُومِ غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ فِي الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ الْقَاطِعِ عُذْرَ مَنِ انْتَهَى إِلَيْهِ وَبَلَغَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ آمِرًا بِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ كَمَا فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ وَكَمَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي حَمْلِ قِرَاءَةِ الْخَفْضِ عَلَيْهَا تَوَهَّمَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِرُخْصَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَكِنْ لَمْ يَصِحَّ إِسْنَادُهُ، ثُمَّ الثَّابِتُ عَنْهُ خِلَافُهُ وَلَيْسَ كما

زَعَمُوهُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ نزول هذه الآية الكريمة وقال الإمام أحمد عن جرير ابن عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: أَنَا أَسْلَمْتُ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، وَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسح بعدما أسلمت؛ وفي الصحيحين عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: بَالَ جَرِيرٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ فَقِيلَ: تَفْعَلُ هَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ. قَالَ الْأَعْمَشُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَكَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْرُوعِيَّةُ المسح على الخفين قولاً منه وفعلاً، وقد خالفت الروافض في ذلك بِلَا مُسْتَنَدٍ بَلْ بِجَهْلٍ وَضَلَالٍ، مَعَ أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَمِيرِ المؤمنين علي ابن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَهُمْ يَسْتَبِيحُونَهَا، وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ مَعَ مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَفْقِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَهُمْ مُخَالِفُونَ لِذَلِكَ كُلِّهِ وَلَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَهَكَذَا خَالَفُوا الْأَئِمَّةَ وَالسَّلَفَ فِي الْكَعْبَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْقَدَمَيْنِ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُمَا فِي ظَهْرِ الْقَدَمِ فَعِنْدَهُمْ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبٌ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْكَعْبَيْنِ هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ. قَالَ الرَّبِيعُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي أَنَّ الْكَعْبَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي الْوُضُوءِ هُمَا النَّاتِئَانِ، وَهُمَا مُجْمَعُ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ هَذَا لَفْظُهُ. قوله تعالى: {وَإِن كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ} كُلُّ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى إِعَادَتِهِ لِئَلَّا يَطُولَ الْكَلَامُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ نُزُولِ آيَةِ التَّيَمُّمِ هناك، ولكن البخاري روى ههنا حديثاً خاصاً بهذه الآية الكريمة، فقال عن عائشة قالت: سَقَطَتْ قِلَادَةٌ لِي بِالْبَيْدَاءِ وَنَحْنُ دَاخِلُونَ الْمَدِينَةَ فَأَنَاخَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزل فثنى رأسه في حجري راقداً، فأقبل أَبُو بَكْرٍ فلَكَزَنِي لَكْزَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: حَبَسْتِ الناس في قلادة، فتمنيت الْمَوْتُ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مني؛ وَقَدْ أَوْجَعَنِي، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَيْقَظَ وَحَضَرَتِ الصُّبْحُ، فَالْتَمَسَ الْمَاءَ فَلَمْ يُوجَدْ، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى آخر الْآيَةُ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيرِ: لَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ لِلنَّاسِ فِيكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بركة لهم (قال السيوطي: دل الحديث على أن الوضوء كان واجباً عليهم قبل نزول الآية، ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء، وبعضهم يرى احتمال نزول أول الآية في فرضية الوضوء، ثم نزل بقيتها بَعْدَ ذلك فِي التيمم والأول أصوب؛ لأن فرض الوضوء كان مع فرض الصلاة بمكة، والآية مدنية) وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} أَيْ فَلِهَذَا سَهَّلَ عَلَيْكُمْ وَيَسَّرَ وَلَمْ يُعَسِّرْ بَلْ أَبَاحَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ الْمَرَضِ وَعِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ تَوْسِعَةً عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةً بِكُمْ، وَجَعَلَهُ فِي حق من شرع له يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ إِلَّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كما تقدم بيانه. وقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أَيْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نِعَمَهُ عَلَيْكُمْ فِيمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ التَّوْسِعَةِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالتَّسْهِيلِ وَالسَّمَاحَةِ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِالْحَثِّ عَلَى الدُّعَاءِ عَقِبَ الْوُضُوءِ بِأَنْ يَجْعَلَ فَاعِلَهُ مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ الدَّاخِلِينَ فِي امْتِثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الْإِبِلِ فَجَاءَتْ نَوْبَتِي فَرَوَّحْتُهَا بِعَشِيٍّ، فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يُحَدِّثُ

النَّاسَ، فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلًا عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» قَالَ، قُلْتُ: مَا أَجُودُ هَذِهِ! فَإِذَا قَائِلٌ بَيْنَ يَدَيَّ يَقُولُ: الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ مِنْهَا، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ جِئْتَ آنِفًا، قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغَ أَوْ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ»، لفظ مسلم. وروي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ بِطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذنوب» رواه مسلم وروى ابن جرير عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ خَرَجَتْ ذُنُوبُهُ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ» وَرَوَى مُسْلِمٌ في صحيحه عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، والصوم جنة، والصبر ضياء، والصدقة برهان، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يغدوا فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» وَفِي صَحِيحِ مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ، وَلَا صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ».

- 7 - وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ - 8 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ - 9 - وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ - 10 - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ - 11 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُذَكِّرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ فِي شَرْعِهِ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ الْعَظِيمَ، وَإِرْسَالِهِ إِلَيْهِمْ هَذَا الرَّسُولَ الْكَرِيمَ، وَمَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ فِي مُبَايَعَتِهِ عَلَى مُتَابَعَتِهِ وَمُنَاصَرَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ، وَالْقِيَامِ بِدِينِهِ، وَإِبْلَاغِهِ عَنْهُ، وَقَبُولِهِ مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إذا قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وَهَذِهِ هِيَ الْبَيْعَةُ الَّتِي كانوا يبايعون عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ إِسْلَامِهِمْ كَمَا قَالُوا: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله. وقال الله تَعَالَى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مؤمنين} وَقِيلَ هَذَا تِذْكَارٌ لِلْيَهُودِ بِمَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَوَاثِيقِ وَالْعُهُودِ فِي مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلم والانقياد لشرعه. وَقِيلَ: هُوَ تِذْكَارٌ بِمَا أَخَذَ تَعَالَى مِنَ الْعَهْدِ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ حِينَ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ صلبه

وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شهدنا} قاله مجاهد وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} تَأْكِيدٌ وَتَحْرِيضٌ عَلَى مُوَاظَبَةِ التَّقْوَى فِي كُلِّ حَالٍ ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يعلم ما يختلج في الضمائر مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْخَوَاطِرِ، فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} وقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ} أَيْ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْحَقِّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا لِأَجْلِ النَّاسِ وَالسُّمْعَةِ، وَكُونُوا {شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ} أَيْ بِالْعَدْلِ لَا بِالْجَوْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: نَحَلَنِي أَبِي نَحْلًا، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي فَقَالَ: «أكلَّ وَلَدِكَ نحلتَ مثله؟» قال: لا، فقال: «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ»، وَقَالَ: «إِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» قَالَ فَرَجَعَ أَبِي فرد تلك الصدقة. وقوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شنآن قوم (المراد بالقوم: اليهود، وقد أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره ابن جرير. وقال السهيلي: المراد غورث بن الحارث الغطفاني، وجد النبي صلى الله عليه وسلم نائماً في بعض غزواته تحت شجرة، والسيف معلق فيها، فاخترط السيف، واستيقظ رسول الله والسيف في يده، فقال له: يا محمد من يمنعك مني؟ قال: «الله تعالى» فقبض الله يده، وقعد إلى الأرض، حتى جاء أصحاب رسول الله وهو عنده، وقيل: إنه عمرو بن جحاش اليهودي، كما ذكره ابن إسحاق، وحكاه عنه السهيلي) على أن لا تَعْدِلُواْ} أَيْ لَا يَحْمِلْنَكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، بَلِ اسْتَعْمِلُوا الْعَدْلَ فِي كُلِّ أَحَدٍ صَدِيقًا كَانَ أَوْ عَدُوًّا، وَلِهَذَا قَالَ: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أَيْ عَدْلُكُمْ أَقْرَبُ إِلَى التَّقْوَى مِنْ تَرْكِهِ، ودلَّ الْفِعْلُ عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لكم} وَقَوْلُهُ: {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي لَيْسَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}، وَكَقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابِيَّاتِ لِعُمَرَ: أَنْتَ أفظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أَيْ وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ أَفْعَالِكُمُ الَّتِي عَمِلْتُمُوهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ} أَيْ لِذُنُوبِهِمْ {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} وَهُوَ الْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ رَحْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، لَا يَنَالُونَهَا بِأَعْمَالِهِمْ بَلْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ وُصُولِ الرَّحْمَةِ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ، وَهُوَ تَعَالَى الَّذِي جَعَلَهَا أَسْبَابًا إِلَى نَيْلِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَعَفْوِهِ وَرِضْوَانِهِ، فَالْكُلُّ مِنْهُ وَلَهُ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وَهَذَا مِنْ عَدْلِهِ تعالى وحكمته وحكمه الذي لا يجوز فِيهِ، بَلْ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الْحَكِيمُ الْقَدِيرُ. وقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ همَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ}، روي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ مَنْزِلًا وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ تَحْتَهَا، وَعَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِلَاحَهُ بِشَجَرَةٍ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَهُ فَسَلَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: من يمنعك مني؟ قال: «الله عزَّ وجلَّ» قَالَ الْأَعْرَابِيُّ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُ»، قال فَشَامَ (فشام السيف: فأدخله في قرابه) الأعرابي السيف،

فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، فأخبرهم هبر الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ جَالِسٌ إِلَى جَنْبِهِ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وقصة هذا الأعرابي وهو (غورث ابن الحارث) ثابتة في الصحيح. وقال ابن عباس: أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ صَنَعُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَصْحَابِهِ طَعَامًا لِيَقْتُلُوهُمْ، فأوحى الله إليه بشأنهم، وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابِهِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَغْدِرُوا بِمُحَمَّدٍ وأصحابه في دار كعب بن الأشرف، وذكر محمد بن إسحاق بن يسار: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ بَنِي النَّضِيرِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يُلْقُوا عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّحَى لَمَّا جَاءَهُمْ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ الْعَامِرِيِّينِ، وَوَكَّلُوا (عَمْرَو بْنَ جحاش) بِذَلِكَ، وَأَمَرُوهُ إِنْ جَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم تحت الجدار أَنْ يُلْقِيَ تِلْكَ الرَّحَى مِنْ فَوْقِهِ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا تمالأوا عَلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ، فَأَنْزَلَ الله في ذلك هذه الآية. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} يَعْنِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ مَا أَهَمَّهُ، وَحَفِظَهُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ وَعَصَمَهُ.

- 12 - وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ - 13 - فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ - 14 - وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ لما أمر تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ بِالْحَقِّ وَالشَّهَادَةِ بِالْعَدْلِ، وَذَكَّرَهُمْ نِعَمَهُ عَلَيْهِمُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ فِيمَا هَدَاهُمْ لَهُ مِنَ الْحَقِّ وَالْهُدَى، شَرْعٌ يُبَيِّنُ لَهُمْ كَيْفَ أَخَذَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ (الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) فَلَمَّا نَقَضُوا عُهُودَهُ وَمَوَاثِيقَهُ أَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ لَعْنًا مِنْهُ لَهُمْ، وَطَرْدًا عَنْ بَابِهِ وَجَنَابِهِ، وَحِجَابًا لِقُلُوبِهِمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَهُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ فَقَالَ تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميقاق بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} يَعْنِي عُرَفَاءَ عَلَى قَبَائِلِهِمْ بِالْمُبَايَعَةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنْ هَذَا كَانَ لَمَّا تَوَجَّهَ مُوسَى عَلَيْهِ السلام لقتال الجبابرة، فأمر بأن يقيم نقباء من كل سبط نقيب، وَهَكَذَا لَمَّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْصَارَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ كَانَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ نَقِيبًا، ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَوْسِ وَهُمْ: أسيد بن الحضير وسعد بن خيثمة وأبو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَتِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ وَهُمْ: أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ، وَالْبَرَاءُ بن معرور، وعبادة بن اصامت، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بن حرام،

والمنذر بن عمر بْنِ خُنَيْسٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي شِعْرٍ لَهُ، كَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا عَرْفَاءَ عَلَى قَوْمِهِمْ لَيْلَتَئِذٍ عَنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ بذلك، وهم الذين ولوا المعاقدة والمبايعة عَنْ قَوْمِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة. قال الإمام أحمد عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ يُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَلْ سَأَلْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمْ يَمْلِكُ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ خَلِيفَةٍ؟ فَقَالَ عبد الله: ما سألني منها أَحَدٌ مُنْذُ قَدِمْتُ الْعِرَاقَ قَبْلَكَ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، وَلَقَدْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اثْنَا عَشَرَ كَعِدَّةِ نُقَبَاءَ بني إسرائيل». وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِيًا مَا وَلِيَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا»، ثُمَّ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بكلمة خفيت عليَّ، فسألت، أي مَاذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: «كلهم من قريش». وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ الْبِشَارَةُ بِوُجُودِ اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً صَالِحًا يُقِيمُ الْحَقَّ وَيَعْدِلُ فِيهِمْ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا تَوَالِيهِمْ وَتَتَابُعُ أَيَّامِهِمْ، بَلْ قد وجد أَرْبَعَةٌ عَلَى نَسَقٍ، وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنْهُمْ (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) بِلَا شَكٍّ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، وَبَعْضُ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَكُونَ وِلَايَتُهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْهُمُ (الْمَهْدِيُّ) الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الواردة بذكره، فذكر أنه يواطىء اسْمُهُ اسْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واسم أَبِيهِ فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا وَقِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامرا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَا وُجُودٌ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ هُوَ مِنْ هَوَسِ الْعُقُولِ السَّخِيفَةِ، وَتَوَهُّمِ الْخَيَالَاتِ الضَّعِيفَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الْأَئِمَّةَ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُ فيهم الرَّوَافِضِ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ. وَفِي التَّوْرَاةِ الْبِشَارَةُ بِإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ اللَّهَ يُقِيمُ مِنْ صُلْبِهِ اثْنَيْ عَشَرَ عَظِيمًا وَهُمْ هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءُ الِاثْنَا عَشَرَ الْمَذْكُورُونَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ. وَبَعْضِ الْجَهَلَةِ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ إِذَا اقْتَرَنَ بِهِمْ بَعْضُ الشِّيعَةِ يُوهِمُونَهُمْ أَنَّهُمُ الْأَئِمَّةُ الِاثْنَا عَشَرَ، فَيَتَشَيَّعُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ جَهْلًا وَسَفَهًا لِقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعِلْمِ مَنْ لَقَّنَهُمْ ذَلِكَ بِالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} أَيْ بِحِفْظِي وَكَلَاءَتِي وَنَصْرِي {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي} أَيْ صدقتموهم فيم يَجِيئُونَكُمْ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أَيْ نَصَرْتُمُوهُمْ ووازرتموهم عَلَى الْحَقِّ {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} وَهُوَ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أَيْ ذُنُوبَكُمْ أَمْحُوهَا وَأَسْتُرُهَا وَلَا أُؤَاخِذُكُمْ بِهَا {وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ أَدْفَعُ عَنْكُمُ الْمَحْذُورَ وَأُحَصِّلُ لَكُمُ الْمَقْصُودَ. وَقَوْلُهُ: {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} أَيْ فَمَنْ خَالَفَ هَذَا الميثاق بعد عقده وتوكيده فقد أخطأ الطريق الواضح وَعَدَلَ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تعالى عما حل بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ عِنْدَ مُخَالَفَتِهِمْ مِيثَاقَهُ وَنَقْضِهِمْ عَهْدَهُ، فَقَالَ: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} أَيْ فَبِسَبَبِ نَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ لَعَنَّاهُمْ أَيْ أَبْعَدْنَاهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَطَرَدْنَاهُمْ عَنِ الْهُدَى {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أَيْ فَلَا يَتَّعِظُونَ بِمَوْعِظَةٍ لِغِلَظِهَا وَقَسَاوَتِهَا، {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَّوَاضِعِهِ} أَيْ فَسَدَتْ فُهُومُهُمْ وَسَاءَ تَصَرُّفُهُمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَتَأَوَّلُوا كِتَابَهُ عَلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَهُ وَحَمَلُوهُ عَلَى غَيْرِ مُرَادِهِ، وَقَالُوا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} أَيْ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ رغبة عنه. وقال الحسن: تركوا عرى دينهم ووظائف الله تعالى الَّتِي لَا يَقْبَلُ الْعَمَلَ إِلَّا بِهَا. وَقَالَ غيره: تركوا

الْعَمَلَ فَصَارُوا إِلَى حَالَةٍ رَدِيئَةٍ فَلَا قُلُوبَ سَلِيمَةٌ وَلَا فِطَرَ مُسْتَقِيمَةٌ وَلَا أَعْمَالَ قَوِيمَةٌ {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ} يَعْنِي مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك. وقال مجاهد: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} وَهَذَا هُوَ عَيْنُ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ «مَا عَامَلْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ» وَبِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تَأْلِيفٌ وَجَمْعٌ عَلَى الْحَقِّ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} يَعْنِي بِهِ الصَّفْحَ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخر} الآية. وقوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} أي ومن الذين ادعوا أنهم نصارى متابعون المسيح ابن مريم عليه السلام وليسو كَذَلِكَ، أَخَذْنَا عَلَيْهِمُ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ عَلَى مُتَابَعَةِ الرسول صلى الله عليه وسلم ومناصرته وموازرته واقتفاء آثاره، وعلى الإيمان بِكُلِّ نَبِيٍّ يُرْسِلُهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَفَعَلُوا كَمَا فَعَلَ الْيَهُودُ: خَالَفُوا الْمَوَاثِيقَ وَنَقَضُوا العهود، ولهذا قال تعالى: {فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أَيْ فَأَلْقَيْنَا بينهم العداوة والبغضاء لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا وَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَكَذَلِكَ طَوَائِفُ النَّصَارَى عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِمْ لَا يَزَالُونَ مُتَبَاغِضِينَ مُتَعَادِينَ يُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَكُلُّ فِرْقَةٍ تُحَرِّمُ الْأُخْرَى وَلَا تَدَعُهَا تَلِجُ مَعْبَدَهَا: فَالْمَلَكِيَّةُ تُكَفِّرُ الْيَعْقُوبِيَّةَ، وَكَذَلِكَ الْآخَرُونَ، وَكَذَلِكَ النُّسْطُورِيَّةُ وَالْأَرْيُوسِيَّةُ، كُلُّ طَائِفَةٍ تُكَفِّرُ الْأُخْرَى فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِلنَّصَارَى عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَمَا نَسَبُوهُ إِلَى الرَّبِّ عزَّ وجلَّ وتقد عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا مِنْ جَعْلِهِمْ لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، تَعَالَى الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ.

- 15 - يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ - 16 - يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ قد أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، أُمِّيِّهِمْ وَكَتَابِيِّهِمْ، وَأَنَّهُ بَعَثَهُ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} أَيْ يُبَيِّنُ مَا بَدَّلُوهُ وَحَرَّفُوهُ وَأَوَّلُوهُ وَافْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ فِيهِ، وَيَسْكُتُ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا غَيَّرُوهُ وَلَا فَائِدَةَ فِي بَيَانِهِ. وَقَدْ رَوَى الحاكم في مستدركه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِالرَّجْمِ فَقَدْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ من حيث لا يحتسب لقوله تعالى: {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} فكان الرجم مما أخفوه (أخرج ابن جرير: أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الرجم، فقال: «أيكم أعلم؟» فاشاروا إلى ابن صوريا، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى والذي رفع الطور والمواثيق، فقال: إنه لما كثر فينا، جلدنا مائة وحلقنا الرؤوس، فحكم عليهم بالرجم، فأنزل الله: {يَا أَهْلَ الكتاب - إلى قوله - صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}) ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ

فَقَالَ: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} أَيْ طُرُقَ النَّجَاةِ وَالسَّلَامَةِ وَمَنَاهِجَ الاستقامة {وَيُخْرِجُهُمْ من لظلمات إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أَيْ يُنْجِيهِمْ مِنَ الْمَهَالِكِ، وَيُوَضِّحُ لَهُمْ أَبْيَنَ المسالك، فيصرف عنهم المحذور، ويحصل لهم أحب الْأُمُورِ، وَيَنْفِي عَنْهُمُ الضَّلَالَةَ وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى أَقْوَمِ حالة.

- 17 - لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 18 - وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وإليه المصير بقول تعالى مخبراً وحاكياً بكفر النصارى في ادعائهم في المسيح بن مَرْيَمَ وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَخَلْقٌ من خلقه أنه هو اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى الْأَشْيَاءِ وَكَوْنِهَا تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} أَيْ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ فَمَنْ ذَا الَّذِي كان يمنعه منه؟ أَوْ مَنْ ذَا الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى صَرْفِهِ عن ذلك؟ ثم قال: {ولله ملك السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} أَيْ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مِلْكُهُ وَخَلْقُهُ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى ما يشاء لا يسأل عما يفعل بقدرته وسلطانه وعدله وعظمته، هذا رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى رَادًّا على اليهود والنصارى في كذبهم وافترائهم: {وقال الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} أَيْ نَحْنُ مُنْتَسِبُونَ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَهُمْ بَنُوهُ وَلَهُ بِهِمْ عِنَايَةٌ وَهُوَ يُحِبُّنَا، وَنَقَلُوا عَنْ كِتَابِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِعَبْدِهِ إِسْرَائِيلَ: أَنْتَ ابْنِي بِكْرِي، فَحَمَلُوا هَذَا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَحَرَّفُوهُ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ عُقَلَائِهِمْ. وَقَالُوا: هَذَا يُطْلَقُ عِنْدَهُمْ عَلَى التَّشْرِيفِ وَالْإِكْرَامِ، كَمَا نَقَلَ النَّصَارَى عَنْ كِتَابِهِمْ أَنْ عِيسَى قَالَ لَهُمْ: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ يَعْنِي رَبِّي وَرَبِّكِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبُنُوَّةِ مَا ادَّعَوْهَا فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا من ذلك مَعَزَّتَهُمْ لَدَيْهِ وَحُظْوَتَهُمْ عِنْدَهُ، وَلِهَذَا قَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} أَيْ لَوْ كنم كَمَا تَدَّعُونَ أَبْنَاءَهُ وَأَحِبَّاءَهُ فَلِمَ أَعَدَّ لَكُمْ نَارَ جَهَنَّمَ عَلَى كُفْرِكُمْ وَكَذِبِكُمْ وَافْتِرَائِكُمْ؟ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ: أَيْنَ تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْحَبِيبَ لَا يُعَذِّبُ حبيبه؟ فلم يرد عليه، فتلا عليه الصُّوفِيُّ هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} وهذا الذي قال حسن.

{بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} أَيْ لَكُمْ أسوة أمثالكم من بني آدم وهو سبحانه الْحَاكِمُ فِي جَمِيعِ عِبَادِهِ {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} أَيْ هُوَ فعَّال لِّمَا يُرِيدُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، {وَللَّهِ ملك السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أَيِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ إِلَيْهِ فَيَحْكُمُ فِي عِبَادِهِ بِمَا يَشَاءُ وَهُوَ العادل الذي لا يجوز. وروى محمد بن إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعمانُ بن آصا، وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو، وَشَاسُ بْنُ عَدِيٍّ فَكَلَّمُوهُ وَكَلَّمَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَحَذَّرَهُمْ نِقْمَتَهُ، فَقَالُوا: مَا تُخَوِّفُنَا يَا مُحَمَّدُ! نَحْنُ وَاللَّهِ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ؛ كَقَوْلِ النَّصَارَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أبناء الله وأحباؤه} (رواه ابن أبي حاتم وابن جرير) الآية.

- 19 - يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ اليهود والنصارى بأنه أرسل إليهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم خَاتَمَ النَّبِيِّينَ الَّذِي لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَلَا رَسُولَ بَلْ هُوَ الْمُعَقِّبُ لِجَمِيعِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ، أَيْ بَعْدَ مُدَّةٍ متطاولة ما بين إرساله وعيسى بن مَرْيَمَ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ هَذِهِ الْفَتْرَةِ كم هي، فقال قتادة: كَانَتْ سِتَّمِائَةِ سَنَةً، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَعَنْ قَتَادَةَ: خَمْسُمِائَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَرْبَعُمِائَةٍ وَبِضْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَذَكَرَ ابْنُ عساكر عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَمِنْ رَفْعِ الْمَسِيحِ إِلَى هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة. والمشهور هو القول الأول وهو أنها ستمائة سنة. وكانت الفترة بين عيسى بن مَرْيَمَ آخَرِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مِنْ بَنِيَ آدَمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أنا أولى الناس بابن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي» وهذا فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ بُعِثَ بعد عيسى نبي يقال له خالد بن سنان، والمقصود إن الله بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ، وَطُمُوسٍ مِنَ السُّبُلِ، وَتَغَيُّرِ الْأَدْيَانِ، وَكَثْرَةِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالنِّيرَانِ وَالصُّلْبَانِ، فَكَانَتِ النِّعْمَةُ بِهِ أَتَمَّ النِّعَمَ، وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَمْرَ عَمَمٍ، فَإِنَّ الْفَسَادَ كَانَ قَدْ عَمَّ جَمِيعَ الْبِلَادِ، وَالطُّغْيَانَ وَالْجَهْلَ قَدْ ظَهَرَ فِي سَائِرِ الْعِبَادِ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِبَقَايَا مِنْ دَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ، مِنْ بَعْضِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ والنصارى والصابئين، كما قال الإمام أحمد: حدث يحيى بن سعيد عن عياض بن حماد المجاشعي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "وَإِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي فِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عِبَادِي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين أتتهم فَأَضَلَّتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ. وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إلاّ بقايا من بني إسرائيل. وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرأه نَائِمًا وَيَقْظَانَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا فَقُلْتُ: يَا رَبِّ إِذَنْ يَثْلَغُوا (أي يشدخوا) رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً، فَقَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ،

واغزهم نغزك، وأنفق عليهم فننفق عليك، وابعث جيشاً نَبْعَثُ خَمْسَةَ أَمْثَالِهِ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ. وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ موفق متصدق، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ بِكُلِّ ذِي قُرْبَى ومسلم، ورجل عفيف فقير ذو عيال. وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا دين له، والذين هم فيكم تبع أو تبعاً - شَكَّ يَحْيَى - لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وذكر البخل أو الكذب، والشنظير: الفاحش". والمقصود من إيراد هذا الحدث قَوْلُهُ: «وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فمقتهم عجمهم وعربهم إِلَّا بَقَايَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ»، وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ الدِّينُ قَدِ التبس على الأرض حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَدَى الْخَلَائِقَ وَأَخْرَجَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الظلمات إلى النور، وتكرهم عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ وَالشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نذر} أي لئلا تحتجوا وتقولوا: مَا جَاءَنَا مِنْ رَسُولٍ يُبَشِّرُ بِالْخَيْرِ وَيُنْذِرُ مِنَ الشَّرِّ، {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ إِنِّي قَادِرٌ عَلَى عِقَابِ مَنْ عَصَانِي وَثَوَابِ من أطاعني.

- 20 - وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ - 21 - يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ - 22 - قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ - 23 - قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ - 24 - قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ - 25 - قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ - 26 - قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ (مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ) عَلَيْهِ السَّلَامُ، فيما ذكر به قومه من نعم الله عليه وآلائه لَدَيْهِمْ فِي جَمْعِهِ لَهُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى طَرِيقَتِهِمُ الْمُسْتَقِيمَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ}، أَيْ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ قَامَ فِيكُمْ نَبِيٌّ مِنْ لدن أبيكم إبراهيم إلى مَنْ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ كَانُوا لَا يَزَالُ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ، وَيُحَذِّرُونَ نِقْمَتَهُ حَتَّى ختموا بعيسى بن مريم عليه السلام، ثم أوحى الله إلى خاتم الأنبياء والرسل عَلَى الْإِطْلَاقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَنْسُوبِ إلى إسماعيل ابن إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ أَشْرَفُ مِنْ كُلِّ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} قال: الخادم والمرأة والبيت وعنه قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَ لَهُ الزَّوْجَةُ وَالْخَادِمُ وَالدَّارُ سُمِّيَ مَلِكًا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وسأله رجل فقال: أسلنا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ. فَقَالَ: إِنَّ لِي خَادِمًا، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَلِ الْمُلْكُ إلاّ مركب وخادم ودار، ورواه ابن جرير. وقال السدي قي قَوْلِهِ {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} قَالَ: يُمْلِكُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ نفسه وماله وأهله، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قوت يومه، فكأنهما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (لفظ الحديث عند الترمذي وابن ماجة عن عبد الله بن محصن: «من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنهما حيزت له الدنيا بحذافيرها». وقوله تعالى: {وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ} يعني عالمي زمانكم، فإنهم كَانُوا أَشْرَفَ النَّاسِ فِي زَمَانِهِمْ مِنَ الْيُونَانِ وَالْقِبْطِ وَسَائِرِ أَصْنَافِ بَنِي آدَمَ كَمَا قَالَ: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين} وقال تعالى أخبارا عن موسى: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فضَّلكم على العالمين} والمقصود أنهم كانوا أفضل أمم زَمَانِهِمْ، وَإِلَّا فَهَذِهِ الْأُمَّةُ أَشْرَفُ مِنْهُمْ، وَأَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَكْمَلُ شَرِيعَةً، وَأَقْوَمُ مِنْهَاجًا، وَأَكْرَمُ نبياً، وأعظم ملوكاً، وَأَغْزَرُ أَرْزَاقًا، وَأَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا، وَأَوْسَعُ مَمْلَكَةً وأدوم عزاً. قال الله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس}. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ الْمُتَوَاتِرَةَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَشَرَفِهَا وَكَرَمِهَا عِنْدَ اللَّهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس}، وَقِيلَ: الْمُرَادُ {وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} يَعْنِي بِذَلِكَ مَا كَانَ تَعَالَى نزله عليهم من المن والسلوى، يظللهم به مِنَ الْغَمَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ تَعَالَى يَخُصُّهُمْ بِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَحْرِيضِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْجِهَادِ، وَالدُّخُولِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي كَانَ بِأَيْدِيهِمْ فِي زمان يَعْقُوبَ، لَمَّا ارْتَحَلَ هُوَ وَبَنُوهُ وَأَهْلُهُ إِلَى بِلَادِ مِصْرَ أَيَّامَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا بِهَا، حَتَّى خَرَجُوا مَعَ مُوسَى، فَوَجَدُوا فِيهَا قَوْمًا مِنَ الْعَمَالِقَةِ الْجَبَّارِينَ قَدِ اسْتَحْوَذُوا عَلَيْهَا وَتَمَلَّكُوهَا، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالدُّخُولِ إِلَيْهَا، وَبِقِتَالِ أَعْدَائِهِمْ، وَبَشَّرَهُمْ بالنصر والظفر عليهم، فنكلوا بالذهاب وعصوا وخالفوا أمره، فعوقبوا فِي التِّيهِ، وَالتَّمَادِي فِي سَيْرِهِمْ حَائِرِينَ لَا يَدْرُونَ كَيْفَ يَتَوَجَّهُونَ فِيهِ إِلَى مَقْصِدٍ مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ موسى أنه قال: {يا قوم ادخلو الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} أي المطهرة. عن ابن عباس قَالَ: هِيَ الطُّورُ وَمَا حَوْلَهُ، وَكَذَا قَالَ مجاهد وغير واحد (المراد بالأرض المقدسة: ببيت المقدس وما حوله، ويقال لها: إيليا، وتفسيرها: بيت الله. ويعني بالجبارين: قوماً كانوا فيها من العماليق وهم بنو عملاق بن لاوذ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أَيِ الَّتِي وَعَدَكُمُوهَا اللَّهُ عَلَى لِسَانِ أَبِيكُمْ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ وِرَاثَةُ مَنْ آمَنَ مِنْكُمْ، {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ} أي تَنْكِلُوا عَنِ الْجِهَادِ {فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ. قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} أَيِ اعْتَذَرُوا بِأَنَّ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّتِي أَمَرْتَنَا بِدُخُولِهَا وَقِتَالِ

أهلها قوماً جبارين ذَوِي خَلْقٍ هَائِلَةٍ وَقُوًى شَدِيدَةٍ، وَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى مُقَاوَمَتِهِمْ وَلَا مُصَاوَلَتِهِمْ، وَلَا يُمْكِنُنَا الدُّخُولُ إِلَيْهَا مَا دَامُوا فِيهَا، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا دَخَلْنَاهَا، وَإِلَّا فَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ. وقوله تعالى: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} أي فلما نكل بنوا إسائيل عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَمُتَابَعَةِ رَسُولِ اللَّهِ مُوسَى حرضهم رجلان، لله عليهما معمة عَظِيمَةٌ وَهُمَا مِمَّنْ يَخَافُ أَمْرَ اللَّهِ وَيَخْشَى عِقَابَهُ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} أَيْ مِمَّنْ لَهُمْ مَهَابَةٌ وَمَوْضِعٌ مِنَ النَّاسِ، وَيُقَالُ إِنَّهُمَا (يُوشَعُ بْنُ نُونٍ) وَ (كالب بن يوفنا) (ضبط في سفر العدد: يفنه: بفتح الياء وضم الفاء، وتشديد النون، وقال السهيلي: إنهما يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليه السلام، والآخر: كوطت بن يوفنا. قال: وأحسبه من سبط يهوذا بن يعقوب. وقال: ويوشع هو الذي حارب الجبارين. واختلف: أكان موسى معه في تلك الغزاة أم لا؟ وفيها حبست عليه الشمس حتى دخل المدينة، وفيها أحرق الذي وجد الغلول عنده في مكان يقال له غور عاجر، عرف باسم الرجل الغال. كما ذكره الطبري)؛ قاله ابن عباس ومجاهد عكرمة وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَقَالَا: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ * وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ وَاتَّبَعْتُمْ أَمْرَهُ وَوَافَقْتُمْ رَسُولَهُ، نَصَرَكُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، وَأَيَّدَكُمْ وَظَفَّرَكُمْ بِهِمْ، ودخلتم البلد التي كتبها الله لكم؛ فلم ينفع ذلك فِيهِمْ شَيْئًا {قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إنَّا ههنا قَاعِدُونَ}، وَهَذَا نُكُولٌ مِنْهُمْ عَنِ الْجِهَادِ وَمُخَالَفَةٌ لِرَسُولِهِمْ، وَتَخَلُّفٌ عَنْ مُقَاتَلَةِ الْأَعْدَاءِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا نَكَلُوا عَلَى الْجِهَادِ، وَعَزَمُوا عَلَى الِانْصِرَافِ والرجوع إلى مصر، سجد موسى وهرون عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قُدَّامَ مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِعْظَامًا لِمَا هَمُّوا بِهِ، وَشَقَّ يُوشَعُ بْنُ نون وكالب بْنُ يُوفِنَا ثِيَابَهُمَا، وَلَامَا قَوْمَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ رَجَمُوهُمَا، وَجَرَى أَمْرٌ عَظِيمٌ وَخَطَرٌ جَلِيلٌ. وَمَا أَحْسَنَ مَا أَجَابَ بِهِ الصَّحَابَةُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ اسْتَشَارَهُمْ فِي قتال النفير فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مَنْ تَكَلَّمَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَشِيرُوا عليَّ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ» وَمَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا لِيَسْتَعْلِمَ مَا عِنْدَ الْأَنْصَارِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا جُمْهُورَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ معاذ: كَأَنَّكَ تُعَرِّضُ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فخضته لخضناه معك، ما تخلَّف مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لصُبرٌ فِي الحرب، صُدق (صبر وصدق بضمتين فيها جمع صبور وصدوق) في اللقاء لعل اللَّهَ أَنْ يُرِيَكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سعد ونشطه ذلك. وممن أَجَابَ يَوْمَئِذٍ (الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو الْكِنْدِيَّ) رَضِيَ الله عنه، كَمَا قَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَقَدْ شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ مَشْهَدًا، لَأَنْ أَكُونَ أَنَا صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بنوا إسرائيل لموسى {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إنا ها هنا قَاعِدُونَ} وَلَكُنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ يَسَارِكَ وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ، فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشرق لذلك وسره ذلك، وهكذا رواه البخاري في المغازي، وَلَفْظُهُ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ الْمِقْدَادُ يَوْمَ بِدْرٍ، يَا رَسُولَ الله

لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لموسى {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إنا ها هنا قَاعِدُونَ} ولكن امْضِ وَنَحْنُ مَعَكَ. فَكَأَنَّهُ سَرَّى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} يَعْنِي لَمَّا نَكَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنِ الْقِتَالِ غَضِبَ عَلَيْهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ دَاعِيًا عَلَيْهِمْ: {رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} أَيْ لَيْسَ أَحَدٌ يُطِيعُنِي مِنْهُمْ فَيَمْتَثِلُ أَمْرَ اللَّهِ وَيُجِيبُ إِلَى مَا دَعَوْتَ إِلَيْهِ إِلَّا أنا وأخي هرون {فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ: اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَافْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: افْرُقِ افْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: يَا رَبِّ فَافْرُقْ بَيْنَهُ وَبَيْنِي * أَشَدَّ مَا فرَّقت بَيْنَ اثْنَيْنِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض} الآية، لَمَّا دَعَا عَلَيْهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ نكلوا عن الجهاد حكم الله بتحريم دخولها عليهم قدر مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَوَقَعُوا فِي التِّيهِ يَسِيرُونَ دَائِمًا لَا يَهْتَدُونَ لِلْخُرُوجِ مِنْهُ. وَفِيهِ كَانَتْ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ وَخَوَارِقُ كَثِيرَةٌ: مِنْ تَظْلِيلِهِمْ بِالْغَمَامِ، وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى عَلَيْهِمْ، وَمِنْ إِخْرَاجِ الْمَاءِ الْجَارِي مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ تُحْمَلُ مَعَهُمْ عَلَى دَابَّةٍ، فَإِذَا ضَرَبَهَا مُوسَى بِعَصَاهُ انْفَجَرَتْ مِنْ ذَلِكَ الْحَجَرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا: تَجْرِي لِكُلِّ شِعْبٍ عَيْنٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَيَّدَ اللَّهُ بِهَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ. وَهُنَاكَ نزلت التوراة، وشرعت لهم الأحكام. عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ {الْآيَةَ. قَالَ: فَتَاهُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً يُصْبِحُونَ كُلَّ يَوْمٍ يَسِيرُونَ لَيْسَ لَهُمْ قَرَارٌ، ثُمَّ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فِي التِّيهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى. وَهَذَا قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثِ الْفُتُونِ. ثُمَّ كَانَتْ وَفَاةُ هرون عليه السلام، ثم بعده بمدة ثلاث سنين وفاة مُوسَى الْكِلِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَقَامَ اللَّهُ فِيهِمْ (يُوشَعَ بْنَ نُونٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيًّا خَلِيفَةً عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَمَاتَ أَكْثَرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُنَاكَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لم يبق منهم أحد سوى يوشع وكالب، فَلَمَّا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ خَرَجَ بِهِمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ بِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ وَبِسَائِرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْجِيلِ الثَّانِي، فَقَصَدَ بِهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَحَاصَرَهَا، فَكَانَ فَتْحُهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ. فَلَمَّا تَضَيَّفَتِ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ وَخَشِيَ دُخُولَ السَّبْتِ عَلَيْهِمْ قَالَ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ؛ فَحَبَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى فَتَحَهَا وَأَمَرَ اللَّهُ (يُوشَعَ بْنَ نُونٍ) أَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ يَدْخُلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَنْ يَدْخُلُوا بَابَهَا سُجَّدًا، وَهُمْ يَقُولُونَ حِطَّةٌ: أَيْ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا، فَبَدَّلُوا ما أمروا به، ودخلوا يزحفون على أستاههم، هم يَقُولُونَ: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض} قال: فتاهوا أربعين سنة، قال: فهلك موسى وهرون فِي التِّيهِ وَكُلُّ مَنْ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا مَضَتِ الْأَرْبَعُونَ سَنَةً نَاهَضَهُمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَ مُوسَى، وهو الذي افْتَتَحَهَا، فَوَجَدَ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ قَطُّ، فَقَرَّبُوهُ إِلَى النَّارِ فَلَمْ تأته، فقال: فيكم الغلول، قدعا رؤوس الْأَسْبَاطِ، وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَبَايَعَهُمْ، وَالْتَصَقَتْ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِيَدِهِ، فَقَالَ: الْغُلُولُ عِنْدَكَ، فأخرجه، فأخرج رأس بقرة من ذهب فوضعه مع القربان

فأتت النار فأكلته. وَهَذَا السِّيَاقُ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ. وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} هُوَ الْعَامِلُ فِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّهُمْ مَكَثُوا لَا يُدْخِلُونَهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهُمْ تَائِهُونَ في البرية لا يهتدون لمقصد، قال: خَرَجُوا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَفَتَحَ بِهِمْ بيت المقدس، ثم احتج على ذلك بإجماع علماء أخبار الأولين أن (عوج ابن عُنُقٍ) قَتَلَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: فَلَوْ كَانَ قَتْلُهُ إِيَّاهُ قَبْلَ التِّيهِ لِمَا رَهِبَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَمَالِيقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ التِّيهِ قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ (بِلْعَامَ بْنَ بَاعُورَا) أَعَانَ الْجَبَّارِينَ بِالدُّعَاءِ عَلَى موسى، قال: وما ذالك إِلَّا بَعْدَ التِّيهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ التِّيهِ لا يخافون من موسى وقومه. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} تَسْلِيَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُمْ، أَيْ لَا تأسف ولا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به فإنهم مستحقون ذلك، وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود بينا فضائحم وَمُخَالَفَتِهِمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَنُكُولِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِمَا فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْجِهَادِ فَضَعُفَتْ أَنْفُسُهُمْ عَنْ مُصَابَرَةِ الْأَعْدَاءِ وَمُجَالَدَتِهِمْ وَمُقَاتَلَتِهِمْ؛ مَعَ أَنَّ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلِيمَهُ وَصَفِيَّهُ مِنْ خَلْقِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم، هذا مع ما شهدوا من فعل اللَّهُ بِعَدُوِّهِمْ فِرْعَوْنَ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْغَرَقِ لَهُ وَلِجُنُودِهِ فِي الْيَمِّ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ لِتَقَرَّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ وَمَا بِالْعَهْدِ مِنْ قَدَمٍ، ثُمَّ يَنْكِلُونَ عَنْ مُقَاتَلَةِ أَهْلِ بَلَدٍ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ لَا تُوَازِي عُشْرَ الْمِعْشَارِ فِي عِدَّةِ أَهْلِهَا وعُدَدِهِمْ فَظَهَرَتْ قَبَائِحُ صَنِيعِهِمْ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَافْتَضَحُوا فَضِيحَةً لَا يُغَطِّيهَا اللَّيْلُ، وَلَا يَسْتُرُهَا الذَّيْلُ، هَذَا وَهُمْ فِي جَهْلِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَفِي غَيِّهِمْ يَتَرَدَّدُونَ، وَهُمُ الْبُغَضَاءُ إِلَى اللَّهِ وَأَعْدَاؤُهُ، وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وأحباؤه، فَقَبَّحَ اللَّهُ وُجُوهَهُمُ الَّتِي مَسَخَ مِنْهَا الْخَنَازِيرَ وَالْقُرُودَ، وَأَلْزَمَهُمْ لَعْنَةً تَصْحَبُهُمْ إِلَى النَّارِ ذَاتِ الوقود، ويقضي لهم فيه بِتَأْبِيدِ الْخُلُودِ، وَقَدْ فَعَلَ، وَلَهُ الْحَمْدُ مِنْ جميع الوجود.

- 27 - وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ - 28 - لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ - 29 - إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ - 30 - فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ - 31 - فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُبَيِّنًا وَخِيمَ عَاقِبَةِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ وَالظُّلْمِ فِي خَبَرِ ابني آدم وهما (قابيل وهابيل)، كَيْفَ عَدَا أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَقَتَلَهُ بَغْيًا عَلَيْهِ وَحَسَدًا لَهُ، فِيمَا وَهَبَهُ اللَّهُ مِنَ النِّعْمَةِ وَتَقَبُّلِ الْقُرْبَانِ الَّذِي أَخْلَصَ فِيهِ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ ففاز المقتول بوضع الآثان وَالدُّخُولِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَخَابَ الْقَاتِلُ وَرَجَعَ بِالصَّفْقَةِ الخاسرة في الدارين، فَقَالَ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بالحق} أي اقصص عَلَى هَؤُلَاءِ الْبُغَاةِ الْحَسَدَةِ إِخْوَانِ الْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ وَأَشْبَاهِهِمْ

خَبَرَ ابْنَيْ آدَمَ وَهُمَا (هَابِيلُ وَقَابِيلُ) فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ. وَقَوْلُهُ: {بِالْحَقِّ} أَيْ عَلَى الْجَلِيَّةِ وَالْأَمْرِ الَّذِي لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا كَذِبَ، وَلَا وَهْمَ وَلَا تبديل، ولا زيادة ولا نقصان؛ كقوله تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق}، وقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق} كان مِنْ خَبَرِهِمَا فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السلف والخلف، إن الله تعالى شَرَعَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُزَوِّجَ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ لِضَرُورَةِ الْحَالِ، وَلَكِنْ قَالُوا: كَانَ يُولَدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنِ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، فَكَانَ يُزَوِّجُ أُنْثَى هَذَا الْبَطْنِ لِذِكْرِ الْبَطْنِ الْآخَرِ، وَكَانَتْ أُخْتُ (هَابِيلَ) دَمِيمَةً وَأُخْتُ (قَابِيلَ) وضيئة، فارد أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهَا عَلَى أَخِيهِ، فَأَبَى آدَمُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا، فَمَنْ تُقُبِّلَ منه فهي له، فَتُقُبِّلَ مِنْ هَابِيلَ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ قَابِيلَ، فكان من أمرهما ما قصّه الله في كتابه. قال السدي عن ابن عباس وعن ابن مسعود: أَنَّهُ كَانَ لَا يُولَدُ لِآدَمَ مَوْلُودٌ إِلَّا ومعه جَارِيَةٌ، فَكَانَ يُزَوِّجُ غُلَامَ هَذَا الْبَطْنِ جَارِيَةَ هَذَا الْبَطْنِ الْآخَرِ، وَيُزَوِّجُ جَارِيَةَ هَذَا الْبَطْنِ غُلَامَ هَذَا الْبَطْنِ الْآخَرِ، حَتَّى وُلِدَ لَهُ ابنان يقال لهما هابيل وقابيل، كان قَابِيلُ صَاحِبَ زَرْعٍ، وَكَانَ هَابِيلُ صَاحِبَ ضَرْعٍ، وَكَانَ قَابِيلُ أَكْبَرَهُمَا، وَكَانَ لَهُ أُخْتٌ أَحْسَنَ مِنْ أُخْتِ هَابِيلَ، وَإِنَّ هَابِيلَ طَلَبَ أَنْ يَنْكِحَ أُخْتَ قَابِيلَ، فَأَبَى عَلَيْهِ، وَقَالَ هِيَ أُخْتِي وُلِدَتْ مَعِي، وَهِيَ أَحْسَنُ مِنْ أُخْتِكَ، وأنا أحق أن أتزوج بها، وَأَنَّهُمَا قَرَّبَا قُرْبَانًا إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ أيهما أحق بالجارية، قرب هابيل جذعة سمينة، وَقَرَّبَ قَابِيلُ حِزْمَةَ سُنْبُلٍ، فَوَجَدَ فِيهَا سُنْبُلَةً عظيمة ففركها وأكلها، فنزلت النار فأكلت قربانا هَابِيلَ، وَتَرَكَتْ قُرْبَانَ قَابِيلَ، فَغَضِبَ، وَقَالَ لِأَقْتُلُنَّكَ حَتَّى لَا تَنْكِحَ أُخْتِي، فَقَالَ هَابِيلُ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ) وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ ابْنَيْ آدَمَ اللَّذَيْنِ قَرَّبَا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الْآخَرِ، كَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَ حَرْثٍ، وَالْآخِرُ صَاحِبَ غَنَمٍ، وَإِنَّهُمَا أُمِرَا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا، وَإِنَّ صَاحِبَ الْغَنَمِ قَرَّبَ أَكْرَمَ غَنَمِهِ وَأَسْمَنَهَا وَأَحْسَنَهَا طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْحَرْثِ قرَّب أشر حرثه الكوزن وَالزَّوَانِ غَيْرَ طَيِّبَةٍ بِهَا نَفْسُهُ وَإِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ تَقَبَّلَ قُرْبَانَ صَاحِبِ الْغَنَمِ، وَلَمْ يَتَقَبَّلْ قُرْبَانَ صَاحِبِ الْحَرْثِ، وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ لَأَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ، وَلَكِنْ مَنْعَهُ التَّحَرُّجُ أَنْ يَبْسُطَ يَدَهُ إِلَى أَخِيهِ. وروى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بالكتاب الأول: أن آدم أمر بانه قابيل أَنْ يَنْكِحَ أُخْتَهُ تَوْأَمَةَ هَابِيلَ، وَأَمَرَ هَابِيلَ أن ينكح أخته توأمة قابيل، فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى ذلك قابيل وكره تكرماً عن هَابِيلَ، وَرَغِبَ بِأُخْتِهِ عَنْ هَابِيلَ، وَقَالَ: نَحْنُ من وِلَادَةُ الْجَنَّةِ، وَهُمَا مِنْ وِلَادَةِ الْأَرْضِ، وَأَنَا أَحَقُّ بِأُخْتِي. وَيَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ الأول: كانت أخت قابيل من أحسن الناس، فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَكَ، فَأَبَى قَابِيلُ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ من قول أبيه، قال لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ قَرِّبْ قُرْبَانًا وَيُقَرِّبْ أَخُوكَ هَابِيلُ قُرْبَانًا فَأَيُّكُمَا تُقُبِّلَ قُرْبَانُهُ فَهُوَ أحق بها، وكان قابيل عَلَى بِذْرِ الْأَرْضِ، وَكَانَ هَابِيلُ عَلَى رِعَايَةِ الماشية، فقرب قابيل قَمْحًا، وَقَرَّبَ هَابِيلُ أَبْكَارًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: قَرَّبَ بَقَرَةً؛ فَأَرْسَلَ اللَّهُ نَارًا بيضاء فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، وَبِذَلِكَ كَانَ يُقْبَلُ الْقُرْبَانُ إِذَا قَبِلَهُ. (رَوَاهُ ابن جرير)، ثُمَّ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الَّذِي قَرَّبَ الشَّاةَ هُوَ هَابِيلُ، وَأَنَّ الَّذِي قَرَّبَ الطَّعَامَ هُوَ قَابِيلُ، وَأَنَّهُ تُقُبِّلَ مِنْ هَابِيلَ شَاتُهُ، حتى

قال ابن عباس وغيره: إنها الْكَبْشُ الَّذِي فُدِيَ بِهِ الذَّبِيحُ وَهُوَ مُنَاسِبٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ قَابِيلَ، كَذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وهو المشهور عن مجاهد أيضاً. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} أَيْ مِمَّنِ اتَّقَى اللَّهَ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ. وفي الحديث عن معاذ بن جبل، قال: يحبس الناس في بقيع واحد ينادي مناد، أي الْمُتَّقُونَ؟ فَيَقُومُونَ فِي كَنَفٍ مِنَ الرَّحْمَنِ لَا يَحْتَجِبُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَا يَسْتَتِرُ، قُلْتُ: مَنِ الْمُتَّقُونَ؟ قَالَ: قَوْمٌ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وأخلصوا العبادة فيمرون إلى الجنة. وقوله تعالى: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} يَقُولُ لَهُ أَخُوهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ الذي تقبل الله قربانه لتقواه، حين توعده أخوه بالقتل عن غَيْرِ مَا ذَنْبٍ مِنْهُ إِلَيْهِ {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} أَيْ لَا أُقَابِلُكَ عَلَى صَنِيعِكَ الْفَاسِدِ بِمِثْلِهِ، فَأَكُونُ أَنَا وَأَنْتَ سَوَاءٌ فِي الْخَطِيئَةِ {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} أَيْ مِنْ أَنْ أَصْنَعَ كَمَا تُرِيدُ أَنَّ تَصْنَعَ بَلْ أَصْبِرُ وَأَحْتَسِبُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَأَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ وَلَكِنْ مَنْعَهُ التَّحَرُّجُ يَعْنِي الْوَرَعُ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» وَقَالَ الإمام أحمد عن بشر بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ، عِنْدَ فِتْنَةِ عُثْمَانَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قالك «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي» قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بيتي فبسط يده إليَّ ليقتلني؟ فقال: «كن كابن آددم»، قَالَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} لَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وقوله تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النار ورذلك جَزَآءُ الظالمين} قال ابن عباس ومجاهد: أَيْ بِإِثْمِ قَتْلِي وَإِثْمِكَ الَّذِي عَلَيْكَ قَبْلَ ذلك، وقال آخرون: يعني بذلك أَنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِخَطِيئَتِي فَتَتَحَمَّلَ وِزْرَهَا وإثمك في قتلك إياي. عَنْ مُجَاهِدٍ {إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} يَقُولُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْكَ خَطِيئَتِي وَدَمِي فَتَبُوءَ بِهِمَا جَمِيعًا. (قُلْتُ): وَقَدْ يَتَوَهَّمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ هَذَا الْقَوْلَ وَيَذْكُرُونَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا لَا أَصْلَ لَهُ «مَا تَرَكَ الْقَاتِلُ عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ ذَنْبٍ» وَقَدْ روى الحافط أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ حَدِيثًا يُشْبِهُ هَذَا وَلَكِنْ ليس به فقال عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَتْلُ الصَّبْرِ لَا يَمُرُّ بِذَنْبٍ إِلَّا مَحَاهُ»، وَهَذَا بِهَذَا لَا يَصِحُّ، وَلَوْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يُكَفِّرُ عَنِ الْمَقْتُولِ بِأَلَمِ الْقَتْلِ ذُنُوبَهُ، فَأَمَّا أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الْقَاتِلِ فَلَا، وَلَكِنْ قَدْ يَتَّفِقُ هَذَا فِي بَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَهُوَ الْغَالِبُ، فَإِنَّ الْمَقْتُولَ يُطَالِبُ الْقَاتِلَ فِي الْعَرَصَاتِ، فَيُؤْخَذُ لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، فَإِنْ نَفِدَتْ وَلَمْ يَسْتَوْفِ حَقَّهُ أَخَذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَقْتُولِ فَطُرِحَتْ عَلَى الْقَاتِلِ، فَرُبَّمَا لَا يَبْقَى عَلَى الْمَقْتُولِ خَطِيئَةٌ إِلَّا وُضِعَتْ عَلَى الْقَاتِلِ. وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَظَالِمِ كُلِّهَا، وَالْقَتْلُ مِنْ أَعْظَمِهَا وأشدها والله أعلم. فإن قيل: كيف أرد هَابِيلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَخِيهِ قَابِيلَ إِثْمُ قتله؟ والجواب أَنَّ هَابِيلَ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا يقاتل أخاه إن قاتله بل عنه يده طَالِبًا إِنْ وَقَعَ قَتْلٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ أخيه لا منه. وَهَذَا الْكَلَامُ مُتَضَمِّنٌ مَوْعِظَةً لَهُ لَوِ اتَّعَظَ وزجراً لَوِ انْزَجَرَ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أَيْ تَتَحَمَّلُ إِثْمِي وَإِثْمَكَ {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ} وقال ابن عباس: خوَّفه بالنار فَلَمْ يَنْتَهِ وَلَمْ يَنْزَجِرْ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أَيْ فَحَسُنَتْ وَسَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ وَشَجَّعَتْهُ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ، وَهَذَا الزَّجْرِ. وَقَدْ تقدم أَنَّهُ قَتَلَهُ بِحَدِيدَةٍ فِي يَدِهِ؛ وَقَالَ السُّدِّيُّ: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} فَطَلَبَهُ لِيَقْتُلَهُ فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال، فأتاه يوماً من الأيام، وهن يَرْعَى غَنَمًا لَهُ، وَهُوَ نَائِمٌ، فَرَفَعَ صَخْرَةً فَشَدَخَ بِهَا رَأْسَهُ فَمَاتَ، فَتَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ قَتَلَهُ خَنْقًا وَعَضًّا كَمَا تَقْتُلُ السِّبَاعُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ جَعَلَ يَلْوِي عُنُقَهُ، فَأَخَذَ إِبْلِيسُ دَابَّةً وَوَضَعَ رَأْسَهَا عَلَى حَجَرٍ ثُمَّ أَخَذَ حَجَرًا آخَرَ فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهَا حَتَّى قَتَلَهَا، وَابْنُ آدَمَ يَنْظُرُ، ففعل بأخيه مثل ذلك. وقال عبد الله ابن وهب: أَخَذَ بِرَأْسِهِ لِيَقْتُلَهُ فَاضْطَجَعَ لَهُ وَجَعَلَ يَغْمِزُ رَأْسَهُ وَعِظَامَهُ وَلَا يَدْرِي كَيْفَ يَقْتُلُهُ، فَجَاءَهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَهُ، قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَخُذْ هَذِهِ الصَّخْرَةَ فَاطْرَحْهَا عَلَى رَأْسِهِ، قَالَ: فَأَخَذَهَا فَأَلْقَاهَا عَلَيْهِ فَشَدَخَ رَأْسَهُ، ثُمَّ جَاءَ إِبْلِيسُ إِلَى حَوَّاءَ مُسْرِعًا، فَقَالَ: يَا حَوَّاءُ إِنَّ قَابِيلَ قَتَلَ هَابِيلَ، فَقَالَتْ لَهُ: ويحك وأي شَيْءٍ يَكُونُ الْقَتْلُ؟ قَالَ: لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يَتَحَرَّكُ، قَالَتْ: ذَلِكَ الْمَوْتُ؟ قَالَ: فَهُوَ الْمَوْتُ، فَجَعَلَتْ تَصِيحُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا آدم وهي تصيح، فقال: مالك؟ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ فَرَجَعَ إِلَيْهَا مَرَّتَيْنِ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ، فَقَالَ: عَلَيْكِ الصَّيْحَةُ وَعَلَى بَنَاتِكِ، وَأَنَا وَبَنِيَّ مِنْهَا بُرَآءُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَوْلُهُ: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وأي خسارة أعظم من هذه. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ سوى أبي داود. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} قال السدي: لَمَّا مَاتَ الْغُلَامُ تَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ وَلَا يَعْلَمُ كَيْفَ يُدْفَنُ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابَيْنِ أَخَوَيْنِ، فَاقْتَتَلَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَحَفَرَ لَهُ، ثُمَّ حَثَى عليه، فلما رآه قَالَ: {يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فأواري سوأة أَخِي}؟ وقال ابن عباس: جَاءَ غُرَابٌ إِلَى غُرَابٍ مَيِّتٍ فَبَحَثَ عَلَيْهِ من التراب حتى وراه، فقال الذي قتل آخاه {يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغراب فأوراي سَوْأَةَ أَخِي}، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَكَثَ يَحْمِلُ أَخَاهُ فِي جِرَابٍ عَلَى عَاتِقِهِ سَنَةً حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ الْغُرَابَيْنِ فَرَآهُمَا يَبْحَثَانِ فَقَالَ: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} فدفن أخاه وزعم أهل التوراة أن قابيل لَمَّا قَتَلَ أَخَاهُ هَابِيلَ قَالَ لَهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: يا قابيل أين أخوك هابيل؟ قَالَ: مَا أَدْرِي مَا كُنْتُ عَلَيْهِ رَقِيبًا، فَقَالَ اللَّهُ: إِنَّ صَوْتَ دَمِ أَخِيكَ لَيُنَادِيَنِي من الأرض الآن، أَنْتَ مَلْعُونٌ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا، فتلقت دَمَ أَخِيكَ مِنْ يَدِكَ، فَإِنْ أَنْتَ عَمِلْتَ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهَا لَا تَعُودُ تُعْطِيكَ حَرْثَهَا، حَتَّى تَكُونَ فَزِعًا تَائِهًا فِي الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَلَاهُ اللَّهُ بِنَدَامَةٍ بَعْدَ خُسْرَانٍ. فَهَذِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذَيْنَ ابْنَا آدَمَ لِصُلْبِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَكَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ فِي قَوْلِهِ: «إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»، وهذا ظاهر جلي. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ ضَرَبَ لَكُمُ ابْنَيْ آدَمَ مَثَلًا فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم» (أخرجه ابن جرير عن الحسن البصري مرفوعاً) وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَابِيلَ عُوجِلَ بِالْعُقُوبَةِ،

كما ذكره مجاهد وابن جبير: أَنَّهُ عُلِّقَتْ سَاقُهُ بِفَخِذِهِ يَوْمَ قَتْلِهِ وَجَعَلَ اللَّهُ وَجْهَهُ إِلَى الشَّمْسِ حَيْثُ دَارَتْ عُقُوبَةً لَهُ وَتَنْكِيلًا بِهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي فِعْلِ قَابِيلَ هَذَا وَهَذَا، فَإِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

- 32 - مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ - 33 - إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ - 34 - إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى مَّنْ أَجْلِ قَتْلِ ابْنِ آدَمَ أَخَاهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا {كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ شَرَعْنَا لَهُمْ وَأَعْلَمْنَاهُمْ {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} أَيْ من قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَاسْتَحَلَّ قَتْلَهَا بِلَا سَبَبٍ وَلَا جِنَايَةَ، فَكَأَنَّمَا قَتْلَ النَّاسَ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ نَفْسٍ وَنَفْسٍ، وَمَنْ أَحْيَاهَا أَيْ حَرَّمَ قَتَلَهَا وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ فَقَدْ سَلِمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَلِهَذَا قال: {فكأنهما أحيا الناس جميعا} وقال الاعمش عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ يَوْمَ الدَّارِ فَقُلْتُ: جِئْتُ لِأَنْصُرَكَ، وَقَدْ طَابَ الضَّرْبُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَيَسُرُّكَ أَنْ تَقْتُلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَإِيَّايَ مَعَهُمْ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ إِنْ قَتَلْتَ رجلاً واحداً فكأنهما قتلت الناس جميعاً، فانصرف مأذوناً لك، فأجوراً غَيْرَ مَأْزُورٍ، قَالَ: فَانْصَرَفْتُ وَلَمْ أُقَاتِلْ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {من قتل نفساً بغير نفس فكأنهما قتل الناس جميعا ومن أحياهال فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} وَإِحْيَاؤُهَا أَلَّا يَقْتُلَ نَفْسًا حَرَّمَهَا اللَّهُ فَذَلِكَ الَّذِي أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، يَعْنِي أَنَّهُ مَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلَّا بحق حيي الناس منه؛ وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَمَنْ أَحْيَاهَا أَيْ كَفَّ عَنْ قَتْلِهَا. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} يَقُولُ: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً حَرَّمَهَا اللَّهُ فَهُوَ مِثْلُ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَنِ اسْتَحَلَّ دَمَ مُسْلِمٍ فَكَأَنَّمَا اسْتَحَلَّ دِمَاءَ النَّاسِ جَمِيعًا، وَمَنْ حَرَّمَ دَمَ مُسْلِمٍ فَكَأَنَّمَا حَرَّمَ دِمَاءَ النَّاسِ جَمِيعًا، هَذَا قول وهو الأظهر، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جميعا وذلك لأن مَنْ قَتَلَ النَّفْسَ فَلَهُ النَّارُ فَهُوَ كَمَا لو قتل الناس كلهم. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ {وَمَنْ أَحْيَاهَا} أَيْ أَنْجَاهَا مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ أَوْ هَلَكَةٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: أَنَّهُ {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} هَذَا تَعْظِيمٌ لِتَعَاطِي الْقَتْلِ. قَالَ قَتَادَةُ عظيم والله وزرها، وعظيم والله أجرها. وقال ابن المبارك عن سليمان الرِّبْعِيِّ قَالَ، قُلْتُ لِلْحَسَنِ: هَذِهِ الْآيَةُ لَنَا يَا أَبَا سَعِيدٍ

كَمَا كَانَتْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ؟ فَقَالَ: إِي وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ كَمَا كَانَتْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا جُعِلَ دِمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْرَمَ عَلَى الله من دمائنا. وقال الإمام أحمد: جَاءَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْنِي عَلَى شَيْءٍ أَعِيشُ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا حَمْزَةُ نَفْسٌ تُحْيِيهَا أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ نَفْسٌ تُمِيتُهَا» قَالَ: بَلْ نَفْسٌ أُحْيِيهَا، قَالَ: «عليك بنفسك»، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات} أي بالحجيج وَالْبَرَاهِينِ وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ {ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} وَهَذَا تَقْرِيعٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ عَلَى ارْتِكَابِهِمُ الْمَحَارِمَ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بها، كما كانت (بنو قريظة) و (النضر) يُقَاتِلُونَ مَعَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ إِذَا وَقَعَتْ بَيْنَهُمُ الْحُرُوبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ إِذَا وَضَعَتِ الْحُرُوبُ أَوْزَارَهَا فَدَوْا مَنْ أَسَرُوهُ وَوَدَوْا مَنْ قَتَلُوهُ، وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ البقرة حيث قول: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تقلتون أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بالإثم والعدوان}. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَآ جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الْأَرْضِ} الْآيَةَ. الْمُحَارِبَةُ هِيَ الْمُضَادَّةُ وَالْمُخَالِفَةُ، وَهِيَ صَادِقَةٌ عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ، وَكَذَا الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ يُطْلَقُ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الشَّرِّ، حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ سَعِيدُ بن المسيب: إن قبض الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ}، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ في المشركين، كما قال ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري قالا: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِلَى - أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ فَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ مَنْ قَبْلَ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَلَيْسَتْ تُحْرِزُ هَذِهِ الْآيَةُ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْحَدِّ إِنْ قَتَلَ أَوْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ أَوْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الَّذِي أَصَابَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، فَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الحد الذي أصابه. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} الآية. قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ فَنَقَضُوا الْعَهْدَ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، فَخَيَّرَ اللَّهُ رَسُولَهُ إِنْ شَاءَ أَنْ يَقْتُلَ وَإِنْ شَاءَ أَنْ تُقْطَعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ رواه ابن جرير. وروي عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْحَرُورِيَّةِ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنِ ارْتَكَبَ هَذِهِ الصِّفَاتِ كما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَاسْتَوْخَمُوا المدينة، وسقمت أجسامهم، فَشَكَوَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ذلك، فَقَالَ: «أَلَّا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِي إِبِلِهِ فَتُصِيبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا» فَقَالُوا: بَلَى فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَصَحُّوا، فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَطَرَدُوا الْإِبِلَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ فَأُدْرِكُوا فَجِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَسُمِّرَتْ أَعْيُنُهُمْ، ثُمَّ نُبِذُوا فِي الشَّمْسِ حَتَّى ماتوا، لفظ مسلم. وَفِي لَفْظٍ: وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ فَجَعَلُوا يَسْتَسْقُونَ فلا يسقون، وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ، قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَهَؤُلَاءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.

وقال حماد بن سلمة عن أنس بن مالك: أنا نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا، فَبَعَثَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم في إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَفَعَلُوا، فَصَحُّوا، فَارْتَدُّوا عَنِ الإِسلام، وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَسَاقُوا الْإِبِلَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارِهِمْ، فَجِيءَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، وَأَلْقَاهُمْ فِي الْحَرَّةِ؛ قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمْ يَكْدُمُ الْأَرْضَ بِفِيهِ عَطَشًا حَتَّى مَاتُوا، وَنَزَلَتْ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (رواه أبو داود والترمذي والنسائي) الآية. وقد رواه ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَا نَدِمْتُ عَلَى حَدِيثٍ سَأَلَنِي عَنْهُ الْحَجَّاجُ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَشَدِّ عُقُوبَةٍ عَاقَبَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَوْمٌ مِنْ عُرَيْنَةَ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَشَكَوَا إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقوا من بطونهم، وقد اصفرت ألوانهم، وضمرت بُطُونُهُمْ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ، فَيَشْرَبُوا مِنْ أبوالها وألبانهما، حَتَّى إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِمْ أَلْوَانُهُمْ وَانْخَمَصَتْ بُطُونُهُمْ، عمدوا إلى الراعي فقتلوه، وساتاقوا الْإِبِلَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ أَلْقَاهُمْ فِي الرَّمْضَاءِ حَتَّى مَاتُوا، فَكَانَ الْحَجَّاجُ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ أَيْدِيَ قَوْمٍ وَأَرْجُلَهُمْ ثُمَّ أَلْقَاهُمْ فِي الرَّمْضَاءِ حتى ماتوا، بحال ذود من الإبل، فكان الحجاج يحتج بهذا الحديث على الناس. وَقَدِ اعْتَنَى الْحَافِظُ الْجَلِيلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ بِتَطْرِيقِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَأَثَابَهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: كان أناس أتوا رسول لله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: نُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَبَايَعُوهُ وَهُمْ كَذَبة وَلَيْسَ الْإِسْلَامُ يُرِيدُونَ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّا نَجْتَوِي الْمَدِينَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذِهِ اللِّقَاحُ تَغْدُو عَلَيْكُمْ وَتَرُوحُ، فَاشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، قَالَ: فبينما هم كذلك إذا جَاءَهُمُ الصَّرِيخُ، فَصَرَخَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُودِيَ فِي النَّاسِ: «أَنْ يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي»، قَالَ: فَرَكِبُوا، لَا يَنْتَظِرُ فَارِسٌ فَارِسًا، قَالَ: وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَثَرِهِمْ، فَلَمْ يَزَالُوا يَطْلُبُونَهُمْ، حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ مَأْمَنَهُمْ، فَرَجَعَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَسَرُوا مِنْهُمْ، فَأَتَوْا بِهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الْآيَةَ، قَالَ: فَكَانَ نَفْيُهُمْ أَنْ نَفَوْهُمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ مَأْمَنَهُمْ وَأَرْضَهُمْ وَنَفَوْهُمْ مِنْ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، وَصَلَبَ، وَقَطَعَ، وَسَمَرَ الْأَعْيُنَ، قَالَ: فَمَا مَثَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، قَالَ: وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ، وقال: «ولا تمثلوا بشيء». وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي حُكْمِ هَؤُلَاءِ الْعُرَنِيِّينَ هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ مُحْكَمٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَزَعَمُوا أَنَّ فِيهَا عتاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُثْلَةِ، وَهَذَا القول فيه نظر. ثم قائله مُطَالِبٌ بِبَيَانِ تَأَخُّرِ النَّاسِخِ الَّذِي ادَّعَاهُ عَنِ المنسوخ، وقا بَعْضُهُمْ: كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ، وفيه نظر، فإن قصته متأخرة. ومنهم من قال: لم يسمر النبي أَعْيُنَهُمْ، وَإِنَّمَا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ فَبَيَّنَ حُكْمَ الْمُحَارِبِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا فِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَمَلَ، وَفِي رِوَايَةٍ سَمَرَ أعينهم. ثُمَّ قَدِ احْتَجَّ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ جُمْهُورُ العلماء في ذهابهم إلى أن حكم الْمُحَارَبَةَ فِي الْأَمْصَارِ وَفِي السُّبْلَانِ عَلَى السَّوَاءِ لِقَوْلِهِ: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} وَهَذَا مَذْهَبُ مالك والشافعي وأحمد بْنِ حَنْبَلٍ، حَتَّى قَالَ مَالِكٌ

فِي الَّذِي يَغْتَالُ الرَّجُلَ فَيَخْدَعُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ بيتاً فيقتله ويأخذ ما معه: إن هذه مُحَارِبَةٌ وَدَمُهُ إِلَى السُّلْطَانِ لَا إِلَى وَلِيِّ المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط الْقَتْلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا تَكُونُ الْمُحَارَبَةُ إِلَّا فِي الطُّرُقَاتِ، فَأَمَّا فِي الْأَمْصَارِ فَلَا، لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ إِذَا اسْتَغَاثَ، بِخِلَافِ الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه. وقوله تعالى: {أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الْأَرْضِ} قال ابن عباس في الآية: من شَهَر السلاح في فئة الْإِسْلَامِ، وَأَخَافُ السَّبِيلَ، ثُمَّ ظُفِرَ بِهِ وَقُدِرَ عَلَيْهِ، فَإِمَامُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ وَإِنْ شَاءَ صُلَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ومجاهد والضحاك، وَمُسْتَنَدُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ ظَاهِرَ (أَوْ) لِلتَّخْيِيرِ كما في نظائر ذلك في القرآن، كقوله في كفارة الفدية: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَكَقَوْلِهِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تطعمون به أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وهذه كُلُّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ، فَكَذَلِكَ فَلْتَكُنْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هَذِهِ الْآيَةُ مُنَزَّلَةٌ عَلَى أَحْوَالٍ، كما قال الشافعي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ: إِذَا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبو، وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا، وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَإِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض. وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. وَاخْتَلَفُوا، هَلْ يُصْلَبُ حَيًّا وَيُتْرَكُ حَتَّى يَمُوتَ بمنعه من الطعام والشراب، أو يقتله برمح أو نحوه، أَوْ يُقْتَلُ أَوَّلًا ثُمَّ يُصْلَبُ، تَنْكِيلًا وَتَشْدِيدًا لغيره من المفسدين؟ فِي ذَلِكَ كُلُّهُ خِلَافٌ مُحَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ، وبالله الثقة، وعليه التكلان. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الْأَرْضِ} قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يُطْلَبَ حَتَّى يُقْدَرَ عَلَيْهِ فَيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوْ يَهْرُبُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عباس، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ أَنْ يُنْفَى مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، أَوْ يُخْرِجُهُ السُّلْطَانُ أَوْ نائبه من معاملته بالكلية. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: يُنْفَى مِنْ جُنْدٍ إِلَى جند سنين ولا يخرج من دار الإسلام، وكذا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِنَّهُ يُنْفَى وَلَا يُخْرَجُ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ ههنا السِّجْنُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَاخْتَارَ ابن جرير: أن المراد بالنفي ههنا أَنْ يُخْرُجَ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ فيسجن فيه. (يتبع ... )

(تابع ... 1): 32 - مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ ... ... وقوه تعالى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ من قتلهم ومن صلبهم وقطع أديهم وَأَرْجُلِهِمْ مِنْ خِلَافٍ وَنَفْيِهِمْ، خزيٌ لَهُمْ بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، مَعَ مَا ادَّخَرَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ يَوْمَ القيامة، وهذا يؤيد قول من قال: أنها نزلت في المشركين، فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ أَلَّا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِي وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا وَلَا يَعْضَهُ بَعْضُنَا بَعْضًا، (يَعْضَهُ: يرمي غيره بالإفك والكذب والبهتان) فمن وفى منكم فَأَجْرُهُ عَلَى الله تعالى، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عنه. وعن عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فِي الدُّنْيَا فَعُوقِبَ بِهِ فَاللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عُقُوبَتَهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَمَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فِي الدُّنْيَا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَفَا عَنْهُ، فَاللَّهُ أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه» (رواه أحمد والترمذي وابن ماجة" وقال ابن جرير

{ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا}: يَعْنِي شَرٌّ وَعَارٌ وَنَكَالٌ وَذِلَّةٌ وَعُقُوبَةٌ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا فبل الْآخِرَةِ {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أَيْ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا مِنْ فِعْلِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى هلكوا فلهم فِي الْآخِرَةِ مَعَ الْجَزَاءِ الَّذِي جَازَيْتُهُمْ بِهِ في الدنيا والعقوبة التي عاقبتهم بها في الدنيا عذاب عظيم يعني عذاب جهنم. وقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أُمَّا على قول من قال: إنها فِي أَهْلِ الشِّرْكِ، فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْمُحَارِبُونَ الْمُسْلِمُونَ فَإِذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُمُ انْحِتَامُ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَقَطْعِ الرِّجْلِ، وَهَلْ يَسْقُطُ قَطْعُ الْيَدِ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي سُقُوطَ الْجَمِيعِ وَعَلَيْهِ عمل الصحابة. وروى ابن جرير عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ مُرَادٍ إِلَى أَبِي مُوسَى، وَهُوَ عَلَى الْكُوفَةِ فِي إِمَارَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَمَا صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ، أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْمُرَادِيُّ، وَإِنِّي كُنْتُ حَارَبْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَسَعَيْتُ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَإِنِّي تُبْتُ مِنْ قَبْلِ أن تقدروا علي، فقال أبو موسى: إِنَّ هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَإِنَّهُ كَانَ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وإنه تاب من قبل أن نقدر عَلَيْهِ، فَمَنْ لَقِيَهُ فَلَا يَعْرِضُ لَهُ إِلَّا بِخَيْرٍ. فَإِنْ يَكُ صَادِقًا فَسَبِيلُ مِنْ صِدْقٍ، وَإِن يَكُ كَاذِباً تُدْرِكْهُ ذُنُوبُهُ، فَأَقَامَ الرَّجُلُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ فَأَدْرَكَهُ الله تعالى بذنوبه فقتله. ثم روى ابن جرير أَنَّ عَلِيًّا الْأَسَدِيَّ حَارَبَ، وَأَخَافَ السَّبِيلَ، وَأَصَابَ الدَّمَ وَالْمَالَ، فَطَلَبَهُ الْأَئِمَّةُ وَالْعَامَّةُ فَامْتَنَعَ، وَلَمْ يقدروا عَلَيْهِ حَتَّى جَاءَ تَائِبًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَعِدْ قِرَاءَتَهَا فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَغَمَدَ سَيْفَهُ، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا، حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ السَّحَرِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ أَتَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ قَعَدَ إِلَى أبي هريرة في أغمار أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَسَفَرُوا عَرَفَهُ النَّاسُ، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: لَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيَّ، جِئْتُ تَائِبًا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيَّ، فَقَالَ أَبُو هريرة: صدق، وأخذ بيده حَتَّى أَتَى مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: هَذَا جَاءَ تَائِبًا وَلَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيْهِ، وَلَا قتل، فَتُرِكَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ: وَخَرَجَ عَلِيٌّ تَائِبًا مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْبَحْرِ، فَلَقُوا الرُّومَ، فَقَرَّبُوا سَفِينَتَهُ إِلَى سَفِينَةٍ مِنْ سُفُنِهِمْ، فَاقْتَحَمَ عَلَى الرُّومِ فِي سَفِينَتِهِمْ، فَهَرَبُوا مِنْهُ إِلَى شِقِّهَا الْآخَرِ، فَمَالَتْ بِهِ وَبِهِمْ، فغرقوا جميعاً.

- 35 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

- 36 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 37 - يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ يقول تعال آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ، وَهِيَ إِذَا قُرِنَتْ بطاعته كان المراد بها الانكفاف من الْمَحَارِمِ وَتَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ، وَقَدْ قَالَ بَعْدَهَا {وَابْتَغُوا إِلَيهِ الوسيلة} قال ابن عباس: أي القربة، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ تَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ وَالْعَمَلِ بما يرضيه، وَالْوَسِيلَةُ هِيَ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، وَالْوَسِيلَةُ أَيْضًا عَلَمٌ عَلَى أَعْلَى مَنْزِلَةٍ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ مَنْزِلَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَارُهُ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ أَقْرَبُ أَمْكِنَةِ الْجَنَّةِ إِلَى الْعَرْشِ، وَقَدْ ثَبَتَ في صحيح البخاري عن جابر

ابن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، إلا حلت له الشفاعة يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (حَدِيثٌ آخَرُ): فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عليه عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عباد الله، وأرجوا أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الوسيلة حلت عليه الشفاعة» (حديث آخر): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَيَّ فَسَلُوا لِي الْوَسِيلَةَ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَسِيلَةُ؟ قَالَ: «أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لا ينالها إلى رجل واحد، وأرجوا أن أكون أنا هو» (رواه أحمد والترمذي) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله لي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهَا لِي عَبْدٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا أَوْ شَفِيعًا يوم القيامة». وقوله تعالى: {وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لَمَّا أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الْمَحَارِمِ وَفِعْلِ الطَّاعَاتِ أَمَرَهُمْ بِقِتَالِ الْأَعْدَاءِ، مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ الْخَارِجِينَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ. والتاركين لِلدِّينِ الْقَوِيمِ، وَرَغَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالَّذِي أَعَدَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنَ الْفَلَاحِ وَالسَّعَادَةِ الْعَظِيمَةِ الْخَالِدَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، الَّتِي لَا تَبِيدُ وَلَا تَحُولُ وَلَا تَزُولُ فِي الْغُرَفِ الْعَالِيَةِ الرَّفِيعَةِ، الْآمِنَةِ الْحَسَنَةِ مَنَاظِرُهَا، الطَّيِّبَةُ مَسَاكِنُهَا، الَّتِي من سكنها ينعم لا ييأس، ويحيى لَا يَمُوتُ لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِمَا أَعَدَّ لِأَعْدَائِهِ الْكُفَّارِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَبِمَثَلِهِ لِيَفْتَدِيَ بِذَلِكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ الَّذِي قَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَتَيَقَّنَ وُصُولَهُ إِلَيْهِ مَا تُقُبِّلَ ذَلِكَ مِنْهُ بَلْ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ وَلَا محيص وَلَا مَنَاصَ وَلِهَذَا قَالَ {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ مُوجِعٌ، {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا} الآية. فلا يزالون يريدوهن الْخُرُوجَ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ شَدَّتِهِ وَأَلِيمِ مَسِّهُ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، كُلَّمَا رفعهم اللهب فصاروا في أعلى جهنم ضربتهم الزبانة بالمقامع الحديد فيردوهم إِلَى أَسْفَلِهَا {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أَيْ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ لَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا، وَلَا مَحِيدَ لَهُمْ عنها، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يؤتى بالرجل من أهل النار، فيقال له يَا ابْنَ آدَمَ كَيْفَ وَجَدْتَ مَضْجَعَكَ؟ فَيَقُولُ شر مضجع، فيقال له تَفْتَدِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ ذَهَبًا؟ قَالَ فَيَقُولُ: نَعَمْ يا رب، فيقول الله تعالى: كَذَبْتَ قَدْ سَأَلَتُكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ تَفْعَلْ فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ والنسائي عن أنَس بن مالك مرفوعاً) وعن جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَخْرُجُ مِن النَّارِ قَوْمٌ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» قَالَ: فَقُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ اللَّهُ {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} قَالَ: اتْلُ أَوَّلَ الْآيَةِ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ} الْآيَةَ، أَلَّا إِنَّهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا (رواه الحافظ ابن مردويه) وعن طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ: كُنْتُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَكْذِيبًا بِالشَّفَاعَةِ، حَتَّى لَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ كُلَّ آيَةٍ أَقْدِرُ عليها يذكر الله فِيهَا خُلُودَ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ: يَا طَلْقُ أتُرَاكَ أَقْرَأَ لِكِتَابِ اللَّهِ وَأَعْلَمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ الله مِنِّي؟ إِنَّ الَّذِينَ قَرَأْتَ هُمْ أَهْلُهَا هُمُ المشركون،

وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَصَابُوا ذُنُوبًا فَعُذِّبُوا ثُمَّ أُخْرِجُوا مِنْهَا ثُمَّ أَهْوَى بِيَدَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ، فَقَالَ: صمَّتا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بَعْدَمَا دَخَلُوا» وَنَحْنُ نَقْرَأُ كَمَا قرأت. رواه ابن مردويه.

- 38 - وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ - 39 - فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ - 40 - أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَقُولُ تَعَالَى حَاكِمًا وآمراً بقطع يد السارق والسارقة، وقد كان القطع معموراً بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقُرِّرَ فِي الْإِسْلَامِ وَزِيدَتْ شُرُوطٌ أُخَرُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا كَانَتِ الْقِسَامَةُ وَالدِّيَةُ وَالْقِرَاضُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَقْرِيرِهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ وَزِيَادَاتٌ هِيَ مِنْ تمام المصارح، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّهُ مَتَّى سَرَقَ السَّارِقُ شَيْئًا قُطِعَتْ يَدُهُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فَلَمْ يَعْتَبِرُوا نِصَابًا وَلَا حِرْزًا، بَلْ أَخَذُوا بمجرد السرقة، وَتَمَسَّكُوا بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ»، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَاعْتَبَرُوا النِّصَابَ فِي السَّرِقَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُمُ الْخِلَافُ فِي قَدْرِهِ، فَذَهَبَ كُلٌّ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إِلَى قَوْلٍ عَلَى حدة، فعند الإمام مالك رَحِمَهُ اللَّهُ النِّصَابُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ خَالِصَةٍ فَمَتَى سَرَقَهَا أَوْ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهَا فَمَا فوقه وَجَبَ الْقَطْعُ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ بِرُبْعِ دِينَارٍ أَوْ مَا يُسَاوِيهِ مِنَ الْأَثْمَانِ أَوِ الْعُرُوضِ فَصَاعِدًا، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا»، وَلِمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» قَالَ أَصْحَابُنَا: فَهَذَا الْحَدِيثُ فَاصِلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَنَصٌّ فِي اعْتِبَارِ رُبْعِ الدِّينَارِ لَا مَا سَاوَاهُ. قَالُوا: وَحَدِيثُ ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَأَنَّهُ كَانَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لَا يُنَافِي هَذَا، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ كَانَ الدِّينَارُ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا فَهِيَ ثَمَنُ رُبْعِ دِينَارٍ، فَأَمْكَنَ الجمع بهذا الطريق. وذهب الإمام أحمد بن حنبل إِلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ رُبْعِ الدِّينَارِ والثلاثة دراهم مرد شرعي، فمن سرقا وَاحِدًا مِنْهُمَا أَوْ مَا يُسَاوِيهِ قُطِعَ، عَمَلًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها، وَوَقَعَ فِي لَفْظٍ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اقْطَعُوا فِي رُبْعِ دِينَارٍ وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ» وَكَانَ ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَفِي لَفْظٍ لِلنَّسَائِيِّ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِيمَا دُونَ ثَمَنِ الْمِجَنِّ» قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَا ثَمَنُ الْمِجَنِّ؟ قَالَتْ: رُبْعُ دِينَارٍ. فَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ عِشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْإِمَامُ أبو حنيفة وزفر وسفيان الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ النصاب به عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ غَيْرِ مَغْشُوشَةٍ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ثَمَنَ الْمِجَنِّ الَّذِي قُطِعَ فِيهِ السَّارِقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ثَمَنُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو بكر بن أبي شيبة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. ثُمَّ قَالَ:

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عن عمرو بن شعبي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي دُونِ ثَمَنِ الْمِجَنِّ» وَكَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قَالُوا: فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَدْ خَالَفَا ابْنَ عُمَرَ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، فَالِاحْتِيَاطُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبَهَاتِ. وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٍ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمُتُهُ وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ يُحْكَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وابن مسعود وإبراهيم النخعي رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا تُقْطَعُ الْخَمْسُ إِلَّا فِي خَمْسٍ أَيْ فِي خَمْسَةِ دَنَانِيرَ أَوْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَيُنْقُلُ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ أَجَابَ الْجُمْهُورُ عَمَّا تَمَسَّكَ بِهِ الظَّاهِرِيَّةُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» بِأَجْوِبَةٍ (أَحَدُهَا): أَنَّهُ منسوخ بحديث عائشة، (وَالثَّانِي): أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِبَيْضَةِ الْحَدِيدِ وَحَبْلِ السُّفُنِ قَالَهُ الْأَعْمَشُ فِيمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ، (والثالث): أن هذه وَسِيلَةٌ إِلَى التَّدَرُّجِ فِي السَّرِقَةِ مِنَ الْقَلِيلِ إِلَى الْكَثِيرِ الَّذِي تُقْطَعُ فِيهِ يَدُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِخْبَارِ عَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، حَيْثُ كَانُوا يَقْطَعُونَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَلَعَنَ السَّارِقَ الَّذِي يَبْذُلُ يَدَهُ الثَّمِينَةَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَهِينَةِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ أَبَا الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيَّ لَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ اشْتُهِرَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْرَدَ إِشْكَالًا عَلَى الْفُقَهَاءِ فِي جَعْلِهِمْ نِصَابَ السَّرِقَةِ رُبْعَ دِينَارٍ وَنَظَمَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا دَلَّ عَلَى جَهْلِهِ، وَقِلَّةِ عَقْلِهِ فَقَالَ: يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ * مَا بِالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارِ؟ تناقض مالنا إِلَّا السُّكُوتُ لَهُ * وَأَنْ نَعُوذَ بِمَوْلَانَا مِنَ النارِ وَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ وَاشْتُهِرَ عَنْهُ تَطَلَّبَهُ الفقهاء فهرب منهم، وقد أجابه اناس فِي ذَلِكَ، فَكَانَ جَوَابُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ المالكي رَّحْمَةِ الله إِنَّ قال: لما كانت أمينة كانت ثمينة، ولما خانت هانت (ويروى أنه أجابه شعراً بقوله: عز الأمانة أغلاها وأرخصها * ذل الخيانة فافهم حكمة الباري) وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا مِنْ تَمَامِ الْحِكْمَةِ والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإن فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ نَاسِبٌ أَنْ تَعْظُمَ قِيمَةُ الْيَدِ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ لِئَلَّا يُجْنَى عَلَيْهَا، وَفِي بَابِ السَّرِقَةِ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الَّذِي تقطع فيه ربع دينار لئلا يسارع النَّاسُ فِي سَرِقَةِ الْأَمْوَالِ، فَهَذَا هُوَ عَيْنُ الحكمة عند ذوي الألباب، ولهذا قال: {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي مجازاة على صنيعها السيء في أخذها أَمْوَالِ النَّاسِ بِأَيْدِيهِمْ فَنَاسَبَ أَنْ يَقْطَعَ مَا اسْتَعَانَا بِهِ فِي ذَلِكَ {نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ} أَيْ تَنْكِيلًا مِنَ اللَّهِ بِهِمَا عَلَى ارْتِكَابِ ذَلِكَ، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} أَيْ فِي انْتِقَامِهِ، {حَكِيمٌ} أَيْ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدْرِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أَيْ مَنْ تَابَ بَعْدَ سَرِقَتِهِ وَأَنَابَ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَأَمَّا أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ بُدَّ مِنْ رَدِّهَا إِلَيْهِمْ أَوْ بَدَلِهَا عِنْدَ الجمهور، وقال أبو حنيفة: فمتى قُطِعَ، وَقَدْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ لَا يرد بدلها. وقد روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ امْرَأَةً سرقت على عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ بِهَا الَّذِينَ سَرَقَتْهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نقديها، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقطعوا

يدها»، قالوا: نحن نفديها بخمسمائة دينار، فقال: «اقطعوا يدها» فَقُطِعَتْ يَدُهَا الْيُمْنَى، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ أَنْتِ الْيَوْمَ مِنْ خَطِيئَتِكِ كَيَوْمِ وَلَدَتْكِ أُمُّكِ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ، وَحَدِيثُهَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تستعير متاعاً على ألسنة جارتها وتجحده فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا. رَوَاهُ الإمام أحمد وأبو داود والنسائي. وَقَدْ وَرَدَ فِي أَحْكَامِ السَّرِقَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السموات وَالْأَرْضِ} أَيْ هُوَ الْمَالِكُ لِجَمِيعِ ذَلِكَ الْحَاكِمُ فِيهِ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْفَعَّالُ لما يريد، {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

- 41 - يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ - 42 - سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أكالون للسحت فإن جاؤوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - 43 - وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَآ أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ - 44 - إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ فِي الْمُسَارِعِينَ فِي الْكُفْرِ، الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، الْمُقَدِّمِينَ آرَاءَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ عَلَى شَرَائِعِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ}، أي أظهروا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ خَرَابٌ خَاوِيَةٌ مِنْهُ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ} أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وأهله وهؤلاء كلهم {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي مستجيبون لَهُ مُنْفَعِلُونَ عَنْهُ، {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أَيْ يَسْتَجِيبُونَ لِأَقْوَامٍ آخَرِينَ لَا يَأْتُونَ مَجْلِسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَتَسَمَّعُونَ الكلام وينهونه إلى قوم آخَرِينَ مِمَّنْ لَا يَحْضُرُ عِنْدَكَ مِنْ أَعْدَائِكَ، {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أَيْ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَيُبَدِّلُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} قِيلَ: نَزَلَتْ في قوم مِنَ الْيَهُودِ قَتَلُوا قَتِيلًا، وَقَالُوا: تَعَالَوْا حَتَّى نتحاكم إلى محمد، فإن حكم بالدية فاقبلوه، وَإِنْ حَكَمَ بِالْقِصَاصِ فَلَا تَسْمَعُوا مِنْهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا، وَكَانُوا قَدْ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ، مِنَ الأمر برجم من أحصن منهم، فحرفوه، وَاصْطَلَحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى الْجَلْدِ مِائَةَ جَلْدَةٍ والتحميم (التحميم: صبغ الوجه بالسواد) وَالْإِرْكَابِ عَلَى حِمَارٍ مَقْلُوبَيْنِ، فَلَمَّا وَقَعَتْ تِلْكَ الكائنة بعد الهجرة قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: تَعَالَوْا حَتَّى نَتَحَاكَمَ إِلَيْهِ، فَإِنْ حَكَمَ بِالْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ، فَخُذُوا عَنْهُ، وَاجْعَلُوهُ حجة بينكم وبين الله، يكون نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ قَدْ حَكَمَ بَيْنَكُمْ بِذَلِكَ، وَإِنْ حَكَمَ بِالرَّجْمِ فَلَا تَتَّبِعُوهُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: إِنَّ الْيَهُودَ جُاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا تَجِدُونَ فِي التوراة في شأن الرجم: فقالو: نَفْضَحُهُمْ ويُجْلَدُونَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فإذا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا، فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِي على المرأة يقيها الحجارة. أخرجاه، وهذا لفظ البخاري، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ زَنَيَا، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَاءَ يَهُودَ فَقَالَ: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى؟» قَالُوا: نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا ونحممها وَنَحْمِلُهُمَا، وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا وَيُطَافُ بِهِمَا قَالَ: {فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} قَالَ فَجَاءُوا بِهَا فَقَرَأُوهَا، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِآيَةِ الرَّجْمِ وَضَعَ الْفَتَى الَّذِي يَقْرَأُ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَقَرَأَ مَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا وَرَاءَهَا. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَهُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرْهُ فَلْيَرْفَعْ يَدَهُ فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا تَحْتَهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُمَا، فَلَقَدْ رأيته يقيها من الحجارة بنفسه. عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيٌّ مُحَمَّمٌ مَجْلُودٌ، فَدَعَاهُمْ، فَقَالَ: «أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟» فَقَالُوا: نَعَمْ، فَدَعَا رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ، فَقَالَ: «أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى! أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟» فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَوْلَا أَنَّكَ نَشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ، نَجِدُ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِنَا: الرَّجْمَ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَقُلْنَا: تَعَالَوْا حَتَّى نَجْعَلَ شَيْئًا نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ فَاجْتَمَعْنَا عَلَى التَّحْمِيمِ وَالْجَلَدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ»، قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إِلَى قوله {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ} أي يَقُولُونَ: ائْتُوا مُحَمَّدًا فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالتَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذورا إِلَى قَوْلِهِ {وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قَالَ فِي الْيَهُودِ، إِلَى قَوْلِهِ {وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قَالَ فِي الْيَهُودِ، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قَالَ: فِي الْكُفَّارِ كُلِّهَا، انْفَرَدَ بإخراجه مسلم دون البخاري. فهذه الأحاديث دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِمُوَافَقَةِ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَلَيْسَ هذا من باب الإكرام لَهُمْ بِمَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ، لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِ الشَّرْعِ الْمُحَمَّدِيِّ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّ هَذَا بِوَحْيٍ خَاصٍّ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ إِلَيْهِ بِذَلِكَ وَسُؤَالُهُ إِيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِيُقْرِرَهُمْ عَلَى مَا بأيديهم مما تواطأوا عَلَى كِتْمَانِهِ وَجَحْدِهِ، وَعَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ

تِلْكَ الدُّهُورَ الطَّوِيلَةَ. فَلَمَّا اعْتَرَفُوا بِهِ مَعَ عَمَلِهِمْ عَلَى خِلَافِهِ، بِأَنَّ زَيْغَهُمْ وَعِنَادَهُمْ وَتَكْذِيبَهُمْ لِمَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ، وَعُدُولِهِمْ إِلَى تَحْكِيمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا كَانَ عَنْ هَوًى مِنْهُمْ وَشَهْوَةٍ لِمُوَافَقَةِ آرَائِهِمْ لَا لِاعْتِقَادِهِمْ صِحَّةَ مَا يَحْكُمُ به، ولهذا قالوا: {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا} أي الجلد وَالتَّحْمِيمَ فَخُذُوهُ أَيِ اقْبَلُوهُ {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} أَيْ مِنْ قَبُولِهِ وَاتِّبَاعِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أَيِ الْبَاطِلُ {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أَيِ الْحَرَامِ وَهُوَ الرِّشْوَةُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، أَيْ وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ كَيْفَ يُطَهِّرُ اللَّهُ قَلْبَهُ وَأَنَّى يَسْتَجِيبُ لَهُ؟ ثم قال لنبيه: {فإن جاؤوك} أَيْ يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْكَ {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً} أي فلا عليك أن لا تَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ بِتَحَاكُمِهِمْ إِلَيْكَ اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغير واحد هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنزل الله}، {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أَيْ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَإِنْ كَانُوا ظَلَمَةً خَارِجِينَ عَنْ طَرِيقِ الْعَدْلِ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِي آرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَمَقَاصِدِهِمُ الزَّائِغَةِ، فِي تَرْكِهِمْ مَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ مِنَ الْكُتَّابِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ، الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالتَّمَسُّكِ بِهِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجُوا عَنْ حُكْمِهِ وَعَدَلُوا إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا يَعْتَقِدُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بُطْلَانَهُ وَعَدَمِ لُزُومِهِ لَهُمْ، فَقَالَ: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَآ أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} ثُمَّ مَدَحَ التَّوْرَاةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَقَالَ: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الذين أسلمو لِلَّذِينَ هَادُواْ} أَيْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ حُكْمِهَا وَلَا يُبَدِّلُونَهَا وَلَا يُحَرِّفُونَهَا، {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} أَيْ وكذلك الربانيون منهم وهم العلماء والعبّاد، وَالْأَحْبَارُ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ} أَيْ بِمَا اسْتُودِعُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يُظْهِرُوهُ وَيَعْمَلُوا بِهِ {وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشوني} أي لا تخافوا منهم وخافوا مني {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فيه قولان سيأت بيانهما. (سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات) قال أبو جعفر بن جرير، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْآيَاتِ التي فِي الْمَائِدَةِ قَوْلُهُ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ - إِلَى الْمُقْسِطِينَ} إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِي الدِّيَةِ في (بني النضير) و (بني قُرَيْظَةَ) وَذَلِكَ أَنَّ قَتْلَى بَنِي النَّضِيرِ كَانَ لَهُمْ شَرَفٌ تُؤْدَى الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَأَنْ قُرَيْظَةَ كانوا يؤدى لهم نِصْفَ الدِّيَةِ، فَتَحَاكَمُوا فِي ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِيهِمْ، فَحَمَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَقِّ فِي ذَلِكَ، فَجَعَلَ الدِّيَةَ فِي ذَلِكَ سَوَاءً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، ثم قال ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، وَكَانَتِ النَّضِيرُ أَشْرَفَ مِنْ قُرَيْظَةَ، فَكَانَ إِذَا قتل القريظي رَجُلًا مِنَ النَّضِيرِ قُتِلَ بِهِ، وَإِذَا قَتَلَ النضيري رجلاً من قريظة ودي بمائة وسق من تَمْرٍ، فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ رَجُلًا من قريظة فقالوا: ادفعوه

إليه فَقَالُوا: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، والحاكم في المستدرك. وَقَدْ رَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ في اليهوديين

اللَّذَيْنِ زَنَيَا، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ اجْتَمَعَ هَذَانِ السَّبَبَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فنزتل هَذِهِ الْآيَاتُ، فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إِلَى آخِرِهَا، وَهَذَا يُقَوِّي أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ قَضِيَّةُ الْقِصَاصِ، والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافرون} قال البراء عازب، وابن عباس، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. زَادَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَهِيَ عَلَيْنَا وَاجِبَةٌ، وَقَالَ عبد الرزاق عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرَضِيَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ {وَمَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافرون} يقول: من لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلْتُ فَتَرَكَهُ عَمْدًا، أَوْ جار وهو يعلم، فهو من الكافرين. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قَالَ: مَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أقر به ولم يحكم به فَهُوَ ظَالِمٌ فَاسِقٌ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، ثُمَّ اخْتَارَ أَنَّ الْآيَةَ الْمُرَادُ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ، أَوْ مَنْ جَحَدَ حُكْمَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَ فِي الكتاب. وقال ابن جرير عَنِ الشَّعْبِيِّ {وَمَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قَالَ: هَذَا فِي الْمُسْلِمِينَ، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قَالَ: هَذَا فِي الْيَهُودِ {وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسقون} قال: هذا في النصارى، وقال الثوري عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق وقال وكيع عن طاووس {وَمَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قَالَ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الملة.

- 45 - وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا وُبِّخَتْ بِهِ الْيَهُودُ وَقُرِّعُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ فِي نَصِّ التَّوْرَاةِ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، وَهُمْ يُخَالِفُونَ حكم ذَلِكَ عَمْدًا وَعِنَادًا، وَيُقَيِّدُونَ النَّضْرِيَّ مِنَ الْقُرَظِيِّ، وَلَا يُقَيِّدُونَ الْقُرَظِيَّ مِنَ النَّضْرِيِّ، بَلْ يَعْدِلُونَ إلى الدية، كما خالفوا حكم التوارة الْمَنْصُوصَ عِنْدَهُمْ فِي رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَعَدَلُوا إِلَى مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ وَالْإِشْهَارِ، وَلِهَذَا قَالَ هُنَاكَ: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} لِأَنَّهُمْ جَحَدُوا حُكْمَ اللَّهِ قَصْدًا مِنْهُمْ وَعِنَادًا وَعَمْدًا، وقال ههنا {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لِأَنَّهُمْ لَمْ يُنْصِفُوا الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخالفوا وظلمو وتعدوا بعضهم على بعض. وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِمَّنْ ذَهَبَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، إِذَا حُكِيَ مُقَرَّرًا وَلَمْ يُنْسَخْ كَمَا هو المشهور عند الجمهور، والحكم عِنْدَنَا عَلَى وَفْقِهَا فِي الْجِنَايَاتِ عِنْدَ جَمِيعِ الأئمة. وقال الحسن البصري: هي عليهم على الناس عامة، وَقَدِ احْتَجَّ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَكَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كَتَبَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:

«المسلمون تتكافأ دماؤهم» (هذا بعض حديث رواه أبو داود وابن ماجة عن ابن عمرو) وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَتَلَ الْمَرْأَةَ لَا يُقْتَلُ بِهَا إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ وَلِيُّهَا إِلَى أَوْلِيَائِهِ نِصْفَ الدِّيَةِ، لِأَنَّ دِيَتَهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَإِلَيْهِ ذهب أحمد في رواية واحتج أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ الذِّمِّيِّ، وَعَلَى قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَقَدْ خَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فيهما. ففي الصحيحين قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يقتل مسلم بكافر»، وأما العبد ففيه عن السلف آثَارٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُقِيدُونَ الْعَبْدَ مِنَ الْحَرِّ، وَلَا يَقْتُلُونَ حَرًّا بِعَبْدٍ، وَجَاءَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ لَا تَصِحُّ، وَحَكَى الشَّافِعِيُّ بالإجماع عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ إِلَّا بدليل مخصص إلى الآية الكريمة. ويؤيد الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ الرَّبِيعَ عَمَّةَ أَنَسٍ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا إِلَى الْقَوْمِ العفو، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «الْقِصَاصُ»، فَقَالَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَكْسِرُ ثَنِيَّةَ فُلَانَةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» قَالَ، فَقَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تَكْسِرُ ثَنِيَّةَ فُلَانَةَ، قَالَ: فَرَضِيَ الْقَوْمُ، فَعَفَوْا، وَتَرَكُوا الْقِصَاصَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أن مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لأبره» أخرجاه في الصحيحين. وروى أبو داود عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ غُلَامًا لِأُنَاسٍ فُقَرَاءَ قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ لِأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَى أَهْلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أُنَاسٌ فُقَرَاءُ فَلَمْ يجعل عليه شيئاً. وهو حَدِيثٌ مُشْكِلٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنِ الْجَانِيَ كَانَ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّهُ تَحَمَّلَ أَرْشَ مَا نَقَصَ مِنْ غُلَامِ الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الْفُقَرَاءِ أَوِ اسْتَعْفَاهُمْ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ تعالى: {والجروح قِصَاصٌ} قال ابن عباس: تُقْتَلُ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَتُفْقَأُ الْعَيْنُ بِالْعَيْنِ، وَيُقْطَعُ الْأَنْفُ بِالْأَنْفِ، وَتُنْزَعُ السِّنُّ بِالسِّنِّ، وَتُقْتَصُّ الْجِرَاحُ بالجراح، فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينه رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ إِذَا كَانَ عَمْدًا فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَبِيدُ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِذَا كَانَ عَمْدًا فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. (قَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ) الْجِرَاحُ تَارَةً تَكُونُ فِي مَفْصِلٍ، فَيَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ بِالْإِجْمَاعِ كَقَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْكَفِّ وَالْقَدَمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْجِرَاحُ فِي مَفْصِلٍ بَلْ فِي عَظْمٍ، فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ الْقِصَاصُ إِلَّا فِي الْفَخِذِ وَشَبَهِهَا لِأَنَّهُ مُخَوِّفٌ خَطِرٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِظَامِ إِلَّا فِي السِّنِّ، وَقَالَ الشافعي: لا يجب القاص فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِظَامِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عن عمر بن الخطاب وابن عباس، وهو المشهور من مذهب أَحْمَدَ وَقَدِ احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِحَدِيثِ (الرَّبِيعِ بِنْتِ النَّضْرِ) عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ إِلَّا فِي السِّنِّ. وَحَدِيثُ الرَّبِيعِ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ وَرَدَ بِلَفْظِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ سَقَطَتْ مِنْ غَيْرِ كَسْرٍ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَتَمَّمُوا الدَّلَالَةَ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ ماجه عن (جَارِيَةَ بْنِ ظَفَرٍ الْحَنَفِيِّ) أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ رَجُلًا عَلَى سَاعِدِهِ بِالسَّيْفِ مِنْ غَيْرِ الْمَفْصِلِ، فَقَطَعَهَا، فَاسْتَعْدَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ، فَقَالَ:

يَا رَسُولَ اللَّهِ أُرِيدُ الْقِصَاصَ فَقَالَ: خُذِ الدِّيَةَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا. وَلَمْ يَقْضِ بالقصاص، ثُمَّ قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنَ الْجِرَاحَةِ حَتَّى تَنْدَمِلَ جِرَاحُهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَإِنِ اقتص منه قبل الاندمال ثم عاد جُرْحُهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جِدِّهِ: أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أقدني، فقال: «حتى تبرأ»، ثم جاء إليه، فقال: أقدني فأقاده، فقال: يا رسول الله عرجت، فَقَالَ: «قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِي فَأَبْعَدَكَ اللَّهُ وَبَطَلَ عَرَجُكَ» ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. (مَسْأَلَةٌ): فَلَوِ اقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ الْجَانِي فَمَاتَ مِنَ الْقِصَاصِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وأحمد ابن حَنْبَلٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مال المقتص. وقال عطاء: تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُقْتَصِّ لَهُ. وَقَالَ ابن مسعود والنخعي: يَسْقُطُ عَنِ الْمُقْتَصِّ لَهُ قَدْرُ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ، ويجب الباقي في ماله. وقوله تعالى: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} قَالَ ابن عباس: أي فَمَنْ عَفَا عَنْهُ وَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ للمطلوب وأجر للطالب. وقال سفيان الثوري: فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فهو كفارة التجارح، وأجر المجروح على الله عزَّ وجلَّ (الوجه الثاني): قال ابن أبي حاتم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} قال: للمجروح. وقال ابن مسعود: يَهْدِمُ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِ مَا تَصَدَّقَ به. وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي السَّفَرِ قَالَ: كَسَرَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ سِنَّ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ معاوية فقال مُعَاوِيَةُ: إِنَّا سَنُرْضِيهِ فَأَلَحَّ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: شَأْنُكَ بِصَاحِبِكَ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ جَالِسٌ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ من جَسَدِهِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ درجة وحط به عنه خطيئة، فقال الأنصاري: فإني قد عفوت، وهكذا رواه الترمذي. وعن عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُجْرَحُ مِنْ جَسَدِهِ جِرَاحَةً فَيَتَصَدَّقُ بِهَا إلى كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ»، رواه النسائي. وَقَوْلُهُ: {وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظالمون}، قد تقدم عن طاووس وَعَطَاءٍ أَنَّهُمَا قَالَا: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ.

- 46 - وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ - 47 - وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {وَقَفَّيْنَا} أَيْ أَتْبَعْنَا عَلَى آثَارِهِمْ يَعْنِي أَنْبِيَاءَ بني إسرائيل {بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} أَيْ مُؤْمِنًا بِهَا حَاكِمًا بِمَا فِيهَا، {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} أَيْ هُدًى إِلَى الْحَقِّ وَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي إِزَالَةِ الشُّبَهَاتِ وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} أَيْ مُتَّبِعًا لَهَا غَيْرَ مُخَالِفٍ لِمَا فِيهَا إِلَّا فِي الْقَلِيلِ مِمَّا بَيَّنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْضَ مَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عليكم}، وَلِهَذَا كَانَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة

وقوله تعالى: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} أَيْ وَجَعَلْنَا الْإِنْجِيلَ هُدًى يهتدى به، وموعظة أي زاجراً عَنِ ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ لِّلْمُتَّقِينَ، أَيْ لِمَنِ اتقى الله وخاف وعيده وعقابه. قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} قرىء {وليَحكُم} أهل الإنجيل بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَامُ كَيْ أَيْ وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل ملته به في زمانهم، وقرىء {وليحكم} بالجزم على أن اللَّامُ لَامُ الْأَمْرِ، أَيْ لِيُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ مَا فيه وليقيموا ما أمروا به فيه وبما فيه البشارة ببعثة محمد وَالْأَمْرُ بِاتِّبَاعِهِ وَتَصْدِيقِهِ إِذَا وُجِدَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن ربكم} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ في التوراة} إلى قوله: {المفلحون} ولهذا قال ههنا: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أَيِ الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ، الماثلون إلى الباطل، والتاركون لِلْحَقِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ في النصارى وهو ظاهر من السياق.

- 48 - وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم بِمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ ليبلوكم فيما آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ - 49 - وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ - 50 - أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ لَمَّا ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه ومدحها وأثنى عليها وأمر باتبعاها حَيْثُ كَانَتْ سَائِغَةَ الِاتِّبَاعِ، وَذَكَرَ الْإِنْجِيلَ وَمَدَحَهَ وَأَمَرَ أَهْلَهَ بِإِقَامَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَا فِيهِ كَمَا تقدم بيانه، شرع فِي ذِكْرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى عبده ورسوله الكريم، فقال تعالى: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أَيْ بِالصِّدْقِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} أَيْ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ ذِكْرَهُ وَمَدْحَهُ، وَأَنَّهُ سَيَنْزِلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ نُزُولُهُ كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ مِمَّا زَادَهَا صِدْقًا عِنْدَ حَامِلَيْهَا مِنْ ذَوِي الْبَصَائِرِ، الَّذِينَ انْقَادُوا لِأَمْرِ اللَّهِ وَاتَّبَعُوا شَرَائِعَ اللَّهِ، وَصَدَّقُوا رُسُلَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لمفعولاً} أَيْ إِنْ كَانَ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ عَلَى ألسنة رسله المتقدمة مِنْ مَجِيءِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَفْعُولًا أَيْ لكائناً لا محالة وَلاَ بد. وقوله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} قال ابن عباس: أي مؤتمناً عليه، وعنه أيضاً الْمُهَيْمِنُ: الْأَمِينُ، قَالَ: الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كتاب قبله. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى الْكُتُبِ المتقدمة قبله، فَمَا وَافَقَهُ مِنْهَا فَهُوَ حَقٌّ، وَمَا خَالَفَهُ مِنْهَا فَهُوَ بَاطِلٌ. وَعَنِ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَمُهَيْمِناً} أَيْ شَهِيدًا، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَمُهَيْمِناً}

أَيْ حَاكِمًا عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى فَإِنَّ اسْمَ الْمُهَيْمِنِ يَتَضَمَّنُ هَذَا كُلَّهُ، فَهُوَ: أَمِينٌ، وَشَاهِدٌ، وَحَاكِمٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ، جَعَلَ اللَّهُ هَذَا الْكِتَابَ الْعَظِيمَ الَّذِي أَنْزَلَهُ آخِرَ الْكُتُبِ وخاتمها أشملها وأعظمها وأكملها، حَيْثُ جَمَعَ فِيهِ مَحَاسِنَ مَا قَبْلَهُ، وَزَادَهُ مِنَ الْكَمَالَاتِ مَّا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ، فَلِهَذَا جَعَلَهُ شَاهِدًا وَأَمِينًا وَحَاكِمًا عَلَيْهَا كُلِّهَا، وَتَكَفَّلَ تَعَالَى بِحِفْظِهِ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. وقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أَيْ فَاحْكُمْ يا محمد بين الناس بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ، وَبِمَا قَرَّرَهُ لَكَ مِنْ حُكْمِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يَنْسَخْهُ فِي شرعك، {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا فِي كِتَابِنَا، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} أَيْ آرَاءَهُمُ الَّتِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا وَتَرَكُوا بِسَبَبِهَا مَا أَنْزَلَ الله على رسله، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ} أَيْ لَا تَنْصَرِفْ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ إِلَى أَهْوَاءِ هَؤُلَاءِ مِنَ الْجَهَلَةِ الأشقياء. وقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} عن ابن عباس: {شِرْعَةً} قال: سبيلاً، {وَمِنْهَاجاً} قال: وسنة، وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد {شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}: أَيْ سُنَّةً وَسَبِيلًا وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ، فَإِنَّ الشِّرْعَةَ وَهِيَ الشَّرِيعَةُ أَيْضًا هِيَ مَا يُبْتَدَأُ فِيهِ إِلَى الشَّيْءِ، وَمِنْهُ يُقَالُ شَرَعَ فِي كَذَا: أَيِ ابْتَدَأَ فِيهِ، وَكَذَا الشَّرِيعَةُ وهي ما يشرع فيها إِلَى الْمَاءِ؛ أَمَّا الْمِنْهَاجُ فَهُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ السَّهْلُ، وَالسُّنَنُ الطَّرَائِقُ. فَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ أَظْهَرُ فِي الْمُنَاسَبَةِ مِنَ الْعَكْسِ، والله أعلم لم هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَدْيَانِ بِاعْتِبَارِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ الْكِرَامَ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَّفِقَةِ فِي التَّوْحِيدِ، كما ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ»، يَعْنِي بِذَلِكَ التَّوْحِيدَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ كُلَّ رَسُولٍ أرسله وضمنه كل كتاب أنزله كماقال تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الْآيَةَ، وَأَمَّا الشَّرَائِعُ فَمُخْتَلِفَةٌ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ حَرَامًا، ثُمَّ يَحِلُّ فِي الشَّرِيعَةِ الْأُخْرَى، وَبِالْعَكْسِ، وَخَفِيفًا فَيُزَادُ فِي الشِّدَّةِ فِي هَذِهِ دُونَ هَذِهِ، وَذَلِكَ لِمَا لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ البالغة، والحجة الدامغة، قال قتادة قوله: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} يَقُولُ: سَبِيلًا وَسُنَّةً، وَالسُّنَنُ مُخْتَلِفَةٌ هِيَ فِي التَّوْرَاةِ شَرِيعَةٌ، وَفِي الْإِنْجِيلِ شَرِيعَةٌ وَفِي الْفُرْقَانِ شَرِيعَةٌ، يُحِلُّ اللَّهُ فِيهَا مَا يَشَاءُ وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَالدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أمة واحدة} هَذَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ وَإِخْبَارٌ عَنْ قُدْرَتِهِ تَعَالَى الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَوْ شَاءَ لَجَمَعَ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُنْسَخُ شَيْءٌ مِنْهَا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى شَرَعَ لِكُلِّ رسول شريعة عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ نَسَخَهَا أَوْ بَعْضَهَا بِرِسَالَةِ الْآخَرِ الَّذِي بَعْدَهُ، حَتَّى نَسَخَ الْجَمِيعَ بِمَا بَعَثَ بِهِ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي ابْتَعَثَهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ قَاطِبَةً وَجَعَلَهُ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فيما آتَاكُم} أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَعَ الشَّرَائِعَ مُخْتَلِفَةً لِيَخْتَبِرَ عِبَادَهُ فِيمَا شَرَعَ لَهُمْ وَيُثِيبَهُمْ أَوْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ بِمَا فَعَلُوهُ أَوْ عزموا عليه من ذلك كله {فيما آتاكم} يعن مِنَ الْكِتَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَدَبَهُمْ إِلَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالْمُبَادِرَةِ إِلَيْهَا فَقَالَ: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} وَهِيَ طَاعَةُ اللَّهِ وَاتِّبَاعُ شَرْعِهِ

الَّذِي جَعَلَهُ نَاسِخًا لِمَا قَبِلَهُ وَالتَّصْدِيقُ بِكِتَابِهِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ آخِرُ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ، ثُمَّ قال تعالى: {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ} أَيْ مَعَادُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَمَصِيرُكُمْ إِلَيْهِ يَوْمَ القيامة {فَيُنَبِّئُكُم بما نتم فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أَيْ فَيُخْبِرُكُمْ بِمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ فَيَجْزِي الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ، وَيُعَذِّبَ الْكَافِرِينَ الجاحدين المكذبين بالحق العادلين عنه بلا دليل ولا برهان. وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أهوءاهم} تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِذَلِكَ وَالنَّهْيِ عن خلافه. ثم قال: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ} أي واحذر أَعْدَاءَكَ الْيَهُودَ أَنْ يُدَلِّسُوا عَلَيْكَ الْحَقَّ فِيمَا يُنْهُونَهُ إِلَيْكَ مِنَ الْأُمُورِ، فَلَا تَغْتَرَّ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَذَبَةٌ كَفَرَةٌ خَوَنَةٌ، {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أَيْ عَمَّا تَحْكُمُ بِهِ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَخَالَفُوا شَرْعَ اللَّهِ {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}، أَيْ فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ كائن عن قدرة اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ فِيهِمْ أَنْ يَصْرِفَهُمْ عَنِ الْهُدَى لما لهم مِنَ الذُّنُوبِ السَّالِفَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ إِضْلَالَهُمْ وَنَكَالَهُمْ، {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ} أي إن أكثر الناس لخارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق ناكبون عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} الآية. وقال محمد بن إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ كَعْبُ بْنُ أسد، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَا، وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ لَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّا أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَشْرَافُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ، وَإِنَّا إِنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَنَا يَهُودُ وَلَمْ يُخَالِفُونَا، وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا خُصُومَةً، فَنُحَاكِمُهُمْ إِلَيْكَ فَتَقْضِي لَنَا عَلَيْهِمْ، وَنُؤْمِنُ لَكَ وَنُصَدِّقُكَ فَأَبَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله عزَّ وجلَّ فيهم: {أن احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أنزل الله لا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} إِلَى قَوْلِهِ {لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} رواه ابن جرير وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} يُنْكِرُ تَعَالَى عَلَى مَنْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ الْمُحْكَمِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ النَّاهِي عَنْ كُلِّ شَرٍّ، وَعَدْلٍ إِلَى مَا سِوَاهُ مِنَ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ التي وضعها الرجلا بِلَا مُسْتَنَدٍ مِنْ شَرِيعَةِ اللَّهِ، كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَحْكُمُونَ بِهِ مِنَ الضَّلَالَاتِ وَالْجَهَالَاتِ، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، فمن فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَهُوَ كَافِرٌ يَجِبُ قِتَالُهُ، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فَلَا يَحْكُمُ سِوَاهُ فِي قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ. قال تَعَالَى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} أَيْ يَبْتَغُونَ وَيُرِيدُونَ، وَعَنْ حُكْمِ اللَّهِ يَعْدِلُونَ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أَيْ وَمَنْ أَعْدَلُ مِنَ اللَّهِ فِي حُكْمِهِ، لِمَنْ عَقَلَ عَنِ الله شرعه وآمن به وأيقن، وعلم أن الله أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ بِخُلُقِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، الْقَادِرُ على كل شيء، عن الحسن قال: من حكم الله فحكم الجاهلية، وكان طاووس إِذَا سَأَلَهُ رَجُلٌ: أُفَضِّلُ بَيْنَ وَلَدِي فِي النحل؟ قرأ: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} الآية، وقال الحافظ الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى الله عزَّ وجلَّ من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية، وطالب دم امرىء بغير حق ليريق دمه» وروى البخاري بإسناده نحوه بزيادة.

- 51 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ

إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - 52 - فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ - 53 - وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ينهى تبارك وتعالى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ هم أعداء الإسلام وأهل قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ، ثُمَّ تَهَدَّدَ وَتَوَعَّدَ مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ، فقال: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} الآية. قال ابن أبي حاتم، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عِيَاضٍ: أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى فِي أَدِيمٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ لَهُ كَاتِبٌ نَصْرَانِيٌّ، فَرَفَعَ إِلَيْهِ ذلك، فعجب عمر، وقال: إِنَّ هذا لحفيظ، هل أنت قارىء لَنَا كِتَابًا فِي الْمَسْجِدِ جَاءَ مَنِ الشَّامِ؟ فقال: إنه لا يستطيع، فَقَالَ عُمَرُ: أَجُنُبٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا، بَلْ نَصْرَانِيٌّ، قَالَ: فَانْتَهَرَنِي وَضَرَبَ فَخِذِي، ثُمَّ قَالَ: أَخْرِجُوهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ والنصارى أَوْلِيَآءَ} الآية. وقوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أَيْ شَكٌّ وَرَيْبٌ وَنِفَاقٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ أَيْ يُبَادِرُونَ إِلَى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر (المراد عبد الله بن أبي بن مالك، ونسب إلى أمه فقيل ابن سلول) {يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} أَيْ يَتَأَوَّلُونَ من فِي مَوَدَّتِهِمْ، وَمُوَالَاتِهِمْ أَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ أَنْ يَقَعَ أمر من ظفر الكافرين بِالْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونُ لَهُمْ أَيَادٍ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَيَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح} يعني فتح مكة، وقيل: يَعْنِي الْقَضَاءَ وَالْفَصْلَ {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي ضَرْبَ الْجِزْيَةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى {فيصبحواْ يَعْنِي الَّذِينَ وَالَوُا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنَ الْمُنَافِقِينَ {عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ} مِنَ الْمُوَالَاةِ {نَادِمِينَ} أَيْ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِمَّا لَمَّ يُجْدِ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَلَا دَفَعَ عَنْهُمْ مَحْذُورًا، بَلْ كَانَ عَيْنَ الْمُفْسِدَةِ فَإِنَّهُمْ فُضِحُوا وَأَظْهَرَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ فِي الدُّنْيَا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَسْتُورِينَ لَا يُدْرَى كَيْفَ حَالُهُمْ، فَلَمَّا انْعَقَدَتِ الْأَسْبَابُ الْفَاضِحَةُ لَهُمْ تَبَيَّنَ أَمْرُهُمْ لِعِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَعَجَّبُوا مِنْهُمْ كَيْفَ كَانُوا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَحْلِفُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيَتَأَوَّلُونَ، فَبَانَ كَذِبُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} اختلف الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبٍ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ، فذكر السدي: أنهانزلت فِي رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدَهُمَا لِصَاحِبِهِ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُد: أما أنا فإن ذَاهِبٌ إِلَى ذَلِكَ الْيَهُودِيِّ فَآوِي إِلَيْهِ وأتهوَّد مَعَهُ، لَعَلَّهُ يَنْفَعُنِي إِذَا وَقَعَ أَمْرٌ أَوْ حدث حادث، وقال الآخر: أما أنا فإني ذاهب إِلَى فُلَانٍ النَّصْرَانِيُّ بِالشَّامِ فَآوِي إِلَيْهِ وَأَتَنَصَّرُ معه، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ} الْآيَاتِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي (أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ) حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَسَأَلُوهُ مَاذَا هُوَ صَانِعٌ بِنَا؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ، أَيْ أنه الذبح. قيل: نزلت فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ كما قال ابن جرير: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَوَالِي مَنْ يَهُودٍ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، وَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ وَلَايَةِ يَهُودٍ، وَأَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: إِنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ لَا أَبْرَأُ مِنْ وِلَايَةِ مَوَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ: «يَا أَبَا الْحُبَابِ مَا بَخِلْتَ بِهِ مِنْ وَلَايَةِ يَهُودَ عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَهُوَ لَكَ دُونَهُ»، قَالَ: قَدْ قَبِلْتُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ والنصارى أَوْلِيَآءَ} الآيتين. وقال محمد ابن إسحاق: لَمَّا حَارَبَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَبَّثَ بِأَمْرِهِمْ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ) وَقَامَ دُونَهُمْ وَمَشَى (عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ لَهُ مِنْ حِلْفِهِمْ مِثْلَ الَّذِي لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَجَعَلَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبَرَّأَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ من حلفهم، وقال: يا رسول الله أبرأ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ، وَأَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَبْرَأُ مِنْ حِلْفَ الْكُفَّارِ وَوَلَايَتِهِمْ، فَفِيهِ وَفِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي الْمَائِدَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغالبون}. وقال الإمام أحمد عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ نَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ حُبِّ يَهُودَ»، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَقَدْ أَبْغَضَهُمْ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ فَمَاتَ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

- 54 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ - 55 - إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ - 56 - وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ: أَنَّهُ مَّن تَوَلَّى عَن نُصْرَةِ دِينِهِ وَإِقَامَةِ شَرِيعَتِهِ، فإن الله سيستبدل بِهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ لَهَا مِنْهُ، وَأَشَدُّ مَنْعَةً وَأَقْوَمُ سَبِيلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بعزيز} أي بممتنع ولا صعب. وقال تعالى ههنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} أَيْ يَرْجِعُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: نَزَلَتْ فِي الْوُلَاةِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الرِّدَّةِ أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ. {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قَالَ الْحَسَنُ: هو والله أبو بكر وأصحابه، وقال ابن أبي حاتم عن أبي موسى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ قَوْمُ هَذَا»، وَرَوَاهُ ابن جرير بِنَحْوِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} هَذِهِ صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ الكُمَّل، أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ مُتَوَاضِعًا لِأَخِيهِ وَوَلِيِّهِ مُتَعَزِّزًا عَلَى خَصْمِهِ وَعَدُوِّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بينهم}، وفي صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ، فَهُوَ ضَحُوكٌ لِأَوْلِيَائِهِ، قَتَّالٌ لأعدائه. وقوله عزَّ وجلَّ: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} أَيْ لَا يَرَدُّهُمْ

عما هم فيه من طاعة الله، وإقامة الحدود، وقتال أعدائه، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا يَرُدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ رَادٌّ وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْهُ صَادٌّ. قال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَمَرَنِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ: أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي، وَلَا أَنْظُرُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ الحق وإن كان مراً، وأمرني أن لا أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَأَمَرَنِي أَنَّ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ. وقال الإمام أحمد أيضاً عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَّا لَا يَمْنَعْنَ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجْلٍ، وَلَا يُبَاعِدُ مَنْ رِزْقٍ أَنْ يقول بحق أو أن يذكر بعظيم». وقال أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَرَى أَمْرًا لِلَّهِ فِيهِ مَقَالٌ فَلَا يَقُولُ فِيهِ، فَيُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَكُونَ قُلْتَ فِيَّ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: مَخَافَةَ النَّاسِ: فَيَقُولُ: إِيَّايَ أحق أن تخاف"، وثبت في الصحيح: «ما ينبغي للمؤمن أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «يَتَحَمَّلُ مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يُطِيقُ»، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} أَيْ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنَّمَا هُوَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَتَوْفِيقِهِ لَهُ، {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أَيْ وَاسْعُ الْفَضْلِ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِمَّنْ يَحْرِمُهُ إِيَّاهُ. وقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} أَيْ لَيْسَ الْيَهُودُ بِأَوْلِيَائِكُمْ، بَلْ وِلَايَتُكُمْ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاة} أَيِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْمَخْلُوقِينَ وَمُسَاعَدَةٌ لِلْمُحْتَاجِينَ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} فَقَدْ توهم بعض الناس أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أَيْ فِي حَالِ رُكُوعِهِمْ، وَلَوْ كَانَ هَذَا كَذَلِكَ لَكَانَ دَفْعُ الزَّكَاةِ فِي حَالِ الرُّكُوعِ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مَمْدُوحٌ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ العلماء. قال السُّدِّيِّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَرَّ بِهِ سَائِلٌ وَهُوَ رَاكِعٌ فِي الْمَسْجِدِ فَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ، وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عنه حين تبرأ من حلف اليهود، وَرَضِيَ بِوَلَايَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ: {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ. لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ، أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} الآية. فَكُلُّ مَنْ رَضِيَ بِوِلَايَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مُفْلِحٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْصُورٌ فِي الدنيا والآخرة، ولهذا قال تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغالبون}.

- 57 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ - 58 - وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ هذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام الذين يتخذون شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ الْمُطَهَّرَةُ الْمُحْكَمَةُ، الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى كُلِّ خير

دنيوي وأخروي، يتخذونها هزواً ويستهزئون بِهَا، وَلَعِبًا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ اللَّعِبِ في نظرهم الفاسد، وفكرهم البارد، وقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ} «مِنْ» هَهُنَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوثان}، والمراد بالكفار ههنا {المشركون}، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَيِ اتَّقُوا اللَّهَ أَنْ تَتَّخِذُوا هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءَ لَكُمْ وَلِدِينِكُمْ أَوْلِيَاءَ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِشَرْعِ اللَّهِ الَّذِي اتَّخَذَهُ هَؤُلَاءِ هُزُوًا وَلَعِبًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين} وقوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً} أَيْ وَكَذَلِكَ إِذَا أَذَّنْتُمْ دَاعِينَ إِلَى الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ لِمَنْ يَعْقِلُ وَيَعْلَمُ مِنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ {اتَّخَذُوهَا} أَيْضًا {هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} مَعَانِيَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَشَرَائِعِهِ، وَهَذِهِ صِفَاتُ أَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ الَّذِي إذا سمع الأذان أدبر، فإذا قضى التأذين أقبل، فإذا ثوَّب للصلاة أدبر، فإذى قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وقلبه، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا، ما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فليسجد سجدتين قبل السلام. كما هو في الصحيحين، وقال الزهري: قد ذكر الله التَّأْذِينَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ}. وقال السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً} قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى بِالْمَدِينَةِ إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِي يُنَادِي: أَشْهَدُ أن محمداً رسول الله، قال: حرق الكذاب، فَدَخَلَتْ خَادِمَةٌ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي بِنَارٍ وَهُوَ نَائِمٌ وَأَهْلُهُ نِيَامٌ فَسَقَطَتْ شَرَارَةٌ، فَأَحْرَقَتِ الْبَيْتَ، فَاحْتَرَقَ هُوَ وَأَهْلُهُ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أبي حاتم. وذكر مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ عَامَ الْفَتْحِ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَعَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ جُلُوسٌ بِفَنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ: لقد أكرم الله أسيداً أن لا يَكُونَ سَمِعَ هَذَا فَيَسْمَعُ مِنْهُ مَا يَغِيظُهُ، وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مُحِقٌّ لَاتَّبَعْتُهُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَا أَقُولُ شَيْئًا لَوْ تَكَلَّمْتُ لَأَخْبَرَتْ عَنِّي هذه الحصى، فخرج عليه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «قَدْ عَلِمْتُ الَّذِي قُلْتُمْ»، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول، مَا اطَّلَعَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا فنقول أخبرك. وقال الإمام أحمد عن عبد الله بن محيريز وَكَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أَبِي مَحْذُورَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي مَحْذُورَةَ يَا عَمُّ إِنِّي خَارِجٌ إِلَى الشَّامِ، وَأَخْشَى أَنْ أُسْأَلَ عَنْ تَأْذِينِكَ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ قَالَ لَهُ: نَعَمْ، خرجت في نفر وكنا في بعض طَرِيقِ حُنَيْنٍ، مَقْفَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُنَيْنٍ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْنَا صَوْتَ الْمُؤَذِّنِ وَنَحْنُ مُتَنَكِّبُونَ، فَصَرَخْنَا نَحْكِيهِ ونستهزىء به، فسمع رسول الله فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا إِلَى أَنْ وَقَفْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّكُمُ الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ قَدِ ارْتَفَعَ»؟ فَأَشَارَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ إِلَيَّ، وَصَدَقُوا، فَأَرْسَلَ كُلَّهُمْ وَحَبَسَنِي، وقال: «قم فأذن» فَقُمْتُ وَلَا شَيْءَ أَكْرَهُ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مِمَّا يَأْمُرُنِي بِهِ، فَقُمْتُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَلْقَى عليَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّأْذِينَ هُوَ بنفسه، قال: "قل: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ على الصلاة، حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، ثُمَّ دَعَانِي حِينَ قَضَيْتُ التَّأْذِينَ، فَأَعْطَانِي صُرَّةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْ فِضَّةٍ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى نَاصِيَةِ أَبِي مَحْذُورَةَ، ثُمَّ أمَرَّها عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ عَلَى كَبِدِهِ حَتَّى بَلَغَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرَّةَ أَبِي مَحْذُورَةَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

«بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِالتَّأْذِينِ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: «قَدْ أَمَرْتُكَ بِهِ»، وَذَهَبَ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَرَاهَةٍ، وَعَادَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَحَبَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمْتُ عَلَى عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ عَامِلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَأَذَّنْتُ مَعَهُ بِالصَّلَاةِ عَنْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَنِي ذَلِكَ مَنْ أدركت من أهلي ممن أدرك ابا محذروة عَلَى نَحْوِ مَا أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ. هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في صحيحه وأهل السنن الأربعة.

- 59 - قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ - 60 - قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ - 61 - وَإِذَا جاؤوكم قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ - 62 - وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - 63 - لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هزواً ولعباً من أهلك الْكِتَابِ: {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أَنزَلَ مِن قَبْلُ} أَيْ هَلْ لَكَمَ عَلَيْنَا مَطْعَنٌ أَوْ عَيْبٌ إِلَّا هَذَا؟ وَهَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ وَلَا مَذَمَّةٍ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ العزيز الحميد} وَكَقَوْلِهِ: {وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ}. وقول: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} مَعْطُوفٌ عَلَى {أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أَنزَلَ مِن قَبْلُ} أَيْ وَآمَنَّا بِأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ أَيْ خارجون عن الطريق المستقيم (في اللباب: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ من اليهود فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، قال: أومن بالله ومآ أنزل إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أوتي النبيون من ربهم، فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن به، فنزلت الآية) ثُمَّ قَالَ: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ} أَيْ هَلْ أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ جَزَاءٍ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِمَّا تظنونه بنا؟ وهم أنتم المتصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله: {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ} أَيْ أَبْعَدَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} أَيْ غَضَبًا لَا يَرْضَى بَعْدَهُ أَبَدًا، {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} كَمَا تَقَدَّمَ بيانه في سورة البقرة، وقد قال سفيان الثوري عن ابن مسعود قال: قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ أَهِيَ مِمَّا مَسَخَ الله؟ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا - أَوْ قَالَ لَمْ يَمْسَخْ قَوْمًا - فَيَجْعَلْ لَهُمْ نَسْلًا وَلَا عَقِبًا، وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانَتْ قَبْلَ ذلك»، رواه مسلم، وقال أبو داود الطيالسي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ أَهِيَ مِنْ نَسْلِ الْيَهُودِ؟ فَقَالَ: «لَا، إِنَّ الله لم يلعن قوماً قط فَيَمْسَخُهُمْ فَكَانَ لَهُمْ نَسْلٌ، وَلَكِنْ هَذَا خَلْقٌ كَانَ، فَلَمَّا غَضِبَ اللَّهُ

على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم» وقوله تعالى: {وَعَبَدَ الطاغوت} قرىء {وعَبَدَ الطاغوتَ} عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، وَالطَّاغُوتَ مَنْصُوبٌ بِهِ، أَيْ وَجُعِلَ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ الطاغوت، وقرىء {وعَبَدِ الطَّاغُوتِ} بِالْإِضَافَةِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى وَجَعَلَ منهم خدم الطاغوت أي خدامه وعبيده، والمعنى يَا أَهْلَ الكتاب الطاعنين في ديننا الذي هُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَاتِ دُونَ مَا سِوَاهُ، كَيْفَ يَصْدُرُ مِنْكُمْ هَذَا وَأَنْتُمْ قَدْ وُجِدَ مِنْكُمْ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ؟ وَلِهَذَا قَالَ {أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً} أَيْ مِمَّا تَظُنُّونَ بِنَا {وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} وَهَذَا مِنْ بَابِ استعمال أفعال التَّفْضِيلِ فِيمَا لَيْسَ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ مُشَارَكَةٌ. وقوله تعالى: {وَإِذْ جَآءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُصَانِعُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الظَّاهِرِ وَقُلُوبُهُمْ مُنْطَوِيَةٌ على الكفر، ولهذا قال: {وَقَدْ دَّخَلُواْ} أَيْ عِنْدِكَ يَا مُحَمَّدُ {بِالْكُفْرِ} أَيْ مُسْتَصْحِبِينَ الْكُفْرَ فِي قُلُوبِهِمْ ثُمَّ خَرَجُوا وَهُوَ كَامِنٌ فيها لمن يَنْتَفِعُوا بِمَا قَدْ سَمِعُوا مِنْكَ مِنَ الْعِلْمِ، وَلَا نَجَعَتْ فِيهِمُ الْمَوَاعِظُ وَلَا الزَّوَاجِرُ، وَلِهَذَا قال: {هم قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} فَخَصَّهُمْ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وقوله تعالى: {والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} أي عالم بسائرهم وما تنطوي عليه ضَمَائِرُهُمْ وَإِنْ أَظْهَرُوا لِخَلْقِهِ خِلَافَ ذَلِكَ وَتَزَيَّنُوا بما ليس فيهم، فإن الله عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْهُمْ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الْجَزَاءِ. وَقَوْلُهُ: {وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يسارعون في الغثم وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} أَيْ يُبَادِرُونَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ تَعَاطِي الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى النَّاسِ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَهُمْ بِالْبَاطِلِ {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أَيْ لَبِئْسَ الْعَمَلُ كَانَ عَمَلُهُمْ وَبِئْسَ الِاعْتِدَاءُ اعتداؤهم. وقوله تَعَالَى: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} يعني: هلا كان ينهاهم الربانون والأحبار منهم عن تعاطي ذلك؟ و {الربانيون} هم العلماء العمال}، أرباب الولايات عليهم. والأحبار هم العلماء فقط {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} يعني من تركهم ذلك، قاله ابن عباس. وقال ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ تَوْبِيخًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السحت لبئس ما كانوا يعملون}، قَالَ: كَذَا قَرَأَ وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَخْوَفُ عِنْدِي مِنْهَا إِنَّا لا ننهى. وقال بان أبي حاتم عن يحيى بن يعمر قالك خطب (لعي بْنُ أَبِي طَالِبٍ) فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثم قال: «أيها الناس إنا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِرُكُوبِهِمُ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَنْهَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ، فَلَمَّا تَمَادَوْا فِي الْمَعَاصِي أَخَذَتْهُمُ الْعُقُوبَاتُ، فَمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهُوا عَنِ الْمُنْكَرِ، قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ بِكُمْ مِثْلُ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يَقْطَعُ رِزْقًا وَلَا يُقَرِّبُ أَجَلًا» وروى أبو داود عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِي قَوْمٍ يَعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي يَقْدِرُونَ أَنْ يُغِّيرُوا عَلَيْهِ فَلَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا أَصَابَهُمُ الله بعقاب قبل أن يموتوا».

- 64 - وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ - 65 - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب

آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النعيم - 66 - وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ المتتابعة بأنهم وصفوه بِأَنَّهُ بَخِيلٌ كَمَا وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ فَقِيرٌ، وَهُمْ أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ}، قال ابن عباس {مَغْلُولَةٌ} أي بخيلة. لَا يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّ يَدَ اللَّهِ مُوثَقَةٌ، ولكن يقولون: بخيل، يعني أمسك ما عنده بخلاً، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. وَقَدْ قَالَ عِكْرِمَةُ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي (فِنْحَاصَ الْيَهُودِيِّ) عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ الَّذِي قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} فَضَرَبَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقال محمد بن إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ اليهود يقال له شاس بن قيس (أخرج الطبراني: عن ابن عباس، أن قائل ذلك: شاس بن قيس، وأخرج أبو الشيخ أنه فنحاص): إِنَّ رَبَّكَ بَخِيلٌ لَا يُنْفِقُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافترواه وَائْتَفَكُوهُ فَقَالَ: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ}، وَهَكَذَا وَقَعَ لَهُمْ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ مِنَ الْبُخْلِ وَالْحَسَدِ وَالْجُبْنِ وَالذِّلَّةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، كَمَا قَالَ تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}، وقال تعالى: {ضُرِبَتْ عليهم الذلة} الآية، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} أي بل هو الواسع الْجَزِيلُ الْعَطَاءِ الَّذِي مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عنده خزائنه الَّذِي خَلَقَ لَنَا كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا نَحْتَاجُ إليه، كما قال: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} والآيات في هذا كثيرة. وقد قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ يَمِينَ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ - قَالَ - وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَفِي يَدِهِ الْأُخْرَى الفيض - أو القبض - يرفع ويخفض، وقال: يقول اللَّهُ تَعَالَى: «أَنفق أُنفق عَلَيْكَ» أَخْرَجَاهُ فِي الصحيحين. وقوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً منها مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} أَيْ يَكُونُ مَا أَتَاكَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ مِنَ النِّعْمَةِ نِقْمَةٌ فِي حَقِّ أَعْدَائِكَ مِنَ الْيَهُودِ وَأَشْبَاهِهِمْ، فَكَمَا يَزْدَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ تَصْدِيقًا وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً، يزداد به الكافرون الْحَاسِدُونَ لَكَ وَلِأُمَّتِكَ طُغْيَانًا وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ وَالْمُجَاوَزَةُ لِلْحَدِّ فِي الْأَشْيَاءِ {وَكُفْراً} أَيْ تَكْذِيبًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَكَانٍ بعيد} وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ للمؤمنين ولايزيد الظالمين إَلاَّ خَسَاراً} وقوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} يَعْنِي أَنَّهُ لَا تَجْتَمِعُ قُلُوبُهُمْ، بَلِ الْعَدَاوَةُ وَاقِعَةٌ بَيْنَ فِرَقِهِمْ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ دَائِمًا، لِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى حَقٍّ وَقَدْ خَالَفُوكَ وكذبوك. وقوله تَعَالَى: {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} أَيْ كُلَّمَا عَقَّدُوا أَسْبَابًا يَكِيدُونَكَ بِهَا، وَكُلَّمَا أَبْرَمُوا أموراً يحاربونك بها أبطلها الله ورد كيدهم عليهم وحاق مكرهم السيء بِهِمْ {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} أَيْ مِنْ سَجِيَّتِهِمْ أَنَّهُمْ دَائِمًا يسعون في الإفساد في الأرض فسادا، وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، ثُمَّ قَالَ جلَّ وَعَلَا: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} أَيْ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ ورسوله، واتقوا ما كانوا

يتعاطونه من المآثم والمحارم {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}، أَيْ لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم الْمَقْصُودَ، {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هو الْقُرْآنَ، {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}، أَيْ لَوْ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِمَا فِي الْكُتُبِ التي بأديهم عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير، لَقَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ كُتُبَهُمْ نَاطِقَةٌ بِتَصْدِيقِهِ وَالْأَمْرِ باتباعه حتماً لا محالة. وقوله تعالى: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} يَعْنِي بِذَلِكَ كَثْرَةَ الرِّزْقِ النَّازِلِ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، والنابت لهم من الأرض، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ} يَعْنِي لَأَرْسَلَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا، {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} يَعْنِي يخرج من الأرض بركاتها، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ والأرض} الآية، وقال تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس} الآية. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} يَعْنِي مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَلَا تعب ولا شقاء ولا عناء. وقد ذكر ابن أبي حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُوشِكُ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ»، فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يُرْفَعُ العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا فقال: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ لَبِيدٍ إِنْ كُنْتُ لأراك من أفقه أهل المدينة أو ليست التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ بِأَيْدِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ حِينَ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل}، وقوله تَعَالَى: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} كقوله {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يعدلون} فَجَعَلَ أَعْلَى مَقَامَاتِهِمُ الِاقْتِصَادَ وَهُوَ أَوْسَطُ مَقَامَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ رُتْبَةُ السَّابِقَيْنِ، كَمَا في قوله عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} الآية، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ كلهم يدخلون الجنة.

- 67 - يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِ الرِّسَالَةِ، وَآمِرًا لَهُ بِإِبْلَاغِ جَمِيعِ مَا أرسله الله به، وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذَلِكَ وَقَامَ بِهِ أَتَمَّ الْقِيَامِ؛ قَالَ الْبُخَارِيُّ عند تفسير هذه الآية عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مِنْ حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب، وهو يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ من رَّبِّكَ} الآية، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ كان محمداً صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من قرآن لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} وقال ابن أبي حاتم عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كنت عند بن عَبَّاسٍ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنْ نَاسًا يَأْتُونَا فَيُخْبِرُونَا أَنَّ عِنْدَكُمْ شَيْئًا لَمْ يُبْدِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ، فقال ابن عباس: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ}، وَاللَّهِ مَا ورَّثنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ. وَهَذَا إسناد جيد. وفي صحيح البخاري عن وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّوَائِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لَا، وَالَّذِي

فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: مِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ، وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التسليم، وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرِّسَالَةِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَاسْتَنْطَقَهُمْ بِذَلِكَ فِي أَعْظَمِ الْمَحَافِلِ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَدْ كان هناك من أصحابه نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يومئذٍ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مسؤولون عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُواْ: نَشْهَدُ إِنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَجَعَلَ يَرْفَعُ إِصْبَعَهُ إلى السماء وينكسها إليهم، ويقول: «اللهم هل بلغت»!؟ وقوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} يَعْنِي وَإِنْ لَمْ تُؤَدِّ إِلَى النَّاسِ مَا أَرْسَلْتُكَ به فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}: يَعْنِي إِنْ كَتَمْتَ آيَةً مِمَّا أُنْزِلَ إليك من ربك لم تبلغ رسالته، وعن مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {يِا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ} قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَصْنَعُ وَأَنَا وَحْدِي يَجْتَمِعُونَ عَلَيَّ؟ فَنَزَلَتْ: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِّنَ النَّاسِ} أَيْ بَلِّغْ أَنْتَ رِسَالَتِي وَأَنَا حَافِظُكَ وَنَاصِرُكَ وَمُؤَيِّدُكَ عَلَى أَعْدَائِكَ وَمُظَفِّرُكَ بِهِمْ، فَلَا تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ، فَلَنْ يَصِلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَيْكَ بِسُوءٍ يُؤْذِيكَ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ يُحْرَسُ. كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أحمد عن عائشة رضي الله عنها كَانَتْ تُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهِرَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهِيَ إِلَى جَنْبِهِ قَالَتْ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ»، قَالَتْ: فَبَيْنَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ إِذْ سَمِعْتُ صَوْتَ السِّلَاحِ، فَقَالَ: «مَنْ هَذَا»؟ فَقَالَ: أَنَا سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، فَقَالَ: «مَا جَاءَ بِكَ»؟ قَالَ: جِئْتُ لِأَحْرُسَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَتْ: فَسَمِعْتُ غَطِيطَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَوْمِهِ، أَخْرَجَاهُ فِي الصحيحين. وفي لفظ: سهر رسول الله ذَاتَ لَيْلَةِ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، يَعْنِي عَلَى أَثَرِ هجرته بَعْدَ دُخُولِهِ بِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَكَانَ ذلك في سنة ثنتين منها، وعنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحسر حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} قَالَتْ فَأَخْرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَسَهُ مِنَ الْقُبَّةِ وَقَالَ: «يَا أَيُّهَا الناس انصرفوا فقد عصمنا الله عزَّ وجلَّ». ومن عصمة الله لِرَسُولِهِ حِفْظُهُ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَصَنَادِيدِهَا وَحُسَّادِهَا وَمُعَانِدِيهَا وَمُتْرَفِيهَا، مَعَ شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَةِ وَنَصْبِ الْمُحَارَبَةِ لَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، بِمَا يَخْلُقُهُ الله من الأسباب العظيمة بقدرته وَحِكْمَتِهِ الْعَظِيمَةِ، فَصَانَهُ فِي ابْتِدَاءِ الرِّسَالَةِ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ إِذْ كَانَ رَئِيسًا مُطَاعًا كَبِيرًا فِي قُرَيْشٍ، وَخَلَقَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةً طَبِيعِيَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شَرْعِيَّةً، وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ لَاجْتَرَأَ عَلَيْهِ كُفَّارُهَا وَكِبَارُهَا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِي الْكُفْرِ هَابُوهُ وَاحْتَرَمُوهُ، فَلَمَّا مات عمه (أَبُو طَالِبٍ) نَالَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ أَذًى يَسِيرًا، ثم قيض الله لَهُ الْأَنْصَارَ فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَعَلَى أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى دَارِهِمْ وَهِيَ الْمَدِينَةُ، فَلَّمَا صَارَ إليها منعوه من الأحمر والأسود، وكلما همَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ بِسُوءٍ كاده الله ورد كيده عليه، كما كاده اليهود بالسحر، فحماه الله منهم، وأنزل عليه سورتين المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سمّه الْيَهُودُ فِي ذِرَاعِ تِلْكَ الشَّاةِ بِخَيْبَرَ أَعْلَمَهُ الله به وحماه مِنْهُ، وَلِهَذَا أَشْبَاهٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا يَطُولُ ذِكْرُهَا. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أَيْ بَلِّغْ أَنْتَ وَاللَّهُ هُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ

ويضل من يشاء، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يشآء}، وقال: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب}.

- 68 - قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ - 69 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} أَيْ مِنَ الدِّينِ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، أَيْ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ مَا بِأَيْدِيكُمْ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَتَعْمَلُوا بِمَا فيها، ومما فيها الإيمان بمحمد والأمر باتباعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانِ بِمَبْعَثِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِشَرِيعَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ}: يَعْنِي الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَقَوْلُهُ: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، {فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: أَيْ فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا يهيبنك ذلك (روى ابن جرير جاء رافع وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف، فقالوا: يا محمد، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا؟ قال: بلى، ولكنكم جحدتم بما فيها، وكتمتم ما أمرتم أن تبينوه للناس، قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى والحق فأنزل الله {قُلْ يَا أَهْلَ الكتاب} الآية.) مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، {وَالَّذِينَ هَادُواْ} وَهُمْ حَمَلَةُ التَّوْرَاةِ، {وَالصَّابِئُونَ}، لَمَّا طَالَ الْفَصْلُ حَسُنَ الْعَطْفُ بِالرَّفْعِ، وَالصَّابِئُونَ طائفة من النصارى والمجوس، قاله مجاهد، وعنه: من اليهود والمجوس. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَيُصَلُّونَ إلى غير القبلة ويقرأون الزبور. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا النَّصَارَى فَمَعْرُوفُونَ وَهُمْ حَمَلَةُ الْإِنْجِيلِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ آمَنَتْ بالله وباليوم الآخر، وهو الميعاد وَالْجَزَاءُ يَوْمُ الدِّينِ، وَعَمِلَتْ عَمَلاً صَالِحاً، وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ مُوَافِقًا لِلشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بَعْدَ إِرْسَالِ صَاحِبِهَا الْمَبْعُوثِ إِلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ، فَمَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ، وَلَا عَلَى مَا تَرَكُوا وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمُ الْكَلَامُ على نظيرتها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ها هنا.

- 70 - لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ - 71 - وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَخَذَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فَنَقَضُوا تِلْكَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ وَاتَّبَعُوا آرَاءَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ وَقَدَّمُوهَا عَلَى الشَّرَائِعِ فَمَا وَافَقَهُمْ مِنْهَا قَبِلُوهُ وما خالفهم ردوه ولهذا قال تعالى: -[536]- {كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ وحسبوا أن لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي وحسبوا أن لا يَتَرَتَّبَ لَهُمْ شَرٌّ عَلَى مَا صَنَعُوا، فَتَرَتَّبَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ عَمُوا عَنِ الْحَقِّ وَصَمُّوا فَلَا يَسْمَعُونَ حَقًّا وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَيْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ، {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} أي بعد ذلك، {كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أَيْ مطلع عليهم وعليم بمن يستحق الهداءة ممن يستحق الغواية منهم.

- 72 - لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ المسيح ابن مريم وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ - 73 - لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 74 - أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ - 75 - مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ يَقُولُ تَعَالَى حاكماً بتكفير فرق النصارى مِمَّنْ قَالَ مِنْهُمْ بِأَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهُ، - تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ وَتَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ عُلُوًّا كبيراً - هذا وقد تقدم لهم أن المسيح عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ نَطَقَ بِهَا وَهُوَ صَغِيرٌ فِي الْمَهْدِ أَنْ قَالَ {إِنِّي عَبْدُ الله}، ولم يقل إني أَنَا اللَّهُ وَلَا ابْنُ اللَّهِ، بَلْ قَالَ: {إِنِّي عَبْدُ الّه آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نبياً}، وكذلك قال لهم في حلا كُهُولَتِهِ وَنَبُّوتِهِ آمِرًا لَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ رَبِّهِ وَرَبِّهِمْ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ} أَيْ فَيَعْبُدُ مَعَهُ غَيْرَهُ {فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} أَيْ فَقَدْ أَوْجَبَ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} وفي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي النَّاسِ: «إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ» وَفِي لَفْظٍ «مؤمنة» ولهذا قال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أنصار} أي وماله عِنْدَ اللَّهِ نَاصِرٌ وَلَا مُعِينٌ وَلَا مُنْقِذٌ مِمَّا هُوَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} الصحيح أَنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي النَّصَارَى خَاصَّةً قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ كُفَّارُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ بِالْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ أُقْنُومُ الْأَبِ، وَأُقْنُومُ الِابْنِ، وَأُقْنُومُ الْكَلِمَةِ الْمُنْبَثِقَةِ مِنَ الْأَبِ إِلَى الِابْنِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وغيره: والطوائف الثلاثة مِنَ الْمَلَكِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ وَالنُّسْطُورِيَّةِ تَقُولُ بِهَذِهِ الْأَقَانِيمِ، وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيهَا اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَسْطِهِ، وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ تُكَفِّرُ الْأُخْرَى، والحق أن الثلاثة كَافِرَةٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: نَزَلَتْ فِي جَعْلِهِمُ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ مَعَ اللَّهِ، فَجَعَلُوا اللَّهَ ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار، وهي كقوله تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دون الله قال سبحانك} الآية، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أَيْ لَيْسَ مُتَعَدِّدًا بَلْ هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِلَهُ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَسَائِرِ الموجودت، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لَهُمْ وَمُتَهَدِّدًا: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ} أَيْ مِنْ هَذَا الإفتراء والكذب

{لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْأَغْلَالِ وَالنَّكَالِ، ثُمَّ قَالَ: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وَهَذَا مِنْ كَرَمِهِ تَعَالَى وَجُودِهِ وَلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ مَعَ هَذَا الذَّنْبِ الْعَظِيمِ، وَهَذَا الِافْتِرَاءِ وَالْكَذِبِ وَالْإِفْكِ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، فكل من تاب إليه تاب عليه، وقوله تَعَالَى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أَيْ لَهُ أسوة أَمْثَالِهِ مِنْ سَائِرِ الْمُرْسَلِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَرَسُولٌ مِنْ رُسُلِهِ الْكِرَامِ، كَمَا قَالَ: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إسرائيل}، وَقَوْلُهُ: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} أَيْ مُؤْمِنَةٌ بِهِ مُصَدِّقَةٌ لَهُ، وَهَذَا أَعْلَى مَقَامَاتِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَبِيَّةٍ كَمَا زَعَمَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى نُبُوَّةِ سَارَّةَ (أُمِّ إِسْحَاقَ) وَنُبُوَّةِ (أُمِّ مُوسَى) وَنُبُوَّةِ (أُمِّ عِيسَى) اسْتِدْلَالًا مِنْهُمْ بِخِطَابِ الْمَلَائِكَةِ لِسَارَّةَ وَمَرْيَمَ، وَبِقَوْلِهِ: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}، وَهَذَا مَعْنَى النُّبُوَّةِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا مِنَ الرِّجَالِ، قال الله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى}، وَقَدْ حَكَى الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ الله الإجماع على ذلك، وقوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} أَيْ يَحْتَاجَانِ إِلَى التَّغْذِيَةِ بِهِ وَإِلَى خُرُوجِهِ مِنْهُمَا، فَهُمَا عَبْدَانِ كَسَائِرِ النَّاسِ، وَلَيْسَا بِإِلَهَيْنِ كَمَا زَعَمَتْ فِرَقُ النَّصَارَى الْجَهَلَةِ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ} أَيْ نُوَضِّحُهَا وَنُظْهِرُهَا، {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أَيْ ثُمَّ انْظُرْ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ وَالْوُضُوحِ وَالْجَلَاءِ أَيْنَ يَذْهَبُونَ، وَبِأَيِّ قَوْلٍ يَتَمَسَّكُونَ، وَإِلَى أَيِّ مَذْهَبٍ مِنَ الضَّلَالِ يَذْهَبُونَ؟.

- 76 - قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - 77 - قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى مَنْ عَبَدَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ، وَمُبِّينًا لَهُ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ شيئاً من الإلهية، فقال تعالى: {قُلْ} أَيْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَابِدِينَ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ سَائِرِ فِرَقِ بَنِي آدَمَ وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ النَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ {أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} أي لا يقدر على دفع ضر عنكم ولا إيصال نفع إليكم، {والله هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيِ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ الْعَلِيمُ بكل شيء، فلمَ عدلتم عنه إِلَى عِبَادَةِ جَمَادٍ لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلَا يَعْلَمُ شَيْئًا وَلَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا لِغَيْرِهِ وَلَا لِنَفْسِهِ؟ ثُمَّ قَالَ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} أَيْ لَا تُجَاوِزُوا الْحَدَّ فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَلَا تُطْرُوا مَنْ أُمِرْتُمْ بِتَعْظِيمِهِ، فَتُبَالِغُوا فِيهِ حَتَّى تُخْرِجُوهُ عَنْ حَيِّزِ النُّبُوَّةِ إلى مقام الإلهية، كما صنعتم في المسح وَهُوَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَجَعَلْتُمُوهُ إِلَهًا مِنْ دون الله، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخكم شيوخ الضَّلَالِ الَّذِينَ هُمْ سَلَفُكُمْ مِمَّنْ ضَلَّ قَدِيمًا، {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ}، أَيْ وَخَرَجُوا عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ وَالِاعْتِدَالِ إِلَى طَرِيقِ الغواية والضلال.

- 78 - لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ - 79 - كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ - 80 - تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا

قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ - 81 - وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَعَنَ الْكَافِرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ دهر طويل فيما أنزله عَلَى دَاوُدَ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى لِسَانِ عيسى ابن مريم بسبب عصيانهم لله واعتداءهم على خلقه. قال ابن عباس: لعنوا فِي التوراة والإِنجيل وَفِي الزَّبُورِ، وَفِي الْفُرْقَانِ، ثُمَّ بَيَّنَ حَالَهُمْ فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم، فقال تعالى: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانوا يعملون} أَيْ كَانَ لَا يَنْهَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا عَنِ ارْتِكَابِ الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ، ثُمَّ ذَمَّهُمْ عَلَى ذلك ليحذر أن يركب مثل الذي ارتكبوه فَقَالَ: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}، وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لما وقعت بنوا إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فجالسوهم في مجالسهم، وَوَاكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ، فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مَرْيَمَ، {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}» وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: «لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا» وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إن أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كان الرجل يلقى الرجل فيقول: ما هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لاَّ يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَاسِقُونَ}، ثُمَّ قَالَ: كَلَّا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أطراً، أو تقصرنه على الحق قصراً". وَالْأَحَادِيثُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلْنَذْكُرْ مِنْهَا مَا يُنَاسِبُ هَذَا المقام. عن حذيفة ابن الْيَمَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلَا يستجيب لكم» (رواه أحمد والترمذي) وعنعائشة قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم» (رواه ابن ماجة) وفي الصحيح عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمان»، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ، فَلَا يُنْكِرُونَهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الخاصة والعامة» (رواه أحمد) وعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فكرهها، كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فرضيها، كان كمن شهدها» (رواه أبو داود) وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخِدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ خَطِيبًا فَكَانَ فِيمَا قَالَ: «أَلَّا لَا يَمْنَعْنَ رَجُلًا هَيْبَةُ الناس أن يقول الحق إذا علمه»،

فَبَكَى أَبُو سَعِيدٍ، وَقَالَ: قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْنَا أشياء فهبنا، وفي الحديث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة) وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى يُتْرَكُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: «إِذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ» قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا ظَهَرَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَنَا؟ قَالَ: «الْمُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ، وَالْفَاحِشَةُ فِي كِبَارِكُمْ، وَالْعِلْمُ فِي رُذَالِكُمْ» قَالَ زَيْدٌ: تَفْسِيرُ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعِلْمُ فِي رُذَالِكُمْ: إذا كان العلم في الفساق (رواه ابن ماجة) وقوله تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُنَافِقِينَ. وَقَوْلُهُ: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} يَعْنِي بِذَلِكَ مُوَالَاتِهِمْ لِلْكَافِرِينَ وَتَرْكَهُمْ مُوَالَاةَ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي أَعَقَبَتْهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ وَأَسْخَطَتِ اللَّهَ عَلَيْهِمْ سُخْطًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ مَعَادِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وفسر بذلك ما ذمهم به ثم أخبر عنهم أنهم {في العذاب خَالِدُونَ} يعني يوم القيامة. وقوله تَعَالَى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ} أَيْ لَوْ آمنوا حق الإيمان بالله والرسول والقرآن لما ارتكبوا في مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ فِي الْبَاطِنِ وَمُعَادَاةِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ والنبي وما أنزل إليه، {ولمن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أَيْ خَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُخَالِفُونَ لِآيَاتِ وَحْيِهِ وَتَنْزِيلِهِ.

- 82 - لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ - 83 - وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ - 84 - وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ - 85 - فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ - 86 - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ، الَّذِينَ حِينَ تَلَا عَلَيْهِمْ (جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) بِالْحَبَشَةِ الْقُرْآنَ بَكَوْا، حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَقِصَّةُ جَعْفَرٍ مَعَ النَّجَاشِيِّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيرٍ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا: نَزَلَتْ فِي وَفْدٍ بَعَثَهُمُ النَّجَاشِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْمَعُوا كَلَامَهُ وَيَرَوْا صفاته، فلما رأوه وقرأ عليهم الْقُرْآنَ أَسْلَمُوا وَبَكَوْا وَخَشَعُوا. ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى النجاشي فأخبروه. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ أَسْلَمُوا حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مُهَاجِرَةُ الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ قوم كانوا على دين عيسى بن مَرْيَمَ فَلَمَّا رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ وَسَمِعُوا الْقُرْآنَ أَسْلَمُوا وَلَمْ يَتَلَعْثَمُوا، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ هَذِهِ الآيات نَزَلَتْ فِي صِفَةِ أَقْوَامٍ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ سَوَاءٌ كانوا مِنَ الْحَبَشَةِ أَوْ غَيْرِهَا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً

لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} مَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ كُفْرِ اليهود كفر عِنَادٌ وَجُحُودٌ، وَمُبَاهَتَةٌ لِلْحَقِّ، وَغَمْطٌ لِلنَّاسِ، وَتَنَقُّصٌ بِحَمَلَةِ الْعِلْمِ، وَلِهَذَا قَتَلُوا كَثِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، حَتَّى هَمُّوا بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم غير مرة وسمّوه وَسَحَرُوهُ، وَأَلَّبُوا عَلَيْهِ أَشْبَاهَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما خلا يهودي بمسلم قط إلاّ هم بقتله» (رواه الحافظ ابن مردويه) وقوله تعالى: {ولتجدنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} أَيِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ نَصَارَى مِنْ أَتْبَاعِ الْمَسِيحِ وَعَلَى مِنْهَاجِ إِنْجِيلِهِ فِيهِمْ مَوَدَّةٌ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ إِذْ كَانُوا عَلَى دين المسيح من الرقة والأرفة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ورهبانية}، وَفِي كِتَابِهِمْ: مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ الْأَيْمَنِ فَأَدِرْ لَهُ خَدَّكَ الْأَيْسَرَ، وَلَيْسَ الْقِتَالُ مَشْرُوعًا فِي مِلَّتِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} أَيْ يُوجَدُ فِيهِمُ الْقِسِّيسُونَ، وَهُمْ خُطَبَاؤُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ، وَاحِدُهُمْ فسيس وَقَسٌّ أَيْضًا، وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى قُسُوسٍ، وَالرُّهْبَانُ جَمْعُ رَاهِبٍ وَهُوَ الْعَابِدُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّهْبَةِ وهي الخوف كراكب وركبان وفارس وفرسان. قال ابن جرير: وقد يكون الرهبان واحداً وجملة، رهابين، مثل قربان وقرابين، وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى رَهَابِنَةٍ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ الْعَرَبِ وَاحِدًا قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانُ دَيْرٍ فِي الْقُلَلْ * لَانْحَدَرَ الرهبان يمشي ونزل وقال ابن أبي حاتم عن جاثمة بْنِ رِئَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَلْمَانَ، وَسُئِلَ عَنْ قوله: {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} فقال: هُمُ الرُّهْبَانُ الَّذِينَ هُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالْخَرَبِ، فَدَعَوْهُمْ فِيهَا، قَالَ سَلْمَانُ: وَقَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ}، فَأَقْرَأَنِي: «ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ صِدِّيقِينَ وَرُهْبَانًا». فَقَوْلُهُ: {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وهباناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}، تَضَمَّنَ وَصْفَهُمْ بِأَنَّ فِيهِمُ الْعِلْمَ وَالْعِبَادَةَ وَالتَّوَاضُعَ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِالِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَالْإِنْصَافِ، فَقَالَ: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ} أَيْ مِمَّا عِنْدَهُمْ مِنَ الْبِشَارَةِ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أَيْ مَعَ مَنْ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ هَذَا وَيُؤْمِنُ به، وقد روى النسائي عن عبد الله بن الزبير قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّجَاشِيِّ وَفِي أصحابه (قال السهيلي: هم وفد نجران، وكانوا نصارى، فلما سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم بكوا مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق، وآمنوا، وكانوا عشرين رجلاً، وكان قدومهم عليه بمكة، وأما الذين قدموا عليه بالمدينة من النصارى من عند النجاشي فهم آخرون، وفيهم نزل صدر سورة آل عمران، منهم حارثة بن علقمة، وأخوه كرز وأسلم، ولم يسلم حارثة، ومنهم العاقب بن عبد المسيح، وفيهم نزلت: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أبناءنا وأبناءكم}.): {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أَيْ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأمته، هم الشاهدون يشهدون لنبيهم صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ وَلِلرُّسُلِ أَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوا، وكانوا (كَرَابِينَ) يَعْنِي فَلَّاحِينَ قَدِمُوا مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ آمنوا وفاضت أعينهم. قال تعالى: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الحق

وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}، هذا الصِّنْفُ مِنَ النَّصَارَى هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وإنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ} الآية، وهم الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى هَهُنَا: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ فَجَازَاهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ وَاعْتِرَافِهِمْ بِالْحَقِّ، {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ ماكثين فِيهَا أَبَدًا لَا يُحَوَّلُونَ وَلَا يَزُولُونَ، {وَذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ} أَيْ فِي اتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ وَانْقِيَادِهِمْ لَهُ حَيْثُ كَانَ وَأَيْنَ كَانَ وَمَعَ مَنْ كَانَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أَيْ جَحَدُوا بِهَا وَخَالَفُوهَا، {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أَيْ هُمْ أَهْلُهَا والداخلون فيها.

- 87 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ - 88 - وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: نَقْطَعُ مَذَاكِيرَنَا، وَنَتْرُكُ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا، وَنَسِيحُ فِي الْأَرْضِ كَمَا يَفْعَلُ الرُّهْبَانُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فذكر لهم ذلك - قالوا: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لمن يَأْخُذْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حاتم، وروى ابن مردويه نحوه) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَنَامُ وَأَقُومُ وَآكُلُ اللَّحْمَ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مني». وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إني إذا أكلت من هذا اللَّحْمَ انْتَشَرْتُ لِلنِّسَاءِ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ عليَّ اللَّحْمَ، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أحل الله لكم} وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نغزو مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ فَقُلْنَا: أَلَّا نَسْتَخْصِي، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَرَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدِ اللَّهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية، وَهَذَا كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَاللَّهُ أعلم. وعن مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَجِيءَ بِضَرْعٍ فَتَنَحَّى رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: ادْنُ. فَقَالَ: إِنِّي حَرَّمْتُ أَنْ آكُلَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ادْنُ فَاطْعَمْ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لكم} الآية. وقد ذهب بعض الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ إِلَى أَنَّ مَنْ حَرَّمَ مَأْكَلًا أَوْ مَلْبَسًا أَوْ شَيْئًا مَا عَدَا النِّسَاءَ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ عليه أيضاً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}، وَلِأَنَّ الذي حرّم اللحم على نفسه لَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَّارَةٍ؛ وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمُ الْإِمَامُ (أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ} إِلَى أَنَّ مَنْ حَرَّمَ مَأْكَلًا أَوْ مشرباً أو ملبساً أَوْ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَمَا إِذَا الْتَزَمَ تَرْكَهُ باليمين، فكذلك

يُؤَاخَذُ بِمُجَرَّدِ تَحْرِيمِهِ عَلَى نَفْسِهِ إِلْزَامًا لَهُ بِمَا الْتَزَمَهُ كَمَا أَفْتَى بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ثُمَّ قَالَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم} الآية. وكذلك ها هنا لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْحُكْمَ عَقَّبَهُ بِالْآيَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِتَكْفِيرِ الْيَمِينِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْيَمِينِ فِي اقْتِضَاءِ التَّكْفِيرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقال ابن جرير: أراد رجالا مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّ يَتَبَتَّلُوا وَيَخْصُوا أَنْفُسَهُمْ وَيَلْبَسُوا الْمُسُوحَ، فنزلت هذه الآية. وقال ابن جرير عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، وَعَلِيَّ بن أي طَالِبٍ، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَسَالِمًا مولى أبي حذيفة في أصحابه تَبَتَّلُوا، فَجَلَسُوا فِي الْبُيُوتِ، وَاعْتَزَلُوا النِّسَاءَ، وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ، وَحَرَّمُوا طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ إِلَّا مَا يَأْكُلُ وَيَلْبَسُ أَهْلُ السِّيَاحَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، يَقُولُ: لَا تَسِيرُوا بِغَيْرِ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ، يُرِيدُ مَا حَرَّمُوا مِنَ النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَمَا أجمعوا له مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ وَمَا هَمُّوا به من الاختصاء، فَلَمَّا نَزَلَتْ فِيهِمْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ لِأَنْفُسِكُمْ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَعْيُنِكُمْ حَقًّا، صُومُوا وَأَفْطِرُوا، وَصَلُّوا وَنَامُوا، فَلَيْسَ مِنَّا مَنْ تَرَكَ سُنَّتَنَا» فَقَالُوا: اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت. وقوله تعالى: {وَلاَ تَعْتَدُوا} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ: لا تبالغوا في التضييق على أنفسكم بتحريم الْمُبَاحَاتِ عَلَيْكُمْ كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنَ السَّلَفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَمَا لَا تُحَرِّمُوا الْحَلَالَ فَلَا تَعْتَدُّوا فِي تَنَاوُلِ الْحَلَالِ، بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتك وَلَا تُجَاوِزُوا الْحَدَّ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وكلوا واشربوا وَلاَ تسرفوا} وقال: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لم يسرقوا وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} فَشَرْعُ اللَّهِ عَدَلَ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، لَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ وَلِهَذَا قَالَ: {لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ثُمَّ قَالَ: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً} أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهِ حَلَالًا طَيِّبًا، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أَيْ فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ وَاتَّبِعُوا طَاعَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَاتْرُكُوا مُخَالَفَتَهُ وَعِصْيَانَهُ {الَّذِي أَنتُم بِهِ مؤمنون}.

- 89 - لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالْلَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياته لعلكم تشكرون قد تقدم الكلام على اللغو في اليمين في سوروة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنة؛ وأنه قول الرجل في الكام من غير قصد (لا والله، وبلى وَاللَّهِ). وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: هُوَ فِي الْهَزْلِ، وَقِيلَ: فِي الْمَعْصِيَةِ، وَقِيلَ: عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَقِيلَ: في الْيَمِينُ فِي الْغَضَبِ، وَقِيلَ: فِي النِّسْيَانِ، وَقِيلَ: هُوَ الْحَلْفُ عَلَى تَرْكِ الْمَأْكَلِ وَالْمُشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الْيَمِينُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ} أَيْ بِمَا صَمَّمْتُمْ عَلَيْهِ منها وَقَصَدْتُمُوهَا {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} يَعْنِي مَحَاوِيجَ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَمَنْ لَا يَجِدُ مَا يَكْفِيهِ. وقوله:

{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ من أَهْلِيكُمْ} قال ابن عباس: أي من أعدل ما تطعمون أهليكم (وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة)، وقال عطاء: من أمثل ما تطعمون أهليكم. وقد كَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ بَعْضَ أَهْلِهِ قُوتَ دُونٍ، وَبَعْضُهُمْ قُوتًا فِيهِ سَعَةٌ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ ما تعمون أَهْلِيكُمْ} أي من الخبز والزيت. عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} قَالَ: الْخُبْزُ وَالسَّمْنُ، وَالْخُبْزُ وَالزَّيْتُ، وَالْخُبْزُ وَالتَّمْرُ. وَمِنْ أَفْضَل مَا تُطْعِمُونَ أهليكم: الخبز واللحم (وهذا قول ابن سيرين والحسن والضحّاك) وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}، أَيْ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مِقْدَارِ مَا يطعمهم، فقال علي: يغديهم وَيُعَشِّيهِمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: يَكْفِيهِ أَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَكْلَةً وَاحِدَةً خُبْزًا ولحماً فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَخُبْزًا وَسَمْنًا وَلَبَنًا، فَإِنْ لَمْ يَجُدْ فَخُبْزًا وَزَيْتًا وَخَلًّا حَتَّى يَشْبَعُوا. وَقَالَ آخَرُونَ: يُطْعِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَشْرَةِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ تَمْرٍ وَنَحْوِهِمَا (هذا قول عمر وعلي وعائشة ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي والضحاك) وقال أبو حنيفة: نصف صاع بر وصاع مما عداه، لما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَفَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ النَّاسَ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَنِصْفُ صاع من بر؛ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوَاجِبُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْأُدُمِ، وَاحْتَجَّ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي جَامَعَ فِي رمضان بأن يطعم ستين مسكيناً من مكتل يع خمسة عشر صاعاً لكل واحد منهم، وقال أحمد: مُدٌّ مِنْ بُرٍّ أَوْ مُدَّانِ مِنْ غَيْرِهِ والله أعلم (رواه ابن مردويه وأخرجه ابن ماجة وفي سنده ضعف) وقوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ دُفِعَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَشَرَةِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِسْوَةِ مِنْ قَمِيصٍ أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ إِزَارٍ أَوْ عِمَامَةٍ أَوْ مِقْنَعَةٍ أجزأه ذلك، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا بُدَّ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنِ الْكُسْوَةِ مَا يَصِحُّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ إِنْ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً كُلٌّ بِحَسْبِهِ وَاللَّهُ أعلم، وقال الحسن: ثوب ثوب، وقال الثوري: عِمَامَةٌ يَلُفُّ بِهَا رَأْسَهُ وَعَبَاءَةٌ يَلْتَحِفُ بِهَا. وَقَوْلُهُ: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ بإطلاقها فقال: تجزىء الكافرة كما تجزىء الْمُؤْمِنَةُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ: لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً، وَأَخَذَ تَقْيِيدَهَا بِالْإِيمَانِ مِنْ كَفَّارَةِ القتل لا تحاد الموجب، وإن اختلف السبب، ومن حديث معاوية بن الحكم السلمي أنه ذكر أن عليه عتبق رَقَبَةٍ وَجَاءَ مَعَهُ بِجَارِيَةٍ سَوْدَاءَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ اللَّهُ؟» قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: «مَنْ أَنَا» قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» (رواه مسلم ومالك في الموطأ والشافعي في مسنده) الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، فَهَذِهِ خِصَالٌ ثَلَاثٌ فِي كَفَّارَةِ اليمنين أَيُّهَا فَعَلَ الْحَانِثُ أَجْزَأَ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ بدأ بالأسهل فالأسهل، فالإطعام أسهل، وأيسر مِنَ الْكِسْوَةِ، كَمَا أَنَّ الْكِسْوَةَ أَيْسَرُ مِنَ العتق، فيرقى فِيهَا مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، فَإِنْ لَمْ يقدر الملكف عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ كَفَّرَ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ}، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: مَنْ وَجَدَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لَزِمَهُ الإطعام وإلاّ صام، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَجِبُ فِيهَا التَّتَابُعُ أَوْ يستحب ويجزىء التفريق؟ قولان: أحدهما لا يجب، ولهذا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ،

وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى الْمَجْمُوعَةِ وَالْمُفَرَّقَةِ كَمَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أخر} وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي «الْأُمِّ» عَلَى وُجُوبِ التَّتَابُعِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كعب وغيره أنهم كانوا يقرأونها: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} (روى مجاهد والشعبي أنها قراءة عبد الله بن مسعود أيضاً) وَهَذِهِ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا قُرْآنًا مُتَوَاتِرًا فلا أقل أن يكون خبر واحد، أو تفسيراً من الصحابة، وهو في حكم المرفوع وقوله: {ذلك كفاة أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} أي هذه كفارة اليمين الشرعية {واحفظوا أَيْمَانَكُمْ} قال ابن جرير: لا تركوها بِغَيْرِ تَكْفِيرٍ، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} أي يوضحها ويفسرها {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

- 90 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - 91 - إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ - 92 - وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ - 93 - لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ تَعَاطِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَهُوَ الْقِمَارُ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الشِّطْرَنْجُ مِنَ الْمَيْسِرِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، قال مجاهد وعطاء: كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْقِمَارِ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ، حَتَّى لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ. وَرُوِيَ عَنْ رَاشِدِ بن سعد وضمرة بن حبيب مثله، وَقَالَا: حَتَّى الْكَعَابِ وَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ الَّتِي تَلْعَبُ بها الصبيان. وقال ابن عمر وابن عباس: الْمَيْسِرُ هُوَ الْقِمَارُ، كَانُوا يَتَقَامَرُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى مَجِيءِ الْإِسْلَامِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الأخلاق القبيحة. وقال مالك: كَانَ مَيْسِرُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالشَّاةِ والشاتين. وقال الزهري: الميسر الضرب بِالْقِدَاحِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالثِّمَارِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ محمد: كل ما أهلى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ مِنَ الميسر، وكأن المراد بهذا هو النرد ورد الحديث به في صحيح مسلم. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لحم خنزير ودمه» (رواه مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي) وفي موطأ مالك عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَعِبَ النرد فقد عصى الله ورسوله» (ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجة) وَأَمَّا الشِّطْرَنْجُ فَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّهُ شَرٌّ مِنَ النَّرْدِ، وَتَقَدَّمَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ، وَنَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ، وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الْأَنْصَابُ فَقَالَ ابن عباس ومجاهد: هِيَ حِجَارَةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَ قَرَابِينَهُمْ عِنْدَهَا، وَأَمَّا الْأَزْلَامُ فَقَالُوا أَيْضًا: هِيَ قِدَاحٌ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بها، وقوله تعالى: {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان} قال ابن

عَبَّاسٍ: أَيْ سَخَطٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِثْمٌ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَيْ شَرٌّ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، {فَاجْتَنِبُوهُ} الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الرِّجْسِ أَيِ اتْرُكُوهُ، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَهَذَا تَرْغِيبٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَتَرْهِيبٌ. (ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي بَيَانِ تَحْرِيمِ الخمر) قال الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُونَ الْمَيْسِرَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} إِلَى آخر الآية، فقال الناس ما حرما علينا، إنما قال: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كبير ومنافع للناس}، وَكَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ حَتَّى كَانَ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ صَلَّى رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، أَمَّ أَصْحَابَهُ في المغرب، فخلط في قراءته، فأنزل الله آيَةً أَغْلَظَ مِنْهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ}، فكان النَّاسُ يَشْرَبُونَ حَتَّى يَأْتِيَ أَحَدُهُمُ الصَّلَاةَ وَهُوَ مغبق، ثم أنزلت آيَةً أَغْلَظَ مِنْهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قَالُوا: انْتَهَيْنَا رَبَّنَا، وَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَاسٌ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله وماتوا عَلَى سَرَفِهِمْ، كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُونَ الْمُيْسِرَ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ رِجْسًا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ حَرُمَ عليهم لتركوه كما تركتم»، وقال الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فنزلت الآية فِي الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شافياً، فنزلت الآة الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قال: حي على الصلاة نادى: لا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ. فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ التِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدَعِي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ قول الله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}، قال عمر: انتهينا انتهينا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خمسة: الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ. وَالْخَمْرُ مَا خامر العقل وقال البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذَ لَخَمْسَةُ أَشْرِبَةٍ مَا فِيهَا شراب العنب. (حديث آخر): عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ وَعْلَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ؟ فَقَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدِيقٌ مِنْ ثَقِيفٍ أَوْ مِنْ دَوْسٍ، فَلَقِيَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ بِرَاوِيَةِ خَمْرٍ يُهْدِيهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا فُلَانُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا»، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ عَلَى غُلَامِهِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَبِعْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا فُلَانُ بِمَاذَا أَمَرْتَهُ»؟ فَقَالَ: أَمَرْتُهُ أَنْ يَبِيعَهَا، قَالَ: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا» فَأَمَرَ بِهَا فأفرغت في البطحاء (رواه أحمد وأخرجه مسلم والنسائي).

(حديث آخر) قال الحافظ أبو يعلى الموصلي عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يَهْدِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ عَامٍ راوية من خمر (في هذا أن تميماً أسلم سنة تسع من الهجرة وقد حرمت الخمر سنة ثمان كما استظهره الحافظ في الفتح) فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ جَاءَ بِهَا، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ وَقَالَ: «إِنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ بَعْدَكَ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَبِيعُهَا وَأَنْتَفِعُ بِثَمَنِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لعن الله اليهود حرمت عَلَيْهِمْ شُحُومُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَأَذَابُوهُ وَبَاعُوهُ وَاللَّهُ حرم الخمر وثمنها». (حديث آخر): قال الإمام أحمد عن نافع بن كيسان: أن أبيه أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَّجِرُ فِي الْخَمْرِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ وَمَعَهُ خَمْرٌ فِي الزُّقَاقِ، يُرِيدُ بِهَا التِّجَارَةَ، فَأَتَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جِئْتُكَ بِشَرَابٍ طَيِّبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا كَيْسَانُ إِنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ بَعْدَكَ»، قَالَ: فَأَبِيعُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ وَحَرُمَ ثَمَنُهَا» فَانْطَلَقَ كَيْسَانُ إِلَى الزُّقَاقِ فَأَخَذَ بِأَرْجُلِهَا ثم أهراقها. (حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ بن الجراح وأُبي بن كعب وسهيل ابن بَيْضَاءَ وَنَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ، حَتَّى كَادَ الشَّرَابُ يَأْخُذُ مِنْهُمْ، فَأَتَى آتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: أَمَا شَعَرْتُمْ أَنَّ الْخَمْرَ قد حرمت؟ فقالوا: حتى ننظر، ونسأل، فقالوا: يا أنس اسكب مَا بَقِيَ فِي إِنَائِكَ فَوَاللَّهِ مَا عَادُوا فِيهَا، وَمَا هِيَ إِلاَّ التَّمْرُ وَالْبُسْرُ وَهِيَ خمرهم يومئذ (رواه أحمد والشيخان عن أنَس بن مالك) وفي رواية عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ يَوْمَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ فِي بَيْتِ أَبِي طَلْحَةَ وَمَا شرابهم إلى الْفَضِيخُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ، فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي قَالَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ، فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الخمر قد حرمت، فجريت فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا فَهَرَقْتُهَا، فَقَالُوا: أَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ قُتِلَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وعملوا الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا} الآية وعنه قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أُدِيرُ الْكَأْسَ عَلَى أَبِي طلحة وأبي عبيدة بن الجراح وأبي دجانة ومعاذ لبن جبل وسهيل بن بيضاء حتى مالت رؤوسهم من خليط بسرة تمر، فسمعت نادياً ينادي: ألا إن الخمر حُرِّمَتْ، قَالَ: فَمَا دَخَلَ عَلَيْنَا دَاخِلٌ وَلَا خَرَجَ مِنَّا خَارِجٌ حَتَّى أَهْرَقْنَا الشَّرَابَ، وَكَسَرْنَا الْقِلَالَ، وَتَوَضَّأَ بَعْضُنَا، وَاغْتَسَلَ بَعْضُنَا، وَأَصَبْنَا مِنْ طِيبِ أُمِّ سُلَيْمٍ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}، إِلَى قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} فَقَالَ رَجُلٌ: يا رسول الله فما ترى فيمن مات وهو يشربها؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وعملوا الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا} الْآيَةَ، فَقَالَ رَجُلٌ لِقَتَادَةَ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَالَ رَجُلٌ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. مَا كُنَّا نَكْذِبُ وَلَا نَدْرِي مَا الْكَذِبُ (أخرجه ابن جرير من حديث عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنَس بن مالك) (حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ

والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام» (الكوبة: النرد أو الشطرنج، الغبيراء: شراب مسكر يصنع من الذرة) وعن أبي طُعْمَةَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمِرْبَدِ فخرجت معه فكنت عن يمنيه، وَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَتَأَخَّرْتُ عَنْهُ فَكَانَ عَنْ يَمِينِهِ، وَكُنْتُ عَنْ يَسَارِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَتَنَحَّيْتُ لَهُ فَكَانَ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِرْبَدَ، فَإِذَا بِزُقَاقٍ عَلَى الْمِرْبَدِ فِيهَا خَمْرٌ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُدْيَةِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَمَا عَرَفْتُ المدية إلاّ يومئذٍ، فأمر بالزقاق فسقت، ثُمَّ قَالَ: «لُعِنَتِ الْخَمْرُ وَشَارِبُهَا وَسَاقِيهَا وَبَائِعُهَا وَمُبْتَاعُهَا وَحَامِلُهَا وَالْمَحْمُولَةُ إِلَيْهِ وَعَاصِرُهَا وَمُعْتَصِرُهَا وَآكِلُ ثمنها» (رواه الإمام أحمد) (حديث آخر) عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: أنزل فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ آيَاتٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ: وضع رجل من الأنصار طعاماً فدعانها فَشَرِبْنَا الْخَمْرَ، قَبْلَ أَنْ تَحْرُمَ حَتَّى انْتَشَيْنَا فَتَفَاخَرْنَا، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: نَحْنُ أَفْضَلُ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: نَحْنُ أَفْضَلُ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَحْيَ جزور، فضرب به أنف سعد ففزره، وكانت أنف سعد مفزورة، فنزلت: {إِنَّمَا الخمر والميسر}، إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} (رواه البيهقي وأخرجه مسلم) (حديث آخر): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ شَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ ثَمِلَ الْقَوْمُ عَبِثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا أَنَّ صَحُوا جَعَلَ الرَّجُلُ يُرَى الْأَثَرَ بوجهه ورأسه ولحيته، فيقول: صنع بي هذا أَخِي فُلَانٌ، وَكَانُوا إِخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضغائن، فيقول: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ بِي رَؤُوفًا رَحِيمًا مَا صنع بي هذا، حَتَّى وَقَعَتِ الضَّغَائِنُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان} إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} فقال أناس مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ: هِيَ رِجْسٌ وَهِيَ فِي بَطْنِ فُلَانٍ، وَقَدْ قُتِلَ يَوْمَ أُحد، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طعموا} (رواه البيهقي والنسائي) إلى آخر الآية. (حديث آخر): قال ابن جرير عن أبي بريدة عن أبيه قال: بينما نحن قعود على شارب لنا، ونحن على رَمْلَةٌ، وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ وَعِنْدَنَا بَاطِيَةٌ لَنَا وَنَحْنُ نَشْرَبُ الْخَمْرَ حِلًّا، إِذْ قُمْتُ حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمَ عَلَيْهِ، إِذْ نَزْلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}، فَجِئْتُ إلى أصحابي، فقرأتها عليهم، إلى قوله {فَهَلْ أنتم منتهون} قالك وَبَعْضُ الْقَوْمِ شَرْبَتُهُ فِي يَدِهِ قَدْ شَرِبَ بعضها، وبقي بعض في الإناء تَحْتَ شَفَتِهِ الْعُلْيَا كَمَا يَفْعَلُ الْحَجَّامُ ثُمَّ صَبُّوا مَا فِي بَاطِيَتِهِمْ، فَقَالُوا: انْتَهَيْنَا رَبَّنَا. (حديث آخر) قال البخاري عن جابر قال: صبّح (صبَّح بالتشديد ولفظه في كتاب المغازي اصطبح الخمر يوم اُحُد ناس ثم قتلوا شهداء، والتصبيح الشرب في الصباح) أناس غداة أُحُد فَقُتِلُوا مِنْ يَوْمِهِمْ جَمِيعًا شُهَدَاءَ، وَذَلِكَ قَبْلَ تحريمها. (حديث آخر): قال أبو داود الطيالسي عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالُوا: كَيْفَ بِمَنْ كَانَ يَشْرَبُهَا قَبْلَ أَنْ تَحْرُمَ؟ فَنَزَلَتْ {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ. (حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَيْتَامٍ فِي حِجْرِهِ وَرِثُوا خَمْرًا، فَقَالَ: «أَهْرِقْهَا» قَالَ: أَفَلَا نَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: «لَا».

(حديث آخر): عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ» (أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مالك). وعن نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ» (رواه الإمام مسلم). (حديث آخر): عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ، ولا عاق، ولا مدمن خمر» (رواه النسائي وأحمد) وقال الزهري عن عثمان بن عفان قال: "اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ، إِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ فِيمَنْ خَلَا قَبْلَكُمْ يَتَعَبَّدُ وَيَعْتَزِلُ النَّاسَ فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها أن تدعوه لِشَهَادَةٍ فَدَخَلَ مَعَهَا، فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ، حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ عِنْدَهَا غُلَامٌ وَبَاطِيَةُ خَمْرٍ، فَقَالَتْ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا دَعَوْتُكَ لِشَهَادَةٍ، وَلَكِنْ دَعَوْتُكَ لِتَقَعَ عَلَيَّ، أَوْ تَقْتُلَ هَذَا الْغُلَامَ، أَوْ تَشْرَبَ هَذَا الْخَمْرَ. فَسَقَتْهُ كَأْسًا فَقَالَ: زِيدُونِي، فَلَمْ يَرِمْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ النَّفْسَ. فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا لَا تَجْتَمِعُ هِيَ وَالْإِيمَانُ أَبَدًا إِلَّا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه" وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ سَرِقَةً حِينَ يَسْرِقُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن». قال الإمام أحمد عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَرْضَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً إِنْ مَاتَ؛ مَاتَ كَافِرًا، وَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ»، قَالَتْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قال: «صديد أهل النار».

- 94 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 95 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ قَالَ ابْنُ عباس في قَوْلُهُ: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} قَالَ: هُوَ الضَّعِيفُ مِنَ الصَّيْدِ وصغيره، يبتلي الله بن عباده في إحرامهم حتى لو شاءوا لتناولوه بِأَيْدِيهِمْ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَقْرَبُوهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} يَعْنِي صِغَارَ الصَّيْدِ وَفِرَاخَهُ، {وَرِمَاحُكُمْ} يعني كباره، وقال مقاتل بن حيان: أنزل هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَكَانَتِ الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ وَالصَّيْدُ تَغْشَاهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ فِيمَا خَلَا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يَبْتَلِيهِمْ بِالصَّيْدِ يَغْشَاهُمْ فِي رِحَالِهِمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَخْذِهِ بِالْأَيْدِي وَالرِّمَاحِ سراً وجهراً، لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره أو جهره، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ

رَبَّهُم بالغيب لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وقوله ها هنا: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ}، قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي بَعْدَ هَذَا الْإِعْلَامِ وَالْإِنْذَارِ وَالتَّقَدُّمِ {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أَيْ لِمُخَالَفَتِهِ أَمْرَ اللَّهِ وَشَرْعَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}، وَهَذَا تَحْرِيمٌ مِنْهُ تَعَالَى لِقَتْلِ الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ وَنُهِيَ عَنْ تَعَاطِيهِ فِيهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ من حيث المعنى المأكول، ولو ما تولد مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولِ مِنْ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِهَا أَيْضًا، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَمْسُ فَوَاسَقَ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ" وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ والحدأة والفأرة والكلب العقور". قال أيوب: فقلت لِنَافِعٍ فَالْحَيَّةُ؟ قَالَ: الْحَيَّةُ لَا شَكَّ فِيهَا وَلَا يُخْتَلَفُ فِي قَتْلِهَا؛ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ مَنْ أَلْحَقَ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ «الذِّئْبَ وَالسَّبُعَ وَالْفَهْدَ» لِأَنَّهَا أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقال زيد بْنُ أَسْلَمَ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ يَشْمَلُ هَذِهِ السِّبَاعَ الْعَادِيَةَ كُلَّهَا، وَاسْتَأْنَسَ مَنْ قَالَ بِهَذَا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَا عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ قَالَ: "اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ بِالشَّامِ، فأكله السبع بالزرقاء. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ ما قتل من النعم} الذي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْعَامِدَ وَالنَّاسِيَ سَوَاءٌ فِي وجوب الجزاء عليه، وقال الزُّهْرِيُّ: دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى الْعَامِدِ وَجَرَتِ السُّنَّةُ عَلَى النَّاسِي، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ وَعَلَى تَأْثِيمِهِ بِقَوْلِهِ: {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} وَجَاءَتِ السُّنَّةُ مِنْ أَحْكَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْكَامِ أَصْحَابِهِ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي الْخَطَأِ كَمَا دَلَّ الْكِتَابُ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ، وَأَيْضًا فإن قتل الصيد إتلاف مَضْمُونٌ فِي الْعَمْدِ وَفِي النِّسْيَانِ، لَكِنَّ الْمُتَعَمِّدَ مأثوم والمخطىء غير ملوم، وقوله تَعَالَى: {فجزاءٌ مثلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} قرأ بعضهم بالإضافة، وقرأ آخرون بعطفها، وحكى ابن جرير أن ابن مسعود قرأ: {فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} وَفِي قَوْلِهِ: {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} عَلَى كُلٍّ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ دَلِيلٌ لِمَا ذَهَبَ إليه الجمهور مِنْ وُجُوبِ الْجَزَاءِ مِنْ مِثْلِ مَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ إِذَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ مِنَ الْحَيَوَانِ الْإِنْسِيِّ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ أَوْجَبَ الْقِيمَةَ سَوَاءٌ كَانَ الصَّيْدُ الْمَقْتُولُ مِثْلِيًّا أو غير مثلي. وقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} يَعْنِي أَنَّهُ يحكم بالجزاء في المثل أو بالقيمة من غَيْرِ الْمَثَلِ عَدْلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَاتِلِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا): لَا، لِأَنَّهُ قَدْ يُتَّهَمُ فِي حُكْمِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، (وَالثَّانِي): نَعَمْ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشافعي وأحمد، قال ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: أن أعرابياً أتى أبا بكر فقال: قَتَلْتُ صَيْدًا وَأَنَا مُحْرِمٌ، فَمَا تَرَى عَلَيَّ مِنَ الْجَزَاءِ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَهُ: ما ترى فيها؟ قَالَ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: أَتَيْتُكَ وَأَنْتَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُكَ، فَإِذَا أَنْتَ تَسْأَلُ غَيْرَكَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا تُنْكِرُ؟ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ}، فَشَاوَرْتُ صَاحِبِي، حَتَّى إِذَا اتَّفَقْنَا عَلَى أمر أمرناك بِهِ (قال ابن كثير: وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ لَكِنَّهُ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ مَيْمُونٍ والصدّيق) فبين

لَهُ الصِّدِّيقُ الْحُكْمَ بِرِفْقٍ وَتُؤَدَةٍ لَمَّا رَآهُ أعرابياً جاهلاً، وإنما دواء الجهل التعليم. وقال ابن جرير عن أبي وائل، أخبرني ابن جَرِيرٍ الْبَجَلِيُّ قَالَ: أَصَبْتُ ظَبْيًا وَأَنَا مُحْرِمٌ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَقَالَ: ائْتِ رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِكَ فَلْيَحْكُمَا عَلَيْكَ، فَأَتَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَسَعْدًا، فحكما علي بتيس أعفر. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ تُسْتَأْنَفُ الْحُكُومَةُ فِي كُلِّ مَا يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ، فَيَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ ذَوَا عدل، وإن كان قد حكم في مثله الصَّحَابَةُ، أَوْ يَكْتَفِي بِأَحْكَامِ الصَّحَابَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يُتْبَعُ فِي ذَلِكَ مَا حَكَمَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ وَجَعَلَاهُ شَرْعًا مُقَرَّرًا لَا يُعْدَلُ عَنْهُ وَمَا لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ الصَّحَابَةُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى عَدْلَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: بَلْ يَجِبُ الْحُكْمُ فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرَدٍ سَوَاءٌ وُجِدَ لِلصَّحَابَةِ فِي مِثْلِهِ حُكْمٌ أَمْ لَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أَيْ وَاصِلًا إِلَى الْكَعْبَةِ، وَالْمُرَادُ وُصُولُهُ إِلَى الْحَرَمِ بِأَنْ يُذْبَحَ هُنَاكَ وَيُفَرَّقَ لَحْمُهُ على مساكين الحرم، وهذا أم مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} أَيْ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُحْرِمُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ أَوَ لَمْ يَكُن الصَّيْدُ الْمَقْتُولُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، أَوْ قُلْنَا بِالتَّخْيِيرِ في هذ المقام بين الْجَزَاءِ وَالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وأبي حنيفة وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُمُ الله، لظاهر «أو» بأنها للتخيير. والقول الآخر عَلَى التَّرْتِيبِ: فَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى الْقِيمَةِ، فَيُقَوَّمُ الصَّيْدُ الْمَقْتُولُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حنيفة وأصحابه، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقَوَّمُ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ لَوْ كان موجوداً، ثم يشتري به طعام فيتصدق بِهِ فَيُصْرَفُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌ مِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَفُقَهَاءِ الْحِجَازِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يُطْعَمُ كُلُّ مِسْكِينٍ مَدَيْن، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ مُدَّانِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَوْ قُلْنَا بِالتَّخْيِيرِ صَامَ عَنْ إطعام كل مسكين يوماً، وَاخْتَلَفُوا فِي مَكَانِ هَذَا الْإِطْعَامِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مكانه الْحَرَمُ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُطْعَمُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَ فِيهِ الصَّيْدَ أَوْ أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ إِلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ شَاءَ أَطْعَمَ فِي الْحَرَمِ وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ في غيره. وقوله تعالى: {ليذوق وباب أَمْرِهِ} أَيْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ لِيَذُوقَ عُقُوبَةَ فِعْلِهِ الَّذِي ارْتَكَبَ فِيهِ الْمُخَالَفَةَ، {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف} أَيْ فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ لِمَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ وَاتَّبَعَ شَرْعَ اللَّهِ وَلَمْ يَرْتَكِبِ الْمَعْصِيَةَ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَن عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} أَيْ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَبُلُوغِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِلَيْهِ {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مَا {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف}؟ قَالَ: عَمَّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ، قُلْتُ: وَمَا {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}؟ قَالَ: وَمَنْ عَادَ فِي الْإِسْلَامِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ الْكَفَّارَةُ، قال، قلت: فهل في العود من حَدٌّ تَعْلَمُهُ! قَالَ: لَا، قَالَ، قُلْتُ: فَتَرَى حَقًّا عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُعَاقِبَهُ؟ قَالَ: لَا، هُوَ ذَنْبٌ أَذْنَبَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنْ يَفْتَدِي، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ بِالْكَفَّارَةِ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ، ثُمَّ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: عَلَى أَنَّهُ مَتَى قَتَلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ وَجَبَ الْجَزَاءُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأُولَى والثانية والثالثة، وإن تَكَرَّرَ سَوَاءٌ الْخَطَأُ فِي ذَلِكَ وَالْعَمْدُ. وَقَالَ ابن جرير عن ابن عباس فيمن أصاب صيداً يحكم عَلَيْهِ ثُمَّ عَادَ، قَالَ: لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ، ينتقم الله منه (وبه قَالَ شُرَيْحٌ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ البصري واختار ابن جرير القول الأول) قوله {والله عَزِيزٌ ذُو انتقام}

أي: وَاللَّهُ مَنِيعٌ فِي سُلْطَانِهِ لَا يَقْهَرُهُ قَاهِرٌ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنَ الِانْتِقَامِ مِمَّنِ انْتَقَمَ مِنْهُ، ولا من عقوبة من أرد عُقُوبَتَهُ مَانِعٌ لِأَنَّ الْخَلْقَ خَلْقُهُ، وَالْأَمْرَ أَمْرُهُ، لَهُ الْعِزَّةُ وَالْمَنَعَةُ. وَقَوْلُهُ: {ذُو انْتِقَامٍ} يَعْنِي أَنَّهُ ذُو مُعَاقَبَةٍ لِمَنْ عَصَاهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ إياه.

- 96 - أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ - 97 - جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ - 98 - اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ - 99 - مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تبدون وما تكتمون قال ابن عباس وسعيد بن جبير في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر} يَعْنِي مَا يَصْطَادُ مِنْهُ طَرِيًّا {وَطَعَامُهُ} مَا يَتَزَوَّدُ مِنْهُ مَلِيحًا يَابِسًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ: صَيْدُهُ مَا أُخِذَ مِنْهُ حَيًّا {وَطَعَامُهُ} مَا لَفَظَهُ مَيِّتًا (وَهَكَذَا روي عن أبي بكر وزيد بن ثابت وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ) قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عيينة عن أبي بكر الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ: {طَعَامُهُ} كُلُّ مَا فِيهِ. وقال ابن جرير خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ فَقَالَ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ} وَطَعَامُهُ مَا قُذِفَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طعامه ما لفظ من ميتة. وقال ابن جرير أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّ الْبَحْرَ قَدْ قَذَفَ حيتاناً كثيرة ميتة أفنأكلها كلها؟ فقال: لا تأكلوها، فَلَمَّا رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى أَهْلِهِ أَخَذَ المصحف فقرأ سورة المائدة، فأتة هَذِهِ الْآيَةَ: {وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} فَقَالَ: اذْهَبْ، فَقُلْ لَهُ فَلْيَأْكُلْهُ فَإِنَّهُ طَعَامُهُ، وَهَكَذَا اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِطَعَامِهِ مَا مات فيه. وَقَوْلُهُ: {مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} أَيْ مَنْفَعَةً وَقُوتًا لكم أيها المخاطبون، {وَلِلسَّيَّارَةِ} وهم جَمْعُ سَيَّارٍ، قَالَ عِكْرِمَةُ: لِمَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ البحر والسفر. وَقَالَ غَيْرُهُ. الطَّرِيُّ مِنْهُ لِمَنْ يَصْطَادُهُ مِنْ حاضرة البحر، وطعامه ما مات فيه أن اصطيد منه وملح، وقد يكون زاداً للمسافرين والنائين عن البحر. وقد استدل الجمهور على حل ميتته بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَبِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا قِبَل السَّاحِلِ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجراح، وهم ثلثمائة، وَأَنَا فِيهِمْ، قَالَ فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ، قَالَ: فَكَانَ يُقَوِّتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى فَنِيَ، فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إلاّ تمرة تَمْرَةٌ، فَقَالَ: فَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ، قَالَ: ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا حُوتٌ مثل الظَّرِب (الجبل الصغير) فَأَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجَيْشُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلْعَيْنِ مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنُصِبَا، ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ، فَرُحِلَتْ وَمَرَّتْ تَحْتَهُمَا فَلَمْ تُصِبْهُمَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَهُ طُرُقٌ عَنْ جَابِرٍ.

وفي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ: فَإِذَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مِثْلُ الكثيب الضخم، فأتينها فَإِذَا بِدَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ، قَالَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيِّتَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا، نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا، قَالَ: فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا ونحن ثلثمائة حَتَّى سَمِنَّا، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْتَرِفُ مِنْ وَقْبِ عينيه بالقلال الدهن، ويقتطع منه القدر كالثور، قَالَ: وَلَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلَاثَةَ عشر رجلاً، فأقعدهم في وقب عينيه، وَأَخَذَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَأَقَامَهَا، ثُمَّ رَحَلَ أعظم بعير معنا فمر من تحته، وتزودنا من لحمه وشائق (شرائح) فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ، هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا؟» قَالَ: فَأَرْسَلْنَا إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله. وقال مالك سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ توضأنا عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحل ميتته» (رواه مالك وأصحاب السنن وصححه البخاري والترمذي) وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ تُؤْكَلُ دَوَابُّ الْبَحْرِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ: طَعَامُهُ كُلُّ مَا فِيهِ، وَقَدِ اسْتَثْنَى بَعْضُهُمُ الضَّفَادِعَ وَأَبَاحَ مَا سِوَاهَا، لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ والنسائي عن أبي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَتْلِ الضِّفْدِعِ، وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الضِّفْدِعِ، وَقَالَ: نَقِيقُهَا تسبح وَقَالَ آخَرُونَ: يُؤْكَلُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ السَّمَكُ، وَلَا يُؤْكَلُ الضِّفْدِعُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهُمَا فَقِيلَ: يُؤْكَلُ سَائِرُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لَا يُؤْكَلُ، وَقِيلَ: مَا أُكِلَ شَبَهَهُ مِنَ الْبَرِّ أُكِلَ مِثْلُهُ فِي الْبَحْرِ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ شَبَهُهُ لَا يُؤْكَلُ وَهَذِهِ كُلُّهَا وُجُوهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رحمة الله تعالى: وقال أبو حنيفة رحمة الله تعالى: لَا يُؤْكَلُ مَا مَاتَ فِي الْبَحْرِ كَمَا لَا يُؤْكَلُ مَا مَاتَ فِي الْبَرِّ، لِعُمُومِ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ بِنَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ مردويه عَنْ جَابِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا صِدْتُمُوهُ وَهُوَ حَيٌّ فَمَاتَ فَكُلُوهُ وَمَا أَلْقَى الْبَحْرُ مَيِّتًا طَافِيًا فلا تأكلوه». وَقَدِ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ بِحَدِيثِ الْعَنْبَرِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَبِحَدِيثِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»، وَقَدْ تقدم أيضاً. وروى الإمام الشافعي عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا متتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» (ورواه أحمد وابن ماجه والدارقطني والبهيقي وله شواهد) وَقَوْلُهُ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} أي في حلا إِحْرَامِكُمْ يَحْرُمُ عَلَيْكُمُ الِاصْطِيَادُ، فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمٍ ذَلِكَ، فَإِذَا اصْطَادَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ مُتَعَمِّدًا أَثِمَ وَغُرِّمَ، أَوْ مُخْطِئًا غُرِّمَ وَحَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ كَالْمَيْتَةِ، وَكَذَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْمُحْرِمِينَ وَالْمُحِلِّينَ عِنْدَ مَالِكٍ والشافعي في أحد قوليه. فَإِنْ أَكَلَهُ أَو شَيْئًا مِنْهُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ جزاء ثان؟ فيه قولان للعلماء (أحدهما): نعم وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَائِفَةٌ (وَالثَّانِي): لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ في أكله، نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَعَلَى هَذَا مَذَاهِبُ فقهاء الأمصار وجمهور العلماء، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ وَأَمَّا إِذَا صَادَ حَلَالٌ صَيْدًا فَأَهْدَاهُ إِلَى مُحْرِمٍ، فَقَدْ ذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى إِبَاحَتِهِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَسْتَفْصِلُوا بَيْنَ

أن يكون قد صاده من أجله أم لا، وبه قال الكوفيون، قال ابن جرير عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لَحْمِ صَيْدٍ صَادَهُ حَلَالٌ أَيَأْكُلُهُ الْمُحْرِمُ؟ قَالَ: فَأَفْتَاهُمْ بِأَكْلِهِ، ثُمَّ لَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ: لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ هَذَا لَأَوْجَعْتُ لَكَ رَأْسَكَ وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجُوزُ أَكْلُ الصَّيْدِ لِلْمُحْرمِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا لِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. روي عن ابن عباس: أنه كره أكل الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ، وَقَالَ: هِيَ مُبْهَمَةٌ، يَعْنِي قَوْلَهُ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} وعن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ عَلَى كُلِّ حَالٍ (وبهذا قال طاووس وجابر بن زيد وإليه ذهب الثوري) وقد روي أن علياً كره أكل لَحْمَ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وَالْجُمْهُورُ: إِنْ كَانَ الْحَلَالُ قَدْ قَصَدَ الْمُحْرِمَ بِذَلِكَ الصَّيْدِ لَمْ يَجُزْ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ، لِحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَنَّهُ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحَشِيًا، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلاّ أنَّا حُرُم» (الحديث مروي فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَهُ أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ) قَالُوا: فَوَجْهُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنَّ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا صَادَهُ مِنْ أَجْلِهِ فَرَدَّهُ لذلك، فأما إذا لم يقصده بالإصطاد، فإنه يجوز له الأكل منه، لحديث أبوي قتادة حين صاد حمار وحش وكان حلالاً لم يحرم وكان أصحابه محرمين، فتوفقوا فِي أَكْلِهِ، ثُمَّ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «هَلْ كَانَ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَشَارَ إِلَيْهَا أَوْ أَعَانَ فِي قَتْلِهَا»؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَكُلُوا»، وَأَكَلَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ ثابتة أيضاً في الصحيحين بألفاظ كثيرة.

- 100 - قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - 101 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ - 102 - قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ يقول اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ {لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ} أَيْ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ {كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (أخرج الواحدي: أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ تحريم الخمر، فقال أعرابي: إني كنت رجلاً كانت هذه تجارتي فاعتقت منها مالاً، فهل ينفع ذلك المال إن عملت بطاعة اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يقبل إلا الطيب»، فأنزل الله: {قُلْ لا يستوي} الآية كما في «اللباب». يَعْنِي أَنَّ الْقَلِيلَ الْحَلَالَ النَّافِعَ خَيْرٌ مِنَ الْكَثِيرِ الْحَرَامِ الضَّارِّ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى». وقال أبو القاسم البغوي عن أُبي أمامة: إن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يرزقني مالاً، فقال النبي صلى الله عليهو سلم: «قليل تؤدي شكره خير من كثير لاتطيقه»، {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} أَيْ يَا ذَوِي الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَتَجَنَّبُوا الْحَرَامَ وَدَعُوهُ وَاقْنَعُوا بِالْحَلَالِ وَاكْتَفُوا بِهِ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} هَذَا تَأْدِيبٌ

مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَهْيٌ لَهُمْ عن أن يسألوه عَنْ أَشْيَاءَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي السُّؤَالِ وَالتَّنْقِيبِ عَنْهَا، لِأَنَّهَا إِنْ أُظْهِرَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْأُمُورُ رُبَّمَا سَاءَتْهُمْ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ سَمَاعُهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ»، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ عن أنس بن مالك قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبة ما سمعت مثلها قط، وقال فيها: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا». قَالَ فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوهَهُمْ، لَهُمْ حَنِينٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: «فَلَانٌ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية: {لا تسألوا عن أَشْيَآءَ}، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غَضْبَانُ مُحْمَارٌّ وَجْهُهُ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فقال: أين أبي؟ قال: «فِي النَّارِ»، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: «أَبُوكَ حُذَافَةُ»، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، إِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَشِرْكٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَنْ آبَاؤُنَا. قَالَ: فَسَكَنَ غَضَبُهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أشيآء إن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية، إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُرْسَلَةً غير واحد من السلف، منهم السدي. قال البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ كُلِّهَا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ السُّؤَالِ عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي إِذَا عَلِمَ بِهَا الشَّخْصُ سَاءَتْهُ، فَالْأَوْلَى الْإِعْرَاضُ عَنْهَا وَتَرَكُهَا، وَمَا أَحْسَنَ الْحَدِيثِ الَّذِي رواه الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ»، الحديث. وقوله تعالى: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} أَيْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نُهِيتُمْ عَنِ السُّؤَالِ عَنْهَا حِينَ يَنْزِلُ الْوَحْيِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم تُبَيَّنُ لَكُمْ، وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، ثُمَّ قَالَ: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أَيْ عَمَّا كَانَ مِنْكُمْ قَبْلَ ذَلِكَ {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} وَقِيلَ المراد بقوله: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} أَيْ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ تَسْتَأْنِفُونَ السُّؤَالَ عَنْهَا فَلَعَلَّهُ قَدْ يَنْزِلُ بِسَبَبِ سُؤَالِكُمْ تَشْدِيدٌ أَوْ تَضْيِيقٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ»، وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا مُجْمَلَةً فَسَأَلْتُمْ عَنْ بيانها بينت لكم حينئذٍ لِاحْتِيَاجِكُمْ إِلَيْهَا، {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أَيْ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ فَاسْكُتُوا أَنْتُمْ عَنْهَا كَمَا سَكَتَ عَنْهَا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «ذروني وما تركتكم، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ»، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا: «إن الله تعالى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَسْأَلُوا عنها» ثم قال تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ} أَيْ قَدْ سَأَلَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ فَأُجِيبُوا عَنْهَا ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا فَأَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ، أي بسببها، أي بينت لهم فلم يَنْتَفِعُوا بِهَا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا عَلَى وَجْهِ الاسترشاد بل على وجه الاستهزاء والعناد. وقال العوفي عن ابن عباس في الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَذَّنَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: «يَا قَوْمِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ» فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَأُغْضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قلت: نعم،

لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وإذًا لَكَفَرْتُمْ فَاتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَافْعَلُوا، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ"، فَأَنْزَلَ الله هذه الآية، نَهَاهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ مِثْلِ الَّذِي سَأَلَتِ عنه النَّصَارَى مِنَ الْمَائِدَةِ فَأَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ فِيهَا بِتَغْلِيظٍ سَاءَكُمْ ذَلِكَ، وَلَكِنِ انْتَظَرُوا، فَإِذَا نَزَلَ الْقُرْآنُ فَإِنَّكُمْ لا تسألون عن شيء إلاّ وجدتم بيانه. ثُمَّ قَالَ: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ} روي عن عِكْرِمَةُ رَّحْمَةِ اللَّهُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا النَّهْيِ عَنْ سُؤَالِ وُقُوعِ الْآيَاتِ، كَمَا سَأَلَتْ قُرَيْشٌ أَنْ يُجْرِيَ لَهُمْ أَنْهَارًا وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَمَا سَأَلَتِ الْيَهُودُ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَن كذَّب بِهَا الْأَوَّلُونَ} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.

- 103 - مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ - 104 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً ولا يهتدون قال البخاري عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ درُّها لِلطَّوَاغِيتِ فَلَا يحلبها أحد من الناس، والسائبة: كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ. قَالَ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عامر الخزاعي يجر قُصْبَه (أمعاءه) فِي النَّارِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سيَّب السَّوَائِبَ» والوصيلة: النَّاقَةُ الْبِكْرُ تُبَكِّرُ فِي أَوَّلِ نِتَاجِ الْإِبِلِ، ثُمَّ تُثَنِّي بَعْدُ بِأُنْثَى، وَكَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ إِنْ وَصَلَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ؛ والحام: فَحْلُ الْإِبِلِ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَ، فَإِذَا قَضَى ضِرَابَهُ وَدَعُوهُ لِلطَّوَاغِيتِ، وَأَعْفَوْهُ عَنِ الْحَمْلِ، فَلَمْ يحمل عليه شيء، وسموه الحامي. ثم قال البخاري عن الزهري عن عروة، أن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَرَأَيْتُ عَمْرًا يَجُرُّ قُصْبَهُ وهو أول من سيَّب السوائب». وقال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سيَّب السَّوَائِبَ وَعَبَدَ الْأَصْنَامَ أَبُو خُزَاعَةَ عمرو ابن عَامِرٍ، وَإِنِّي رَأَيْتُهُ يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ فِي النَّارِ» (تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) وَقَالَ عبد الرزاق عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ أَوَّلَ مَنْ سيَّب السَّوَائِبَ، وَأَوَّلَ مَنْ غيَّر دين إبراهيم عليه السلام» قالوا: ومن هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ أَخُو بَنِي كَعْبٍ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَجُرُّ قصبه في النار تؤذي رائحته أَهْلَ النَّارِ، وَإِنِّي لَأَعْرِفُ أَوَّلَ مَنْ بَحَّرَ البحائر»، قالوا: ومن هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، كَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ، فَجَدَعَ آذَانَهُمَا، وَحَرَّمَ أَلْبَانَهُمَا، ثُمَّ شَرِبَ أَلْبَانَهُمَا، بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ وَهُمَا يَعَضَّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا ويطآنه فأخفافهما»، فَعَمْرُو هَذَا هُوَ ابْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ أَحَدُ رُؤَسَاءِ خُزَاعَةَ الَّذِينَ وُلُّوا الْبَيْتَ بَعْدَ جُرْهُمٍ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ غيَّر دِينَ إِبْرَاهِيمَ

الْخَلِيلِ، فَأَدْخَلَ الْأَصْنَامَ إِلَى الْحِجَازِ، وَدَعَا الرَّعَاعَ مِنَ النَّاسِ إِلَى عِبَادَتِهَا وَالتَّقَرُّبِ بِهَا، وَشَرَعَ لَهُمْ هَذِهِ الشَّرَائِعَ الْجَاهِلِيَّةَ فِي الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نصيباً} إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ. فَأَمَّا الْبَحِيرَةُ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هِيَ النَّاقَةُ إِذَا نَتَجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ نَظَرُوا إِلَى الْخَامِسِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا ذَبَحُوهُ فَأَكَلَهُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى جَدَعُوا آذَانَهَا، فَقَالُوا: هَذِهِ بَحِيرَةٌ وَذَكَرَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ قَرِيبًا مِنْ هَذَا، وَأَمَّا السَّائِبَةُ: فَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مِنَ الْغَنَمِ نَحْوَ مَا فُسِّرَ مِنَ الْبَحِيرَةِ، إِلَّا أَنَّهَا مَا وُلِدَتْ مِنْ وَلَدٍ كان بينها وبينه ستة أولاد كانت عَلَى هَيْئَتِهَا، فَإِذَا وَلَدَتِ السَّابِعَ ذَكَرًا أَوْ ذَكَرَيْنِ ذَبَحُوهُ فَأَكَلَهُ رِجَالُهُمْ دُونَ نِسَائِهِمْ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: السَّائِبَةُ: هِيَ النَّاقَةُ إِذَا وَلَدَتْ عَشْرَ إِنَاثٍ مِنَ الْوَلَدِ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ سُيِّبَتْ فَلَمْ تُرْكَبْ وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرُهَا ولم يحلب لبنها إلاّ لضيف. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: السَّائِبَةُ، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا خَرَجَ فَقُضِيَتْ حَاجَتُهُ سَيَّبَ مِنْ مَالِهِ نَاقَةً أَوْ غَيْرَهَا فَجَعَلَهَا لِلطَّوَاغِيتِ، فَمَا وَلَدَتْ مِنْ شَيْءٍ كَانَ لَهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا قُضِيَتْ حَاجَتُهُ أَوْ عُوفِيَ مِنْ مَرَضٍ أَوْ كَثُرَ مَالُهُ سيَّب شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لِلْأَوْثَانِ، فَمَنْ عَرَضَ لَهُ مِنَ النَّاسِ عُوقِبَ بِعُقُوبَةٍ فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ، فَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الشَّاةُ إِذَا نَتَجَتْ سَبْعَةَ أُبْطُنٍ نَظَرُوا إِلَى السَّابِعِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَهُوَ مَيِّتٌ اشْتَرَكَ فِيهِ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى اسْتَحْيَوْهَا، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وأنثى في بطن واحد استحيوهما وقالوا وصلته أخته فحرمته علينا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: الْوَصِيلَةُ مِنَ الْغَنَمِ إِذَا وَلَدَتْ عَشْرَ إِنَاثٍ فِي خَمْسَةِ أَبْطُنٍ تَوْأَمَيْنِ تَوْأَمَيْنِ فِي كُلِّ بَطْنٍ سُمِّيَتِ الْوَصِيلَةَ وَتُرِكَتْ، فَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى جُعِلَتْ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، وَإِنْ كانت ميته اشتركوا فيها. وأما الحامي، فقال ابن عباس: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا لَقَّحَ فَحْلَهُ عَشْرًا قِيلَ حام فاتركوه، وكذا قال قتادة، وروي عنه أن الحام: الفحل مِنَ الْإِبِلِ إِذَا وُلِدَ لِوَلَدِهِ، قَالُوا حَمَى هَذَا ظَهْرَهُ فَلَا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا وَلَا يَجُزُّونَ لَهُ وَبَرًا، وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ حِمَى رَعْيٍ وَمِنْ حَوْضٍ يَشْرَبُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْحَوْضُ لِغَيْرِ صَاحِبِهِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: أَمَّا الْحَامِ فَمِنَ الْإِبِلِ كَانَ يَضْرِبُ فِي الْإِبِلِ، فَإِذَا انْقَضَى ضِرَابُهُ جَعَلُوا عَلَيْهِ رِيشَ الطَّوَاوِيسِ وَسَيَّبُوهُ. وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ ذلك في تفسير هذه الآية. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} أَيْ مَا شَرَعَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَلَا هي عنده قربة، ولكن المشركون افْتَرَوْا ذَلِكَ وَجَعَلُوهُ شَرْعًا لَهُمْ وَقُرْبَةً يَتَقَرَّبُونَ بها إليه، وليس ذلك بحاصل بَلْ هُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِمْ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} أَيْ إِذَا دُعُوا إِلَى دِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ وَمَا أوجبه وتكر مَا حَرَّمَهُ قَالُوا: يَكْفِينَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ الْآبَاءَ وَالْأَجْدَادَ مِنَ الطَّرَائِقِ وَالْمَسَالِكِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} أَيْ لَا يَفْهَمُونَ حَقًّا وَلَا يَعْرِفُونَهُ وَلَا يهتدون إليه، فكيف يتبعونها وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَا يَتْبَعُهُمْ إِلاَّ مَنْ هُوَ أَجْهَلُ مِنْهُمْ وَأَضَلُّ سَبِيلًا؟

- 105 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُصْلِحُوا أَنْفُسَهُمْ وَيَفْعَلُوا الْخَيْرَ بِجُهْدِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ، وَمُخْبِرًا لَهُمْ أَنَّهُ مَنْ أَصْلَحَ أَمْرَهُ لَا يَضُرُّهُ فَسَادُ مَنْ فَسَدَ مِنَ النَّاسِ، سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا منه أو بعيداً. قال ابن عباس في تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، يَقُولُ تَعَالَى: إِذَا مَا الْعَبْدُ أَطَاعَنِي فِيمَا أَمَرْتُهُ بِهِ مِنَ الْحَلَالِ، ونهيته عنه من الحرام، فَلَا يَضُرُّهُ مَنْ ضَلَّ بَعْدَهُ إِذَا عَمِلَ بما أمرته به، وهكذا قال مقاتل بن حيان. فقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ {لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تعملون} أي فيجازي كل عام بِعَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وليس فيها دليل عَلَى تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ إذا كان فعل ذلك ممكناً، وقد قام أبو بكر الصدّيق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثم قال: أيها الناس إنكم تقرأون هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "إن الناس إذا رأو المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عزَّ وجلَّ أن يعمهم بعقابه (رواه أحمد وأصحاب السنن وابن ماجة) قال الترمذي عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ فِي هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قول الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «بَلِ ائْتَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعِ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض عن الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم»، وفي رواية قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا منا أو منهم؟ قال: «بل أجر خمسين منكم». وروى الرازي عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا عليك أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ} الْآيَةَ، قَالَ: كَانُوا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ جُلُوسًا فَكَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى قَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ عَبْدِ اللَّهِ: أَلَا أَقُومُ فَآمُرَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَاهُمَا عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقَالَ آخَرُ إِلَى جَنْبِهِ: عَلَيْكَ بنفسك، فإن الله يقول: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةَ، قَالَ: فَسَمِعَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ، قال: مه لم يجيء تَأْوِيلُ هَذِهِ بَعْدُ، إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ حَيْثُ أُنْزِلَ، وَمِنْهُ آيٌ قَدْ مَضَى تَأْوِيلُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلْنَ وَمِنْهُ آيٌ قَدْ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ومنه آية قَدْ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرٍ، وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَمِنْهُ آيٌ تَأْوِيلُهُنَّ عِنْدَ السَّاعَةِ وما ذُكِرَ مِنَ السَّاعَةِ، وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ يوم الحساب مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَمَا دامت قلبوكم وَاحِدَةً وَأَهْوَاؤُكُمْ وَاحِدَةً وَلَمْ تَلْبَسُوا شِيَعًا، وَلَمْ يذكق بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فامروا وانهوا، وإذا اخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ وَالْأَهْوَاءُ وَأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا، وَذَاقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فامرؤ ونفسه، وعند ذَلِكَ جَاءَنَا تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ رَوَاهُ ابْنُ جرير، وقال ابن جرير تَلَا الْحَسَنُ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فَقَالَ الْحَسَنُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بِهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَيْهَا، مَا كَانَ مُؤْمِنٌ فِيمَا مَضَى وَلَا مُؤْمِنٌ فِيمَا بَقِيَ إِلَّا وَإِلَى جنبه مُنَافِقٌ يَكْرَهُ عَمَلَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِذَا أَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلَا يضرك من ضل إذا اهتديت.

- 106 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ - 107 - فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ - 108 - ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى حكم عزيز، قيل إنه منسوخ، وقال آخرون وهم الأكثرون بل هو محكم، ومن ادعى نسخه فعليه البيان (قاله ابن جرير رحمة الله تعالى) فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} هَذَا هُوَ الْخَبَرُ لِقَوْلِهِ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ فقيل: تقديره شهادة اثنين شَهَادَةُ اثْنَيْنِ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. وَقِيلَ: دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ يشهد اثنان، وقوله تعالى: {ذَوَا عَدْلٍ} وَصَفَ الِاثْنَيْنِ بِأَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ، وَقَوْلُهُ: {مِّنْكُمْ} أَيْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. قال ابن عباس رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ {ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ}، قَالَ: مِنَ المسليمن. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ عَنَى ذَلِكَ {ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} أي من أهل الموصي، وَقَوْلُهُ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قَالَ ابْنُ أبي حاتم، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قَالَ: مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، يَعْنِي أهل الكتاب (وروي عن شريح وعكرمة وقتادة والسدي ومقاتل نَحْوُ ذَلِكَ) وَعَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عن عكرمة وعبيدة في قوله: {مِّنْكُمْ} أن المراد من قبيلة الموصي، يكون المراد ههنا {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أَيْ مِنْ غَيْرِ قبيلة الموصي، وقوله تعالى: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ سَافَرْتُمْ {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} وَهَذَانَ شَرْطَانِ لِجَوَازِ اسْتِشْهَادِ الذِّمِّيِّينَ عِنْدَ فَقْدِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي سَفَرٍ، وَأَنْ يَكُونَ فِي وَصِيَّةٍ، كَمَا قال ابن جرير عن شريح: لا تجوز شهادة شهادة اليهود والنصارى إِلَّا فِي سَفَرٍ، وَلَا تَجُوزُ فِي سَفَرٍ إلاّ في الوصية، وروي نحوه عن الإمام أحمد بن حنبل وخالفه الثلاثة، فقالوا: لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين، وَأَجَازَهَا أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا بَيْنَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وقال ابن جرير عن الزهري قال: مضت السنة أن لا تجوز شهادة الكافر فِي حَضَرٍ وَلَا سِفْرٍ، إِنَّمَا هِيَ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَالْأَرْضُ حَرْبٌ، وَالنَّاسُ كُفَّارٌ، وَكَانَ النَّاسُ يَتَوَارَثُونَ بِالْوَصِيَّةِ، ثُمَّ نُسِخَتِ الْوَصِيَّةُ وَفُرِضَتِ الْفَرَائِضُ وَعَمِلَ النَّاسُ بِهَا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} هَلِ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِمَا أَوْ يُشْهِدَهُمَا؟ عَلَى

قولين (أحدهما): أن يوصي إليهما، سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ سَافَرَ وَمَعَهُ مَالٌ فَأَدْرَكَهُ قَدَرُهُ، فَإِنْ وَجَدَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دَفَعَ إِلَيْهِمَا تَرِكَتَهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمَا عَدْلَيْنِ من المسلمين، (والقول الثاني): أنهما يكونا شَاهِدَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيٌّ ثَالِثٌ مَعَهُمَا اجْتَمَعَ فِيهِمَا الْوَصْفَانِ الْوِصَايَةُ وَالشَّهَادَةُ، كَمَا فِي قِصَّةِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهَا إن شاء الله وبه الوفيق. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ} قَالَ ابن عباس: يعني صلاة العصر، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يَعْنِي صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي صَلَاةَ أَهْلِ دِينِهِمَا، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُقَامَ هَذَانَ الشَّاهِدَانِ بَعْدَ صَلَاةٍ اجْتَمَعَ النَّاسُ فِيهَا بِحَضْرَتِهِمْ، {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} أَيْ فيحلفنان بِاللَّهِ} أَيْ فَيَحْلِفَانِ بِاللَّهِ {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أَيْ إن ظهرت لكم منهما ريبة أنهما خانا أو غلَّا فيحلفان يحينئذ بالله {لا نشتري بِهِ} أي بأيماننا {ثَمَناً} أَيْ لَا نَعْتَاضُ عَنْهُ بِعِوَضٍ قَلِيلٍ مِنَ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أَيْ وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ قَرِيبًا لنا لَا نُحَابِيهِ، {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} أَضَافَهَا إلى الله تشريفاً لها وتعظيماً لأمرها. {إِنَّآ إذا لمن الآثمين} أي فَعَلْنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيفِ الشَّهَادَةِ أَوْ تَبْدِيلِهَا أَوْ تَغْيِيرِهَا أَوْ كَتْمِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} أَيْ فَإِنِ اشْتَهَرَ وَظَهَرَ وَتَحَقَّقَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ الْوَصِيَّيْنِ أَنَّهُمَا خَانَا أَوْ غَلَّا شَيْئًا مِنَ الْمَالِ الْمُوصَى بِهِ إِلَيْهِمَا وَظَهَرَ عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ استحق عيهم الأوليان} أي متى تحقق بالخبر الصحيح خِيَانَتِهِمَا، فَلْيَقُمِ اثْنَانِ مِنَ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلتَّرِكَةِ وَلِيَكُونَا مِنْ أَوْلَى مَنْ يَرِثُ ذَلِكَ الْمَالَ {فَيُقْسِمَانِ بالله لشهادتنا أحق من شهادتما}، أَيْ لِقَوْلِنَا إِنَّهُمَا خَانَا أَحَقُّ وَأَصَحُّ وَأَثْبَتُ مِنْ شَهَادَتِهِمَا الْمُتَقَدِّمَةِ، {وَمَا اعْتَدَيْنَا} أَيْ فِيمَا قلنا فيهما مِنَ الْخِيَانَةِ {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أَيْ إِنْ كُنَّا قَدْ كَذَبْنَا عَلَيْهِمَا، وَهَذَا التَّحْلِيفُ لِلْوَرَثَةِ وَالرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِهِمَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَمَا يَحْلِفُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ إِذَا ظَهَرَ لَوْثٌ فِي جانب القاتل، فيقسم المتسحقون على القاتل فيدفع برمته إليم كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ مِنَ الأحكام. وقد روى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَعَدِيِّ بْنِ بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدمنا بِتَرِكَتِهِ، فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَجَدُوا الْجَامَ بِمَكَّةَ، فَقِيلَ: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ، فَحَلَفَا بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، وَأَنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} (أخرجه الترمذي وأبو داود، وقال الترمذي: حسن غريب) الآية، ومن الشواهد لصحة هذه القصة ما رواه أبو جعفر بن جرير عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَتْهُ الوفاة بدقوقا؟؟ هذه، قَالَ فَحَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ، فَأَشْهَدُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَقَدِمَا الْكُوفَةَ، فَأَتَيَا الْأَشْعَرِيَّ يَعْنِي (أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فأخبراه، وقدما الكوفة بِتَرِكَتِهِ وَوَصِيَّتِهِ، فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يكن بعد الذي كان عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وقال: فَأَحْلَفَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، بِاللَّهِ مَا خَانَا وَلَا كَذَبَا وَلَا بَدَّلَا وَلَا كَتَمَا وَلَا غَيَّرَا، وَإِنَّهَا لَوَصِيَّةُ الرَّجُلِ وَتَرِكَتُهُ، قَالَ: فَأَمْضَى شَهَادَتَهُمَا، فَقَوْلُهُ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كان عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بذلك قصة تميم وعدي بن بداء، وقد

ذَكَرُوا أَنَّ إِسْلَامَ تَمِيمِ بْنِ أَوْسٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه كان سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا الْحُكْمُ مُتَأَخِّرًا يَحْتَاجُ مُدَّعِي نَسْخِهِ إِلَى دَلِيلٍ فَاصِلٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقال السدي في الْآيَةِ {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حضر أحدككم الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} قَالَ: هَذَا فِي الْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ يُوصِي ويشهد رجلين من المسلمين على ماله وَمَا عَلَيْهِ، قَالَ: هَذَا فِي الْحَضَرِ {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} فِي السَّفَرِ {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} هَذَا الرَّجُلُ يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ فِي سَفَرِهِ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَدْعُو رَجُلَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، فَيُوصِي إِلَيْهِمَا وَيَدْفَعُ إِلَيْهِمَا مِيرَاثَهُ فَيَقْبَلَانِ بِهِ، فَإِنْ رَضِيَ أَهْلُ الْمَيِّتِ الْوَصِيَّةَ وعرفوا ما لصاحبهم تركوهما، وَإِنِ ارْتَابُوا رَفَعُوهُمَا إِلَى السُّلْطَانِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارتبتم}، قال ابن عباس رضي الله عنه: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْعِلْجَيْنِ حِينَ انْتُهِيَ بِهِمَا إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي دَارِهِ، فَفَتَحَ الصحيفة، فأنكر أهل الميت وخوفوهما، فأراد أبو موسى أن يستحفلهما بعد العصر، فقلت: إِنَّهُمَا لَا يُبَالِيَانِ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَلَكِنِ اسْتَحْلِفْهُمَا بَعْدَ صَلَاتِهِمَا فِي دِينِهِمَا فَيَحْلِفَانِ بِاللَّهِ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثمين: أن صاحبهم لهذا أَوْصَى، وَأَنَّ هَذِهِ لَتَرِكَتُهُ، فَيَقُولُ لَهُمَا الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَا: إِنَّكُمَا إِنْ كَتَمْتُمَا أَوْ خنتما فضحتكما في قومكما ولم نجز لَكُمَا شَهَادَةٌ وَعَاقَبْتُكُمَا، فَإِذَا قَالَ لَهُمَا ذَلِكَ فَإِنَّ {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَآ} رواه ابن جرير، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنِ ارتب في شهادتهما استحلفا - بعد العصر - بِاللَّهِ مَا اشْتَرَيْنَا بِشَهَادَتِنَا ثَمَنًا قَلِيلًا، فَإِنِ اطَّلَعَ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَيْنِ كَذَبَا فِي شَهَادَتِهِمَا قَامَ رَجُلَانِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فَحَلَفَا بِاللَّهِ أن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لمن نعتد، فذلك قوله تَعَالَى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} يَقُولُ: إِنِ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَيْنِ كَذَبَا {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} يَقُولُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، فَحَلَفَا بِاللَّهِ أَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرَيْنِ بَاطِلَةٌ، وَإِنَّا لَمْ نعتد، فترد شهادة الكافرين: وتجوز شهادة الأولياء (ذكره ابن جرير رحمه الله) وَهَكَذَا قَرَّرَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينِ وَالسَّلَفِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله. وقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَآ} أي شرعية هذه الْحُكْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمَرْضِيِّ مِنْ تَحْلِيفِ الشاهدين الذميين إن اسْتُرِيبَ بِهِمَا أَقْرَبُ إِلَى إِقَامَتِهِمَا الشَّهَادَةَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْضِيِّ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أَيْ يَكُونُ الْحَامِلُ لَهُمْ على الإتيان بها على وجهها هو تعظيم الحلف بالله مراعاة جَانِبِهِ وَإِجْلَالُهُ، وَالْخَوْفُ مِنَ الْفَضِيحَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وإن ردت اليمني عَلَى الْوَرَثَةِ، فَيَحْلِفُونَ وَيَسْتَحِقُّونَ مَا يَدْعُونَ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} ثُمَّ قَالَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أَيْ فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ، {وَاسْمَعُوا} أَيْ وَأَطِيعُوا، {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} أي الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَةِ شَرِيعَتِهِ.

- 109 - يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجبتم قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب هذا إِخْبَارٌ عَمَّا يُخَاطِبُ اللَّهُ بِهِ الْمُرْسَلِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا أُجِيبُوا بِهِ مِنْ أُمَمِهِمُ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ

تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وَقَوْلُ الرُّسُلِ {لاَ عِلْمَ لَنَآ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ والسُّدِّيُّ: إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ مِنْ هو ذلك اليوم، وقال الاعمش عن مجاهد يفزعون فيقولون {لاَ عِلْمَ لَنَآ}، وقال السدي: نَزَلُوا مَنْزِلًا ذُهِلَتْ فِيهِ الْعُقُولُ فَلَمَّا سُئِلُوا قالوا: {لا علم لنآ} ثم نزللوا منزلاً آخر، فشهدوا على قومهم، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} يَقُولُونَ لِلرَّبِّ عزَّ وجلَّ: لا علم لنآ إلاّ عِلْمٌ أَنْتَ أعلمتنا به؟؟، رواه ابن جرير واختاره على هذه الأقوال وَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَوْلٌ حَسَنٌ، وَهُوَ مِنْ باب التأدب مع الرب جلَّ جلاله: أَيْ لَا عِلْمَ لَنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِكَ المحيط بكل شيء، فنحن وإن كنا أَجَبْنَا وَعَرَفْنَا مَنْ أَجَابَنَا وَلَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ كُنَّا إِنَّمَا نَطَّلِعُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَا عِلْمَ لَنَا بِبَاطِنِهِ، وَأَنْتَ الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، الْمُطَّلِعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَعِلْمُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِكَ كلاعلم، فَإِنَّكَ {أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}

- 110 - إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فيها فتكون طيرا بإذني وَتُبْرِىءُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ - 111 - وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مسلمون يذكر تعالى ما منَّ به على عبده ورسوله عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّا أَجْرَاهُ عَلَى يَدَيْهِ من المعجزات وخوارق العادات، فقال: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} أَيْ فِي خَلْقِي إِيَّاكَ مِنْ أُمٍّ بِلَا ذَكَرٍ، وَجَعْلِي إِيَّاكَ آيَةً وَدَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِي عَلَى الْأَشْيَاءِ، {وعلى والدتكم} حَيْثُ جَعَلْتُكَ لَهَا بُرْهَانًا عَلَى بَرَاءَتِهَا مِمَّا نسبه الظالمون والجاهلون إِلَيْهَا مِنَ الْفَاحِشَةِ، {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ}، وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَعَلْتُكَ نَبِيًّا دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ فِي صِغَرِكَ وَكِبَرِكَ، فَأَنْطَقْتُكَ فِي الْمَهْدِ صَغِيرًا فَشَهِدْتَ بِبَرَاءَةِ أَمِّكَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَاعْتَرَفْتَ لِي بِالْعُبُودِيَّةِ، وَأَخْبَرْتَ عَنْ رِسَالَتِي إياك، ودعوت إلى عبادتي. ولهذا قال: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً} أَيْ تَدْعُو إِلَى اللَّهِ النَّاسَ فِي صِغَرِكَ وَكِبَرِكَ، وَضِمْنُ {تُكَلِّمُ} تَدْعُو، لِأَنَّ كَلَامَهُ النَّاسَ فِي كُهُولَتِهِ لَيْسَ بِأَمْرٍ عَجِيبٍ، وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أَيِ الْخَطَّ وَالْفَهْمَ، {وَالتَّوْرَاةَ} وَهِيَ الْمُنَزَّلَةُ على موسى الكليم، وقوله: {وإذ تخلف مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} أَيْ تُصَوِّرُهُ وَتُشَكِّلُهُ عَلَى هَيْئَةِ الطَّائِرِ بِإِذْنِي لَكَ فِي ذلك، فتنفخ فيها فتكون طيراً بِإِذْنِي، أَيْ فَتَنْفُخُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي شَكَّلْتَهَا بِإِذْنِي لَكَ فِي ذَلِكَ، فَتَكُونُ طيرًا ذا روح تطير بإذن الله وخلقه. وقوله تعالى: {وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي} قد تقدم الكلام عليه فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِيِ} أَيْ تَدْعُوهُمْ فَيَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وإرادته ومشيئته، وقوله تعالى: {وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عنك إذ جئتههم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}

أَيْ وَاذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ فِي كَفِّي إِيَّاهُمْ عَنْكَ حِينَ جِئْتَهُمْ بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ عَلَى نُبُوَّتِكَ وَرِسَالَتِكَ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ،، فَكَذَّبُوكَ، وَاتَّهَمُوكَ بِأَنَّكَ سَاحِرٌ، وَسَعَوْا فِي قَتْلِكَ وَصَلْبِكَ، فَنَجَّيْتُكَ مِنْهُمْ، وَرَفَعْتُكَ إِلَيَّ، وَطَهَّرْتُكَ مِنْ دَنَسِهِمْ، وَكَفَيْتُكَ شَرَّهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الِامْتِنَانَ كَانَ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى السماء، أَوْ يَكُونُ هَذَا الِامْتِنَانُ وَاقِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي دَلَالَةً عَلَى وُقُوعِهِ لَا مَحَالَةَ، وَهَذَا مِنْ أَسْرَارِ الْغُيُوبِ الَّتِي أطلع الله عليها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم. وقوله: {وإذا أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي} وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ جَعْلَ لَهُ أَصْحَابًا وَأَنْصَارًا، ثُمَّ قِيلَ: إن المراد نبهاذ الوحي وحي إلهام كما قال تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الْآيَةَ، وهو وحي إلهام بلا خلاف، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجبال بُيُوتاً} الآية، وَهَكَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}، أَيْ أُلْهَمُوا ذَلِكَ فَامْتَثَلُوا ما أهلموا، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ ذَلِكَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ ذَلِكَ، ويحتمل أن يكون المراد: وإذا أَوْحَيْتُ إِلَيْهِمْ بِوَاسِطَتِكَ فَدَعَوْتَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وبرسوله، واستجابوا وَانْقَادُوا وَتَابَعُوكَ، فَقَالُوا: {آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}.

- 112 - إِذْ قَالَ الحواريون يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ - 113 - قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ - 114 - قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ - 115 - قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ هَذِهِ قِصَّةُ الْمَائِدَةِ، وَإِلَيْهَا تُنْسَبُ السُّورَةُ، فَيُقَالُ سُورَةُ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ مِمَّا امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى لما أجاب دعاءه بنزولها، فأنزل الله آية بَاهِرَةً وَحُجَّةً قَاطِعَةً، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ أن قصتها ليست مذكروة فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا يَعْرِفُهَا النَّصَارَى إِلَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} وَهُمْ أَتْبَاعُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}: هَذِهِ قراءة كثيرين، {أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} وَالْمَائِدَةُ هِيَ الْخِوَانُ عَلَيْهِ طَعَامٌ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم فسألوه أن ينزل عليهما مائدة كل يوم يقتاتون بها، وَيَتَقَوَّوْنَ بِهَا عَلَى الْعِبَادَةِ {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَيْ فَأَجَابَهُمُ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِلًا لَهُمُ: اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَسْأَلُوا هَذَا فَعَسَاهُ أَنْ يَكُونَ فِتْنَةً لَكُمْ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} أَيْ نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْأَكْلِ مِنْهَا {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} إِذَا شَاهَدْنَا نُزُولَهَا رِزْقًا لَنَا مِنَ السَّمَاءِ {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} أَيْ وَنَزْدَادَ إِيمَانًا بِكَ وَعِلْمًا بِرِسَالَتِكَ {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} أَيْ وَنَشْهَدُ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَدَلَالَةٌ وَحُجَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِكَ وَصِدْقِ مَا جِئْتَ بِهِ، {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً

مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا}، قَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ نَتَّخِذُ ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عِيدًا نُعَظِّمُهُ نَحْنُ وَمَنْ بَعْدَنَا، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يَعْنِي يَوْمًا نُصَلِّي فِيهِ وقال قتادة، اراداوا أَنْ يَكُونَ لِعَقِبِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: عِظَةً لَنَا وَلِمَنْ بَعْدَنَا، وَقِيلَ: كَافِيَةً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا {وَآيَةً مِنْكَ} أَيْ دَلِيلًا تَنْصِبُهُ على قدرتك على الأشياء وعلى إجابتك تلدعوتي فَيُصَدِّقُونِي فِيمَا أُبَلِّغُهُ عَنْكَ، {وَارْزُقْنَا} أَيْ مِنْ عِنْدِكَ رِزْقًا هَنِيئًا بِلَا كُلْفَةٍ وَلَا تَعَبٍ، {وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ} أَيْ فَمَنْ كَذَّبَ بِهَا مِنْ أُمَّتِكَ يَا عِيسَى وَعَانَدَهَا {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العالمين} أي من عالمي زمانكم كقوله تعالى: {وَيَوْمَ القيامة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أشد العذاب} وكقوله: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل ممن النار} وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْمُنَافِقُونَ، وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ، وَآلُ فِرْعَوْنَ (ذكر أخبار فِي نُزُولِ الْمَائِدَةِ عَلَى الْحَوَارِيِّينَ) قَالَ أَبُو جعفر بن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ عيسى، أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ تصوموا لله ثلاثنين يَوْمًا ثُمَّ تَسْأَلُوهُ فَيُعْطِيكُمْ مَا سَأَلْتُمْ، فَإِنَّ أَجْرَ الْعَامِلِ عَلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ، فَفَعَلُوا، ثُمَّ قَالُوا: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ قُلْتَ لَنَا: إِنَّ أَجْرَ الْعَامِلِ عَلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ، وَأَمَرْتَنَا أَنْ نَصُومَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَفَعَلْنَا، وَلَمْ نَكُنْ نَعْمَلُ لِأَحَدٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا إِلَّا أَطْعَمَنَا حِينَ نَفْرُغُ طَعَامًا، فَهَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ؟ قَالَ عِيسَى: {اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ* قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا تطمئن قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ* قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ* قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عذاباص لا أعذذبه أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}، قَالَ: فَأَقْبَلَتِ الْمَلَائِكَةُ تَطِيرُ بمائدة من السماء، عليها سبعة حيتان وَسَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ حَتَّى وَضَعَتْهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَأَكَلَ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كَمَا أَكَلَ مِنْهَا أَوَّلُهُمْ. كَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فذكر نحوه. وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس: إن عيسى بن مَرْيَمَ قَالُوا لَهُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ، قَالَ: فَنَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ بالمائدة يحملونها عليها سبعة حيتان وَسَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ، حَتَّى وَضَعَتْهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَأَكَلَ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ، كَمَا أَكَلَ مِنْهَا أَوَّلُهُمْ. وقال ابن أبي حاتم عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهَا خُبْزٌ وَلَحْمٌ، وَأَمَرُوا أَنْ لَا يَخُونُوا، وَلَا يَرْفَعُوا لِغَدٍ، فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا فمسخوا قردة وخنازير. وكل الْآثَارِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَائِدَةَ نَزَلَتْ عَلَى بني إسرائيل أيام عيسى بن مريم إجابة من الله لدعوته كما دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} الآية. وقال قائلون: إنها لم تنزل، روي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَمَّا قِيلَ لَهُمْ {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} قَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا فَلَمْ تَنْزِلْ، وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا نَزَلَتْ، وَهُوَ الذي اختاره ابن جرير، لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فيمن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لَا أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}، قال: ووعد الله ووعيده حق وصدق، وههذا الْقَوْلُ هُوَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الصَّوَابُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ عَنِ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ قال الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ

قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا وَنُؤْمِنُ بِكَ، قَالَ: «وَتَفْعَلُونَ» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَدَعَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، فَمَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ والرحمة. قال: «بل باب التوبة والرحمة» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ)

- 116 - وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ - 117 - مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ - 118 - إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هَذَا أَيْضًا مِمَّا يُخَاطِبُ اللَّهُ به عبده ورسوله عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِلًا لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَضْرَةِ مَنِ اتَّخَذَهُ وَأَمَّهُ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهُ {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِلنَّصَارَى وَتَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ، هَكَذَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، وَاسْتَدَلَّ قَتَادَةُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَذَا الْخِطَابُ وَالْجَوَابُ في الدنيا، وصوبه ابن جرير، قال: وكان ذلك حين رفعه إلى السماء. وَاحْتَجَّ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى ذَلِكَ بِمَعْنَيَيْنِ (أَحَدُهُمَا): أن الكلام بلفظ المضي، (والثاني) قوله: {إِن تُعَذِّبْهُمْ} {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} وَهَذَانَ الدَّلِيلَانِ فِيهِمَا نَظَرٌ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أُمُورِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْمُضِيِّ لِيَدُلَّ عَلَى الْوُقُوعِ وَالثُّبُوتِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الْآيَةَ. التَّبَرِّي مِنْهُمْ وَرَدُّ الْمَشِيئَةِ فِيهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَتَعْلِيقُ ذَلِكَ عَلَى الشَّرْطِ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَهُ، كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَالَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ هُوَ الْأَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَدُلَّ عَلَى تَهْدِيدِ النَّصَارَى وتقريعهم وتوتبيخهم عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ رُوِيَ بذلك حديث مرفوع، ررواه الحافظ ابن عساكر عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دُعِيَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ، ثُمَّ يُدْعَى بِعِيسَى فَيُذَكِّرُهُ اللَّهُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ فَيُقِرُّ بِهَا، فَيَقُولُ {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى والدتك} الآية، ثُمَّ يَقُولُ: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فَيُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ، فَيُؤْتَى بِالنَّصَارَى فَيُسْأَلُونَ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هُوَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ، قَالَ: فَيُطَوَّلُ شَعْرُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَأْخُذُ كُلُّ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بشعرة من شعرة مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ، فَيُجَاثِيهِمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ مِقْدَارَ أَلْفِ عَامٍ حَتَّى تُرْفَعَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَيُرْفَعَ لَهُمُ الصَّلِيبُ، وَيُنْطَلَقَ بهم إلى النار" (رواه الحافظ ابن عساكر، وقال ابن كثير: هذا حديث غريب عزيز)

وقوله تعالى: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}، هَذَا تَوْفِيقٌ لِلتَّأَدُّبِ فِي الْجَوَابِ الْكَامِلِ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عن طاووس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: يَلْقَى عِيسَى حُجَّتَهُ، ولقاه الله تعالى فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقَّاهُ اللَّهُ {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طاووس عن طاووس بِنَحْوِهِ. وَقَوْلُهُ: {إِن كُنتُ قلتُه فَقَدْ علمتَه} أَيْ إِنْ كَانَ صَدَرَ مِنِّي هَذَا فَقَدْ عَلِمْتَهُ يَا رَبِّ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ شيء فما قلته ولا أردته في نفسي لا أَضْمَرْتُهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ} بِإِبْلَاغِهِ {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} أَيْ مَا دَعَوْتُهُمْ إِلَّا إِلَى الَّذِي أرسلتني به وأمرتين بِإِبْلَاغِهِ {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} أَيْ هذا هو الذي قلت لهم. وقوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} أَيْ كُنْتُ أَشْهَدُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ حِينَ كُنْتُ بَيْنَ أظهرهم، {فلما توفيتين كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. قال أبو داود الطيالسي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}، وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إِبْرَاهِيمُ، أَلَا وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ" (رواه البخاري في التفسير عند هذه الآية: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عبادك}. وقوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} هَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ رَدَّ الْمَشِيئَةِ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فَإِنَّهُ الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ الَّذِي لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، وَيَتَضَمَّنُ التَّبَرِّيَ مِنَ النَّصَارَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا وَصَاحِبَةً وَوَلَدًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً، وَهَذِهِ الْآيَةُ لَهَا شَأْنٌ عَظِيمٌ وَنَبَأٌ عَجِيبٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ بِهَا لَيْلَةً حتى الصباح يرددها، قال الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: صلى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَرَأَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ يَرْكَعُ بِهَا وَيَسْجُدُ بِهَا {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَلَمَّا أَصْبَحَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا زِلْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى أَصْبَحْتَ تَرْكَعُ بِهَا وَتَسْجُدُ بِهَا؟ قَالَ: «إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وجلَّ الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِيهَا وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» وقال ابن أبي حاتم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ عِيسَى {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أُمَّتِي» وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ - وَرَبُّكَ أَعْلَمُ - فَاسْأَلْهُ مَا يُبْكِيهِ! فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قال وهو أعلم، فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فقال: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك. وقال الإمام

أحمد عن حذيفة بن اليمان قال غَابَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَلَمْ يَخْرُجْ، حَتَّى ظَنَنَّآ أَن لَّن يَخْرُجَ، فَلَمَّا خَرَجَ سَجَدَ سَجْدَةً، ظَنَنَّا أَنَّ نَفْسَهُ قَدْ قُبِضَتْ فِيهَا، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ قَالَ: " إِنَّ رَبِّي عزَّ وجلَّ اسْتَشَارَنِي فِي أُمَّتِي مَاذَا أَفْعَلُ بِهِمْ؟ فَقُلْتُ: مَا شئت يا رَبِّ هُمْ خَلْقُكَ وَعِبَادُكَ، فَاسْتَشَارَنِي الثَّانِيَةَ فَقُلْتُ له: كذلك، فقال لي: لَا أُخْزِيكَ فِي أُمَّتِكَ يَا مُحَمَّدُ، وَبَشَّرَنِي أَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي مَعِي سَبْعُونَ أَلْفًا مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا ليس عليهم حسبا، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَقَالَ: ادْعُ تُجَبْ وَسَلْ تعط، فقلت لرسوله: أو معطي ربي سؤلي؟ فقال: مَا أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ إِلَّا لِيُعْطِيَكَ، وَلَقَدْ أَعْطَانِي رَبِّي - وَلَا فَخْرَ - وَغَفَرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ. وَأَنَا أَمْشِي حَيًّا صحيحاً، وأعطاني أن لا تَجُوعَ أُمَّتِي وَلَا تُغْلَبَ، وَأَعْطَانِي الْكَوْثَرَ وَهُوَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ يَسِيلُ فِي حَوْضِي، وَأَعْطَانِي الْعِزَّ، وَالنَّصْرَ، وَالرُّعْبَ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْ أُمَّتِي شَهْرًا، وَأَعْطَانِي أَنِّي أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَطَيَّبَ لِي وَلِأُمَّتِي الْغَنِيمَةَ، وَأَحَلَّ لَنَا كَثِيرًا مِمَّا شُدِّدَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا، وَلَمْ يَجْعَلْ علينا فِي الدين مِنْ حرج (الحديث وإن كان ضعيف السند ففي أحاديث الشفاعة ما يؤيده ويؤكده)

- 119 - قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - 120 - للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول تعالى مجيباً لعبده ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام فِيمَا أَنْهَاهُ إِلَيْهِ مِنَ التَّبَرِّي مِنَ النَّصَارَى الْمُلْحِدِينَ الْكَاذِبِينَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَمِنْ رَدِّ الْمَشِيئَةِ فِيهِمْ إِلَى رَبِّهِ عزَّ وجلَّ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ تَعَالَى: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} قال ابن عباس: يَوْمَ يَنْفَعُ الْمُوَحِّدِينَ تَوْحِيدُهُمْ {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أَيْ ماكثين فيهن لَا يَحُولُونَ وَلَا يَزُولُونَ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أكبر} وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الْآيَةِ مِنَ الْحَدِيثِ، وروى ابن أبي حاتم عن أنس مرفوعاً قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فيه: "ثم يتجلى لهم الرب جل جلاله فَيَقُولُ: سَلُونِي سَلُونِي أُعْطِكُمْ - قَالَ - فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَا فَيَقُولُ: رِضَايَ أُحِلُّكُمْ دَارِي، وَأَنَالُكُمْ كَرَامَتِي، فَسَلُونِي أُعْطِكُمْ فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَا - قَالَ فَيُشْهِدُهُمْ أَنَّهُ قَدْ رضي عنهم. سبحانه وتعالى"، {ذَلِكَ الفوز العظيم} أي هذا الْفَوْزُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا أَعْظَمُ مِنْهُ، كَمَا قال تعالى: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون}، وكما قال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون}. وقوله تعالى: {للَّهِ ملك السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أَيْ هُوَ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ الْمَالِكُ لَهَا، الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، الْقَادِرُ عَلَيْهَا، فَالْجَمِيعُ مِلْكُهُ وَتَحْتَ قهره وقدرته وفي مشئيته، فَلَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا وَزِيرَ وَلَا عَدِيلَ ولا والد ولا ولد ولا صاحبة، ولا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. قَالَ ابْنُ وهب: آخر سورة أنزل سورة المائدة

6 - سورة الأنعام

- 6 - سورة الأنعام

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- 1 - الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ - 2 - هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ - 3 - وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ يَقُولُ اللَّهُ تعالى مادحاً نفسه الكريمة، حامداً لَهَا عَلَى خَلْقِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَرَارًا لِعِبَادِهِ، وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ مَنْفَعَةً لِعِبَادِهِ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ، فَجَمَعَ لَفْظَ الظُّلُمَاتِ؛ وَوَحَّدَ لَفْظَ النُّورَ لكونه أشرف، كقوله تعالى: {عَنِ اليمين والشمآئل}، وكما قال في آخر السُّورَةِ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تتتبعوا السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عن سبيله}، ثم قال تعالى: {ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أَيْ وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ كَفَرَ بِهِ بَعْضُ عِبَادِهِ، وَجَعَلُوا له شَرِيكًا وَعِدْلًا، وَاتَّخَذُوا لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، تَعَالَى الله عزَّ وجلَّ عن ذلك علواً كَبِيراً، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ} يَعْنِي أَبَاهُمْ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُمْ، وَمِنْهُ خَرَجُوا فَانْتَشَرُوا فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عنده} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً} يَعْنِي الْمَوْتَ، {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ} يعني الآخرة (وهو مروي عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ ومقاتل بن حيان وغيرهم) وقال الْحَسَنِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً} وهو مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ} وهو مَا بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ وهو يَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ تَقْدِيرُ الْأَجَلِ الْخَاصِّ، وَهُوَ عُمُرُ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَتَقْدِيرُ الْأَجَلِ الْعَامِّ وَهُوَ عُمُرُ الدُّنْيَا بِكَمَالِهَا ثُمَّ انْتِهَائِهَا وَانْقِضَائِهَا وَزَوَالِهَا وَانْتِقَالِهَا وَالْمَصِيرُ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً} يَعْنِي مُدَّةَ الدُّنْيَا {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ} يَعْنِي عُمُرَ الْإِنْسَانِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} الآية. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {عِندَهُ} أَيْ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هو، كقوله: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إلا هو}، وكقوله: {يَسْأَلُونَكَ

عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إلى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ}، وقوله تعالى: {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ}، قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي تشكون في أمر الساعة. وقوله تعالى: {وَهُوَ الله فِي السموات في الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} اخْتَلَفَ مُفَسِّرُو هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ بَعْدَ اتفاقهم على إنكار قول الجهمية القائلين - تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً - بأنه فِي كُلِّ مَكَانٍ حَيْثُ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى ذلك، فالأصح من الْأَقْوَالِ: أَنَّهُ الْمَدْعُوُّ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ: أَيْ يَعْبُدُهُ وَيُوَحِّدُهُ وَيُقِرُّ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ من في السموات والأرض، وَيُسَمُّونَهُ اللَّهَ، وَيَدْعُونَهُ رَغَبًا وَرَهَبًا إِلَّا مَنْ كَفَرَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} أَيْ هُوَ إِلَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} خَبَرًا أَوْ حَالًا (وَالْقَوْلُ الثاني): أن المراد أنه اللَّهَ الَّذِي يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ سِرٍّ وَجَهْرٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ «يعلم» متعلقاً بقوله: {فِي السموات وَفِي الْأَرْضِ} تَقْدِيرُهُ: وَهُوَ اللَّهُ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ، (وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ): أَنَّ قَوْلَهُ {وَهُوَ اللَّهُ فِي السموات} وَقْفٌ تَامٌّ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْخَبَرَ فَقَالَ: {وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَوْلُهُ: {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي جميع أعمالكم خيرها وشرها.

- 4 - وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ - 5 - فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ - 6 - أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ يَقُولُ تَعَالَى مخبراً عن المشركين المكذبين المعاندين: أنهم كلما أَتَتْهُمْ مِنْ آيَةً أَيْ دَلَالَةٍ وَمُعْجِزَةٍ وَحُجَّةٍ من الدلالات على وحدانية الله وصدقق رُسُلِهِ الْكِرَامِ، فَإِنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْهَا فَلَا يَنْظُرُونَ إليها وَلَا يُبَالُونَ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جاءهم فسوق يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ، بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَلَيَجِدُنَّ غِبَّهُ، وَلَيَذُوقُنَّ وباله، ثم قال تعالى واعظاً لهم وَمُحَذِّرًا لَهُمْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ الدُّنْيَوِيِّ مَا حَلَّ بِأَشْبَاهِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ، الَّذِينَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً، وأكثر أموالاً وأولاداً واستعلاء في الأرض، وَعِمَارَةً لَهَا فَقَالَ: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِنْ قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لمن نُمَكِّن لَّكُمْ} أَيْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَعْمَارِ والجاه العريض والسعة والجنود، ولهذا قال: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً} أَيْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، {وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} أَيْ أكرثنا عليهم أمطارا السَّمَاءِ وَيَنَابِيعَ الْأَرْضِ أَيِ اسْتِدْرَاجًا وَإِمْلَاءً لَهُمْ، {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} أي بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترحوها، {وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} أَيْ فَذَهَبَ الْأَوَّلُونَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ {وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} أَيْ جِيلًا آخَرَ لِنَخْتَبِرَهُمْ، فعملوا مثل أعمالهم فأهلكوا كإهلاكهم،

فَاحْذَرُوا أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، فَمَا أَنْتُمْ بِأَعَزَّ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ وَالرَّسُولُ الَّذِي كَذَّبْتُمُوهُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ رسولهم، فأنت أَوْلَى بِالْعَذَابِ وَمُعَاجَلَةِ الْعُقُوبَةِ مِنْهُمْ لَوْلَا لُطْفُهُ وإحسانه.

- 7 - وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ - 8 - وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ - 9 - وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ - 10 - وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ - 11 - قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ يَقُولُ تَعَالَى مخبراً عن المشركين وعنادهم ومكابرتهم للحق ومباهاتهم وَمُنَازَعَتِهِمْ فِيهِ، {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} أَيْ عَايَنُوهُ وَرَأَوْا نُزُولَهُ وَبَاشَرُوا ذَلِكَ، لَقَالَ {الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُكَابَرَتِهِمْ لِلْمَحْسُوسَاتِ، {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نححن قوم مسحورون} وكقوله تَعَالَى: {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سحاب مركوم}، {وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أي ليكون معه نذيراً، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} أَيْ لَوْ نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى مَا هم عليه لجاءهم من الله العذاب، كماقال الله تَعَالَى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُواْ إذا منظرين}، وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} الآية، وقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} أي ولو أنزلن مَعَ الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ مَلَكًا، أَيْ لَوْ بَعَثْنَا إِلَى الْبَشَرِ رَسُولًا مَلَكِيًّا، لَكَانَ عَلَى هَيْئَةِ الرجل ليمكنهم مُخَاطَبَتُهُ وَالِانْتِفَاعِ بِالْأَخْذِ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لالتبس عليهم الأمر كما هم يَلْبِسُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي قَبُولِ رِسَالَةِ الْبَشَرِيِّ، كقوله تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً}، فمن رحمته تَعَالَى بِخَلْقِهِ أَنَّهُ يُرْسِلُ إِلَى كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْخَلَائِقِ رُسُلًا مِنْهُمْ لِيَدْعُوَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلِيُمَكِّنَ بَعْضَهُمْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِبَعْضٍ فِي الْمُخَاطَبَةِ وَالسُّؤَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ منَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} الآية. قال الضحاك عن ابن عباس في الْآيَةَ يَقُولُ: لَوْ أَتَاهُمْ مَلَكٌ مَا أَتَاهُمْ إِلَّا فِي صُورَةِ رَجُلٍ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ مِنَ النُّورِ، {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} أَيْ وَلَخَلَطْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَخْلِطُونَ، وقيل: ولشبهنا عليهم. وقوله: {وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ ما كانوا به يستهزئون} هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهُ، وَوَعْدٌ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ بِالنُّصْرَةِ وَالْعَاقِبَةِ الْحَسَنَةِ فِي الدنيا والآخرة، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أَيْ فَكِّرُوا فِي أَنْفُسِكُمْ، وَانْظُرُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُ وَعَانَدُوهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، وَالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا ادُّخِرَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي الْآخِرَةِ وَكَيْفَ نجَّى رُسُلُهُ وعباده المؤمنين.

- 12 - قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ - 13 - وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - 14 - قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - 15 - قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ - 16 - مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ يُخْبِرُ تعالى أنه مالك السموات والأرض وما فيهما، وَأَنَّهُ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الرَّحْمَةَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ كَتَبَ كتاباَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي"، وَقَوْلُهُ: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} هَذِهِ اللَّامُ هِيَ المطئة للقسم، فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعن عباده {إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي لَا ريب فيه أي لا شك عِنْدَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَّا الْجَاحِدُونَ الْمُكَذِّبُونَ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يترددون. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ هَلْ فِيهِ مَاءٌ؟ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ فِيهِ لَمَاءً، إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لَيَرِدُونِ حِيَاضَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ تَعَالَى سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ فِي أَيْدِيهِمْ عِصِيٌّ مِنْ نَارٍ يَذُودُونَ الْكُفَّارَ عَنْ حِيَاضِ الْأَنْبِيَاءِ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ: «إِنَّ لِكُلِّ نبي حوضاً وأرجوا أن أكون أكثرهم واردة» وقوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} أَيْ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْمَعَادِ وَلَا يَخَافُونَ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أَيْ كُلُّ دَابَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، الْجَمِيعُ عِبَادُهُ وخلقه وتحت قهره وتصرفه وتدبيره، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيِ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ، لاعليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم، ثم قال تعالى لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي بعثه بالتوحيد العظيم وبالشرع القويم، وأمره أن يدعو الناس إلى صراط الله الْمُسْتَقِيمِ: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السموات والأرض} كقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} وَالْمَعْنَى: لَا أَتَّخِذُ وَلِيًا إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَإِنَّهُ فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ خَالِقُهُمَا وَمُبْدِعُهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} أَيْ وَهُوَ الرَّزَّاقُ لِخَلْقِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} الآية، وقرأ بعضهم {هو يُطعِم ولا يَطْعَم}: أي لا يأكل. وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دعا رجل من الأصار مِنْ أَهْلِ قُبَاءٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم على طعام، فَانْطَلَقْنَا مَعَهُ فَلَمَّا طَعِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَسَلَ يَدَيْهِ قَالَ: «الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي يُطْعِمُ وَلَا يَطْعَمُ، ومنَّ عَلَيْنَا فَهَدَانَا وأطعمنا وسقانا من الشراب، وكسانا من العري، وكل بلاء حسن أبلانا، الحد لله غير مودع ربي ولا مكفي وَلَا مَكْفُورٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا مِنَ الطَّعَامِ وَسَقَانَا مِنَ الشَّرَابِ وَكَسَانَا مِنَ الْعُرْيِ، وَهَدَانَا مِنَ الضَّلَالِ، وَبَصَّرَنَا مِنَ الْعَمَى، وَفَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا، الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ». {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أَيْ من هذه الأمة، {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يَعْنِي

يوم القيامة {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ} أي الْعَذَابَ {يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} يَعْنِي فَقَدْ رَحِمَهُ الله {وَذَلِكَ هُوَ الفوز المبين}، كَقَوْلِهِ: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فاز} والفوز حُصُولُ الرِّبْحِ وَنَفْيُ الْخَسَارَةِ.

- 17 - وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 18 - وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ - 19 - قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ - 20 - الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ - 21 - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا: أَنَّهُ مَالِكُ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ على كل شيء قدير} كقوله تَعَالَى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} الآية. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} أَيْ هُوَ الَّذِي خَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ، وَذَلَّتْ لَهُ الْجَبَابِرَةُ، وعنت له والوجه، وَقَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، وَدَانَتْ لَهُ الْخَلَائِقُ، وَتَوَاضَعَتْ لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوه وقدرته على الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه، {وَهُوَ الحكيم}: أي في جميع أفعاله، {الْخَبِيرُ} بِمَوَاضِعِ الْأَشْيَاءِ وَمَحَالِّهَا فَلَا يُعْطِي إِلَّا من يَسْتَحِقُّ، وَلَا يَمْنَعُ إِلَّا مَنْ يَسْتَحِقُّ. ثُمَّ قَالَ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً} أَيْ مَنْ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ شَهَادَةً، {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أَيْ هُوَ الْعَالِمُ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ وَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ لِي {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} أَيْ وهو نذير لكل من بلغه، كقوله تَعَالَى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} قال ابن أبي حاتم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَن بَلَغَ} ومن بَلَغَهُ الْقُرْآنُ، فَكَأَنَّمَا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم. وروى ابن جرير عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَقَدْ أَبْلَغَهُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عَبْدُ الرزاق عن قتادة في قوله تعالى {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِ اللَّهِ فَمَنْ بَلَغَتْهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ بَلَغَهُ أَمْرُ اللَّهِ»، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: حقُّ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ كَالَّذِي دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن ينذر بالذي أنذر. وقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ} أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ} كقوله: {فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تشهد معهم}، {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}، ثم قال تعالى مُخْبِرًا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ هَذَا الَّذِي جِئْتَهُمْ بِهِ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَنْبَاءِ عَنِ الْمُرْسَلِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ بَشَّرُوا بِوُجُودِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ وبلده ومهاجره وصفته أمته، ولهذا قال بعده: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أَيْ خَسِرُوا كُلَّ الْخَسَارَةِ، {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بِهَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيِّ الظَّاهِرِ الَّذِي بَشَّرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَنَوَّهَتْ بِهِ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَن أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ

كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} أَيْ لَا أَظْلَمُ مِمَّنْ تَقَوَّلَ عَلَى اللَّهِ فَادَّعَى أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ وَلَمْ يَكُنْ أَرْسَلَهُ، ثُمَّ لَا أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ وَدَلَالَاتِهِ {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أَيْ لَا يُفْلِحُ هَذَا وَلَا هَذَا، لَا الْمُفْتَرِي وَلَا الْمُكَذِّبُ.

- 22 - وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ - 23 - ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ - 24 - انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ - 25 - وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جاؤوك يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ - 26 - وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ يَقُولُ تعالى مخبراً عن المشركين {يوم نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَسْأَلُهُمْ عَنِ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِهِ، قَائِلًا لهم: {أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}، كقوله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}، وقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} أي حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، قال ابن عباس: أي حجتهم، وقال عطاء عنه: أي معذرتهم، وكذا قال قتادة، وقال عطاء الخراساني: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} بَلِيَّتُهُمْ حِينَ ابْتُلُوا {إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: والصواب: ثم لم يكن قيلهم (هذا القول الذي اختاره ابن جرير هو رواية ابن جرير عن ابن عباس) عند فتنتنا إياهم اعتذاراً عما سَلَفَ مِنْهُمْ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ {إِلاَّ أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: أتاه رجل، فقال: يا ابن عَبَّاسٍ سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} قَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فَإِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا أَهْلُ الصَّلَاةِ، فَقَالُوا: تَعَالَوْا فَلْنَجْحَدْ فَيَجْحَدُونَ، فَيَخْتِمُ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَتَشْهَدُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، فَهَلْ في قلبك الآين شَيْءٌ؟ إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا ونزل فيه شيء، ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ وجهه، ولهذا قَالَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}، كقوله: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} الآية، وَقَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قلورهم أنكنة أين يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وقرا وأين يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا}: أَيْ يجيئون ليستمعوا قِرَاءَتَكَ وَلَا تُجْزِي عَنْهُمْ شَيْئًا لِأَنَّ اللَّهَ {جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أَيْ أَغْطِيَةً لِئَلَّا يَفْقَهُوا الْقُرْآنَ، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} أَيْ صَمَمًا عن السماع النافع لهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} الآية. ونقوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} أَيْ مَهْمَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ وَالْحُجَجِ البينات والبراهين لَا يُؤْمِنُوا بِهَا، فَلَا فَهْمَ عِنْدَهُمْ وَلَا إنصاف، كقوله تَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} الآية، وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} أَيْ يُحَاجُّونَكَ وَيُنَاظِرُونَكَ فِي الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ

أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أَيْ مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ إِلَّا مَأْخُوذٌ مِنْ كُتُبِ الْأَوَائِلِ وَمَنْقُولٌ عنهم (قال السهيلي: حيثما جاء في القرآن ذكر أساطير الأولين، فإن قائلها هو النضر بن الحارث بن كلدة، وكان قد دخل بلاد فارس وتعلم أخبار سبندياذ رستم الشيذ، ونحوها، فكان يقول: أنا أحدثكم بأحسن مما يحدثكم به محمد، ويقول في القرآن: أساطير الأولين: ليزهد الناس فيها، وفيه نزل: {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ} وقتله النبي صبراً يوم أُحُد.) وقوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} في مَعْنَى يَنْهَوْنَ عَنْهُ قَوْلَانِ، (أَحَدُهُمَا): أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَتَصْدِيقِ الرسول والانقياد للقرآن {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي ويبعدون هُمْ عَنْهُ فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ الْقَبِيحَيْنِ لَا ينتفعون ولا يدعون أحداً ينتفع. قال ابن عباس: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} يردون النَّاسَ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: كَانَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ لَا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم وينهون عنه، وهذا القول أظهر وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. (وَالْقَوْلُ الثَّانِي): رَوَاهُ سفيان الثوري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، كَانَ يَنْهَى النَّاسَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يؤذى، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ: نَزَلَتْ فِي عمومة النبي وَكَانُوا عَشَرَةً، فَكَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ مَعَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَأَشَدَّ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي السِّرِّ (رَوَاهُ ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال) وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} أي ينهون الناس عن قتله. وقوله: {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أَيْ يَتَبَاعَدُونَ مِنْهُ، {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أَيْ وَمَا يُهْلِكُونَ بِهَذَا الصَّنِيعِ وَلَا يَعُودُ وَبَالُهُ إِلَّا عَلَيْهِمْ وهم لا يشعرون.

- 27 - وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - 28 - بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ - 29 - وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ - 30 - وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ يَذْكُرُ تَعَالَى حَالَ الْكُفَّارِ إِذَا وَقَفُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى النَّارِ وَشَاهَدُوا مَا فِيهَا مِنَ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ وَرَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ تِلْكَ الْأُمُورَ الْعِظَامَ وَالْأَهْوَالَ، فَعِنْدَ ذلك قالواك {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُكَذِّبُوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين، قال الله تَعَالَى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} أَيْ بَلْ ظَهَرَ لَهُمْ حينئذٍ مَا كَانُوا يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْمُعَانَدَةِ وَإِنْ أَنْكَرُوهَا فِي الدُّنْيَا أَوْ في الآخرة، كما قال قبله بِيَسِيرٍ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ ظَهَرَ لَهُمْ مَا كَانُوا يَعْلَمُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مِنْ صدق ما جاءئتهم بِهِ الرُّسُلُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانُوا يُظْهِرُونَ لأتباعهم خلافه كقوله مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ لِفِرْعَوْنَ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلاَّ رَبُّ السموات والأرض بصائر} الآية. وقوله تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} ويحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المنافققين الذين كانوا يظهرون الإيمان للناس

ويبطنون الكفر، ويكون هذا إخبار عَمَّا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْنُ هَذِهِ السُّورَةِ مَكِّيَّةً، وَالنِّفَاقُ إِنَّمَا كَانَ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ، فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ وُقُوعَ النِّفَاقِ فِي سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ وَهِيَ الْعَنْكَبُوتُ فَقَالَ: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين}، وعلى هذا فيكون إخباراً عن قول الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ حِينَ يُعَايِنُونَ الْعَذَابَ، فظهر لَهُمْ حينئذٍ غِبُّ مَا كَانُوا يُبْطِنُونَ مِنَ الكفر والنفاق والشقاق، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَعْنَى الْإِضْرَابِ فِي قَوْلِهِ: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} فإنهم مَا طَلَبُوا الْعَوْدَ إِلَى الدُّنْيَا رَغْبَةً وَمَحَبَّةً فِي الْإِيمَانِ، بَلْ خَوْفًا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي عاينوه جزاء على مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، فَسَأَلُوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِيَتَخَلَّصُوا مِمَّا شَاهَدُوا مِنَ النَّارِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي في طلبهم الرَّجْعَةَ رَغْبَةً وَمَحَبَّةً فِي الْإِيمَانِ، ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ: إِنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُخَالَفَةِ، {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أَيْ فِي قَوْلِهِمْ: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} أَيْ لَعَادُوا لِمَا نهو عنه، ولقالوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حياتنا الدنيا، أَيْ مَا هِيَ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ثُمَّ لَا مَعَادَ بَعْدَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}، ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} أَيْ أُوقِفُوا بَيْنَ يَدَيْهِ {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}؟ أَيْ أَلَيْسَ هَذَا الْمَعَادُ بِحَقٍّ وَلَيْسَ بِبَاطِلٍ كَمَا كُنْتُمْ تَظُنُّونَ {قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أَيْ بِمَا كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ فَذُوقُوا الْيَوْمَ مَسَّهُ {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ}؟

- 31 - قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ - 32 - وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ يَقُولُ تَعَالَى مخبراً عن خسارة من كذب بلقائه وَعَنْ خَيْبَتِهِ إِذَا جَاءَتْهُ السَّاعَةُ بَغْتَةً، وَعَنْ نَدَامَتِهِ عَلَى مَا فَرَّطَ مِنَ الْعَمَلِ، وَمَا أسلف من قبيح الفعل، وَلِهَذَا قَالَ: {حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} وهذا الضمير يحتمل عوده على الحياة وَعَلَى الْأَعْمَالِ وَعَلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ أَيْ فِي أَمْرِهَا، وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} أَيْ يَحْمِلُونَ. وَقَالَ قتادة: يعملون، وقال ابن أبي حاتم عن أبي مرزوق قال: يستقبل الْكَافِرُ أَوِ الْفَاجِرُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ كأقبح صورة رأيتها أنتنه رِيحًا، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَوْ مَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ، إلاَّ أنَّ اللَّهَ قبح وجهك وأنتن رِيحَكَ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، هَكَذَا كُنْتَ في الدنيا خبيث العمل منتنه، فطالما ركبتني في الدنيا، هلم أركبك (أخرجه ابن أبي حاتم من حديث عمرو بن قيس عن أبي مرزوق)، فَهُوَ قَوْلُهُ: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} الآية، وقال السدي: "ليس من رجل ظالم يدخل قَبْرَهُ إِلَّا جَاءَهُ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ أَسْوَدُ اللون منتن الريح، وعليه ثِيَابٌ دَنِسَةٌ حَتَّى يَدْخُلَ مَعَهُ قَبْرَهُ، فَإِذَا رَآهُ قَالَ: مَا أَقْبَحَ وَجْهُكَ! قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ عَمَلُكَ قَبِيحًا، قَالَ: مَا أَنْتَنَ رِيحُكَ! قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ عَمَلُكَ مُنْتِنًا، قَالَ: مَا أَدْنَسَ ثِيَابُكَ! قَالَ، فَيَقُولُ: إِنَّ عَمَلَكَ

كَانَ دَنِسًا، قَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: عَمَلُكَ، قَالَ: فَيَكُونُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ، فَإِذَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ لَهُ: إِنِّي كُنْتُ أَحْمِلُكَ فِي الدُّنْيَا بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَأَنْتَ الْيَوْمَ تَحْمِلُنِي، قَالَ: فَيَرْكَبُ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَسُوقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ}، وَقَوْلُهُ: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ}، أَيْ إِنَّمَا غَالِبُهَا كَذَلِكَ، {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}؟

- 33 - قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ - 34 - وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ - 35 - وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ - 36 - إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ قَوْمِهِ لَهُ وَمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} أَيْ قَدْ أَحَطْنَا عِلْمًا بتكذيبهم لك حزنك وتأسفك عليهم، كقوله: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عليهم حسرات}، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أن لا يكونوا مؤمنين}، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أسفاً} وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أَيْ لَا يَتَّهِمُونَكَ بِالْكَذِبِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أَيْ وَلَكِنَّهُمْ يُعَانِدُونَ الْحَقَّ وَيَدْفَعُونَهُ بِصُدُورِهِمْ، كَمَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ) وقال ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ فَصَافَحَهُ، فقال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابىء؟ فقال: والله إني لأعلم إِنَّهُ لَنَبِيٌّ، وَلَكِنْ مَتَى كُنَّا لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَبَعًا؟ وَتَلَا أَبُو يَزِيدَ {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قِصَّةِ أَبِي جَهْلٍ حِينَ جَاءَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّيْلِ هو (وأبو سفيان) و (الأخنس بن شريق) ولا يشعر أحد مِنْهُمْ بِالْآخَرِ، فَاسْتَمَعُوهَا إِلَى الصَّبَاحِ، فَلَمَّا هَجَمَ الصُّبْحُ، تَفَرَّقُوا فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ لِلْآخَرِ: مَا جَاءَ بِكَ؟ فَذَكَرَ لَهُ مَا جاء به، ثم تعاهدوا أن لا يَعُودُوا لِمَا يَخَافُونَ مِنْ عِلْمِ شَبَابِ قُرَيْشٍ بِهِمْ، لِئَلَّا يَفْتَتِنُوا بِمَجِيئِهِمْ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ جَاءَ كُلٌّ مِنْهُمْ ظَنًّا أَنَّ صَاحِبَيْهِ لا يجيئان لما سبق من العهود، فلما أصبحوا جمعتهم الطريق، فتلاوموا، ثم تعاهدوا أن لا يعودوا، فلما كانت الليلة الثالثة جاءوا أيضاً، فلما أصبحوا تعاهدوا أن لا يَعُودُوا لِمِثْلِهَا، ثُمَّ تَفَرَّقُوا، فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شُرَيْقٍ أَخَذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ

يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، وَسَمِعْتُ أَشْيَاءَ ما عرفت معناها وما يُرَادُ بِهَا، قَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: مَاذَا سَمِعْتُ؟ قال: تنازعنا نحن وبنوا عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ: أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَى الرُّكَبِ وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الوحي من السماء فمتى ندرك هذا؟ وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ وَتَرَكَهُ وَرَوَى ابْنُ جرير عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}، لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شُرَيْقٍ لِبَنِي زُهْرَةَ: يا بني زُهْرَةَ: يَا بَنِي زُهْرَةَ إِنَّ مُحَمَّدًا ابْنُ أختكم، فأنتم أحق من ذبَّ عن ابن أخته، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ تُقَاتِلُوهُ الْيَوْمَ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كُنْتُمْ أَحَقَّ مَنْ كَفَّ عن ابن أخته، قفوا حَتَّى أَلْقَى أَبَا الْحَكَمِ فَإِنْ غُلِبَ مُحَمَّدٌ رجعتم سالمين، وإن غُلب محمداً فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئاً. فَالْتَقَى الْأَخْنَسُ وَأَبُو جَهْلٍ، فَخَلَا الْأَخْنَسُ بِأَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ أُصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ ها هنا من قريش غيري يستمع كَلَامَنَا؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَيْحَكَ! وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لِصَادِقٌ وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ، وَلَكِنْ إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة وَالنُّبُوَّةِ فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ؟ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمن بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} فَآيَاتُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}، هذه تسلية لنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْزِيَةٌ لَهُ فِيمَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَمْرٌ لَهُ بِالصَّبْرِ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَوَعْدٌ لَهُ بِالنَّصْرِ كَمَا نُصِرُوا، وَبِالظَّفَرِ حَتَّى كَانَتْ لَهُمُ العاقبة بعدما نَالَهُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَالْأَذَى الْبَلِيغِ، ثُمَّ جَاءَهُمُ النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا كَمَا لَهُمُ النَّصْرُ فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} أَيِ الَّتِي كَتَبَهَا بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون}، وَقَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قوي عزيز}، وَقَوْلُهُ: {وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} أَيْ مَنْ خَبَرِهِمْ كَيْفَ نُصِرُوا وَأُيِّدُوا عَلَى مَنْ كَذَّبَهُمْ مَنْ قَوْمِهِمْ فَلَكَ فِيهِمْ أُسْوَةٌ وَبِهِمْ قُدْوَةٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} أَيْ إِنْ كَانَ شَقَّ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْكَ {فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ}، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: النَّفَقُ: السِّرْبُ فَتَذْهَبَ فِيهِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ، أَوْ تَجْعَلَ لَكَ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ، فَتَصْعَدَ فِيهِ، فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أَفْضَلَ مِمَّا آتَيْتَهُمْ به فافعل، وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين}، كقوله تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جميعاً} الآية، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْرِصُ أَنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النَّاسِ وَيُتَابِعُوهُ عَلَى الهدى، فأخبره اللَّهُ إِنَّهُ لاَ يُؤَمِنُ إِلاَّ مَن قَدْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ فِي الذِّكْرِ الأول. وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} أَيْ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لِدُعَائِكَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَسْمَعُ الْكَلَامَ وَيَعِيهِ وَيَفْهَمُهُ، كَقَوْلِهِ: {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الكافرين}. وقوله: {والموتى يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يَعْنِي بِذَلِكَ الْكَفَّارَ لِأَنَّهُمْ مَوْتَى الْقُلُوبِ - فَشَبَّهَهُمُ اللَّهُ بِأَمْوَاتِ الْأَجْسَادِ، فَقَالَ: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}، وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ بهم والإزراء عليهم.

- 37 - وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ - 38 - وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ - 39 - وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى: مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ أَيْ خَارِقٌ عَلَى مُقْتَضَى مَا كانوا يريدون ومما يتعنتون، كقولهم: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} الآيات، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ هُوَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنَّ حِكْمَتَهُ تَعَالَى تَقْتَضِي تَأْخِيرَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَهَا وَفْقَ مَا طَلَبُوا ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا لَعَاجَلَهُمْ بِالْعُقُوبَةِ كَمَا فَعَلَ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خاضعين}، وَقَوْلُهُ: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ أَصْنَافٌ مُصَنَّفَةٌ تُعْرَفُ بِأَسْمَائِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الطَّيْرُ أُمَّةٌ، وَالْإِنْسُ أُمَّةٌ، وَالْجِنُّ أُمَّةٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أَيْ خَلْقٌ أَمْثَالُكُمْ. وَقَوْلُهُ: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} أَيِ الْجَمِيعُ عِلْمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا يَنْسَى وَاحِدًا مِنْ جَمِيعِهَا مِنْ رِزْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ سواء كان برياً أو بحرياً، كقوله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أَيْ مُفْصِحٌ بِأَسْمَائِهَا، وَأَعْدَادِهَا، وَمَظَانِّهَا، وَحَاصِرٌ لِحَرَكَاتِهَا وسكناتها، وقال تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السميع العليم}، وقوله: {ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} عن ابن عباس قال: حشرها الموت، (وَالْقَوْلُ الثَّانِي): إِنَّ حَشْرَهَا هُوَ بَعْثُهَا يَوْمَ القيامة، لقوله: {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ}. عن أبي ذر قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا انْتَطَحَتْ عَنْزَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتدرون فيم انطحتا؟» قَالُوا: لَا نَدْرِي، قَالَ: «لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وسيقضي بينهما»، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: وَلَقَدْ تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُقَلِّبُ طَائِرٌ جناحيه في السماء إلاّ ذكر لنا منه علماً (رواه ابن جرير وأحمد وعبد الرزاق، واللفظ لأحمد) وفي الحديث: «إن الجمعاء لتقتص من القرناء يوم القيامة» (راه الإمام أحمد في المسند) وقال عبد الرزاق عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} قَالَ: يُحْشَرُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْبَهَائِمُ وَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَكُلُّ شَيْءٍ، فَيَبْلُغُ مِنْ عَدْلِ اللَّهِ يومئذٍ أَنْ يأخذ للجماء من القرناء، ثُمَّ يَقُولُ: كُونِي تُرَابًا، فَلِذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ: {يا ليتني كنت تراباً} (الحديث روي موقوفاً هنا ومرفوعاً فِي حَدِيثِ الصُّوَرِ) وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} أَيْ مَثَلُهُمْ فِي جَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعَدَمِ فَهْمِهِمْ كَمَثَلِ أَصَمَّ وَهُوَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ، أَبْكَمَ: وَهُوَ الَّذِي لا يتكلم، وهو مع هذا في ظلمات لَا يُبْصِرُ، فَكَيْفَ يَهْتَدِي مِثْلُ هَذَا إِلَى الطريق أو يخرج مما

هو فيه؟ كقوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} ولهذا قال: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ

- 40 - قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 41 - بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ - 42 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ - 43 - فَلَوْلَا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - 44 - فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ - 45 - فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَأَنَّهُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يَقْدِرُ أحد على صرف حكمه خَلْقِهِ بَلْ هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي إِذَا سُئِلَ يُجِيبُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَلِهَذَا قَالَ: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ} أَيْ أَتَاكُمْ هَذَا أَوْ هَذَا {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ لَا تَدْعُونَ غَيْرَهُ لِعِلْمِكُمْ أَنَّهُ لَا يقدر أحد على رفع ذَلِكَ سِوَاهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ فِي اتِّخَاذِكُمْ آلِهَةً مَعَهُ {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} أَيْ فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ لا تدعون أحداً سواه وستذهب عنكم أصنامكم وأندادكم كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} الآية. وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} يَعْنِي الْفَقْرَ وَالضِّيقَ فِي الْعَيْشِ، {وَالضَّرَّاءِ} وَهِيَ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ وَالْآلَامُ، {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أَيْ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ وَيَخْشَعُونَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلَا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} أَيْ فَهَلَّا إِذِ ابْتَلَيْنَاهُمْ بِذَلِكَ تَضَرَّعُوا إِلَيْنَا وتمسكوا لدينا، {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أَيْ مَا رَقَّتْ وَلَا خَشَعَتْ، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي من الشرك والمعاندة وَالْمَعَاصِي، {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} أَيْ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَتَنَاسَوْهُ وَجَعَلُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ مِّن كُلِّ مَا يَخْتَارُونَ، وَهَذَا اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ تَعَالَى وَإِمْلَاءٌ لَهُمْ، عِيَاذًا بِاللَّهِ من مكره، ولهذا قال: {حتى فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوا} أَيْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَرْزَاقِ {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} أَيْ عَلَى غَفْلَةٍ {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} أَيْ آيِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ. قال ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُبْلِسُ: الْآيِسُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَنْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَمْكُرُ بِهِ فَلَا رَأْيَ لَهُ، وَمَنْ قُتِرَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَنْظُرُ لَهُ فَلَا رأي له، ثم قرأ: {فلما نسوا من ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} قال: مَكَرَ بِالْقَوْمِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، أُعْطُوا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ أخذوا وَقَالَ قَتَادَةُ: بَغَتَ الْقَوْمَ أَمْرُ اللَّهِ، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ قَوْمًا قَطُّ إِلَّا عِنْدَ سَكْرَتِهِمْ وَغَرَّتِهِمْ وَنِعْمَتِهِمْ، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إِلاَّ القوم الفاسقون.

وَقَالَ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} قال: رخاء الدنيا ويسرها. وقد قال الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ»، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هم مبلسون} (رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم) وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله كان يقول: إذا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ بَقَاءً أَوْ نَمَاءً رَزَقَهُمُ الْقَصْدَ وَالْعَفَافَ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ اقْتِطَاعًا فَتَحَ لَهُمْ - أَوْ فَتْحَ عَلَيْهِمْ - بَابَ خِيَانَةٍ {حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ}، كَمَا قَالَ: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين} (رواه ابن أبي حاتم وأحمد في مسنده)

- 46 - قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ - 47 - قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ - 48 - وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ - 49 - وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُعَانِدِينَ {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} أي سلبكم إياها كما أعطاكموها، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} الآية، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ الانتفاع بها الِانْتِفَاعَ الشَّرْعِيَّ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}، كما قال: {أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار} وَقَالَ: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وقلبه}، وَقَوْلُهُ: {مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} أَيْ هَلْ أَحُدٌ غَيْرُ اللَّهِ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ إِلَيْكُمْ إِذَا سَلَبَهُ اللَّهُ مِنْكُمْ؟ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ، وَلِهَذَا قال: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} أَيْ نُبَيِّنُهَا وَنُوَضِّحُهَا وَنُفَسِّرُهَا دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ، {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} أَيْ ثُمَّ هُمْ مع البيان يصدفون، أي يُعْرِضُونَ عَنِ الْحَقِّ وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِهِ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَصْدِفُونَ أَيْ يَعْدِلُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وقتادة: يعرضون، وقال السدي: يصدون. وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً} أَيْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ بِهِ حَتَّى بَغَتَكُمْ وَفَجَأَكُمْ، {أَوْ جَهْرَةً} أَيْ ظَاهِرًا عَيَانًا، {هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} أَيْ إِنَّمَا كَانَ يحيط بالظالمين أنفسهم بالشرك بالله ينجو الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَقَوْلُهُ: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} أَيْ مُبَشِّرِينَ عِبَادَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَيْرَاتِ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ النِّقَمَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَن آمَنَ وَأَصْلَحَ} أَيْ فَمَنْ آمَنَ قَلْبُهُ بِمَا جَاءُوا بِهِ وَأَصْلَحَ عَمَلَهُ بِاتِّبَاعِهِ إِيَّاهُمْ {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي بالنسبة لما يَسْتَقْبِلُونَهُ، {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَاتَهُمْ وَتَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَصَنِيعِهَا، اللَّهُ وَلِيُّهُمْ فِيمَا خَلَّفُوهُ،

وَحَافِظُهُمْ فِيمَا تَرَكُوهُ؛ ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أَيْ يَنَالُهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَفَرُوا بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَخَرَجُوا عَنْ أَوَامِرَ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَارْتَكَبُوا من مناهيه ومحارمه وانتهاك حرماته.

- 50 - قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ - 51 - وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ - 52 - وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ - 53 - وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ - 54 - وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يقول اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ} أَيْ لستُ أَمْلِكُهَا وَلَا أَتَصَرَّفُ فِيهَا، {وَلَا أَعْلَمُ الغيب} أي ولا أقول لكم إِنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ إِنَّمَا ذَاكَ مِنْ عِلْمِ الله عزَّ وجلَّ، وَلاَ أَطَّلِعُ مِنْهُ إِلَّا عَلَى مَا أَطْلَعَنِي عَلَيْهِ، {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} أَيْ وَلَا أَدَّعِي أَنِّي مَلَكٌ، إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِنَ الْبَشَرِ يُوحَى إليَّ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ شَرَّفَنِي بِذَلِكَ وَأَنْعَمَ عَلَيَّ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} أَيْ لَسْتُ أَخْرُجُ عَنْهُ قَيْدَ شِبْرٍ وَلَا أَدْنَى مِنْهُ، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} أَيْ هَلْ يَسْتَوِي مَنِ اتَّبَعَ الْحَقَّ وَهُدِيَ إِلَيْهِ، ومن ضل عنه فلم يَنْقَدْ لَهُ {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ}؟ وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألباب} وَقَوْلُهُ: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} أَيْ وَأَنْذِرْ بِهَذَا الْقُرْآنِ يَا مُحَمَّدُ، {الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ}، {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ}، {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لَيْسَ لَهُمْ} أَيْ يومئذٍ {مِّن دُونِهِ ولي ولا شفع} أَيْ لَا قَرِيبَ لَهُمْ وَلَا شَفِيعَ فِيهِمْ مِنْ عَذَابِهِ إِنْ أَرَادَهُ بِهِمْ {لَعَلَّهُمْ يتَّقون} أَيْ أَنْذِرْ هَذَا الْيَوْمَ الَّذِي لَا حَاكِمَ فِيهِ إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فَيَعْمَلُونَ فِي هَذِهِ الدَّارِ عَمَلًا يُنْجِيهِمُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَذَابِهِ، وَيُضَاعِفُ لَهُمْ به الجزيل من ثوابه، وقوله تَعَالَى: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أَيْ لَا تُبْعِدْ هَؤُلَاءِ الْمُتَّصِفِينَ بهذه الصفات عنك بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك، كَقَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}، وَقَوْلُهُ: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} أَيْ يَعْبُدُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ {بِالْغَدَاةِ والعشي} قال سعيد ابن المسيب: المراد به الصلاة المكتوبة (وهو قول مجاهد والحسن وقتادة) وهذا كقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أَيْ أَتَقَبَّلُ مِنْكُمْ،

وقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي يريدون بذلك العمل وجه الله الكريم وهم مُخْلِصُونَ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَقَوْلُهُ: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ} كقول نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَوَابِ الَّذِينَ قَالُوا: {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون}، {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} أَيْ إِنَّمَا حِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَلَيْسَ عَلَيَّ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِي مِنْ شَيْءٍ وَقَوْلُهُ: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} أَيْ إِنْ فعلت هذا والحالة هذه. روى ابن جرير عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ صُهَيْبٌ وَبِلَالٌ وَعَمَّارٌ وَخَبَّابٌ وَغَيْرُهُمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ: أَرَضِيتَ بِهَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمِكَ؟ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ منَّ اللَّهُ عَلَيْهِم من بيننا؟ أنحن نصير تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم فلعلك إن طردتهم نَتَّبِعَكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ خَبَّابٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} قَالَ: جَاءَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فَوَجَدُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ صُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَخَبَّابٍ قَاعِدًا فِي نَاسٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم حقّروهم في نفر من أصحابه فَأَتَوْهُ فَخَلَوْا بِهِ، وَقَالُوا: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لَنَا بِهِ الْعَرَبُ فَضْلَنَا: فَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَأْتِيكَ فَنَسْتَحْيِي أَنْ تَرَانَا الْعَرَبُ مَعَ هَذِهِ الْأَعْبُدِ، فَإِذَا نَحْنُ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنَّا، فَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ. قَالَ: «نَعَمْ»، قَالُوا: فاكتب لنا عليك كتاباً، قال: فدعا بصحيفة وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ وَنَحْنُ قُعُودٌ فِي نَاحِيَةٍ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ربهم} الآية، فَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصحيفة من يده، ثم دعانا فأتيناه (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه ابن جرير أيضاً من حدث أسباط بن نصر) وقال سَعْدٌ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمُ ابن مسعود قال: كنا نستبق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وندنو منه، فقالت قريش: تدني هَؤُلَاءِ دُونَنَا، فَنَزَلَتْ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} (رواه الحاكم في المستدرك وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ في صحيحة) وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أَيِ ابْتَلَيْنَا وَاخْتَبَرْنَا، وَامْتَحَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ {لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ منَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ}، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ غَالِبَ مَنِ اتبعه في أول بعثته ضُعَفَاءُ النَّاسِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، وَلَمْ يَتْبَعْهُ مِنَ الْأَشْرَافِ إِلاَّ قَلِيلٌ، كَمَا قال نُوحٍ لِنُوحٍ: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي} الآية، وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سُفْيَانَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ تِلْكَ الْمَسَائِلَ فَقَالَ له فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَقَالَ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَالْغَرَضُ أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ كَانُوا يَسْخَرُونَ بِمَنْ آمَنَ مِنْ ضُعَفَائِهِمْ وَيُعَذِّبُونَ مَنْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: أَهَؤُلَاءِ منَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ؟ أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَهْدِيَ هَؤُلَاءِ إِلَى الْخَيْرِ لَوْ كَانَ مَا صَارُوا إِلَيْهِ خيراً ويدعنا كقولهم: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ،} وكقوله تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَوَابِ ذَلِكَ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئيا}، وَقَالَ فِي جَوَابِهِمْ حِينَ قَالُوا:

{أَهَؤُلَاءِ منَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ} {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}؟ أَيْ أَلَيْسَ هُوَ أَعْلَمُ بِالشَّاكِرِينَ لَهُ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ فَيُوَفِّقُهُمْ وَيَهْدِيهِمْ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المحسنين} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَلْوَانِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلى قلوبكم وأعمالكم» (أخرجه مسلم بلفظ: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم .. » الحديث.) وقوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} أَيْ فَأَكْرِمْهُمْ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَبَشِّرْهُمْ بِرَحْمَةِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ الشَّامِلَةِ لَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أَيْ أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا وَامْتِنَانًا {أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ}، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جاهل وقال بعضهم: الدنيا كلها جهالة: {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ} أَيْ رَجَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَأَقْلَعَ، وَعَزَمَ على أن لا يَعُودَ وَأَصْلَحَ الْعَمَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قال الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ على الخلق كتب في كتاب فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غضبي». أخرجاه في الصحيحين.

- 55 - وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ - 56 - قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُهْتَدِينَ - 57 - قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ - 58 - قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ - 59 - وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٌ يَقُولُ تَعَالَى: {وَكَمَا بَيَّنَا مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنَ الْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى طريق الهداية والرشاد وذم المجادلة والعناد، {كذلك نفَصِّلُ الْآيَاتِ} أَيِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُخَاطَبُونَ إِلَى بَيَانِهَا، {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} أَيْ وَلِتَظْهَرَ طَرِيقُ المجرمين المخالفين للرسل، وَقَوْلُهُ: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} أَيْ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ شَرِيعَةِ اللَّهِ الَّتِي أوحاها الله إِلَيَّ، {وَكَذَّبْتُم بِهِ} أَيْ بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَنِي من اللَّهِ، {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أَيْ مِنَ الْعَذَابِ، {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ} أَيْ إِنَّمَا يَرْجِعُ أَمْرُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَجَّلَ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْظَرَكُمْ وَأَجَّلَكُمْ لِمَا لَهُ فِي ذلك من الحكمة العظيمة، ولهذا قال: {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} أَيْ وَهُوَ خير من فصل القضايا وخير الفاصلين في الحكم بَيْنَ عِبَادِهِ، وَقَوْلُهُ: {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي لو كان مرجع ذلك إليّ لأوقعت لكم مَا تَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وبين ما ثبت في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ

أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُد؟ فَقَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى (ابْنِ عبد ياليل بن عَبْدِ كِلَالٍ) فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بسحابة قد ظللتني، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عليَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بأمرك فيما شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَطْبَقْتُ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يعبد الله لا يشرك به شيئاً. فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأنا بِهِمْ، وَسَأَلَ لَهُمُ التَّأْخِيرَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {قُلْ لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}؟ فَالْجَوَابُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِلَيْهِ وُقُوعُ الْعَذَابِ الَّذِي يَطْلُبُونَهُ حَالَ طَلَبِهِمْ لَهُ لَأَوْقَعَهُ بِهِمْ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ وُقُوعَ الْعَذَابِ بِهِمْ بَلْ عَرَضَ عَلَيْهِ مَلَكُ الْجِبَالِ، أَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَطْبَقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ وَهُمَا جَبَلَا مَكَّةَ اللَّذَانِ يَكْتَنِفَانِهَا جَنُوبًا وَشَمَالًا، فَلِهَذَا اسْتَأْنَى بِهِمْ وسأل الرفق لَهُمْ. وقوله تَعَالَى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} قال البخاري عن سالم بن عبد الله عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: مفاتح الغيب خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ" ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ}، وفي حديث عمر أَنَّ جِبْرِيلَ حِينَ تَبَدَّى لَهُ فِي صُورَةِ أعرابي، فسأل عن الإيمان الإسلام الإحسان. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ لَهُ: «خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ» ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية. وَقَوْلُهُ: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أَيْ يُحِيطُ عِلْمُهُ الْكَرِيمُ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ بَرِّيِّهَا وَبَحْرِيِّهَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَلَا مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وما أحسن ما قاله الصَّرْصَرِيُّ: فَلا يَخْفَى عَلَيْهِ الذَّرُّ إمَّا * تَرَاءَى للنواظر أو توارى وقوله تَعَالَى: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} أَيْ وَيَعْلَمُ الْحَرَكَاتِ حَتَّى مِنَ الْجَمَادَاتِ، فَمَا ظَنُّكَ بالحيوانات لا سيما بالمكلفون مِنْهُمْ مِنْ جِنِّهِمْ وَإِنْسِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصدور} وقال ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} قَالَ: مَا مِنْ شَجَرَةٍ فِي بَرٍّ وَلَا بَحْرٍ إِلَّا وَمَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهَا يَكْتُبُ مَا يُسْقُطُ مِنْهَا، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} قال عبد الله بن الحارث: مَّا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ وَلَا مَغْرَزِ إبراة إلاّ وعليها مَلَكٌ مُوَكَّلٌ يَأْتِي اللَّهَ بِعِلْمِهَا رُطُوبَتِهَا إِذَا رطبت ويبوستها إذا يبست.

- 60 - وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ - 61 - وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَآءَ

أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ - 62 - ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الحكم وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين يقول تَعَالَى: أَنَّهُ يَتَوَفَّى عِبَادَهُ فِي مَنَامِهِمْ بِاللَّيْلِ، وَهَذَا هُوَ التَّوَفِّي الْأَصْغَرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يتوفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي منامها}، فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْوَفَاتَيْنِ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ حُكْمَ الْوَفَاتَيْنِ الصُّغْرَى ثُمَّ الْكُبْرَى، فَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} أَيْ وَيَعْلَمُ مَا كَسَبْتُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِالنَّهَارِ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ دَلَّتْ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ في ليلهم ونهارهم في حال سكونهم حَالِ حَرَكَتِهِمْ، كَمَا قَالَ: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} أَيْ فِي اللَّيْلِ، {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أَيْ فِي النَّهَارِ، كَمَا قَالَ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لباساً وحعلنا النهار معاشاً}، ولهذا قال تعالى ها هنا: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} أي ما كسبتم من الأعمال فيه، {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أَيْ فِي النَّهَارِ، قَالَهُ مجاهد وقتادة والسدي، وقال ابن جرير: أَيْ فِي الْمَنَامِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدِهِ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ مَلَكٌ إِذَا نَامَ أَخَذَ نَفْسَهُ وَيُرَدُّ إِلَيْهِ، فَإِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي قَبْضِ رُوحِهِ قَبَضَهُ وَإِلَّا رُدَّ إِلَيْهِ» فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ}، وَقَوْلُهُ: {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى} يَعْنِي بِهِ أَجَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أَيْ يوم القيامة، {ثم يُنَبِّئُكُم} أي يخبركم {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وَيَجْزِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} أي وهو الَّذِي قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَخَضَعَ لِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ كُلُّ شَيْءٍ، {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} أَيْ من الملائكة يحفظون بدن الإنسان كقوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمر الله} وحفظة يحفظون عمله ويحصونه كقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} الآية، وكقوله: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عتيد} وكقوله: {إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان} الآية. وقوله تعالى: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت} أي احْتَضَرَ وَحَانَ أَجَلُهُ {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أَيْ مَلَائِكَةٌ مُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: لِمَلَكِ الْمَوْتِ أَعْوَانٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُخْرِجُونَ الرُّوحَ مِنَ الْجَسَدِ فَيَقْبِضُهَا مَلَكُ الْمَوْتِ إِذَا انْتَهَتْ إِلَى الْحُلْقُومِ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بالقول الثابت} الأحاديث المتعلقة بذلك الشاهدة لهذا بِالصِّحَّةِ، وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} أَيْ فِي حِفْظِ رُوحِ الْمُتَوَفَّى بَلْ يَحْفَظُونَهَا وَيُنْزِلُونَهَا حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، إِنْ كَانَ مِنَ الْأَبْرَارِ فَفِي عِلِّيِّينَ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْفُجَّارِ فَفِي سِجِّينٍ عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ}. قَالَ ابن جرير: {ثُمَّ ردوا} يعني الملائكة، ونذكر هَا هُنَا الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخْرُجِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غير غضبان، فلا تزال يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فَلَانٌ، فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادْخُلِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا تزال يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ

عزَّ وجلَّ وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، اخْرُجِي ذَمِيمَةً، وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ وَآخَرَ من شكله أزواج، فلا تزال يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فَلَانٌ، فَيُقَالُ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ ارْجِعِي ذَمِيمَةً فَإِنَّهُ لَا يُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَتُرْسَلُ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ، فَيَجْلِسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَيُقَالُ لَهُ: مِثْلَ مَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَيَجْلِسُ الرَّجُلُ السُّوءُ فَيُقَالُ لَهُ: مِثْلُ مَا قِيلَ في الحديث الثاني". وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ رُدُّوا} يعني الخلائق كلهم إلى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِعَدْلِهِ كَمَا قَالَ: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ}، وقال: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} وَلِهَذَا قَالَ: {مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}.

- 63 - قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ - 64 - قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ - 65 - قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ فِي إِنْجَائِهِ الْمُضْطَرِّينَ مِنْهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أَيِ الْحَائِرِينَ الْوَاقِعِينَ فِي الْمَهَامِهِ الْبَرِّيَّةِ، وَفِي اللُّجُجِ الْبَحْرِيَّةِ إِذَا هاجت الرياح العاصفة، فحينئذ يفردون الدعاء له وحده له شريك له، كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} الآية، وقوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} الآية، وقوله: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يشركون} وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} أي جهراً وسراً، {لَّئِنْ أَنجَانَا} أَيْ مِنْ هَذِهِ الضَّائِقَةِ {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي بعدها، قال الله: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ} أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ، {تُشْرِكُونَ} أَيْ تَدْعُونَ مَعَهُ فِي حَالِ الرَّفَاهِيَةِ آلِهَةً أُخْرَى، وَقَوْلُهُ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} لَمَّا قَالَ: {ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عليكم عَذَاباً} أي بعد إنجائه إياكم كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً} قال الحسن: هذه للمشركين، وقال مجاهد: لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وعفا عَنْهُمْ؛ وَنَذْكُرُ هُنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ. قال البخاري رحمة الله تعالى: يَلْبِسَكُمْ: يَخْلِطَكُمْ مِنَ الِالْتِبَاسِ، يَلْبِسُوا: يَخْلِطُوا، شِيَعًا: فرقاً. ثم روى بسنده عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} قَالَ

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»، {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: «أَعُوُذُ بِوَجْهِكَ»، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هذه أهون - أو - أيسر» (طريق آخَرُ) قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ» {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ»، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} قَالَ: «هَذَا أَيْسَرُ» وَلَوِ اسْتَعَاذَهُ لأعاذه. (حديث آخر): قال الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَرَرْنَا عَلَى مَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، فَدَخَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَصَلَّيْنَا مَعَهُ، فَنَاجَى ربه عزَّ وجلَّ طويلاً ثم قال: "سألت ربي ثلاثاً، سألته: أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته: أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته: أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها" (أخرجه مسلم في كتاب الفتن، ومعنى السنة: القحط والجدب) (حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَنَا عَبْدُ الله بن عمر في حرة بَنِي مُعَاوِيَةَ - قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْأَنْصَارِ - فَقَالَ لِي: هَلْ تَدْرِي أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِكُمْ هَذَا؟ فقلت: نعم، فقال: فَأَشَرْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي ما الثلاث التي دعاهن فيه؟ فقلت: أخبرني بهن فقلت: دعا أن لا يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَا يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ فَأُعْطِيهِمَا، وَدَعَا بِأَنْ لَا يُجْعَلَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ فَمُنِعَهَا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَلَا يَزَالُ الْهَرْجُ إلى يوم القيامة (قال ابن كثير: إسناده جيد قوي وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ) (حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سَفَرٍ صَلَّى سُبْحَةَ الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «إِنِّي صَلَّيْتُ صَلَاةَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ»، وسألت رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً: سَأَلْتُهُ أن لا يبتلي أمتي بالسنين ففعل، وسألته أن لا يظهر عليهم عدوهم ففعل، وسألته أن لا يلبسهم شيعاً فأبى عليّ"، ورواه النسائي في الصلاة. (حديث آخر): قال الإمام أحمد عن خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ مَوْلَى بَنِي زُهْرَةَ وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: وافيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في لَيْلَةٍ صَلَّاهَا كُلَّهَا حَتَّى كَانَ مَعَ الْفَجْرِ فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلاته، فقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتَ اللَّيْلَةَ صَلَاةً مَا رَأَيْتُكَ صَلَّيْتَ مِثْلَهَا! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَجَلْ إِنَّهَا صَلَاةُ رَغَبٍ وَرَهَبٍ، سَأَلْتُ رَبِّي عزَّ وجلَّ فِيهَا ثَلَاثَ خِصَالٍ فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ ربي عزَّ وجلَّ إن لا يُهْلِكَنَا بِمَا أَهْلَكَ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَنَا فَأَعْطَانِيهَا، وسألت ربي عزَّ وجلَّ أن لا يُظْهِرَ عَلَيْنَا عَدُوًّا مِنْ غَيْرِنَا فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ ربي عزَّ وجلَّ أن لا يلبسنا شيعاً فمنعنيها» (رواه أحمد والنسائي وابن حبان والترمذي وقال: حسن صحيح) (حديث آخر): عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ حَتَّى رَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي منها، وإني أعطيت الكنزين (المراد بالكنزين: الذهب والفضة) الْأَبْيَضَ وَالْأَحْمَرَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي عزَّ وجلَّ أن لا يهلك أمتي بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً فيهلكهم بعامة، وأن لا يلبسهم شيعاً، وأن لا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وان لا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِمَّنْ سِوَاهُمْ فَيُهْلِكَهُمْ بِعَامَّةٍ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَبَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بعضاً وبعضهم يسبي

بعضاً". قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي إِلَّا الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ، فَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عنهم إلى يوم القيامة» (قال ابن كثير: الْحَدِيثُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ وإسناده جيد قوي) (حديث آخر): قال الطبراني عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ السُّوَائِيِّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ: "سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثَ خِصَالٍ فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ لَا تُهْلِكْ أُمَّتِي جُوعًا فَقَالَ: هَذِهِ لَكَ. قُلْتُ: يَا رَبِّ لَا تُسَلِّطْ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ يعني أهل الشرك فيجتاجهم قَالَ: ذَلِكَ لَكَ، قُلْتُ: يَا رَبِّ لَا تَجْعَلْ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ قَالَ - فَمَنَعَنِي هَذِهِ" (حَدِيثٌ آخَرُ): قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "دَعَوْتُ رَبِّي عزَّ وجلَّ أَنْ يَرْفَعَ عَنْ أُمَّتِي أَرْبَعًا فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ اثْنَتَيْنِ، وَأَبَى عَليَّ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ اثْنَتَيْنِ: دَعَوْتُ رَبِّي أَنْ يَرْفَعَ الرَّجْمَ من السماء والغرق من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعاً، وأن لا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرَّجْمَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْغَرَقَ مِنَ الْأَرْضِ، وَأَبَى أَنْ يَرْفَعَ اثْنَتَيْنِ الْقَتْلَ وَالْهَرْجَ". (طَرِيقٌ أُخْرَى): عنابن عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ: فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَا تُرْسِلْ عَلَى أُمَّتِي عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ وَلَا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَلَا تَلْبِسْهُمْ شِيَعًا، وَلَا تُذِقْ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَجَارَ أُمَّتَكَ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أرجلهم. قال مجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد وغير واحد فِي قَوْلِهِ: {عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} يَعْنِي الرَّجْمَ، {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يَعْنِي الْخَسْفَ وَهَذَا هو اختيار ابن جرير. وكان عبد الله بن مسعود يصيح وهو في المسجد أَوْ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} لَوْ جَاءَكُمْ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ لَمْ يُبْقِ منكم أحد {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} لَوْ خَسَفَ بِكُمُ الأرض أهلككم ولم يُبْقِ مِنْكُمْ أَحَدًا، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}، أَلَا إِنَّهُ نَزَلَ بِكُمْ أسوأ الثلاث. وقال ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} يَعْنِي أُمَرَاءَكُمْ، {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يَعْنِي عَبِيدَكُمْ وسفلتكم، قال ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ لَهُ وجه صحيح لكن الأول أظهر وأقوى، وَيَشْهَدُ لَهُ بِالصِّحَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} وَفِي الْحَدِيثِ: «لِيَكُونَنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَذْفٌ وَخَسْفٌ وَمَسْخٌ»، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ مَعَ نَظَائِرِهِ فِي أَمَارَاتِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا وَظُهُورِ الْآيَاتِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَسَتَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى. وقوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} يعني يجعلكم ملتبسين شيعاً فرقاً متخالفين. قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْأَهْوَاءَ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وقد ورد في الحديث عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كلها في النار إلاّ واحدة» وقوله تعالى: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي يُسَلِّطُ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ بالعذاب والقتل، وقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} أَيْ نُبَيِّنُهَا وَنُوَضِّحُهَا مرة ونفسرها {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} أَيْ يَفْهَمُونَ وَيَتَدَبَّرُونَ عَنِ اللَّهِ آياته وحججه وبراهينه قال زيد

ابن أَسْلَمَ: لَمَّا نَزَلَتْ {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أن يبعث عليكم عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} الْآيَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رقاب بعض بالسيف» قَالُوا: وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» فَقَالَ بعضهم: لَا يَكُونُ هَذَا أَبَدًا أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُنَا بَعْضًا وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ، فَنَزَلَتْ {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ* وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وابن جرير)

- 66 - وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ - 67 - لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - 68 - وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - 69 - وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَكَذَّبَ بِهِ} أَيْ بِالْقُرْآنِ الَّذِي جِئْتَهُمْ بِهِ وَالْهُدَى وَالْبَيَانِ {قَوْمُكَ} يَعْنِي قُرَيْشًا، {وَهُوَ الْحَقُّ} أَيِ الَّذِي لَيْسَ وَرَاءَهُ حَقٌّ، {قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}، أَيْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ، وَلَسْتُ بِمُوَكَّلٍ بِكُمْ كَقَوْلِهِ: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ}، أَيْ إِنَّمَا عليَّ الْبَلَاغُ وَعَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، فمن اتبعني سعد في الدنا والآخرة، من خَالَفَنِي فَقَدْ شَقِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لِكُلِّ نَبَأٍ حَقِيقَةٌ، أَيْ لِكُلِّ خَبَرٍ وُقُوعٌ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، كَمَا قَالَ: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حين}، وقال: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}، وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} أَيْ بِالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أَيْ حَتَّى يَأْخُذُوا فِي كَلَامٍ آخَرَ غَيْرِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان}، والمراد بذلك كل فرد فرد من آحاد الأمة، أن لا يَجْلِسَ مَعَ الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ آيَاتِ اللَّهِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، فَإِنْ جَلَسَ أَحَدٌ مَعَهُمْ نَاسِيًا {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} بَعْدَ التَّذَكُّرِ {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (أخرجه ابن ماجة ولفظه «إن الله وضع عن أمتي الخطأ .. » الحديث) وقال السدي فِي قَوْلِهِ: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ}، قَالَ: إِنْ نسيت فذكرت {فَلاَ تَقْعُدْ} مَعَهُمْ، وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} الآية، أَيْ إِنَّكُمْ إِذَا جَلَسْتُمْ مَعَهُمْ وَأَقْرَرْتُمُوهُمْ عَلَى ذلك فقد ساويتموهم فيما هُمْ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِن شَيْءٍ} أَيْ إِذَا تَجَنَّبُوهُمْ فلم يجلسوا معهم في ذلك فقد برثوا مِنْ عُهْدَتِهِمْ وَتَخَلَّصُوا مِنْ إِثْمِهِمْ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَوْلَهُ: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِّن شَيْءٍ} قَالَ: مَا عَلَيْكَ أَنْ يَخُوضُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ إِذَا فَعَلْتَ ذلك، أي إذا تجنبتم وَأَعْرَضْتَ عَنْهُمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَاهُ: وَإِنْ جَلَسُوا مَعَهُمْ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ النِّسَاءِ المدنية وهي قوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ}، قاله مجاهد

والسُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمْ، وَعَلَى قَوْلِهِمْ يَكُونُ قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أَيْ وَلَكِنْ أمرناكم بالإعراض عنهم حينئذ تذكريراً لَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ذَلِكَ وَلَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ.

- 70 - وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٍ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أَيْ دَعْهُمْ وَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَأَمْهِلْهُمْ قَلِيلًا فَإِنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَذَكِّرْ بِهِ} أي ذكر النَّاسَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَحَذِّرْهُمْ نِقْمَةَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ الأليم يوم القيامة، وقوله تعالى: {أَن تُبْسَلَ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أَيْ لِئَلَّا تبسل، قال ابن عباس وَالْحَسَنُ والسُّدِّيُّ: تُبْسَلَ: تُسْلَمَ، وَقَالَ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابن عباس تفتضح. وقال قتادة: تحبس، وقال ابن زيد: تؤاخذ، وقال الكلبي: تجزى، وكل هذا الأقوال والعبارات مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَحَاصِلُهَا الْإِسْلَامُ لِلْهَلَكَةِ، وَالْحَبْسُ عن الخير، والارتهان عن درك المطلوب، كقوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين}، وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} أَيْ لَا قَرِيبَ وَلَا أَحَدَ يشفع فيها، كقوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظالمون}، وَقَوْلُهُ: {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} أَيْ وَلَوْ بَذَلَتْ كُلَّ مَبْذُولٍ مَا قبل منها كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم ملء الأرض ذهباً} الآية، وكذا قَالَ هَهُنَا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}.

- 71 - قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - 72 - وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ - 73 - وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ قَالَ السدي: قال المشركون للمسلمين اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَاتْرُكُوا دِينَ مُحَمَّدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {قل أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مالا يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} أَيْ فِي الْكُفْرِ {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} فَيَكُونُ مَثَلُنَا مَثَلَ الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ، يقول: مثلكم إن كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كمثل رجل خرج مَعَ قَوْمٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فضلَّ الطَّرِيقَ، فَحَيَّرَتْهُ الشَّيَاطِينُ وَاسْتَهْوَتْهُ فِي الْأَرْضِ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَعَلُوا يَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ يَقُولُونَ: ائْتِنَا فَإِنَّا عَلَى

الطَّرِيقِ، فَأَبَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ يَتَّبِعُهُمْ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الطَّرِيقِ، وَالطَّرِيقُ هُوَ الْإِسْلَامُ (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ) وَقَالَ قَتَادَةُ {اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} أَضَلَّتْهُ فِي الأرض: يعني استهوته سيرته، كقوله: {تهوي إِلَيْهِمْ}، وقال ابن عباس: هذا مثل ضربه الله لآلهة وَمَنْ يَدْعُو إِلَيْهَا، وَالدُّعَاةُ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى هدى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، كَمَثَلِ رَجُلٍ ضَلَّ عَنْ طريق تائهاً، إذ ناداه مناد: يا فلان ابن فُلَانٍ هَلُمَّ إِلَى الطَّرِيقِ، وَلَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ يَا فُلَانُ هَلُمَّ إِلَى الطَّرِيقِ، فَإِنِ اتَّبَعَ الدَّاعِيَ الْأَوَّلَ انْطَلَقَ بِهِ حَتَّى يُلْقِيَهُ إِلَى الْهَلَكَةِ، وَإِنْ أَجَابَ مَنْ يَدْعُوهُ إِلَى الْهُدَى اهتدى إلى الطريق، يَقُولُ: مَثَلُ مَنْ يَعْبُدُ هَذِهِ الْآلِهَةَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّهُ فِي شَيْءٍ حتى يأتيه الموت فيستقبل الندامة والهلكة. وقوله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} هُمُ الْغِيلَانُ يَدْعُونَهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، فَيَتَّبِعُهَا، وَهُوَ يرى أنه في شيء، فيصبح وقد رمته فِي هَلَكَةٍ، وَرُبَّمَا أَكَلَتْهُ، أَوْ تُلْقِيهِ فِي مضلة من الأرض يهلك فيها عطشاً فبهذا مِثْلُ مَنْ أَجَابَ الْآلِهَةَ الَّتِي تُعْبَدُ مَنْ دُونِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وقال مُجَاهِدٍ: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} قَالَ: رَجُلٌ حَيْرَانُ يَدْعُوهُ أَصْحَابُهُ إِلَى الطَّرِيقِ وذلك مثل من يضل مِن بَعْدِ أَن هُدِيَ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عباس: هُوَ الَّذِي لَا يَسْتَجِيبُ لِهُدَى اللَّهِ، وَهُوَ رَجُلٌ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ، وَعَمِلَ فِي الْأَرْضِ بِالْمَعْصِيَةِ، وحاد من الْحَقِّ، وَضَلَّ عَنْهُ، وَلَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الَّذِي يَأْمُرُونَهُ بِهِ هُدًى، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس {إِنَّ الهدى هُدَى الله} وَالضَّلَالُ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْجِنُّ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَصْحَابَهُ يدعونه إلى الضلال ويزعمون أنه هدى، قال: وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أنهم يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ ضَلَالًا وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ هُدًى، وَهُوَ كما قال ابن جرير، فإن السياق يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ فِي حَالِ حِيرَتِهِ وَضَلَالِهِ وَجَهْلِهِ وَجْهُ الْمَحَجَّةِ، وَلَهُ أَصْحَابٌ عَلَى الْمَحَجَّةِ سَائِرُونَ، فَجَعَلُوا يَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ وَإِلَى الذَّهَابِ مَعَهُمْ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَيَأْبَى عَلَيْهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَهَدَاهُ وَلَرَدَّ بِهِ إِلَى الطَّرِيقِ، وَلِهَذَا قَالَ: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} كَمَا قَالَ: {وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} وَقَالَ: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} وَقَوْلُهُ: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ نُخْلِصُ لَهُ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ} أَيْ وَأُمِرْنَا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَبِتَقْوَاهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أَيْ بِالْعَدْلِ فَهُوَ خَالِقُهُمَا وَمَالِكُهُمَا وَالْمُدَبِّرُ لَهُمَا وَلِمَنْ فِيهِمَا، وَقَوْلُهُ: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ كُنْ فَيَكُونُ عَنْ أَمْرِهِ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هو أقرب، واختلف المفسرن فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ}، فَقَالَ بعضهم: المراد بالصور هنا جَمْعُ صُورَةٍ أَيْ يَوْمَ يَنْفُخُ فِيهَا فَتَحْيَا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ كَمَا يُقَالُ: سُورٌ لِسُورِ البلد، وهو جَمْعُ سُورَةٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصُّورِ الْقَرْنُ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا مَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ إِسْرَافِيلَ قَدِ الْتَقَمَ الصور وحنى جبهته متى يؤمر فينفخ» (رواه مسلم في صحيحه) وقال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ، قَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الصُّورُ؟ قَالَ: «قرن ينفخ فيه».

- 74 - وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أصناما آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ - 75 - وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ - 76 - فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ - 77 - فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين - 78 - فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ - 79 - إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَبَا إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنِ اسْمُهُ آزَرُ، وإنما كان اسمه تارخ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ والسُّدِّيُّ: آزَرُ اسْمُ صَنَمٍ، قُلْتُ: كَأَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ آزَرُ لِخِدْمَتِهِ ذَلِكَ الصَّنَمَ فالله أعلم، وقال ابن جرير: هو سب وعيب بكلامهم، ومعناه معوج، وهي أَشَدُّ كَلِمَةٍ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّ اسْمَ أَبِيهِ أزر، وقد يَكُونُ لَهُ اسْمَانِ كَمَا لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا لَقَبًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ جيد قوي والله أعلم. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْفَتْحِ، إِمَّا عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ أَعْجَمِيٌّ لَا يَنْصَرِفُ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ لأبيه، أو عطف بيان وهو أشبه، والمقصود أن إبراهيم وَعَظَ أَبَاهُ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَزَجَرَهُ عَنْهَا فَلَمْ يَنْتَهِ كَمَا قَالَ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزر تتخذ أَصْنَاماً آلِهَةً} أَيْ أَتَتَأَلَّهُ لِصَنَمٍ تَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ} أَيِ السَّالِكِينَ مَسْلَكَكَ {فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أَيْ تَائِهِينَ، لَا يَهْتَدُونَ أَيْنَ يَسْلُكُونَ بَلْ فِي حِيرَةٍ وَجَهْلٍ، وَأَمْرُكُمْ فِي الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالِ بَيِّنٌ وَاضِحٌ لِكُلِّ ذي عقل سليم، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}، فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِيهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ وَتَبَيَّنَ إِبْرَاهِيمُ ذَلِكَ رَجَعَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ وَتَبَرَّأَ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ الله تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَلْقَى أَبَاهُ آزر يوم القيامة، فيقول له آزر: يَا بُنَيَّ الْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ أَيْ رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنَّكَ لَا تُخزني يَوْمَ يُبْعَثُونَ، وَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأبعد؟ فيقال: يا إبراهيم انظر ما ورءاك، فَإِذَا هُوَ بِذَبْحٍ مُتَلَطِّخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، وَقَوْلُهُ: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات وَالْأَرْضِ} أَيْ نُبَيِّنُ لَهُ وَجْهَ الدَّلَالَةِ فِي نَظَرِهِ إِلَى خَلْقِهِمَا عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ فِي مُلْكِهِ وَخَلْقِهِ وَإِنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، كَقَوْلِهِ: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السموات والأرض}. وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض}، وَقَالَ: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السمآء والأرض}. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ نُرِي إبراهيم ملكوت السموات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين}، فإنه تعالى جلى لَهُ الْأَمْرَ سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ، فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شيء من أعمال الخلائق،

فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَشَفَ لَهُ عَنْ «بَصَرِهِ» حَتَّى رَأَى ذَلِكَ عَيَانًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ «بَصِيرَتِهِ» حَتَّى شَاهَدَهُ بِفُؤَادِهِ وَتَحَقَّقَهُ وَعَرَفَهُ وَعَلِمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ وَالدَّلَالَاتِ الْقَاطِعَةِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عن معاذ بن جبل فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ: "أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي يَا رَبِّ، فَوَضَعَ يده بَيْنَ كتفيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت ذلك" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} قِيلَ الْوَاوُ زَائِدَةٌ تَقْدِيرُهُ: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، كَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات وَلِتَسْتَبِينَ سبيل المجرمين}، وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَلَى بَابِهَا أَيْ نُرِيهِ ذلك ليكون عالماً وموقناً. وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} أَيْ تَغَشَّاهُ وَسَتَرَهُ {رَأَى كَوْكَباً} أي نجماً (قيل: الزهرة، وقيل: المشتري، وهو قول الطبري، وكان قومه يعبدون الكواكب)، {قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ} أَيْ غَابَ. قال محمد بن إسحاق الْأُفُولُ: الذَّهَابُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يُقَالُ أَفَلَ النَّجْمُ يأفِل ويأفُل أُفُولًا وَأَفْلًا: إِذَا غَابَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: مَصَابِيحُ لَيْسَتْ بِاللَّوَاتِي نقودها * دياج ولا بالآفلات الزوائل وَيُقَالُ: أَيْنَ أَفَلْتَ عَنَّا؟ بِمَعْنَى أَيْنَ غِبْتَ عنا. {قَالَ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}، قَالَ قَتَادَةُ: عَلِمَ أَنَّ رَبَّهُ دَائِمٌ لَا يَزُولُ {فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً} أَيْ طَالِعَا، {قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ} لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين، {فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} أَيْ هَذَا الْمُنِيرُ الطَّالِعُ رَبِّي {هَذَا أَكْبَرُ} أَيْ جِرْمًا مِنَ النجم والقمر وَأَكْثَرَ إِضَاءَةً، {فَلَمَّآ أَفَلَتْ} أَيْ غَابَتْ {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للذي فطر السموات والأرض} أي خلقهما {حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} أَيْ أَخْلَصْتُ دِينِيَ وَأَفْرَدْتُ عِبَادَتِي {لِلَّذِي فَطَرَ السموات وَالْأَرْضَ} أَيْ خَلَقَهُمَا وَابْتَدَعَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ {حَنِيفاً} أَيْ فِي حَالِ كَوْنِي حَنِيفًا أَيْ مَائِلًا عَنِ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْمَقَامِ: هَلْ هُوَ مَقَامُ نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَقَامُ نَظَرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي} الآية. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ ذَلِكَ حِينَ خَرَجَ مِنَ السَّرَبِ الَّذِي وَلَدَتْهُ فِيهِ أُمُّهُ حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان، لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه عَلَى يَدَيْهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْغِلْمَانِ عَامَئِذٍ، فَلَمَّا حَمَلَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ بِهِ وَحَانَ وَضْعُهَا ذَهَبَتْ بِهِ إِلَى سَرَبٍ ظَاهِرَ الْبَلَدِ، فَوَلَدَتْ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَتَرَكَتْهُ هُنَاكَ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، كَمَا ذَكَرَهَا غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَالْحَقُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْهَيَاكِلِ وَالْأَصْنَامِ، فَبَيَّنَ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ مَعَ أَبِيهِ خَطَأَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الْأَرْضِيَّةِ التي هي على صور الملائكة السماوية لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَبَيَّنَ فِي هَذَا الْمَقَامِ خَطَأَهُمْ وَضَلَالَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْهَيَاكِلِ وَهِيَ الْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ السَّبْعَةُ الْمُتَحَيِّرَةُ، وَهِيَ (الْقَمَرُ وَعُطَارِدُ وَالزَّهْرَةُ وَالشَّمْسُ وَالْمِرِّيخُ وَالْمُشْتَرَى وَزُحَلُ)

وأشدهن إضاءة وأشرفهن عِنْدَهُمُ الشَّمْسُ ثُمَّ الْقَمَرُ، ثُمَّ الزُّهَرَةُ، فَبَيَّنَ أولاً صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين لا تزيع عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَلَا تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا تَصَرُّفًا، بَلْ هِيَ جِرْمٌ مِنَ الْأَجْرَامِ خَلَقَهَا اللَّهُ مُنِيرَةً لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الحكم العظيمة، وهي تطلع من الشرق ثم تسير فيما بينه وبين الغرب حَتَّى تَغِيبَ عَنِ الْأَبْصَارِ فِيهِ، ثُمَّ تَبْدُو فِي اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ، وَمِثْلُ هَذِهِ لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْقَمَرِ، فَبَيَّنَ فِيهِ مِثْلَ مَا بَيَّنَ فِي النَّجْمِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الشَّمْسِ كَذَلِكَ، فَلَمَّا انْتَفَتِ الْإِلَهِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الْأَجْرَامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ أَنْوَرُ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْأَبْصَارُ وَتَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} أَيْ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ عِبَادَتِهِنَّ وَمُوَالَاتِهِنَّ، فَإِنْ كَانَتْ آلِهَةً فَكِيدُونِي بِهَا جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونَ {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للذي فطر السموات وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أَيْ إنما أعبد خالق هذه الأشياء وَمُسَخِّرَهَا وَمُقَدِّرَهَا وَمُدَبِّرَهَا الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شيء وخالق كل شيء وربه وملكيه وَإِلَهُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الذي خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ، أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العاليمن}، وكيف يجوز أن يكون إبراهيم نَاظِرًا فِي هَذَا الْمَقَامِ وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} الآيات، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مستقيم}. وقوله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ»، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حَمَّادٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ اللَّهُ إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ»، وَقَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُواْ بَلَى}، وَمَعْنَاهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَقَوْلِهِ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقٍّ سَائِرِ الْخَلِيقَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين نَاظِرًا فِي هَذَا الْمَقَامِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى بِالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالسَّجِيَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ كَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ لَا نَاظِرًا قَوْلُهُ تَعَالَى:

- 80 - وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ - 81 - وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - 82 - الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ - 83 - وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ

نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ يقول تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم حين جادله قَوْمُهُ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَنَاظَرُوهُ بشبه من القول أنه قال: {أتحاجوني فِي الله وَقَدْ هداني} أي أتجادلونني فِي أَمْرِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَقَدْ بَصَّرَنِي وَهَدَانِي إِلَى الْحَقِّ وَأَنَا عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ، فَكَيْفَ أَلْتَفِتُ إِلَى أَقْوَالِكُمُ الْفَاسِدَةِ وَشُبَهِكُمُ الْبَاطِلَةِ؟ وَقَوْلُهُ: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً} أَيْ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِكُمْ فِيمَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْآلِهَةَ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا لَا تُؤَثِّرُ شَيْئًا وَأَنَا لَا أَخَافُهَا وَلَا أباليها، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تنظرون بل عاجلوني بذلك، وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً}، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} أَيْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} أَيْ فِيمَا بَيَّنْتُهُ لكم، أفلا تعتبرون أن هذه الآلهة باطلة فتنزجروا عَنْ عِبَادَتِهَا؟ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ نَظِيرُ مَا احْتَجَّ بها نَبِيُّ اللَّهِ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى قَوْمِهِ عَادٍ فِيمَا قَصَّ عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ يَقُولُ: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ} الآية، وَقَوْلُهُ: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ} أَيْ كَيْفَ أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها مِنْ دُونِ اللَّهِ {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أي حجة، وهذا كقوله تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله}. وقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ}، وَقَوْلُهُ: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي فأيّ طائفتين أَصْوَبُ، الَّذِي عَبَدَ مَنْ بِيَدِهِ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ، أَوِ الَّذِي عَبَدَ مَنْ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ بِلَا دَلِيلٍ؟ أَيُّهُمَا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ مِنْ عذاب الله يوم القيامة المؤمن أم المشرك؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا هُمُ الْآمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُهْتَدُونَ فِي الدُّنْيَا والآخرة. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الناس، فقالوا: يا رسول الله أينا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونَ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} إنما هو الشرك" (رواه أحمد وابن أبي حاتم، وأخرجه البخاري بلفظ: شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم). وفي رواية لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس كما تظنون إنما هي كما قال العبد الصالح لِابْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} "، وفي لفظ قالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس بالذي تَعْنُونَ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ". ولابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعاً

قال: {وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال: «بشرك» (وروي عن أبي بكر وعمر وأُبي بن كعب وحذيفة وابن عمر وعكرمة والضحّاك وقتادة والسدي). وعن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قِيلَ لِي أَنْتَ مِنْهُمْ». وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَنَابٍ عَنْ زَاذَانَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما بَرَزْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ إِذَا رَاكِبٌ يُوضِعُ نَحْوَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَأَنَّ هَذَا الرَّاكِبَ إِيَّاكُمْ يُرِيدُ» فَانْتَهَى إِلَيْنَا الرجل، فسلم فرددنا عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟» قَالَ: مِنْ أَهْلِي وَوَلَدِي وَعَشِيرَتِي قَالَ: «فَأَيْنَ تُرِيدُ؟» قَالَ: أُرِيدُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فَقَدْ أَصَبْتَهُ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ علمني ما الإيمان؟ قال: «أن تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ» قَالَ: قَدْ أَقْرَرْتُ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ بَعِيرَهُ دَخَلَتْ يَدُهُ فِي جحر جُرْذَانٍ فَهَوَى بِعِيرُهُ، وَهَوَى الرَّجُلُ فَوَقَعَ عَلَى هامته فمات. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليَّ بِالرَّجُلِ»، فَوَثَبَ إِلَيْهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَأَقْعَدَاهُ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ الله قبض الرجل، قال: فأعرض عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا رَأَيْتُمَا إِعْرَاضِي عَنِ الرَّجُلِ، فَإِنِّي رَأَيْتُ مَلَكَيْنِ يَدُسَّانِ فِي فِيهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَاتَ جَائِعًا» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فيهم: {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية، ثم قال: «دونكم أخاكم» فَاحْتَمَلْنَاهُ إِلَى الْمَاءِ فَغَسَّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ وَحَمَلْنَاهُ إِلَى الْقَبْرِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَقَالَ: «الْحِدُوا وَلَا تَشُقُّوا فَإِنَّ اللَّحْدَ لَنَا والشق لغيرنا»، وفي بعض الروايات هذا ممن عمل قليلاً وأجر كثيراً. وروى ابن مردويه عن عبد الله بن سخبرة قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ أُعْطِيَ فَشَكَرَ وَمُنِعَ فَصَبَرَ وظَلَم فاستغفر وظُلِم فغفر» وسكت قال: فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَهُ؟ قَالَ: {أُولَئِكَ لَهُمُ الأمن وهم مهتدون} (في اللباب: أخرج ابن أبي حاتم: حمل رجل من العدو على المسلمين، فقتل رجلاً ثم حمل فقتل آخر، ثم حمل فقتل أُخَرَ، ثم قال: أينفعني الإسلام بعد هَذَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعم»، فضرب فرسه، فدخل فيهم، ثم حمل على أصحابه فقتل رجلاً ثم آخر ثم آخر، ثم قُتل. فيرون أن هذه الآية {الذين آمنوا ... } نزلت فيه). وَقَوْلُهُ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} أي وجهنا حجته عليهم. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَهُ: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن} الآية. وَقَدْ صَدَّقَهُ اللَّهُ وَحَكَمَ لَهُ بِالْأَمْنِ وَالْهِدَايَةِ فَقَالَ: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ}، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} قرىء بالإضافة وبلا إضافة، وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ حكيم عليم} أي حَكِيمٌ في أقواله وأفعاله، عَلِيمٌ: أَيْ بِمَنْ يَهْدِيهِ وَمَنْ يُضِلُّهُ وَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ، كَمَا قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأليم}، ولهذا قال ههنا: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.

- 84 - وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - 85 - وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ - 86 - وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ - 87 - وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - 88 - ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - 89 - أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ - 90 - أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى للعالمين يذكر تَعَالَى أَنَّهُ وَهَبَ لِإِبْرَاهِيمَ (إِسْحَاقَ) بَعْدَ أَنْ طَعَنَ فِي السِّنِّ، وَأَيِسَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ (سَارَةُ) مِنَ الْوَلَدِ، فَجَاءَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ ذَاهِبُونَ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، فَبَشَّرُوهُمَا بِإِسْحَاقَ، فَتَعَجَّبَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ ذلك، وقالت: {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عجيب}، فبشروهما مَعَ وُجُودِهِ بِنُبُوَّتِهِ وَبِأَنَّ لَهُ نَسْلًا وَعَقِبَا، كما قال تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين}، وَهَذَا أَكْمَلُ فِي الْبِشَارَةِ وَأَعْظَمُ فِي النِّعْمَةِ، وَقَالَ: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} أَيْ وَيُولَدُ لِهَذَا الْمَوْلُودِ وَلَدٌ فِي حَيَاتِكُمَا فَتَقَرُّ أَعْيُنُكُمَا بِهِ كَمَا قَرَّتْ بِوَالِدِهِ، فَإِنَّ الْفَرَحَ بِوَلَدِ الْوَلَدِ شَدِيدٌ لِبَقَاءِ النَّسْلِ وَالْعَقِبِ، وَلَمَّا كَانَ وَلَدُ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا يَعْقُبُ لِضَعْفِهِ وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ وَبِوَلَدِهِ بَاسِمِ يَعْقُوبَ الَّذِي فِيهِ اشْتِقَاقُ الْعَقِبِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَكَانَ هَذَا مُجَازَاةً لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ اعْتَزَلَ قَوْمَهُ وَتَرَكَهُمْ وَنَزَحَ عَنْهُمْ، وَهَاجَرَ مِنْ بِلَادِهِمْ ذَاهِبًا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَعَوَّضَهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَنْ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ بِأَوْلَادٍ صَالِحِينَ مِنْ صُلْبِهِ عَلَى دِينِهِ لتقرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا}، وقال ههنا: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا}، وَقَوْلُهُ: {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} أَيْ مِنْ قَبْلِهِ هَدَيْنَاهُ كَمَا هَدَيْنَاهُ وَوَهَبْنَا لَهُ ذَرِّيَّةً صَالِحَةً، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ خُصُوصِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، أَمَّا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَ أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ - وَهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوهُ فِي السَّفِينَةِ - جَعَلَ اللَّهُ ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين فالناس كلهم من ذريته، وأما الخليل إبراهيم عليه السلام فلم يَبْعَثِ اللَّهُ عزَّ وجلَّ بَعْدَهُ نَبِيًّا إِلَّا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب}. وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا}، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} أَيْ وَهَدَيْنَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ {دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} الْآيَةَ، وُعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى نُوحٍ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ ظاهر لا إشكال فيه، وهو اختيار ابن جرير، وعوده إلى إبراهيم لأنه الذي سيق الكلام من أجله حسن، لكن يشكل عليه لُوطٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ،

بل هو ابن أخيه هاران بْنِ آزَرَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ دَخَلَ فِي الذُّرِّيَّةِ تَغْلِيبًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي؟ قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، فإسماعيل عمه دخل فِي آبَائِهِ تَغْلِيبًا، وَكَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إبليس}. فَدَخَلَ إِبْلِيسُ فِي أَمْرِ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ وَذُمَّ على المخالفة، لأنه كان في تَشَبَّهَ بِهِمْ فَعُومِلَ مُعَامَلَتَهُمْ وَدَخَلَ مَعَهُمْ تَغْلِيبًا، وإلاّ فهو كَانَ مِنَ الجن وطبيعته من النَّارُ وَالْمَلَائِكَةُ مِنَ النُّورِ، وَفِي ذِكْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَوْ نُوحٍ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ دَلَالَةٌ عَلَى دُخُولِ وَلَدِ البنات في ذرية الرجل، لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأُمِّهِ (مَرْيَمَ) عَلَيْهَا السَّلَامُ فإنه لا أب له. روي أن الحجاج أرسل إِلَى يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ قَرَأْتُهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَلَمْ أَجِدْهُ؟ قَالَ: أَلَيْسَ تَقْرَأُ سُورَةَ الْأَنْعَامِ: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} حَتَّى بَلَغَ {وَيَحْيَى وَعِيسَى}؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَيْسَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ؟ قَالَ: صَدَقْتَ (رواه ابن أبي حاتم). فَلِهَذَا إِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ لِذَرِّيَّتِهِ أَوْ وَقَفَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ، أَوْ وَهَبَهُمْ دَخَلَ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ فِيهِمْ، فَأَمَّا إِذَا أَعْطَى الرَّجُلُ بَنِيهِ أَوْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ بَنَوْهُ لِصُلْبِهِ وَبَنُو بَنِيهِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ الْعَرَبِيِّ: بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا، وَبَنَاتُنَا * بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ. وقال آخرون: ويدخل بنو البنات فيهم أَيْضًا، لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» فَسَمَّاهُ ابْنًا، فَدَلَّ عَلَى دُخُولِهِ فِي الْأَبْنَاءِ، وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا تَجَوُّزٌ. وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} ذَكَرَ أُصُولَهُمْ وفروعهم، وذوي طبقتهم وأن الهداية أو الاجتباء شَمَلَهُمْ كُلَّهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، ثم قال تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أَيْ إِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} تَشْدِيدٌ لِأَمْرِ الشِّرْكِ وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لئن أشركت لحبطنَّ عملك} الآية، وَهَذَا شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ الْوُقُوعِ كَقَوْلِهِ: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين}، وَكَقَوْلِهِ: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ}، وَكَقَوْلِهِ: {لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الواحد القهار}. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} أَيْ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ بِهِمْ وَلُطْفًا مِنَّا بِالْخَلِيقَةِ، {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا} أَيْ بِالنُّبُوَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى هَذِهِ الأشياء الثلاثة: الكتاب والحكم والنبوءة، {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا} أي بالنبوة، {هؤلاء} يعني أهل مكة (وهو قول ابن عباس والضحّاك وقتادة والسدي وغيرهم)، {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} أَيْ إِنْ يَكْفُرْ بِهَذِهِ النِّعَمِ مَنْ كَفَرَ بِهَا مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ مَنْ عَرَبٍ وَعَجَمٍ وَمِلِّيِينَ وَكِتَابِيِّينَ، فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً آخَرِينَ، أي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَأَتْبَاعَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، {لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} أي لا يجحدون منها شيئاً ولا يردون

مِنْهَا حَرْفًا وَاحِدًا بَلْ يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِهَا مُحْكَمِهَا وَمُتَشَابِهِهَا، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أُولَئِكَ} يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ الْمَذْكُورِينَ مَعَ مَنْ أُضِيفَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْآبَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْإِخْوَانِ وَهُمُ الْأَشْبَاهُ {الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي هم أهل الهدى لَا غَيْرُهُمْ {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} أَيِ اقْتَدِ وَاتَّبِعْ، وإذا كان هذا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُمَّتُهُ تَبَعٌ له فيما يشرعه وَيَأْمُرُهُمْ بِهِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ عن سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَفِي (ص) سَجْدَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، ثم تلا: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} ثُمَّ قَالَ: هُوَ مِنْهُمْ، زَادَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عبيد وسهيل بن يوسف عن العوام عن مجاهد قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ، وقوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أَيْ لَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ عَلَى إِبْلَاغِي إِيَّاكُمْ هَذَا الْقُرْآنَ أَجْراً أَيْ أُجْرَةً وَلَا أُرِيدُ مِنْكُمْ شَيْئًا، {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} أَيْ يَتَذَكَّرُونَ بِهِ فَيُرْشَدُوا مِنَ الْعَمَى إِلَى الْهُدَى، وَمِنَ الْغَيِّ إِلَى الرَّشَادِ، وَمِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ.

- 91 - وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ - 92 - وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ يقول الله تَعَالَى: وَمَا عَظَّمُوا اللَّهَ حَقَّ تَعْظِيمِهِ إِذْ كَذَّبُوا رُسُلَهُ إِلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: فِي فِنْحَاصَ رَجُلٌ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: فِي مَالِكِ بْنِ الصيف (في اللباب: أخرج ابن أبي حاتم: خاصم مالك بن الصيف اليهودي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النبي: "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟ وكان حبراً سميناً، فغضب، وقال: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُواْ الله} الآية). {إِذْ قَالُواْ مَآ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ من شيء}، والأول أصح، لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَالْيَهُودُ لَا يُنْكِرُونَ إِنْزَالَ الْكُتُبِ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُرَيْشٌ وَالْعَرَبُ قَاطِبَةً كَانُوا ينكرون إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر، كما قال: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس}، وكقوله تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رسولاً}، وقال ها هنا: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ} أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِإِنْزَالِ شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي جَوَابِ سَلْبِهِمُ الْعَامِّ بِإِثْبَاتِ قَضِيَّةٍ جُزْئِيَّةٍ مُوجِبَةٍ {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى} وهو التَّوْرَاةَ الَّتِي قَدْ عَلِمْتُمْ وَكُلُّ أَحَدٍ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَهَا عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ {نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ} أَيْ لِيُسْتَضَاءَ بِهَا فِي كَشْفِ الْمُشْكِلَاتِ وَيُهْتَدَى بِهَا مِنْ ظُلَمِ الشُّبُهَاتِ، وَقَوْلُهُ: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} أَيْ تجعلون جملتها قراطيس، أي قطعاً تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم، وتحرفون منها ما

تحرفون، وتبدلون وتتأولون وتقولون: هذا من عند الله أَيْ فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً}. وقوله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ} أَيْ وَمَنْ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ الَّذِي عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ خَبَرِ مَا سَبَقَ، وَنَبَأِ مَا يأتي مَّا لَمْ تَكُونُواْ تعلمون ذلك لا أنتم ولا آباؤكم، وقد قَالَ قَتَادَةُ: هَؤُلَاءِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هذه للمسلمين. وقوله تعالى: {قُلِ الله}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ قُلِ اللَّهُ أَنْزَلَهُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، لَا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَنَّ مَعْنَى {قُلِ اللَّهُ} أَيْ لا يكون خطابك لَهُمْ إِلَّا هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَلِمَةَ «اللَّهُ»، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ يَكُونُ أَمْرًا بِكَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَرْكِيبٍ، وَالْإِتْيَانُ بِكَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ لَا يُفِيدُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ فَائِدَةً يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أَيْ ثُمَّ دَعْهُمْ فِي جَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ يَلْعَبُونَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْيَقِينُ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أَلَهُمُ الْعَاقِبَةُ أَمْ لِعِبَادِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؟ وَقَوْلُهُ: {وَهَذَا كِتَابٌ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} يَعْنِي مَكَّةَ {وَمَنْ حَوْلَهَا} مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَمِنْ سَائِرِ طَوَائِفِ بَنِي آدَمَ مِنْ عَرَبٍ وَعَجَمٍ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جميعاً}، وقال: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بلغ}، وَقَالَ: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}، وَقَالَ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي» وَذَكَرَ مِنْهُنَّ: «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً»، وَلِهَذَا قَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أَيْ كُلُّ مَنْ آمن بالله واليوم الآخر يؤمن بِهَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ وَهُوَ الْقُرْآنُ، {وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي يقيمون بما فرض عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا.

- 93 - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ - 94 - وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى الله فجعل له شركاء أَوْ وَلَدًا، أَوِ ادَّعَى أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إلى الناس ولم يرسله، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}، قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: نزلت في مسليمة الكذاب (مسليمة: هو أبو ثمامة، ابن حبيب، من بني أثال وهو حنيفة، عرفوا بأمهم وهي بنت كاهل بن أسد بن خزيمة، وكان يزعم مسليمة أن جبريل ينزل عليه، وكان يتسمى بالرحمن، ومثله الأسود بن كعب الذي يعرف بعيهلة، وبذي الخمار، وكان يدعي أن ملكين: اسم أحدهما سحيق، والآخر شريق)، {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ} أي وَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يُعَارِضُ

مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْوَحْيِ مما يفتريه من القول (في «اللباب»: أخرج ابن جرير نزلت: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شيء} في مسليمة، ونزلت: {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ} في عبد الله بن سعد، كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيغير فيما يمليه عليه الرسول، وعن السدي: أنه كان يقول: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إلي، وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل. قال محمد: سميعاً عليماً، فقلت أنا: عليماً حكيماً)، كقوله تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مثل هذا} الآية. قال الله تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} أي في سكراته وغمراته وكرباته، {والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ} أي بالضرب، كقوله: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} الآية، وقوله: {يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء} الآية، وقال الضحاك: {باسطوا أَيْدِيهِمْ} أي بالعذاب، كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}، ولهذا قال: {والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ} أَيْ بِالضَّرْبِ لَهُمْ حَتَّى تَخْرُجَ أَنْفُسُهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ لَهُمْ: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ}، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتَضَرَ بَشَّرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ وَالْجَحِيمِ وَالْحَمِيمِ وَغَضَبِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَتَتَفَرَّقُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَتَعْصَى وَتَأْبَى الْخُرُوجَ، فَتَضْرِبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تَخْرُجَ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ، قَائِلِينَ لَهُمْ: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق} الآية، أَيِ الْيَوْمَ تُهَانُونَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ كَمَا كُنْتُمْ تكذبون على الله وتستكبرون اتباع آياته والانقياد لرسله، وقد وردت الأحاديث المتواترة فِي كَيْفِيَّةِ احْتِضَارِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَهِيَ مُقَرَّرَةٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}. وقوله تَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، أي يُقال لهم يوم معادهم (في «اللباب»: أخرج ابن جرير وغيره: قال النضر بن الحارث: سوف تشفع لي اللات والعزى، فنزلت هذه الآية) هذا، كما قال: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أَيْ كَمَا بَدَأْنَاكُمْ أَعَدْنَاكُمْ، وَقَدْ كُنْتُمْ تُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَتَسْتَبْعِدُونَهُ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ، وَقَوْلُهُ: {وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} أَيْ مِنَ النِّعَمِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي اقْتَنَيْتُمُوهَا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ: "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي! وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت؟ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ". وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كأنه بزج فيقول الله عزَّ وجلَّ: أَيْنَ مَا جَمَعْتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ جَمَعْتُهُ وتركته أوفر ما كان، فيقول له: يا ابن آدم أين مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ؟ فَلَا يَرَاهُ قَدَّمَ شَيْئًا، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} الآية، وَقَوْلُهُ: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ} تَقْرِيعٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ عَلَى ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان، ظانين أنها تَنْفَعُهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ إِنْ كَانَ ثَمَّ معاد، فإن كان يوم القيامة تقطعت بهم الْأَسْبَابُ وَانْزَاحَ الضَّلَالُ، وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يفترون، ويناديهم الرب جلَّ جلاله على رؤوس الخلائق: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تزعمون؟} ويقال لَهُمْ: {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ ينتصرون؟}

ولهذا قال ههنا: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ} أَيْ فِي الْعِبَادَةِ، لَهُمْ فِيكُمْ قِسْطٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} قرىء بالرفع أي شملكم، وبالنصب أي لقد تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات والوسائل، {وَضَلَّ عَنكُم} أي ذهب عَنْكُمْ، {مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} مِنْ رَجَاءِ الْأَصْنَامِ والأنداد، كقوله تَعَالَى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يومئذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ}، وقال تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ ناصرين}، وَقَالَ: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} الآية، والآيات في هذا كثيرة.

- 95 - إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ - 96 - فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ - 97 - وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، أَيْ يَشُقُّهُ فِي الثَّرَى فَتَنْبُتُ منه الزُّرُوعُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارُ على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعمومها مِنَ النَّوَى، وَلِهَذَا فَسَّرَ قَوْلَهُ: {فَالِقُ الْحَبِّ والنوى}، بقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الحي} أَيْ يُخْرِجُ النَّبَاتَ الْحَيَّ مِنَ الْحَبِّ وَالنَّوَى الذي هو كالجماد الميت كَقَوْلِهِ: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}، وَقَوْلُهُ: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} مَعْطُوفٌ عَلَى {فَالِقُ الحب والنوى}، وَقَدْ عَبَّرُوا عَنْ هَذَا وَهَذَا بِعِبَارَاتٍ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ مُؤَدِّيَةٌ لِلْمَعْنَى، فَمِنْ قَائِلٍ يُخْرِجُ الدَّجَاجَةَ من البيضة وعكسه، ومن قائل يخرج الولد الصالح من الفاجر وعكسه، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ الَّتِي تَنْتَظِمُهَا الْآيَةُ وتشملها؛ ثم قال تعالى: {ذلكم الله} أي فاعل هذا هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أَيْ كيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل فتعبدون معه غيره؟ وقوله: {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ اللَّيْلِ سَكَناً} أَيْ خَالِقُ الضِّيَاءِ وَالظَّلَامِ كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} أي فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَفْلِقُ ظَلَامَ اللَّيْلِ عَنْ غُرَّةِ الصَّبَاحِ فَيُضِيءُ الْوُجُودَ، وَيَسْتَنِيرُ الْأُفُقُ، وَيَضْمَحِلُّ الظَّلَامُ، ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه، كقوله: {يغشي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً}، فَبَيَّنَ تَعَالَى قُدْرَتَهُ عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَضَادَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ عَظَمَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ، وَقَابَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الليل سَكَناً} أي ساجياً مظلماً لتسكن فِيهِ الْأَشْيَاءُ كَمَا قَالَ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سجى}، وَقَالَ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}، وَقَالَ: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}، وَقَالَ صُهَيْبٌ الرُّومِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِامْرَأَتِهِ وَقَدْ عَاتَبَتْهُ فِي كَثْرَةِ سَهَرِهِ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا، إِلَّا لِصُهَيْبٍ، إِنَّ صُهَيْبًا إِذَا ذَكَرَ الْجَنَّةَ طَالَ شَوْقُهُ، وَإِذَا ذَكَرَ النَّارَ طَارَ نَوْمُهُ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ). وَقَوْلُهُ: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} أَيْ يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ مُقَنَّنٍ مُقَدَّرٍ لَا يَتَغَيَّرُ

ولا يضطرب، بل لكل منهما مَنَازِلُ يَسْلُكُهَا فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ طُولًا وَقِصَرًا كَمَا قَالَ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} الآية، وَكَمَا قَالَ: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، وقال: {والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ}، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أَيِ الْجَمِيعُ جَارٍ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ، الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَكَثِيرًا مَا إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَخْتِمُ الْكَلَامَ بِالْعِزَّةِ وَالْعِلْمِ كَمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم}، ولما ذكر خلق السموات الأرض وَمَا فِيهِنَّ فِي أَوَّلِ سُورَةِ حم السَّجْدَةِ قَالَ: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً، ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم}، وقوله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنِ اعْتَقَدَ فِي هَذِهِ النُّجُومِ غَيْرَ ثَلَاثٍ فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَيُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَقَوْلُهُ: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ} أَيْ قَدْ بَيَّنَّاهَا وَوَضَّحْنَاهَا {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي يعقلون ويعرفون الحق ويتجنبون الباطل.

- 98 - وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ - 99 - وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً ونساء}، وقوله: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى ذَلِكَ: فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ {فَمُسْتَقَرٌّ}: أي في الأرحام {وَمُسْتَوْدَعٌ} أي في الأصلاب (وهو قول كثير من السلف منهم ابن عباس ومجاهد وعطاء والنخعي والضحّاك وقتاده والسدي وغيرهم)، وعن ابن مسعود وَطَائِفَةٍ: فَمُسْتَقَرٌّ فِي الدُّنْيَا وَمُسْتَوْدَعٌ حَيْثُ يَمُوتُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَمُسْتَقَرٌّ فِي الْأَرْحَامِ وَعَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَحَيْثُ يَمُوتُ، وَقَالَ الْحَسَنُ البصري: المستقر الذي مَاتَ فَاسْتَقَرَّ بِهِ عَمَلُهُ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَمُسْتَوْدَعٌ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الأظهر، والله أعلم. وقوله تعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} أَيْ يَفْهَمُونَ ويعون كلام الله ومعناه، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً} أَيْ بقدر مباركاً ورزقاً للعباد وإحياء وغياثاً للخلائق، رحمة من الله بخلقه {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ}، كقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}، {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} أَيْ زَرْعًا وَشَجَرًا أَخْضَرَ، ثم بعد ذلك نخلق فيه الحب والثمر. ولهذا قال تعالى: {نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً} أَيْ يَرْكَبُ بَعْضُهُ على بعض كَالسَّنَابِلِ وَنَحْوِهَا {وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} أي جمع

قِنْوٍ وَهِيَ عُذُوقُ الرُّطَبِ، {دَانِيَةٌ} أَيْ قَرِيبَةٌ من المتناول، كما قال ابْنِ عَبَّاسٍ {قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} يَعْنِي بِالْقِنْوَانِ الدَّانِيَةِ قِصَارَ النَّخْلِ اللَّاصِقَةِ عُذُوقُهَا بِالْأَرْضِ رَوَاهُ ابْنُ جرير. وقوله تعالى: {وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ} أَيْ وَنُخْرِجُ مِنْهُ جَنَّاتٍ من أعناب، وهذان النوعان هما أشرف الثمار عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَرُبَّمَا كَانَا خِيَارَ الثِّمَارِ في الدنيا، كما امتن الله بهما على عباده في قوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً}، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ}، وقوله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}، قَالَ قَتَادَةُ وغيره: متشابه في الورق والشكل قريب بعضه من بعض، ومتخالف في الثمار شكلاً وطعماً وطبعاً، {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} أَيْ نضجه، قال البراء وابن عباس والضحاك وَغَيْرُهُمْ، أَيْ فَكِّرُوا فِي قُدْرَةِ خَالِقِهِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَطَبًا صَارَ عِنَبًا وَرُطَبًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا خَلَقَ سبحانه وتعالى من الألوان والأشكال والطعوم والروائح كقوله تعالى: {يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكل} الآية، ولهذا قال ها هنا: {إِنَّ فِي ذلكم} أيها الناس {لآيَاتٍ} أَيْ دَلَالَاتٍ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ خَالِقِ هذه الأشياء وحمكته وَرَحْمَتِهِ {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أَيْ يُصَدِّقُونَ بِهِ وَيَتَّبِعُونَ رسله.

- 100 - وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ وأشركوا به في عبادته أن عبدوا الجن فجعلوهم شركاء له فِي الْعِبَادَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ. فإن قيل: فكيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟ فالجواب أنهم ما عبدوها إلاّ عن طاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك، كقوله: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ: لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذان الأنعام} الآية، وكقوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ من دوني} الآية، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ: {يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ للرحمن عصياً}، وكقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} أَيْ وَقَدْ خَلَقَهُمْ فَهُوَ الْخَالِقُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَكَيْفَ يُعْبَدُ مَعَهُ غَيْرُهُ؟ كقول إبراهيم: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَحْدَهُ، فَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} يُنَبِّهُ بِهِ تَعَالَى عَلَى ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى بِأَنَّ لَهُ وَلَدًا، كَمَا يَزْعُمُ مَنْ قاله من اليهود في عزير، ومن قال من النصارى في عيسى، ومن قال من مشركي الْعَرَبِ فِي الْمَلَائِكَةِ إِنَّهَا بَنَاتُ اللَّهِ {تَعَالَى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً}. ومعنى {خرقوا} أي اختلقوا واتفكوا وتخرصوا وكذبوا كما قال علماء السلف وقال ابن عباس {وَخَرَقُواْ} يعني تَخَرَّصُوا، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قَالَ: جَعَلُوا لَهُ بَنِينَ وبنات، وقال مجاهد: كذبوا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَضَعُوا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَطَعُوا، قَالَ ابن جرير: وتأويله إِذًا: وَجَعَلُوا لِلَّهِ الْجِنَّ شُرَكَاءَ فِي عِبَادَتِهِمْ إياهم، وهو المتفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير، {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} بِحَقِيقَةِ مَا يقولون ولكن جهلاً بالله وبعظمته، فإنه لا ينبغي لمن كان إلهاً

أَنْ يَكُونَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ وَلَا صَاحِبَةٌ، وَلَا أَنْ يُشْرِكَهُ فِي خَلْقِهِ شَرِيكٌ، وَلِهَذَا قال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} أَيْ تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ وَتَعَاظَمَ عَمَّا يَصِفُهُ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ الضَّالُّونَ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْأَنْدَادِ وَالنُّظَرَاءِ وَالشُّرَكَاءِ.

- 101 - بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي مبدعهما وخالقهما ومنشئهما ومحدثهما على غير مثال سبق، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْبِدْعَةُ بِدَعَةً، لِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهَا فِيمَا سَلَفَ، {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ {وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ} أَيْ وَالْوَلَدُ إِنَّمَا يَكُونُ مُتَوَلِّدًا بين شيئين متناسبين، والله تعالى لَا يُنَاسِبُهُ وَلَا يُشَابِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ لِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا صَاحِبَةَ لَهُ وَلَا وَلَدَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إدَّاً}، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، فَبَيِّنَ تَعَالَى أَنَّهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ صَاحِبَةٌ مِنْ خَلْقِهِ تُنَاسِبُهُ وَهُوَ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ، فَأَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

- 102 - ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ - 103 - لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ يَقُولُ تَعَالَى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} أَيِ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَلَا وَلَدَ لَهُ وَلَا صَاحِبَةَ، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعبدوه} أي فَاعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَقِرُّوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ، وَلَا نَظِيرَ وَلَا عَدِيلَ {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أَيْ حَفِيظٌ وَرَقِيبٌ يُدَبِّرُ كل ما سواه ويرزقهم ويكلأهم بالليل والنهار. وقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} فِيهِ أَقْوَالٌ لِلْأَئِمَّةِ مِنَ السَّلَفِ (أَحَدُهَا): لَا تُدْرِكُهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كانت تراه في الآخرة، كما تواترات بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ مَا طَرِيقٍ ثَابِتٍ فِي الصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ، كَمَا قَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ محمداً أبصر ربه فقد كذب على الله، فإن الله تعالى قال: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار}، وخالفها ابْنُ عَبَّاسٍ، فَعَنْهُ: إِطْلَاقُ الرُّؤْيَةِ، وَعَنْهُ: أَنَّهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ، وَالْمَسْأَلَةُ تُذْكَرُ فِي أَوَّلِ سورة النجم إن شاء الله، وقال يحيى بن معين سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عُلَيَّةَ يَقُولُ فِي قَوْلِ الله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} قال هذا في الدنيا، وَقَالَ آخَرُونَ: {لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} أَيْ جَمِيعُهَا، وَهَذَا مُخَصَّصٌ بِمَا ثَبَتَ مِنْ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنَ المعتزلة بمقتضى ما فهموه من هذه الْآيَةِ إِنَّهُ لَا يُرَى فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، فَخَالَفُوا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي ذَلِكَ، مَعَ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْجَهْلِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا ناظرة}، وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْكَافِرِينَ: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}، قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ المؤمينن لا يحجبون عنه تبارك وتعالى، أما السنّة فقد تواترت الأخبار عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي العرصات، وروضات الْجَنَّاتِ، جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمين. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ وَنَفْيِ الْإِدْرَاكِ، فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ أَخَصُّ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ

الْأَخَصِّ انْتِفَاءُ الْأَعَمِّ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي الْإِدْرَاكِ الْمَنْفِيِّ مَا هُوَ؟ فَقِيلَ مَعْرِفَةُ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا أَنَّ مَنْ رَأَى الْقَمَرَ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرِكُ حَقِيقَتَهُ وَكُنْهَهُ وَمَاهِيَّتَهُ، فَالْعَظِيمُ أَوْلَى بِذَلِكَ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، وَقَالَ آخَرُونَ: الإدراك هو الْإِحَاطَةُ، قَالُوا: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْإِحَاطَةِ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ، كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إحاطة العلم عدم العلم، قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»، وَلَا يَلْزَمُ منه عدم الثناء، فكذلك هذا. قال ابن عباس {لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} قَالَ: لا يحيط بصر أحد بالملك، وعن عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: {لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} قَالَ: أَلَسْتَ تَرَى السَّمَاءَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فكلها ترى؟ وقال قتادة: هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ، وَقَالَ ابن جرير عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قَالَ: هُمْ يَنظُرُونَ إِلَى اللَّهِ لَا تُحِيطُ أَبْصَارُهُمْ بِهِ مِنْ عَظَمَتِهِ وَبَصَرُهُ مُحِيطٌ بِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار}. وقال آخرون في الآية عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} الْآيَةَ، فَقَالَ لِي: لَا أمَّ لَكَ، ذَلِكَ نُورُهُ الَّذِي هُوَ نُورُهُ، إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ لَا يُدْرِكُهُ شَيْءٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ (رواه الترمذي وابن مردويه والحاكم في المستدرك وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ)، وَفِي مَعْنَى هَذَا الْأَثَرِ مَا ثَبَتَ فِي الصحيحين مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه مرفوعاً: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يُخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عمل النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النَّهَارِ، حِجَابُهُ النُّورُ - أَوِ النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»، وَفِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى لَمَّا سَأَلَ الرُّؤْيَةَ: يَا مُوسَى إِنَّهُ لَا يَرَانِي حَيٌّ إِلَّا مَاتَ، وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ تَدَهْدَهَ: أَيْ تَدَعْثَرَ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أول المؤمنين}، ونفي الْإِدْرَاكَ الْخَاصَّ لَا يَنْفِي الرُّؤْيَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا يَشَاءُ، فَأَمَّا جَلَالُهُ وَعَظَمَتُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ، فَلَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَلِهَذَا كَانَتْ أُمُّ المؤمينن عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تُثْبِتُ الرُّؤْيَةَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَتَنْفِيهَا فِي الدُّنْيَا، وَتَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}، فَالَّذِي نَفَتْهُ الْإِدْرَاكَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى رُؤْيَةِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِلْبَشَرِ وَلَا لِلْمَلَائِكَةِ وَلَا لِشَيْءٍ. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} أَيْ يُحِيطُ بِهَا وَيَعْلَمُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ خَلَقَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، وَقَدْ يَكُونُ عَبَّرَ بِالْأَبْصَارِ عَنِ الْمُبْصِرِينَ كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: {لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} لَا يَرَاهُ شَيْءٌ وَهُوَ يرى الخلائق، وقال أبو العالية {وَهُوَ اللطيف الخبير} اللطيف لاستخراجها، الخبير بمكانها، والله أعلم.

- 104 - قَدْ جَاءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ - 105 - وَكَذَلِكَ نصرِّف الْآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الْبَصَائِرُ: هِيَ الْبَيِّنَاتُ وَالْحُجَجُ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} كقوله:

{فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يضل عليها}، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَن عَمِيَ فَعَلَيْهَا} لَمَّا ذَكَرَ البصائر قال: {وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} أي إنما يعود وباله عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ التي فِي الصدور}، {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أَيْ بِحَافِظٍ وَلَا رقيب، بل إنما أَنَا مُبَلِّغٌ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَقَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} أَيْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ بَيَانِ التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، هَكَذَا نُوَضِّحُ الْآيَاتِ وَنُفَسِّرُهَا وَنُبَيِّنُهَا فِي كُلِّ مَوْطِنٍ لِجَهَالَةِ الْجَاهِلِينَ، وَلِيَقُولَ الْمُشْرِكُونَ وَالْكَافِرُونَ الْمُكَذِّبُونَ دَارَسْتَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ قَبْلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وقارأتهم، وتعلمت منهم (وهو قَوْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وغيرهم). روي عن عمرو بن كيسان قال، سمعت ابن عباس يقول: دارست: تلوت خاصمت جادلت، وهذا كقوله تعالى إخباراً عن كذبهم وعنادهم: {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها} الآية، وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ زَعِيمِهِمْ وَكَاذِبِهِمْ {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}، وقوله: {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يعلمون} ولنوضحنه لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَيَتَّبِعُونَهُ، وَالْبَاطِلَ فَيَجْتَنِبُونَهُ، فَلِلَّهِ تَعَالَى الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي إِضْلَالِ أُولَئِكَ وَبَيَانِ الحق لهؤلاء، كقوله تَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} الآية، وكقوله: {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الله لهادي الذين آمنوا إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. وقال تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ}، وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خساراً}، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عمى}، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ وَأَنَّهُ يُضِلُّ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ، ولهذا قال ها هنا: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، وقرأ بعضهم {درسْتَ} أي قرأت وتعلمت (وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد والسدُّي والضحّاك)، قَالَ الْحَسَنُ {وَلِيَقُولُواْ دَرَسَتْ} يَقُولُ: تَقَادَمَتْ وَانْمَحَتْ، وقال عبد الرزاق إن صبياناً يقرأون {دارست} وإنما هي درست. وقال شعبة هي في قراءة ابن مسعود: دَرَسَت، يعني بِغَيْرِ أَلْفٍ بِنَصْبِ السِّينِ وَوَقْفٍ عَلَى التَّاءِ، قال ابْنُ جَرِيرٍ وَمَعْنَاهُ: انْمَحَتْ وَتَقَادَمَتْ، أَيْ إِنَّ هَذَا الَّذِي تَتْلُوهُ عَلَيْنَا قَدْ مَرَّ بِنَا قديماً وتطاولت مدته.

- 106 - اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ - 107 - وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنِ اتَّبَعَ طَرِيقَتَهُ: {اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِّن رَّبِّكَ} أَيِ اقْتَدِ بِهِ وَاقْتَفِ أَثَرَهُ وَاعْمَلْ بِهِ، فَإِنَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أَيِ اعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ وَاحْتَمِلْ أَذَاهُمْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ لَكَ وَيَنْصُرَكَ وَيُظْفِرَكَ عَلَيْهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ حِكْمَةً فِي إِضْلَالِهِمْ، فَإِنَّهُ لَوْ شاء لَهَدَى الناس جَمِيعاً، ولو شاء لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ}، أَيْ بَلْ لَهُ الْمَشِيئَةُ -[607]- وَالْحِكْمَةُ فِيمَا يختاروه لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أَيْ حَافِظًا تَحْفَظُ أقوالهم وأعمالهم، {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أَيْ مُوَكَّلٍ عَلَى أَرْزَاقِهِمْ وَأُمُورِهِمْ، {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}، وقال: {إنما عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب}.

- 108 - وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يقول الله تَعَالَى نَاهِيًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ عَنْ سَبِّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ إِلَّا أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ مِنْهَا، وَهِيَ مُقَابَلَةُ الْمُشْرِكِينَ بِسَبِّ إِلَهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَالُوا: يَا محمد لتنتهين عن سب آلِهَتَنَا أَوْ لَنَهْجُوَنَّ رَبَّكَ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسُبُّوا أَوْثَانَهُمْ، {فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}، وقال قَتَادَةَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ أَصْنَامَ الْكُفَّارِ، فَيَسُبُّ الْكُفَّارُ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، وروى ابن جرير عن السدي أنه قال: لَمَّا حَضَرَ أَبَا طَالِبٍ الْمَوْتُ قَالَتْ قُرَيْشٌ: انْطَلِقُوا فَلْنَدْخُلْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَلْنَأْمُرْهُ أَنْ يَنْهَى عَنَّا ابْنَ أَخِيهِ، فَإِنَّا نَسْتَحْيِي أَنْ نَقْتُلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَتَقُولُ الْعَرَبُ: كَانَ يَمْنَعُهُمْ، فَلَمَّا مَاتَ قَتَلُوهُ، فَانْطَلَقَ أَبُو سُفْيَانَ، وَأَبُو جَهْلٍ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُمَيَّةُ وأُبي ابْنَا خَلَفٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْبَخْتَرِيِّ، وَبَعَثُوا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ الْمُطَّلِبُ، قَالُوا: اسْتَأْذِنْ لَنَا عَلَى أَبِي طَالِبٍ، فَأَتَى أَبَا طَالِبٍ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ يُرِيدُونَ الدُّخُولَ عَلَيْكَ، فَأَذِنَ لَهُمْ عليه فدخلوا، فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ أَنْتَ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، وَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ آذَانَا وَآذَى آلِهَتَنَا، فَنُحِبُّ أَنْ تَدْعُوَهُ فَتَنْهَاهُ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِنَا، وَلْنَدَعْهُ وَإِلَهَهُ، فَدَعَاهُ فَجَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ وَبَنُو عَمِّكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تُرِيدُونَ؟» قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تدعنا وآلهتنا ولندعك وإلهك، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ هَذَا هَلْ أَنْتُمْ مُعْطِيَّ كَلِمَةً إِنْ تَكَلَّمْتُمْ بِهَا مَلَكْتُمْ بِهَا الْعَرَبَ وَدَانَتْ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ، وَأَدَّتْ لَكُمُ الْخَرَاجَ»؟ قَالَ أبو جهل: وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها، قالوا: فَمَا هِيَ؟ قَالَ: «قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»، فَأَبَوْا وَاشْمَأَزُّوا، قَالَ أَبُو طَالِبٍ: يَا ابْنَ أَخِي، قُلْ غَيْرَهَا فَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ فَزِعُوا مِنْهَا، قَالَ: «يَا عَمِّ مَا أَنَا بالذي يقول غَيْرَهَا، حَتَّى يَأْتُوا بِالشَّمْسِ فَيَضَعُوهَا فِي يَدِي، وَلَوْ أَتَوْا بِالشَّمْسِ فَوَضَعُوهَا فِي يَدِي مَا قُلْتُ غَيْرَهَا» إِرَادَةَ أَنْ يُؤَيِّسَهُمْ، فَغَضِبُوا، وَقَالُوا: لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا أَوْ لَنَشْتُمَنَّكَ وَنَشْتُمَ مَنْ يَأْمُرُكَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَهُوَ تَرْكُ المصلحة لمفسدة أرحج مِنْهَا، مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَلْعُونٌ مِنْ سَبِّ وَالِدَيْهِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ"، أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أَيْ وَكَمَا زَيَّنَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ حُبَّ أَصْنَامِهِمْ وَالْمُحَامَاةَ لَهَا والانتصار {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ} أي مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ عَلَى الضَّلَالِ {عَمَلَهُمْ} الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ وَالْحِكْمَةُ التَّامَّةُ فِيمَا يَشَاؤُهُ وَيَخْتَارُهُ {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ} أَيْ مَعَادُهُمْ وَمَصِيرُهُمْ {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أَيْ يُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ.

- 109 - وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ - 110 - وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّهُمْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ أَيْ حَلَفُوا أَيْمَانًا مُؤَكَّدَةً {لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ} أَيْ مُعْجِزَةٌ وَخَارِقٌ {لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} أَيْ لَيُصَدِّقُنَّهَا، {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ} أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ الْآيَاتِ تَعَنُّتًا وَكُفْرًا وَعِنَادًا لَا عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى وَالِاسْتِرْشَادِ، إِنَّمَا مَرْجِعُ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى الله إن شاء جاءكم بها وإن شاء ترككم، قال ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: كَلَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قريش فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ تُخْبِرُنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ مَعَهُ عَصًا يَضْرِبُ بِهَا الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ ثَمُودَ كَانَتْ لَهُمْ نَاقَةٌ، فَأْتِنَا مِنَ الْآيَاتِ حَتَّى نُصَدِّقَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أي شَيْءٍ تُحِبُّونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ؟» قَالُوا: تَجْعَلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَقَالَ لَهُمْ: «فَإِنْ فَعَلْتُ تُصَدِّقُونِي»؟ قَالُوا: نَعَمْ وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لَنَتَّبِعُكَ أجمعون، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ لَهُ: مَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ الصَّفَا ذَهَبًا، وَلَئِنْ أُرْسِلَ آيَةً فَلَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ لَيُعَذِّبَنَّهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاتْرُكْهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بل يتوب تائبهم»، فأنزل الله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ إيمانهم} إلى قوله تعالى: {ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (قال ابن كثير: وَهَذَا مُرْسَلٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ)، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} الآية، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، قيل المخاطب بما يشعركم، المشركون، وإليه ذهب مجاهد وقيل: المخاطب بقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} المؤمنون، ويقول: وما يدريكم أيها المؤمنون أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لا يؤمنون. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَمَّا جَحَدَ الْمُشْرِكُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَمْ تَثْبُتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى شَيْءٍ وَرُدَّتْ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ. وقال مجاهد في قوله {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ}: وَنَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ فَلَا يُؤْمِنُونَ كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الإيمان أول مرة، وَقَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَ اللَّهُ مَا الْعِبَادُ قَائِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوهُ وَعَمَلَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهُ، وَقَالَ: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} جل وعلا {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} إلى قوله: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم لو ردوا لم يكونوا عَلَى الْهُدَى، وَقَالَ: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لكاذبون}، وقال تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مرة}، وقال: ولو رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: {وَنَذَرُهُمْ} أَيْ نَتْرُكُهُمْ {فِي طُغْيَانِهِمْ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: فِي كُفْرِهِمْ. وقال أبو العالية وَقَتَادَةُ: فِي ضَلَالِهِمْ {يَعْمَهُونَ} قَالَ الْأَعْمَشُ يَلْعَبُونَ، وقال ابن عباس ومجاهد: فِي كُفْرِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ.

- 111 - وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ

يَقُولُ تَعَالَى وَلَوْ أَنَّنَا أَجَبْنَا سُؤَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بها فنزلنا عليهم الملائكة تُخْبِرُهُمْ بِالرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ كَمَا سَأَلُوا فَقَالُوا: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} و {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}، {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ نزل عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً}، {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} أَيْ فَأَخْبَرُوهُمْ بِصِدْقِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً}، قَرَأَ بَعْضُهُمْ (قِبَلاً) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ من المقابلة والمعاينة، وقرأ آخرون بِضَمِّهِمَا قِيلَ: مَعْنَاهُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَايَنَةِ أَيْضًا كما رواه العوفي عن ابن عباس، وقال مجاهد: قبلا أي أَفْوَاجًا قُبَيْلًا قُبَيْلًا أَيْ تُعْرَضُ عَلَيْهِمْ كُلُّ أمة بعد أمة فيخبرونهم بِصِدْقِ الرُّسُلِ فِيمَا جَاءُوهُمْ بِهِ {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} أَيْ إِنَّ الهداية إليه لا إليهم بل يهدي وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَقَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ العذاب الأليم}.

- 112 - وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ - 113 - وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُقْتَرِفُونَ يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا جَعَلْنَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ أعداء يخالفونك ويعادونك ويعاندونك، جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ مِنْ قَبْلِكَ أَيْضًا أَعْدَاءً فلا يحزنك ذلك، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وأوذوا} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قبلك}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} الآية. وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بمثل ما جئت به إلاَّ عودي» (هذا جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه في باب بدء الوحي)، والشيطان كل من خرج عن نظيره بالشر، ولا يعادي الرسل إلاّ الشياطين من هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنَهُمْ، قَالَ عَبْدُ الرزاق عن قتادة في قوله {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} قَالَ: مِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينُ، وَمِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينُ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. قَالَ قَتَادَةُ: وَبَلَغَنِي أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ يَوْمًا يُصَلِّي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَوَّذْ يَا أَبَا ذَرٍّ مِنْ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ» فَقَالَ: أَوَ إِنَّ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعم» (قال ابن كثير: هذا منقطع بين قتادة وأبي ذر). وقال ابن جرير عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ قَدْ أَطَالَ فِيهِ الْجُلُوسَ قَالَ، فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: لَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ» قَالَ: ثُمَّ جِئْتَ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ»؟ قَالَ، قُلْتُ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ: «نَعَمْ هُمْ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ» (وَهَذَا أيضاً فيه انقطاع وروي متصلاً عن أحمد وابن مردويه بمثله).

(طريق أخرى للحديث) روى ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَوَّذْتَ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ»؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ: "نَعَمْ: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي أمامة مرفوعاً)، فَهَذِهِ طُرُقٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَمَجْمُوعُهَا يُفِيدُ قُوَّتَهُ وصحته، والله أعلم، وعن عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} قال: للإنس شياطين وللجن شياطين، فَيَلْقَى شَيْطَانُ الْإِنْسِ شَيْطَانَ الْجِنِّ، فَيُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً، وَقَالَ السُّدِّيُّ عن عكرمة: أَمَّا شَيَاطِينُ الْإِنْسِ فَالشَّيَاطِينُ الَّتِي تُضِلُّ الْإِنْسَ، وشياطين الجن التي تضل الْجِنَّ، يَلْتَقِيَانِ فَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: إني أضللت صاحبي بكذا وكذا فأضل أَنْتَ صَاحِبَكَ بِكَذَا وَكَذَا، فَيُعَلِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا (رواه ابن جرير)، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فقال: إِنَّ لِلْجِنِّ شَيَاطِينَ يُضِلُّونَهُمْ مِثْلُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ يُضِلُّونَهُمْ، قَالَ: فَيَلْتَقِي شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ، فيقول هذا لهذا، أَضْلِلْهُ بِكَذَا، فَهُوَ قَوْلُهُ: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}. وَلَمَّا أُخْبِرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ المختار (المراد بالمختار هنا (ابن عبيد) قبحه الله الذي كان يزعم أنه يأتيه الوحي) يزعم أنه يوحى إليه، فقال: صَدَقَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوليائهم}. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} أَيْ يُلْقِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ الْمُزَيَّنَ الْمُزَخْرَفَ وَهُوَ الْمُزَوَّقُ الَّذِي يَغْتَرُّ سَامِعُهُ مِنَ الْجَهَلَةِ بِأَمْرِهِ، {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أَيْ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِقَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ، {فَذَرْهُمْ} أَيْ فَدَعْهُمْ، {وَمَا يَفْتَرُونَ} أَيْ يَكْذِبُونَ. أَيْ دَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ على الله فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ} أَيْ وَلِتَمِيلَ إِلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، {أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أَيْ قُلُوبُهُمْ وَعُقُولُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: قُلُوبُ الْكَافِرِينَ {وَلِيَرْضَوْهُ} أَيْ يُحِبُّوهُ وَيُرِيدُوهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لِذَلِكَ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}، وقوله: {وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِيَكْتَسِبُوا مَا هُمْ مُكْتَسِبُونَ، وَقَالَ السدي وابن زيد: وليعملوا ما هو عاملون.

- 114 - أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ - 115 - وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً}؟ أَيْ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، {وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} أَيْ مُبَيَّنًا، {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} أَيْ مِنَ الْيَهُودِ والنصارى

يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ أَيْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْبِشَارَاتِ بِكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، كَقَوْلِهِ: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يقرأون الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وَهَذَا شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَهُ، وَلِهَذَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ»، وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً}، قَالَ قَتَادَةُ: صِدْقًا فِيمَا قَالَ، وَعَدْلًا فِيمَا حَكَمَ، يَقُولُ: صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ وَعَدْلًا فِي الطَّلَبِ، فَكُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ فَحَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَا شَكَّ، وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ فَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي لَا عَدْلَ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا نَهَى عَنْهُ فَبَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَا يَنْهَى إِلَّا عن مفسدة، كما قَالَ تَعَالَى: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} إلى آخر الآية، {لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} أَيْ لَيْسَ أَحَدٌ يُعَقِّبُ حُكْمَهُ تَعَالَى لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ {وَهُوَ السَّمِيعُ} لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ {الْعَلِيمُ} بِحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ الَّذِي يُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.

- 116 - وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ - 117 - إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنَّهُ الضَّلَالُ كَمَا قَالَ تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أكثر الأولين}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِمْ وَإِنَّمَا هُمْ فِي ظُنُونٍ كَاذِبَةٍ وَحُسْبَانٍ بَاطِلٍ {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}، فَإِنَّ الْخَرْصَ هُوَ الْحَزْرُ وَمِنْهُ خَرْصُ النَّخْلِ وَهُوَ حَزْرُ مَا عَلَيْهَا مِنَ التمر، وذلك كله عن قدر الله ومشيئته {هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} فَيُيَسِّرُهُ لِذَلِكَ، {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} فَيُيَسِّرُهُمْ لِذَلِكَ وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.

- 118 - فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ - 119 - وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ هَذَا إِبَاحَةٌ من الله لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنَ الذَّبَائِحِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُهُ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، كَمَا كان يستبيحه كفار قريش مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَاتِ وَأَكْلِ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ نَدَبَ إِلَى الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} أَيْ قَدْ بَيَّنَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَوَضَّحَهُ {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} أَيْ إِلَّا فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَكُمْ مَا وَجَدْتُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى جَهَالَةَ الْمُشْرِكِينَ فِي آرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ مِنِ اسْتِحْلَالِهِمُ الْمَيْتَاتِ وَمَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: {وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِاعْتِدَائِهِمْ وَكَذِبِهِمْ وافترائهم.

- 120 - وَذَرُواْ ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ} المعصية في السر والعلانية، وقال قتادة: أي سره وعلانيته، قليله وكثيره، وَقَالَ السُّدِّيُّ: ظَاهِرُهُ الزِّنَا مَعَ الْبَغَايَا ذَوَاتِ الرَّايَاتِ، وَبَاطِنُهُ الزِّنَا مَعَ الْخَلِيلَةِ وَالصَّدَائِقِ وَالْأَخْدَانِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ظَاهِرُهُ نِكَاحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ. وَالصَّحِيحُ أن هذه الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ منها وما بطن} الآية، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} أَيْ سَوَاءٌ كَانَ ظَاهِرًا أَوْ خَفِيًّا، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُجْزِيهِمْ عَلَيْهِ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِثْمِ فَقَالَ: «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أن يطّلع الناس عليه» (رواه ابن أبي حاتم عن النواس بن سمعان).

- 121 - وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ اسْتَدَلَّ بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عَلَيْهَا وإن كَانَ الذَّابِحُ مُسْلِمًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا تَحِلُّ هَذِهِ الذَّبِيحَةُ بهذه الصفة وسواء ترك التَّسْمِيَةُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا (وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابن عمر ونافع والشعبي وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ)، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ مالك وأحمد بن حنبل، وهو اختيار أبي ثور وداود الظاهري، وَاحْتَجُّوا لِمَذْهَبِهِمْ هَذَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِقَوْلِهِ فِي آيَةِ الصَّيْدِ: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسم الله عليه}، ثم أَكَّدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}، وَالضَّمِيرُ قِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْأَكْلِ وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَبِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَمْرِ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبِيحَةِ وَالصَّيْدِ كَحَدِيثَيْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْكَ» وهو فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ لِلْجِنِّ: «لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ الله عليه» (رواه مسلم)؛ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ قَالَ: «سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوا» قَالَتْ: وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ). وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَا بد منها وخشوا أن لا تَكُونَ وُجِدَتْ مِنْ أُولَئِكَ لِحَدَاثَةِ إِسْلَامِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ بالاحتياط عند التسمية عِنْدَ الْأَكْلِ لِتَكُونَ كَالْعِوَضِ عَنِ الْمَتْرُوكَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ إِنْ لَمْ تَكُنْ وُجِدَتْ، وَأَمَرَهُمْ بِإِجْرَاءِ أحكام المسلمين على السداد، والله أَعْلَمُ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ لَا يشترط في التَّسْمِيَةُ، بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، فَإِنْ تُرِكَتْ عَمْدًا أو نسياناً لا يضر،

وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ نَقَلَهَا عَنْهُ حنبل، وهو رواية عن الإمام مالك، وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} عَلَى مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}، وقال عَطَاءٍ {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ينهي عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان وَيَنْهَى عَنْ ذَبَائِحِ الْمَجُوسِ، وَهَذَا الْمَسْلَكُ الَّذِي طرقه الإمام الشافعي قوي، وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عليه} قال: هي الميتة. وَقَدِ اسْتَدَلَّ لِهَذَا الْمَذْهَبِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو داود قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ أم لَمْ يَذْكُرْ إِنَّهُ إِنْ ذَكَرَ، لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا اسْمَ اللَّهِ» وَهَذَا مُرْسَلٌ يُعَضَّدُ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا ذَبَحَ الْمُسْلِمُ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ فَلْيَأْكُلْ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ فِيهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ»، وَاحْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ يأتوننا بِلَحْمٍ لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: «سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا» قَالَ: فَلَوْ كَانَ وُجُودُ التَّسْمِيَةِ شَرْطًا لَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ إِلَّا مَعَ تَحَقُّقِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَذْهَبُ الثالث في المسألة: إِنْ تَرَكَ الْبَسْمَلَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ نِسْيَانًا لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا لَمْ تَحِلَّ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وبه يقول أبو حنيفة وإسحاق بن راهوية (وهو مروي عن علي وابن عباس وطاووس والحسن البصري وغيرهم)، وقال ابن جرير رحمه الله: مَنْ حَرَّمَ ذَبِيحَةَ النَّاسِي فَقَدْ خَرَجَ مِنْ قَوْلِ جَمِيعِ الْحُجَّةِ، وَخَالَفَ الْخَبَرَ الثَّابِتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك، يعني ما رواه الحافظ البيهقي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ إِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ الله وليأكله» (قال ابن كثير: هذا الْحَدِيثُ رَفْعُهُ خَطَأٌ، أَخْطَأَ فِيهِ مَعْقِلُ بْنُ عبيد الله الجزري والأصح أنه من قول ابن عباس)، ثم نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّهُمَا كَرِهَا مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ نِسْيَانًا، والسلف يطلقون الكراهة عَلَى التَّحْرِيمِ كَثِيرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، إِلَّا أَنَّ مِنْ قَاعِدَةِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ قَوْلَ الْوَاحِدِ وَلَا الِاثْنَيْنِ مُخَالِفًا لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ فيعده إجماعاً، فليعلم هذا، والله الموفق. وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْمَذْهَبِ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ عند ابن ماجه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ مِنَّا يَذْبَحُ وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسم الله على كل مسلم» (الحديث إسناده ضعيف كما نبه عليه ابن كثير رحمه الله). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}، قال ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَجَّ (الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ) فجاءه رجل، فقال: يا ابن عباس زعم أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَدَقَ، فَنَفَرْتُ، وَقُلْتُ: يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ صَدَقَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا وَحْيَانِ، وحي الله، ووحي الشيطان، فوحي الله إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَحْيُ الشَّيْطَانِ إِلَى أَوْلِيَائِهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوليائهم} (أخرجه ابن أبي حاتم). وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} نَحْوَ هذا. وقوله: {لِيُجَادِلُوكُمْ}، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: خَاصَمَتِ الْيَهُودُ النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نأكل مِمَّا قَتَلْنَا وَلَا نَأْكُلُ

مِمَّا قَتَلَ اللَّهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}، وعن عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أَرْسَلَتْ فَارِسُ إِلَى قُرَيْشٍ أَنْ خَاصِمُوا محمداً وقولوا له: فما تَذْبَحُ أَنْتَ بِيَدِكَ بِسِكِّينٍ فَهُوَ حَلَالٌ وَمَا ذَبَحَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ بِشِمْشِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ يَعْنِي الْمَيْتَةَ فَهُوَ حَرَامٌ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (رواه الطبراني من حديث الحكم بن أبان) أي وإن الشياطين من فارس ليوحون إلى أوليائهم من قريش، وقال أبو داود عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ} يَقُولُونَ: مَا ذَبَحَ اللَّهُ فَلَا تَأْكُلُوهُ وَمَا ذَبَحْتُمْ أَنْتُمْ فَكُلُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عليه} (رواه أبو داود وابن ماجه، قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح)، وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ المشركين قالوا للمسلمين: كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله فما قتل الله فلا تأكلونه وما ذبحتم أنتم تأكلونه؟ فقال الله تعالى: وإن أطعتموهم - في أكل الميتة {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وهكذا قال مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِن أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} أَيْ حَيْثُ عَدَلْتُمْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَكُمْ وَشَرْعِهِ إِلَى قَوْلِ غَيْرِهِ فَقَدَّمْتُمْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَهَذَا هو الشرك، كقوله تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} الآية، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ما عبدوهم، فقال: «بَلَى إِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم».

- 122 - أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ الَّذِي كَانَ مَيْتًا أَيْ فِي الضَّلَالَةِ هَالِكًا حَائِرًا، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ، أَيْ أَحْيَا قَلْبَهُ بالإيمان وهداه وَوَفَّقَهُ لِاتِّبَاعِ رُسُلِهِ، {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} أي يهتدي كَيْفَ يَسْلُكُ وَكَيْفَ يَتَصَرَّفُ بِهِ، وَالنُّورُ هُوَ القرآن، كما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْإِسْلَامُ، وَالْكُلُّ صَحِيحٌ، {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} أَيِ الْجَهَالَاتِ وَالْأَهْوَاءِ وَالضَّلَالَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} أَيْ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَنْفَذٍ وَلَا مَخْلَصٍ مِمَّا هو فيه. وفي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ ذَلِكَ النُّورُ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضل» (رواه أحمد في المسند)، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وقال تَعَالَى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أم يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صراط مستقيم}؟ وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تذكرون}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلاَ الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلاَّ نذير}، والآيات في هذه كثيرة، ووجه المناسبة في ضرب المثلين ههنا بالنور والظلمات

مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنور}، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمَثَلِ رَجُلَانِ مُعَيَّنَانِ، فَقِيلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هُوَ الَّذِي كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَاهُ اللَّهُ وَجَعَلَ لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، وَقِيلَ: عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَأَمَّا الَّذِي فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا أَبُو جَهْلٍ (عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ) لَعَنَهُ اللَّهُ. والصَّحيح أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ يَدْخُلُ فِيهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أَيْ حسنَّا لَهُمْ ما كانوا فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ قَدَرًا مِنَ اللَّهِ وحكمة بالغة، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له.

- 123 - وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ - 124 - وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا جَعَلْنَا فِي قَرْيَتِكَ يَا مُحَمَّدُ أَكَابِرَ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَرُؤَسَاءَ وَدُعَاةً إِلَى الْكُفْرِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَإِلَى مُخَالَفَتِكَ وَعَدَاوَتِكَ، كَذَلِكَ كَانَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِكَ يُبْتَلَوْنَ بِذَلِكَ، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين} الآية، وقوله تعالى: {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فيها}، قال ابن عباس: سلطنا شرارهم فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ. وقال مجاهد وقتادة: {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} عظماؤها، قلت: وهكذا قوله تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}، وقوله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} والمراد بالمكر ههنا دُعَاؤُهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ بِزُخْرُفٍ مِنَ الْمَقَالِ وَالْفِعَالِ، كقوله تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً}، وقوله تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلِ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}، قَالَ سفيان: كُلُّ مَكْرٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ عَمَلٌ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أَيْ وما يعود وبال مكرهم وإضلالهم إلاّ على أنفسهم، كما قَالَ تَعَالَى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ}، وَقَالَ: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ}. وقوله تَعَالَى: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} أَيْ إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ وَبُرْهَانٌ وَحُجَّةٌ قَاطِعَةٌ {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} أَيْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الْمَلَائِكَةُ مِنَ اللَّهِ بِالرِّسَالَةِ كَمَا تَأْتِي إِلَى الرُّسُلِ، كَقَوْلِهِ جلَّ وَعَلَا: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} الآية. وقوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} أَيْ هُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَضَعُ رِسَالَتَهُ وَمَنْ يَصْلُحُ لَهَا من خلقه، كقوله تَعَالَى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} الآية، يعنون لو نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ عَظِيمٍ كَبِيرٍ جليل مُبَجَّلٍ فِي أَعْيُنِهِمْ {مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ} أَيْ مَكَّةَ والطائف، وذلك أنهم قَبَّحَهُمُ اللَّهُ كَانُوا يَزْدَرُونَ بِالرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وسلامه عليه بغياً وحسداً، وعناداً واستكباراً، كقوله تعالى مخبراً عنه: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً، أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هم كافرون}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الذي بَعَثَ الله رسولاً}، وقال تعالى: {وَلَقَدْ

استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، هذا وهم معترفون بِفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ وَنَسَبِهِ، وَطَهَارَةِ بَيْتِهِ وَمَرْبَاهُ، وَمَنْشَئِهِ صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه، حتى إنهم يُسَمُّونَهُ بَيْنَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ «الْأَمِينَ»، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ رَئِيسُ الْكُفَّارِ (أَبُو سُفْيَانَ) حين سأله هرقل ملك الروم: وكيف نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ: لَا .. الْحَدِيثُ بِطُولِهِ الذي استدل مَلِكُ الرُّومِ بِطَهَارَةِ صِفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى صدق نبوته وَصِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عن وائلة بْنِ الْأَسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (رواه مسلم وأحمد)، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا حَتَّى بُعِثْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ». وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قَالَ الْعَبَّاسُ: بَلَغَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: «من أنا؟» قالوا أنت رسول الله، فقال: «أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خير خلقه، وجعلهم فريقين فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ فِرْقَةٍ، وَخَلَقَ الْقَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ قَبِيلَةٍ، وَجَعَلَهُمْ بُيُوتًا فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُكُمْ بَيْتًا وَخَيْرُكُمْ نَفْسًا» صَدَقَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا الْمَرْوِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ لِي جِبْرِيلُ قَلَّبْتُ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَجِدْ رَجُلًا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَقَلَّبْتُ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَجِدْ بَنِي أَبٍ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» (رَوَاهُ الْحَاكِمُ والبيهقي)، وقال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فبعثه بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قلب محمد فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَجَعَلَهُمْ وزراء نبيه يقاتلوون عن دينه، فما رآه الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء (أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود موقوفاً). وأبصر رجل ابن عباس وهو داخل مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ رَاعَهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ عَبَّاسٍ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يجعل رسالته} (أخرجه ابن أبي حاتم)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} الآية، هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ مِنَ اللَّهِ وَتَهْدِيدٌ أَكِيدٌ لِمَنْ تَكَبَّرَ عَنِ اتِّبَاعِ رُسُلِهِ وَالِانْقِيَادِ لَهُمْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ، فَإِنَّهُ سَيُصِيبُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ {صَغَارٌ} وَهُوَ الذِّلَّةُ الدَّائِمَةُ كما أنهم استكبروا فأعقبهم ذلك ذلاً يوم القيامة لما استكبروا في الدنيا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي صاغرين ذليلين حقيرين. وقوله تعالى: {وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} لَمَّا كَانَ الْمَكْرُ غَالِبًا إِنَّمَا يَكُونُ خَفِيًّا وَهُوَ التَّلَطُّفُ في التحيل والخديعة قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقاً {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}، كما قال تعالى: {يَوْمَ تبلى السرآئر} أَيْ تَظْهَرُ الْمُسْتَتِرَاتُ وَالْمَكْنُونَاتُ وَالضَّمَائِرُ، وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «ينصب لكل لواء غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ هذه غدرة فلان بن فُلَانٍ»، وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَدْرُ خَفِيَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَصِيرُ عَلَمًا مَنْشُورًا عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا فعل.

- 125 - فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} أَيْ يُيَسِّرْهُ لَهُ وَيُنَشِّطْهُ ويسهله لذلك، فهذه علامات عَلَى الْخَيْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قلوبكم}، وقال ابن عباس معناه يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به وهو ظاهر. سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ وأكثرهم لما بعده استعداداً»، وسئل عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} قالوا: كَيْفَ يَشْرَحُ صَدْرَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح»، وقالوا: فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ أَمَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا؟ قَالَ: «الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» (وراه عبد الرزاق، وابن جرير بنحوه وأخرجه ابن أبي حاتم كما في الرواية الأخرى). وعن عبد الله بن مسعود قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا الشَّرْحُ؟ قَالَ: «نُورٌ يُقْذَفُ بِهِ فِي الْقَلْبِ»، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فهل لذلك من أمارة تعرف؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالُوا: وَمَا هِيَ قَالَ: «الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، والاستعداد للموت قبل الموت» (رواه ابن أبي حاتم، قال ابن كثير: ولهذا الحديث طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضاً). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} حَرَجًا بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَّسِعُ لِشَيْءٍ مِنَ الْهُدَى، وَلَا يَخْلُصُ إِلَيْهِ شيء مِنَ الْإِيمَانِ وَلَا يَنْفُذُ فِيهِ، وَقَدْ سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ مِنْ مُدْلِجٍ عن الحرجة؟ فقال: هِيَ الشَّجَرَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْأَشْجَارِ لَا تَصِلُ إِلَيْهَا رَاعِيَةٌ وَلَا وَحْشِيَّةٌ وَلَا شَيْءٌ، فَقَالَ عمر رضي الله عنه: كذلك قلب المنافقين لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَجْعَلُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ ضَيِّقًا وَالْإِسْلَامُ وَاسِعٌ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} يَقُولُ: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ ضِيقٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: {ضَيِّقاً حَرَجاً} شَاكًّا، وقال عطاء الخراساني: {ضَيِّقاً حَرَجاً} أي لَيْسَ لِلْخَيْرِ فِيهِ مَنْفَذٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: {ضَيِّقاً حرجاً} بلا لا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى لَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تدخل قلبه، {كَأَنَّمَا يصَّعد فِي السَّمَاءِ} مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} لا يجد فيه مسلكاً إلاّ صعد. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يَقُولُ: مَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يصعد إلى السماء، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يَقُولُ: فَكَمَا لَا يَسْتَطِيعُ ابْنُ آدَمَ أَنْ يَبْلُغَ السَّمَاءَ فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْخُلَ التَّوْحِيدُ والإيمان في قَلْبَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ، وَقَالَ الأوزاعي: كَيْفَ يَسْتَطِيعُ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ صَدْرَهُ ضَيِّقًا أن يكون مسلماً. وقال ابن جَرِيرٍ: وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِقَلْبِ هَذَا الكافر في شدة ضيقه عَنْ وُصُولِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِ يَقُولُ: فَمِثْلُهُ فِي امتناعه عن قَبُولِ الْإِيمَانِ وَضِيقِهِ عَنْ وُصُولِهِ إِلَيْهِ مِثْلُ امتناعه عن الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ وَعَجْزِهِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَطَاقَتِهِ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}

يَقُولُ: كَمَا يَجْعَلُ اللَّهُ صَدْرَ مَنْ أَرَادَ إضلاله ضيقاً وحرجاً، كَذَلِكَ يُسَلِّطُ اللَّهُ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ مِمَّنْ أَبَى الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُغْوِيهِ وَيَصُدُّهُ عن سبيل الله، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {الرِّجْسُ} الشَّيْطَانُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {الرِّجْسُ} كل ما لا خير فيه.

- 126 - وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ - 127 - لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لَمَّا ذَكَرَ تعالى طريق الضَّالِّينَ عَنْ سَبِيلِهِ الصَّادِّينَ عَنْهَا، نَبَّهَ عَلَى شرف مَا أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الحق، فقال تعالى: {وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} أَيْ هَذَا الدِّينُ الَّذِي شَرَعْنَاهُ لَكَ يَا محمد بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن هو صراط الله المستقيم، كما تقدم في الحديث فِي نَعْتِ الْقُرْآنِ: {هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمُ، وَحَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ} (رَوَاهُ أحمد والترمذي عن علي كرم الله وجهه وهو حديث طويل)، {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات} أي وَضَّحْنَاهَا وَبَيَّنَّاهَا وَفَسَّرْنَاهَا {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أَيْ لِمَنْ لَهُ فَهْمٌ وَوَعْيٌ يَعْقِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ} وَهِيَ الْجَنَّةُ {عِندَ رَبِّهِمْ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا وَصَفَ اللَّهُ الْجَنَّةَ ههنا بِدَارِ السَّلَامِ لِسَلَامَتِهِمْ فِيمَا سَلَكُوهُ مِنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الْمُقْتَفِي أَثَرَ الْأَنْبِيَاءِ وَطَرَائِقَهُمْ فَكَمَا سَلِمُوا مِنْ آفَاتِ الِاعْوِجَاجِ أَفْضَوْا إِلَى دَارِ السَّلَامِ، {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} أَيْ حَافِظُهُمْ وَنَاصِرُهُمْ وَمُؤَيِّدُهُمْ، {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أَيْ جَزَاءً عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ تَوَلَّاهُمْ وَأَثَابَهُمُ الْجَنَّةَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.

- 128 - وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ يقول تعالى: {وَ} اذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتنذرهم به، {يَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} يَعْنِي الْجِنَّ وَأَوْلِيَاءَهُمْ مِنَ الْإِنْسِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَيَعُوذُونَ بِهِمْ وَيُطِيعُونَهُمْ، وَيُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإنس} أي يَقُولُ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ، وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإنس} أي من إغوائهم وإضلالهم، كقوله تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ إلا تَعْبُدُواْ الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإنس} يعني أضللتم منهم كثيراً، {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ}: يعني أَوْلِيَاءَ الْجِنِّ مِنَ الْإِنْسِ قَالُوا مُجِيبِينَ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا، قَالَ ابْنُ أَبِي حاتم عن الحسن في هذه الآية قال: استكثرتم من أَهْلَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعْ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، قَالَ الْحَسَنُ: وَمَا كَانَ اسْتِمْتَاعُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ إِلَّا أَنَّ الجن أمرت وعملت الإنس (أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري). وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَنْزِلُ الْأَرْضَ فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِكَبِيرِ هَذَا الْوَادِي، فذلك استمتاعهم فاعتذروا به يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا اسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ

فَإِنَّهُ كَانَ - فِيمَا ذُكِرَ - مَا يَنَالُ الْجِنُّ مِنَ الْإِنْسِ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي اسْتِعَانَتِهِمْ بِهِمْ، فَيَقُولُونَ: قَدْ سُدْنَا الْإِنْسَ وَالْجِنَّ {وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا} قال السدي: يعني الْمَوْتَ، {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} أَيْ مَأْوَاكُمْ وَمَنْزِلُكُمْ أنتم وإياهم وأولياؤكم، {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها مُكْثًا مُخَلَّدًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ بعضهم: يرجع معنى الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْبَرْزَخِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا رَدٌّ إِلَى مُدَّةِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأقوال، وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آيَةٌ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَلَا يُنْزِلَهُمْ جَنَّةً وَلَا نَارًا.

- 129 - وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ قال قتادة في تفسيرها: إنما يُوَلِّي اللَّهُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَالْمُؤْمِنُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِ أَيْنَ كَانَ وَحَيْثُ كَانَ، وَالْكَافِرُ وَلِيُّ الْكَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ وَحَيْثُمَا كَانَ، لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي ولا بالتحلي، واختاره ابن جرير، وعنه في تفسير الآية: يولي الله بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا فِي النَّارِ يَتَّبِعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: قَرَأْتُ فِي الزَّبُورِ: إِنِّي أَنْتَقِمُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِالْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ أَنْتَقِمُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ جَمِيعًا، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ الله قول الله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً}، وَقَالَ ابن أسلم: قَالَ ظَالِمِي الْجِنِّ وَظَالِمِي الْإِنْسِ، وَقَرَأَ: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} أي ونسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس، وعن ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سَلَّطَهُ الله عليه» (رواه الحافظ ابن عساكر، قال ابن كثير: وهو حَدِيثٌ غَرِيبٌ). وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَمَا مِنْ يَدٍ إِلَّا يَدُ اللَّهِ فَوْقَهَا * وَلَا ظَالِمٍ إِلَّا سَيُبلَى بِظَالِمٍ. وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَمَا وَلَّيْنَا هَؤُلَاءِ الْخَاسِرِينَ مِنَ الْإِنْسِ تِلْكَ الطَّائِفَةَ الَّتِي أَغْوَتْهُمْ مِنَ الْجِنِّ، كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالظَّالِمِينَ نُسَلِّطُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَنُهْلِكُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، وَنَنْتَقِمُ مِنْ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ جَزَاءً عَلَى ظُلْمِهِمْ وبغيهم.

- 130 - يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ وهذا أيضاً مما يقرع الله به كَافِرِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ يَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ: هَلْ بَلَّغَتْهُمُ الرُّسُلُ رِسَالَاتِهِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} أَيْ مِنْ جُمْلَتِكُمْ وَالرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ فَقَطْ وَلَيْسَ مِنَ الْجِنِّ رُسُلٌ، كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرُّسُلُ مِنْ بَنِي آدم ومن الجن نزر، وحكى ابن جرير عن الضحاك: أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ فِي الْجِنِّ رُسُلًا، وَاحْتَجَّ بهذه الآية الكريمة، وفيه نَظَرٌ، لِأَنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ وَلَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ وَهِيَ، وَاللَّهُ أعلم، كقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ}، إِلَى أَنْ قَالَ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان إنما

يستخرجان مِنَ الْمِلْحِ لَا مِنَ الْحُلْوِ، وَهَذَا وَاضِحٌ ولله الحمد. وقد ذكر هَذَا الْجَوَابِ بِعَيْنِهِ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ إِنَّمَا هُمْ مِنَ الْإِنْسِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ والنبيين من بعده}. وقوله تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ والكتاب} فَحَصَرَ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِنَّ النُّبُوَّةَ كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل ثُمَّ انْقَطَعَتْ عَنْهُمْ بِبَعْثَتِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ}، وَقَالَ: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجِنَّ تَبَعٌ لِلْإِنْسِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ}، وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} أَيْ أَقْرَرْنَا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُونَا رِسَالَاتِكَ وَأَنْذَرُونَا لِقَاءَكَ، وَأَنَّ هذا اليوم كائن لا محالة. وَقَالَ تَعَالَى: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أَيْ وَقَدْ فَرَّطُوا فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا وَهَلَكُوا بِتَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وَمُخَالَفَتِهِمْ لِلْمُعْجِزَاتِ، لِمَا اغْتَرُّوا بِهِ مِنْ زُخْرُفِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَشَهَوَاتِهَا، {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} أَيْ فِي الدُّنْيَا بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وسلامه عليهم.

- 131 - ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ - 132 - وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} أَيْ إِنَّمَا أَعْذَرْنَا إِلَى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب لئلا يؤاخذ أَحَدٌ بِظُلْمِهِ وَهُوَ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ، وَلَكِنْ أعذرنا إلى الأمم وما عذبنا أحد إِلَّا بَعْدَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تعالى: {وَإِن مِّن قرية إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نذير}، وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً}، وَقَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} والآيات في هذا كثيرة. قال ابن جَرِيرٍ: وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بِظُلْمٍ} وَجْهَيْنِ (أَحَدَهُمَا): أي بِظُلْمِ أَهْلِهَا بِالشِّرْكِ وَنَحْوِهِ وَهُمْ غَافِلُونَ، يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رسولاً يُنَبِّهُهُمْ عَلَى حُجَجِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَيُنْذِرُهُمْ عَذَابَ اللَّهِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ بِالَّذِي يُؤَاخِذُهُمْ غَفْلَةً، فَيَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ. (والوجه الثاني): لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ لِيُهْلِكَهُمْ دُونَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ بِالرُّسُلِ وَالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ فَيَظْلِمَهُمْ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ غَيْرُ ظَلَّامٍ لِعَبِيدِهِ، ثُمَّ شَرَعَ يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ ولا شك أنه أقوى والله أعلم، قال: وقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} أَيْ وَلِكُلِّ عَامِلٍ من طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله يبلغه إِيَّاهَا وَيُثِيبُهُ بِهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًا فَشَرٌّ. (قُلْتُ): وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ قَوْلُهُ: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} أَيْ مِنْ كَافِرِي الجن والإنس، أي لكل درجة في النار بحسبه، كقوله: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ}، وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ}، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَيْ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِمْ يَا مُحَمَّدُ بِعِلْمٍ مِنْ رَبِّكَ يُحْصِيهَا وَيُثْبِتُهَا لَهُمْ عنده ليجازيهم عِنْدَ لِقَائِهِمْ إِيَّاهُ وَمَعَادِهِمْ إِلَيْهِ.

- 133 - وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ - 134 - إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ - 135 - قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ} يَا مُحَمَّدُ {الْغَنِيُّ} أَيْ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَهُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، {ذُو الرَّحْمَةِ} أَيْ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ رَحِيمٌ بهم كما قال تعالى: {إِنَّ الله بالناس لرؤوف رحيم} {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أَيْ إِذَا خَالَفْتُمْ أَمْرَهُ، {وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ} أَيْ قَوْماً آخَرِينَ أَيْ يَعْمَلُونَ بِطَاعَتِهِ، {كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لَدَيْهِ كَمَا أَذْهَبَ القرون الأولى وَأَتَى بِالَّذِي بَعْدَهَا، كَذَلِكَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِذْهَابِ هَؤُلَاءِ وَالْإِتْيَانِ بِآخَرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بعزيز}، وقال تَعَالَى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أمثالكم}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أَيْ أَخْبِرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ الَّذِي يُوعَدُونَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أَيْ وَلَا تُعْجِزُونَ اللَّهَ، بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِكُمْ وَإِنْ صِرْتُمْ تُرَابًا رُفَاتًا وَعِظَامًا هُوَ قَادِرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ في تفسيرها عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا بَنِي آدَمَ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ فَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْمَوْتَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لِآتٍ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ». وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، أَيِ استمروا على طريقتكم وَنَاحِيَتِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَظُنُّونَ أَنَّكُمْ عَلَى هُدًى فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي، كقوله: {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ}، قال ابن عباس: {على مَكَانَتِكُمْ} نَاحِيَتِكُمْ، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أَيْ أَتَكُونُ لي أو لكم؟ وقد أنجز الله موعده لرسوله صلوات الله عليه، فإنه تعالى مكنه فِي الْبِلَادِ، وَحَكَّمَهُ فِي نَوَاصِي مُخَالِفِيهِ مِنَ الْعِبَادِ، وَفَتَحَ لَهُ مَكَّةَ، وَأَظْهَرَهُ عَلَى مَنْ كذبه من قومه وعاده وَنَاوَأَهُ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ عَلَى سَائِرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ، ثُمَّ فُتِحَتِ الْأَمْصَارُ والأقاليم بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي أَيَّامِ خُلَفَائِهِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عزيز}، وَقَالَ: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللعنة وسوء الدار}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ رُسُلِهِ: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وعيد}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قبلهم} الآية، وقد فعل الله ذلك بهذه الأمة المحمدية وله الحمد والمنة أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

- 136 - وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ هَذَا ذَمٌّ وَتَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا وَكُفْرًا وَشِرْكًا، وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ، وهو خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ سبحانه وتعالى، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} أَيْ مِمَّا خَلَقَ وَبَرَأَ {مِنَ الْحَرْثِ} أَيْ من الزرع وَالثِّمَارِ، {وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} أَيْ جُزْءًا وَقَسْمًا، {فَقَالُواْ هَذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا}، وَقَوْلُهُ: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ}. قَالَ ابن عباس: إِنَّ أَعْدَاءَ اللَّهِ كَانُوا إِذَا حَرَثُوا حَرْثًا أَوْ كَانَتْ لَهُمْ ثَمَرَةٌ جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْهُ جُزْءًا وَلِلْوَثَنِ جُزْءًا، فَمَا كَانَ مِنْ حَرْثٍ أَوْ ثَمَرَةٍ أَوْ شَيْءٍ مِنْ نَصِيبِ الْأَوْثَانِ حَفَظُوهُ وَأَحْصَوْهُ، وَإِنْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ فِيمَا سُمِّيَ لِلصَّمَدِ رَدُّوهُ إِلَى مَا جَعَلُوهُ لِلْوَثَنِ، وَإِنْ سَقَطَ شَيْءٌ مِنَ الْحَرْثِ وَالثَّمَرَةِ الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَاخْتَلَطَ بِالَّذِي جَعَلُوهُ لِلْوَثَنِ قَالُوا: هَذَا فَقِيرٌ وَلَمْ يَرُدُّوهُ إِلَى مَا جَعَلُوهُ لله، وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمُ (الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ والحام) فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله، فقال الله تَعَالَى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نصيبا} الآية (كان لحي من خولان صنم يقال له: عم أنس، وكانوا يجعلون له نصيباً، ويجعلون لله تعالى نصيباً، فإذا وقع في النصيب الذي لله فيه شيء ردوه إلى الصنم، وقالوا: هو إله ضعيف، كما ذكره السهيلي عن ابن إسحاق. وخولان هؤلاء هم بنو عمرو بن الحارث بن قضاعة)، وقال ابن أسلم في الآية: كل شيء يجعلونه لِلَّهِ مِنْ ذَبْحٍ يَذْبَحُونَهُ لَا يَأْكُلُونَهُ أَبَدًا، حَتَّى يَذْكُرُوا مَعَهُ أَسْمَاءَ الْآلِهَةِ، وَمَا كَانَ لِلْآلِهَةِ لَمْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ مَعَهُ، وَقَرَأَ الْآيَةَ حَتَّى بَلَغَ {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أَيْ ما يقسمون فإنهم أخطأوا أولاً في القسم، لأن اللَّهَ تَعَالَى هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَلَهُ الْمُلْكُ، وَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ وَفِي تَصَرُّفِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، ثُمَّ لَمَّا قَسَّمُوا فِيمَا زعموا القسمة الفاسدة لم يحفظوها، بل جاروا فيها كقوله جلَّ وعلا: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ}، وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى}.

- 137 - وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ يَقُولُ تعالى: كما زينت الشياطين لهؤلاء أَنْ يَجْعَلُوا للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا، كَذَلِكَ زَيَّنُوا لَهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ خشية الإملاق ووأد البنات خشية العار، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ، زَيَّنُوا لَهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شُرَكَاؤُهُمْ شَيَاطِينُهُمْ، يَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يَئِدُوا أَوْلَادَهُمْ خَشْيَةَ الْعَيْلَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَمَرَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ أن يقتلوا البنات إما لِيُرْدُوهُمْ فَيُهْلِكُوهُمْ، وَإِمَّا لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، أَيْ فيخلطوا

عليهم دينهم، ونحو ذلك، قال ابن أسلم وقتادة: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ}، وكقوله: {وإذا الموءدة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قتلت}، وَقَدْ كَانُوا أَيْضًا يَقْتُلُونَ الْأَوْلَادَ مِنَ الْإِمْلَاقِ وَهُوَ الْفَقْرُ أَوْ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ أَنْ يَحْصُلَ لهم في تلف المال، وقد نهاهم عَنْ قَتْلِ أَوْلَادِهِمْ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا كله من تزيين الشياطين وشرعهم لذلك، قوله تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} أَيْ كُلُّ هَذَا وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ لِذَلِكَ كَوْنًا وَلَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ فِي ذَلِكَ فَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} أَيْ فَدَعْهُمْ وَاجْتَنِبْهُمْ وَمَا هُمْ فِيهِ فَسَيَحْكُمُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ.

- 138 - وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عليه سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يفترون قال ابن عباس الحِجْر: الحرام مما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا (وهو قول مجاهد والضحّاك والسُّدي وقتادة وابن زيد وغيرهم)، وقال قتادة: تحريمٌ كَانَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ فِي أَمْوَالِهِمْ وتغليظ وتشديد، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ ابْنُ أسلم: {حِجْرٌ} إنما احتجروها لِآلِهَتِهِمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: {لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ} يقولون: حرام أن يطعم إِلَّا مَنْ شِئْنَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حام}، وقال السدي: أما الأنعام التي حرمت ظهورها فهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ مِنْ إِبِلِهِمْ طَائِفَةٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهَا لَا إِنْ رَكِبُوا وَلَا إِنْ حلبوا ولا إن حملوا ولا إن نتجوا ولا إن عملت شَيْئًا، {افْتِرَاءً عَلَيْهِ} أَيْ عَلَى اللَّهِ وَكَذِبًا مِنْهُمْ فِي إِسْنَادِهِمْ ذَلِكَ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَا رَضِيَهُ مِنْهُمْ، {سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أَيْ عَلَيْهِ وَيُسْنِدُونَ إِلَيْهِ.

- 139 - وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَليمٌ قال ابْنِ عَبَّاسٍ {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا} الآية، قال: اللبن كانو يُحَرِّمُونَهُ عَلَى إِنَاثِهِمْ وَيَشْرَبُهُ ذُكْرَانُهُمْ، وَكَانَتِ الشَّاةُ إِذَا وَلَدَتْ ذَكَرًا ذَبَحُوهُ، وَكَانَ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى تُرِكَتْ فَلَمْ تُذْبَحْ، وَإِنْ كَانَتْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ، فَنَهَى الله عن ذلك، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الْبَحِيرَةُ لَا يَأْكُلُ مِنْ لَبَنِهَا إِلَّا الرِّجَالُ، وَإِنْ مَاتَ مِنْهَا شَيْءٌ أَكَلَهُ الرجال والنساء، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} قال: هي السائبة والبحيرة، {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أَيْ قَوْلَهُمُ الْكَذِبَ فِي ذَلِكَ، كقوله تَعَالَى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} -[624]- الآية، {إِنَّهُ حِكِيمٌ} أَيْ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، {عَلِيمٌ} بِأَعْمَالِ عِبَادِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وسيجزيهم عليها أتم الجزاء.

- 140 - قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ يَقُولُ تعالى: قَدْ خَسِرَ الذين فعلوا هذه الأفاعيل فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَخَسِرُوا أَوْلَادَهُمْ بِقَتْلِهِمْ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فَحَرَّمُوا أَشْيَاءَ ابْتَدَعُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَمَّا فِي الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل بكذبهم على الله وافترائهم، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَالْمِائَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى الله قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} (رواه البخاري في المناقب وأخرجه ابن مردويه في تفسير هذه الآية).

- 141 - وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ - 142 - وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ يَقُولُ تَعَالَى مبيناً أنه الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْأَنْعَامِ التي تصرف فيها هؤلاء المشركون بآرائهم الفاسدة، وقسموها وجزؤوها فَجَعَلُوا مِنْهَا حَرَامًا وَحَلَالًا، فَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ معروشات وغير معروشات}، قل ابن عباس: {مَّعْرُوشَاتٍ} مسموكات. وفي رواية: فالمعروشات مَا عَرَّشَ النَّاسُ، وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ مَا خَرَجَ في البر والجبال من الثمرات، وعنه: مَعْرُوشَاتٍ مَا عَرَّشَ مِنَ الْكَرْمِ، وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ما لم يعرش من الكرم. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: {مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} قَالَ: متشابهاً في المنظر، وغير متشابه في المطعم، {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ} مِنْ رُطَبِهِ وَعِنَبِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال بعضهم: هي الزكاة المفروضة. قال ابْنِ عَبَّاسٍ {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}: يَعْنِي الزكاة المفروضة يوم يكال ويعلم كيله (وروي عن أنَس بن مالك وسعيد بن المسيب وهو قول طاووس وقتادة والحسن والضحاك)، وعنه قال: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا زَرَعَ فَكَانَ يَوْمُ حَصَادِهِ لَمْ يُخْرِجْ مِمَّا حَصَدَ شَيْئًا، فَقَالَ الله تعالى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ ما كيله وحقه من كل عشرة واحد وما يلقط الناس من سنبله، وقد روى عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مِنْ كُلِّ جاذّ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ بِقِنْوٍ يُعَلَّقُ فِي المساجد للمساكين (رواه أحمد وأبو داود، وقال ابن كثير: وإسناده قوي جيد). وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هِيَ الصَّدَقَةُ مِنَ الْحَبِّ

والثمار، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ حُقٌّ آخَرُ سِوَى الزَّكَاةِ، روى نافع عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قَالَ: كَانُوا يُعْطُونَ شَيْئًا سِوَى الزكاة. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا حَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ طَرَحْتَ لَهُمْ منه، وعنه قال: عند الزرع يعطى القبضة، وعند الصرام يعطى القبضة، ويتركهم فيتبعون آثار الصرام، وقال سعيد بن جبير: كان هذا قبل الزكاة للمساكين القبضة والضغث لعلف دابته، وقال آخرون: هذا شَيْءٌ كَانَ وَاجِبًا، ثُمَّ نَسَخَهُ اللَّهُ بِالْعُشْرِ أو نصف العشر (حكاه ابن جرير رحمه الله واختاره)، وقد ذم الله سبحانه الذين يصرمون وَلَا يَتَصَدَّقُونَ، كَمَا ذَكَرَ عَنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ فِي سُورَةِ «ن»: {إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عليهم طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أي كالليل المدلهم سوداء محترقة. وقوله تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} قِيلَ: معناه لا تسرفوا في الإعطاء فتعطوا فوق المعروف. قال ابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بن شماس جذّ نخلاً له فَقَالَ: لَا يَأْتِينِي الْيَوْمَ أَحَدٌ إِلَّا أَطْعَمْتُهُ فَأَطْعَمَ حَتَّى أَمْسَى وَلَيْسَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ، فَأَنْزَلَ الله تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (رَوَاهُ ابن جرير من حديث ثابت بن قيس)، وقال عطاء: نهوا عَنِ السَّرَفِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: مَا جَاوَزْتَ بِهِ أَمْرَ اللَّهِ فهو سرف، وقال السدي: لَا تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ فَتَقْعُدُوا فُقَرَاءَ. وَقَالَ سَعِيدُ ابن المسيب فِي قَوْلِهِ: {وَلاَ تُسْرِفُوا} قَالَ: لَا تَمْنَعُوا الصدقة فتعصوا ربكم، والمختار عند ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ عَطَاءٍ: إِنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَحِيحٌ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تسرفوا} أن يكون عائداً على الأكل أي لا تُسْرِفُوا فِي الْأَكْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَضَرَّةِ العقل والبدن، كقوله تعالى: {كُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا} الآية. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا من غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ»، وَهَذَا مِنْ هَذَا، والله أعلم. وقوله عزَّ وجلَّ: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} أَيْ وَأَنْشَأَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ مَا هُوَ حَمُولَةٌ وَمَا هُوَ فَرْشٌ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَمُولَةِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ من الإبل، والفرش الصغار منها، روي عن ابن مسعود فِي قَوْلِهِ: {حَمُولَةً} مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنَ الإبل، {وَفَرْشاً} الصغار من الإبل، قال ابن عباس: الحمولة هي الكبار، والفرش الصِّغَارُ مِنَ الْإِبِلِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس: {وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً} أما الْحَمُولَةُ فَالْإِبِلُ وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَكُلُّ شَيْءٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْفَرْشُ فَالْغَنَمُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ وَأَحْسَبُهُ إِنَّمَا سُمِّيَ فَرْشًا لِدُنُوِّهِ من الأرض، وقال الضحاك وَقَتَادَةُ: الْحَمُولَةُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَالْفَرْشُ الْغَنَمُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَمَّا الْحَمُولَةُ فَالْإِبِلُ، وَأَمَّا الْفَرْشُ فَالْفُصْلَانُ وَالْعَجَاجِيلُ وَالْغَنَمُ، وَمَا حُمِلَ عَلَيْهِ فَهُوَ حَمُولَةٌ. وقال ابن أَسْلَمَ: الْحَمُولَةُ مَا تَرْكَبُونَ، وَالْفَرْشُ مَا تَأْكُلُونَ وَتَحْلِبُونَ: شَاةٌ لَا تَحْمِلُ تَأْكُلُونَ لَحْمَهَا وَتَتَّخِذُونَ مِنْ صُوفِهَا لِحَافًا وَفَرْشًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حسن ويشهد له قوله تعالى: {أَوْ لم يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً للشاربين} إِلَى أَنْ قَالَ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى

حين}، وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تأكلون}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أَيْ مِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَالْأَنْعَامِ فَكُلُّهَا خَلَقَهَا اللَّهُ وَجَعَلَهَا رِزْقًا لَكُمْ، {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي طريقه وَأَوَامِرَهُ كَمَا اتَّبَعَهَا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ حَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ أَيْ مِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، {إِنَّهُ لَكُمْ} أَيْ إِنَّ الشَّيْطَانَ أَيُّهَا النَّاسُ لَكُمْ {عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أَيْ بَيِّنٌ ظَاهِرُ الْعَدَاوَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ من الجنة} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ.

- 143 - ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 144 - وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ هذا بَيَانٌ لِجَهْلِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِيمَا كَانُوا حَرَّمُوا مِنَ الْأَنْعَامِ، وَجَعَلُوهَا أَجْزَاءً وَأَنْوَاعًا بَحِيرَةً وسائبة ووصيلة وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا فِي الأنعام والزروع والثمار، فبين تعالى أنه أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ، وَأَنَّهُ أَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا، ثُمَّ بَيَّنَ أَصْنَافَ الأنعام، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ولا شيئاً من أولادها بَلْ كُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ لِبَنِي آدَمَ أَكْلًا وَرُكُوبًا وَحَمُولَةً وَحَلْبًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ، كما قال: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الْآيَةَ، وقوله تعالى: {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} رَدٌ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا} الآية، وقوله تعالى: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ أَخْبِرُونِي عَنْ يَقِينٍ كَيْفَ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَا زَعَمْتُمْ تَحْرِيمَهُ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ ونحو ذلك، قال ابن عباس: يقول لم أحرم من ذلك شيئاً، {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} يَعْنِي هَلْ يشتمل الرَّحِمُ إِلَّا عَلَى ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى فَلِمَ تُحَرِّمُونَ بَعْضًا وَتُحِلُّونَ بَعْضًا؟ {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} يقول تعالى: كله حلال، وقوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} تَهَكُّمٌ بِهِمْ فِيمَا ابْتَدَعُوهُ وَافْتَرَوْهُ عَلَى اللَّهِ مِنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ مِنْ ذَلِكَ، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وَأَوَّلُ مَنْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ (عَمْرُو بن لحي بن قمعة) لأنه أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ، وَحَمَى الْحَامِيَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ.

- 145 - قُل لاَّ أَجِدُ فيما أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

يقول تعالى آمراً عبده ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً على الله، {لا أجد فيما أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} أَيْ آكُلٍ يَأْكُلُهُ، قِيلَ: مَعْنَاهُ لَا أَجِدُ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمْتُمْ حَرَامًا سِوَى هَذِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا أَجِدُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ شَيْئًا حَرَامًا سِوَى هذه، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} يَعْنِي الْمِهْرَاقَ، وقال عكرمة: لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي العروق كما تتبعه اليهود، وقال حماد: إِنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَنِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: حُرِّمَ مِنَ الدِّمَاءِ مَا كَانَ مَسْفُوحًا، فأما اللحم خالطه الدم فلا بأس به، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَرَى بِلُحُومِ السِّبَاعِ بَأْسًا وَالْحُمْرَةِ وَالدَّمِ يَكُونَانِ عَلَى الْقِدْرِ بَأْسًا، وَقَرَأَتْ هذه الآية (رواه ابن جرير عن عائشة، قال ابن كثير: صحيح غريب). وقال الحميدي عن عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ، قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرٍ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ (الْحَكَمُ بْنِ عَمْرٍو) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ أَبَى ذلك البحر يَعْنِي (ابْنَ عَبَّاسٍ) وَقَرَأَ: {قُل لَا أَجِدُ فيما أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} (رواه البخاري وأبو داود والحاكم) الآية، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا، فَبَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ وَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سكت عنه فهو عفو، وقرأ هذه الآية: {قُلِ لا أجد فيما أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية (هذا لفظ ابن مردويه ورواه أبو داود، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَتْ فُلَانَةٌ تَعْنِي الشَّاةَ، قَالَ: «فَلِمَ لَا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا» قَالَتْ: نَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: {قُل لاَّ أَجِدُ فيما أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} وإنكم لا تطعمونه، وأن تَدْبِغُوهُ فَتَنْتَفِعُوا بِهِ"، فَأَرْسَلَتْ فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا، فَدَبَغَتْهُ، فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها (أخرجه أحمد، ورواه البخاري والنسائي بنحوه). وقال سعيد بن منصور عن نميلة الفزاريُّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ أَكْلِ الْقُنْفُذِ فَقَرَأَ عَلَيْهِ: {قُل لاَّ أجد فيما أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الْآيَةَ، فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «خَبِيثٌ مِنَ الْخَبَائِثِ»، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ فَهُوَ كَمَا قَالَ (وَرَوَاهُ أَبُو داود عن سعيد بن منصور). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَن اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} أَيْ فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ مما حرم الله فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَلَبِّسٍ بِبَغْيٍ وَلَا عُدْوَانٍ، {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أَيْ غَفُورٌ لَهُ رَحِيمٌ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا فِيهِ كفاية، والغرض مِنْ سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِآرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ مِنَ الْبَحِيرَةِ والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك، فأمر رَسُولَهُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ لَا يَجِدُ فِيمَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَمْ يُحَرَّمْ، وَإِنَّمَا هُوَ عَفْوٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، فَكَيْفَ تزعمون أنتم

أَنَّهُ حَرَامٌ وَمِنْ أَيْنَ حَرَّمْتُمُوهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ؟ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَبْقَى تَحْرِيمُ أَشْيَاءَ أخرى فِيمَا بَعْدَ هَذَا، كَمَا جَاءَ النَّهْيُ عَنْ لحوم الحمر الأهلية وَلُحُومِ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ.

- 146 - وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ يَقُولُ تَعَالَى: وَحَرَّمْنَا عَلَى الْيَهُودِ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَهُوَ الْبَهَائِمُ وَالطَّيْرُ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْقُوقَ الْأَصَابِعِ كَالْإِبِلِ وَالنَّعَامِ وَالْأَوِزِّ وَالْبَطِّ، قَالَ ابن عباس: هو البعير والنعامة، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ منفرج الأصابع، وفي رواية عنه: كل متفرق الأصابع، ومنه الديك، وقال مُجَاهِدٍ {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} قَالَ: النَّعَامَةُ وَالْبَعِيرُ شَقًّا شَقًّا. قُلْتُ لِلْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ وحدثته مَا شَقًّا شَقًّا؟ قَالَ: كُلُّ مَا لَا ينفرج من قوائم البهائم، قال: وما انفرج أكلته، قَالَ: انْفَرَجَتْ قَوَائِمُ الْبَهَائِمِ وَالْعَصَافِيرِ، قَالَ: فَيَهُودُ تأكله، قَالَ: وَلَمْ تَنْفَرِجْ قَائِمَةُ الْبَعِيرِ - خُفُّهُ - وَلَا خُفُّ النَّعَامَةِ وَلَا قَائِمَةُ الْوَزِّ، فَلَا تَأْكُلُ اليهود الإبل ولا النعامة وَلَا الْوَزَّ، وَلَا كُلَّ شَيْءٍ لَمْ تَنْفَرِجْ قائمته، ولا تأكل حمار الوحش، وقوله تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ} قَالَ السدي: يعني الترب وشحم الكليتين، وكانت اليهود تقول: إن حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ فَنَحْنُ نُحَرِّمُهُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ زيد، وقال قتادة الثرب (الثرب بالفتح: الشحم الذي على الكرش والأمعاء) وَكُلُّ شَحْمٍ كَانَ كَذَلِكَ لَيْسَ فِي عَظْمٍ، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} يَعْنِي مَا عَلِقَ بِالظَّهْرِ مِنَ الشُّحُومِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الألية مما حملت ظهورهما، وقوله تعالى: {أَوِ الحوايآ} الْحَوَايَا جَمْعٌ وَاحِدُهَا حَاوِيَاءُ وَحَاوِيَةٌ وَحَوِيَّةٌ، وَهُوَ ما تحوي من البطن، وهي المباعر، وتسمى المرابض، وفيها الأمعاء، وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا ما حملت ظهورهما وما حملت الحوايا. قال ابن عباس ومجاهد: الحوايا المبعر والمربض (وهو قول سعيد بن جبير والضحاك وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن أسلم وغيرهم). وقوله تعالى: {أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ} يعني إلاّ ما اختلط من الشحوم بعظم فَقَدْ أَحْلَلْنَاهُ لَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: شَحْمُ الألية ما اخْتَلَطَ بِالْعُصْعُصِ، فَهُوَ حَلَالٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقَوَائِمِ وَالْجَنْبِ وَالرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، وَمَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ فهوحلال ونحوه قاله السُّدِّيُّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ} أَيْ هَذَا التَّضْيِيقُ إِنَّمَا فَعَلْنَاهُ بِهِمْ وَأَلْزَمْنَاهُمْ بِهِ مجازاة عَلَى بَغْيِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ أَوَامِرَنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}، وَقَوْلُهُ: {وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} أَيْ وَإِنَّا لَعَادِلُونَ فِيمَا جازيناهم بِهِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرْنَاكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ تَحْرِيمِنَا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، لَا كَمَا زَعَمُوا مِنْ أَنَّ إِسْرَائِيلَ هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ سَمُرَةَ بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ سَمُرَةَ أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فباعوها»؟ أخرجاه. وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم

يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ»، فَقِيلَ: يَا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يدهن بها الجلود وتطلى بِهَا السُّفُنُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: «لَا، هُوَ حَرَامٌ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: «قَاتَلَ اللَّهُ اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومهما جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه» (أخرجه الجماعة من طرق عديدة)، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها» (رواه البخاري ومسلم)، وقال ابن مردويه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَاعِدًا خَلْفَ الْمَقَامِ فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ - ثَلَاثًا - إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ فباعوها وأكلوا ثمنها وإن اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ إلاّ حرم عليهم ثمنه» (أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً). وقال الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا فِي الْمَسْجِدِ مستقبلاً الحجر، فنظر إلى السماء فضحك فقال: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه» (أخرجه الإمام أحمد في المسند".

- 147 - فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ يَقُولُ تَعَالَى: فَإِنْ كَذَّبَكَ يَا مُحَمَّدُ مُخَالِفُوكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ فَقُلْ: {رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} وَهَذَا تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي ابْتِغَاءِ رَحْمَةِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ، {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} تَرْهِيبٌ لَهُمْ مِنْ مخالفتهم الرسول وخاتم النَّبِيِّينَ، وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ (التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ) فِي الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رحيم}، وَقَالَ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب}، وقال تعالى: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم}، وَقَالَ تَعَالَى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ}، وَقَالَ: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الغفور الودود} وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.

- 148 - سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ - 149 - قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ - 150 - قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هَذِهِ مُنَاظَرَةٌ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وشبهة تشبث بِهَا الْمُشْرِكُونَ فِي شِرْكِهِمْ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا، فَإِنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّحْرِيمِ لِمَا حَرَّمُوهُ، وَهُوَ قَادِرٌ على تغييره بأن يلهمنا الإيمان ويحول بيننا وبين الكفر، فلم

يغيره ودل على أنه بمشيئته وإرادته ورضاه منا بذلك، ولهذا قالوا: {لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا}، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ} الآية، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أَيْ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ ضَلَّ مَنْ ضَلَّ قَبْلَ هَؤُلَاءِ وَهِيَ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمَا أَذَاقَهُمُ اللَّهُ بَأْسَهُ وَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ وَأَدَالَ عَلَيْهِمْ رُسُلَهُ الْكِرَامَ، وَأَذَاقَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَلِيمِ الِانْتِقَامِ، {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ} أي بأن الله رَاضٍ عَنْكُمْ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ، {فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ} أَيْ فَتُظْهِرُوهُ لَنَا وَتُبَيِّنُوهُ وَتُبْرِزُوهُ، {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} أَيِ الْوَهْمَ وَالْخَيَالَ وَالْمُرَادُ بِالظَّنِّ ها هنا الاعتقاد الفاسد، {وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} تكذبون على الله فيما ادعيتموه، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}، يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ} لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} أَيْ لَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فِي هِدَايَةِ مَنْ هَدَى وَإِضْلَالِ مَنْ ضَلَّ، {فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فكل ذَلِكَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْضَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُبْغِضُ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرض}، وَقَالَ: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}، قَالَ الضَّحَّاكُ: لَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ عَصَى اللَّهَ، ولكن لله الحجة البالغة على عباده، قوله تَعَالَى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ} أَيْ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمْ {الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} أَيْ هَذَا الَّذِي حَرَّمْتُمُوهُ وَكَذَبْتُمْ وَافْتَرَيْتُمْ عَلَى اللَّهِ فِيهِ، {فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أَيْ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَشْهَدُونَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَذِبًا وَزُورًا، {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أَيْ يُشْرِكُونَ بِهِ وَيَجْعَلُونَ لَهُ عَدِيلًا.

- 151 - قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ قال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي عَلَيْهَا خَاتَمُهُ فَلْيَقْرَأْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً - إلى قوله - لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. وقال الحاكم في مستدركه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: فِي الْأَنْعَامِ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، ثُمَّ قَرَأَ: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآيات، وعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى ثَلَاثٍ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَاتِ .. «فَمَنْ أوفى فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَأَدْرَكَهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ عُقُوبَتَهُ، وَمَنْ أُخِّرَ إِلَى الْآخِرَةِ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ» (رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ). يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَقَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ فَعَلُوهُ بِآرَائِهِمْ وَتَسْوِيلِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ {قُلْ} لَهُمْ {تَعَالَوْاْ} أَيْ هَلُمُّوا وَأَقْبِلُوا {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أَيْ أَقُصُّ عَلَيْكُمْ وَأُخْبِرُكُمْ بِمَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا

لَا تَخَرُّصًا وَلَا ظَنًّا، بَلْ وَحْيًا مِنْهُ وَأَمْرًا مِنْ عِنْدِهِ {أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} وَكَأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَتَقْدِيرُهُ: وَأَوْصَاكُمْ {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لعلكم تَعْقِلُونَ}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِنْ أمتك دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قَالَ: وَإِنَّ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قُلْتُ: وَإِنَّ زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سَرَقَ، قُلْتُ: وَإِنَّ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وإن زنى وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ"؛ وَفِي بَعْضِ الروايات أنه عليه الصلاة والسلام قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ»، فَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَقُولُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَدِيثِ: «وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ»، وَفِي بعض المسانيد والسنن عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول تَعَالَى: (يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي فَإِنِّي أَغْفِرُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي، وَلَوْ أَتَيْتَنِي بِقِرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً أَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغْفِرَةً مَا لَمْ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً، وَإِنْ أَخْطَأْتَ حَتَّى تَبْلُغَ خَطَايَاكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ)، وَلِهَذَا شَاهِدٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمن يشاء}، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «مَنْ مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة». والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً، وعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: أَوْصَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعِ خِصَالٍ: «أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ حُرِّقْتُمْ وَقُطِّعْتُمْ وَصُلِّبْتُمْ» (رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم)، وقوله تعالى: {وبالوالدين إِحْسَاناً} أي أوصاكم وَأَمَرَكُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أَيْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}، وَاللَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ بَيْنَ طَاعَتِهِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ كَمَا قَالَ: {إِنَّ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إليَّ الْمَصِيرُ}، فَأَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ بِحَسْبِهِمَا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إحساناً} وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا" قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ولو استزدته لزادني. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} لما أوصى تعالى بالوالدين وَالْأَجْدَادِ، عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ الْإِحْسَانَ إِلَى الْأَبْنَاءِ وَالْأَحْفَادِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ}، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ أَوْلَادَهُمْ كَمَا سَوَّلَتْ لَهُمُ الشَّيَاطِينُ ذَلِكَ، فَكَانُوا يَئِدُونَ الْبَنَاتَ خشية العار، وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار، ولهذا ورد في الصحيحين من حديث عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ»، قلت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بالحق ولا يزنون} (أخرجه الشيخان عن عبد الله بن مسعود) الآية. وقوله تعالى: {مِّنْ إمْلاَقٍ}، قال ابن عباس: هُوَ الْفَقْرُ أَيْ وَلَا تَقْتُلُوهُمْ مِنْ فَقْرِكُمُ الحاصل، وقال في سورة الإسراء: {وَلاَ تقتلوا أولادكم خَشْيَةَ إمْلاَقٍ} أي لا تقتلوهم خوفاً من الفقر فِي الْآجِلِ، وَلِهَذَا قَالَ هُنَاكَ:

{نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} فَبَدَأَ بِرِزْقِهِمْ لِلِاهْتِمَامِ بِهِمْ أي لا تخافوا من فقركم بسبب رزقهم فهو على الله وأما هنا فَلَمَّا كَانَ الْفَقْرُ حَاصِلًا قَالَ: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} لأنه الأهم هنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش ماظهر مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}. قد تقدم تفسيرها في قوله تعالى: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وباطنه} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا أحد أغيرَ من الله مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ». وفي الصحيحين قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لَوْ رَأَيْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}، وَهَذَا مِمَّا نَصَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ تَأْكِيدًا وَإِلَّا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ عَنِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يحل دم امرىء مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ"، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لا يحل دم رجل مسلم» وذكره، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يحل دم امرىء مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ زَانٍ مُحْصَنٍ يرجم، ورجل قتل متعمداً فيقتل، ورجل يخرج من الإسلام وحارب اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى من الأرض». وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ مَحْصُورٌ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل دم امرىء مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: رَجُلٍ كَفَرَ بَعْدَ إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل بِغَيْرِ نَفْسٍ" فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَلَا تَمَنَّيْتُ أَنَّ لِي بِدِينِي بَدَلًا مِنْهُ بَعْدَ إِذْ هَدَانِي اللَّهُ، وَلَا قتلت نفساً، فبم تقتلوني (رواه أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ)؟ وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ وَالزَّجْرُ وَالْوَعِيدُ فِي قَتْلِ الْمُعَاهَدِ وَهُوَ الْمُسْتَأْمَنُ مِنْ أَهْلِ الحرب، فروى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرفوعاً: «مِنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لُيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مِنْ قَتْلَ مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَقَدَ أَخَفَرَ بِذِمَّةِ اللَّهِ فَلَا يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لِيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ). وَقَوْلُهُ: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ به لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي هذا مما وصاكم به لعلكم تعقلون عن الله وأمره ونهيه.

- 152 - وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وَ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الآية، انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ، فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَجَعَلَ يَفْضُلُ الشَّيْءَ فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسَدَ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} قَالَ: فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِمْ (رَوَاهُ أبو داود عن ابن عباس). وقوله تعالى: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}، قال الشعبي ومالك: يعني حتى يحتلم، قال السُّدِّيُّ: حَتَّى يَبْلُغَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ سنة. وقوله تعالى: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} يَأْمُرُ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ كَمَا تَوَعَّدَ عَلَى تَرْكِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وزنوهم يخسرون} وَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ كَانُوا يَبْخَسُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، وَفِي كِتَابِ الْجَامِعِ لِأَبِي عيسى الترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ: «إنكم وليتم أمراً هلكت فيه الأمم السابقة قبلكم» (إسناده ضعيف. قال الترمذي: وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ)، وقد رواه ابن مردويه في تفسيره، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْمَوَالِي قَدْ بَشَّرَكُمُ اللَّهُ بِخَصْلَتَيْنِ بِهَا هَلَكَتِ الْقُرُونُ المتقدمة: المكيال والميزان". وقوله تبارك وتعالى: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أَيْ مَنِ اجْتَهَدَ فِي أَدَاءِ الْحَقِّ وَأَخْذِهِ، فَإِنْ أَخْطَأَ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ وَبَذْلِ جُهْدِهِ فَلَا حَرَجَ عليه. وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى}، كقوله: {يَا أَيُّهَا الذين آموا كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شهداء بالقسط} الْآيَةِ، يَأْمُرُ تَعَالَى بِالْعَدْلِ فِي الْفِعَالِ وَالْمَقَالِ عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ، وَقَوْلُهُ: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ}، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُ: وَبِوَصِيَّةِ اللَّهِ الَّتِي أَوْصَاكُمْ بِهَا فَأَوْفُوا، وَإِيفَاءُ ذَلِكَ أَنْ تُطِيعُوهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ، وَتَعْمَلُوا بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْوَفَاءُ بِعَهْدِ اللَّهِ {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، يقول تعالى: هذا أوصاكم بِهِ وَأَمَرَكُمْ بِهِ وَأَكَّدَ عَلَيْكُمْ فِيهِ {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أَيْ تَتَّعِظُونَ وَتَنْتَهُونَ عَمَّا كُنْتُمْ فِيهِ.

- 153 - وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لعلكم تتقون قال ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ وَنَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ والتفرقة، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بالمراء والخصومات في دين الله، وقال الإمام أحمد بن حنبل عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سبيل الله مستقيماً»، وخط عن يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ»، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (رواه أحمد والحاكم والنسائي، وقال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه). وعن جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَّ خَطًّا هَكَذَا أَمَامَهُ فَقَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ» وَخَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وخطين عن شماله وقال: «هذه

سبل الشياطين»، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْخَطِّ الْأَوْسَطِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (رواه أحمد وابن ماجه والبزار). وعنه قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا، وَخَطَّ عَنْ يَمِينِهِ خَطًّا، وَخَطَّ عَنْ يَسَارِهِ خَطًّا، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْخَطِّ الْأَوْسَطِ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه} (رواه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله). قال ابن جرير عن أبان بن عثمان أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: مَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ؟ قَالَ تَرَكَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدْنَاهُ وَطَرَفُهُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَنْ يمينه جواد، وعن يساره جواد، ثم رِجَالٌ يَدْعُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ، فَمَنْ أَخَذَ فِي تِلْكَ الْجَوَادِّ انْتَهَتْ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَمِنْ أَخَذَ عَلَى الصِّرَاطِ انْتَهَى بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} الآية، وعن النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَنْ جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يقول: يا أيها الناس هلم أدخلوا الصراط المستقيم جميعا، ولا تفرقوا وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ، فإنك إن فتحته تَلِجْهُ، فَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ واعظ الله في قلب كل مسلم" (رواه أحمد والترمذي والنسائي). وقوله تعالى: {فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل} إنما وحد سبيله لأن الحق واحد، ولهذا جمع السبل لِتَفَرُّقِهَا وَتَشَعُّبِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أوليائهم الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. وقال ابن أبي حاتم عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي على هؤلاء الْآيَاتِ الثَّلَاثِ»، ثُمَّ تَلَا: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} حتى فرغ من ثلاث آيات، ثم قال: «وَمَن وفى بهن فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فأدركه اللَّهُ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ عُقُوبَتَهُ، وَمَنْ أَخَّرَهُ إِلَى الْآخِرَةِ كَانَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شاء أخذه وإن شاء عفا عنه» (أخرجه ابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت مرفوعاً).

- 154 - ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ - 155 - وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لما أخبر الله سبحانه عَنِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} عَطَفَ بِمَدْحِ التَّوْرَاةِ وَرَسُولِهَا، فَقَالَ: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ ذِكْرِ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مصدّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً}، وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ: {فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى}، وقال تعالى مخبراً عن الجن: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحق} الآية، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً} أي آتيناه

الْكِتَابَ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْهِ تَمَامًا كَامِلًا جَامِعًا لما يحتاج إليه في شريعته، كقوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} الآية، وقوله تعالى: {عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أَيْ جَزَاءً عَلَى إِحْسَانِهِ فِي الْعَمَلِ وَقِيَامِهِ بِأَوَامِرِنَا وَطَاعَتِنَا، كَقَوْلِهِ: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان}، وكقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يوقنون}، وقال الربيع بن أنس {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} يَقُولُ: أَحْسَنَ فِيمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مَنْ أَحْسَنَ فِي الدنيا تم لَهُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ إن تقديره: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً} عَلَى إِحْسَانِهِ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي مَصْدَرِيَّةً، كَمَا قِيلَ فِي قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} أي كخوضهم، وقال ابن رواحة: وثبت اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ * فِي الْمَرْسَلِينَ ونصراً كالذي نصروا. وقال آخرون: الذي ههنا بمعنى الذين، وذكر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يقرؤها: {تماماً على الذين أحسنوا}، وقال مجاهد: تَمَاماً عَلَى الذي أحسن: على المؤمنين والمحسنين، وقال البغوي: المحسنون الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ، يَعْنِي أَظْهَرْنَا فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ، قُلْتُ: كقوله تَعَالَى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} وَلَا يَلْزَمُ اصْطِفَاؤُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لأدلة أخرى. وقوله تعالى: {وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} فِيهِ مَدْحٌ لِكِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ {لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فِيهِ الدَّعْوَةُ إِلَى اتِّبَاعِ القرآن يرغب سبحانه عباده في كتابه ويأمرهم بتدبره والعمل به والدعوة إليه، وَوَصْفِهِ بِالْبَرَكَةِ لِمَنِ اتَّبَعَهُ وَعَمِلَ بِهِ فِي الدنيا والآخرة لأنه حبل الله المتين.

- 156 - أَن تَقُولُوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ - 157 - أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ لئلا تَقُولُوا {إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} يعني لينقطع عذركم كقوله تَعَالَى: {وَلَوْلاَ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} الآية، وقوله تعالى: {على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى (وهو قول مجاهد والسدي وقتادة وغير واحد من السلف)، وَقَوْلُهُ: {وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} أَيْ وَمَا كُنَّا نَفْهَمُ مَا يَقُولُونَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بلساننا ونحن في غفلة وشغل مع ذلك عَمَّا هُمْ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ} أَيْ وَقَطَعْنَا تَعَلُّلَكُمْ أَنْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ نزل عَلَيْنَا مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فِيمَا أُوتُوهُ، كَقَوْلِهِ: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمم} الآية، وهكذا قال ههنا: {فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} يَقُولُ: فَقَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ قُرْآنٌ عَظِيمٌ، فِيهِ بَيَانٌ لِلْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهُدًى لما في القلوب ورحمة من الله لعباده الذين يتبعونه ويقتفون ما فيه، وقوله تَعَالَى: {فَمَن أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} أي

لَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَلَا اتَّبَعَ مَا أُرْسِلَ بِهِ وَلَا تَرَكَ غَيْرَهُ، بَلْ صَدَفَ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِ اللَّهِ أَيْ صَرَفَ النَّاسَ وَصَدَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: وَصَدَفَ عَنْهَا أعرض عنها، وقول السدي ههنا فِيهِ قُوَّةٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إلا أنفسهم}، وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب} وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ}، وقد يكون المراد فيما قاله ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} أَيْ لَا آمَنُ بِهَا، وَلَا عَمِلَ بِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وغير ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اشْتِمَالِ الْكَافِرِ عَلَى التَّكْذِيبِ بِقَلْبِهِ وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِجَوَارِحِهِ، وَلَكِنَّ كلام السدي أقوى وأظهر، والله أعلم.

- 158 - هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا منتظرون يقول تعالى متوعداً للكافرين والمخالفين لرسله وَالْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ وَالصَّادِّيْنَ عَنْ سَبِيلِهِ: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}، وَذَلِكَ كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ، يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} وَذَلِكَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَائِنٌ مِنْ أَمَارَاتِ الساعة وأشراطها، حين يرون شيئاً من أشراط الساعة، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا»، فَذَلِكَ حِينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ}. وَفِي رواية: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ من قبل»، ثم قرأ هذه الآية (أخرجه البخاري من طرق متعددة عن أبي هريرة). وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ عن أبي هريرة، وقال ابن جرير عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض"، وقال ابن جرير عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» (رواه أحمد عن أبي هريرة). (حديث آخر): عن أبي ذر الغفاري قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أتدري أَيْنَ تَذْهَبُ الشَّمْسُ إِذَا غَرَبَتْ؟» قُلْتُ لَا أدري، قال: «إنها تنتهي دون العرش فتخر سَاجِدَةً ثُمَّ تَقُومُ حَتَّى يُقَالَ لَهَا ارْجِعِي فَيُوشِكُ يَا أَبَا ذَرٍّ أَنْ يُقَالَ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، وَذَلِكَ حِينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قبل}» (أخرجه الشيخان عن أبي ذر الغفاري). (حديث آخر): عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ أَشْرَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غرفة ونحن نتذاكر الساعة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ: طلوع الشمس من مغاربها، وَالدُّخَانُ وَالدَّابَّةُ، وَخُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ،

وخروج عيسى بن مريم، وخروج الدجال، وَثَلَاثَةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمُشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنٍ تَسُوقُ، أَوْ تَحْشُرُ النَّاسَ، تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ باتوا وتقيل معهم حيث قالوا" (أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ). (حَدِيثٌ آخَرُ): عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} - قال طلوع الشمس من مغربها»، وفي لفظ: «إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا»، وفي حديث صفوان بن عسال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ فَتَحَ بَابًا قَبْلَ الْمَغْرِبِ عرضه سبعون عاماً للتوبة لَا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ» (رَوَاهُ الترمذي وصححه النسائي وابن ماجه). (حَدِيثٌ آخَرُ): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ ضَمْضَمِ بْنِ زُرْعَةَ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ يَرُدُّهُ إِلَى مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ عَنِ ابْنِ السَّعْدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتِلُ» فَقَالَ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْهِجْرَةَ خَصْلَتَانِ إِحْدَاهُمَا تَهْجُرُ السَّيِّئَاتِ، وَالْأُخْرَى تُهَاجِرُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا تَنْقَطِعُ ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة تقبل حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ طُبِعَ عَلَى كُلِّ قَلْبِ بِمَا فِيهِ، وَكُفِيَ الناس العمل» (رواه أحمد، قال ابن كثير: هذا الحديث حسن الإسناد). فقوله تعالى: {لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} أَيْ إِذَا أَنْشَأَ الْكَافِرُ إِيمَانًا يَوْمَئِذٍ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مُصْلِحًا فِي عمله فهو بخير عظيم، وإن لم يكن مصلحاً فَأَحْدَثَ تَوْبَةً حينئذٍ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ تَوْبَتُهُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} أَيْ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا كَسْبُ عَمَلٍ صَالِحٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَامِلًا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وقوله تعالى: {قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ لِلْكَافِرِينَ ووعيد أكيد لمن سوَّف إيمانه وَتَوْبَتِهِ إِلَى وَقْتٍ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كان هذا الحكم عند طلوع الشمس من مغربها لاقتراب الساعة وَظُهُورِ أَشْرَاطِهَا كَمَا قَالَ: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}، وقوله تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} الآية.

- 159 - إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى (هذا قول مجاهد وقتادة والضحّاك والسدي)، وقال ابن عباس: إن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَفَرَّقُوا، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنزل الله عليه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} الآية، قوله {وَكَانُواْ شِيَعاً} قال: هم الخوارج، وقيل: هم أصحاب البدع، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ فارق

دِينَ اللَّهِ وَكَانَ مُخَالِفًا لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَشَرْعُهُ وَاحِدٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا افْتِرَاقَ، فَمَنِ اخْتَلَفَ فِيهِ {وَكَانُواْ شِيَعاً} أي فرقاً كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، فإن الله تعالى قد برأ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا هُمْ فِيهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} الآية. وَفِي الْحَدِيثِ: «نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ»، فَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالتَّمَسُّكِ بِشَرِيعَةِ الرَّسُولِ الْمُتَأَخِّرِ، وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَضَلَالَاتٌ وَجَهَالَاتٌ وَآرَاءٌ وأهواء والرسل برآء منها كما قال الله تعالى: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، وقوله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} كقوله تعالى: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} الآية. ثم بين لطفه سبحانه في حكمه وعدله يوم القيامة فقال تعالى:

- 160 - مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مُفَصِّلَةٌ لِمَا أَجْمَلَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا}، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ مُطَابِقَةً لِهَذِهِ الْآيَةِ، كَمَا قال الإمام أحمد بن حنبل عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: «إِنْ رَبَّكُمْ عزَّ وجلَّ رَحِيمٌ، مَنْ همَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا إِلَى سَبْعِمِائَةٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هُمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا كتبت له وَاحِدَةً أَوْ يَمْحُوهَا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَلَا يهلك على الله إلاّ هالك» (رواه البخاري ومسلم والنسائي). وقال أحمد أيضاً عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فجزاؤه مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ، وَمَنْ عَمِلَ قُرَابَ الْأَرْضِ خَطِيئَةً ثُمَّ لَقِيَنِي لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا جَعَلْتُ لَهُ مِثْلَهَا مَغْفِرَةً، وَمَنِ اقْتَرَبَ إليَّ شِبْرًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أتيته هرولة» (رواه مسلم وابن ماجة). عن أنس ابن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَإِنَّ عملها كتبت عليه سيئة واحدة» (رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي)، وَاعْلَمْ أَنَّ تَارِكَ السَّيِّئَةِ الَّذِي لَا يَعْمَلُهَا على ثلاثة أقسام: تارة يتركها لله، فَهَذَا تَكْتُبُ لَهُ حَسَنَةٌ عَلَى كَفِّهِ عَنْهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَهَذَا عَمَلٌ وَنِيَّةٌ، وَلِهَذَا جَاءَ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةٌ كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ، فَإِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي أَيْ مِنْ أَجْلِي، وَتَارَةً يَتْرُكُهَا نِسْيَانًا وَذُهُولًا عَنْهَا فَهَذَا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ خَيْرًا وَلَا فَعَلَ شَرًّا، وَتَارَةً يتركها عجزاً وكسلاً عنها بَعْدَ السَّعْيِ فِي أَسْبَابِهَا وَالتَّلَبُّسِ بِمَا يُقَرِّبُ منها، فهذا بمنزلة فاعلها كما جاء في الحديث الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: «إذا التقى المسلمان بسيفهما فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حريصاً على قتل صاحبه» (رواه البخاري ومسلم).

وعن خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ الْأَسَدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إن النَّاسُ أَرْبَعَةٌ وَالْأَعْمَالُ سِتَّةٌ. فَالنَّاسُ مُوَسَّعٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمُوَسَّعٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا مَقْتُورٌ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَقْتُورٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مُوَسَّعٌ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَشَقِيٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَعْمَالُ مُوجِبَتَانِ، وَمِثْلٌ بِمِثْلٍ، وَعَشَرَةُ أَضْعَافٍ وَسَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ، فَالْمُوجِبَتَانِ مَنْ مَاتَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ مَاتَ كَافِرًا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَهَا قَلْبَهُ وَحَرَصَ عَلَيْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، وَمِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ وَمَنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَلَمْ تُضَاعَفْ عليه، ومن عمل حسنة كانت عليه بعشر أَمْثَالِهَا، وَمَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ كانت بسبعمائة ضعف» (رواه أحمد والترمذي والنسائي)، وقال ابن أبي حاتم عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ: رَجُلٌ حَضَرَهَا بِلَغْوٍ فَهُوَ حَظُّهُ مِنْهَا، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِدُعَاءٍ فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَزِيَادَةُ ثلاثة أيام، وذلك لأن الله عزَّ وجلَّ يَقُولُ: {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (أخرجه ابن أبي حاتم). وقال الحافظ الطبراني عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْجُمُعَةُ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}. وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا وَفِيمَا ذُكِرَ كِفَايَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.

- 161 - قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - 162 - قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - 163 - لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أول المسلمين يقول تَعَالَى آمِرًا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد المرسلين أن يخبر بما أنعم بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ إِلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ {دِيناً قِيَماً} أَيْ قَائِمًا ثَابِتًا {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، كَقَوْلِهِ: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}، وَقَوْلُهُ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مستقيم}، وليس يلزمه من كونه صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَكْمَلَ مِنْهُ فِيهَا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَامَ بِهَا قِيَامًا عَظِيمًا، وَأُكْمِلَتْ لَهُ إِكْمَالًا تَامًّا لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إِلَى هَذَا الْكَمَالِ، وَلِهَذَا كَانَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ على الإطلاق، وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق حتى الخليل عليه السلام. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: «أَصْبَحْنَا عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»، وَقَالَ الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أي الأديان أحب إلى الله تعالى؟ قال: «الحنيفية السمحة» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يَأْمُرُهُ تَعَالَى أَنْ يخبِّر الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَذْبَحُونَ لِغَيْرِ اسْمِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ لِلَّهِ وَنُسُكَهُ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لا شريك

لَهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أي أخلص له صلاتك وذبحك، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَيَذْبَحُونَ لَهَا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمُخَالَفَتِهِمْ وَالِانْحِرَافِ عَمَّا هُمْ فِيهِ، وَالْإِقْبَالِ بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْإِخْلَاصِ لله تعالى، قال مجاهد: النسك: الذبح في الحج والعمرة، وقال سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {وَنُسُكِي} قَالَ: ذَبْحِي، وَكَذَا قال السدي والضحاك، وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ عيد النحر بِكَبْشَيْنِ، وَقَالَ حِينَ ذَبَحَهُمَا: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فطر السموات وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين» (رواه ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله). وقوله عزَّ وجلَّ: {وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ: فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ كُلَّهُمْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَصْلُهُ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وقد أخبرنا تَعَالَى عَنْ نُوحٍ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين}، وقال تعالى: {يَا بني إن الله اصطفى لكم لدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُمْ مسلمون}، وَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السموات وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين}، وَقَالَ مُوسَى: {يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ}. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ والأحبار} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مسلمون}، فأخبر تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ رُسُلَهُ بِالْإِسْلَامِ وَلَكِنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِيهِ بِحَسَبِ شَرَائِعِهِمِ الْخَاصَّةِ، الَّتِي يَنْسَخُ بَعْضُهَا بَعْضًا إِلَى أَنْ نُسِخَتْ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي لَا تُنْسَخُ أَبَدَ الآبدين، ولا تزال قائمة منصورة وأعلامها منشورة إلى قيام الساعة، ولهذا قال عليه السلام: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ» فَإِنَّ أَوْلَادَ الْعِلَّاتِ هُمُ الْإِخْوَةُ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمَّهَاتٍ شَتَّى، فَالدِّينُ وَاحِدٌ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنْ تَنَوَّعَتِ الشرائع التي هي بمنزلة الأمهات وقد قال الإمام أحمد عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا كَبَّرَ اسْتَفْتَحَ ثُمَّ قَالَ: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فطر السموات وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَّبِّ الْعَالَمِينَ» إلى آخر الآية: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ»، ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِيمَا يَقُولُهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ (الحديث رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ).

- 164 - قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تختلفون

يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ فِي إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} أَيْ أَطْلُبُ رَبًّا سواه، {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} يربيني وَيَحْفَظُنِي وَيَكْلَؤُنِي وَيُدَبِّرُ أَمْرِي، أَيْ لَا أَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ وَلَا أُنِيبُ إِلَّا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ رب كل شيء وملكيه وله الخلق والأمر، ففي هذه الآية الأمر بإخلاص التوكل كما تضمنت التي قبلها إخلاص العبادة لله وحده لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُقْرَنُ بِالْآخَرِ كثيراً في القرآن كقوله تعالى مرشداً لعباده أن يقولوا له: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نستعين}، وقوله: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}، وَقَوْلُهُ: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا}، وَقَوْلُهُ: {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً} وأشباه ذلك من الآيات. وقوله تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} إِخْبَارٌ عَنِ الْوَاقِعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي جَزَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمِهِ وَعَدْلِهِ أَنَّ النُّفُوسَ إِنَّمَا تُجَازَى بِأَعْمَالِهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَأَنَّهُ لَا يُحْمَلُ مِنْ خَطِيئَةِ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ، وَهَذَا مِنْ عَدْلِهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى}، وقوله تعالى: {فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} قال علماء التفسير أي فَلَا يُظْلَمُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ وَلَا يُهْضَمُ بِأَنْ يُنْقَصَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين} معناه كل نفس مرتهنة بعملها السيء إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين فإنه قد يعود بركة أعمالهم الصالحة على ذرياتهم وقراباتهم كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الطُّورِ: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} أي أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ شَارَكُوهُمْ فِي الْأَعْمَالِ، بَلْ فِي أصل الإيمان، وما ألتناهم أي نقصنا أُولَئِكَ السَّادَةَ الرُّفَعَاءَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا حَتَّى سَاوَيْنَاهُمْ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَنْقَصُ مِنْهُمْ مَنْزِلَةً، بل رفعهم تعالى إلى منزلة الْآبَاءِ بِبَرَكَةِ أَعْمَالِهِمْ بِفَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ: {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} أَيْ مِنْ شَرٍّ، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أَيِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ فَسَتُعْرَضُونَ وَنُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَيُنْبِئُنَا وَإِيَّاكُمْ بِأَعْمَالِنَا وَأَعْمَالِكُمْ، وَمَا كُنَّا نَخْتَلِفُ فِيهِ فِي الدار الدنيا كقوله: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عما تعلمون * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بالحق وَهُوَ الفتاح العليم}.

- 165 - وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الْأَرْضِ} أي جعلكم تعمرونها جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَخَلَفًا بعد سلف، كقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ}، وكقوله تعالى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض}، وقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ في الأرض خليفة}، وَقَوْلِهِ: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}، وَقَوْلِهِ: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}، أَيْ فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوي، وَالْمُنَاظِرِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ، كقوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً}، وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}، وقوله تعالى: {لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} أَيْ

لِيَخْتَبِرَكُمْ فِي الَّذِي أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ وَامْتَحَنَكُمْ بِهِ لِيَخْتَبِرَ الْغَنِيَّ فِي غِنَاهُ، وَيَسْأَلُهُ عَنْ شُكْرِهِ، وَالْفَقِيرَ فِي فَقْرِهِ وَيَسْأَلُهُ عَنْ صَبْرِهِ. وفي صحيح مسلم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ مَاذَا تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ في النساء» (رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً). وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} ترهيب وترغيب أن حسابه وعقابه سريع فيمن عَصَاهُ وَخَالَفَ رُسُلَهُ، {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} لِمَنْ وَالَاهُ وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مَنْ خبر وطلب. وقال محمد بن إسحاق: ليرحم العباد على ما فيهم. وكثيراً ما يقرن الله تعالى في القرآن بين هاتين الصفتين، كقوله: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم} إلى غير ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. فَتَارَةً يَدْعُو عِبَادَهُ إِلَيْهِ بِالرَّغْبَةِ وَصِفَةِ الْجَنَّةِ وَالتَّرْغِيبِ فِيمَا لَدَيْهِ، وَتَارَةً يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ بِالرَّهْبَةِ وَذِكْرِ النَّارِ وَأَنْكَالِهَا وَعَذَابِهَا وَالْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا، وَتَارَةً بهما لِيَنْجَعَ فِي كُلٍّ بِحَسَبِهِ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِمَّنْ أَطَاعَهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَرَكَ مَا عَنْهُ نَهَى وَزَجَرَ، وَصَدَّقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ، إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ سميع الدعاء، جواد كريم وهاب. وقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ من العقوبه ما طمع بجنته أَحَدٌ، وَلَوْ يُعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ من الرحمة ما قنط أحد من الجنة. خَلَقَ اللَّهُ مِائَةَ رَحْمَةٍ فَوَضَعَ وَاحِدَةً بَيْنَ خَلْقِهِ، يَتَرَاحَمُونَ بِهَا وَعِنْدَ اللَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ» (أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً)، وعنه أيضاً قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» (أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعاً).

المجلد الثاني

7 - سورة الأعراف

- 7 - سورة الأعراف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - المص - 2 - كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ - 3 - اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دونه أوليآء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُرُوفِ وَبَسْطُهُ وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِيهِ، قال ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {المص}: أَنَا اللَّهُ أَفْصِلُ، {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أَيْ هَذَا كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ أَيْ مِنْ رَبِّكَ، {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} شَكٌّ مِنْهُ، وَقِيلَ: لَا تَتَحَرَّجْ بِهِ فِي إبلاغه والإنذار به، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}، وَلِهَذَا قال: {لِتُنذِرَ بِهِ} أي أنزلناه إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ الْكَافِرِينَ {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْعَالَمِ: {اتَّبِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} أَيِ اقْتَفُوا آثَارَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي جَاءَكُمْ بِكِتَابٍ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكِهِ، {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} أَيْ لَا تَخْرُجُوا عَمَّا جَاءَكُمْ بِهِ الرَّسُولُ إِلَى غَيْرِهِ فَتَكُونُوا قَدْ عَدَلْتُمْ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ إِلَى حُكْمِ غَيْرِهِ، {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}، كَقَوْلِهِ: {وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، وَقَوْلِهِ: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله}، وَقَوْلِهِ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}.

- 4 - وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ - 5 - فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ - 6 - فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ - 7 - فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ يَقُولُ الله تَعَالَى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أَيْ بِمُخَالَفَةِ رسلنا وتكذيبهم فأعقبهم ذلك خزي الدينا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ به يستهزئون}، وكقوله: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ}، وقال تعالى:

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين}، وَقَوْلُهُ: {فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} أَيْ فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ جَاءَهُ أَمْرُ اللَّهِ وبأسُه ونقمتُه {بَيَاتاً} أَيْ لَيْلًا {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} مِنَ الْقَيْلُولَةِ وَهِيَ الِاسْتِرَاحَةُ وَسَطَ النَّهَارِ، وَكِلَا الْوَقْتَيْنِ وَقْتُ غَفْلَةٍ وَلَهْوٍ، كَمَا قَالَ: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ}، وَقَالَ: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ}، وَقَوْلُهُ: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أَيْ فَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ عِنْدَ مَجِيءِ الْعَذَابِ إِلَّا أن اعترفوا بذنوبهم وأنهم حقيقون بهذا، كقوله تَعَالَى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً - إلى قوله - خَامِدِينَ}، قال ابْنُ جَرِيرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَا هَلَكَ قَوْمٌ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ»، وَقَوْلُهُ: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} الْآيَةَ، كَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين}، وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ؟ قَالُواْ: لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} فيسأل الله الأمم يوم القيامة عَمَّا أَجَابُوا رُسُلَهُ فِيمَا أَرْسَلَهُمْ بِهِ، وَيَسْأَلُ الرُّسُلَ أَيْضًا عَنْ إِبْلَاغِ رِسَالَاتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إليهم ولنسئلن المرسلين} قال: عما بلغوا. وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام يسأل عن رعيته وَالرَّجُلُ يُسْأَلُ عَنْ أَهْلِهِ وَالْمَرْأَةُ تُسْأَلُ عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا وَالْعَبْدُ يُسْأَلُ عَنْ مَالِ سَيِّدِهِ»، ثم قرأ: {فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين} (رواه ابن مردويه، وهو مخرج في الصحيحين بدون زيادة قوله ثم قرأ الآية)، وقال ابن عباس في قوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} يُوضَعُ الْكِتَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، {وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يُخْبِرُ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا قَالُوا وَبِمَا عَمِلُوا مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَجَلِيلٍ وَحَقِيرٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى الشهيد عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَغْفَلُ عَنْ شَيْءٍ بَلْ هُوَ الْعَالِمُ بِخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مبين}.

- 8 - وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - 9 - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ يَقُولُ تعالى: {وَالْوَزْنُ} أَيْ لِلْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {الْحَقُّ} أَيْ لا يظلم تعالى أحداً، كقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حاسبين}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أجراً عظيماً}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضية}، وقال تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}.

(فَصْلٌ) وَالَّذِي يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قِيلَ: الْأَعْمَالُ وَإِنْ كَانَتْ أَعْرَاضًا، إِلَّا أَنَّ الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً، يُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَمَا جَاءَ في الصحيح من أن البقرة وآل عِمْرَانَ يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فرقان من طير صواف، وَقِيلَ: يُوزَنُ كِتَابُ الْأَعْمَالِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ، فِي الرَّجُلِ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ وَيُوضَعُ لَهُ فِي كِفَّةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مَدُّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِتِلْكَ البطاقة فيها: لا إله إلا الله، الحديث (الحديث في سنن الترمذي وَصَحَّحَهُ)، وَقِيلَ: يُوزَنُ صَاحِبُ الْعَمَلِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالرَّجُلِ السَّمِينِ فَلَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» ثُمَّ قَرَأَ: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وزناً}، وَفِي مَنَاقِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ دقة ساقية والذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ أُحُدٍ»، وَقَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحًا، فَتَارَةً تُوزَنُ الْأَعْمَالُ، وَتَارَةً تُوزَنُ مَحَالُّهَا، وَتَارَةً يُوزَنُ فَاعِلُهَا، والله أعلم.

- 10 - وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ يَقُولُ تَعَالَى: مُمْتَنًّا عَلَى عَبِيدِهِ فِيمَا مكَّن لَهُمْ مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ الأرض قَرَاراً، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا مَنَازِلَ وَبُيُوتًا، وأباح لهم مَنَافِعَهَا وَسَخَّرَ لَهُمُ السَّحَابَ لإِخراج أَرْزَاقِهِمْ مِنْهَا، وجعل لهم فيها {مَعَايِشَ} ْ أي مكاسب وأسباباً يكسبون بها ويتجرون فِيهَا وَيَتَسَبَّبُونَ أَنْوَاعَ الْأَسْبَابِ، وَأَكْثَرُهُمْ مَعَ هَذَا قليل الشكر على ذلك، كقوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.

- 11 - وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ يُنَبِّهُ تَعَالَى بَنِي آدَمَ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى شَرَفِ أَبِيهِمْ آدَمَ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ عَدَاوَةَ عَدُوِّهِمْ إِبْلِيسَ وَمَا هُوَ مُنْطَوٍ عَلَيْهِ مِنَ الْحَسَدِ لَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ آدَمَ لِيَحْذَرُوهُ وَلَا يَتَّبِعُوا طَرَائِقَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدم فسجدوا}، هذا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَدِهِ مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ وَصَوَّرَهُ بَشَرًا سوياً وَنَفَخَ فِيهِ مِن روحه، أمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لشأن الله تَعَالَى وَجَلَالِهِ، فَسَمِعُوا كُلُّهُمْ وَأَطَاعُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لم يكن من الساجدين، والمراد بِذَلِكَ كُلِّهِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثوري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} قَالَ: خُلِقُوا فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَصُوِّرُوا فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ (رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شرطهما ولم يخرجاه)، ونقل ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَيْضًا أَنَّ المراد {بخلقناكم} ثم {صَوَّرْنَاكُمْ} الذرية، وقال أَيْ خَلَقْنَا آدَمَ ثُمَّ صَوَّرْنَا الذُّرِّيَّةَ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ آدَمُ، وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ بِالْجَمْعِ لِأَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ، كَمَا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِبَنِي إسرائيل الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}، المراد آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنَّةً عَلَى الْآبَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَصْلٌ، صَارَ كَأَنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى الأبناء، وهذا بخلاف قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ}

الآية، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ آدَمُ الْمَخْلُوقُ مِنَ السُّلَالَةِ وَذُرِّيَّتُهُ مَخْلُوقُونَ مِنْ نُطْفَةٍ، وَصَحَّ هَذَا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ الْجِنْسُ لَا مُعَيَّنًا، والله أعلم.

- 12 - قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طين قال بعض النحاة (لا) هنا زائدة، زِيدَتْ لِتَأْكِيدِ الْجَحْدِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: (مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ)، فَأَدْخَلَ (إِنْ) وَهِيَ لِلنَّفْيِ عَلَى (مَا) النَّافِيَةِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، قَالُوا: وكذا هنا {ما منعك أن لا تَسْجُدَ} مَعَ تَقَدُّمِ قَوْلِهِ: {لَمْ يَكُنْ مِنَ الساجدين}، واختار ابن جرير أن {مَنَعَكَ} مضمن معنى فعل آخر تقديره: ما ألزمك واضطرك أن لا تسجد إذ أمرتك ونحو هذا، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ حَسَنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} مِنَ الْعُذْرِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الذَّنْبِ، كَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الطَّاعَةِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ الْفَاضِلُ بِالسُّجُودِ لِلْمَفْضُولِ، يَعْنِي لَعَنَهُ اللَّهُ (وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِالسُّجُودِ لَهُ)؟ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ وَالنَّارُ أَشْرَفُ مِمَّا خَلَقْتَهُ مِنْهُ وَهُوَ الطِّينُ، فَنَظَرَ اللَّعِينُ إِلَى أَصْلِ الْعُنْصُرِ وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى التَّشْرِيفِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ، وَقَاسَ قِيَاسًا فَاسِدًا فِي مُقَابَلَةِ نَصِّ قَوْلِهِ تعالى: {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} فشذ من بين الملائكة لترك السجود، فلهذا أبلس مِنَ الرحمة أي أويس مِنَ الرَّحْمَةِ، فَأَخْطَأَ قَبَّحَهُ اللَّهُ فِي قِيَاسِهِ، وَدَعْوَاهُ أَنَّ النَّارَ أَشْرَفُ مِنَ الطِّينِ أَيْضًا، فَإِنَّ الطِّينَ مِنْ شَأْنِهِ الرَّزَانَةُ وَالْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ وَالتَّثَبُّتُ، وَالطِّينُ مَحَلُّ النَّبَاتِ وَالنُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَالنَّارُ مِنْ شَأْنِهَا الْإِحْرَاقُ وَالطَّيْشُ وَالسُّرْعَةُ، وَلِهَذَا خان إبليس عنصره ونفع آدم عنصره بالرجوع وَالْإِنَابَةِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالِاعْتِرَافِ وَطَلَبِ التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُلِقت الملائكةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكم» (رواه مسلم بهذا اللفظ)، وعن عَائِشَةَ قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُلِقت الملائكةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكم» (رواه مسلم بهذا اللفظ)، وعن عَائِشَةَ قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَلَقَ اللَّهُ الملائكةُ مِنْ نُورِ الْعَرْشِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وصف لكم» (رواه ابن مردويه)، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ: «وَخُلِقَتِ الْحُورُ الْعِينُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ». وَقَالَ الحسن: قاس إبليس وهو أول من قاس، وعن ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ، وَمَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِلَّا بِالْمَقَايِيسِ. إِسْنَادٌ صحيح أيضاً.

- 13 - قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ - 14 - قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ - 15 - قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِإِبْلِيسَ بأمرٍ قَدَرِيٍّ كَوْنِيٍّ {فَاهْبِطْ مِنْهَا} أَيْ بِسَبَبِ عِصْيَانِكَ لِأَمْرِي وَخُرُوجِكَ عَنْ طَاعَتِي فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا، قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا فِي الْمَلَكُوتِ الأعلى {فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} أي الذليلن الحقيرين، معاملة له بنقيض قصده -[9]- ومكافأة لِمُرَادِهِ بِضِدِّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَدْرَكَ اللَّعِينُ وَسَأَلَ النَّظْرَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ: {أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} أَجَابَهُ تَعَالَى إِلَى مَا سَأَلَ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ الَّتِي لَا تُخَالَفُ وَلَا تُمَانَعُ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب.

- 16 - قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ - 17 - ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا أُنْظِرَ إِبْلِيسُ {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وَاسْتَوْثَقَ إِبْلِيسُ بِذَلِكَ أَخَذَ فِي الْمُعَانَدَةِ وَالتَّمَرُّدِ، فَقَالَ: {فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} أَيْ كَمَا أَغْوَيْتَنِي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمَا أَضْلَلْتَنِي، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَمَا أَهْلَكْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لِعِبَادِكَ الَّذِينَ تَخْلُقُهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَذَا الَّذِي أَبْعَدْتَنِي بِسَبَبِهِ عَلَى {صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} أَيْ طَرِيقَ الْحَقِّ وَسَبِيلَ النَّجَاةِ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عَنْهَا لِئَلَّا يَعْبُدُوكَ وَلَا يُوَحِّدُوكَ بِسَبَبِ إِضْلَالِكَ إِيَّايَ، وقال بعض النحاة: الباء هنا قَسَمِيَّةٌ، كَأَنَّهُ يَقُولُ فَبِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: {صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} يَعْنِي الحق، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، روى الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِطُرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ قَالَ فَعَصَاهُ وَأَسْلَمَ" قَالَ: "وَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: أَتُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَالْفَرَسِ فِي الطَّوَلِ، فَعَصَاهُ وَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ وَهُوَ جِهَادُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَقَالَ تُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فتنكح المرأة ويقسم المال، قال فعصاه وجاهد"، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَمَاتَ كَانَ حَقًّا على الله أن يدخله الجنة، وإن قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّةٌ كَانَ حَقًّا على الله أن يدخله الجنة» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} الآية، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أشككهم في آخرتهم {وَمِنْ خلفهم} أرعبهم في ديناهم {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} أُشَبِّهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} أشهي لهم المعاصي، وعنه: أَمَّا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فَمِنْ قِبَلِ دُنْيَاهُمْ، وَأَمَّا مِنْ خَلْفِهِمْ فَأَمْرُ آخِرَتِهِمْ، وَأَمَّا عَنْ أَيْمَانِهِمْ فَمِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ، وَأَمَّا عَنْ شَمَائِلِهِمْ فمن قبل سيئاتهم. وقال قَتَادَةَ: أَتَاهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، وَمِنْ خلفهم من أمر الدينا فزينها لهم ودعاهم إليها، وعن أَيْمَانِهِمْ مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ بَطَّأَهُمُ عَنْهَا، وَعَنْ شمائلهم زين لهم السئيات وَالْمَعَاصِيَ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهَا وَأَمَرَهُمْ بِهَا، أَتَاكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِكَ مِنْ فَوْقِكَ، لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَحْمَةِ اللَّهِ (وَكَذَا رُوِيَ عن إبراهيم النخعي والسدي وابن جريج). وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من حَيْثُ يُبْصِرُونَ، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ طُرُقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَالْخَيْرُ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ، والشر يحسنه لهم، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} قَالَ: مُوَحِّدِينَ، وَقَوْلُ إِبْلِيسَ هَذَا إِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ مِنْهُ وَتَوَهُّمٌ، وَقَدْ وَافَقَ

فِي هَذَا الْوَاقِعَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين}، وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ تَسَلُّطِ الشيطان على الإنسان كما قال الحافظ البزار. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وديناي وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوَرَاتِي، وَآمِنْ رَوَعَاتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدِي وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شَمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِكَ أن أغتال من تحتي» (أخرجه الحافظ البزار من حديث ابن عباس مرفوعاً). وعن عبد الله بن عمر قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: اللهم إني أسألك العافية في الدينا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوَرَاتِي وَآمِنْ رَوَعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وعن شمالي ومن فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي" (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ والحاكم، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ).

- 18 - قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ أَكَّدَ تَعَالَى على الشيطان اللَّعْنَةَ وَالطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ وَالنَّفْيَ عَنْ مَحَلِّ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِقَوْلِهِ: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً}، قَالَ ابن جرير: أما المذؤوم فهو المعيب، والذأم: العيب، يقال ذأمه ذأماً فهو مذؤوم، وَالذَّامُّ وَالذَّيْمُ أَبْلَغُ فِي الْعَيْبِ مِنَ الذَّمِّ، قَالَ: وَالْمَدْحُورُ الْمُقْصَى وَهُوَ الْمُبْعَدُ الْمَطْرُودُ، وَقَالَ: ما نعرف المذؤوم والمذموم إلا واحداً، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: صَغِيرًا مَقِيتًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَقِيتًا مَطْرُودًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَعِينًا مَقِيتًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: منفياً مطروداً، وقال الربيع بن أنس: مذؤوماً مَنْفِيًّا وَالْمَدْحُورُ الْمُصَغَّرُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ}، كَقَوْلِهِ: {قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً}.

- 19 - وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ - 20 - فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ - 21 - وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَبَاحَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِزَوْجَتِهِ حَوَّاءَ الجنة أن يأكلا مِنْ جَمِيعِ ثِمَارِهَا إِلَّا شَجَرَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ حَسَدَهُمَا الشَّيْطَانُ، وَسَعَى فِي الْمَكْرِ والوسوسة والخديعة ليسلبهما مَا هُمَا فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَاللِّبَاسِ الْحَسَنِ (وَقَالَ) كَذِبًا وَافْتِرَاءً: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} أَيْ لِئَلَّا تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ خَالِدَيْنِ ها هنا، وَلَوْ أَنَّكُمَا أَكَلْتُمَا مِنْهَا لَحَصَلَ لَكُمَا ذَلِكُمَا، كَقَوْلِهِ: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لا يبلى} أَيْ لِئَلَّا تَكُونَا مَلَكَيْنِ، كَقَوْلِهِ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ}، أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} أي لئلا تميد بكم، {وَقَاسَمَهُمَآ} أَيْ حَلَفَ لَهُمَا بِاللَّهِ {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين}، أَيْ حَلَفَ لَهُمَا بِاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله، وقال قتادة في

الآية: حلف بالله إِنِّي خُلِقْتُ قَبْلَكُمَا وَأَنَا أَعْلَمُ مِنْكُمَا فَاتَّبِعَانِي أُرْشِدُكُمَا، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: مَنْ خدعنا بالله انخدعنا له.

- 22 - فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ - 23 - قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الشَّجَرَةُ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا آدَمَ وَزَوْجَتَهُ السُّنْبُلَةَ، فَلَمَّا أَكَلَا مِنْهَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وَكَانَ الَّذِي وَارَى عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا أَظْفَارَهُمَا، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَرَقِ التِّينِ، يَلْزَقَانِ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، فَانْطَلَقَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُوَلِّيًا فِي الْجَنَّةِ، فَعَلِقَتْ بِرَأْسِهِ شَجَرَةٌ مِنَ الجنة، فناداه الله: يَا آدَمُ أَمِنِّي تَفِرُّ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أستحييك يَا رَبِّ، قَالَ: أَمَا كَانَ لَكَ فِيمَا مَنَحْتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَبَحْتُكَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ وَعِزَّتِكَ مَا حَسِبْتُ أَنَّ أَحَدًا يَحْلِفُ بِكَ كاذباً، قال: وهو قول الله عزَّ وجلَّ {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} قَالَ: فَبِعِزَّتِي لَأُهْبِطَنَّكَ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ لَا تَنَالُ الْعَيْشَ إِلَّا كَدًّا قَالَ: فَأُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَانَا يَأْكُلَانِ مِنْهَا رَغَدًا فَأُهْبِطَ إِلَى غَيْرِ رَغَدٍ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، فَعُلِّمَ صَنْعَةَ الْحَدِيدِ، وَأُمِرَ بِالْحَرْثِ، فَحَرَثَ وَزَرَعَ ثُمَّ سَقَى، حَتَّى إِذَا بَلَغَ حَصَدَ، ثُمَّ دَاسَهُ ثُمَّ ذَرَاهُ، ثُمَّ طَحَنَهُ، ثُمَّ عَجَنَهُ، ثُمَّ خَبَزَهُ، ثُمَّ أَكَلَهُ، فَلَمْ يَبْلُغْهُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُ ما شاء الله أن يبلغ، وقال سعيد ابن جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} قال: ورق التين وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَعَلَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة قال كهيئة الثوب، وقال وهب ابن مُنَبِّهٍ فِي قَوْلِهِ: {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} قَالَ: كَانَ لِبَاسُ آدَمَ وَحَوَّاءَ نُورًا عَلَى فُرُوجِهِمَا، لَا يَرَى هَذَا عَوْرَةَ هَذِهِ، وَلَا هَذِهِ عَوْرَةَ هَذَا، فَلَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ بَدَتْ لهما سوآتهما (رواه ابن جرير بسند صحيح). وقال قتادة: قَالَ آدَمُ: أَيْ رَبِّ أَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ وَاسْتَغْفَرْتُ، قَالَ: إِذًا أُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ، وَأَمَّا إِبْلِيسُ فَلَمْ يَسْأَلْهُ التَّوْبَةَ وَسَأَلَهُ النَّظْرَةَ، فَأُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الَّذِي سَأَلَهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ قِيلَ لَهُ: لِمَ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَيْتُكَ عَنْهَا؟ قَالَ: حَوَّاءُ أَمَرَتْنِي، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَعْقَبْتُهَا أَنْ لَا تَحْمِلَ إِلَّا كُرهاً، وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ كُرهاً، قَالَ: فَرَنَّتْ عِنْدَ ذَلِكَ حَوَّاءُ، فَقِيلَ لَهَا: الرَّنَّةُ عَلَيْكِ وَعَلَى وَلَدِكِ؛ وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} هِيَ الكلمات التي تلقاها آدم من ربه.

- 24 - قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ - 25 - قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ

قِيلَ الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ فِي {اهْبِطُوا} آدَمُ وَحَوَّاءُ وإبليس، وَالْعُمْدَةُ فِي الْعَدَاوَةِ آدَمُ وَإِبْلِيسُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه قَالَ: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} الآية، وحواء تبع لآدم، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ الْأَمَاكِنَ الَّتِي هَبَطَ فِيهَا كُلٌّ مِنْهُمْ، وَيَرْجِعُ حَاصِلُ تِلْكَ الْأَخْبَارِ إِلَى الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، وَلَوْ كَانَ فِي تَعْيِينِ تِلْكَ الْبِقَاعِ فَائِدَةٌ تَعُودُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ في أمر دينهم أو ديناهم لَذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَوْ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أَيْ قَرَارٌ وَأَعْمَارٌ مَضْرُوبَةٌ إِلَى آجَالٍ مَعْلُومَةٍ، قَدْ جَرَى بِهَا الْقَلَمُ وَأَحْصَاهَا الْقَدَرُ، وَسُطِّرَتْ فِي الْكِتَابِ الأول، قال ابن عباس: {مُسْتَقَرٌّ} القبور، وعنه قال {مُسْتَقَرٌّ} فوق الْأَرْضِ وَتَحْتَهَا رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَوْلُهُ: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى}، يخبر تعالى أنه جعل الأرض داراً لبني آدم مدة الحياة الدينا، فِيهَا مَحْيَاهُمْ وَفِيهَا مَمَاتُهُمْ وَقُبُورُهُمْ، وَمِنْهَا نُشُورُهُمْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ.

- 26 - يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يَمْتَنُّ تعالى عَلَى عِبَادِهِ بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ اللِّبَاسِ والريش، فاللباس ستر العورات وهي السوآت، والرياش والريش مَا يُتَجَمَّلُ بِهِ ظَاهِرًا، فَالْأَوَّلُ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ، وَالرِّيشُ مِنَ التَّكَمُّلَاتِ وَالزِّيَادَاتِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الرِّيَاشُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأَثَاثُ وَمَا ظَهَرَ من الثياب، وقال ابن عباس: الريش: اللباس، والعيش والنعيم، وقال ابن أسلم: الرياش الجمال؛ ولبس أَبُو أُمَامَةَ ثَوْبًا جَدِيدًا، فَلَمَّا بَلَغَ تَرْقُوَتَهُ قال الحمد للَّهِ الذي كساني ما أوراي بِهِ عَوْرَتِي، وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "من اسْتَجَدَّ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ فَقَالَ حِينَ يَبْلُغُ تَرْقُوَتَهُ: الحمد لله الذي كساني ما أوراي بِهِ عَوْرَتِي وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي، ثُمَّ عمد إلى الثوب الخلق فَتَصَدَّقَ بِهِ، كَانَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ وَفِي جِوَارِ اللَّهِ وَفِي كَنَفِ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا" (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه). وقوله تعالى: {وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ}، اختلف الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: يُقَالُ هُوَ ما يلبسه المتقون يوم القيامة، وقال قتادة وابن جريج: {وَلِبَاسُ التقوى} الإيمان، وقال ابن عباس: العمل الصالح، وعنه: هُوَ السَّمْتُ الْحَسَنُ فِي الْوَجْهِ، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ {لِبَاسُ التَّقْوَى} خَشْيَةُ اللَّهِ، وَقَالَ ابن أسلم: ولباس التَّقْوَى يَتَّقِي اللَّهَ فَيُوَارِي عَوْرَتَهُ، فَذَاكَ لِبَاسُ التقوى، وكلها مُتَقَارِبَةٌ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جرير عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عليه قميص فوهي مَحْلُولُ الزِّرِّ، وَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، وَيَنْهَى عَنِ اللَّعِبِ بِالْحَمَامِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ السَّرَائِرِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «والذي نفس محمد بيده مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَلْبَسُهُ اللَّهُ رداءها عَلَانِيَةً إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ»، ثُمَّ قرأ هذه الآية: {وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الله} قال: السمت الحسن (رواه ابن جرير، قال ابن كثير: فيه ضَعْفٌ، وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ عَنِ الحسن البصري بعضه).

- 27 - يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ للذين لا يؤمنون يحذر تعالى بني آدم من إبليس وقبيله مبيناً لَهُمْ عَدَاوَتَهُ الْقَدِيمَةَ لِأَبِي الْبَشَرِ آدَمَ عَلَيْهِ السلام في سعيه وإخراجه مِنَ الْجَنَّةِ، الَّتِي هِيَ دَارُ النَّعِيمِ إِلَى دَارِ التَّعَبِ وَالْعَنَاءِ، وَالتَّسَبُّبِ فِي هَتْكِ عَوْرَتِهِ بَعْدَمَا كَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْهُ، وَمَا هَذَا إِلَّا عَنْ عَدَاوَةٍ أَكِيدَةٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}.

- 28 - وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ - 29 - قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ - 30 - فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ كَانَتِ الْعَرَبُ مَا عَدَا قُرَيْشًا لَا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ فِي ثِيَابِهِمُ الَّتِي لَبِسُوهَا، يَتَأَوَّلُونَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَطُوفُونَ فِي ثِيَابٍ عَصَوُا الله فيها، وكانت قريش - وهم الحمس - يسرفون في ثيابهم، ومن أعراه أَحْمَسِيٌّ ثَوْبًا طَافَ فِيهِ، وَمِنْ مَعَهُ ثَوْبٌ جَدِيدٌ طَافٍ فِيهِ، ثُمَّ يُلْقِيهِ فَلَا يَتَمَلَّكُهُ أحدن ومن لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا جَدِيدًا وَلَا أَعَارَهُ أَحْمَسِيٌّ ثَوْبًا طَافَ عُرْيَانًا، وَرُبَّمَا كَانَتِ امْرَأَةً فَتَطُوفُ عريانة فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعض الستر فتقول: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ * وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ وَأَكْثَرُ مَا كَانَ النِّسَاءُ يَطُفْنَ عُرَاةً بِاللَّيْلِ، وَكَانَ هَذَا شَيْئًا قَدِ ابْتَدَعُوهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَاتَّبَعُوا فِيهِ آبَاءَهُمْ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِعْلَ آبَائِهِمْ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ وَشَرْعٍ، فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَقَالَ: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}، فَقَالَ تَعَالَى رداً عليهم: {قُلْ} أي يَا مُحَمَّدُ لِمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} أَيْ هَذَا الَّذِي تَصْنَعُونَهُ فَاحِشَةٌ مُنْكَرَةٌ وَاللَّهُ لَا يَأْمُرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}؟ أَيْ أَتُسْنِدُونَ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْأَقْوَالِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ صحته، وقوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} أَيْ بِالْعَدْلِ وَالِاسْتِقَامَةِ، {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أَيْ أَمَرَكُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ فِي عِبَادَتِهِ في محالها، وهي متابعة المرسيلن الْمُؤَيَّدِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ، وما جاءوا به مِنَ الشَّرَائِعِ وَبِالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ حَتَّى يَجْمَعَ هَذَيْنَ الرُّكْنَيْنِ أَنْ يَكُونَ صَوَابًا مُوَافِقًا لِلشَّرِيعَةِ، وَأَنْ يكون خالصاً من الشرك. واختلف في معنى قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}، فقال مجاهد: يُحْيِيكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَمَا بدأكم في الدينا كَذَلِكَ تَعُودُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْيَاءً، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَدَأَ فَخَلَقَهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا شَيْئًا ثُمَّ ذَهَبُوا ثم يعيدهم، وقال ابن أَسْلَمَ: كَمَا بَدَأَكُمْ أَوَّلًا كَذَلِكَ يُعِيدُكُمْ آخِرًا، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، وأيده

بما رواه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نعيده وعدا علينآ إنا كنا فاعلين» (الحديث من رواية الصحيحين، ومعنى قوله {غرلا} أي غير مختونين). وعن مجاهد قَالَ: يُبْعَثُ الْمُسْلِمُ مُسْلِمًا وَالْكَافِرُ كَافِرًا، وَقَالَ محمد بن كعب القرظي: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} مَنِ ابْتَدَأَ اللَّهُ خَلْقَهُ عَلَى الشَّقَاوَةِ صَارَ إِلَى مَا ابْتُدِئَ عَلَيْهِ خلقه وإن عمل بأعمال أهل السعادة، ومن ابتدأ خَلْقُهُ عَلَى السَّعَادَةِ صَارَ إِلَى مَا ابْتُدِئَ عَلَيْهِ وَإِنْ عَمِلَ بِأَعْمَالِ أَهَّلِ الشَّقَاءِ كَمَا أن السحرة عملوا بِأَعْمَالِ أَهْلِ الشَّقَاءِ، ثُمَّ صَارُوا إِلَى مَا ابتدأوا عليه، وقال السدي: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} كَمَا خَلَقْنَاكُمْ فَرِيقٌ مُهْتَدُونَ وَفَرِيقٌ ضُلَّالٌ كَذَلِكَ تَعُودُونَ وَتُخْرَجُونَ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ؛ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ خَلْقَ ابْنِ آدَمَ مؤمناً وكافراً، كما قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُؤْمِنٌ} ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مُؤْمِنًا وَكَافِرًا، قُلْتُ: وَيَتَأَيَّدُ هَذَا الْقَوْلُ بِحَدِيثِ ابن مسعود في صحيح البخاري: «فو الذي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا بَاعٌ أَوْ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلَهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا بَاعٌ أَوْ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُ الجنة». وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لِيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ لِيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم» (هذا جزء من حديث رواه البخاري) وفي الحديث: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» (رواه مسلم وابن ماجه). قُلْتُ: وَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا القول وإن كَانَ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا}، وَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يمجسانه»، وَوَجْهُ الْجَمْعِ عَلَى هَذَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ لِيَكُونَ مِنْهُمْ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ فِي ثَانِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَطَرَ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، كما أخذ عليهم الميثاق بذلك وَجَعَلَهُ فِي غَرَائِزِهِمْ وَفِطَرِهِمْ، وَمَعَ هَذَا قَدَّرَ أَنَّ مِنْهُمْ شَقِيًّا وَمِنْهُمْ سَعِيدًا، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُؤْمِنٌ}، وَفِي الْحَدِيثِ: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» وَقَدَرُ اللَّهِ نَافِذٌ فِي بريته، فإنه هو {الذي قدر فهدى} وَ {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ}، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ فَقَالَ: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله} الآية.

- 31 - يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ عراة، كما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،

قَالَ: كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، الرجال بالنهارن وَالنِّسَاءُ بِاللَّيْلِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَقُولُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ * وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَاللَّفْظُ لَهُ)، وقال العوفي عن ابن عباس: كَانَ رِجَالٌ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالزِّينَةِ، والزينةُ اللِّبَاسُ، وَهُوَ مَا يُوَارِي السَّوْأَةَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ جَيِّدِ الْبَزِّ وَالْمَتَاعِ، فَأُمِرُوا أَنْ يَأْخُذُوا زِينَتَهُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ (وروي عن مجاهد وعطاء والنخعي وقتادة والسدي والضحّاك وغيرهم). وَلِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا مِنَ السُّنَّةِ يُسْتَحَبُّ التَّجَمُّلُ عِنْدَ الصَّلَاةِ، وَلَا سِيَّمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمَ الْعِيدِ، وَالطِّيبُ لِأَنَّهُ مِنَ الزِّينَةِ، وَالسِّوَاكُ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ ذَلِكَ، وَمِنْ أفضل اللباس البياض، كما قال الإمام أحمد عن ابن عباس مرفوعاً قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم، وإن خَيْرِ أَكْحَالِكُمُ الْإِثْمِدَ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشعر»، وللإمام أحمد أيضاً وأهل السنن، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «عليكم بثياب الْبَيَاضِ فَالْبَسُوهَا فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ وَكَفِّنُوا فِيهَا موتاكم». ويروى أن تميماً الداري اشترى رداء بألف وكان يصلي فيه. وقوله تعالى: {وكلوا واشربوا} الْآيَةَ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: جَمَعَ اللَّهُ الطِّبَّ كُلَّهُ فِي نِصْفِ آيَةٍ: {وكُلُواْ وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا}، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ خصلتان: سرف ومخيلة. وقال ابن عباس: أَحَلَّ اللَّهُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، مَا لَمْ يَكُنْ سرفاً أو مخيلة، وفي الحديث: «كلوا واشربوا وتصدقوا من غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أن يرى نعمته على عبده» (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه)، وقال الإمام أحمد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما ملأ ابن آدم وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ فَاعِلًا لَا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» (ورواه النسائي والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح)، وفي الحديث: «إِنَّ مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشتهيت» (رواه الحافظ الموصلي والدارقطني وقال فيه: هذا حديث غريب). وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الَّذِينَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً يحرمون عليهم الودك (الدسم) ما أقاموا في المواسم، فقال الله تعالى لهم: {كلوا واشربوا} الآية، يَقُولُ: لَا تُسْرِفُوا فِي التَّحْرِيمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ {وَلاَ تسرفوا} ولا تأكلوا حراماً ذلك الإسراف، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين}، يقول الله تعالى: {إن الله لا يحب المعتدين} حَدَّهُ فِي حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ، الْغَالِينَ فِيمَا أحل بإحلال الحرام أو بتحريم الْحَلَالِ، وَلَكِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُحَلَّلَ مَا أَحَلَّ وَيُحَرَّمَ مَا حَرَّمَ، وَذَلِكَ الْعَدْلُ الَّذِي أَمَرَ به.

- 32 - قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا -[16]- خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى رَدًّا عَلَى مَنْ حَرَّمَ شَيْئًا مِنَ الْمَآكِلِ أو المشارب أو الملابس مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْعٍ مِنَ اللَّهِ {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ مَا يُحَرِّمُونَ بِآرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَابْتِدَاعِهِمْ {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} الْآيَةَ، أَيْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وعبده في الحياة الدينا، وإن شركهم فيها الكفار حساً في الدينا، فَهِيَ لَهُمْ خَاصَّةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَشْرَكُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ على الكافرين. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَهُمْ عُرَاةٌ يُصَفِّرُونَ وَيُصَفِّقُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} فأمروا بالثياب (رواه الطبراني عن ابن عباس).

- 33 - قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أَحَدَ أغيرَ مِنَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أحب إليه المدح من الله» (رواه أحمد والشيخان)، وقد تقدم الكلام عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وما بطن في سورة الأنعام. وَقَوْلُهُ: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، قَالَ السُّدِّيُّ: أَمَّا الْإِثْمُ فَالْمَعْصِيَةُ، وَالْبَغْيُ أَنْ تَبْغِيَ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْإِثْمُ الْمَعَاصِي كلها، وأخبر أن الباغي بغيه عَلَى نَفْسِهِ، وَحَاصِلُ مَا فُسِّرَ بِهِ الْإِثْمُ: أن الْخَطَايَا الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفَاعِلِ نَفْسِهِ، وَالْبَغْيُ هُوَ التَّعَدِّي إِلَى النَّاسِ، فَحَرَّمَ اللَّهُ هَذَا وَهَذَا. وَقَوْلُهُ تعالى: {وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} أي تجعلوا له شركاء في عبادته، {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} عن الِافْتِرَاءِ وَالْكَذِبِ مِنْ دَعْوَى أَنَّ لَهُ وَلَدًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا عِلْمَ لَكُمْ بِهِ، كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} الآية.

- 34 - وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ - 35 - يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ - 36 - وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} أَيْ قَرْنٍ وَجِيلٍ {أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} أَيْ مِيقَاتُهُمُ الْمُقَدَّرُ لَهُمْ {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}، ثُمَّ أَنْذَرَ تَعَالَى بَنِي آدَمَ أنه سيبعث إليهم رسلاً يقصون عليهم آيايته وَبَشَّرَ وَحَذَّرَ فَقَالَ: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ} أَيْ تَرَكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَفَعَلَ الطَّاعَاتِ {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا -[17]- وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَآ} أَيْ كَذَّبَتْ بِهَا قُلُوبُهُمْ وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ الْعَمَلِ بِهَا، {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أَيْ مَاكِثُونَ فِيهَا مُكْثًا مُخَلَّدًا.

- 37 - فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ يَقُولُ تَعَالَى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن أفترى على الله الكذب أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ الْمُنَزَّلَةِ {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ}، اخْتَلَفَ المفسرون في معناه، فقال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَنَالُهُمْ مَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ، وَكُتِبَ لمن كذب على الله أن وجهه مسود، وعنه قال: نَصِيبُهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ، مَنْ عَمِلَ خَيْرًا جُزِيَ بِهِ، وَمِنْ عَمِلَ شَرًّا جُزِيَ بِهِ. وَقَالَ مجاهد: ما وعدوا به من خير وشر، واختاره ابن جرير، وقال محمد الْقُرَظِيُّ {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ}، قَالَ: عمله ورزقه وعمره، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ فِي الْمَعْنَى، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} ونظير المعنى في هذه الآية، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} وَقَوْلُهُ: {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا} الآية، وقوله: {حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} الآية. يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفيت الْمُشْرِكِينَ تُفْزِعُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ إِلَى النَّارِ، يَقُولُونَ لَهُمْ: أَيْنَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ بِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَدْعُونَهُمْ وَتَعْبُدُونَهُمْ مَنْ دُونِ اللَّهِ ادْعُوهُمْ يُخَلِّصُوكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، قَالُواْ: {ضَلُّواْ عَنَّا} أَيْ ذَهَبُوا عَنَّا فَلَا نَرْجُو نَفْعَهُمْ وَلَا خَيْرَهُمْ {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أَيْ أَقَرُّوا وَاعْتَرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ {أَنَّهُمْ كَانُوا كافرين}.

- 38 - قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لاَّ تَعْلَمُونَ - 39 - وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يَقُولُهُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ الْمُفْتَرِينَ عَلَيْهِ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} أَيْ من أمثالكم وَعَلَى صِفَاتِكُمْ، {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ} أَيْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الْكَافِرَةِ، {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النار} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ {فِي أُمَمٍ} أَيْ مَعَ أُمَمٍ. وَقَوْلُهُ: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} الآية. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ

بِهِمُ الأسباب}، وقوله: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} أَيِ اجْتَمَعُوا فِيهَا كُلُّهُمْ {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ} أَيْ أُخْرَاهُمْ دُخُولًا وَهُمُ (الْأَتْبَاعُ) لِأُولَاهُمْ وَهُمُ (الْمَتْبُوعُونَ) لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ جُرْمًا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ فَدَخَلُوا قَبْلَهُمْ فَيَشْكُوهُمُ الْأَتْبَاعُ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيِلِ، فَيَقُولُونَ: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ} أي أضعف عليهم، كما قال تعالى: {وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا * رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ من العذاب} الآية. وقوله: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} أَيْ قَدْ فَعَلْنَا ذَلِكَ وَجَازَيْنَا كُلًّا بِحَسْبِهِ، كقوله: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً} الآية، وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أثقالهم}، وقوله: {وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ علم} الآية، {وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ} أَيْ قَالَ الْمَتْبُوعُونَ لِلْأَتْبَاعِ: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ}، قَالَ السدي: لقد ضَلَلْتُمْ كَمَا ضَلَلْنَا، {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}، وهذه الْحَالُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي حَالِ مَحْشَرِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلِ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} الآيات.

- 40 - إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ - 41 - لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وكذلك نَجْزِي الظالمين وقوله تعالى: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} قِيلَ: الْمُرَادُ لَا يُرْفَعُ لَهُمْ مِنْهَا عَمَلٌ صَالِحٌ وَلَا دُعَاءٌ (قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَرَوَاهُ العوفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ)، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَا تُفْتَحُ لِأَرْوَاحِهِمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ (رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عباس وبه قال السدي)، ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلَحَّدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: "اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ إِلَى الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النفس المطمئنة اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن اللَّهِ وَرِضْوَانٍ - قَالَ: فتخرج تسيل كما يسيل القطر فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجَ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: اكْتُبُوا

كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجَهُمْ تَارَةً أُخرى، قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُهُ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِي الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقولان له: وما عملك؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي منادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وطيبها، ويفسح له قبره مد البصر - قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي. قَالَ: وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ من الدنيا وإقبال على الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمُ الْمُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ، قَالَ: فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجَ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الروح الخبيثة؟ فيقولون فلان بن فُلَانٍ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح فَلَا يُفْتَحُ لَهُ - ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} فَيَقُولَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحَ رُوحُهُ طَرْحًا - ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيق}، فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ، فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ عبدي فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسُمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوؤُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يَجِيءُ بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لا تقم الساعة. وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمَيِّتُ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالُوا اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخْرُجِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَيَقُولُونَ ذَلِكَ حَتَّى يُعْرَجَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: فَلَانٌ، فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادْخُلِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَيُقَالُ لَهَا ذَلِكَ، حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ اخْرُجِي ذَمِيمَةً وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ، فَيَقُولُونَ ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: فَلَانٌ، فَيَقُولُونَ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي كَانَتْ

فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، ارْجِعِي ذَمِيمَةً، فَإِنَّهُ لَمْ يفتح لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَتُرْسَلُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فتصير إلى القبر" (رواه أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَاللَّفْظُ له). وقد قال ابن جريج: لَا تُفَتَّحُ لِأَعْمَالِهِمْ وَلَا لِأَرْوَاحِهِمْ، وَهَذَا فِيهِ جمع بين القولين، والله أعلم. وقوله تعالى: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} هَكَذَا قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ، وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ البعير، قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: حَتَّى يُدْخَلَ الْبَعِيرُ فِي خُرْقِ الإبرة (هذا قول جمهور السلف منهم أبو العالية والضحّاك وابن مسعود ورواه العوفي عن ابن عباس). وقرأ ابن عباس: بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ: يَعْنِي الْحَبْلُ الْغَلِيظُ في خرق الْإِبْرَةِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَرَأَ: حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ، يَعْنِي قُلُوسَ السُّفُنِ وَهِيَ الْحِبَالُ الْغِلَاظُ. وَقَوْلُهُ: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} المراد: الفرش، {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} اللُّحُفُ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ وَالسُّدِّيُّ {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.

- 42 - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - 43 - وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ الْأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ عَطَفَ بِذِكْرِ حَالِ السُّعَدَاءِ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أَيْ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِجَوَارِحِهِمْ ضِدُّ {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ واستكبروا عنها} نبه تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ بِهِ سَهْلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} أَيْ من حسد وبغض، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَاقْتَصَّ لَهُمْ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا، أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ أَحَدَهُمْ بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ أَدُلُّ مِنْهُ بِمَسْكَنِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا». وقال السدي في الآية: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وَجَدُوا عِنْدَ بَابِهَا شَجَرَةً، فِي أَصْلِ سَاقِهَا عَيْنَانِ، فَشَرِبُوا مِنْ إِحْدَاهُمَا، فَيُنْزَعُ مَا فِي صُدُورِهِم مِنْ غِلٍّ فَهُوَ الشَّرَابُ الطَّهُورُ، وَاغْتَسَلُوا مِنَ الأُخرى فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ، فَلَمْ يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبداً. وقال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} (رواه ابن جرير عن قتادة عن علي كرم الله وجهه). وروى النسائي وابن مردويه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي فَيَكُونُ لَهُ شُكْرًا، وَكُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: لَوْ أن الله هداني فيكون له حسرة" (أخرجه ابن مردويه والنسائي عن أبي هريرة مرفوعاً)، وَلِهَذَا لَمَا أُورِثُوا مَقَاعِدَ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الجنة نودوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، أَيْ بِسَبَبِ أَعْمَالِكُمْ نَالَتْكُمُ الرَّحْمَةُ فَدَخَلْتُمُ الْجَنَّةَ وَتَبَوَّأْتُمْ مَنَازِلَكُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِكُمْ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْحَمْلُ عَلَى هَذَا لِمَا يثبت في الصحيحين عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

«وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يُدْخِلَهُ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ»، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ منه وفضل» (أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً).

- 44 - وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ - 45 - الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى بِمَا يُخَاطِبُ به أهل النار على التقريع والتوبيخ إذا استقروا في منازلهم {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً} «أن» ههنا مُفَسِّرَةٌ لِلْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ، وَ «قَدْ» لِلتَّحْقِيقِ، أَيْ قَالُوا لَهُمْ: قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وعدكم رَبُّكُمْ حَقّاً؟ قَالُواْ: نَعَمْ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ عَنِ الَّذِي كَانَ لَهُ قَرِينٌ مِنَ الْكُفَّارِ، {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين} أَيْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ مَقَالَتَهُ الَّتِي يَقُولُهَا فِي الدُّنْيَا وَيُقَرِّعُهُ بِمَا صَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ والنكال، وكذلك تُقَرِّعُهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَقُولُونَ لَهُمْ: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ}، وَكَذَلِكَ قَرَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَى الْقَلِيبِ يَوْمَ بَدْرٍ فَنَادَى: "يَا أبا جهل ابن هِشَامٍ، وَيَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا شَيْبَةَ بن ربيعة - وسمى رؤوسهم - هَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا. وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخَاطِبُ قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا؟ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يجيبوا» (الحديث مروي في الصحيحين)، وقوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} أَيْ أَعْلَمَ مُعْلِمٌ وَنَادَى مُنَادٍ {أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} أَيْ مستقرة عليهمن ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أَيْ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَيَبْغُونَ أَنْ تَكُونَ السَّبِيلُ مُعْوَجَّةً غَيْرَ مُسْتَقِيمَةٍ حَتَّى لَا يَتَّبِعَهَا أَحَدٌ، {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} أَيْ وَهُمْ بِلِقَاءِ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ كَافِرُونَ أَيْ جَاحِدُونَ مُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ لَا يُصَدِّقُونَهُ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، فَلِهَذَا لَا يُبَالُونَ بِمَا يَأْتُونَ مِنْ مُنْكَرٍ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ حِسَابًا عَلَيْهِ وَلَا عِقَابًا، فهم شر الناس أقوالاً وأعمالاً.

- 46 - وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ - 47 - وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مُخَاطَبَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَعَ أَهْلِ النَّارِ، نَبَّهَ أَنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حِجَابًا، وَهُوَ الْحَاجِزُ الْمَانِعُ مِنْ وُصُولِ أَهْلِ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهُوَ السُّورُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تعالى فيه: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ باب} وهو الأعراف الذي قال الله تعالى فيه: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ}، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} هو السُّورُ وَهُوَ الْأَعْرَافُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَعْرَافُ حِجَابٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ سُورٌ لَهُ بَابٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَعْرَافُ جَمْعُ عُرْفٍ، وَكُلُّ مُرْتَفَعٍ مِنَ الْأَرْضِ عِنْدَ الْعَرَبِ يُسَمَّى عُرْفًا، وَإِنَّمَا قيل لعرف الديك عرفا لارتفاعه. وعن ابن عباس: هو سور بين الجنة والنار، وَقَالَ السُّدِّيُّ إِنَّمَا سُمِّيَ الْأَعْرَافُ أَعْرَافًا لِأَنَّ أَصْحَابَهُ يَعْرِفُونَ النَّاسَ، وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ مَنْ هُمْ؟ وَكُلُّهَا قَرِيبَةٌ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَوْمٌ اسْتَوَتْ حسناتهم وسيئاتهم (قال بذلك حُذَيْفَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ من السلف). وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابن مردويه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنِ استوت حسناته وسيئاته، قال: «أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ». وقال ابن جرير عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، قَالَ فَقَالَ: هُمْ قَوْمٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، فَقَعَدَتْ بِهِمْ سَيِّئَاتُهُمْ عَنِ الْجَنَّةِ، وَخَلَّفَتْ بِهِمْ حَسَنَاتُهُمْ عَنِ النَّارِ. قَالَ: فَوَقَفُوا هُنَاكَ عَلَى السور حتى يقضي الله فيهم. وعن ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يُحَاسَبُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ كَانَتْ سَيِّئَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَ الله: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} الآيتين، ثم قال: الْمِيزَانَ يَخِفُّ بِمِثْقَالِ حَبَّةٍ، وَيَرْجَحُ، قَالَ: وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ فَوَقَفُوا عَلَى الصِّرَاطِ ثُمَّ عَرَفُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ نَادَوْا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا صَرَفُوا أَبْصَارَهُمْ إِلَى يسارهم ونظروا إلى أهل النَّارِ {قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظالمين} تعوذوا بِاللَّهِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ، قَالَ: فَأَمَّا أَصْحَابُ الْحَسَنَاتِ فإنهم يعطون نوراً يمشون بِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم، وَيُعْطَى كُلُّ عَبْدٍ يَوْمَئِذٍ نُورًا، وَكُلُّ أُمَّةٍ نُورًا فَإِذَا أَتَوْا عَلَى الصِّرَاطِ سَلَبَ اللَّهُ نُورَ كُلِّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الْجَنَّةِ مَا لَقِيَ المنافقون قالوا: {رَبَّنَآ أَتْمِمْ لنا نورنا}، وأما أصحاب الأعراف فإن النور كان بأيديهم فَلَمْ يُنْزَعْ، فَهُنَالِكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} فَكَانَ الطَّمَعُ دُخُولًا، قَالَ: فقال ابن مسعود أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كُتِبَ لَهُ بِهَا عَشْرٌ، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً لَمْ تُكْتَبْ إِلَّا وَاحِدَةً، ثُمَّ يَقُولُ: هَلَكَ مَنْ غَلَبَتْ آحاده عشراته (رواه ابن جرير عن ابن مسعود موقوفاً)، وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ؟ قَالَ: "هُمْ آخِرُ مَنْ يُفْصَلُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعِبَادِ، فَإِذَا فَرَغَ رَبُّ العالمين من الفصل بَيْنَ الْعِبَادِ، قَالَ: أَنْتُمْ قَوْمٌ أَخْرَجَتْكُمْ حَسَنَاتُكُمْ مِنَ النَّارِ، وَلَمْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَأَنْتُمْ عُتَقَائِي، فارعوا مِنَ الجنة حَيْثُ شئتم" (قال ابن كثير: هذا مرسل حسن). وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ فِيهِمُ اثْنَيْ عَشْرَ قولاً، وقوله تعالى: {يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ}، قال ابن عباس: يَعْرِفُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِبَيَاضِ الْوُجُوهِ، وَأَهْلَ النَّارِ بسواد الوجوه، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْزَلَهُمُ اللَّهُ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ لِيَعْرِفُوا مَن فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَلِيَعْرِفُوا أَهْلَ النَّارِ بِسَوَادِ الْوُجُوهِ، وَيَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ أَنْ يَجْعَلَهُمْ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يُحَيُّونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِالسَّلَامِ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ أَنْ يَدْخُلُوهَا، وَهُمْ دَاخِلُوهَا إِنْ شاء الله، وقال الْحَسَنِ إِنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} قَالَ: وَاللَّهِ مَا جَعَلَ ذَلِكَ الطَّمَعَ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا لِكَرَامَةٍ يُرِيدُهَا

بهم، وقال قتادة: قد أنبأكم بِمَكَانِهِمْ مِنَ الطَّمَعِ، وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا: رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ إِذَا نَظَرُوا إِلَى أَهْلِ النَّارِ وَعَرَفُوهُمْ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يعني أصحاب الْأَعْرَافِ بِزُمْرَةٍ يُذْهَبُ بِهَا إِلَى النَّارِ قَالُوا: رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَقَالَ عكرمة: تحدد وجوههم للنار، فَإِذَا رَأَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ذَهَبَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وقال ابن أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ} فَرَأَوْا وُجُوهَهُمْ مُسْوَدَّةً وَأَعْيُنَهُمْ مُزْرَقَّةً {قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.

- 48 - وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ - 49 - أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ يقول الله تعالى إخباراً عَنْ تَقْرِيعِ أَهْلِ الْأَعْرَافِ لِرِجَالٍ مِنْ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَقَادَتِهِمْ يَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ بِسِيمَاهُمْ {مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} أَيْ كَثْرَتُكُمْ، {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} أَيْ لَا يَنْفَعُكُمْ كَثْرَتُكُمْ وَلَا جُمُوعُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بَلْ صِرْتُمْ إِلَى مَا أنتم فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ}، وَقَالَ ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {قَالُوا مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} الْآيَةَ، قَالَ: فَلَمَّا قَالُوا لَهُمُ الَّذِي قَضَى اللَّهُ أَنْ يَقُولُوا يَعْنِي أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ لِأَهْلِ الجنة وأهل النار، قال الله لِأَهْلِ التَّكَبُّرِ وَالْأَمْوَالِ: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ}.

- 50 - وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ - 51 - الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ذِلَّةِ أَهْلِ النَّارِ وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ شَرَابِهِمْ وَطَعَامِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يُجَابُونَ إِلَى ذَلِكَ، قال السدي: {أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رزقكم الله} يعني الطعام، وقال ابن أسلم: يستطعمونهم ويستسقونهم، وقال سعيد بن جبير: ينادي الرجل أباه أو أخاه فيقول له: قد احترقت، فأفض عليَّ مِنَ الْمَاءِ، فَيُقَالُ لَهُمْ أَجِيبُوهُمْ، فَيَقُولُونَ: {إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين}، قال ابن أَسْلَمَ {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}: يَعْنِي طعام الجنة وشرابها، وسئل ابن عباس أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الْمَاءُ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى أَهْلِ النَّارِ لَمَّا اسْتَغَاثُوا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالُوا: أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله" (رواه ابن أبي حاتم)؟ ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى الْكَافِرِينَ بِمَا كَانُوا

يعتمدونه في الدنيا باتخاذهم الدِّينَ لَهْوًا وَلَعِبًا، وَاغْتِرَارِهِمْ بِالدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَزُخْرُفِهَا عما أمروا به من العمل للآخرة، وقوله: {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} أي يعاملهم مُعَامَلَةَ مَنْ نَسِيَهُمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَشِذُّ عن علمهم شيء ولا ينساه كما قال تعالى: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي ولا ينسى}، وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى هَذَا مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ كقوله: {نَسُواْ الله فنسيهم}، وَقَالَ: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا}، وقال ابن عباس: نَسِيَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَلَمْ يَنْسَهُمْ مِنَ الشر، وعنه: نَتْرُكُهُمْ كَمَا تَرَكُوا لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَتْرُكُهُمْ فِي النَّارِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَتْرُكُهُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ كَمَا تَرَكُوا أَنْ يَعْمَلُوا لِلِقَاءِ يَوْمِهِمْ هَذَا، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَمْ أُزَوِّجْكَ؟ أَلَمْ أُكْرِمْكَ؟ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرَبَّعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: أَظَنَنْتَ أَنَّكَ ملاقيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: فاليوم أنساك كما نسيتي.

- 52 - وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ - 53 - هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِعْذَارِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِإِرْسَالِ الرسل إِلَيْهِمْ بِالْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَأَنَّهُ كتاب مفصل مبين كقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فصلت} الآية، وقوله: {فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ} للعالمين، أَيْ عَلَى عِلْمٍ مِنَّا بِمَا فَصَّلْنَاهُ بِهِ كقوله: {أَنزَلَهُ بعلمه}، ولما أخبر بما صاروا إليه من الخسارة في الْآخِرَةِ، ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ أَزَاحَ عِلَلَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً}، وَلِهَذَا قَالَ: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} أَيْ ما وعدوا به مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: ثَوَابَهُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: لا يزال يجيء من تَأْوِيلُهُ أَمْرٌ حَتَّى يَتِمَّ يَوْمَ الْحِسَابِ، حَتَّى يَدْخُلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، فيتم تأويله يومئذ، قوله: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} أي يوم القيامة، {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ} أَيْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ وَتَنَاسَوْهُ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، {قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ} أَيْ فِي خَلَاصِنَا مِمَّا صرنا إليه مِمَّا نَحْنُ فِيهِ {أَوْ نُرَدُّ} إِلَى الدَّارِ الدنيا {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ}، كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وإنهم لكاذبون} كما قال ههنا: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها، {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أَيْ ذَهَبَ عنهم مَّا كانوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فلا يشفعون فيهم ولا ينصروهم وَلَا يُنْقِذُونَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ.

- 54 - إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ

حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يخبر تعالى أنه خالق الْعَالَمَ؛ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضَهُ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ ما آية من القرآن، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ هَلْ كَلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَهَذِهِ الْأَيَّامِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الْأَذْهَانِ؟ أَوْ كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حنبل؟ فَأَمَّا يَوْمُ السَّبْتَ فَلَمْ يَقَعْ فِيهِ خَلْقٌ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ السَّابِعُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ السَّبْتُ، وَهُوَ القطع. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فَلِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَقَالَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح وَهُوَ إِمْرَارُهَا، كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ إِلَى أَذْهَانِ الْمُشَبِّهِينَ مَنْفِيٌّ عَنِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ وَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير}، بل الأمر كما قال (نعيم بن حماد الخزاعي) شيخ البخاري قال: من شبَّه الله بخلقه كَفَرَ، وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَلَيْسَ فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولَهُ تَشْبِيهٌ فَمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى مَا وَرَدَتْ بِهِ الْآيَاتُ الصَّرِيحَةُ وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِ الله، وَنَفَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى النَّقَائِصَ، فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْهُدَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} أَيْ يَذْهَبُ ظَلَامُ هَذَا بِضِيَاءِ هَذَا، وَضِيَاءُ هَذَا بِظَلَامِ هَذَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْآخَرَ طَلَبًا حثيثاُ أَيْ سَرِيعًا لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، بَلْ إِذَا ذَهَبَ هَذَا جَاءَ هذا وعكسه، كقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ}، إلى قَوْلِهِ: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، فَقَوْلُهُ: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أَيْ لَا يَفُوتُهُ بِوَقْتٍ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ بَلْ هُوَ فِي أثره بلا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، وَلِهَذَا قَالَ: {يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} أَيِ الْجَمِيعُ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَسْخِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ مُنَبِّهًا: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} أَيْ لَهُ الْمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، كقوله: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجاً} الآية، وفي الحديث: «مَنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ عَلَى مَا عَمِلَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ وَحَمِدَ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ وَحَبِطَ عَمَلُهُ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعِبَادِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْئًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ»، لِقَوْلِهِ: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالمين} (رواه ابن جرير)، وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَرَوِيَ مَرْفُوعًا: «اللَّهُمَّ لَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَلَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ».

- 55 - ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وخفية إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ - 56 - وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين أرشدك تبارك وَتَعَالَى عِبَادَهُ إِلَى دُعَائِهِ الَّذِي هُوَ صَلَاحُهُمْ في دنياهم وأخراهم، فقال: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}، قِيلَ مَعْنَاهُ: تَذَلُّلًا واستكانة وخفية، كقوله: {واذكر رَّبَّكَ في نفسك} الآية، وفي الصحيحن عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: رَفَعَ النَّاسُ أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ

فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً، إن الذي تدعون سميع قريب» الحديث، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً قَالَ: السِّرُّ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: {تَضَرُّعاً} تَذَلُّلًا وَاسْتِكَانَةً لِطَاعَتِهِ {وَخُفْيَةً} يَقُولُ: بِخُشُوعِ قُلُوبِكُمْ وَصِحَّةِ الْيَقِينِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، لَا جِهَارًا مراءاة. وقال الحسن البصري: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ فَقُهَ الْفِقْهَ الْكَثِيرَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الطَّوِيلَةَ فِي بَيْتِهِ وَعِنْدَهُ الزُّوَّرُ وَمَا يَشْعُرُونَ بِهِ، وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَّا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ يَقْدِرُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي السِّرِّ، فَيَكُونُ عَلَانِيَةً أَبَدًا، وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَمَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ، إِنْ كَانَ إِلَّا هَمْسًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَبْدًا صَالِحًا رَضِيَ فِعْلَهُ فَقَالَ: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً}، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ وَالنِّدَاءُ والصياح في الدعاء، ويأمر بالتضرع والاستكانة، {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فِي الدُّعَاءِ وَلَا في غيره. وقال الإمام أحمد أَنَّ سَعْدًا سَمِعَ ابْنًا لَهُ يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَإِسْتَبْرَقَهَا، وَنَحْوًا مِنْ هَذَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا، فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ خَيْرًا كثيراً، وتعوذت به مِنْ شَرٍّ كَثِيرٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً} الآية - وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قولٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إليها من قولٍ أو عمل" (رواه أحمد وأبو داود)، وسمع عبد الله بن مغفل ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ وعُذْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدعاء والطهور» (رواه أحمد وابن ماجه وأبو داود قال ابن كثير: وإسناده حسن)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} يَنْهَى تَعَالَى عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا أَضَرَّهُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ! فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ مَاشِيَةً عَلَى السَّدَادِ، ثُمَّ وَقَعَ الْإِفْسَادُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ أَضَرَّ مَا يَكُونُ عَلَى العباد، فنهى تعالى عن ذلك وأمر بعبادته وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ وَالتَّذَلُّلِ لَدَيْهِ، فَقَالَ: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} أَيْ خَوْفًا مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ وَبِيلِ الْعِقَابِ وَطَمَعًا فِيمَا عِنْدَهُ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} أَيْ إِنَّ رَحْمَتَهُ مُرْصَدَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَوَامِرَهُ وَيَتْرُكُونَ زَوَاجِرَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الآية، وَقَالَ: {قَرِيبٌ} وَلَمْ يَقُلْ: (قَرِيبَةٌ) لِأَنَّهُ ضَمَّنَ الرَّحْمَةَ مَعْنَى الثَّوَابِ، أَوْ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى اللَّهِ، فَلِهَذَا قَالَ: قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ. وَقَالَ مطر الوراق: استنجزوا مَوْعُودَ اللَّهِ بِطَاعَتِهِ، فَإِنَّهُ قَضَى أَنَّ رَحْمَتَهُ قريب من المحسنين.

- 57 - وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ - 58 - وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ

لما ذكر تعالى أنه خالق السموات وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ الْحَاكِمُ الْمُدَبِّرُ الْمُسَخِّرُ وَأَرْشَدَ إِلَى دُعَائِهِ لِأَنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ الرَّزَّاقُ وَأَنَّهُ يُعِيدُ الْمَوْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً} أي مبشرة بَيْنَ يَدَيِ السَّحَابِ الْحَامِلِ لِلْمَطَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ بُشْرًا، كَقَوْلِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مبشرات}، وَقَوْلُهُ: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أَيْ بَيْنَ يَدَيِ الْمَطَرِ، كَمَا قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الولي الحميد}، وقال: {فانظر إلى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ في ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير}، وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً} أَيْ حَمَلَتِ الرِّيَاحُ سَحَابًا ثِقَالًا أَيْ مِنْ كَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ تَكُونُ ثَقِيلَةً قَرِيبَةً مِنَ الْأَرْضِ مُدْلَهِمَّةً، كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَسْلَمْتُ وجْهِي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذاباً زلالا وقوله تعالى: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} أَيْ إِلَى أَرْضٍ مَيِّتَةٍ مجدبة لا نبات فيها، كقوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أحييناها} الآية، وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} أَيْ كَمَا أَحْيَيْنَا هَذِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، كَذَلِكَ نُحْيِي الْأَجْسَادَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا رَمِيمًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُنَزِّلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَاءً مِنَ السَّمَاءِ فَتُمْطِرُ الْأَرْضَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَتَنْبُتُ مِنْهُ الْأَجْسَادُ فِي قُبُورِهَا كَمَا يَنْبُتُ الْحَبُّ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ في القرآن، يضرب الله مثلاً ليوم القيامة بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، وَقَوْلُهُ: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أَيْ وَالْأَرْضُ الطَّيِّبَةُ يَخْرُجُ نَبَاتُهَا سَرِيعًا حسناً كقوله: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}، {وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً}، قَالَ مجاهد وغير: كالسباخ ونحوها، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ الله للمؤمن والكافرن وقال البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ مَا بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكانت منه نقية قبلت الماء فأنبت الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبَ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أرسلت به».

- 59 - لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ - 60 - قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ - 61 - قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ - 62 - أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ آدَمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ وَفَرَغَ مِنْهُ، شَرَعَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: الْأَوَّلِ، فَالْأَوَّلِ، فَابْتَدَأَ بِذِكْرِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بَعْدَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يَلْقَ نَبِيٌّ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْأَذَى مِثْلَ نُوحٍ إِلَّا نَبِيٌّ قُتِلَ، وَقَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ: إِنَّمَا سُمِّيَ نُوحًا لِكَثْرَةِ مَا نَاحَ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ كَانَ بَيْنَ آدَمَ إِلَى زَمَنِ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السلام عشرة قرون كلهم

على الإسلام. قال ابن عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ: وَكَانَ أَوَّلُ مَا عُبِدَتِ الْأَصْنَامُ أَنَّ قَوْمًا صَالِحِينَ مَاتُوا فَبَنَى قَوْمُهُمْ عَلَيْهِمْ مَسَاجِدَ، وَصَوَّرُوا صُوَرَ أُولَئِكَ فِيهَا، لِيَتَذَكَّرُوا حَالَهُمْ وَعِبَادَتَهُمْ، فَيَتَشَبَّهُوا بِهِمْ، فلما طال الزمان جعلوا أَجْسَادًا عَلَى تِلْكَ الصُّوَرِ، فَلَمَّا تَمَادَى الزَّمَانُ عَبَدُوا تِلْكَ الْأَصْنَامَ، وَسَمَّوْهَا بِأَسْمَاءِ أُولَئِكَ الصَّالِحِينَ (وَدًّا وَسُوَاعًا وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرَا)، فَلَمَّا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَلَهُ الْحَمْدُ والمنة - رسوله نوحاً، فَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَقَالَ: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أَيْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ القيامة إذا لَقِيتُمُ اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُشْرِكُونَ بِهِ، {قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ} أَيِ الْجُمْهُورُ وَالسَّادَةُ وَالْقَادَةُ وَالْكُبَرَاءُ مِنْهُمْ: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أَيْ فِي دَعْوَتِكَ إِيَّانَا إِلَى تَرْكِ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا، وَهَكَذَا حَالُ الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة كقوله: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ}، {وإذا لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ مَا أَنَا ضَالٌّ وَلَكِنْ أَنَا رَسُولٌ مِنْ رَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكِهِ، {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، وَهَذَا شَأْنُ الرَّسُولِ أن يكون مبلغاً فصيحاً ناصحاً عالماً بِاللَّهِ لَا يُدْرِكُهُمْ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال لأصحابه يوم عرفة: «أيها الناس إنكم مسؤولون عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُواْ: نَشْهَدُ إِنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَجَعَلَ يَرْفَعُ إِصْبَعَهُ إلى السماء وينكسها عَلَيْهِمْ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ».

- 63 - أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ - 64 - فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ نُوحٍ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {أَوَ عَجِبْتُمْ} الآية، أَيْ لَا تَعْجَبُوا مِنْ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا ليس بعجب أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ رَحْمَةً بكم ولطفاً وإحساناً إليكم لينذركم، وَلِتَتَّقُوا نِقْمَةَ اللَّهِ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، قال الله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ} أي تمادوا عَلَى تَكْذِيبِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، وَمَا آمَنُ مَعَهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخر، {فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك} أي السفينة، كما قال: {فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة}، {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ}، كَمَا قَالَ: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ من دون الله أنصاراً}، وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِين} أَيْ عَنِ الْحَقِّ لَا يُبْصِرُونَهُ وَلَا يَهْتَدُونَ لَهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ انْتَقَمَ لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَأَنْجَى رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَهْلَكَ أَعْدَاءَهُمْ من الكافرين، كقوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} الآية، وَهَذِهِ سُنَّةَ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا والآخرة، أن العاقبة فيها لِلْمُتَّقِينَ وَالظَّفَرَ وَالْغَلَبَ لَهُمْ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ نوح بالغرق ونجى نوحاً وأصحابه المؤمنين، وكان قَوْمُ نُوحٍ قَدْ ضَاقَ بِهِمُ السَّهْلُ وَالْجَبَلُ، وقال ابن أسلم: ما عذب الله قوم نوح إِلَّا وَالْأَرْضُ مَلْأَى بِهِمْ، وَلَيْسَ بُقْعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا وَلَهَا مَالِكٌ وَحَائِزٌ. وَقَالَ ابْنُ وهب: بلغني عن ابن عباس أنه نجي مع نوح فِي السَّفِينَةِ ثَمَانُونَ رَجُلًا أَحَدُهُمْ جُرْهُمُ، وَكَانَ لسانه عربياً (رواه ابن أبي حاتم).

- 65 - وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ - 66 - قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ - 67 - قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ - 68 - أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ - 69 - أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلآءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ نُوحٍ نُوحًا كَذَلِكَ أرسلنا إلى عَادٍ أخاهم هوداً، وَهَؤُلَاءِ هُمْ عَادٌ الْأُولَى الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ، وهم أولاد عاد بن غرم الَّذِينَ كَانُوا يَأْوُونَ إِلَى الْعُمُدِ فِي الْبَرِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} وَذَلِكَ لِشِدَّةِ بَأْسِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}؟ وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف، فإن هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ دُفِنَ هُنَاكَ، وَقَدْ كَانَ من أشرف قومه نسباً، لأن الرسل إِنَّمَا يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مِنْ أَفْضَلِ الْقَبَائِلِ وَأَشْرَفِهِمْ، وَلَكِنْ كَانَ قَوْمُهُ كَمَا شُدِّدَ خَلْقُهُمْ شُدِّدَ على قلوبهم، وكانو مِنْ أَشَدِّ الْأُمَمِ تَكْذِيبًا لِلْحَقِّ، وَلِهَذَا دَعَاهُمْ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِلَى طَاعَتِهِ وَتَقْوَاهُ، {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} - وَالْمَلَأُ هُمَ الْجُمْهُورُ وَالسَّادَةُ وَالْقَادَةُ مِنْهُمْ - {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لنظك مِنَ الكاذبين} أي في ضلالة حيث تدعونا إلى ترك عبادة الأصنام والإقبال على عبادة الله وحده، كَمَا تَعَجَّبَ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى إِلَهٍ وَاحِدٍ فَقَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا واحدا}؟ الآية، {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ لَسْتُ كَمَا تَزْعُمُونَ، بَلْ جِئْتُكُمْ بِالْحَقِّ مِنَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الرُّسُلُ البلاغ والنصح والأمانة، {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} أَيْ لَا تَعْجَبُوا أَنْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ أَيَّامَ اللَّهِ وَلِقَاءَهُ، بَلِ احْمَدُوا اللَّهَ عَلَى ذَاكُمْ، {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}، أي واذكروا نِعْمَةَ الله عليكم في جَعَلَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ الَّذِي أَهْلَكَ اللَّهُ أَهْلَ الْأَرْضِ بِدَعْوَتِهِ لَمَّا خَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ، {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} أَيْ زَادَ طُولَكُمْ عَلَى النَّاسِ بَسْطَةً أَيْ جَعَلَكُمْ أَطْوَلَ مِنْ أَبْنَاءِ جنسكم، كقوله فِي قِصَّةِ طَالُوتَ: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ والجسم} {واذكروا آلآءَ اللَّهِ} أَيْ نِعَمَهُ وَمِنَنَهُ عَلَيْكُمْ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

- 70 - قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ - 71 - قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ - 72 - فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين

كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وما كانوا مؤمنين يخبر تعالى عَنْ تَمَرُّدِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَإِنْكَارِهِمْ عَلَى هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} الآية، كقول الكفار من قُرَيْشٌ: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُمْ كانوا يعبدون أصناماً، فصنم يقال له: صمد، وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ: صَمُودٌ، وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ: الْهَبَاءُ، وَلِهَذَا قَالَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} أَيْ قَدْ وَجَبَ عَلَيْكُمْ بِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ مِنْ رَبِّكُمْ رجس، معناه سخط وَغَضَبٌ {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} أَيْ أَتُحَاجُّونِي فِي هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم آلِهَةً وَهِيَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَى عِبَادَتِهَا حُجَّةً وَلَا دَلِيلًا، وَلِهَذَا قَالَ: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ * فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ مِنَ الرَّسُولِ لقومه، ولهذا عقّبه بُقُولِهِ: {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} وقد ذكر الله سبحانه صفة إهلاكم فِي أَمَاكِنَ أُخَرَ مِنَ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} لَمَّا تَمَرَّدُوا وَعَتَوْا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِرِيحٍ عَاتِيَةٍ فَكَانَتْ تَحْمِلُ الرَّجُلَ مِنْهُمْ فَتَرْفَعُهُ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ تُنَكِّسُهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَتَثْلَغُ رَأْسَهُ حَتَّى تُبِينَهُ مِنْ جُثَّتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كانوا يسكنون باليمن بين عَمَّانَ وَحَضْرَمَوْتَ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ قَدْ فَشَوْا فِي الْأَرْضِ وَقَهَرُوا أَهْلَهَا بِفَضْلِ قُوَّتِهِمُ الَّتِي آتَاهُمُ اللَّهُ، وَكَانُوا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ مِنْ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا وَأَفْضَلِهِمْ مَوْضِعًا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ وَلَا يَجْعَلُوا مَعَهُ إِلَهًا غَيْرَهُ، وَأَنْ يَكُفُّوا عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَكَذَّبُوهُ، وَقَالُواْ: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قوة؟ واتبعه منهم ناس - وهم يسير - يكتمون إيمانهم، فَلَمَّا عَتَتْ عَادٌ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبُوا نَبِيَّهُ، وَأَكْثَرُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ وَتَجَبَّرُوا، وَبَنَوْا بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً عَبَثًا بِغَيْرِ نَفْعٍ كَلَّمَهُمْ هُودٌ فَقَالَ: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} الآيات. فَلَمَّا أَبَوْا إِلَّا الْكُفْرَ بِهِ أَمْسَكَ اللَّهُ عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك، وَكَانَ النَّاسُ إِذَا جَهَدَهُمْ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ الزمان، وطلبوا من الله الفرج فيه إنما يطلبونه بحرمته ومكان بيته، وكان معروفاً عند أهل ذلك الزمان، وبه العماليق مقيمون، فبعث عَادٌ وَفْدًا قَرِيبًا مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا إِلَى الحرم، ليستقوا لهم عند الحرم فَنَهَضُوا إِلَى الْحَرَمِ، وَدَعَوْا لِقَوْمِهِمْ، فَدَعَا دَاعِيهِمْ، فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَابَاتٍ ثَلَاثًا بَيْضَاءَ وَسَوْدَاءَ وَحَمْرَاءَ، ثم ناده مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: اخْتَرْ لِنَفْسِكَ أَوْ لِقَوْمِكَ مِنْ هَذَا السَّحَابِ فَقَالَ: اخْتَرْتُ هَذِهِ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ، فَإِنَّهَا أَكْثَرُ السَّحَابِ مَاءً، فَنَادَاهُ مُنَادٍ: «اخترت رماداً رمدداً، لا تبقي من عاداً أحداً، لا والداً ولا ولداً، إلا جعلته همداً». وساق الله السحابة السوداء بِمَا فِيهَا مِنَ النِّقْمَةِ إِلَى عَادٍ حَتَّى تخرج عليهم من واد، يقال لها الْمُغِيثُ، فَلَمَّا رَأَوْهَا اسْتَبْشَرُوا، وَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، يَقُولُ: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} أي تهلك كل شيء مرت به، فَسَخَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، كما قال الله تعالى، والحسوم الدَّائِمَةُ، فَلَمْ تَدَعْ مِنْ عَادَ أَحَدًا إِلَّا هلك، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}،

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ قَرِيبٌ مِمَّا أَوْرَدَهُ مُحَمَّدُ بن إسحاق عن الحارث البكري قال: إِنْ عَادًا قُحِطُوا فَبَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ يُقَالُ لَهُ قَيْلُ، فَمَرَّ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا يَسْقِيهِ الْخَمْرَ، وَتُغَنِّيهِ جَارِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا الْجَرَادَتَانِ، فَلَمَّا مَضَى الشَّهْرُ خَرَجَ إِلَى جِبَالِ مَهْرَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لم أجىء إِلَى مَرِيضٍ فَأُدَاوِيهِ، وَلَا إِلَى أَسِيرٍ فَأُفَادِيهِ، اللَّهُمَّ اسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ تَسْقِيهِ، فَمَرَّتْ بِهِ سَحَّابَاتٌ سُودُ، فَنُودِيَ: مِنْهَا اخْتَرْ، فَأَوْمَأَ إِلَى سَحَابَةٍ مِنْهَا سَوْدَاءَ، فَنُودِيَ: مِنْهَا خُذْهَا رَمَادًا رِمْدِدًا، لَا تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَدًا، قال: فما بلغني أنه بعث الله عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا قَدْرُ مَا يَجْرِي فِي خَاتَمِي هَذَا حَتَّى هَلَكُوا. قَالَ أَبُو وَائِلٍ وَصَدَقَ قَالَ: وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ إِذَا بَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ قَالُوا: لَا تَكُنْ كَوَافِدِ عَادٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ والنسائي وابن ماجه وأخرجه ابن جرير).

- 73 - وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 74 - وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلآءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ - 75 - قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ - 76 - قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ - 77 - فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ - 78 - فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ وَالنَّسَبِ: ثَمُودُ بْنُ عَاثِرَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ، أحياء من العرب العارية قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتْ ثَمُودُ بعد عاد، ومساكنهم مشهورة بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ إِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَا حَوْلَهُ، وَقَدْ مرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ديارهم ومساكنهم وهو ذاهب إلى تبوك في سنة تسع، قال الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ عَلَى تَبُوكَ، نَزَلَ بِهِمُ الْحِجْرَ عِنْدَ بُيُوتِ ثَمُودَ فاستقى النَّاسُ مِنَ الْآبَارِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا ثمود، فعجنوا منها، ونصبوا لها الْقُدُورَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأهراقوا الْقُدُورَ، وَعَلَفُوا الْعَجِينَ الْإِبِلَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ بِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ عَلَى الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا النَّاقَةُ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ عُذِّبُوا، وَقَالَ: «إِنِّي أَخْشَى أَنْ يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَهُمْ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ». وقال أحمد أيضاً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وهو بِالْحِجْرِ: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أصابهم» (أصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين). قوله تعالى: {وإلى ثَمُودَ} أَيْ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى قَبِيلَةِ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ}، فجميع الرُّسُلِ يَدْعُونَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ

لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعبدون}، وَقَوْلُهُ: {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً}، أَيْ قَدْ جَاءَتْكُمْ حُجَّةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، وَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ سَأَلُوا صَالِحًا أَنْ يأتيهم بآية، واقترحوا عليه بأن تَخْرُجَ لَهُمْ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ عَيَّنُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَهِيَ صَخْرَةٌ مُنْفَرِدَةٌ فِي نَاحِيَةِ الْحِجْرِ يُقَالُ لَهَا الْكَاتِبَةُ، فَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُخْرِجَ لَهُمْ مِنْهَا نَاقَةً عُشَرَاءَ تَمْخَضُ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ صَالِحٌ العهود والمواثيق، لئن أجابهم الله إِلَى طُلْبَتِهِمْ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَتْبَعُنَّهُ، فَلَمَّا أَعْطَوْهُ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ، قَامَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى صِلَاتِهِ وَدَعَا اللَّهَ عزَّ وجلَّ، فَتَحَرَّكَتْ تِلْكَ الصَّخْرَةُ، ثُمَّ انْصَدَعَتْ عَنْ نَاقَةٍ جَوْفَاءَ وَبْرَاءَ، يَتَحَرَّكُ جَنِينُهَا بَيْنَ جَنْبَيْهَا، كَمَا سألوا، فعند ذلك آمن رئيسهم (جُنْدَعُ بْنُ عَمْرٍو) وَمَنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى أمره، وأقامت الناقة وفصيلها بعدما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب من بِئْرِهَا يَوْمًا، وَتَدَعُهُ لَهُمْ يَوْمًا، وَكَانُوا يَشْرَبُونَ لبنها يوم شربها، يحتلبونها، فيملأون مَا شَاءُوا مِنْ أَوْعِيَتِهِمْ وَأَوَانِيهِمْ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ}، وَقَالَ تَعَالَى: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ معلوم}، وَكَانَتْ تَسْرَحُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَوْدِيَةِ تَرِدُ مِنْ فَجٍّ وَتَصْدُرُ مِنْ غَيْرِهِ لِيَسَعَهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ تَتَضَلَّعُ مِنَ الْمَاءِ، وَكَانَتْ عَلَى مَا ذُكِرَ خَلْقًا هَائِلًا وَمَنْظَرًا رَائِعًا، إِذَا مَرَّتْ بِأَنْعَامِهِمْ نَفَرَتْ مِنْهَا، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمْ وَاشْتَدَّ تَكْذِيبُهُمْ لِصَالِحٍ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَزَمُوا عَلَى قَتْلِهَا لِيَسْتَأْثِرُوا بِالْمَاءِ كُلَّ يَوْمٍ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمُ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى قَتْلِهَا، قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنِي أن الذي قتلها طَافَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ أَنَّهُمْ رَاضُونَ بِقَتْلِهَا، حَتَّى على النساء في خدورهن وعلى الصبيان، قلت: وهذا هو الظاهر لقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا}، وَقَالَ: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا}، وَقَالَ: {فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ}، فَأَسْنَدَ ذَلِكَ عَلَى مَجْمُوعِ القبيلة، فدل على رضى جميعهم بذلك، والله أعلم. وذكر ابن جرير وغيره من علماء التفسير: أن سبب قتلها أن امرأة منهم يقال لها (عنيزة) وتكنى أم عثمان، كَانَتْ عَجُوزًا كَافِرَةً، وَكَانَتْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتْ لَهَا بَنَاتٌ حِسَانٌ وَمَالٌ جَزِيلٌ، وَكَانَ زَوْجُهَا (ذُؤَابُ بْنُ عَمْرٍو) أَحَدَ رُؤَسَاءِ ثَمُودَ، وَامْرَأَةً أُخْرَى يُقَالُ لها (صدقة) ذَاتِ حَسَبٍ وَمَالٍ وَجِمَالٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مسلم من ثمود ففارقته، فكانتا تجعلان جعلاً لمن التزم لهما بقتل الناقة فدعت صدقة رجلاً يقال له: الحباب، فعرضت عَلَيْهِ نَفْسَهَا إِنْ هُوَ عَقَرَ النَّاقَةَ، فَأَبَى عَلَيْهَا، فَدَعَتِ ابْنَ عَمٍّ لَهَا يُقَالُ لَهُ: (مصدع بْنِ الْمُحَيَّا) فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ، وَدَعَتْ عُنَيْزَةُ بنت غنم (قدار بن سالف) وَكَانَ رَجُلًا أَحْمَرَ أَزْرَقَ قَصِيرًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كان ولد زانية، وَقَالَتْ لَهُ: أُعْطِيكَ أَيَّ بَنَاتِي شِئْتَ عَلَى أَنْ تَعْقِرَ النَّاقَةَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ انْطَلَقَ (قِدَارُ بن سالف) و (مصدع بن المحيا) فاستغويا غُوَاةً مِنْ ثَمُودَ، فَاتَّبَعَهُمَا سَبْعَةُ نَفَرٍ، فَصَارُوا تسعة رهط، وهم الذين قال فيهم اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرض ولا يصلحون} وَكَانُوا رُؤَسَاءَ فِي قَوْمِهِمْ، فَاسْتَمَالُوا الْقَبِيلَةَ الْكَافِرَةَ بِكَمَالِهَا، فَطَاوَعَتْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَانْطَلَقُوا فَرَصَدُوا النَّاقَةَ حِينَ صَدَرَتْ عَنِ الْمَاءِ وَقَدْ كَمَنَ لَهَا (قدار بن سالف) فِي أَصْلِ صَخْرَةٍ عَلَى طَرِيقِهَا، وَكَمِنَ لَهَا مِصْدَعٌ فِي أَصْلِ أُخْرَى، فَمَرَّتْ عَلَى مِصْدَعٍ فَرَمَاهَا بِسَهْمٍ فَانْتَظَمَ بِهِ عَضَلَةُ سَاقِهَا، وَخَرَجَتْ بنت غَنْمٍ عُنَيْزَةُ، وَأَمَرَتِ ابْنَتَهَا - وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الناس وجهاً - فسفرت عن وجهها لقدار وزمرته، وشد عليها قدار بالسيف فكشف عن عُرْقُوبَهَا، فَخَرَّتْ سَاقِطَةً إِلَى الْأَرْضِ، وَرَغَتْ رَغَاةً وَاحِدَةً تُحَذِّرُ سَقْبَهَا، ثُمَّ طَعَنَ فِي لَبَّتِهَا فَنَحَرَهَا، وَانْطَلَقَ سَقْبُهَا وَهُوَ فَصِيلُهَا حَتَّى أَتَى جَبَلًا مَنِيعًا، فَصَعَدَ أَعْلَى صَخْرَةٍ فِيهِ وَرَغَا.

فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ وَفَرَغُوا مِنْ عَقْرِ النَّاقَةِ وبلغ الخبر صالحاً عليه السلام جاءهم وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاقَةَ بَكَى وَقَالَ: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثلاثة أيام} الآية، وَكَانَ قَتْلُهُمُ النَّاقَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَلَمَّا أَمْسَى أُولَئِكَ التِّسْعَةُ الرَّهْطُ عَزَمُوا عَلَى قَتْلِ صَالِحٍ، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ صَادِقًا عَجَّلْنَاهُ قَبْلَنَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا أَلْحَقْنَاهُ بِنَاقَتِهِ {قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}، فلما عزموا على ذلك وتواطأوا عليه وجاؤوا من الليل ليفتكوا بنبي الله، فأرسل اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَلَهُ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ - عَلَيْهِمْ حِجَارَةً فَرَضَخَتْهُمْ سَلَفًا وَتَعْجِيلًا قَبْلَ قَوْمِهِمْ، وَأَصْبَحَ ثَمُودُ يَوْمَ الْخَمِيسِ - وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَيَّامِ النَّظِرَةِ - وَوُجُوهُهُمْ مُصْفَرَّةٌ، كَمَا وَعَدَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَصْبَحُوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّأْجِيلِ - وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ - وَوُجُوهُهُمْ مُحَمَّرَةٌ، وَأَصْبَحُوا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ الْمَتَاعِ - وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ - وَوُجُوهُهُمْ مُسَوَّدَةٌ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ، وَقَدْ تَحَنَّطُوا وَقَعَدُوا يَنْتَظِرُونَ نِقْمَةَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ - عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ - لَا يَدْرُونَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِمْ، وَلَا كَيْفَ يأتيهم العذاب، وأشرقت الشَّمْسُ، جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ وَرَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَفَاضَتِ الْأَرْوَاحُ وَزَهَقَتِ النُّفُوسُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أَيْ صَرْعَى لَا أَرْوَاحَ فِيهِمْ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ لَا صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ، لَا ذكر ولا أنثى، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ ذُرِّيَّةِ ثَمُودَ أَحَدٌ سِوَى صالح عليه السلام ومن تبعه رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، إِلَّا أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ (أَبُو رِغَالٍ) كَانَ لَمَّا وَقَعَتِ النِّقْمَةُ بِقَوْمِهِ مُقِيمًا إِذْ ذَاكَ فِي الْحَرَمِ فَلَمْ يَصِبْهُ شَيْءٌ، فَلَمَّا خَرَجَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ إِلَى الْحِلِّ جَاءَهُ حَجَرٌ مِنَ السَّمَاءِ فَقَتَلَهُ.

- 79 - فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ هَذَا تَقْرِيعٌ مِنْ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لقومه لما أهلكهم الله بمخالفته إِيَّاهُ وَتَمَرُّدِهِمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِبَائِهِمْ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْهُدَى إِلَى الْعَمَى، قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ ذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا وَهُمْ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وقف علىالقليب - قَلِيبِ بَدْرٍ - فَجَعَلَ يَقُولُ: «يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شبية بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، هَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا» فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَقْوَامٍ قَدْ جُيِّفُوا! فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَا يجيبون» (وفي السيرة أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: «بئس عشيرة القوم كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فبئس عشيرة القوم كنتم لنبيكم»). وهكذا قال صالح عليه السلام لِقَوْمِهِ: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} أَيْ فَلَمْ تَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ لِأَنَّكُمْ لَا تُحِبُّونَ الْحَقَّ وَلَا تَتَّبِعُونَ نَاصِحًا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ هَلَكَتْ أُمَّتُهُ كَانَ يَذْهَبُ فيقيم في الحرم - حرم مكة - والله أعلم. وقد قال الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي عُسْفَانَ حِينَ حَجَّ قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ أَيُّ وَادٍ هَذَا؟» قَالَ هَذَا وَادِي عُسْفَانَ. قَالَ: «لَقَدْ مَرَّ بِهِ هُودٌ وَصَالِحٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ على بكرات خطمهن اللِّيفُ، أُزُرُهُمُ الْعَبَاءُ، وَأَرْدِيَتُهُمُ النِّمَارُ، يُلَبُّونَ يَحُجُّونَ البيت العتيق» (أخرجه الإمام أحمد، قال ابن كثير: هذا حديث غريب من هذا الوجه).

- 80 - وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ - 81 - إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مسرفون يقول تعالى (وَ) لقد أَرْسَلْنَا {لُوطاً} أَوْ تَقْدِيرُهُ (وَ) اذْكُرْ {لُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} ولوط هو ابن هاران ابن آزَرَ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَكَانَ قَدْ آمَنَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَاجَرَ مَعَهُ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ فَبَعَثَهُ الله إِلَى أَهْلِ سَدُومَ، وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا كَانُوا يَرْتَكِبُونَهُ مِنَ الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ وَالْفَوَاحِشِ الَّتِي اخْتَرَعُوهَا لَمْ يَسْبِقْهُمْ بِهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَهُوَ إِتْيَانُ الذكور دون الإناث، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ بَنُو آدَمَ تَعْهَدُهُ وَلَا تَأْلَفُهُ، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ، حَتَّى صَنَعَ ذَلِكَ أَهْلُ سَدُومَ عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ. قَالَ عمرو بن دينار في قَوْلُهُ {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} قَالَ: مَا نَزَا ذَكَرٌ عَلَى ذَكَرٍ حتى كان يوم لوط؛ وقال الوليد بن عبد الملك: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَصَّ عَلَيْنَا خبر قوم لُوطٍ، مَا ظَنَنْتُ أَنَّ ذَكَرًا يَعْلُو ذَكَرًا، وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ} أَيْ عَدَلْتُمْ عَنِ النِّسَاءِ وَمَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْهُنَّ إِلَى الرِّجَالِ، وَهَذَا إِسْرَافٌ مِنْكُمْ وَجَهْلٌ، لِأَنَّهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فاعلين} فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى نِسَائِهِمْ فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَشْتَهُونَهُنَّ، {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} أَيْ لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا أَرَبَ لَنَا فِي النِّسَاءِ وَلَا إِرَادَةَ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مُرَادَنَا مِنْ أَضْيَافِكَ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الرِّجَالَ كَانُوا قد استغنى بعضهم ببعضن وكذلك نساؤهم كن قد استغنين بَعْضُهُنَّ بِبَعْضٍ أَيْضًا.

- 82 - وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ أَيْ مَا أَجَابُوا لُوطًا إِلَّا أَنْ هَمُّوا بِإِخْرَاجِهِ ونفيه ومن معه مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَالِمًا وَأَهْلَكَهُمْ فِي أَرْضِهِمْ صَاغِرِينَ مُهَانِينَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}، قَالَ قَتَادَةُ: عَابُوهُمْ بِغَيْرِ عَيْبٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ مِنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ وَأَدْبَارِ النِّسَاءِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا.

- 83 - فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ - 84 - وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ يَقُولُ تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَا لُوطًا وَأَهْلَهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ سِوَى أَهْلِ بَيْتِهِ فَقَطْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين} إِلَّا امْرَأَتَهُ فَإِنَّهَا لَمْ تُؤْمِنْ بِهِ، بَلْ كَانَتْ عَلَى دِينِ قَوْمِهَا تُمَالِئُهُمْ عَلَيْهِ، وَتُعْلِمُهُمْ بِمَنْ يَقْدَمُ عَلَيْهِ مِنْ ضِيفَانِهِ بِإِشَارَاتٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ، وَلِهَذَا لَمَّا أُمِرَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ ليسري بأهله أمر أن لا يعلمها وَلَا يُخْرِجَهَا مِنَ الْبَلَدِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلِ اتَّبَعَتْهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ الْعَذَابُ الْتَفَتَتْ هِيَ، فَأَصَابَهَا مَا أَصَابَهُمْ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الْبَلَدِ وَلَا أَعْلَمَهَا لُوطٌ بَلْ بَقِيَتْ معهم، ولهذا قال ههنا: {إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ

مِنَ الغابرين} أي الباقين، وقيل مَنَ الْهَالِكِينَ وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ، وَقَوْلُهُ: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً} مُفَسَّرٌ بِقَوْلِهِ: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}، وَلِهَذَا قَالَ: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} أَيِ انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ من يجترئ على معاصي الله عزَّ وجلَّ ويكذب رُسُلَهُ، وَقَدْ ذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّ اللَّائِطَ يُلْقَى مِنْ شَاهِقٍ وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ كَمَا فُعِلَ بِقَوْمِ لُوطٍ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُرْجَمُ سَوَاءً كَانَ مُحْصَنًا أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالْحُجَّةُ مَا رَوَاهُ الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عمل لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه). وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ كَالزَّانِي فَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا رُجِمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا جُلِدَ مِائَةَ جِلْدَةٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا إِتْيَانُ النِّسَاءِ فِي الْأَدْبَارِ فَهُوَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى، وَهُوَ حرام بإجماع العلماء إلا قولاً شاذاً لبعض السلف.

- 85 - وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كنتم مؤمنين مدين تطلق عَلَى الْقَبِيلَةِ وَعَلَى الْمَدِينَةِ، وَهِيَ الَّتِي بِقُرْبِ (معان) من طرق الحجاز (معان هي الآن بلدة شهيرة في شرق الأردن)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً من الناس يسقون} وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ، {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} هَذِهِ دَعْوَةُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ، {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ}، أَيْ قَدْ أَقَامَ اللَّهُ الْحُجَجَ وَالْبَيِّنَاتِ عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، ثُمَّ وَعَظَهُمْ فِي مُعَامَلَتِهِمُ النَّاسَ بِأَنْ يُوفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وَلَا يَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ، أَيْ لَا يَخُونُوا النَّاسَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَيَأْخُذُوهَا عَلَى وَجْهِ الْبَخْسِ، وَهُوَ نَقْصُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ خُفْيَةً وَتَدْلِيسًا، كَمَا قال تعالى: {وَيْلٌ للمطففين - إلى قوله - لِرَبِّ العالمين} وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ (خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ) لِفَصَاحَةِ عِبَارَتِهِ وَجَزَالَةِ مَوْعِظَتِهِ.

- 86 - وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ - 87 - وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ يَنْهَاهُمْ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ بِقَوْلِهِ: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} أي

تتوعدون النَّاسَ بِالْقَتْلِ إِنْ لَمْ يُعْطُوكُمْ أَمْوَالَهُمْ. قَالَ السدي: كانوا عشارين، وعن ابن عباس ومجاهد {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}: أَيْ تَتَوَعَّدُونَ الْمُؤْمِنِينَ الْآتِينَ إِلَى شُعَيْبٍ لِيَتَّبِعُوهُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لأنه قال: {بِكُلِّ صِرَاطٍ} وهو الطريق، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ قَوْلُهُ: {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} أَيْ وَتَوَدُّونَ أَنْ تَكُونَ سَبِيلُ اللَّهِ عِوَجًا مَائِلَةً، {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} أَيْ كُنْتُمْ مُسْتَضْعَفِينَ لِقِلَّتِكُمْ فَصِرْتُمْ أَعِزَّةً لِكَثْرَةِ عَدَدِكُمْ، فَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ، {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ والقرون الْمَاضِيَةِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ بِاجْتِرَائِهِمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ، وَقَوْلُهُ: {وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ} أَيْ قَدِ اخْتَلَفْتُمْ عَلَيَّ {فَاصْبِرُوا} أي انتظروا {حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا} وبينكم أَيْ يَفْصِلُ {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}، فَإِنَّهُ سَيَجْعَلُ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وَالدَّمَارَ عَلَى الْكَافِرِينَ.

- 88 - قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ - 89 - قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ هَذَا خبر مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا وَاجَهَتْ بِهِ الْكُفَّارُ نبيه شعيباً ومن معه من المؤمنينن وتوعدهم إياه ومن معه بالنفي عن الْقَرْيَةِ أَوِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الرُّجُوعِ فِي مِلَّتِهِمْ وَالدُّخُولِ مَعَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ، وَهَذَا خِطَابٌ مَعَ الرَّسُولِ؛ وَالْمُرَادُ أَتْبَاعُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ عَلَى الْمِلَّةِ، وَقَوْلُهُ: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}؟ يَقُولُ: أَوَ أَنْتُمْ فَاعِلُونَ ذَلِكَ وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ، فَإِنَّا إِنْ رَجَعْنَا إِلَى مِلَّتِكُمْ وَدَخَلْنَا مَعَكُمْ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ فَقَدْ أَعْظَمْنَا الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ، فِي جَعْلِ الشُّرَكَاءِ معه انداداً، وهذا تنفير منه على اتباعهم {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا}، وَهَذَا رَدٌّ إِلَى الله مستقيم فَإِنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ وَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} أَيْ فِي أُمُورِنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ، {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق}، أي احكم بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ، {وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} أَيْ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، فَإِنَّكَ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ أَبَدًا.

- 90 - وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ - 91 - فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ - 92 - الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ شِدَّةِ كفرهم وَتَمَرُّدِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِلْحَقِّ، وَلِهَذَا أَقْسَمُوا وَقَالُوا: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ}، فلهذا عقبه بِقَوْلِهِ: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}، أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة، وذلك كما أرجفوا شعيباً وأصحابه وتوعدهم بالجلاء

كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ، فَقَالَ: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ في ديارهم جَاثِمِينَ}، والمناسبة هناك - والله أعلم - أنهم لما تهكموا به في قولهم {أصلاتك تأمرك}؟ الآية، فَجَاءَتِ الصَّيْحَةُ فَأَسْكَتَتْهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ} الآية، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَصَابَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ كُلُّهُ أَصَابَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة، وهي سحابة أظلتهم، فيها شر مِنْ نَارٍ وَلَهَبٍ وَوَهَجٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ وَرَجْفَةٌ مِنَ الْأَرْضِ شَدِيدَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَزَهَقَتِ الْأَرْوَاحُ، وَفَاضَتِ النُّفُوسُ، وخمدت الأجسام {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} أَيْ كَأَنَّهُمْ لَمَّا أَصَابَتْهُمُ النِّقْمَةُ لَمْ يُقِيمُوا بِدِيَارِهِمُ الَّتِي أَرَادُوا إجلاء الرسول وصحبه منها. ثم قال تعالى مُقَابِلًا لِقِيلِهِمْ: {الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين}.

- 93 - فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ أَيْ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السلام بعدما أَصَابَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنِّقْمَةِ وَالنَّكَالِ، وَقَالَ مُقَرِّعًا لَهُمْ وَمُوَبِّخًا: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} أَيْ قَدْ أَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ ما أرسلت بهن فلا آسف عليكم وقد كفرتم بما جئتكم به، فلهذا قَالَ: {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}؟ ..

- 94 - وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ - 95 - ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا اخْتَبَرَ بِهِ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ الَّذِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. يَعْنِي {بِالْبَأْسَاءِ} مَا يُصِيبُهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ مِنْ أَمْرَاضٍ وَأَسْقَامٍ، {وَالضَّرَّاءِ} مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ فَقْرٍ وَحَاجَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} أَيْ يَدْعُونَ وَيَخْشَعُونَ وَيَبْتَهِلُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كَشْفِ مَا نَزَلَ بِهِمْ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَنَّهُ ابْتَلَاهُمْ بِالشِّدَّةِ لِيَتَضَرَّعُوا فَمَا فَعَلُوا شيئاً من الذي أراد منهم، فقلب عليهم الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيهن وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} أَيْ حَوَّلْنَا الْحَالَ مِنْ شِدَّةٍ إِلَى رَخَاءٍ، وَمِنْ مَرَضٍ وَسَقَمٍ إِلَى صِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ، وَمِنْ فَقْرٍ إِلَى غِنًى، لِيَشْكُرُوا عَلَى ذَلِكَ فَمَا فَعَلُوا، وَقَوْلُهُ: {حَتَّى عَفَوْاْ} أَيْ كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ، يُقَالُ: عَفَا الشَّيْءُ إِذَا كَثُرَ. {وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}. يقول تعالى: ابتليناهم بِهَذَا وَهَذَا لِيَتَضَرَّعُوا وَيُنِيبُوا إِلَى اللَّهِ فَمَا نَجَعَ فِيهِمْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، وَلَا انتهوا بهذا ولا بهذا، وقالوا: قَدْ مَسَّنَا مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ثُمَّ بَعْدَهُ مِنَ الرَّخَاءِ مِثْلُ مَا أَصَابَ آبَاءَنَا فِي قديم الزمان والدهر، وإنما هو الدهر تارات وتارات، بل لم يَتَفَطَّنُوا لِأَمْرِ اللَّهِ فِيهِمْ وَلَا اسْتَشْعَرُوا ابْتِلَاءَ اللَّهِ لَهُمْ فِي الْحَالَيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى السَّرَّاءِ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الضَّرَّاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» فَالْمُؤْمِنُ مَنْ يَتَفَطَّنُ لِمَا ابتلاه الله به من الضراء والسراء،

وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "لَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بالمؤمن حتى يخرج نقياً من ذنوبه (وفي رواية الترمذي: «حتى يلقى الله تعالى وَمَا عليه خطيئة)، والمنافق كَمَثَلِ الْحِمَارِ لَا يَدْرِي فِيمَ رَبَطَهُ أَهْلُهُ ولا فيما أرسوله»، أَوْ كَمَا قَالَ، وَلِهَذَا عَقَّبَ هَذِهِ الصِّفَةَ بِقَوْلِهِ {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أَيْ أخذناهم بالعقوبة بغتة، أي على بغتة وَعَدَمِ شُعُورٍ مِنْهُمْ، أَيْ أَخَذْنَاهُمْ فَجْأَةً كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «مَوْتُ الْفَجْأَةِ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِ وَأَخْذَةُ أسف للكافر».

- 96 - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ - 97 - أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ - 98 - أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ - 99 - أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون يخبر تعالى عَنْ قِلَّةِ إِيمَانِ أَهْلِ الْقُرَى الَّذِينَ أَرْسَلَ فِيهِمُ الرُّسُلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} أَيْ مَا آمَنَتْ قَرْيَةٌ بِتَمَامِهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ فإنهم آمنوا، وذلك بعدما عاينوا العذاب، كما قال تعالى: {فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نذير} الآية، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ واتقوا} أي آمنت قلوبهم بما جاء به الرسل، وصدقت به واتبعوه، وَاتَّقَوْا بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}، أَيْ قَطْرَ السَّمَاءِ ونبات الأرض، وقال تَعَالَى: {وَلَكِنْ كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أَيْ وَلَكِنْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ فَعَاقَبْنَاهُمْ بِالْهَلَاكِ عَلَى مَا كَسَبُوا مِنَ الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخَوِّفًا وَمُحَذِّرًا مِنْ مُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ وَالتَّجَرُّؤِ عَلَى زَوَاجِرِهِ {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} أَيِ الْكَافِرَةِ {أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا} أَيْ عَذَابُنَا وَنَكَالُنَا، {بَيَاتاً} أي ليلاً {وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} أَيْ فِي حَالِ شُغْلِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ، {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ} أَيْ بَأْسَهُ وَنِقْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَخْذَهُ إِيَّاهُمْ فِي حَالِ سَهْوِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ، {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُؤْمِنُ يَعْمَلُ بِالطَّاعَاتِ وَهُوَ مُشْفِقٌ وَجِلٌ خَائِفٌ، وَالْفَاجِرُ يَعْمَلُ بِالْمَعَاصِي وَهُوَ آمِنٌ.

- 100 - أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ قَالَ ابْنُ عباس المعنى: أولم يتبين لَهُمْ أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَقَالَ ابن جرير في تفسيرها: أولم يتبين لِلَّذِينِ يُسْتَخْلَفُونَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِ إِهْلَاكِ آخَرِينَ قَبْلَهُمْ كَانُوا أَهْلَهَا فَسَارُوا سِيرَتَهُمْ، وَعَمِلُوا أَعْمَالَهُمْ، وَعَتَوْا عَلَى رَبِّهِمْ {أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} يَقُولُ: أَنْ لَوْ نَشَاءُ فَعَلْنَا بِهِمْ كَمَا فَعَلْنَا بِمَنْ قَبْلِهِمْ، {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} يَقُولُ: وَنَخْتِمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} موعظة ولا تذكيراً. وَهَكَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا

قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ}؛ وَقَالَ: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ}، وقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} أَيْ هَلْ تَرَى لَهُمْ شَخْصًا أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ صوتاً؟ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكير}؟ وَقَالَ تَعَالَى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى حُلُولِ نِقَمِهِ بِأَعْدَائِهِ، وَحُصُولِ نِعَمِهِ لِأَوْلِيَائِهِ، وَلِهَذَا عقب ذلك بقوله وهو أصدق القائلين.

- 101 - تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ - 102 - وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ لَمَّا قَصَّ تَعَالَى عَلَى نبيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وَمَا كَانَ مِنْ إِهْلَاكِهِ الْكَافِرِينَ وَإِنْجَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ بِأَنْ بَيَّنَ لَهُمُ الْحَقَّ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ} أَيْ يَا مُحَمَّدُ {مِنْ أَنبَآئِهَا} أَيْ مِنْ أَخْبَارِهَا، {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ الحجج عَلَى صِدْقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قائم وحصيد}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ أَيْ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بالحق أول ما ورد عليهم، كَقَوْلِهِ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، وَلِهَذَا قَالَ هُنَا: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم} أَيْ لِأَكْثَرِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ {مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} أَيْ وَلَقَدْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ فَاسِقِينَ، خَارِجِينَ عن الطاعة والامتثال. والعهد الذي أخذه هُوَ مَا جَبَلَهُمْ عَلَيْهِ وَفَطَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم، فَخَالَفُوهُ وَتَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَعَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ، لَا مِنْ عقل ولا شرع. قال تعالى: {واسأل من أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}؟ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بما كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ}، عن أبي بن كعب قَالَ: كَانَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى يَوْمَ أَقَرُّوا لَهُ بِالْمِيثَاقِ، أَيْ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ لِعِلْمِ الله منهم ذلك، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ أَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ فَآمَنُوا كَرْهًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ}، هَذَا كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ} الآية.

- 103 - ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ يَقُولُ تَعَالَى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم} أَيِ الرُّسُلَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُمْ كَنُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ صَلَوَاتُ -[40]- اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ، {مُوسَى بِآيَاتِنَآ} أي بحجتنا وَدَلَائِلِنَا الْبَيِّنَةِ إِلَى فِرْعَوْنَ - وَهُوَ مَلِكُ مِصْرَ فِي زَمَنِ مُوسَى - {وَمَلَئِهِ} أَيْ قَوْمِهِ، {فَظَلَمُواْ بِهَا} أَيْ جَحَدُوا وَكَفَرُوا بِهَا ظُلْمًا مِنْهُمْ وَعِنَادًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أَيِ الَّذِينَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، أَيِ انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَأَغْرَقْنَاهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ بِمَرْأًى مِنْ مُوسَى وَقَوْمِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي النَّكَالِ بِفِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ، وَأَشْفَى لِقُلُوبِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مُوسَى وَقَوْمِهِ مِنَ المؤمنين به.

- 104 - وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ - 105 - حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ - 106 - قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مُنَاظَرَةِ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ وَإِلْجَامِهِ إِيَّاهُ بِالْحُجَّةِ، وَإِظْهَارِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ بِحَضْرَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنْ قِبْطِ مِصْرَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ أَرْسَلَنِي الَّذِي هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحق}، قال بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ حَقِيقٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ عَلَى الله إلا الحق، أي جدير بذك وحري به، قالوا: والباء وعلى يتعاقبان، يقال: رميت بالقوس وعلى القوس، وقال بعض المفسرين: معناه حريص عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَقَرَأَ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: حَقِيقٌ عليَّ، بمعنى واجب وحق عليَّ ذلك، إن لا أُخْبِرَ عَنْهُ إِلَّا بِمَا هُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ، لما أعلم من جلاله وعظيم شأنه، {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أَيْ بِحُجَّةٍ قَاطِعَةٍ مِنَ اللَّهِ أَعْطَانِيهَا دَلِيلًا عَلَى صِدْقِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ أَطْلِقْهُمْ مِنْ أَسْرِكَ وَقَهْرِكَ وَدَعْهُمْ وَعِبَادَةَ ربهم، فَإِنَّهُمْ مِنْ سُلَالَةِ نَبِيٍّ كَرِيمٍ (إِسْرَائِيلَ) وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أَيْ قَالَ فِرْعَوْنُ: لست بمصدقك فيما قلت، ولا بمعطيك فِيمَا طَلَبْتَ، فَإِنْ كَانَتْ مَعَكَ حُجَّةٌ فَأَظْهِرْهَا لِنَرَاهَا إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِيمَا ادَّعَيْتَ.

- 107 - فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ - 108 - وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ قال ابن عباس: {فَأَلْقَى عَصَاهُ} فَتَحَوَّلَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً فَاغِرَةً فَاهَا، مُسْرِعَةً إِلَى فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا رَآهَا فِرْعَوْنُ أَنَّهَا قَاصِدَةٌ إِلَيْهِ اقْتَحَمَ عَنْ سَرِيرِهِ، وَاسْتَغَاثَ بِمُوسَى أَنْ يَكُفَّهَا عَنْهُ فَفَعَلَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: تَحَوَّلَتْ حية عظيمة مثل المدينة، قال السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ}: الثعبان الذكر من الحيات، فاتحة فاها، ثُمَّ تَوَجَّهَتْ نَحْوَ فِرْعَوْنَ لِتَأْخُذَهُ، فَلَمَّا رَآهَا ذعر منها ووثب وأحدث، وصاح: يا موسى خذها وأنا أؤمن بِكَ، وَأُرْسِلْ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ، فَأَخَذَهَا مُوسَى عليه السلام فعادت عصا، وَقَوْلُهُ {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ}: أي أخرج يده من درعه بعدما أدخلها فيه، فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ تلألأ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ وَلَا مَرَضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَدْخِلْ -[41]- يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غير سوء} الآية. وقال ابن عباس {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} يَعْنِي مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، ثُمَّ أَعَادَهَا إِلَى كُمِّهِ، فَعَادَتْ إِلَى لَوْنِهَا الأول.

- 109 - قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ - 110 - يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ أَيْ قَالَ الْمَلَأُ وَهُمُ الْجُمْهُورُ وَالسَّادَةُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ مُوَافِقِينَ لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ فيه بعدما رَجَعَ إِلَيْهِ رَوْعُهُ وَاسْتَقَرَّ عَلَى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهِ، بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} فَوَافَقُوهُ، وَقَالُوا كَمَقَالَتِهِ، وَتَشَاوَرُوا فِي أمره كيف يَصْنَعُونَ فِي أَمْرِهِ، وَكَيْفَ تَكُونُ حِيلَتُهُمْ فِي إطفاء نوره، وإخماد كلمته وظهور كذبه وافترائه، وتخوفوا أَنْ يَسْتَمِيلَ النَّاسَ بِسِحْرِهِ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ فَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِظُهُورِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَالَّذِي خَافُوا مِنْهُ وَقَعُوا فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ} فلما تشاوروا في شأنه وائتمروا بما فِيهِ اتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

- 111 - قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ - 112 - يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أَرْجِهْ} أَخِّرْهُ: وَقَالَ قَتَادَةُ: احْبِسْهُ {وَأَرْسِلْ} أَيِ ابعث، {فِي المدآئن} أي في الأقاليم ومدائن مُلْكِكَ {حَاشِرِينَ} أَيْ مَنْ يَحْشُرُ لَكَ السَّحَرَةَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ وَيَجْمَعُهُمْ، وَقَدْ كَانَ السِّحْرُ فِي زَمَانِهِمْ غَالِبًا كَثِيرًا ظَاهِرًا، وَاعْتَقَدَ مَنِ اعتقد منهم، وأوهم منهم أن ما جاء موسى به عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَبِيلِ مَا تُشَعْبِذُهُ سَحَرَتُهُمْ، فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوا بِنَظِيرِ مَا أَرَاهُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، كَمَا أَخْبَرَ تعالى عن فرعون حيث قَالَ: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا موسى، فلنأتينك بسحر مثلهن فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مكانا سوى}.

- 113 - وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ - 114 - قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا تَشَارَطَ عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ وَالسَّحَرَةُ الَّذِينَ اسْتَدْعَاهُمْ لِمُعَارَضَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنْ غَلَبُوا مُوسَى لَيُثِيبَنَّهُمْ وَلَيُعْطِينَّهُمْ عَطَاءً جَزِيلًا، فَوَعَدَهُمْ وَمَنَّاهُمْ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا أَرَادُوا ويجعلهم مِنْ جُلَسَائِهِ وَالْمُقَرِّبِينَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا تَوَثَّقُوا مِنْ فرعون لعنه الله.

- 115 - قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ - 116 - قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وجاؤوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ هَذِهِ مُبَارَزَةٌ مِنَ السَّحَرَةِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِمْ: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} أَيْ قَبْلَكَ، كما قال في الآية الأخرى: {وإما نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى}، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَلْقُواْ أَيْ أنتم أولاً، قيل: الحكمة فِي هَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لِيَرَى النَّاسُ صَنِيعَهُمْ ويتأملوه، فإذا فرغوا من بهرجهم، جاءهم الحق الواضح

الجلي بعد التطلّب لَهُ وَالِانْتِظَارِ مِنْهُمْ لِمَجِيئِهِ، فَيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ وَكَذَا كَانَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} أَيْ خَيَّلُوا إِلَى الْأَبْصَارِ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَارِجِ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا مُجَرَّدَ صَنْعَةٍ وَخَيَالٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى}. قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَلْقَوْا حِبَالًا غِلَاظًا وَخُشُبًا طِوَالًا قَالَ: فَأَقْبَلَتْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى، وقال محمد بن إسحاق: أَلْقَى كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ: فَإِذَا حَيَّاتٌ كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ قَدْ مَلَأَتِ الْوَادِي يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ رَجُلٍ، لَيْسَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَّا وَمَعَهُ حَبْلٌ وَعَصًا، {فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} يَقُولُ: فَرَّقُوهُمْ أي من الفرق، حَتَّى جَعَلَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى، ولهذا قال تعالى: {وجاؤوا بسحر عظيم}.

- 117 - وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ - 118 - فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - 119 - فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ - 20 - وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ - 121 - قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ - 122 - رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُلْقِيَ مَا فِي يَمِينِهِ وَهِيَ عَصَاهُ {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} أَيْ تَأْكُلُ {مَا يَأْفِكُونَ} أَيْ مَا يُلْقُونَهُ وَيُوهِمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ وَهُوَ بَاطِلٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَجَعَلَتْ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنْ حِبَالِهِمْ وَلَا مِنْ خُشُبِهِمْ إِلَّا الْتَقَمَتْهُ، فَعَرَفَتِ السحرة أن هذا شيء من السماء ليس هذا بسحر، فخروا سجداً (قيل: كان رؤساؤهم أربعة، وهم أئمة السحرة، كما ذكره الطبري، والدارقطني، وكان السحرة: سبعين ألفاً، وقيل دون ذلك، ومهما يكن من أمر فقد كان عددهم كبيراً)، وَقَالُوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} قال محمد بن إسحاق: جعلت تتبع تلك الجبال وَالْعِصِيَّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً حَتَّى مَا يُرَى بِالْوَادِي قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ مِمَّا أَلْقَوْا، ثُمَّ أَخَذَهَا مُوسَى فَإِذَا هِيَ عَصًا فِي يَدِهِ كَمَا كَانَتْ، وَوَقَعَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا، قَالُوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} لَوْ كَانَ هَذَا سَاحِرًا مَا غُلِبْنَا. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي برة: أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ، فَأَلْقَى عصاه فإذا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ فَاغِرٌ فَاهُ، يَبْتَلِعُ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةَ عند ذلك سجداً فما رفعوا رؤوسهم حَتَّى رَأَوُا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَثَوَابَ أَهْلِهِمَا.

- 123 - قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - 124 - لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ - 125 - قَالُوا إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ - 126 - وَمَا تَنْقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا تَوَعَّدَ بِهِ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ السَّحَرَةَ لَمَّا آمَنُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَآ أَظْهَرُهُ لِلنَّاسِ مِنْ كَيْدِهِ وَمَكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ منها أهلها} أي إن غلبته لَكُمْ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّمَا كَانَ عَنْ تَشَاوُرٍ مِنْكُمْ وَرِضَا مِنْكُمْ لِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}، وَهُوَ يَعْلَمُ وَكُلُّ مَنْ لَهُ لُبٌّ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمُجَرَّدِ مَا جَاءَ مِنْ مَدْيَنَ دَعَا فِرْعَوْنَ إِلَى اللَّهِ، وَأَظْهَرَ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةَ وَالْحُجَجَ الْقَاطِعَةَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي مَدَائِنِ ملكه وسلطنته، فجمع سحرة متفرقين من سائر الأقاليم ممن اختار وأحضرهم عنده، ووعدهم بالعطاء الجزيل، ولهذا قد كانوا من أَحْرَصَ الناس على التقدم عِنْدَ فِرْعَوْنَ، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَعْرِفُ أَحَدًا مِنْهُمْ وَلَا رَآهُ وَلَا اجْتَمَعَ بِهِ وَفِرْعَوْنُ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا تَسَتُّرًا وَتَدْلِيسًا عَلَى رَعَاعِ دَوْلَتِهِ وَجَهَلَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تعالى: {فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} فَإِنَّ قَوْمًا صَدَّقُوهُ فِي قَوْلِهِ {إِنَّا رَبُّكُمُ الأعلى} من أجهل خلق الله وأضلهم. وَقَوْلُهُ: {لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا} أَيْ تَجْتَمِعُوا أَنْتُمْ وَهُوَ وَتَكُونَ لَكُمْ دَوْلَةٌ وَصَوْلَةٌ وَتُخْرِجُوا مِنْهَا الْأَكَابِرَ وَالرُّؤَسَاءَ، وَتَكُونَ الدَّوْلَةُ وَالتَّصَرُّفُ لَكُمْ {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أَيْ مَا أَصْنَعُ بِكُمْ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا الْوَعِيدَ بِقَوْلِهِ: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خلاف} يعني بقطع يده اليمنى ورجله اليسرى أو بالعكس {ولأصلبنكم أَجْمَعِينَ}، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فِي جُذُوعِ النخل} أَيْ عَلَى الْجُذُوعِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَبَ وَأَوَّلَ مَنْ قَطَعَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ مِنْ خِلَافٍ فِرْعَوْنُ، وَقَوْلُ السَّحَرَةِ: {إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} أَيْ قَدْ تَحَقَّقْنَا أَنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَعَذَابَهُ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِكَ، وَنَكَالُهُ على ما تدعونا إليه اليوم، وَمَا أَكْرَهَتْنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ أَعْظَمُ مِنْ نَكَالِكَ، فَلَنَصْبِرَنَّ الْيَوْمَ عَلَى عَذَابِكَ لِنَخْلُصَ مِنْ عذاب الله، ولهذا قَالُواْ: {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} أَيْ عُمَّنَا بِالصَّبْرِ عَلَى دِينِكَ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ، {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} أَيْ مُتَابِعِينَ لِنَبِيِّكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ: {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحياة الدنيا}، فَكَانُوا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ سَحَرَةً، فَصَارُوا فِي آخره شهداء بررة، قال ابن عباس: كَانُوا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ سَحَرَةً وَفِي آخِرِهِ شهداء.

- 127 - وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ - 128 - قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ - 129 - قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا تَمَالَأَ عليه فرعون وملؤه وما أضمروه لموسى عليه السلام وقومه من الأذى {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} أَيْ لِفِرْعَوْنَ {أتذر موسى وقومه} أي تدعهم {لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} أَيْ يُفْسِدُوا أَهْلَ رَعَيَّتِكَ ويدعوهم إلى عبادة ربهم دونك، {ويذرك وآلهتك} الْوَاوُ هُنَا حَالِيَّةٌ أَيْ أَتَذِرُهُ وَقَوْمَهُ يُفْسِدُونَ فِي الأرض وقد ترك عبادتك؟ وقيل: هي عاطفة أي أتدعهم يصنعون مِنَ الْفَسَادِ مَا قَدْ أَقْرَرْتَهُمْ عَلَيْهِ وَعَلَى ترك آلهتك؟ وقرأ

بعضهم: إلاهتك أي عبادتك (روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما). قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ لِفِرْعَوْنَ إِلَهٌ يَعْبُدُهُ في السر، فَأَجَابَهُمْ فِرْعَوْنُ فِيمَا سَأَلُوهُ بِقَوْلِهِ: «سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ» وَهَذَا أَمْرٌ ثَانٍ بِهَذَا الصَّنِيعِ، وقد كان نكّل بهم قَبْلَ وِلَادَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَذَرًا مِنْ وُجُودِهِ، فَكَانَ خِلَافَ مَا رَامَهُ وَضِدَّ مَا قصده فرعون، وهكذا عومل في صنيعه أيضاً لما أراد إذلال بني إسرائيل وقهرهم، فجاء الأمر على خلاف ما أراد، أعزهم الله وَأَذَلَّهُ وَأَرْغَمَ أَنْفَهُ وَأَغْرَقَهُ وَجُنُودَهُ، وَلَمَّا صَمَّمَ فِرْعَوْنُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْمُسَاءَةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا}، وَوَعْدَهُمْ بِالْعَاقِبَةِ وَأَنَّ الدَّارَ سَتَصِيرُ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الْأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِن قبلأن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ ما جئتنا} أي فعلوا بنا مِثْلُ مَا رَأَيْتَ مِنَ الْهَوَانِ وَالْإِذْلَالِ مِّن قَبْلُ مَا جِئْتَ يَا مُوسَى وَمِنْ بَعْدِ ذلك، فقال منبهاً لهم على حالهم الحاضر وما يصيرون إليه: {عسى رَبُّكُمْ أَن يهلك عدوكم} الآية. وَهَذَا تَحْضِيضٌ لَهُمْ عَلَى الْعَزْمِ عَلَى الشُّكْرِ عِنْدَ حُلُولِ النِّعَمِ وَزَوَالِ النِّقَمِ.

- 130 - وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ - 131 - فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلِ فِرْعَوْنَ} أَيِ اخْتَبَرْنَاهُمْ وَامْتَحَنَّاهُمْ وَابْتَلَيْنَاهُمْ {بالسنين} وهي سنين الْجُوعِ بِسَبَبِ قِلَّةِ الزُّرُوعِ، {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ}، وقال رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ: كَانَتِ النَّخْلَةُ لَا تَحْمِلُ إِلَّا ثَمَرَةً وَاحِدَةً، {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} أَيْ مِنَ الْخِصْبِ وَالرِّزْقِ {قَالُواْ لَنَا هَذِهِ} أَيْ هَذَا لَنَا بِمَا نَسْتَحِقُّهُ {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أَيْ جَدْبٌ وَقَحْطٌ {يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن معه} أي هذا بسببهم وما جاؤوا بِهِ {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}، قَالَ ابن عباس: مصائبهم عند الله، {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} وعنه {ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله} أي مِنْ قِبَلِ اللَّهِ.

- 132 - وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ - 133 - فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ والقُمّل وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُواْ قَوْماً مُجْرِمِينَ - 134 - وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ - 135 - فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَنْ تَمَرُّدِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَعُتُوِّهِمْ، وَعِنَادِهِمْ لِلْحَقِّ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْبَاطِلِ فِي قَوْلِهِمْ:

{مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}، يَقُولُونَ: أَيَّ آيَةٍ جِئْتِنَا بِهَا وَدَلَالَةً وَحَجَّةً أَقَمْتَهَا، رَدَدْنَاهَا فَلَا نَقْبَلُهَا مِنْكَ وَلَا نُؤْمِنُ بِكَ وَلَا بِمَا جِئْتَ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَثْرَةُ الْأَمْطَارِ الْمُغْرِقَةِ الْمُتْلِفَةِ لِلزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ (وَبِهِ قال الضحاك بن مزاحم وهو الأظهر)، وعنه: هو كثرة الموت، وقال مجاهد: {الطوفان} الماء والطاعون، وأما الجراد فمعروف ومشهور، وَهُوَ مَأْكُولٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي أوفى: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وأحمد وابن ماجة عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: الحوت والجراد والكبد والطحال". وقال مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ} قَالَ: كَانَتْ تَأْكُلُ مَسَامِيرَ أَبْوَابِهِمْ وَتَدَعُ الخشب. وروى الحافظ أبو الفرج الحريري قَالَ: سُئِلَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي عَنِ الْجَرَادِ؟ فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ الْجَرَادَةَ فِيهَا خِلْقَةُ سَبْعَةِ جَبَابِرَةٍ رَأَسُهَا رَأْسُ فَرَسٍ، وَعُنُقُهَا عُنُقُ ثَوْرٍ، وَصَدْرُهَا صدر أسد، وجناحها جناح نسر، ورجلاها رجل جَمَلٍ، وَذَنَبُهَا ذَنَبُ حَيَّةٍ، وَبَطْنُهَا بَطْنُ عَقْرَبٍ. وروى ابن ماجه عن أنس وجابر عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَعَا عَلَى الْجَرَادِ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَهْلِكْ كِبَارَهُ، وَاقْتُلْ صِغَارَهُ، وَأَفْسِدْ بَيْضَهُ، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزقنا إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ» فَقَالَ لَهُ جَابِرٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَدْعُو عَلَى جُنْدٍ مِنْ أَجْنَادِ اللَّهِ بِقَطْعِ دَابِرِهِ؟ فَقَالَ: «إِنَّمَا هُوَ نَثْرَةُ حوت في البحر» (أخرجه ابن ماجة في سننه). قال هشام: أَخْبَرَنِي زِيَادٌ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ رَآهُ يَنْثُرُهُ الْحُوتُ. قَالَ مَنْ حَقَّقَ ذَلِكَ: إِنَّ السَّمَكَ إِذَا بَاضَ فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ فَنَضَبَ الْمَاءُ عَنْهُ وَبَدَا لِلشَّمْسِ أَنَّهُ يَفْقِسُ كُلُّهُ جَرَادًا طياراً. وَأَمَّا الْقُمَّلَ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ السُّوسُ الذي يخرج من الحنطة، وعن الحسن: القمل دواب سود صغار، وقال ابن أَسْلَمَ: الْقُمَّلَ الْبَرَاغِيثُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: القُمَّل جَمْعٌ وَاحِدَتُهَا قُمَّلَةٌ وَهِيَ دَابَّةٌ تُشْبِهُ الْقَمْلَ تأكل الإبل فيما بلغني. وعن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا أَتَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِرْعَوْنَ قَالَ لَهُ: أَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَهُوَ الْمَطَرُ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ مِنْهُ شَيْئًا خَافُوا أَنْ يَكُونَ عَذَابًا، فَقَالُوا لِمُوسَى: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عَنَّا الْمَطَرَ فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ، فَدَعَا رَبَّهُ فَلَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَنْبَتَ لَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ شَيْئًا لَمْ يُنْبِتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ من الزروع والثمار وَالْكَلَأِ، فَقَالُوا: هَذَا مَا كُنَّا نَتَمَنَّى، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ فَسَلَّطَهُ عَلَى الْكَلَأِ، فَلَمَّا رَأَوْا أَثَرَهُ فِي الْكَلَأِ عَرَفُوا أَنَّهُ لَا يُبْقِي الزَّرْعَ، فَقَالُوا: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ فيكشف عَنَّا الْجَرَادَ فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمُ الْجَرَادَ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَاسُوا وَأَحْرَزُوا فِي الْبُيُوتِ فَقَالُوا قَدْ أَحْرَزْنَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقُمَّلَ وَهُوَ (السُّوسُ) الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَخْرِجُ عَشْرَةَ أَجْرِبَةٍ إِلَى الرحى فلا يرد منها إلا ثلاثة أقفزة، فقالوا: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عَنَّا الْقُمَّلَ فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ فِرْعَوْنَ إِذْ سَمِعَ نَقِيقَ ضِفْدَعٍ، فَقَالَ لِفِرْعَوْنَ: مَا تَلْقَى أَنْتَ وقومك من هذا؟ فقال: وَمَا عَسَى أَن يَكُونَ كَيْدُ هَذَا؟ فَمَا أَمْسَوْا حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَجْلِسُ إِلَى ذَقْنِهِ في الضفادع، ويهم أن يتكلم فيثب الضِّفْدَعُ فِي فِيهِ، فَقَالُوا لِمُوسَى: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عَنَّا هَذِهِ الضَّفَادِعَ فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا،

وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدَّمَ فَكَانُوا مَا اسْتَقَوْا مِنَ الْأَنْهَارِ وَالْآبَارِ وَمَا كَانَ فِي أَوْعِيَتِهِمْ وَجَدُوهُ دَمًا عَبِيطًا، فَشَكَوَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَقَالُوا: إِنَّا قَدِ ابْتُلِينَا بِالدَّمِ وَلَيْسَ لَنَا شَرَابٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ سَحَرَكُمْ، فَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ سَحَرَنَا وَنَحْنُ لَا نُجِدُ فِي أَوْعِيَتِنَا شَيْئًا مِنَ الْمَاءِ إِلَّا وَجَدْنَاهُ دَمًا عَبِيطًا؟ فَأَتَوْهُ وَقَالُوا: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عنا هذا الدم فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُرْسِلُوا معه بني إسرائيل (روي مثل هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ). وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَرَجَعَ عَدُوُّ اللَّهِ فِرْعَوْنُ حِينَ آمَنَتِ السَّحَرَةُ مَغْلُوبًا مَغْلُولًا، ثُمَّ أَبَى إِلَّا الْإِقَامَةَ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّمَادِي في الشر، فتابع الله عليه الآيات، فأخذه بالسنين وأرسل عَلَيْهِ الطُّوفَانَ، ثُمَّ الْجَرَادَ ثُمَّ الْقُمَّلَ، ثُمَّ الضَّفَادِعَ، ثُمَّ الدَّمَ، آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ، فَأَرْسَلَ الطُّوفَانَ وَهُوَ الْمَاءُ فَفَاضَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، ثُمَّ ركد لا يقدرون أن يحرثوا ولا أن يَعْمَلُوا شَيْئًا حَتَّى جَهِدُوا جُوعًا، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ {قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لنؤمن لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَفُوا لَهُ بِشَيْءٍ مما قالوا، فأرسل عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ فَأَكَلَ الشَّجَرَ فِيمَا بَلَغَنِي، حَتَّى إِنْ كَانَ لَيَأْكُلُ مَسَامِيرَ الْأَبْوَابِ مِنَ الْحَدِيدِ حَتَّى تَقَعَ دُوْرُهُمْ وَمَسَاكِنُهُمْ، فَقَالُوا مِثْلَ مَا قَالُوا، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَفُوا لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقُمَّلُ، فَذُكِرَ لِي أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمِرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى كَثِيبٍ حَتَّى يَضْرِبَهُ بِعَصَاهُ، فَمَشَى إِلَى كَثِيبٍ أَهْيَلَ عَظِيمٍ فَضَرَبَهُ بِهَا فَانْثَالَ عَلَيْهِمْ قُمَّلًا، حَتَّى غَلَبَ عَلَى البيوت والأطعمة ومنعهم النوم والقرار، فلما جهدهم قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالُوا، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَفُوا لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الضَّفَادِعَ فَمَلَأَتِ الْبُيُوتَ وَالْأَطْعِمَةَ وَالْآنِيَةَ، فلا يكشف أحداً ثوباً إِلَّا وَجَدَ فِيهِ الضَّفَادِعَ قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ، فلما جهدهم ذلك قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالُوا فَسَأَلَ رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَفُوا لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدَّمَ فَصَارَتْ مِيَاهُ آلِ فِرْعَوْنَ دَمًا لَا يَسْتَقُونَ مِنْ بِئْرٍ وَلَا نَهْرٍ، وَلَا يَغْتَرِفُونَ مِنْ إِنَاءٍ إِلَّا عَادَ دَمًا عبيطاً.

- 136 - فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ - 137 - وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَمَّا عَتَوَا وَتَمَرَّدُوا مَعَ ابْتِلَائِهِ إِيَّاهُمْ بالآيات المتواترة واحدة بعد واحدة انْتَقَمَ مِنْهُمْ بِإِغْرَاقِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ الْبَحْرُ الَّذِي فَرَقَهُ لِمُوسَى فَجَاوَزَهُ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ مَعَهُ، ثُمَّ وَرَدَهُ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ عَلَى أَثَرِهِمْ، فَلَمَّا اسْتَكْمَلُوا فِيهِ ارْتَطَمَ عَلَيْهِمْ فَغَرِقُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَتَغَافُلِهِمْ عَنْهَا، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْرَثَ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ - وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ - مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين}، وَقَالَ تَعَالَى: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:

{مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} يَعْنِي الشَّامَ، وَقَوْلُهُ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ} قال مجاهد وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض} (وروي أيضاً عن ابن جرير وغيره وهو ظاهر) الآية، وَقَوْلُهُ: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} أي وخربنا ما كان فرعون وقومه يصنعون من العمارات والمزارع {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} يبنون (قاله ابن عباس ومجاهد).

- 138 - وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ - 139 - إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا قَالَهُ جَهَلَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ جَاوَزُوا الْبَحْرَ وَقَدْ رَأَوْا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ مَا رَأَوْا {فَأَتَوْاْ} أَيْ فَمَرُّوا {عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ}. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانُوا مِنَ الكنعانين، قال ابن جرير: وَكَانُوا يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا عَلَى صُوَرِ الْبَقَرِ، فَلِهَذَا أَثَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالُوا: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أَيْ تَجْهَلُونَ عَظَمَةَ اللَّهِ وَجَلَالَهُ وَمَا يَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِيكِ وَالْمَثِيلِ {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} أَيْ هالك {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل حُنَيْنٍ فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا هَذِهِ ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لِلْكَفَّارِ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، وَكَانَ الْكَفَّارُ يَنُوطُونَ سِلَاحَهُمْ بِسِدْرَةٍ وَيَعْكُفُونَ حَوْلَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ. إنكم تركبون سننن من قبلكم" (رواه أحمد وابن أبي حاتم وأورده ابن جرير).

- 140 - قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ - 141 - وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ يُذَكِّرُهُمْ موسى عليه السلام نعم الله عليهم، من أسر فرعون وقهره، وما فِيهِ مِنَ الْهَوَانِ وَالذِّلَّةِ، وَمَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الْعِزَّةِ وَالِاشْتِفَاءِ مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ فِي حَالِ هَوَانِهِ وَهَلَاكِهِ وَغَرَقِهِ وَدَمَارِهِ، وَقَدْ تقدم تفسيرها في البقرة.

- 142 - وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ -[48]- يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى بَنِي إسرائيل بما حصل لهم من الهداية بتكلميه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِعْطَائِهِ التَّوْرَاةَ وَفِيهَا أَحْكَامُهُمْ وَتَفَاصِيلُ شَرْعِهِمْ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَاعَدَ مُوسَى ثلاثين ليلة، فصامها موسى عليه السلام وطواها، فلما تم المقيات اسْتَاكَ بِلِحَاءِ شَجَرَةٍ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُكْمِلَ بِعَشْرٍ أَرْبَعِينَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ مَا هِيَ؟ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الثلاثين هي (ذو القعدة) وعشر من ذي الحجة، روي عن ابن عباس وغيره، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ كَمَّلَ الْمِيقَاتَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَحَصَلَ فِيهِ التَّكْلِيمُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِيهِ أَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دينا}، فلما تم المقيات وعزم موسى على الذهاب إلى الطور استخلف على بني إسائيل أخاه (هارون) ووصاه بِالْإِصْلَاحِ وَعَدَمِ الْإِفْسَادِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ وَتَذْكِيرٌ وَإِلَّا فَهَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيٌّ شَرِيفٌ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، لَهُ وَجَاهَةٌ وَجَلَالَةٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.

- 143 - وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمَّا جاء لمقيات اللَّهِ تَعَالَى وَحَصَلَ لَهُ التَّكْلِيمُ مِنَ اللَّهِ، سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي} وقد أشكل حرف {لن} ههنا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِنَفْيِ التَّأْبِيدِ، فَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ في الدينا وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، كَمَا سَنُورِدُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْكُفَّارِ {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}، وَقِيلَ: إِنَّهَا لِنَفْيِ التَّأْبِيدِ فِي الدُّنْيَا جَمْعًا بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى صِحَّةِ الرُّؤْيَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ هذا الكلام في الْمَقَامِ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار}، وفي الكتب المتقدمة إن الله تعالى قال لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَا مُوسَى إِنَّهُ لَا يَرَانِي حَيٌّ إِلَّا مَاتَ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ تَدَهْدَهَ» وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً}، قَالَ ابن جرير الطبري: «لَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ فَجَعَلَهُ دكاً وأراناً أبو إسماعيل بأصبعه السبابة»، وعن أنَس أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} قَالَ: هَكَذَا بِإِصْبَعِهِ، وَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِصْبَعَهُ الْإِبْهَامَ عَلَى المفصل الأعلى من الخنصر، فساخ الجبل (أخرجه ابن جرير وروى الترمذي وأحمد والحاكم قريباً منه). قال ابن عباس: مَا تَجَلَّى مِنْهُ إِلَّا قَدْرُ الْخِنْصَرِ {جَعَلَهُ دَكًّا} قَالَ: تُرَابًا {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} قَالَ: مغشياً عليه (أخرجه ابن جرير والطبري وهي رواية السدي عن ابن عباس). وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} قَالَ: مَيِّتًا، وقال الثَّوْرِيُّ: سَاخَ الْجَبَلُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى

وقع في البحر فهو يذهب معه. وعن عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ قَالَ: كَانَتِ الْجِبَالُ قَبْلَ أن يتجلى الله لموسى على الطور صماء ملساء، فَلَمَّا تَجَلَّى اللَّهُ لِمُوسَى عَلَى الطُّورِ دُكَّ وتفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف (رواه ابن أبي حاتم). وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}، فَإِنَّهُ أَكْبَرُ مِنْكَ وَأَشَدُّ خَلْقًا {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ} فَنَظَرَ إِلَى الْجَبَلِ لَا يَتَمَالَكُ وَأَقْبَلَ الْجَبَلُ فَدُكَّ عَلَى أَوَّلِهِ، وَرَأَى مُوسَى مَا يَصْنَعُ الْجَبَلُ فَخَرَّ صَعِقًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ {جَعَلَهُ دَكّاً} قَالَ: نَظَرَ اللَّهُ إِلَى الْجَبَلِ فَصَارَ صَحْرَاءَ تراباً، والمعروف أن الصعق هو الغشي ها هنا كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، لَا كَمَا فَسَّرَهُ قَتَادَةُ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا فِي اللُّغَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ} فَإِنَّ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمَوْتِ، كَمَا أَنَّ هُنَا قَرِينَةً تَدُلُّ عَلَى الْغَشْيِ، وَهِيَ قوله: {فَلَمَّآ أَفَاقَ} والإفاقة لا تكون إلاّ عن غَشْيٍّ، {قَالَ سُبْحَانَكَ} تَنْزِيهًا وَتَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا أَنْ يراه أحد في الدُّنْيَا إِلَّا مَاتَ، وَقَوْلُهُ: {تُبْتُ إِلَيْكَ}، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْ أَسْأَلَكَ الرُّؤْيَةَ {وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، واختاره ابن جرير. وفي رواية أخرى عنه {وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}: أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ، قال أبو العالية: أَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِكَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وهذا قول حسن له اتجاه، وقوله: {وَخَرَّ موسى صَعِقاً} روي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ، وقال يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ مِنَ الْأَنْصَارِ لَطَمَ وَجْهِي قَالَ: «ادْعُوهُ»، فَدَعَوْهُ، قَالَ: «لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِالْيَهُودِيِّ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَالَّذِي اصْطَفَى موسى على البشر، قال: وعلى محمد؟ قال: فقلت: وعلى محمد؟ وأخذتني غضبة فلطمته فقال: «لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بصعقة الطور» (رواه البخاري ومسلم وأبو داود). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ، فقال الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ، فَغَضِبَ الْمُسْلِمُ عَلَى الْيَهُودِيِّ فَلَطَمَهُ، فَأَتَى الْيَهُودِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يفيق فإذا بموسى ممسك بِجَانِبِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مِمَّنْ صَعِقَ فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عزَّ وجلَّ» (رواه الشيخان وأحمد). وَالْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى» كَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَلَا عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» قِيلَ: مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ وَقِيلَ: قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: نَهَى أَنْ يُفَضَّلَ بَيْنَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ وَالتَّعَصُّبِ، وَقِيلَ: عَلَى وَجْهِ الْقَوْلِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَالتَّشَهِّي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: «فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الصَّعْقَ يَكُونُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ يَحْصُلُ أَمْرٌ يُصْعَقُونَ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا جَاءَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ وَتَجَلَّى لِلْخَلَائِقِ الْمَلِكُ الدَّيَّانُ كَمَا صعق موسى من تجلي الرب تبارك وتعالى، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قبل أم جوزي بصعقة الطور».

- 144 - قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ - 145 - وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ يذكر تعالى أنه خاطب موسى بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالاته تعالى وبكلامه، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، ولهذا اختصه الله تعالى بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين، وأتباعه أكثر من أتباع سائر المرسلين كُلِّهِمْ، وَبَعْدَهُ فِي الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ (إِبْرَاهِيمُ) الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ (مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ) كَلِيمُ الرحمن عليه السلام، ولهذا قال تَعَالَى لَهُ {فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ} أَيْ مِنَ الكلام وَالْمُنَاجَاةِ {وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ} أَيْ عَلَى ذَلِكَ وَلَا تَطْلُبْ مَا لَا طَاقَةَ لَكَ بِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ كَتَبَ لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شيء، كَتَبَ لَهُ فِيهَا مَوَاعِظَ وَأَحْكَامًا مُفَصَّلَةً، مُبَيِّنَةً لِلْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَلْوَاحُ مُشْتَمِلَةً عَلَى التوراة، وَقِيلَ: الْأَلْوَاحُ أُعْطِيَهَا مُوسَى قَبْلَ التَّوْرَاةِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} أَيْ بِعَزْمٍ عَلَى الطاعة {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا}، قال ابن عباس: أُمِرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَشَدِّ مَا أَمَرَ قَوْمَهُ، وَقَوْلُهُ: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} أَيْ سَتَرَوْنَ عَاقِبَةَ مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِي كَيْفَ يَصِيرُ إِلَى الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ وَالتَّبَابِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّمَا قَالَ: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ: سأريك غداً إلى ما يَصِيرُ إِلَيْهِ حَالُ مَنْ خَالَفَ أَمْرِي عَلَى (وجه التهديد) والوعيد لمن عصاه وخلف أمره (نَقَلَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ)، وقيل: منازل قوم فرعون، والأول أولى لِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ انْفِصَالِ مُوسَى وَقَوْمِهِ عَنْ بِلَادِ مِصْرَ، وَهُوَ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ دُخُولِهِمُ التِّيهَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

- 146 - سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ - 147 - وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أَيْ سَأَمْنَعُ فَهْمَ الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي، قُلُوبَ الْمُتَكَبِّرِينَ عَنْ طَاعَتِي، وَيَتَكَبَّرُونَ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَيْ كَمَا اسْتَكْبَرُوا بِغَيْرِ حَقٍّ أذلهم بِالْجَهْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا يَنَالُ الْعِلْمَ حَيِيٌّ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ، وَقَالَ آخَرُ: مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى ذُلِّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً بَقِيَ فِي ذُلِّ الجهل أبداً، وقال سفيان بن عيينه: أَنْزِعُ عَنْهُمْ فَهْمَ الْقُرْآنِ وَأَصْرِفُهُمْ عَنْ آيَاتِي، {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ

كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم}، وَقَوْلُهُ: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} أَيْ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ سَبِيلُ الرُّشْدِ أَيْ طَرِيقُ النَّجَاةِ لَا يَسْلُكُوهَا، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ طَرِيقُ الْهَلَاكِ وَالضَّلَالِ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، ثُمَّ عَلَّلَ مَصِيرَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أَيْ كَذَّبَتْ بِهَا قُلُوبُهُمْ {وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} أي لا يعملون بما فِيهَا، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أَيْ مَنْ فَعَلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ إِلَى الْمَمَاتِ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَقَوْلُهُ: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}؟ أَيْ إِنَّمَا نُجَازِيهِمْ بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي أَسْلَفُوهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، وَكَمَا تَدِينُ تُدان.

- 148 - وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ - 149 - وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ الَّذِي اتَّخَذَهُ لَهُمُ السَّامِرِيُّ مِنْ حُلِيِّ الْقِبْطِ الَّذِي كَانُوا اسْتَعَارُوهُ مِنْهُمْ، فَشَكَّلَ لَهُمْ مِنْهُ عِجْلًا ثُمَّ أَلْقَى فِيهِ الْقَبْضَةَ مِنَ التُّرَابِ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَصَارَ عِجْلًا جَسَدًا له خوار، والخوار صَوْتُ الْبَقَرِ، وَكَانَ هَذَا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَهَابِ موسى لميقات ربه تعالى، فأعلمه اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ وَهُوَ عَلَى الطُّورِ حَيْثُ يقول إِخْبَارًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السامري}. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْعِجْلِ هَلْ صَارَ لَحْمًا وَدَمًا لَهُ خُوَارٌ، أَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى كَوْنِهِ مَنْ ذَهَبٍ إِلَّا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْهَوَاءُ فَيُصَوِّتُ كَالْبَقَرِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا صَوَّتَ لَهُمُ الْعِجْلُ رقصوا حوله وافتتنوا به وقالوا: {هذا إلهكم وإله موسى فنسي}، قال تَعَالَى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً ولا نفعا}؟ وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا}؟ يُنْكِرُ تعالى عليهم ضلالهم بالعجل، وذهولهم عن خالق السموات وَالْأَرْضِ، وَرَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكِهِ، أَنْ عَبَدُوا مَعَهُ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى خَيْرٍ، وَلَكِنْ غَطَّى عَلَى أَعْيُنِ بَصَائِرِهِمْ عَمَى الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي ويصم» (أخرجه الإمام أحمد وأبو داود). وَقَوْلُهُ {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} أَيْ نَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا {وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أَيْ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِذَنْبِهِمْ وَالْتِجَاءٌ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ.

- 150 - وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قال بئس ما خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ

وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - 151 - قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السلام لما رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ مِنْ مُنَاجَاةِ رَبِّهِ تَعَالَى وهو غضبان أسفاً، والأسف أشد الغضب {قَالَ بئس ما خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي} يَقُولُ: بِئْسَ مَا صَنَعْتُمْ فِي عِبَادَتِكُمُ الْعِجْلَ بَعْدَ أَنْ ذَهَبْتُ وَتَرَكْتُكُمْ، وَقَوْلُهُ: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} يَقُولُ: اسْتَعْجَلْتُمْ مَجِيئِي إِلَيْكُمْ وَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} قِيلَ: كَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ زُمُرُّدٍ، وَقِيلَ: مِنْ ياقوت، وظاهر السياق أنه لما ألقى الأواح غَضَبًا عَلَى قَوْمِهِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ سلفاً وخلفاً، {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} خَوْفًا أَنْ يَكُونَ قَدْ قصَّر فِي نَهْيِهِمْ كَمَا قَالَ في الآية الأخرى: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي، إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إسرئيل وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}، وقال ها هنا: {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ لَا تَسُقْنِي مَسَاقَهُمْ وَلَا تخلطني معهم وإنما قال: {ابن أُمَّ} ليكون أرق وَأَنْجَعَ عِنْدَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ شَقِيقُهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَرَاءَةَ سَاحَةِ هارون عليه السلام، عند ذَلِكَ {قَالَ} مُوسَى {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين}، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَيْسَ الْمُعَايِنُ كَالْمُخْبَرِ، أَخْبَرَهُ رَبُّهُ عزَّ وجلَّ أَنَّ قَوْمَهُ فُتِنُوا بَعْدَهُ فَلَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح» (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس مرفوعاً).

- 152 - إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ - 153 - وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أَمَّا (الْغَضَبُ) الَّذِي نَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْبَلْ لَهُمْ تَوْبَةً حَتَّى قَتَلَ بَعْضُهُمْ بعضاً وَأَمَّا (الذِّلَّةُ) فَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ ذُلًّا وَصَغَارًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} نَائِلَةٌ لكل من افترى بدعة، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ ذُلَّ الْبِدْعَةِ عَلَى أَكْتَافِهِمْ، وَإِنْ هَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَغْلَاتُ وَطَقْطَقَتْ بهم البراذين، وعن أبي قلابة أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} فقال: هِيَ وَاللَّهِ لِكُلِّ مُفْتَرٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ ذَلِيلٌ. ثُمَّ نبَّه تَعَالَى عِبَادَهُ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عِبَادِهِ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ حَتَّى وَلَوْ كَانَ مِنْ كُفْرٍ أَوْ شِرْكٍ أَوْ نِفَاقٍ أَوْ شِقَاقٍ وَلِهَذَا عَقَّبَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ} أَيْ يا محمد يا نبيّ الرحمة {مِن بَعْدِهَا} أَيْ مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الْفِعْلَةِ {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عن ذلك يعني الرَّجُلِ يَزْنِي بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} فَتَلَاهَا عَبْدُ اللَّهِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَلَمْ يأمرهم بها ولم ينههم عنها (رواه ابن أبي حاتم أيضاً).

- 154 - وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَمَّا سَكَتَ} أَيْ سَكَنَ {عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} أَيْ غَضَبُهُ عَلَى قَوْمِهِ، {أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} أَيْ الَّتِي كَانَ أَلْقَاهَا مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ غَيْرَةً لِلَّهِ وغضباً له {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يرهبون} يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا لَمَّا أَلْقَاهَا تَكَسَّرَتْ، ثُمَّ جَمَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ بعض السلف: فوجد فيها هدى ورحمة، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي! قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أمة هم الآخرون السابقون، أي آخرون في الخلق سابقون فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرؤونها رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي! قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ قَتَادَةُ: فَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبَذَ الْأَلْوَاحَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجعلني من أمة أحمد (ذكر هذا الأثر مطولاً عن قتادة ولم يرمز إليه ابن كثير بضعف).

- 155 - وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ - 156 - وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قال السُّدِّيُّ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُ في سبعين من بين إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَوَعْدَهُمْ موعداً، {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} على عينيه ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمْ لِيَعْتَذِرُوا، فَلَمَّا أَتَوْا ذَلِكَ الْمَكَانَ قَالُواْ: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} يَا مُوسَى {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} فَإِنَّكَ قَدْ كَلَّمْتَهُ فَأَرِنَاهُ، {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} فَمَاتُوا، فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَدْعُو اللَّهَ، ويقول: يا رَبِّ مَاذَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أتيتُهم وَقَدْ أَهْلَكْتَ خِيَارَهُمْ؟ {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} (روي مثل هذا عن عباس وبعض السلف). وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: اخْتَارَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعِينَ رَجُلًا: الخِّير فَالْخَيِّرَ، وَقَالَ انْطَلِقُوا إِلَى اللَّهِ فَتُوبُوا إِلَيْهِ مِمَّا صَنَعْتُمْ، وَسَلُوهُ التَّوْبَةَ عَلَى مَنْ تَرَكْتُمْ وَرَاءَكُمْ مِنْ قَوْمِكُمْ، صُومُوا وَتَطَهَّرُوا وَطَهِّرُوا ثِيَابَكُمْ، فَخَرَجَ بِهِمْ إلى (طور سيناء) لمقيات وَقَّتَهُ لَهُ رَبُّهُ، وَكَانَ لَا يَأْتِيهِ إِلَّا بإذن منه وعلم، فقال له السيعون - فِيمَا ذُكِرَ لِي حِينَ صَنَعُوا مَا أَمَرَهُمْ به وخرجوا معه للقاء ربه - لِمُوسَى، اطْلُبْ لَنَا نَسْمَعْ كَلَامَ رَبِّنَا، فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودُ الْغَمَامُ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلَ كُلَّهُ، وَدَنَا مُوسَى فَدَخَلَ فِيهِ وَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوا، وَكَانَ مُوسَى إِذَا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَقَعَ عَلَى جَبْهَتِهِ نُورٌ سَاطِعٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ فَضُرِبَ دُونَهُ بِالْحِجَابِ، وَدَنَا الْقَوْمُ حَتَّى إِذَا دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ، وَقَعُوا سُجُودًا فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، فَلَمَّا فَرَغَ إِلَيْهِ مِنْ أمره وانكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم فقالوا يَا مُوسَى: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى

نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} وَهِيَ الصَّاعِقَةُ فالتقت أَرْوَاحُهُمْ فَمَاتُوا جَمِيعًا، فَقَامَ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} قد سفهوا، أفتهلك من ورائي بني إسرائيل؟ وقال ابن عباس وقتادة: أنهم أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُزَايِلُوا قَوْمَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ وَلَا نَهْوَهُمْ، وَيَتَوَجَّهُ هَذَا الْقَوْلُ لقول مُوسَى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّآ}، وَقَوْلُهُ: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} أَيِ ابْتِلَاؤُكَ وَاخْتِبَارُكَ وامتحانك، يَقُولُ: إِنِ الْأَمْرُ إِلَّا أَمْرُكَ، وَإِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لَكَ فَمَا شِئْتَ كَانَ، تَضِلُّ مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لمن مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، فَالْمُلْكُ كُلُّهُ لَكَ وَالْحُكْمُ كُلُّهُ لَكَ، لَكَ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَقَوْلُهُ: {أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} الْغَفْرُ هُوَ السَّتْرُ وَتَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ، وَالرَّحْمَةُ إِذَا قُرِنَتْ مَعَ الْغَفْرِ يُرَادُ بها أن لا يُوقِعَهُ فِي مِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ: {وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين} أي لا يغفر الذنب إِلَّا أَنْتَ، {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرة} الفصل الأول من الدعاء لدفع الْمَحْذُورِ، وَهَذَا لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ} أَيْ أَوْجِبْ لَنَا وَأَثْبِتْ لَنَا فِيهِمَا حَسَنَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ تفسير الحسنة في سورة البقرة {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} أَيْ تُبْنَا وَرَجَعْنَا وَأَنَبْنَا إِلَيْكَ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ومجاهد وأبو العالية والضحاك والسدي وقتادة وغيرهم). عن علي قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْيَهُودُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: {إِنَّا هدنا إليك} (أخرجه ابن جرير قال ابن كثير: وفيه جابر الجعفي ضعيف).

(تتمة الآية 156) قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ يقول تَعَالَى مُجِيبًا لِمُوسَى فِي قَوْلِهِ: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} الآية، {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شيء} أَيْ أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ وَأَحْكُمُ مَا أُرِيدُ، وَلِيَ الْحِكْمَةُ وَالْعَدْلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} آيَةٌ عَظِيمَةُ الشُّمُولِ وَالْعُمُومِ، كقوله تعالى إِخْبَارًا عَنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَمَنْ حَوْلَهُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: {رَبَّنَا وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً}. عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، ثُمَّ عَقَلَهَا ثُمَّ صَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى رَاحِلَتَهُ، فَأَطْلَقَ عِقَالَهَا، ثُمَّ رَكِبَهَا، ثُمَّ نَادَى: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تُشْرِكْ فِي رَحْمَتِنَا أَحَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَقُولُونَ هَذَا أَضَلُّ أَمْ بَعِيرُهُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «لَقَدْ حَظَرْتَ رَحْمَةً وَاسِعَةً، إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ خَلَقْ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فأنزل رحمة يَتَعَاطَفُ بِهَا الْخَلْقُ جِنُّهَا وَإِنْسُهَا وَبَهَائِمُهَا، وَأَخَّرَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، أَتَقُولُونَ هُوَ أَضَلُّ أم بعيره»؟ رواه أحمد وأبو داود، وقال الإمام أحمد أيضاً عن سلمان عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنْ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَمِنْهَا رَحْمَةٌ يَتَرَاحَمُ بِهَا الْخَلْقُ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوُحُوشُ على أولادها، وأخّر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة». عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلَّهِ مِائَةُ رَحْمَةٍ فقسم منها جزءاً واحداً بين الخلق، به يتراحم الناس والوحش والطير» (رواه ابن ماجة والإمام أحمد). وقوله:

{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الْآيَةَ، يَعْنِي فَسَأُوجِبُ حُصُولَ رَحْمَتِي مِنَّةً مِنِّي وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة}، وَقَوْلُهُ: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أَيْ سَأَجْعَلُهَا لِلْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) أَيْ الشِّرْكَ وَالْعَظَائِمَ مِنَ الذنوب، قوله: {وَيُؤْتُونَ الزكاة} قيل: زكاة النفوس، وقيل: الْأَمْوَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً لَهُمَا، فَإِنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ {وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} أَيْ يصدقون.

- 157 - الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} وَهَذِهِ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، بَشَّرُوا أُمَمَهُمْ بِبَعْثِهِ وَأَمَرُوهُمْ بِمُتَابَعَتِهِ، وَلَمْ تَزَلْ صِفَاتُهُ مَوْجُودَةً فِي كُتُبِهِمْ يَعْرِفُهَا علماؤهم وأحبارهم، كما روى الإمام أحمد عن رجل مِنَ الأعراب، قال: جلبت حلوبة إِلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا فرغت من بيعي قُلْتُ: لَأَلْقِيَنَّ هَذَا الرَّجُلَ، فَلْأَسْمَعَنَّ مِنْهُ قَالَ: فَتَلَقَّانِي بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ، فَتَبِعْتُهُمْ حتى أتوا على رجل من اليهود، ناشر التَّوْرَاةَ يَقْرَؤُهَا يُعَزِّي بِهَا نَفْسَهُ عَنِ ابْنٍ له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ هَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِكَ هَذَا صِفَتِي وَمَخْرَجِي» فَقَالَ: بِرَأْسِهِ هَكَذَا أَيْ لَا، فَقَالَ ابْنُهُ: إِي وَالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ إِنَّا لِنَجِدُ فِي كِتَابِنَا صِفَتَكَ وَمَخْرَجَكَ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أنك رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: «أَقِيمُوا الْيَهُودِيَّ عَنْ أَخِيكُمْ»، ثم تولى كفنه والصلاة عليه (أخرجه أحمد عن الجريري عن أبي صخر العقيلي قال ابن كثير: هَذَا حَدِيثٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصحيح). وروى ابن جرير عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ قَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ كَصِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي ورسولي، اسمك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولن يقبضه الله حتى يتم بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحَ بِهِ قُلُوبًا غُلْفًا، وَآذَانًا صماً، وأعيناً عمياً. وقد رواه البخاري في صحيحه وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ «لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ» وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو ويصفح. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} هَذِهِ صِفَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وهكذا كانت حَالُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِخَيْرٍ وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَنْ شَرٍّ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا} فارعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه، ومن أهم ذله وأعظمه ما بعثه الله بِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، والنهي عن عبادة من سواه. عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَأَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا سمعتم الحديث عني ممّا تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ وَتَرَوْنَ أنه

مِنْكُمْ قَرِيبٌ فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَنْفُرُ مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ بَعِيدٌ فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ منه» (قال ابن كثير: رواه أحمد بإسناد جيد وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ). وعن علي رضي الله عنه قال: «إذا سمعتم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْدَى، وَالَّذِي هو أهنى، والذي هو أتقى» (رواه الإمام أحمد). وفي رواية قَالَ: إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْدَاهُ وَأَهْنَاهُ وَأَتْقَاهُ. وَقَوْلُهُ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات ويحرم عليهم الخبآئث} أي يحل لكم ما كانوا حرموه عن أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَائِلِ وَالِحَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا كَانُوا ضَيَّقُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ويحرم عليهم الخبائث، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالرِّبَا وَمَا كَانُوا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْمَآكِلِ الَّتِي حَرَّمَهَا الله تعالى، قال بعض العلماء: فكل ما أحل الله تعالى من المآكل فَهُوَ طَيِّبٌ نَافِعٌ فِي الْبَدَنِ وَالدِّينِ، وَكُلُّ مَا حَرَّمَهُ فَهُوَ خَبِيثٌ ضَارٌّ فِي الْبَدَنِ والدين، وَقَوْلُهُ: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} أَيْ إِنَّهُ جَاءَ بِالتَّيْسِيرِ وَالسَّمَاحَةِ، كَمَا وَرَدَ الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السمحة» وقال صلى الله عليه وسلم لأميريه (معاذ) و (أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ) لَمَّا بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ: «بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تختلفا»، وقد كانت الأمم الذين من قَبْلَنَا فِي شَرَائِعِهِمْ ضِيقٌ عَلَيْهِمْ، فَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أُمُورَهَا وَسَهَّلَهَا لَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَقُلْ أَوْ تَعْمَلْ» وَقَالَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»، ولهذا أَرْشَدَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَن يَقُولُواْ: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا}، وَقَوْلُهُ: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} أَيْ عَظَّمُوهُ وَوَقَّرُوهُ، {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} أَيِ الْقُرْآنَ وَالْوَحْيَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُبَلِّغًا إِلَى النَّاسِ {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيْ فِي الدنيا والآخرة.

- 158 - قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَالْعَرَبِيِّ وَالْعَجَمِيِّ {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} أَيْ جَمِيعُكُمْ، وَهَذَا مِنْ شَرَفِهِ وعظمته صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى النَّاسِ كافة كما قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}، وقال تعالى: {فإن أسلموا واهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ}، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، كَمَا أَنَّ الْأَحَادِيثَ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ضَرُورَةً أَنَّهُ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ. قَالَ البخاري في تفسير هذه الآية، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُحَاوَرَةٌ فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ، فَانْصَرَفَ عنه عمر مُغْضَبًا فَأَتْبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدَ غَامَرَ» أَيْ غَاضَبَ وَحَاقَدَ، قَالَ: وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صاحبي؟ إني قلت يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ". وقال الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي وَلَا أَقُولُهُ فَخْرًا: بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي يوم القيامة، فهي لمن لا يشرك بالله شيئاً". وقال الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَا يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النار» (رواه أحمد في المسند ومسلم في صحيحه واللفظ لأحمد). وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبل: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ وبعثت إلى الناس عامة" (رواه الشيخان عن جابر بن عبد الله مرفوعاً). وَقَوْلُهُ: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} صِفَةُ اللَّهِ تعالى في قَوْلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ الَّذِي بِيَدِهِ الْمَلِكُ وَالْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ وَلَهُ الْحُكْمُ، وَقَوْلُهُ: {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ} أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ {النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ} أَيْ الَّذِي وُعِدْتُمْ بِهِ وَبُشِّرْتُمْ بِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُ مَنْعُوتٌ بِذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ النبي الأمي، وقوله: {الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ} أي يصدق وله عَمَلُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ {وَاتَّبِعُوهُ} أَيْ اسْلُكُوا طَرِيقَهُ وَاقْتَفُوا أَثَرَهُ {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أَيْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

- 159 - وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مِنْهُمْ طَائِفَةً يَتَّبِعُونَ الْحَقَّ وَيَعْدِلُونَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}، وقال تعالى: {وَإِن مِّن أهل الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم به يؤمنون}، وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أولئك يُؤْمِنُونَ به} الآية.

- 160 - وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ -[58]- وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ - 161 - وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ - 162 - فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا كُلِّهِ في سورة البقرة وهي مدينة وَهَذَا السِّيَاقُ مَكِّيٌّ، وَنَبَّهْنَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هذا والسياق وذاك بما أغنى عن إعادته هنا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

- 163 - وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ هَذَا السِّيَاقُ هُوَ بَسْطٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السبت} الآية، يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، {وَاسْأَلْهُمْ} أَيْ وَاسْأَلْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الَّذِينَ بِحَضْرَتِكَ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِهِمُ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ فَفَاجَأَتْهُمْ نِقْمَتُهُ عَلَى صَنِيعِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ وَاحْتِيَالِهِمْ فِي الْمُخَالَفَةِ، وَحَذِّرْ هَؤُلَاءِ مِنْ كِتْمَانِ صِفَتِكَ الَّتِي يَجِدُونَهَا فِي كُتُبِهِمْ لِئَلَّا يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِإِخْوَانِهِمْ وَسَلَفِهِمْ، وَهَذِهِ الْقَرْيَةُ هِيَ (أَيْلَةُ) وهي على شاطىء بحر القلزم، وقال ابن عباس: هِيَ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا أَيْلَةُ بَيْنَ مَدْيَنَ والطور (وهو قول عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي)، وَقِيلَ: هِيَ مَدْيَنُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عباس، وَقَوْلُهُ: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} أَيْ يَعْتَدُونَ فِيهِ وَيُخَالِفُونَ أَمْرَ اللَّهِ فِيهِ لَهُمْ بِالْوَصَاةِ بِهِ إِذْ ذَاكَ {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً}، قال ابن عباس: أي ظاهرة على الماء، {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم} أَيْ نَخْتَبِرُهُمْ بِإِظْهَارِ السَّمَكِ لَهُمْ عَلَى ظَهْرِ الماء في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائها عنهم في اليوم الحلال لَهُمْ صَيْدُهُ، {كَذَلِكَ نَبْلُوهُم} نَخْتَبِرُهُمْ {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} يَقُولُ: بِفِسْقِهِمْ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَخُرُوجِهِمْ عَنْهَا، وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ احْتَالُوا عَلَى انْتِهَاكِ مَحَارِمِ الله بما تعاطعوا مِنَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي مَعْنَاهَا فِي الْبَاطِنِ تعاطي الحرام، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «لا تركبوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الحيل» (قال ابن كثير: إسناده جيد ورجاله مشهورون ثقات).

- 164 - وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ - 165 - فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ - 166 - فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ أَنَّهُمْ صَارُوا إِلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ ارْتَكَبَتِ الْمَحْذُورَ واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك وَاعْتَزَلَتْهُمْ، وَفِرْقَةٌ سَكَتَتْ فَلَمْ تَفْعَلْ وَلَمْ تَنْهَ وَلَكِنَّهَا قَالَتْ لِلْمُنْكِرَةِ {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} أَيْ لِمَ تنهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم قد هَلَكُوا، وَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ مِنَ اللَّهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي نَهْيِكُمْ إِيَّاهُمْ، قَالَتْ لَهُمُ الْمُنْكِرَةُ {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أَيْ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي لعلهم بهذا الانكار يقون مَا هُمْ فِيهِ وَيَتْرُكُونَهُ، وَيَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ تَائِبِينَ، فَإِذَا تَابُوا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} أي فلما أبى الفاعلون قَبُولَ النَّصِيحَةِ {أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ}، أَيْ ارْتَكَبُوا الْمَعْصِيَةَ {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}، فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمينن وَسَكَتَ عَنِ السَّاكِتِينَ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ مَدْحًا فَيُمْدَحُوا وَلَا ارْتَكَبُوا عَظِيمًا فَيُذَمُّوا، وَمَعَ هَذَا فَقَدَ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِيهِمْ: هَلْ كَانُوا مِنَ الْهَالِكِينَ أَوْ من الناجين؟ على قولين، وقال ابن عباس في الآية: هي قرية على شاطىء الْبَحْرِ بَيْنَ مِصْرَ وَالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهَا أَيْلَةُ، فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحِيتَانَ يَوْمَ سَبْتِهِمْ، وَكَانَتِ الْحِيتَانُ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَإِذَا مَضَى يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا، فَمَضَى عَلَى ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنْ طَائِفَةً مِنْهُمْ أَخَذُوا الْحِيتَانَ يَوْمَ سَبْتِهِمْ فَنَهَتْهُمْ طَائِفَةٌ، وَقَالُوا تَأْخُذُونَهَا وَقَدْ حَرَّمَهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ سَبْتِكُمْ؟ فَلَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا غَيًّا وَعُتُوًّا، وَجَعَلَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى تَنْهَاهُمْ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النُّهَاةِ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ العذاب {لم تعظون قوما الله مُهْلِكُهُمْ}؟ وَكَانُوا أَشَدَّ غَضَبًا لِلَّهِ مِنَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى، فَقَالُوا: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وَكُلٌّ قَدْ كَانُوا يَنْهَوْنَ، فَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ نَجَتِ الطَّائِفَتَانِ اللَّتَانِ قَالُوا: لِمَ تَعِظُونَ قوماً مهلكهم الله وَالَّذِينَ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ، وَأَهْلَكَ اللَّهُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ الَّذِينَ أَخَذُوا الْحِيتَانَ فَجَعَلَهُمْ قِرَدَةً. عن عكرمة عن ابن عباس في الآية قال: ما أدري أنجا الذين قالوا: {لم تعظون قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} أَمْ لَا؟ قَالَ: فَلَمْ أزل به حتى عرّفته أنهم قد نجوا فكساني حلة. وقال عبد الرزاق عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جِئْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَوْمًا وَهُوَ يَبْكِي، وَإِذَا الْمُصْحَفُ فِي حِجْرِهِ، فَأَعْظَمْتُ أن أدنو منه، ثُمَّ لَمْ أَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَقَدَّمْتُ فجلست، فقلت ما يبكيك يا ابن عَبَّاسٍ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ؟ قَالَ: فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الْوَرَقَاتِ قَالَ: وَإِذَا هُوَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، قَالَ: تَعْرِفُ أَيْلَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ كان بها حي من اليهود سِيقَتِ الْحِيتَانُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ ثُمَّ غَاصَتْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَغُوصُوا بَعْدَ كَدٍّ ومؤنة شديدة، كانت تأتيهم يوم سبتهم شرعاً بيضاء سماناً، فَكَانُوا كَذَلِكَ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، ثُمَّ إِنِ الشَّيْطَانَ أَوْحَى إِلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنَّمَا نُهِيتُمْ عَنْ أَكْلِهَا يَوْمَ السَّبْتِ فَخُذُوهَا فِيهِ وَكُلُوهَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ، فَقَالَتْ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وقالت طائفة: بل نهيتهم عَنْ أَكْلِهَا وَأَخْذِهَا وَصَيْدِهَا يَوْمَ السَّبْتِ، فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى جَاءَتِ الْجُمُعَةُ الْمُقْبِلَةُ فَغَدَتْ طَائِفَةٌ بأنفسها وأبنائها ونسائها، واعتزلت طائفة ذات اليمينن وَتَنَحَّتْ، وَاعْتَزَلَتْ طَائِفَةٌ ذَاتَ الْيَسَارِ وَسَكَتَتْ، وَقَالَ الأيمنون: ويلكم، نَنْهَاكُمْ أَنْ تَتَعَرَّضُوا لِعُقُوبَةِ اللَّهِ، وَقَالَ الْأَيْسَرُونَ: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً}؟ قَالَ الْأَيْمَنُونَ: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي ينتهون، أن ينتهوا فهو أحب إلينا أن لا يُصَابُوا وَلَا يَهْلِكُوا، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا فَمَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ، فَمَضَوْا عَلَى الْخَطِيئَةِ، وَقَالَ الْأَيْمَنُونَ فقد فعلتم يا أعداء الله، والله لنأتينكم الأيلة فِي مَدِينَتِكُمْ، وَاللَّهِ مَا نَرَاكُمْ تُصْبِحُونَ حَتَّى يصبحكم الله

بِخَسْفٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ بَعْضِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعَذَابِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ضَرَبُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ ونادوا فلم يجيبوا، فَوَضَعُوا سُلَّمًا وَأَعْلَوْا سُورَ الْمَدِينَةِ رَجُلًا، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ قِرَدَةٌ وَاللَّهِ تعاوى تُعَاوِي، لَهَا أَذْنَابٌ، قَالَ: فَفَتَحُوا فَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ، فَعَرَفَتِ الْقُرُودُ أَنْسَابَهَا مِنَ الْإِنْسِ، وَلَا تَعْرِفُ الْإِنْسُ أَنْسَابَهَا مِنَ الْقِرَدَةِ فَجَعَلَتِ الْقُرُودُ يَأْتِيهَا نسبيها من الإنس، فتشم ثيابه، وتبكي، فيقول: أَلَمْ نَنْهَكُمْ عَنْ كَذَا؟ فَتَقُولُ بِرَأْسِهَا: أَيْ نَعَمْ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} قَالَ: فَأَرَى الَّذِينَ نَهَوْا قَدْ نَجَوْا، وَلَا أَرَى الْآخَرِينَ ذُكِرُوا، وَنَحْنُ نَرَى أَشْيَاءَ نُنْكِرُهَا وَلَا نَقُولُ فِيهَا، قَالَ: قُلْتُ جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ كَرِهُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ وَخَالَفُوهُمْ، وَقَالُوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ؟} قَالَ: فَأَمَرَ لِي فَكُسِيتُ ثَوْبَيْنِ غَلِيظَيْنِ (أخرجه عبد الرزاق عن ابن عباس). (الْقَوْلُ الثَّانِي): أَنَّ السَّاكِتِينَ كَانُوا مِنَ الْهَالِكِينَ، قال محمد بن إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: ابْتَدَعُوا السَّبْتَ، فَابْتُلُوا فِيهِ، فَحَرُمَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْحِيتَانُ، فَكَانُوا إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ شَرَعَتْ لَهُمُ الْحِيتَانُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا فِي الْبَحْرِ، فَإِذَا انْقَضَى السَّبْتُ ذَهَبَتْ فَلَمْ تُرَ حَتَّى السَّبْتِ الْمُقْبِلِ، فَإِذَا جَاءَ السَّبْتُ جَاءَتْ شُرَّعًا فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا كَذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا منهم أخذ حوتاً فحزم أَنْفَهُ ثُمَّ ضَرَبَ لَهُ وَتَدًا فِي السَّاحِلِ وَرَبَطَهُ وَتَرَكَهُ فِي الْمَاءِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أخذه فشواه فأكله، ففعل ذلك وهو يَنْظُرُونَ وَلَا يُنْكِرُونَ وَلَا يَنْهَاهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا عُصْبَةٌ مِنْهُمْ نَهَوْهُ، حَتَّى ظَهَرَ ذَلِكَ فِي الْأَسْوَاقِ فَفُعِلَ عَلَانِيَةً، قَالَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لِلَّذِينَ يَنْهَوْنَهُمْ: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} فقالوا: نسخط أَعْمَالَهُمْ {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ - إِلَى قَوْلِهِ - قِرَدَةً خَاسِئِينَ}. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا أَثْلَاثًا، ثُلْثٌ نَهَوْا، وَثُلْثٌ قَالُوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ}، وَثُلْثٌ أَصْحَابُ الْخَطِيئَةِ، فَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا وَهَلَكَ سائرهم (قال ابن كثير: هذا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَكِنْ رُجُوعَهُ إِلَى قَوْلِ عِكْرِمَةَ فِي نَجَاةِ السَّاكِتِينَ أَوْلَى القول بهذا)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} فِيهِ دَلَالَةٌ بِالْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ بَقُوا نجوا، و {بَئِيسٍ} معناه فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ الشَّدِيدُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَلِيمٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مُوجِعٌ، وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وقوله: {خَاسِئِينَ} أي ذليلن حقيرين مهانين.

- 167 - وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {تَأَذَّنَ} تفعَّل من الأذام أي أعلم، قاله مجاهد، وَفِي قُوَّةِ الْكَلَامِ مَا يُفِيدُ مَعْنَى الْقَسَمِ من هذه اللفظة، ولهذا أتبعت بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} أَيْ عَلَى الْيَهُودِ، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} أَيْ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ أَوَامِرَ اللَّهِ وَشَرْعَهُ وَاحْتِيَالِهِمْ عَلَى الْمَحَارِمِ، وَيُقَالُ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجَ سَبْعَ سِنِينَ، وَقِيلَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ الْخَرَاجَ، ثُمَّ كَانُوا فِي قَهْرِ الْمُلُوكِ من اليونانيين والكشدانيين

والكلدانيين، ثم صاروا إلى قهر النصارى وإذلالهم إياهم وأخذهم مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فكانوا تحت قهره وذمته يؤدون الخراج والجزية. قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: هي المسكنة وأخذ الجزية منهم، وعنه: هي الجزية، والذي يسومهم سوء العذاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ جريج والسدي وقتادة). ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون أنصاراً للدجال فيقتلهم المسلمون مع عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ آخِرَ الزَّمَانِ. وَقَوْلُهُ {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} أَيْ لِمَنْ عَصَاهُ وخالف شَرْعَهُ، {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أَيْ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ، وَهَذَا مِنْ بَابِ قَرْنِ الرَّحْمَةِ مع العقوبة لئلا يحصل اليأس، فيقرن تعالى بين الترعيب وَالتَّرْهِيبِ كَثِيرًا لِتُبْقَى النُّفُوسُ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ.

- 168 - وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ - 169 - فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ - 170 - وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ فَرَّقَهُمْ فِي الْأَرْضِ أمماً أي طوائف وفرقاً، {مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} أَيْ فِيهِمُ الصالح وغير ذلك، كقول الْجِنُّ: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ}، {بَلَوْنَاهُمْ} أَيِ اخْتَبَرْنَاهُمْ {بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} أَيْ بِالرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، والرغبة والرهبة، والعافية والبلاء {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، قَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى} الآية، يَقُولُ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ الْجِيلِ الَّذِينَ فِيهِمُ الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ خَلْفٌ آخَرُ لَا خير فيهم، وقد ورثوا دراسة الْكِتَابِ وَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ النَّصَارَى، وَقَدْ يَكُونُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} أَيْ يَعْتَاضُونَ عَنْ بَذْلِ الْحَقِّ وَنَشْرِهِ بِعَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيُسَوِّفُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَعِدُونَهَا بِالتَّوْبَةِ، وَكُلَّمَا لَاحَ لَهُمْ مِثْلُ الْأَوَّلِ وَقَعُوا فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}. قال مجاهد: لَا يُشْرُفُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا أَخَذُوهُ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا وَيَتَمَنَّوْنَ الْمَغْفِرَةَ، {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}. وقال السدي: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَا يَسْتَقْضُونَ قَاضِيًا إِلَّا ارْتَشَى فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّ خِيَارَهُمُ اجْتَمَعُوا فَأَخَذَ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا اسْتَقْضَى ارْتَشَى فَيُقَالُ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تَرْتَشِي فِي الْحُكْمِ؟ فَيَقُولُ: سَيَغْفِرُ لِي، فَتَطْعَنُ عَلَيْهِ الْبَقِيَّةُ الْآخَرُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا صَنَعَ، فَإِذَا مَاتَ أَوْ نَزَعَ وَجُعِلَ مَكَانَهُ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَطْعَنُ عَلَيْهِ فَيَرْتَشِي، يَقُولُ: وَإِنْ يَأْتِ الْآخَرِينَ عَرْضُ الدُّنْيَا يَأْخُذُوهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إلا الحق} الآية،

يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِي صَنِيعِهِمْ هَذَا مَعَ مَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ لَيُبَيِّنُنَّ الحق للناس ولا يكتمونه، كقوله: {وإذا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تكتمونه} الآية، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ على الله إلا الحق} قال: فيما يتمنون عَلَى اللَّهِ مِنْ غُفْرَانِ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي لَا يَزَالُونَ يَعُودُونَ فِيهَا وَلَا يَتُوبُونَ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تعقلون} يرعبهم فِي جَزِيلِ ثَوَابِهِ وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ وَبِيلِ عِقَابِهِ، أَيْ وَثَوَابِي وَمَا عِنْدِي خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى الْمَحَارِمَ، وَتَرَكَ هَوَى نَفْسِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}؟ يَقُولُ أَفَلَيِسَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اعْتَاضُوا بِعَرَضِ الدُّنْيَا عَمَّا عِنْدِي عَقْلٌ يَرْدَعُهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ، ثُمَّ أَثْنَى تَعَالَى عَلَى مَنْ تَمَسَّكَ بِكِتَابِهِ الَّذِي يَقُودُهُ إِلَى اتِّبَاعِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} أَيْ اعْتَصَمُوا بِهِ وَاقْتَدَوْا بِأَوَامِرِهِ، وَتَرَكُوا زَوَاجِرَهُ {وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}.

- 171 - وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قال ابن عباس {نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} يَقُولُ: رَفَعْنَاهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور} بميثاقهم، رفعته الملائكة فوق رؤوسهم، ثم سار بهم موسى عليه السلام إلى الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعدما سكت عنه الغضب، وأمرهم بالذي أمر الله أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مِنَ الْوَظَائِفِ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ وَأَبَوْا أن يقروا بها حتى نتق الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} قَالَ: رَفَعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فوق رؤوسهم (رواه النسائي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ). وقال أبو بكر بن عبد الله قيل: هَذَا كِتَابٌ أَتَقْبَلُونَهُ بِمَا فِيهِ، فَإِنَّ فِيهِ بَيَانَ مَا أُحِلَّ لَكُمْ وَمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ قَالُوا: انْشُرْ عَلَيْنَا مَا فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ فرائضها وحدودها يسيرة قَبِلْنَاهَا، قَالَ: اقْبَلُوهَا بِمَا فِيهَا، قَالُوا: لَا، حَتَّى نَعْلَمَ مَا فِيهَا كَيْفَ حُدُودُهَا وَفَرَائِضُهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْجَبَلِ فَانْقَلَعَ فَارْتَفَعَ فِي السماء حتى إذا كان بين رؤوسهم وَبَيْنَ السَّمَاءِ، قَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَلَا تَرَوْنَ مَا يَقُولُ رَبِّي عزَّ وجلَّ؟ لَئِنْ لَمْ تَقْبَلُوا التَّوْرَاةَ بِمَا فِيهَا لَأَرْمِيَنَّكُمْ بِهَذَا الْجَبَلِ، قَالَ فَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَالَ: لَمَّا نَظَرُوا إِلَى الْجَبَلِ خَرَّ كُلُّ رَجُلٍ سَاجِدًا عَلَى جاجبه الْأَيْسَرِ، وَنَظَرَ بِعَيْنِهِ الْيُمْنَى إِلَى الْجَبَلِ فَرقاً مِنْ أَنْ يَسْقُطَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ الْيَوْمَ في الأرض يهودي يسجد إلا على جاجبه الْأَيْسَرِ، يَقُولُونَ: هَذِهِ السَّجْدَةُ الَّتِي رُفِعَتْ بِهَا الْعُقُوبَةُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَلَمَّا نَشَرَ الْأَلْوَاحَ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ كَتَبَهُ بِيَدِهِ لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا اهْتَزَّ، فَلَيْسَ الْيَوْمَ يَهُودِيٌّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ تُقْرَأُ عَلَيْهِ التوراة إلا اهتز ونغض لها رأسه: أي حوّل، كما قال تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} (أخرجه سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الله) والله أعلم.

- 172 - وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ

أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ - 173 - أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ - 174 - وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يُرْجَعُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ، مِنْ أَصْلَابِهِمْ، شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى فَطَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وجبلهم عليه، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لخلق الله}، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ». وقال ابن جرير عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سُرَيْعٍ مِنْ بَنِي سَعْدٍ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ غَزَوَاتٍ، قَالَ: فَتَنَاوَلَ الْقَوْمُ الذرية بعدما قَتَلُوا الْمُقَاتَلَةَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «ما بال أقوام يتناولون الذرية»؟ فقال رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسُوا أَبْنَاءَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: «إِنَّ خِيَارَكُمْ أَبْنَاءُ الْمُشْرِكِينَ، أَلَا إِنَّهَا ليست نسمة ولد تُولَدُ إِلَّا وُلِدَتْ عَلَى الْفِطْرَةِ فَمَا تَزَالُ عَلَيْهَا حَتَّى يُبَيِّنَ عَنْهَا لِسَانُهَا، فَأَبَوَاهَا يُهَوِّدَانِهَا وينصرانها»، قَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (رواه ابن جرير وأخرجه أحمد والنسائي) الآية. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي أَخْذِ الذُّرِّيَّةِ مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَمْيِيزِهِمْ إِلَى أَصْحَابِ اليمين وأصحاب الشِّمَالِ، وَفِي بَعْضِهَا الِاسْتِشْهَادُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ ربهم، قال الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ شَيْءٍ أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ قَالَ، فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عليك في ظهر آدم أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَن تُشْرِكَ بِي" (رواه أحمد والشيخان). (حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عَرَفَةَ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا قَالَ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُواْ: بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا - إلى قوله - المبطلون} (رواه أحمد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك). عن أبي مسعود عن جرير قال: مات ابن للضحاك بن مزاحم ابْنُ سِتَّةِ أَيَّامٍ، قَالَ فَقَالَ: يَا جَابِرُ إِذَا أَنْتَ وَضَعْتَ ابْنِي فِي لَحْدِهِ فَأَبْرِزْ وَجْهَهُ وَحُلَّ عَنْهُ عُقَدَهُ، فَإِنَّ ابْنِي مُجْلَسٌ وَمَسْئُولٌ، فَفَعَلْتُ بِهِ الَّذِي أَمَرَ، فَلَمَّا فَرَغْتُ قلت: يرحمك الله عم يسأل ... مَنْ يَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟ قَالَ: يُسْأَلُ عَنِ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فِي صُلْبِ آدَمَ، قُلْتُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ: وَمَا هَذَا الْمِيثَاقُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فِي صُلْبِ آدَمَ؟ قَالَ: حَدَّثَنِي ابن عباس: أَنَّ اللَّهَ مَسَحَ صُلْبَ آدَمَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ كُلَّ نَسَمَةٍ هُوَ خَلَقَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِالْأَرْزَاقِ، ثُمَّ أَعَادَهُمْ فِي صُلْبِهِ، فَلَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى يُولَدَ من أعطى الميثاق يؤمئذ، فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ الْآخِرَ فَوَفَّى بِهِ نَفَعَهُ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ، وَمَنْ أَدْرَكَ الْمِيثَاقَ الْآخِرَ فلم يقرَّ بِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ، وَمَنْ مَاتَ صَغِيرًا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ الْمِيثَاقَ الْآخَرَ مَاتَ على الميثاق الأول على الفطرة.

(حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بين آدم من ظهورهم ذرياتهم وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} الْآيَةَ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْهَا، فَقَالَ: "إِنِ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِأَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أعمال أهل النار فيدخله به النار» (رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن). (حَدِيثٌ آخَرُ): قَالَ التِّرْمِذِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الآية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذَرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بين عينيه، قال: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ، قَالَ: رَبِّ وَكَمْ جَعَلْتَ عُمُرَهُ؟ قَالَ: ستين سنة، قال: أي رب قد وهبت له مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا انْقَضَى عُمُرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ قَالَ: أَوْ لَمْ يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟ قال: فحجد آدَمُ، فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وخطئ آدم فخطئت ذريته" (رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح). (حديث آخر): عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: يا رسول الله أتبدأ بالأعمال أَمْ قَدْ قُضِيَ الْقَضَاءُ؟ قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخَذَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ثُمَّ أَشْهَدُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أَفَاضَ بِهِمْ فِي كَفَّيْهِ، ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ مُيَسَّرُونُ لِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ» (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عن هشام بن حكيم). فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ وَمَيَّزَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ هُنَاكَ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ، فَمَا هُوَ إِلَّا في حديث كلثوم بن جبير عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس، وفي حديث عبد الله بن عمرو، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا مَوْقُوفَانِ لَا مَرْفُوعَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ قَائِلُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِشْهَادِ إِنَّمَا هُوَ فَطْرُهُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، وَمِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سُرَيْعٍ، وقد فسر الحسن الْآيَةَ بِذَلِكَ، قَالُوا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} وَلَمْ يَقُلْ مِنْ آدَمَ، {مِنْ ظُهُورِهِمْ} وَلَمْ يُقَلْ مِنْ ظَهْرِهِ، {ذُرِّيَّاتِهِمْ} أَيْ جَعَلَ نَسْلَهُمْ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ وقرناً بعد قرن، كقوله تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض}، وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض}، وقال: {كم أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قوم آخرين}، ثُمَّ قَالَ: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى}، أَيْ أَوَجَدَهُمْ شَاهِدِينَ بِذَلِكَ قَائِلِينَ لَهُ حَالًا وَقَالَا، وَالشَّهَادَةُ تَارَةً تَكُونُ بِالْقَوْلِ، كقوله: {قَالُواْ شَهِدْنَا

على أنفسنا} الآية، وتارة تكون حالاً، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بالكفر}، أَيْ حَالُهُمْ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ لَا أَنَّهُمْ قائلون ذلك، وكذا قوله تعالى: {وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لشهيد}، كَمَا أَنَّ السُّؤَالَ تَارَةً يَكُونُ بِالْقَالِ وَتَارَةً يكون بالحال، كقوله: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}. قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا هذا أن جعل الْإِشْهَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ، فَلَوْ كَانَ قد وقع هذا كما قال مَنْ قَالَ لَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَذْكُرُهُ لِيُكُونَ حجة عليه، فإن قيل: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بِهِ كَافٍ فِي وُجُودِهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُكَذِّبُونَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ، وَهَذَا جَعَلَ حُجَّةً مستقلة عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا من الإقرار بالتوحيد، ولهذا قال: {أَن تَقُولُواْ} أي لئلا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} أي التَّوْحِيدِ {غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا} الآية.

- 175 - وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ - 176 - وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ - 177 - سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ بلعم بن باعوراء (ذكره عبد الرزاق عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه)؛ وقال قتادة عن ابن عباس: هو (صيفي بن الراهب)، وَقَالَ كَعْبٌ: كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَلْقَاءِ وَكَانَ يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَكْبَرَ، وَكَانَ مُقِيمًا بِبَيْتِ المقدس مع الجبارين، وعن ابن عباس رضي الله عنه: هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، يُقَالُ لَهُ (بَلْعَمُ) آتَاهُ اللَّهُ آيَاتِهِ فَتَرَكَهَا، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ يُقَدِّمُونَهُ فِي الشَّدَائِدِ، بَعَثَهُ نبي الله موسى عليه السلام إِلَى مَلِكِ مَدْيَنَ يَدْعُوهُ إِلَى اللَّهِ فَأَقْطَعُهُ وَأَعْطَاهُ، فَتَبِعَ دِينَهُ وَتَرَكَ دِينَ مُوسَى عَلَيْهِ السلام. وقال سفيان بن عيينه عن ابن عباس: هو بلعم بن باعوراء، وقال ثقيف: هو أمية بن الصلت، وقال عبد الله بن عمرو فِي قَوْلِهِ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آياتنا} الآية، قَالَ: هُوَ صَاحِبُكُمْ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ؛ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْهُ وَهُوَ صَحِيحٌ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ يُشْبِهُهُ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدِ اتَّصَلَ إِلَيْهِ عِلْمٌ كَثِيرٌ مِنْ عِلْمِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعِلْمِهِ. فَإِنَّهُ أَدْرَكَ زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَلَغَتْهُ أَعْلَامُهُ وَآيَاتُهُ وَمُعْجِزَاتُهُ وَظَهَرَتْ لِكُلِّ مَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ، وَمَعَ هَذَا اجْتَمَعَ بِهِ وَلَمْ يَتْبَعْهُ، وَصَارَ إِلَى مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ وَمُنَاصَرَتِهِمْ وَامْتِدَاحِهِمْ، وَرَثَى أَهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَرْثَاةٍ بَلِيغَةٍ قبحه الله. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ مِمَّنْ آمَنَ لِسَانُهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ قَلْبُهُ، فَإِنَّ لَهُ أَشْعَارًا رَبَّانِيَّةً وَحِكَمًا وَفَصَاحَةً، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشْرَحِ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ. والمشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة: إنما هُوَ رَجُلٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي زَمَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا قَالَ ابْنُ

مسعود وغيره من السلف، وكان يعلم اسم الله الأكبر، وكان مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَلَا يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أعطاه إياه، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس: لما نزل موسى بهم يعني الجبارين ومن معه أتاه - يعني بلعم - بَنُو عَمِّهِ وَقَوْمُهُ فَقَالُوا: إِنَّ مُوسَى رَجُلٌ حَدِيدٌ وَمَعَهُ جُنُودٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ إِنْ يَظْهَرْ عَلَيْنَا يُهْلِكْنَا، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يردَّ عَنَّا موسى ومن معه، قال: إني دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ذَهَبَتْ دُنْيَايَ وَآخِرَتِي، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ فَسَلَخَهُ اللَّهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} الآية. وقال السدي: لَمَّا انْقَضَّتِ الْأَرْبَعُونَ سَنَةً الَّتِي قَالَ اللَّهُ: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أربعين سنة}، بعث (يوشع ابن نُونٍ) نَبِيًّا فَدَعَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ نبي، وأن الله أَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ الْجَبَّارِينَ، فَبَايَعُوهُ وَصَدَّقُوهُ، وَانْطَلَقَ إلى رجل من بني إسرائيل يقال له: (بلعام) فكان عَالَمًا يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ الْمَكْتُومَ، فَكَفَرَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَأَتَى الْجَبَّارِينَ، وَقَالَ لَهُمْ: لَا تَرْهَبُوا بني إسرائيل فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون، وقوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ الشيطان} أي استحوذ عليه وعلى أَمْرِهِ فَمَهْمَا أَمَرَهُ امْتَثَلَ وَأَطَاعَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} أَيْ مِنَ الْهَالِكِينَ الْحَائِرَيْنِ الْبَائِرَيْنِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ حديث (حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رداؤه الْإِسْلَامِ، اعْتَرَاهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، انْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ» قَالَ: قُلْتُ يَا نَبِيَّ الله أيها أَوْلَى بِالشِّرْكِ الْمَرْمِيُّ أَوِ الرَّامِي؟ قَالَ: «بَلِ الرامي» (أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي قال ابن كثير: إسناده جيد). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}، يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أَيْ لَرَفَعْنَاهُ مِنَ التَّدَنُّسِ عَنْ قَاذُورَاتِ الدُّنْيَا بِالْآيَاتِ الَّتِي آتَيْنَاهُ إِيَّاهَا، {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} أَيْ مَالَ إلى زينة الحياة الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا، وَأَقْبَلَ عَلَى لَذَّاتِهَا وَنَعِيمِهَا، وَغَرَّتْهُ كَمَا غَرَّتْ غَيْرَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْبَصَائِرِ والنهى. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَالِمٍ عن أَبِي النَّضْرِ: أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَزَلَ فِي أَرْضِ بَنِي كَنْعَانَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ أَتَى قَوْمُ بَلْعَامَ إِلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ هَذَا (مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ) فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَدْ جَاءَ يُخْرِجُنَا مِنْ بِلَادِنَا وَيَقْتُلُنَا وَيُحِلُّهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنَّا قَوْمُكَ، وَلَيْسَ لَنَا مَنْزِلٌ، وَأَنْتَ رَجُلٌ مُجَابُ الدَّعْوَةِ، فَاخْرُجْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ قَالَ: وَيَلْكُمُ نَبِيُّ اللَّهِ معه الملائكة والمؤمنون، كيف أذهب أدعو عليه وَأَنَا أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا أَعْلَمُ؟ قَالُوا لَهُ: مَا لَنَا مِن مَنْزِلٍ، فَلَمْ يَزَالُوا به يرفقونه وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ حَتَّى فَتَنُوهُ، فَافْتُتِنَ؛ فَرَكِبَ حَمَارَةً لَهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْجَبَلِ الَّذِي يُطْلِعُهُ عَلَى عَسْكَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ - وَهُوَ جَبَلُ حُسْبَانَ - فَلَمَّا سَارَ عَلَيْهَا غَيْرَ كَثِيرٍ رَبَضَتْ بِهِ فَنَزَلَ عنها فضربها، حتى إذا أزلقها قَامَتْ فَرَكِبَهَا، فَلَمْ تَسْرِ بِهِ كَثِيرًا حَتَّى ربضت به فضربها، حتى إذا أزلقها أذن لَهَا فَكَلَّمَتْهُ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: وَيْحَكَ يَا بَلْعَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ؟ أَمَا تَرَى الْمَلَائِكَةَ أَمَامِي تردني عن وجهي هذا؟ تذهب إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِتَدْعُوَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ ينزع عنها، فضربها، فَخَلَّى اللَّهُ سَبِيلَهَا، حِينَ فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ حَتَّى إِذَا أَشْرَفَتْ بِهِ عَلَى رَأْسِ حُسْبَانَ عَلَى عَسْكَرِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ جَعَلَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ وَلَا يَدْعُو عَلَيْهِمْ بَشَرٍّ إِلَّا صَرَفَ اللَّهُ لِسَانَهُ إِلَى قَوْمِهِ، وَلَا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله لِسَانَهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ: أَتَدْرِي يَا بَلْعَمُ مَا تَصْنَعُ؟ إِنَّمَا تَدْعُو لَهُمْ وَتَدْعُو عَلَيْنَا، قَالَ: فَهَذَا مَا لَا أَمْلِكُ. هَذَا شَيْءٌ قَدْ غَلَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، قَالَ: وَانْدَلَعَ لِسَانُهُ فَوَقَعَ عَلَى

صَدْرِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ ذَهَبَتْ مِنِّي الْآنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمَكْرُ وَالْحِيلَةُ، فَسَأَمْكُرُ لَكُمْ وَأَحْتَالُ، جَمِّلُوا النِّسَاءَ وَأَعْطُوهُنَّ السِّلَعَ، ثم أرسولهن إِلَى الْعَسْكَرِ يَبِعْنَهَا فِيهِ، وَمُرُوهُنَّ فَلَا تَمْنَعُ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلٍ أَرَادَهَا، فَإِنَّهُمْ إِنْ زنى رجل واحد منهم كُفِيتُمُوهُمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا دَخَلَ النِّسَاءُ الْعَسْكَرَ مَرَّتِ امرأة من الكنعانيين بِرَجُلٍ مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ (زَمْرَى بن شلوم) رأس سبط شمعون بن يعقوب، فلما رآها أعجبته، فقام فأخذ بيدها، وأتى بها موسى وقال: إني سأظنك ستقول: هذا حرام عليك لا تقربها، قال: أجل هي حرام عليك، قال: فوالله لا أطيعك في هذا، فدخل بِهَا قُبَّتَهُ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ الطَّاعُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ (فِنْحَاصُ) صاحب أمر موسى غَائِبًا حِينَ صَنَعَ زَمْرَى بْنُ شَلُومَ مَا صنع، فجاء الطاعون يجوس فيهم، فأخبر الخبر، فأخذ حربته ثُمَّ دَخَلَ الْقُبَّةَ وَهُمَا مُتَضَاجِعَانِ فَانْتَظَمَهُمَا بِحَرْبَتِهِ ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء وَجَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَكَذَا نَفْعَلُ بِمَنْ يَعْصِيكَ، وَرُفِعَ الطَّاعُونُ، فَحُسِبَ مَنْ هَلَكَ مِنْ بَنِي إسرائيل في الطاعون فيما بين أَصَابَ زَمْرَى الْمَرْأَةَ إِلَى أَنْ قَتَلَهُ فِنْحَاصُ، فَوَجَدُوهُ قَدْ هَلَكَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَالْمُقَلِّلُ لَهُمْ يَقُولُ عِشْرُونَ أَلْفًا فِي سَاعَةً مِّنَ النهار، فَفِي بَلْعَامَ بْنِ بَاعُورَاءَ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا - إلى قوله - لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. (رواه محمد بن إسحاق عن سالم أبي النضر وأخرجه ابن جرير بمثله وفيه أن الزنى وقع من عدد من الجند الذين كانوا مع موسى عليه السلام فسلط اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطَّاعُونَ فَمَاتَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا}. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ في معناه، فعلى سياق ابن إسحاق عن سالم أبي النضر أن بلعاماً انْدَلَعَ لِسَانُهُ عَلَى صَدْرِهِ فَتَشْبِيهُهُ بِالْكَلْبِ فِي لَهْثِهِ فِي كِلْتَا حَالَتَيْهِ إِنْ زُجِرَ وَإِنْ ترك ظاهر، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَصَارَ مِثْلَهُ فِي ضَلَالِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ فِيهِ وَعَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ وَعَدَمِ الدعاء، كالكلب في لهيثه فِي حَالَتَيْهِ إِنْ حَمَلْتَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ تَرِكْتَهُ هُوَ يَلْهَثُ فِي الْحَالَيْنِ، فَكَذَلِكَ هَذَا لَا يَنْتَفِعُ بِالْمَوْعِظَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَلَا عَدَمِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يؤمنون}، {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ قَلْبَ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ وَالضَّالِّ ضَعِيفٌ فَارِغٌ مِنَ الْهُدَى فَهُوَ كَثِيرُ الْوَجِيبِ فعبر عن هذا بهذا (نقل نحو هذا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ} أَيْ لَعَلَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعَالِمِينَ بِحَالِ بَلْعَامَ، وَمَا جَرَى لَهُ فِي إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَإِبْعَادِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ، بِسَبَبِ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي تَعْلِيمِهِ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، فِي غَيْرِ طَاعَةِ رَبِّهِ، بَلْ دَعَا بِهِ عَلَى حِزْبِ الرَّحْمَنِ، وَشِعْبِ الْإِيمَانِ، أَتْبَاعِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَلِيمِ اللَّهِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أَيْ فَيَحْذَرُوا أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاهُمْ عِلْمًا وَمَيَّزَهُمْ عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَجَعَلَ بِأَيْدِيهِمْ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِفُونَهَا كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، فَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ وَأَوْلَاهُمْ بِاتِّبَاعِهِ ومناصرته وموازرته كَمَا أَخْبَرَتْهُمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ بِذَلِكَ وَأَمَرَتْهُمْ بِهِ، وَلِهَذَا مَنْ خَالَفَ مِنْهُمْ مَا فِي كِتَابِهِ وَكَتَمَهُ فَلَمْ يُعْلِمْ بِهِ الْعِبَادَ، أَحَلَّ اللَّهُ بِهِ ذُلًّا فِي الدُّنْيَا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: {ساء مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} يقول تعالى: ساء مثلاً الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أَيْ سَاءَ مَثَلُهُمْ أن شبهوا

بِالْكِلَابِ الَّتِي لَا هِمَّةَ لَهَا إِلَّا فِي تَحْصِيلِ أَكْلَةٍ أَوْ شَهْوَةٍ، فَمَنْ خَرَجَ عَنْ حَيِّزِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَأَقْبَلَ عَلَى شَهْوَةِ نَفْسِهِ، وَاتَّبِعْ هَوَاهُ صَارَ شَبِيهًا بِالْكَلْبِ وَبِئْسَ الْمَثَلُ مَثَلُهُ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ منا مَثَلُ السَّوْءِ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ في قيئه» (هو في الصحيحين من حديث ابن عباس). قوله: {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} أَيْ مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، وَلَكِنْ هُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْهُدَى وَطَاعَةِ الْمَوْلَى، إِلَى الرُّكُونِ إِلَى دَارِ الْبِلَى، وَالْإِقْبَالِ عَلَى تَحْصِيلِ اللَّذَّاتِ وَمُوَافَقَةِ الْهَوَى.

- 178 - مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ يَقُولُ تَعَالَى: مَّنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ وَضَلَّ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّهُ تعالى ما شاء وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنُعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهْدِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» (الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ رَوَاهُ الإمام أحمد وأهل السنن).

- 179 - وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغافلون يقول تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} أَيْ خَلَقْنَا وَجَعَلْنَا لِجَهَنَّمَ {كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} أَيْ هَيَّأْنَاهُمْ لَهَا وَبِعَمَلِ أَهْلِهَا يَعْمَلُونَ، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلق عَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ كَوْنِهِمْ، فَكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي كِتَابٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، كَمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قدَّر مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء»، وفي صحيح مسلم أيضاً عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: دُعِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طُوبَى لَهُ، عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أهلها وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ». وَفِي الصحيحين من حديث ابن مسعود: «ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلِكَ، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ»، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الله لَمَّا اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ، وَجَعْلَهُمْ فَرِيقَيْنِ أَصْحَابُ الْيَمِينِ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ قَالَ: «هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَلَا أُبَالِي»، والأحاديث في هذا كثيرة. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ} يَعْنِي لَيْسَ يَنْتَفِعُونَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْجَوَارِحِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ سَبَبًا لِلْهِدَايَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ الله} الآية، وقال تعالى:

{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} هذا في حق المنافقينن وَقَالَ فِي حَقِّ الْكَافِرِينَ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} ولم يكونوا صماً ولا بكماً ولا عُمْيًا إِلَّا عَنِ الْهُدَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ}، وَقَالَ: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ التي فِي الصدور}، وَقَالَ: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ} أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ وَلَا يَعُونَهُ وَلَا يُبْصِرُونَ الْهُدَى، كَالْأَنْعَامِ السَّارِحَةِ الَّتِي لَا تَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الحواس منها إلا في الذي يقيتها في ظاهر الحياة الدنيا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} أَيْ وَمَثَلُهُمْ فِي حَالِ دُعَائِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ كَمَثَلِ الْأَنْعَامِ إِذَا دَعَاهَا رَاعِيهَا لَا تَسْمَعُ إِلَّا صَوْتَهُ، وَلَا تَفْقَهُ مَا يَقُولُ، وَلِهَذَا قَالَ فِي هَؤُلَاءِ: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} أَيْ من الدواب، لأنها قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أنس بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَفْقَهْ كَلَامَهُ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ؛ ولأنها لم تفعل مَا خُلِقَتْ لَهُ إِمَّا بِطَبْعِهَا وَإِمَّا بِتَسْخِيرِهَا بِخِلَافِ الْكَافِرِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا خُلِقَ لِيَعْبُدَ اللَّهَ وَيُوَحِّدَهُ فَكَفَرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ، وَلِهَذَا مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ مِنَ الْبَشَرِ كَانَ أَشْرَفَ مَنْ مِثْلِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي مَعَادِهِ، وَمَنْ كَفَرَ بِهِ مِنَ الْبَشَرِ كَانَتِ الدَّوَابُّ أَتَمَّ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.

- 180 - وَللَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ وِتْرٌ يحب الوتر» (أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجه وزاد الترمذي (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن .. ) وذكر أسماء الله الحسنى). ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى غير منحصرة في تسعة وتسعين، بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا أَصَابَ أحداُ قَطُّ هَمٌّ وَلَا حُزْنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وابن أَمَتِكِ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أن تجعل القرآن العظيم رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه، وأبدل مَكَانَهُ فَرَحًا". فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: «بَلَى يَنْبَغِي لِكُلٍّ مِنْ سَمِعَهَا أن يتعلمها». وذكر ابن الْعَرَبِيِّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي كِتَابِهِ (الْأَحْوَذِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ) أَنَّ بَعْضَهُمْ جَمَعَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَلْفَ اسْمٍ، فالله أعلم. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ}، قَالَ: إِلْحَادُ الْمُلْحِدِينَ أَنْ دعوا اللات في أسماء الله، وقال مجاهد: اشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، وقال قتادة: يلحدون: يشركون في أسمائه. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْإِلْحَادُ: التَّكْذِيبُ، وَأَصِلُ الْإِلْحَادِ فِي كَلَامِ العرب العدول عَنِ الْقَصْدِ، وَالْمَيْلُ وَالْجَوْرُ وَالِانْحِرَافُ، وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ لِانْحِرَافِهِ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ عَنْ سمت الحفر.

- 181 - وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ -[70]- يقول تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ} أي بعض الْأُمَمِ {أُمَّةٌ} قَائِمَةٌ بِالْحَقِّ قَوْلًا وَعَمَلًا {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} يَقُولُونَهُ وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ، {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} يَعْمَلُونَ وَيَقْضُونَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْآثَارِ أَنَّ الْمُرَادَ في الآية هذه الأمة المحمدية، قال قتادة: بلغني أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: "هَذِهِ لَكُمْ، وَقَدْ أُعْطِي الْقَوْمُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِثْلَهَا، {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي قَوْمًا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى ينزل عيسى بن مَرْيَمَ مَتَّى مَا نَزَلَ»، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ الّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ».

- 182 - وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ - 183 - وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ يَقُولُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لا يعلمون} ومعناه أن يَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ وَوُجُوهَ الْمَعَاشِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَغْتَرُّوا بِمَا هُمْ فِيهِ وَيَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مبلسون}، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأُمْلِي لَهُمْ} أَيْ وَسَأُمْلِي لهم أي أُطَوِّلُ لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي قوي سديد.

- 184 - أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ يَقُولُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا {مَا بِصَاحِبِهِمْ} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مِّن جِنَّةٍ} أَيْ لَيْسَ بِهِ جُنُونٌ بَلْ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًا، دَعَا إِلَى حَقٍّ {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أَيْ ظَاهِرٌ لِمَن كَانَ لَهُ لب وقلب يَعْقِلُ بِهِ وَيَعِي بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ}، وقال تعالى: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شديد}، يقول {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ} فِي هَذَا الَّذِي جَاءَكُمْ بِالرِّسَالَةِ من الله أبه حنون أم لا، فإنكم إن فَعَلْتُمْ ذَلِكَ بَانَ لَكُمْ وَظَهَرَ أَنَّهُ رَسُولُ الله حقاً وصدقاً، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى الصَّفَا فَدَعَا قُرَيْشًا، فَجَعَلَ يُفَخِّذُهُمْ فَخِذًا فَخِذًا، يَا بَنِي فُلَانٍ، يَا بَنِي فُلَانٍ، فَحَذَّرَهُمْ بَأْسَ اللَّهِ وَوَقَائِعَ اللَّهِ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمَجْنُونٍ، بَاتَ يُصَوِّتُ إِلَى الصَّبَاحِ أَوْ حَتَّى أَصْبَحَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.

- 185 - أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ يقول تعالى: أَوَلَمْ ينظر هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا فِي مُلْكِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ في السموات والأرض، وفيما خلق مِنْ شَيْءٍ فِيهِمَا، فَيَتَدَبَّرُوا ذَلِكَ وَيَعْتَبِرُوا بِهِ، فيؤمنوا بالله وَيُصَدِّقُوا رَسُولَهُ، وَيُنِيبُوا إِلَى طَاعَتِهِ، وَيَخْلَعُوا الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ، وَيَحْذَرُوا أَنْ تَكُونَ آجَالُهُمْ قَدِ اقْتَرَبَتْ فَيَهْلَكُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَيَصِيرُوا إِلَى عَذَابِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ، وَقَوْلُهُ: {فَبِأَيِّ -[71]- حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} يَقُولُ: فَبِأَيِّ تخويفٍ وتحذيرٍ وَتَرْهِيبٍ بَعْدَ تَحْذِيرِ محمد صلى الله عليه وسلم وَتَرْهِيبِهِ الَّذِي أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يُصَدِّقُونَ إِنْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ؟

- 186 - مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ يَقُولُ تَعَالَى مَّنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَإِنَّهُ لَا يَهْدِيهِ أَحَدٌ، وَلَوْ نَظَرَ لِنَفْسِهِ فِيمَا نَظَرَ فَإِنَّهُ لَا يُجْزَى عَنْهُ شَيْئًا {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شيئا}، وكما قال تعالى: {قُلِ انظروا مَاذَا في السموات وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}.

- 187 - يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} قِيلَ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ، وَقِيلَ فِي نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَكَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ اسْتِبْعَادًا لِوُقُوعِهَا وَتَكْذِيبًا بِوُجُودِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ}، وقوله: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا}. قال ابن عباس: منهاها أَيْ مَتَى مَحَّطُهَا، وَأَيَّانَ آخَرُ مُدَّةِ الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ أَوَّلُ وَقْتِ السَّاعَةِ: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلَّا هُوَ}، أمر تعالى رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُئِلَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ أَنْ يَرُدَّ عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ تعالى، فإنه هو الذي يظهر أمرها، ومتى يكون على التحديد، لا يعلم ذلك إِلَّا هُوَ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ: {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض}. قال قتادة: ثقل علمها على أهل السموات والأرض، قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا جَاءَتْ ثَقُلَتْ عَلَى أَهْلِ السموات وَالْأَرْضِ، يَقُولُ كَبُرَتْ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {ثَقُلَتْ فِي السموات وَالْأَرْضِ} قَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا يُصِيبُهُ مِنْ ضَرَرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ وَقَالَ ابْنُ جريج: إذا جاء انْشَقَّتِ السَّمَاءُ، وَانْتَثَرَتِ النُّجُومُ وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ، وَسُيِّرَتِ الجبال، وكان ما قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ، فَذَلِكَ ثِقْلُهَا، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ رَّحْمَةِ اللَّهُ إِنَّ الْمُرَادَ: ثَقُلَ عِلْمُ وقتها على أهل السموات والأرض كما قال قتادة، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً}، وَلَا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السموات والأرض والله أعلم، وقال السدي: خفيت في السموات وَالْأَرْضِ، فَلَا يَعْلَمُ قِيَامَهَا حِينَ تَقُومُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ السَّاعَةَ تَهِيجُ بِالنَّاسِ، وَالرَّجُلُ يَصْلِحُ حَوْضَهُ وَالرَّجُلُ يَسْقِي مَاشِيَتَهُ، وَالرَّجُلُ يُقِيمُ سِلْعَتَهُ فِي السُّوقِ، ويخفض ميزانه ويرفعه». وقال الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طلعت ورآها النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ

قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا، وَلَتَقُومَنَّ الساعة، وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطونانه، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَالرَّجُلُ قَدْ رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها». وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} اخْتَلَفَ المفسرون في معناه، فقيل: معناه كَأَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مَوَدَّةً كَأَنَّكَ صَدِيقٌ لَهُمْ، قال ابن عباس: لما سأل الناس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ سَأَلُوهُ سُؤَالَ قَوْمٍ كَأَنَّهُمْ يُرُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا حَفِيٌّ بِهِمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَهُ استأثر به فَلَمْ يُطْلِعِ اللَّهُ عَلَيْهَا مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا رَسُولًا، وَقَالَ قَتَادَةُ، قَالَتْ قُرَيْشٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ قَرَابَةً فأسرَّ إِلَيْنَا مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}، والصحيح عن مجاهد قَالَ: اسْتَحْفَيْتَ عَنْهَا السُّؤَالَ حَتَّى عَلِمْتَ وَقْتَهَا، وكذا قال الضحّاك عن ابن عباس: كأنك عالم بها لست تعلمها، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}: كأنك بها عالم وَقَدْ أَخْفَى اللَّهُ عَلِمَهَا عَلَى خَلْقِهِ، وَقَرَأَ: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} الآية؛ وهذا القول أرجح في المقام مِنَ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِهَذَا قَالَ: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، ولهذا جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ ليعلم النَّاسَ أَمْرَ دِينِهِمْ، فَجَلَسَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسَ السَّائِلِ الْمُسْتَرْشِدِ، وسأله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، ثم عن الأديان، ثُمَّ عَنِ الْإِحْسَانِ، ثُمَّ قَالَ: فَمَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» أَيْ لَسْتُ أَعْلَمَ بِهَا مِنْكَ وَلَا أَحَدَ أَعْلَمُ بِهَا مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الْآيَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَسَأَلَهُ عَنْ أشراط الساعة فبين له أشراط الساعة، ثم قال: «في حمس لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ»، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ لَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينِكُمْ» (قال ابن كثير: قد ذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ بِطُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ مِنَ الصِّحَاحِ والحسان والمسانيد في أول شرح البخاري)، وَلَمَّا سَأَلَهُ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ وَنَادَاهُ بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هاؤم» عَلَى نحوٍ مِنْ صَوْتِهِ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْحَكَ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ فَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا»؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صَلَاةٍ ولاصيام، وَلَكِنِّي أَحَبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» فَمَا فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وقال الإمام أحمد عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: "عِلْمُهَا عند ربي عزَّ وجلَّ لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلَّا هُوَ، وَلَكِنْ سَأُخْبِرُكُمْ بمشارطها وَمَا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهَا: إِنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا فِتْنَةً وَهَرْجًا" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْفِتْنَةُ قد عرفناها، فما الهرج، قَالَ: "بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْقَتْلُ"، قَالَ: «وَيُلْقَى بَيْنَ النَّاسِ التَّنَاكُرُ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَعْرِفُ أَحَدًا». وقال وكيع عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ يَذْكُرُ مِنْ شَأْنِ السَّاعَةِ، حَتَّى نَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا} الآية، وهذا إسناد قَوِيٌّ، فَهَذَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ سَيِّدُ الرُّسُلِ وَخَاتَمُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ، وَالْعَاقِبُ وَالْمُقَفَّى وَالْحَاشِرُ، الَّذِي تُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيْهِ مَعَ قَوْلِهِ فِيمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:

«بعثت أنا والساعة كهاتين» وقرن بين إصبيعيه السَّبَّابَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ قَدْ أمره أَنْ يَرُدَّ عِلْمَ وَقْتِ السَّاعَةِ إِلَيْهِ إِذَا سئل عنها، فقال: {قُلْ إِن عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يعلمون}.

- 188 - قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُفَوِّضَ الْأُمُورَ إِلَيْهِ وَأَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الغيب المستقبل وَلَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} الآية، وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير}، قال مجاهد: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَتَى أَمُوتُ لَعَمِلْتُ عَمَلًا صالحاً. وَالْأَحْسَنُ فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابن عباس {لو كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} أَيْ مِنَ الْمَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَعَلِمْتُ إِذَا اشْتَرَيْتُ شَيْئًا مَا أَرْبَحُ فِيهِ، فَلَا أَبِيعُ شَيْئًا إلا ربحت فيه، وَلَا يُصِيبُنِي الْفَقْرُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة، ولوقت الْغَلَاءَ مِنَ الرُّخْصِ، فَاسْتَعْدَدْتُ لَهُ مِنَ الرُّخْصِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} قَالَ: لَاجْتَنَبْتُ مَا يَكُونُ من الشر أن يكون واتقيته، ثم أخبر أنه هُوَ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، أَيْ نَذِيرٌ مِنَ الْعَذَابِ وَبَشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لدا}.

- 189 - هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ - 190 - فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَبِّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ خَلَقَ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ آدم عليه السلام وأنه خلق منه زوجته حَوَّاءَ، ثُمَّ انْتَشَرَ النَّاسُ مِنْهُمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زوجها} الآية، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ليألفها ويسكن بها، كقوله تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} فلا ألفة أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ السَّاحِرَ رُبَّمَا تَوَصَّلَ بِكَيْدِهِ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا} أَيْ وَطِئَهَا {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً} وذلك أول الحمل فلا تَجِدُ الْمَرْأَةُ لَهُ أَلَمًا إِنَّمَا هِيَ النُّطْفَةُ ثُمَّ الْعَلَقَةُ ثُمَّ الْمُضْغَةُ، وَقَوْلُهُ: {فَمَرَّتْ بِهِ}، قال مجاهد: استمرت بحمله، وَقَالَ أَيُّوبُ سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِهِ: {فَمَرَّتْ بِهِ} قَالَ: لَوْ كُنْتَ رَجُلًا عَرَبِيًّا لَعَرَفْتَ مَا هِيَ، إِنَّمَا هِيَ: فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ، وَقَالَ قتادة {فَمَرَّتْ بِهِ}: استبان حملها، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اسْتَمَرَّتْ بِهِ فَشَكَّتْ أَحَمَلَتْ أَمْ لَا، {فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ} أَيْ صَارَتْ ذَاتَ ثِقَلٍ بِحَمْلِهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَبِرَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا، {دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} أَيْ بَشَرًا سَوِيًّا،

كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَشْفَقَا أن يكون بهيمة. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَئِنْ آتَيْتِنَا غُلَامًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ {فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. ذكر المفسرون ههنا آثاراً وأحاديث سأوردها وأبين ما فيها. قال الإمام أحمد في مسنده عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سُمْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لما وَلَدَتْ حَوَّاءُ طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ، وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَقَالَ: سَمِّيهِ (عَبْدَ الْحَارِثِ) فَإِنَّهُ يَعِيشُ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَعَاشَ، وَكَانَ ذلك من وحي الشيطان وأمره" (رواه أحمد والترمذي والحاكم في المستدرك قال ابن كثير: وهذا الحديث معلول وقد رجّح رحمه الله كونه موقوفاً على الصحابي وبيّن أنه غير مرفوع وضعّف ما ورد من آثار). قال ابن جرير عَنِ الْحَسَنِ {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا} قَالَ: كَانَ هَذَا فِي بَعْضِ أَهْلِ الْمِلَلِ ولم يكن بآدم، وعن قَتَادَةَ قَالَ كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى رَزَقَهُمُ اللَّهُ أَوْلَادًا فَهَوَّدُوا وَنَصَّرُوا، وَهَذِهِ أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله عنه أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ التَّفَاسِيرِ، وَأَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا عَدَلَ عنه هو ولا غيره، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابين وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ حَوَّاءُ تَلِدُ لِآدَمَ عليه السلام أولاداً فيعبدهم لله ويسميهم عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس فقال: إنكما لو سميتماه بِغَيْرِ الَّذِي تُسَمِّيَانِهِ بِهِ لَعَاشَ، قَالَ فَوَلَدَتْ لَهُ رَجُلًا فَسَمَّاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَفِيهِ أَنْزَلَ الله يقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ - إِلَى قَوْلِهِ - جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا} إِلَى آخر الآية، وعنه قال: أتاهما الشَّيْطَانُ فَقَالَ: هَلْ تَدْرِيَانِ مَا يُولَدُ لَكُمَا! أم هل تدريان ما يكون أبهيمة أم لا؟ وزين لهما الباطل، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فَمَاتَا، فَقَالَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ: إِنَّكُمَا إِنْ لَمْ تُسَمِّيَاهُ بِي لَمْ يَخْرُجْ سَوِيًّا وَمَاتَ، كَمَا مَاتَ الأول، فَسَمَّيَا وَلَدَهُمَا عَبْدَ الْحَارِثِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا} الآية. وروى ابن أبي حاتم عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ أَتَاهَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهَا: أَتُطِيعِينِي وَيَسْلَمُ لَكِ وَلَدُكِ؟ سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَلَمْ تَفْعَلْ، فَوَلَدَتْ فَمَاتَ، ثُمَّ حَمَلَتْ فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذلك فلم تفعل، ثم حملت الثالثة فَجَاءَهَا فَقَالَ: إِنْ تُطِيعِينِي يَسْلَمْ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ يكون بهيمة فهيبها فَأَطَاعَا، وَهَذِهِ الْآثَارُ يَظْهَرُ عَلَيْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أنها من آثار أهل الكتاب، وَأَمَّا نَحْنُ فَعَلَى مَذْهَبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ الله في هذا، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ (آدَمُ وَحَوَّاءُ) وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ذريته، ولهذا قال الله: {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فذكر آدم وحواء أولاً كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس كقوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ} الآية، ومعلوم أن المصابيح وهي النجوم التي زينت بها السماء ليست هي التي يرمى بها، وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها، ولهذا نظائر في القرآن، والله أعلم.

- 191 - أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ - 192 - وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ - 193 - وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ - 194 - إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ

مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ - 195 - أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ - 196 - إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ - 197 - وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ - 198 - وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ هَذَا إِنْكَارٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ مَرْبُوبَةٌ مَصْنُوعَةٌ، لَا تَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ الْأَمْرِ، وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تبصر وَلَا تَنْتَصِرُ لِعَابِدِيهَا، بَلْ هِيَ جَمَادٌ لَا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر عابدوها أَكَمُلُ مِنْهَا بِسَمْعِهِمْ وَبَصَرِهِمْ وَبَطْشِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أَيْ أَتُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ مَا لَا يخلق شيئاً ولا يستطيع ذلك، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يستنفذوه مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب} أخبر تعالى أن آلهتهم لو اجتمعوا كلهم ما استطاعوا خلق ذبابة، بل لو سلبتهم الذُّبَابَةُ شَيْئًا مِنْ حَقِيرِ الْمَطَاعِمِ وَطَارَتْ لَمَا استطاعوا إنقاذه مِنْهَا، فَمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَحَالُهُ كَيْفَ يُعْبَدُ لِيَرْزُقَ وَيُسْتَنْصَرُ؟ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يخلقون} أي بل هم مخلقون مصنوعون كما قال الخليل: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} الآية، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} أَيْ لِعَابِدِيهِمْ {وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} يَعْنِي وَلَا لأنفسهم ينصرون ممن أرادهم بسوء، كما قال الْخَلِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكْسِرُ أَصْنَامَ قَوْمِهِ وَيُهِينُهَا غَايَةَ الْإِهَانَةِ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُ في قوله: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين}، وقال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جذادا إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}، وَكَمَا كَانَ (مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ) و (معاذ بْنُ جَبَلٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَا شَابَّيْنِ قَدْ أَسْلَمَا لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَكَانَا يَعْدُوَانِ فِي اللَّيْلِ عَلَى أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ يَكْسِرَانِهَا وَيُتْلِفَانِهَا وَيَتَّخِذَانِهَا حطباً للأرامل، ليعتبر قومهما بذلك، ليرتأوا لأنفسهمن فَكَانَ لِعَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَكَانَ سَيِّدًا فِي قومه، صَنَمٌ يَعْبُدُهُ وَيُطَيِّبُهُ، فَكَانَا يَجِيئَانِ فِي اللَّيْلِ فَيُنَكِّسَانِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَيُلَطِّخَانِهِ بِالْعَذِرَةِ، فَيَجِيءُ (عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ) فَيَرَى مَا صُنِعَ بِهِ، فَيَغْسِلُهُ وَيُطَيِّبُهُ وَيَضَعُ عِنْدَهُ سَيْفًا وَيَقُولُ لَهُ: انْتَصَرَ، ثُمَّ يَعُودَانِ لِمِثْلِ ذَلِكَ وَيَعُودُ إِلَى صَنِيعِهِ أيضاً، حتى أخذاه مرة فقرناه مع كَلْبٍ مَيِّتٍ، وَدَلَّيَاهُ فِي حَبْلٍ فِي بِئْرٍ هُنَاكَ، فَلَمَّا جَاءَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَرَأَى ذَلِكَ نَظَرَ، فَعَلِمَ أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ بَاطِلٌ وَقَالَ: تَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا مُسْتَدَنْ * لَمْ تَكُ وَالْكَلْبُ جَمِيعًا فِي قَرَنْ ثُمَّ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ. وَقَوْلُهُ: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ} الآية، يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ دُعَاءَ مَنْ دَعَاهَا، وَسَوَاءٌ لَدَيْهَا مَنْ دَعَاهَا وَمَنْ دَحَاهَا كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عنك شيئاً}، ثم ذكر

تَعَالَى أَنَّهَا عَبِيدٌ مِثْلَ عَابِدِيهَا أَيْ مَخْلُوقَاتٌ مثلهم، بل الأناس أَكْمَلُ مِنْهَا، لِأَنَّهَا تَسْمَعُ وَتُبْصِرُ وَتَبْطِشُ، وَتِلْكَ لا تفعل شيئاً من ذلك. وقوله تعالى: {قل ادعوا شُرَكَآءَكُمْ} الآية، أَيِ اسْتَنْصِرُوا بِهَا عليَّ فَلَا تُؤَخِّرُونِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَاجْهَدُوا جُهْدَكُمْ، {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} أَيِ اللَّهُ حسبي وكافيني وَهُوَ نَصِيرِي وَعَلَيْهِ مُتَّكَلِي وَإِلَيْهِ أَلْجَأُ، وَهُوَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ صَالِحٍ بَعْدِي، وَهَذَا كَمَا قَالَ هُودٌ عَلَيْهِ السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي على صراط مستقيم}، وكقول الخليل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} الْآيَاتِ، وَكَقَوْلِهِ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: {إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ؛ مُؤَكِّدٌ لِمَا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنَّهُ بِصِيغَةِ الخطاب وذاك بِصِيغَةِ الْغَيْبَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}، وَقَوْلُهُ: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دعاءكم} الآية، وَقَوْلُهُ: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}، إِنَّمَا قَالَ: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} أَيْ يُقَابِلُونَكَ بِعُيُونٍ مُصَوَّرَةٍ كَأَنَّهَا نَاظِرَةٌ وَهِيَ جَمَادٌ، وَلِهَذَا عَامَلَهُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ لِأَنَّهَا عَلَى صُوَرٍ مُصَوَّرَةٍ كالإنسان وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، فَعَبَّرَ عَنْهَا بِضَمِيرِ مَنْ يعقل، وقال السدي: المراد بهذا المشركون، والأول أولى، وهو اختيار ابن جرير.

- 199 - خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ - 200 - وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ قال ابن عباس {خُذِ الْعَفْوَ} يَعْنِي خُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَمَا أَتَوْكَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَخُذْهُ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بَرَاءَةٌ بِفَرَائِضَ الصَّدَقَاتِ وَتَفْصِيلِهَا وَمَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ الصَّدَقَاتُ، وقال الضحاك عن ابن عباس: أنفق الفضل، وقال عبد الرحمن بن أسلم: أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، وَاخْتَارَ هَذَا القول ابن جرير، وقال غير واحد فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ} قَالَ: مِنْ أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: إِنَّمَا أَنَزَلَ {خُذِ الْعَفْوَ} مِنْ أخلاق الناس. وفي رواية عن أبي الزُّبَيْرِ: {خُذِ الْعَفْوَ} قَالَ: مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَاللَّهِ لَآخُذَنَّهُ مِنْهُمْ مَا صَحِبْتُهُمْ، وَهَذَا أَشْهَرُ الأقوال، ويشهد له ما روي عن أبيّ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَلَى نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟» قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلَ مَنْ قطعك (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ). وَقَالَ الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَابْتَدَأْتُهُ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبَرْنِي بِفَوَاضِلِ الْأَعْمَالِ، فَقَالَ: «يَا عُقْبَةُ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَعْرِضْ عمن ظلمك».

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ قَوْلُهُ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} العرف: المعروف (قول البخاري العرف: المعروف نص عليه عروة السدي وقتادة وابن جرير). عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ (عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ) فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ (الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ) وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أصحاب مجالس عمر ومشاوراته كهولاً كانوا أو شباناً، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أَخِي لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ، فَأَذِنَ لَهُ عمر، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِي يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى همَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ المؤمنين إن الله تعالى قال لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ (أخرجه البخاري في صحيحه). وقال ابن أبي حاتم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ: أَنَّ (سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) مَرَّ عَلَى عِيرٍ لِأَهْلِ الشَّامِ وَفِيهَا جَرَسٌ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا مَنْهِيُّ عَنْهُ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنْكَ، إِنَّمَا يُكْرَهُ الْجُلْجُلُ الْكَبِيرُ، فَأَمَّا مِثْلُ هَذَا فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَسَكَتَ سَالِمٌ وَقَالَ: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين}، وقال ابن جرير: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ، وَبِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ تَأْدِيبٌ لِخُلُقِهِ بِاحْتِمَالِ مَنْ ظَلَمَهُمْ وَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ، لَا بِالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ جَهِلَ الْحَقَّ الْوَاجِبَ مَنْ حَقَّ اللَّهِ وَلَا بِالصَّفْحِ عَمَّنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَجَهِلَ وَحْدَانِيَّتَهُ، وَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ حَرْبٌ. وَقَالَ قتادة في الآية: هذه أخلاق أمر الله بِهَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَّهُ عَلَيْهَا. وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ هَذَا الْمَعْنَى؛ فسكبه فِي بَيْتَيْنِ فِيهِمَا جِنَاسٌ فَقَالَ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِعُرْفٍ كَمَا * أُمِرْتَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينْ ولنْ فِي الْكَلَامِ لِكُلِّ الْأَنَامِ * فَمُسْتَحْسَنٌ مِنْ ذَوِي الْجَاهِ لِينْ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: النَّاسُ رَجُلَانِ: فَرَجُلٌ مُحْسِنٌ فَخُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ إِحْسَانِهِ، وَلَا تُكَلِّفْهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ وَلَا مَا يُحْرِجُهُ، وَإِمَّا مُسِيءٌ فَمُرْهُ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ تَمَادَى عَلَى ضَلَالِهِ وَاسْتَعْصَى عَلَيْكَ وَاسْتَمَرَّ فِي جَهْلِهِ فَأَعْرِضْ عَنْهُ فَلَعَلَّ ذَلِكَ أَنْ يَرُدَّ كَيْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يصفون}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَيْضًا: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فَهَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي الْأَعْرَافِ والمؤمنون وحم السَّجْدَةِ لَا رَابِعَ لَهُنَّ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يُرْشِدُ فِيهِنَّ إِلَى مُعَامَلَةِ الْعَاصِي مِنَ الْإِنْسِ بِالْمَعْرُوفِ بالتي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُفُّهُ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ التَّمَرُّدِ بِإِذْنِهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، ثُمَّ يُرْشِدُ تَعَالَى إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنْ شَيْطَانِ الْجَانِّ، فَإِنَّهُ لَا يَكُفُّهُ عَنْكَ الْإِحْسَانُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ هَلَاكَكَ وَدَمَارَكَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّهُ عدو مبين لك ولأبيك مِن قَبْلِكَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} وَإِمَّا يُغْضِبَنَّكَ مِنَ الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهل ويحملك على مجازاته {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} يَقُولُ: فَاسْتَجِرْ بِاللَّهِ مِنْ نَزْغِهِ، {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سَمِيعٌ لِجَهْلِ الْجَاهِلِ عَلَيْكَ وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنْ نَزْغِهِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ خَلْقِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، عَلِيمٌ بِمَا يُذْهِبُ عَنْكَ نَزْغَ الشَّيْطَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ خلقه. وقد تقدم

فِي أَوَّلِ الِاسْتِعَاذَةِ حَدِيثُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَسَابَّا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لِأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" الحديث. وَأَصْلُ النَّزْغِ: الْفَسَادُ إِمَّا بِالْغَضَبِ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشيطان ينزغ بينهم}، والعياذ: الِالْتِجَاءُ وَالِاسْتِنَادُ وَالِاسْتِجَارَةُ مِنَ الشَّرِّ، وَأَمَّا الْمَلَاذُ ففي طلب الخير، كما قال الحسن بن هانئ: يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ * وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أُحَاذِرُهُ لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ * وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جابره وقد قدمنا أحاديث في الِاسْتِعَاذَةِ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ها هنا.

- 201 - إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ - 202 - وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ أَطَاعُوهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَرَكُوا مَا عَنْهُ زَجَرَ، أَنَّهُمْ {إِذَا مَسَّهُمْ} أي أصابهم {طَائِفٌ}، منهم من فسره بِالْغَضَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَسِّ الشَّيْطَانِ بِالصَّرَعِ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالْهَمِّ بِالذَّنْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِإِصَابَةِ الذَّنْبِ، وَقَوْلُهُ: {تَذَكَّرُواْ} أَيْ عِقَابَ اللَّهِ وَجَزِيلَ ثَوَابِهِ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، فَتَابُوا وَأَنَابُوا وَاسْتَعَاذُوا بِاللَّهِ وَرَجَعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ، {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} أَيْ قَدِ اسْتَقَامُوا وَصَحَوْا مما كانوا فيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَا طَيْفٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُصْرَعُ، وَأَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَنِي، فقال: «إن شئت دعوت لك أَنْ يَشْفِيَكَ، وَإِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ»، فَقَالَتْ: بَلْ أَصْبِرُ وَلِيَ الْجَنَّةُ، وَلَكِنِ ادْعُ الله لي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا فَكَانَتْ لَا تتكشف (رواه ابن مردويه وغير واحد من أهل السنن وأخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم). وروي أَنَّ شَابًّا كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي الْمَسْجِدِ فَهَوِيَتْهُ امرأة فدعته إلى نفسها، فما زَالَتْ بِهِ حَتَّى كَادَ يَدْخُلُ مَعَهَا الْمَنْزِلَ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} فَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَأَعَادَهَا، فَمَاتَ، فَجَاءَ عُمَرُ فَعَزَّى فِيهِ أَبَاهُ، وَكَانَ قَدْ دُفِنَ لَيْلًا فَذَهَبَ فَصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ بِمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ نَادَاهُ عُمَرُ فَقَالَ: يَا فتى {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}، فأجابه الْفَتَى مِنْ دَاخِلِ الْقَبْرِ: يَا عُمَرُ قَدْ أعطانيهما (أخرجه الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عَمْرِو بْنِ جامع من تاريخه) رَبِّي عزَّ وجلَّ فِي الْجَنَّةِ مَرَّتَيْنِ. وَقَوْلُهُ تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يمدونهم} أَيْ وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ مِنَ الْإِنْسِ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين} وَهُمْ أَتْبَاعُهُمْ وَالْمُسْتَمِعُونَ لَهُمُ، الْقَابِلُونَ لِأَوَامِرِهِمْ {يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي} أي تساعدهم الشياطين على المعاصي وتسهلها عليهم وتحسنها لهم، الْمَدُّ: الزِّيَادَةُ، يَعْنِي يَزِيدُونَهُمْ فِي الْغَيِّ يَعْنِي الْجَهْلَ وَالسَّفَهَ، {ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} قِيلَ مَعْنَاهُ إن الشياطين تمد الإنس لَا تُقْصِرُ فِي أَعْمَالِهِمْ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ ابن عباس: لا الإنس يقصرون عما يعملون ولا الشياطين تمسك عنهم، وقيل: معناه كما رواه العرفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ}،

قَالَ: هُمُ الْجِنُّ يُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ، يَقُولُ لَا يَسْأَمُونَ، وكذا قال السدي وغيرهن يَعْنِي إِنَّ الشَّيَاطِينَ يَمُدُّونَ أَوْلِيَاءَهُمْ مِنَ الْإِنْسِ، وَلَا تَسْأَمُ مِنْ إِمْدَادِهِمْ فِي الشَّرِّ، لِأَنَّ ذلك طبيعة وسجية، {لاَ يُقْصِرُونَ} لَا تَفْتُرُ فِيهِ وَلَا تَبْطُلُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: تُزْعِجُهُمْ إِلَى الْمَعَاصِي إزعاجاً.

- 203 - وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يؤمنون قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} يَقُولُ: لَوْلَا تَلَقَّيْتَهَا وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى لولا أحدثتها فأنشأتها، وقال: لولا اقتضيتَّها، قالوا: تخرجها عن نفسك (وهو قول قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ)، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عباس {لَوْلاَ اجتبيتها} يقول: تلقيتها من الله تعالى: وَقَالَ الضَّحَّاكُ {لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} يَقُولُ: لَوْلَا أَخَذْتَهَا أَنْتَ فَجِئْتَ بِهَا مِنَ السَّمَاءِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ} أَيْ مُعْجِزَةٍ وخارق، كقوله تَعَالَى: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خاضعين}، يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تُجْهِدُ نَفْسَكَ فِي طَلَبِ الْآيَاتِ مِنَ اللَّهِ حَتَّى نَرَاهَا وَنُؤْمِنَ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: {قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} أَيْ أَنَا لَا أَتَقَدَّمُ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا أَمَرَنِي به فأمتثل ما يوحيه إلي، فإن بعثت آية قلتها، وَإِنَّ مَنَعَهَا لَمْ أَسْأَلْهُ ابْتِدَاءَ إِيَّاهَا، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لِي فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ، ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ وَأَبْيَنُ الدَّلَالَاتِ وَأَصْدَقُ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ، فَقَالَ: {هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

- 204 - وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْقُرْآنَ بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ أَمَرَ تَعَالَى بِالْإِنْصَاتِ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ إِعْظَامًا لَهُ وَاحْتِرَامًا، لَا كَمَا كَانَ يَعْتَمِدُهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الْمُشْرِكُونَ فِي قَوْلِهِمْ: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} الآية، وَلَكِنْ يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ إِذَا جهر الإمام بالقراءة، كما روي عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قرأ فأنصتوا» (أخرجه مسلم في صحيحه ورواه أهل السنن). وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فاستمعوا لَهُ} والآية الأخرى أمروا بالإنصات. قال ابن جرير وقال ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الصَّلَاةِ فَجَاءَ الْقُرْآنُ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وقال أيضاً عَنْ بَشِيرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: صَلَّى ابْنُ مسعود فسمع ناساً يقرأون مَعَ الْإِمَامِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: أَمَا آنَ لَكُمْ أَنْ تَعْقِلُوا: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} كما أمركم الله. وقد روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: «هَلْ

قَرَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعِي آنِفًا؟» قَالَ رَجُلٌ: نعم يا رسول الله، قال: «إني ما أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ»، قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جهر بالقراءة من الصلاة حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رواه أحمد وأهل السنن). وقال عبد الله بن المبارك: لَا يَقْرَأُ مِنْ وَرَاءِ الْإِمَامِ فِيمَا يَجْهَرُ بِهِ الْإِمَامُ، تَكْفِيهِمْ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يسمعهم صوته، ولكنهم يقرأون فِيمَا لَا يُجْهَرُ بِهِ سِرًّا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَصْلُحُ لِأَحَدٍ خَلْفَهُ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهُ فِيمَا يَجْهَرُ بِهِ سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. وهذا مذهب طائفة من العلماء وهو أحد قولي الشافعية، لما ذكرناه من الأدلة المتقدمة، وقال الشافعي فِي الْجَدِيدِ: يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فَقَطْ فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ قِرَاءَةٌ أَصْلًا في السرية ولا الجهرية بما وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فقراءته قراءة له» (هذا الحديث رواه أحمد عن جابر مرفوعاً وهو في الموطأ عن جابر موقوفاً قال ابن كثير: وهذا أصح) وهذا أصح، وقد أفرد لها الإمام الْبُخَارِيُّ مُصَنَّفًا عَلَى حِدَةٍ، وَاخْتَارَ وُجُوبَ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي السَّرِيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس في الآية، يعني في الصلاة المفروضة، وعن مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا بَأْسَ إِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ في غير الصلاة أن يتكلم. وقال ابن المبارك عن ثابت بن عجلان قال: سمعت ابن جُبَيْرٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} قَالَ: الْإِنْصَاتُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَفِيمَا يَجْهَرُ بِهِ الْإِمَامُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ: أن المراد من ذلك الإنصات في الصلاة وفي الخطبة، كما جاء في الأحاديث بالإنصات خلف الإمام وحال الخطبة، وقال الْحَسَنِ: إِذَا جَلَسْتَ إِلَى الْقُرْآنِ فَأَنْصِتْ لَهُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ مُضَاعَفَةٌ، وَمَنْ تَلَاهَا كَانَتْ لَهُ نوراً يوم القيامة» (رواه الإمام أحمد في المسند).

- 205 - وَاذْكُرْ رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ - 206 - إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ يَأْمُرُ تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيراً كَمَا أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ فِي هَذَيْنَ الْوَقْتَيْنِ فِي قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}، وَقَدْ كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَهَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، وَقَالَ ههنا بالغدو وهو أول النهار، والآصال جمع أصيل، وأما قوله: {تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} أي اذكر بك في نفسك رغبة ورهبة وَبِالْقَوْلِ لَا جَهْرًا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ}، وَهَكَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ خفياً لا يكون نداء وجهراً بَلِيغًا، وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ أم بعيد فنناديه؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دعان}، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَفَعَ النَّاسُ أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى

أنفسكم فإنكم لا تدعون أصماً وَلَا غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»، وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً}، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ سَبُّوهُ وسبوا من جاء به، فأمره الله تعالى أن لا يَجْهَرَ بِهِ لِئَلَّا يَنَالَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَا يخافت به عن أصحابه فلا يسمعهم، ليتخذ بين الجهر والإسرار، والمراد الْحَضُّ عَلَى كَثْرَةِ الذِّكْرِ مِنَ الْعِبَادِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، لِئَلَّا يَكُونُوا مِنَ الْغَافِلِينَ، وَلِهَذَا مَدَحَ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} الآية، وإنما ذكرهم بهذا ليقتدى بِهِمْ فِي كَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ، وَلِهَذَا شُرِعَ لنا السجود ههما لَمَّا ذُكِرَ سُجُودُهُمْ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَلَا تُصَفُّونَ كَمَا تُصَفُّ الملائكة عند ربها يتمون الصفوف، الأول فالأول، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ»: وَهَذِهِ أَوَّلُ سَجْدَةٍ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يُشْرَعُ لِتَالِيهَا وَمُسْتَمِعِهَا السُّجُودُ بِالْإِجْمَاعِ.

8 - سورة الأنفال

- 8 - سورة الأنفال

[مقدمة] وهي مدنية، آياتها سبعون وخمس آيات، كلماتها ألف وَسِتُّمِائَةِ كَلِمَةٍ وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ كَلِمَةً، حُرُوفُهَا خَمْسَةُ آلَافٍ وَمِائَتَانِ وَأَرْبَعَةٌ وَتِسْعُونَ حَرْفًا، واللَّهُ أَعْلَمُ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- 1 - يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إن كنتم مؤمنين قال البخاري: الأنفال المغانم، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ، قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما سورة الأنفال، قال: نزلت في بدر، وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْأَنْفَالُ الْغَنَائِمُ، كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِصَةً لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهَا شَيْءٌ (وَكَذَا قَالَ مجاهد وعكرمة وعطاء وَالضَّحَّاكُ وقَتَادَةُ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ إنها المغانم)؛ قَالَ فِيهَا لَبِيدُ: إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ * وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثى وَالعَجَلْ وَقَالَ ابْنُ جرير عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْأَنْفَالِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْفَرَسُ مِنَ النَّفَلِ وَالسَّلَبُ مِنَ النَّفَلِ، ثُمَّ عَادَ لِمَسْأَلَتِهِ، فَقَالَ ابن عباس أَيْضًا، ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ: الْأَنْفَالُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَا هِيَ؟ قَالَ الْقَاسِمُ: فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ حَتَّى كَادَ يُحْرِجُهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَدْرُونَ مَا مِثْلُ هَذَا؟ .. مِثْلُ صبيع الذي ضربه عمر بن الخطاب. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ النَّفَلَ بِمَا يَنْفُلُهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ مِنْ سَلَبٍ أَوْ نَحْوِهِ بَعْدَ قَسْمِ أَصْلِ الْمَغْنَمِ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى فَهْمِ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ لَفْظِ النَّفَلِ، واللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٍ: إِنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الخمس بعد الأربعة من الْأَخْمَاسِ، فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ}، وَقَالَ ابْنُ مسعود: لَا نَفَلَ يَوْمَ الزَّحْفِ، إِنَّمَا النَّفَلُ قَبْلَ التقاء الصفوف، وقال ابن المبارك عن عطاء بن أبي رباح في الآية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} قَالَ يَسْأَلُونَكَ فِيمَا شَذَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي

غَيْرِ قِتَالٍ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ مَتَاعٍ، فَهُوَ نَفَلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ بِهِ مَا يَشَاءُ، قال ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ أَنْفَالُ السَّرَايَا، بَلَغَنِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} قال: السرايا، ومعنى هَذَا مَا يَنْفُلُهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ السَّرَايَا زِيَادَةً عَلَى قَسْمِهِمْ مَعَ بَقِيَّةِ الْجَيْشِ، وَقَدْ صَرَّحَ بذلك الشعبي، واختار ابن جرير أنها الزيادة على القسم، ويشهد بذلك مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَهُوَ ما روي عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: لَمَّا كان يوم بدر قتل أَخِي (عُمَيْرٍ) وَقَتَلْتُ (سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ) وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ، وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الْكَتِيفَةِ، فَأَتَيْتُ بِهِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اذْهَبْ فَاطْرَحْهُ فِي الْقَبَضِ»، قَالَ: فَرَجَعْتُ وَبِي مَا لَا يعلمه اللَّهُ مِنْ قَتْلِ أَخِي وَأَخْذِ سَلَبِي، قَالَ: فَمَا جَاوَزْتُ إِلَّا يَسِيرًا، حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: اذهب فخذ سلبك". (سَبَبٌ آخَرُ فِي نُزُولِ الْآيَةِ): وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَأَلْتُ (عُبَادَةَ) عَنِ الْأَنْفَالِ، فَقَالَ: فِينَا أَصْحَابُ بَدْرٍ نَزَلَتْ، حِينَ اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فاتنزعه اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا، وَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بَوَاءٍ، يَقُولُ: عَنْ سَوَاءٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أيضاً عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا، فَالْتَقَى النَّاسُ فَهَزَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَدُوَّ، فَانْطَلَقَتْ طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه وَيَجْمَعُونَهُ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصِيبُ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ، وَفَاءَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ: نَحْنُ حَوَيْنَاهَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ، وَقَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهِ منا، نحن منعنا عنه الْعَدُوَّ وَهَزَمْنَاهُمْ، وَقَالَ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خفنا أَنْ يُصِيبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً فَاشْتَغَلْنَا بِهِ، فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ المسلمين، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أغار فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ نَفَّلَ الرُّبُعَ، فَإِذَا أَقْبَلَ راجعاً نفل الثلث، وكان يكره الأنفال (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: هذا حديث صحيح). وروى أبو داود والنسائي وابن مردويه واللفظ له، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَنَعَ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا» فَتَسَارَعَ فِي ذَلِكَ شُبَّانُ القوم وَبَقِيَ الشُّيُوخُ تَحْتَ الرَّايَاتِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْمَغَانِمُ جَاءُوا يَطْلُبُونَ الَّذِي جُعِلَ لَهُمْ، فَقَالَ الشُّيُوخُ لَا تَسْتَأْثِرُوا عَلَيْنَا فَإِنَّا كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ لَوِ انْكَشَفْتُمْ لَفِئْتُمْ إِلَيْنَا؛ فَتَنَازَعُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ - إِلَى قَوْلِهِ - وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، وقال الإمام الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ (الأموال الشرعية): أَمَّا الْأَنْفَالُ فَهِيَ الْمَغَانِمُ، وَكُلُّ نَيْلٍ نَالَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَكَانَتِ الْأَنْفَالُ الأولى لرسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ للَّهِ والرسول} فقسمها يوم بدر علي ما أراه الله من غير أن يخمسها، ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ آيَةُ الْخُمُسِ فَنَسَخَتِ الأولى، قلت: هكذا روي عن ابن عباس، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ والسُّدِّيُّ، وَقَالَ ابْنُ زيد: ليست منسوخة بل هي محكمة، والأنفال أصلها جماع الْغَنَائِمِ إِلَّا أَنَّ الْخُمُسَ مِنْهَا مَخْصُوصٌ لِأَهْلِهِ عَلَى مَا نَزَلَ بِهِ الْكِتَابُ وَجَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ. وَمَعْنَى الْأَنْفَالِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: كُلُّ إِحْسَانٍ فَعَلَهُ فَاعِلٌ تَفَضُّلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ النَّفَلُ الَّذِي أَحَلَّهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ

أموال عدوهم، وإنما هو شيء خصهم الله به تفضلاً منه عليهم، بعد أن كانت الغنائم محرمة على الأمم قبلهم، فنفلها الله تعالى هذه الأمة فهذا أصل النفل. وشاهد هذا ما في الصحيحين: «وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي» وذكر تمام الحديث. وقوله تعالى: {فاتقوا الله وأصحلوا ذَاتَ بِيْنِكُمْ} أَي اتَّقُوا اللَّهَ فِي أُمُورِكُمْ وَأَصْلِحُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ وَلَا تَظَالَمُوا وَلَا تَخَاصَمُوا وَلَا تَشَاجَرُوا، فَمَا آتَاكُمُ اللَّهُ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ خَيْرٌ مِمَّا تَخْتَصِمُونَ بِسَبَبِهِ، {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أَيْ فِي قَسْمِهِ بَيْنَكُمْ عَلَى مَا أراده الله، فإنه إنما يقسمه كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَقَالَ ابن عباس: هذا تحريج مِّنَ الله وَرَسُولِهِ أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم، وقال السدي {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} أي لا تستبوا، ولنذكر ههنا حديثاً أورده الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مسنده عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ إِذْ رَأَيْنَاهُ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أنت وأمي؟ فقال: "رجلان من أمتي جيثا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعِزَّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَبِّ خُذْ لِي مَظْلَمَتِي مِنْ أخي، قال الله تعالى: أعط أخاك مظلمته، قَالَ: يَا رَبِّ لَمْ يَبْقَ مِنْ حَسَنَاتِي شَيْءٌ، قَالَ: رَبِّ فَلْيَحْمِلْ عَنِّي مِنْ أَوْزَارِي"، قال فَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ ذَلِكَ لَيَوْمٌ عَظِيمٌ، يَوْمٌ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى مَنْ يَتَحَمَّلُ عَنْهُمْ مِنْ أَوْزَارِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلطَّالِبِ: ارْفَعْ بصرك وانظر فِي الْجِنَانِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ أَرَى مَدَائِنَ مِنْ فِضَّةٍ وَقُصُورًا مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةً بِاللُّؤْلُؤِ، لِأَيِّ نَبِيٍّ هَذَا؟ لِأَيِّ صِدِّيقٍ هَذَا؟ لِأَيِّ شَهِيدٍ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا لِمَنْ أعطى ثمنه؟ قال: رب ومن يملك ثمنه؟ قَالَ: أَنْتَ تَمْلِكُهُ، قَالَ: مَاذَا يَا رَبِّ؟ قال تعفو عن أخيك، وقال: يَا رَبِّ فَإِنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْهُ. قَالَ الله تعالى: خذ بيد أخيك فادخلا الْجَنَّةَ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُصْلِحُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ القيامة» (أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي).

- 2 - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - 3 - الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ - 4 - أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فَرِقَتْ أَيْ فَزِعَتْ وَخَافَتْ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِ حَقَّ الْمُؤْمِنِ الَّذِي إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَ قَلْبُهُ أَيْ خَافَ مِنْهُ، فَفَعَلَ أَوَامِرَهُ، وَتَرَكَ زَوَاجِرَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} الآية، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ المأوى} وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، سَمِعْتُ السُّدِّيَّ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ، أَوْ قَالَ يَهُمُّ بِمَعْصِيَةٍ، فيقال له: اتق الله فيجل قلبه؛ وعن أُمِّ الدَّرْدَاءِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} قَالَتْ: الْوَجَلُ في القلب كاحتراق السَّعْفة (السعفة: جريدة النخل)، أَمَا تَجِدُ لَهُ قُشَعْرِيرَةً؟ قَالَ: بَلَى، قَالَتْ: إذا وجدت ذلك فادع الله عند ربك فَإِنَّ الدُّعَاءَ يُذْهِبُ ذَلِكَ،

وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}، كقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَشْبَاهِهَا عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَفَاضُلِهِ فِي الْقُلُوبِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ، بَلْ قد حكى الإجماع عليه غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أَيْ لَا يَرْجُونَ سِوَاهُ وَلَا يَقْصِدُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يَلُوذُونَ إِلَّا بِجَنَابِهِ، وَلَا يَطْلُبُونَ الْحَوَائِجَ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا يَرْغَبُونَ إِلَّا إِلَيْهِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْمُلْكِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، وَلِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ جِمَاعُ الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}، يُنَبِّهُ تعالى بذلك على أعمالهم بعدما ذَكَرَ اعْتِقَادَهُمْ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ تَشْمَلُ أَنْوَاعَ الْخَيْرِ كُلَّهَا، وَهُوَ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا ووضوئها وركوعها وسجودها، وقال مقاتل: إِقَامَتُهَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا، وَإِسْبَاغُ الطُّهُورِ فِيهَا، وَتَمَامُ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ فِيهَا، وَالتَّشَهُّدُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذَا إِقَامَتُهَا، وَالْإِنْفَاقُ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ يَشْمَلُ إخراج الزَّكَاةِ وَسَائِرَ الْحُقُوقِ لِلْعِبَادِ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ فَأَحَبُّهُمْ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِخَلْقِهِ. قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} فأنفقوا مما رزقكم اللَّهُ، فَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَمْوَالَ عَوَارِيٌّ وَوَدَائِعُ عِنْدَكَ يَا ابْنَ آدَمَ أَوْشَكْتَ أَنْ تُفَارِقَهَا. وَقَوْلُهُ تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} أَي الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصفات هم المؤمنون حق الإيمان. عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ؟» قَالَ: أَصْبَحْتُ مؤمناً حقاً، قال: «انظر ما تَقُولُ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟» فَقَالَ: عزفتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فأسهرتُ لَيْلِي، وأظمأتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يتضاغون (يتضاغون: أي يرفعون أصواتهم بالصراخ والعويل) فِيهَا، فَقَالَ: «يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ» ثَلَاثًا (أخرجه الحافظ الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري). وقال عمرو بن مرة في قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} إِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ سَيِّدٌ حَقًّا، وَفِي الْقَوْمِ سَادَةٌ؛ وَفُلَانٌ تَاجِرٌ حَقًّا، وَفِي الْقَوْمِ تُجَّارٌ؛ وَفُلَانٌ شَاعِرٌ حَقًّا، وَفِي الْقَوْمِ شُعَرَاءُ. وَقَوْلُهُ: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} أَيْ مَنَازِلُ وَمَقَامَاتٌ وَدَرَجَاتٌ فِي الْجَنَّاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لهم دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}، {وَمَغْفِرَةٌ} أَيْ يَغْفِرُ لَهُمُ السَّيِّئَاتِ وَيَشْكُرُ لَهُمُ الحسنات، وقال الضحاك: أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، فَيَرَى الَّذِي هُوَ فَوْقُ فضلَه عَلَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلُ منه، ولا يرى الذي هو أسفل منه أَنَّهُ فُضِّلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ عِلِّيِّينَ لَيَرَاهُمْ مَنْ أسفل منهم كما ترون الكوكب الغائر فِي أُفُقٍ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَنَالُهَا غَيْرُهُمْ؟ فَقَالَ: «بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وصدَّقوا الْمُرْسَلِينَ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى كما تراءون الكوكب الغائر فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ منهم وأنعما» (أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً).

- 5 - كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ - 6 - يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ - 7 - وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ - 8 - لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الباطل وَلَوْ كَرِهَ المجرمون قال الطَّبَرِيُّ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي السَّبَبِ الْجَالِبِ لِهَذِهِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} فَقَالَ بعضهم: شبه به في الصلاح للمؤمنين، والمعنى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: كَمَا أَنَّكُمْ لَمَّا اخْتَلَفْتُمْ فِي الْمَغَانِمِ وَتَشَاحَحْتُمْ فِيهَا، فَانْتَزَعَهَا اللَّهُ منكم، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم، كذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء وهم النفير الذين خرجوا لإحراز عيرهم، فكان عاقبة كراهتكم بأن قدره لكم عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ رَشَدًا وَهُدًى، وَنَصْرًا وَفَتْحًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} عَلَى كُرْهٍ مِنْ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَذَلِكَ هُمْ كَارِهُونَ لِلْقِتَالِ، فَهُمْ يجادلونك فيه بعدما تبين لهم، قال مجاهد: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} كذلك يجادلونك في الحق. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ مُجَادَلَةً كَمَا جَادَلُوكَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالُوا: أَخْرَجْتَنَا لِلْعِيرِ وَلَمْ تُعْلِمْنَا قِتَالًا فَنَسْتَعِدُّ لَهُ. قُلْتُ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ طَالِبًا لِعِيرِ أَبِي سُفْيَانَ الَّتِي بَلَغَهُ خَبَرُهَا أَنَّهَا صَادِرَةٌ مِنَ الشَّامِ فِيهَا أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ لِقُرَيْشٍ، فَاسْتَنْهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ، فخرج في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً وجمع الله بين الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَصْرِهِمْ على عدوهم والتفرقة بين الحق والباطل، وَالْغَرَضُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ خُرُوجُ النَّفِيرِ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، يَعِدُهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا الْعِيرَ وَإِمَّا النَّفِيرَ، وَرَغِبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْعِيرِ، لِأَنَّهُ كَسْبٌ بِلَا قِتَالٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}. روى ابن أبي حاتم قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: «كَيْفَ تَرَوْنَ؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنَا أَنَّهُمْ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: «كَيْفَ تَرَوْنَ؟» فَقَالَ عُمَرُ: مِثْلَ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: «كَيْفَ تَرَوْنَ؟» فقال سعد ين مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِيَّانَا تُرِيدُ؟ فَوَالَّذِي أكرمك وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا سَلَكْتُهَا قَطُّ وَلَا لي بها علم، ولئن سرت حَتَّى تَأْتِيَ بَرْكِ الْغِمَادِ مِنْ ذِي يَمَنٍ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَلَا نَكُونُ كَالَّذِينِ قَالُوا لِمُوسَى: {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إنا ههنا قاعدون}، ولكن اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إنا معكما مقاتلون، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَكُونَ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ، وَأَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ غَيْرَهُ، فَانْظُرِ الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَامْضِ لَهُ، فَصِلْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ، وَاقْطَعْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ، وَعَادِ مَنْ شِئْتَ، وَسَالِمْ مَنْ شِئْتَ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى قَوْلِ سَعْدٍ: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لكارهون} (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ بن أبي وقاص الليثي عن أبيه عن جده) الآيات، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا شَاوَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ

مَا قَالَ، وَذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ أَمَرَ النَّاسَ أن يتهيأوا لِلْقِتَالِ وَأَمَرَهُمْ بِالشَّوْكَةِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ أَهْلُ الْإِيمَانِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ}، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ: فِي الْقِتَالِ للقاء المشركين. عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ: عَلَيْكَ بِالْعِيرِ لَيْسَ دُونَهَا شيء. فناداه العباس بن عبد المطلب وهو أسير في وثاقه: إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَكَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ إِنَّمَا وَعَدَكَ إِحْدَى الطائفتين وقد أعطاك الله ما وعدك (أخرجه الإمام أحمد قال ابن كثير: إسناده جيد ولم يخرجه أحد من أهل الكتب الستة). وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} أَيْ يُحِبُّونَ أَنَّ الطَّائِفَةَ التي لا منعة ولا قتال تكون لكم وَهِيَ الْعِيرُ، {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أَيْ هُوَ يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَهَا الشَّوْكَةُ وَالْقِتَالُ لِيُظَفِّرَكُمْ بهم وينصركم عَلَيْهِمْ، وَيُظْهِرَ دِينَهُ، وَيَرْفَعَ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، وَيَجْعَلَهُ غَالِبًا عَلَى الْأَدْيَانِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وهو الذي يدبركم بِحُسْنِ تَدْبِيرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعِبَادُ يُحِبُّونَ خِلَافَ ذلك فيما يظهر لهم. وقال محمد بن إسحاق رحمه الله: لَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ مُقْبِلًا مِنَ الشَّامِ نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفِلَكُمُوهَا، فَانْتَدَبَ النَّاسُ فَخَفَّ بَعْضُهُمْ، وَثَقُلَ بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْقَى حَرْبًا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدِ اسْتَنْفَرَ حِينَ دَنَا مِنَ الْحِجَازِ، يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مَنِ الرُّكْبَانِ تَخَوُّفًا عَلَى أَمْرِ النَّاسِ حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدِ اسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ لَكَ وَلِعِيرِكَ فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَاسْتَأْجَرَ (ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ) فَبَعَثَهُ إِلَى أَهْلِ مكة وأمره أن يأتي قريشاً، فسيتنفرهم إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ، فَخَرَجَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو سَرِيعًا إِلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ حَتَّى بَلَغَ وادياً يقال له ذفران، فخرح مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِهِ نَزَلَ، وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ امْضِ لِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسرائيل لموسى: {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إنا ههنا قاعدون}، ولكن اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إنا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ - يَعْنِي مَدِينَةَ الْحَبَشَةِ - لَجَالَدْنَا مَعَكَ مَنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ» وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَدَدَ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بُرَآءُ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دَارِنَا، فَإِذَا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا، ونساءنا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخوف أن لا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نُصْرَتَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أجل»، فَقَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يا رسول الله لما أمرك الله، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا يَتَخَلَّفُ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ، صُدُقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك،

مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: «سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ وَأَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ»، وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ هَذَا، وَكَذَلِكَ قَالَ السدي وقتادة وعبد الرحمن بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، اخْتَصَرْنَا أَقْوَالَهُمُ اكْتِفَاءً بِسِيَاقِ مُحَمَّدِ بْنِ إسحاق.

- 9 - إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ - 10 - وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حكيم لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ وهم ثلثمائة وَنَيِّفٍ، وَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَإِذَا هُمْ أَلْفٌ وَزِيَادَةٌ، فَاسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القبلة وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا» قَالَ: فَمَا زَالَ يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَرَدَّاهُ ثُمَّ التزمه من ورائه ثم قال: يا نبي اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ من الملائكة مردفين}، فلما كان يومئذ التقوا فَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَأُسِرَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بكر وعمر وعلياً فقال أبو يكر: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةُ وَالْإِخْوَانُ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمُ الْفِدْيَةَ فيكون ما أخذناه منهم قوى لَنَا عَلَى الْكُفَّارِ، وَعَسَى أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ فَيَكُونُوا لَنَا عَضُدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَى يَا ابْنَ الخطاب؟» قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَرَى مَا رَأَى أَبُو بكر، ولكني أرى أن تمكني مِنْ فُلَانٍ - قَرِيبٍ لِعُمَرَ - فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ حَمْزَةَ مِنْ فُلَانٍ - أَخِيهِ - فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنْ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ، هَؤُلَاءِ صَنَادِيدُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ، فَهَوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ عُمَرُ: فغدوت إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَهُمَا يَبْكِيَانِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُبْكِيكَ أَنْتَ وَصَاحِبَكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلَّذِي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرِضَ عليَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ» الشجرة قريبة من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض - إلى قوله - فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طيباً}، فأحل لَهُمُ الْغَنَائِمَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُد مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ عُوقِبُوا بِمَا صَنَعُوا يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، وَفَرَّ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَهُشِمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ، وَسَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ، فأنزل الله: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} بأخذكم الفداء (رواه الإمام أحمد عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير). قال الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ} الآية، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ، سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ مَشْهَدًا لَأَنْ أَكُونَ صَاحِبُهُ أَحَبُّ إليَّ

مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: لا نقول كما قال قوم موسى {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا}، ولكنا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ ومن خلفك، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ وجهه وسره، يعني قوله، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «اللَّهُمَّ أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ» فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ، فَخَرَجَ وَهُوَ يقول: «سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر». وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} أَيْ يردف بعضهم بعضاً، كما قال ابن عباس {مُرْدِفِينَ}: متتابعين، ويحتمل أن الْمُرَادُ {مُرْدِفِينَ} لَكُمْ أَيْ نَجْدَةً لَكُمْ، كَمَا قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {مُرْدِفِينَ} يَقُولُ: المدد، كما تقول أنت للرجل زده كذا وكذا (وبه قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ الْقَارِئُ وَابْنُ زَيْدٍ). وفي رواية {مُرْدِفِينَ} قال: بعضهم على أثر بعض، وقال ابن جرير: نَزَلَ جِبْرِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ مَيْمَنَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَنَزَلَ مِيكَائِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ مَيْسَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وهذا يقتضي - أن صَحَّ إِسْنَادُهُ - أَنَّ الْأَلْفَ مُرْدَفَةٌ بِمِثْلِهَا، وَلِهَذَا قرأ بعضهم: {مُرْدِفِينَ} بفتح الدال والله أعلم، والمشهور ما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَأَمَدَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ جِبْرِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة، وروي عن ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتُ الْفَارِسِ يقول: أقدم حيزوم، إذا نظر إلى المشرك فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ قد حطم وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سبعين (أخرجه مسلم وابن جرير). وفي البخاري قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قَالَ: «مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ» أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الملائكة، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ لَمَّا شَاوَرَهُ فِي قَتْلِ (حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ) «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غفرت لكم؟»، وقوله تعالى: {وما جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى} الْآيَةَ، أَيْ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ بَعْثَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا بُشْرَى {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}، وَإِلَّا فَهُوَ تعالى قادر على نصركم على أعدائكم {وَمَا النصر إِلاَّ من عند الله} أي بدون ذلك، ولهذا قال: {ما النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ ليبلو بعضكم ببعض}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} فَهَذِهِ حِكَمٌ شَرَعَ اللَّهُ جِهَادَ الْكُفَّارِ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِهَا، وَقَدْ كَانَ تَعَالَى إِنَّمَا يُعَاقِبُ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ الْمُكَذِّبَةَ لِلْأَنْبِيَاءِ بِالْقَوَارِعِ الَّتِي تَعُمُّ تلك الأمم الْمُكَذِّبَةَ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ، وَعَادًا الْأُولَى بِالدَّبُورِ، وَثَمُودَ بِالصَّيْحَةِ، وَقَوْمَ لُوطٍ بِالْخَسْفِ وَالْقَلْبِ وَحِجَارَةِ السِّجِّيلِ، وَقَوْمَ شُعَيْبٍ بِيَوْمِ الظُّلَّةِ، فلما بعث الله موسى وأهلك عدوه وأنزل عَلَى مُوسَى التَّوْرَاةَ شَرَعَ فِيهَا قِتَالَ الْكُفَّارِ وَاسْتَمَرَّ الْحُكْمُ فِي بَقِيَّةِ الشَّرَائِعِ بَعْدَهُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَآئِرَ}، وقتل المؤمنين للكافرين أَشَدُّ إِهَانَةً لِلْكَافِرِينَ، وَأَشْفَى لِصُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قال تعالى للمؤمنين: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ، وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ}، وَلِهَذَا كَانَ قَتْلُ

صناديد قريش بأيدي أعدائهم، أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان، وقتل أبي جهل في معركة القتال أشد إهانة له من موته عَلَى فِرَاشِهِ بِقَارِعَةٍ أَوْ صَاعِقَةٍ أَوْ نَحْوِ ذلك، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} أَيْ لَهُ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِمَا فِي الدُّنْيَا والآخرة، {حَكِيمٌ} فيما شرعه من قتلا الْكُفَّارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى دَمَارِهِمْ وَإِهْلَاكِهِمْ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

- 11 - إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ - 12 - إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ - 13 - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ - 14 - ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار يذكرهم الله تعالى بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِلْقَائِهِ النُّعَاسَ عليهم أماناً، أمّنهم به مِنْ خَوْفِهِمُ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ، مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ تَعَالَى بِهِمْ يَوْمَ أُحد، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نعاسا} الآية. قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: كُنْتُ مِمَّنْ أَصَابَهُ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحد، وَلَقَدْ سَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِي مِرَارًا؛ يَسْقُطُ وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ، وَلَقَدْ نَظَرْتُ إليهم يميدون وهم تحت الحَجَف (الحجف: جمع حجفة وهي الترس)، وقال الحافظ أبو يعلى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ الْمِقْدَادِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح، وقال عبد الله بن مسعود: النُّعَاسُ فِي الْقِتَالِ أَمَنَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَفِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: النُّعَاسُ فِي الرأس، والنوم في القلب، وكأن ذلك كان لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ شِدَّةِ الْبَأْسِ لِتَكُونَ قُلُوبُهُمْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً بِنَصْرِ اللَّهِ، وَهَذَا مِن فَضْلِ اللَّهِ ورحمته بهم ونعمته عليهم، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْعَرِيشِ مَعَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُمَا يَدْعُوَانِ أَخَذَتْ رَسُولَ اللَّهِ سِنَةٌ مِنَ النَّوْمِ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ مُتَبَسِّمًا فَقَالَ: «أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ هَذَا جِبْرِيلُ عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ»، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابِ الْعَرِيشِ وَهُوَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}. وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ لَمَّا خرجوا لينصروا العير ويقاتلوا عَنْهَا، نَزَلُوا عَلَى الْمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَغَلَبُوا المؤمنين عليه، فأصاب المؤمنين عليه، فأصاب المؤمنين الظمأ يصلون مجنبين محدثين، حتى تعاطوا ذَلِكَ فِي صُدُورِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ ماء حتى سال الوادي، فشرب المؤمنون، وملأوا الْأَسْقِيَةَ، وَسَقَوُا الرِّكَابَ وَاغْتَسَلُوا مِنَ الْجَنَابَةِ، فَجَعَلَ الله في ذلك طهوراً وثبت به الأقدام (وروي نحوه عن قتادة والضحاك)، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَوْمِ رَمْلَةٌ فبعث الله المطر عليها، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَارَ إِلَى بَدْرٍ نَزَلَ عَلَى أَدْنَى مَاءٍ هُنَاكَ

أَيْ أَوَّلِ مَاءٍ وَجَدَهُ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا المنزل الذي نزلته منزل أنزلك الله إياه فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُجَاوِزَهُ أَوْ مَنْزِلٌ نَزَلْتَهُ لِلْحَرْبِ وَالْمَكِيدَةِ؟ فَقَالَ: «بَلْ مَنْزِلٌ نَزَلْتُهُ لِلْحَرْبِ وَالْمَكِيدَةِ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، وَلَكِنْ سِرْ بِنَا حَتَّى نَنْزِلَ عَلَى أَدْنَى مَاءٍ يَلِي الْقَوْمَ وَنُغَوِّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ، وَنَسْتَقِي الْحِيَاضَ فَيَكُونُ لَنَا مَاءٌ وَلَيْسَ لَهُمْ مَاءٌ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ففعل ذلك. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ قَبْلَ النُّعَاسِ فَأَطْفَأَ بِالْمَطَرِ الْغُبَارَ وَتَلَبَّدَتْ بِهِ الْأَرْضُ وطابت نفوسهم وثبت به أقدامهم، وَقَوْلُهُ: {لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} أَيْ مِنْ حَدَثٍ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ وَهُوَ تَطْهِيرُ الظَّاهِرِ، {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} أَيْ مِنْ وَسْوَسَةٍ أَوْ خَاطِرٍ سيء وَهُوَ تَطْهِيرُ الْبَاطِنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} فَهَذَا زِينَةُ الظَّاهِرِ، {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُورًا} أَيْ مُطَهِّرًا لِمَا كَانَ مِنْ غِلٍّ أَوْ حَسَدٍ أَوْ تَبَاغُضٍ وَهُوَ زِينَةُ الْبَاطِنِ وَطَهَارَتُهُ، {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}: أَيْ بِالصَّبْرِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى مُجَالَدَةِ الْأَعْدَاءِ وَهُوَ شَجَاعَةُ الْبَاطِنِ {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} وَهُوَ شَجَاعَةُ الظَّاهِرِ واللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ} وَهَذِهِ نِعْمَةٌ خَفِيَّةٌ أَظْهَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ لِيَشْكُرُوهُ عَلَيْهَا، وَهُوَ أَنَّهُ تعالى وتقدس أَوْحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ أَنْزَلَهُمْ لِنَصْرِ نَبِيِّهِ ودينه أن يثبتوا الذين آمنوا، قال ابن جرير: أي ثبتوا المؤمنين وقووا أنفسهم على أعدائهم سألقي الرعب والذلة وَالصَّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَكَذَّبَ رَسُولِي، {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} أي اضربوا الهام فأفلقوها وَاحْتَزُّوا الرِّقَابَ فَقَطِّعُوهَا، وَقَطِّعُوا الْأَطْرَافَ مِنْهُمْ وَهِيَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى {فَوْقَ الأعناق} فقيل: معناه اضربوا الرؤوس، قاله عكرمة. وقيل معناه أَيْ عَلَى الْأَعْنَاقِ وَهِيَ الرِّقَابُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. ويشهد لهذا المعنى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب} وقال القاسم، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لأعذب بعذاب الله، إنما بعثت لضرب الرقاب وشد الوثاق»، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَ النَّاسُ يَوْمَ بدر يعرفون قتلى الملائكة بِضَرْبٍ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَعَلَى الْبَنَانِ مِثْلَ سِمَةِ النَّارِ قَدِ أُحْرِقَ بِهِ، وَقَوْلُهُ: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، وقال ابن جرير: معناه واضربوا من عدوكم أيها المؤمنون كُلَّ طَرَفٍ وَمِفْصَلٍ مِنْ أَطْرَافِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ، والبنان جَمْعُ بَنَانَةٍ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا لَيْتَنِي قطعت مني بَنَانَةً * وَلَاقَيْتُهُ فِي الْبَيْتِ يَقْظَانَ حَاذِرًا وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} يَعْنِي بالبنان الأطراف (وكذا قال الضحّاك وابن جرير والسدي)، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْبَنَانُ الْأَطْرَافُ، وَيُقَالُ كُلُّ مِفْصَلٍ، وقال الأوزاعي: اضْرِبْ مِنْهُ الْوَجْهَ وَالْعَيْنَ، وَارْمِهِ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ فَإِذَا أَخَذْتَهُ حَرُمَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَيْكَ، وقال العوفي عن ابن عباس فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ} الآية، فَقُتِلَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ فِي تِسْعَةٍ وَسِتِّينَ رَجُلًا، وَأُسِرَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فقتل صبراً فرفى ذلك سبعين يعني قتيلاً، لهذا قال تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أَيْ خَالَفُوهُمَا، فَسَارُوا فِي شَقٍّ، وَتَرَكُوا الشَّرْعَ وَالْإِيمَانَ به واتباعه في شق، ومأخوذ أَيْضًا مِنْ شَقِّ الْعَصَا وَهُوَ جَعْلُهَا فِرْقَتَيْنِ {وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أَيْ هُوَ الطَّالِبُ الْغَالِبُ لِمَنْ خَالَفَهُ وَنَاوَأَهُ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وَلَا يَقُومُ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ

وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ بالنار} هَذَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ، أَيْ ذُوقُوا هَذَا الْعَذَابَ وَالنَّكَالَ فِي الدُّنْيَا وَاعْلَمُوا أَيْضًا أَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ.

- 15 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ - 16 - وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا عَلَى الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ بِالنَّارِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً} أَيْ تَقَارَبْتُمْ مِنْهُمْ وَدَنَوْتُمْ إليهم {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} أي تفرقوا وَتَتْرُكُوا أَصْحَابَكُمْ، {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} أَيْ يَفِرُّ بَيْنَ يَدَيْ قِرْنِهِ مكيدة ليريه أنه خاف منه، فيتبعه، ثم يكر عليه فلا بأس عليه في ذلك (وهو قول سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ). وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَنْ أَصْحَابِهِ لِيَرَى غِرَّةً مِنَ الْعَدُوِّ فَيُصِيبَهَا، {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} أَيْ فَرَّ من ها هنا إِلَى فِئَةٍ أُخْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُعَاوِنُهُمْ وَيُعَاوِنُوهُ، فيجوز له ذلك، حتى لَوْ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَفَرَّ إِلَى أَمِيرِهِ أَوْ إِلَى الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ دَخَلَ فِي هَذِهِ الرخصة. قال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَاصَ الناس حيصة، فكنت فِيمَنْ حَاصَ، فَقُلْنَا: كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ؟ ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ دخلنا المدينة ثم بتنا، ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فإذا كَانَتْ لَنَا تَوْبَةٌ وَإِلَّا ذَهَبْنَا، فَأَتَيْنَاهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَخَرَجَ فَقَالَ: «مَنْ الْقَوْمُ؟» فَقُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ، فَقَالَ: «لَا، بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ أَنَا فِئَتُكُمْ وَأَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ» قَالَ: فَأَتَيْنَاهُ حتى قبَّلنا يده. وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآية: {أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ} (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ). وَقَالَ أهل العلم: معنى قوله «العكارون»: أي العرافون، وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في أبي عبيدة لما قُتل بأرض فارس لكثرة الجيش من المجوس فقال عمر: لو تحيز إليَّ لكنت له فئة، ويروى عنه أنا فئة كل مسلم. وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ}: الْمُتَحَيِّزُ الْفَارُّ إِلَى النَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ فَرَّ الْيَوْمَ إِلَى أَمِيرِهِ أَوْ أَصْحَابِهِ، فَأَمَّآ إِن كَانَ الْفِرَارُ لَا عَنْ سَبَبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ وَكَبِيرَةٌ مِنَ الكبائر، لما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ» قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (أخرجه الشيخان عن أبي هريرة). وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَقَدْ بَآءَ} أَيْ رَجَعَ {بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ} أَيْ مَصِيرُهُ وَمُنْقَلَبُهُ يَوْمَ مِيعَادِهِ {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد عن بَشِيرُ بْنُ مَعْبَدٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَايِعَهُ فَاشْتَرَطَ عليَّ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ أُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَأَنْ أُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَأَنْ أَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ أَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَأَنْ أُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا اثْنَتَانِ فَوَاللَّهِ لَا أُطِيقُهُمَا: الْجِهَادُ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ مَنْ وَلَّى الدُّبُرَ فَقَدْ بَاءَ بغضبٍ مِنَ اللَّهِ، فَأَخَافُ إِنْ حَضَرْتُ ذَلِكَ خَشَعَتْ نَفْسِي وَكَرِهَتِ الموت. والصدقة، فوالله مالي إلا غنيمة

وعشر ذود هن رسل أهلي وحمولهم، فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ ثُمَّ حَرَّكَ يَدَهُ ثُمَّ قَالَ: «فَلَا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة إذاً»؟ قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أُبَايِعُكَ، فَبَايَعْتُهُ عَلَيْهِنَّ كلهن (أخرجه الإمام أحمد، قال ابن كثير: حديث غريب من هذا الوجه لم يخرجوه في الكتب الستة). وَقَدْ ذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّ الْفِرَارَ إِنَّمَا كان حراماً على الصحابة، لأن الْجِهَادَ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: عَلَى الْأَنْصَارِ خَاصَّةً لِأَنَّهُمْ بَايَعُوا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في المنشط والمكره، وقيل: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَهْلُ بَدْرٍ خَاصَّةً (يُرْوَى هذا عن عمرو ابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد ونافع والحسن البصري وسعيد بن جبير وَعِكْرِمَةَ وقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ). وَحُجَّتُهُمْ فِي هَذَا أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ عِصَابَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ يَفِيئُونَ إليها إلا عِصَابَتِهِمْ تِلْكَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ في الأرض»، ولهذا قال الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} قَالَ: ذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ، فَأَمَّا الْيَوْمُ فَإِنِ انحاز إلى فئة أو مصر فلا بأس عليه، وقال ابن المبارك عن يزيد بن أبي حبيب: أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ فَرَّ يَوْمَ بَدْرٍ النَّارَ، قَالَ: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحد بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجمعان}، إلى قوله {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ}، ثُمَّ كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبْعِ سنين، قال: {ثُمَّ وليِتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى من يشآء}. وعن أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمِنَ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ حَرَامًا عَلَى غَيْرِ أهل بدر، وإن كان سبب نزول الآية فِيهِمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ مِنَ الموبقات كما هو مذهب الجماهير، والله أعلم.

- 17 - فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - 18 - ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ يُبَيِّنُ تَعَالَى أَنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَأَنَّهُ الْمَحْمُودُ على جميع ما صدر منهم مِنْ خَيْرٍ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَفَّقَهُمْ لِذَلِكَ وأعانهم عليه، وَلِهَذَا قَالَ: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} أي ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعدائكم، مع كثرة عددهم وقلة عددكم، بل هو الذي أظفركم عليهم كما قال: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ويوم حنين إذا أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} يعلم تبارك وتعالى إن النصر ليس بكثرة العَدَد والعُدَد، وإنما النصر من عنده تعالى، كما قال تعالى: {كَم فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ والله مَعَ الصابرين}، ثم قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا فِي شَأْنِ الْقَبْضَةِ مِنَ التُّرَابِ الَّتِي حَصَبَ بِهَا وجوه الكافرين يوم بدر {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} أَيْ هُوَ الَّذِي بَلَّغَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ وَكَبَتَهُمْ بها لا أَنتَ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: «يَا رَبِّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا» فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: خُذْ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَارْمِ بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ، فَمَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَحَدٌ إِلَّا أَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمِنْخَرَيْهِ وَفَمَهُ تُرَابٌ مِنْ تِلْكَ القبضة فولوا مدبرين. وقال مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: لَمَّا دَنَا الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْضَةً من تراب

فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ وَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ»، فَدَخَلَتْ فِي أَعْيُنِهِمْ كُلِّهِمْ، وَأَقْبَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْسِرُونَهُمْ وَكَانَتْ هَزِيمَتُهُمْ فِي رَمْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}. وَقَالَ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بلاء حَسَناً} أي ليعرف المؤمنين نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ، مِنْ إِظْهَارِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، لِيَعْرِفُوا بِذَلِكَ حَقَّهُ ويشكروا بذلك نعمته، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أَيْ سَمِيعُ الدُّعَاءِ {عَلِيمٌ} بِمَنْ يَسْتَحِقُّ النَّصْرَ وَالْغَلَبَ، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} هَذِهِ بِشَارَةٌ أُخْرَى مَعَ مَا حَصَلَ مِنَ النَّصْرِ أَنَّهُ أَعْلَمَهُمْ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُضْعِفُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ، فِيمَا يستقبل مصغر أَمْرَهُمْ، وَأَنَّهُمْ كُلُّ مَا لَهُمْ فِي تَبَارٍ ودمار.

- 19 - إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ} أي تستنصروا وتستقصوا اللَّهَ وَتَسْتَحْكِمُوهُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِكُمُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ جَاءَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ؛ كَمَا قَالَ أبو جَهْلٍ، قَالَ حِينَ الْتَقَى الْقَوْمُ: اللَّهُمَّ أَقْطَعُنَا لِلرَّحِمِ وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ فَأَحْنِهِ الْغَدَاةَ؛ فكان المستفتح (رواه أحمد والنسائي والحاكم وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ)؛ وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَدْرٍ أَخَذُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَاسْتَنْصَرُوا اللَّهَ وَقَالُوا: اللَّهُمَّ انْصُرْ أَعْلَى الْجُنْدَيْنِ وَأَكْرَمَ الْفِئَتَيْنِ وَخَيْرَ الْقَبِيلَتَيْنِ، فَقَالَ اللَّهُ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ} يَقُولُ: قَدْ نَصَرْتُ مَا قُلْتُمْ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: {وَإِن تَنتَهُواْ} أَيْ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ لِرَسُولِهِ {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى: {وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ}، كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا}، مَعْنَاهُ وَإِنْ عُدْتُمْ إِلَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ نَعُدْ لَكُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَإِن تَعُودُواْ} أَيْ إِلَى الاستفتاح {نَعُدْ} أي إِلَى الْفَتْحِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والنصر له وتظفيره على أعدائهن وَالْأَوَّلُ أَقْوَى. {وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ} أَيْ وَلَوْ جَمَعْتُمْ مِنَ الْجُمُوعِ مَا عَسَى أَنْ تَجْمَعُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ الله معه فلا غالب له، {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} وَهُمُ الْحِزْبُ النَّبَوِيُّ وَالْجَنَابُ المصطفوي.

- 20 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولُهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ - 21 - وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ - 22 - إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ - 23 - وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَيَزْجُرُهُمْ عَنْ مُخَالَفَتِهِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْكَافِرِينَ بِهِ الْمُعَانِدِينَ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ} أَيْ تَتْرُكُوا طَاعَتَهُ وَامْتِثَالَ أَوَامِرِهِ وَتَرْكَ زَوَاجِرِهِ، {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} أي بعدما علمتم ما

دَعَاكُمْ إِلَيْهِ، {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} قِيلَ: الْمُرَادُ الْمُشْرِكُونَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ فَإِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ قَدْ سَمِعُوا وَاسْتَجَابُوا وَلَيْسُوا كَذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ بَنِي آدَمَ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ فَقَالَ: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ} أَيْ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، {الْبُكْمُ} عَنْ فَهْمِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} فَهَؤُلَاءِ شَرُّ الْبَرِيَّةِ لِأَنَّ كُلَّ دَابَّةٍ مِمَّا سِوَاهُمْ مُطِيعَةٌ لِلَّهِ فِيمَا خَلَقَهَا لَهُ، وَهَؤُلَاءِ خُلِقُوا لِلْعِبَادَةِ فَكَفَرُوا، ولهذا شبههم بالأنعام في قوله: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغافلون} وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي عبد الدار من قريش؛ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ لَا فَهْمَ لَهُمْ صحيح ولا قصد لهم صحيح - ولو فُرِضَ أَنَّ لَهُمْ فَهْمًا - فَقَالَ: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} أَيْ لَأَفْهَمَهُمْ وَتَقْدِيرُ الكلام (و) لكن لَا خَيْرَ فِيهِمْ فَلَمْ يُفْهِمْهُمْ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أنه {لو أَسْمَعَهُمْ} أَيْ أَفْهَمَهُمْ {لَتَوَلَّواْ} عَنْ ذَلِكَ قَصْدًا وَعِنَادًا بَعْدَ فَهْمِهِمْ ذَلِكَ {وَّهُمْ مُعْرِضُونَ} عَنْهُ.

- 24 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ قَالَ الْبُخَارِيُّ: {اسْتَجِيبُوا} أَجِيبُوا {لِمَا يُحْيِيكُمْ} لِمَا يصلحكم، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: كنت أصلي فمر بي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي، فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ: "مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}، ثُمَّ قَالَ: لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ"، فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْرُجَ فَذَكَرْتُ له. فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي. وقال مجاهد {لِمَا يُحْيِيكُمْ} قال: للحق، وقال قتادة {لما يحييكم} هذا هو القرآن فيه النجاة والبقاء وَالْحَيَاةُ؛ وَقَالَ السُّدِّيُّ: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} فَفِي الْإِسْلَامِ إحياؤهم بعد موتهم بالكفر، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ، وَبَيْنَ الْكَافِرِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ (وهو قول مجاهد وعكرمة والضحاك وعطية ومقاتل وفي رواية عن مجاهد (يَحُولُ بَيْنَ المرء وقلبه) أي حتى يتركه لا يعقل)؛ وقال السدي: لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُؤْمِنَ وَلَا يَكْفُرَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُنَاسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ؛ قَالَ الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولُ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» قَالَ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ": نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها". (حديث آخر): قال الإمام أحمد عن النواس بن سمعان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنُ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِذَا شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ، وإن شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ»، وَكَانَ يَقُولُ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» قَالَ: «والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه». (ورواه النسائي وابن ماجه). (حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِرُ فِي دُعَائِهِ يقول: «اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ

قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» قَالَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أن القول لَتُقَلَّبُ؟ قَالَ: «نَعَمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ بَشَرٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَّا أَنَّ قَلْبَهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فَإِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ. فَنَسْأَلُ الله ربنا أن لا يزيع قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ» قالت، فقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تُعَلِّمُنِي دَعْوَةً أَدْعُو بِهَا لِنَفْسِي؟ قَالَ: «بَلَى، قُولِي اللَّهُمَّ رَبَّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي، وَأَجِرْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ مَا أَحْيَيْتَنِي».

- 25 - وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ يُحَذِّرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ {فِتْنَةً} أَيِ اخْتِبَارًا وَمِحْنَةً يعم بها المسيء وغيرهن لَا يَخُصُّ بِهَا أَهْلَ الْمَعَاصِي، وَلَا مَنْ باشر بالذنب، بَلْ يَعُمُّهُمَا حَيْثُ لَمْ تُدْفَعُ وَتُرْفَعُ، كَمَا قال الإمام أحمد عَنْ مُطَرِّفٍ، قَالَ: قُلْنَا لِلزُّبَيْرِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا جَاءَ بِكُمْ؟ ضَيَّعْتُمُ الْخَلِيفَةَ الَّذِي قُتِلَ، ثُمَّ جِئْتُمْ تَطْلُبُونَ بِدَمِهِ؟ فَقَالَ الزبير ضي اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّا قَرَأْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}، لَمْ نَكُنْ نَحْسَبُ أَنَّا أَهْلُهَا حَتَّى وَقَعَتْ مِنَّا حيث وقعت (رواه أحمد والبزار). وروى ابن جرير عَنِ الْحَسَنِ قَالَ، قَالَ الزُّبَيْرُ: لَقَدْ خُوِّفْنَا - يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا ظَنَنَّا أنا خصصنا بها خاصة؛ وقال الحسن في هذه الآية: نزلت في (علي، وعمار، وطلحة، والزبير) رَّضِيَ الله عَنْهُمْ، وقال الزبير: لَقَدْ قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ زَمَانًا وَمَا أَرَانَا من أهلها فإذا نَحْنُ الْمَعْنِيُّونَ بِهَا {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ خَاصَّةً فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا، وقال ابن عباس: {لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} يَعْنِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فَيَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ حَسَنٌ جِدًّا، ولهذا قال مجاهد: هي أيضاً لكم، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا التَّحْذِيرَ يَعُمُّ الصَّحَابَةَ وَغَيْرَهُمْ، وإن الخطاب معهم هو الصحيح، ويدل عليه الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن، عن عدي بن عميرة قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلَا يُنْكِرُوهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الخاصة والعامة» (رواه أحمد، قال ابن كثير: لم يخرجه في الكتب الستة أحد وفيه رجل متهم). (حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلَا يستجيب لكم»، وقال حذيفة رضي الله عنه: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَصِيرُ مُنَافِقًا، وَإِنِّي لَأَسْمَعُهَا مِنْ أَحَدِكُمْ فِي الْمَقْعَدِ الواحد أربع مرات، لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، ولتحاضُنَّ على الخير، أو ليسحتكم اللَّهُ جَمِيعًا بِعَذَابٍ، أَوْ لَيُؤَمِّرَنَّ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ ثُمَّ يَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ. (حَدِيثٌ آخر): قال الإمام

أحمد أيضاً عن عامر رضي الله عنه قال: سمعت النعمان بن بشير يَخْطُبُ يَقُولُ - وَأَوْمَأَ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ - يَقُولُ: مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا والمدهن فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا وَأَوْعَرَهَا وَشَرَّهَا، وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوُا الْمَاءَ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَآذُوهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا فَاسْتَقَيْنَا مِنْهُ وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا! فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَأَمْرَهُمْ هَلَكُوا جَمِيعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً. (أخرجه البخاري والترمذي أيضاً). (حديث آخر): عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا ظَهَرَتِ الْمَعَاصِي فِي أُمَّتِي عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِنْدِهِ» فَقُلْتُ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا فِيهِمْ أُنَاسٌ صَالِحُونَ؟ قَالَ: «بَلَى» قَالَتْ: فَكَيْفَ يَصْنَعُ أُولَئِكَ؟ قَالَ: «يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسُ ثُمَّ يَصِيرُونَ إلى مَغْفِرَةٍ مِّن الله ورضوان» (رواه الإمام أحمد). وفي رواية: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَعْمَلُونَ بِالْمَعَاصِي وَفِيهِمْ رَجُلٌ أعز منهم ولا أمنع لا يغيّره، إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ أَوْ أَصَابَهُمُ الْعِقَابُ». وفي أخرى عن عائشة ترفعه: «إِذَا ظَهَرَ السُّوءُ فِي الْأَرْضِ أَنْزَلَ اللَّهُ بأهل الأرض بأسه» فقلت: وَفِيهِمْ أَهْلُ طَاعَةِ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ ثُمَّ يصيرون إلى رحمة الله» (أخرجهما الإمام أحمد).

- 26 - وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يُنَبِّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، حَيْثُ كَانُوا قَلِيلِينَ فَكَثَّرَهُمْ، وَمُسْتَضْعَفِينَ خَائِفِينَ فَقَوَّاهُمْ ونصرهم، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات، وَهَذَا كَانَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ حَالَ مُقَامِهِمْ بِمَكَّةَ، قليلين مستخفين مضطهدين، يَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَهُمُ النَّاسُ مِنْ سَائِرِ بِلَادِ الله، لِقِلَّتِهِمْ وَعَدَمِ قُوَّتِهِمْ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى المدينة فآواهم إليها، وقيض لهم أهلها آوو ونصروا وواسوا بِأَمْوَالِهِمْ، وَبَذَلُوا مُهَجَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رسوله صلى الله عليه وسلم، قال قتادة: كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْعَرَبِ أَذَلَّ النَّاسِ ذُلًّا، وَأَشْقَاهُ عَيْشًا، وَأَجْوَعَهُ بُطُونًا، وَأَعْرَاهُ جُلُودًا، وأبينه ضلالاً، مَنْ عَاشَ مِنْهُمْ عَاشَ شَقِيًّا، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ رُدِّيَ فِي النَّارِ، يُؤْكَلُونَ وَلَا يَأْكُلُونَ، وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ قَبِيلًا مِنْ حَاضِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ كَانُوا أَشَرَّ مَنْزِلًا مِنْهُمْ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَمَكَّنَ بِهِ فِي الْبِلَادِ، وَوَسَّعَ بِهِ فِي الرِّزْقِ، وَجَعَلَهُمْ بِهِ مُلُوكًا عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَبِالْإِسْلَامِ أَعْطَى اللَّهُ مَا رأيتم، فاشكروا الله على نِعَمَهُ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ مُنْعِمٌ يُحِبُّ الشُّكْرَ، وَأَهْلُ الشكر في مزيد من الله.

- 27 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - 28 - وَاعْلَمُوا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أُنْزِلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ لِيَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

فَاسْتَشَارُوهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ أَيْ إِنَّهُ الذَّبْحُ، ثُمَّ فَطِنَ أَبُو لُبَابَةَ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَحَلَفَ لَا يَذُوقُ ذَوَاقًا حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَانْطَلَقَ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَرَبَطَ نَفْسَهُ فِي سَارِيَةٍ مِنْهُ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ تِسْعَةَ أَيَّامٍ، حَتَّى كَانَ يَخِرُّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْدِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ، فَجَاءَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَهُ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَحُلُّوهُ مِنَ السَّارِيَةِ، فَحَلَفَ لَا يَحُلُّهُ مِنْهَا إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فَحَلَّهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً، فَقَالَ: «يَجْزِيكَ الثُّلُثُ أن تصدق به» (رواه عبد الرزاق بن أبي قتادة). وقال ابن جرير: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول} الآية. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ قِصَّةُ (حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ) أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى قُرَيْشٍ يُعْلِمُهُمْ بِقَصْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ عَامَ الْفَتْحِ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَبَعَثَ فِي إِثْرِ الْكِتَابِ فَاسْتَرْجَعَهُ، وَاسْتَحْضَرَ حَاطِبًا فَأَقَرَّ بما صنع، وفيها فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ فَإِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: "دَعْهُ فَإِنَّهُ قَدْ شهد بدراً وما يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»، والصَّحيح أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَإِنْ صَحَّ أَنَّهَا وردت على سبيل خَاصٍّ، فَالْأَخْذُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَالْخِيَانَةُ تَعُمُّ الذُّنُوبَ الصغار والكبار اللازمة والمتعدية، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ}: الْأَمَانَةُ الْأَعْمَالُ الَّتِي ائْتَمَنَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْعِبَادَ يَعْنِي الْفَرِيضَةَ، يَقُولُ: لَا تَخُونُوا لَا تَنْقُضُوهَا، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ يَقُولُ: بِتَرْكِ سُنَّتِهِ وارتكاب معصيته. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِذَا خَانُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَقَدْ خَانُوا أَمَانَاتِهِمْ. وَقَالَ أَيْضًا: كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيشفونه حتى يبلغ المشركين، وقال ابن زيد: نَهَاكُمْ أَنْ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ كَمَا صَنَعَ المنافقون، وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} أَيْ اخْتِبَارٌ وَامْتِحَانُ مِنْهُ لَكُمْ إِذْ أَعْطَاكُمُوهَا لِيَعْلَمَ أَتَشْكُرُونَهُ عَلَيْهَا وَتُطِيعُونَهُ فِيهَا أَوْ تَشْتَغِلُونَ بِهَا عَنْهُ وَتَعْتَاضُونَ بِهَا مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، وقال: و {نبلوكم بالشر والخير فِتْنَةً}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ}، وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أَيْ ثَوَابُهُ وَعَطَاؤُهُ وَجَنَّاتُهُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُوجَدُ مِنْهُمْ عَدُوٌّ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ الْمَالِكُ لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَدَيْهِ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي الْأَثَرِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يا ابْنَ آدَمَ اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتَّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وجد حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ منه" (أخرجه الشيخان)، بل حب رسول الله صلى الله عليه وسلم مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ كَمَا ثَبَتَ في الصحيح أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».

- 29 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ قَالَ ابْنُ عباس وغير واحد {فُرْقَاناً} مخرجاً (وهو قول السدي وعكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل وغيرهم ويشهد له قول الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله بجعل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ})، زاد مجاهد في الدنيا والآخرة، في رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فُرْقَانًا} نَجَاةً، وَفِي رواية عنه: نصراء. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: {فُرْقَاناً} أَيْ فَصْلًا بين الحق والباطل؛ وهذا التفسير أعم مما تقدم، وهو يسلتزم ذَلِكَ كُلَّهُ، فَإِنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ، وُفِّقَ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ نَصْرِهِ وَنَجَاتِهِ وَمَخْرَجِهِ مِنْ أُمور الدُّنْيَا وَسَعَادَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَكْفِيرِ ذُنُوبِهِ وَهُوَ مَحْوُهَا، وَغَفْرُهَا: سَتْرُهَا عَنِ النَّاسِ، وسبباً لنيل ثواب الله الجزيل كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رحيم}.

- 30 - وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ: {لِيُثْبِتُوكَ} لِيُقَيِّدُوكَ؛ وَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ زَيْدٍ: لِيَحْبِسُوكَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْإِثْبَاتُ هُوَ الْحَبْسُ وَالْوَثَاقُ، وَهَذَا يَشْمَلُ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَهُوَ مَجْمَعُ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ الْغَالِبُ مِنْ صَنِيعِ مَنْ أَرَادَ غَيْرَهُ بسوء، وقال عَطَاءٌ: سَمِعْتُ (عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ) يَقُولُ: لَمَّا ائْتَمَرُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُثْبِتُوهُ أَوْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُخْرِجُوهُ، قَالَ لَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ: هَلْ تَدْرِي مَا ائْتَمَرُوا بِكَ؟ قال: «يُرِيدُونَ أَن بسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني»، قال: مَنْ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: «رَبِّي» قَالَ: نِعْمَ الرب ربك استوص بِهِ خَيْرًا، قَالَ: «أَنَا أَسْتَوْصِي بِهِ؟ بَلْ هُوَ يَسْتَوْصِي بِي»، قَالَ فَنَزَلَتْ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يخرجوك} (قال ابن كثير: ذكر أَبِي طَالِبٍ فِي هَذَا غَرِيبٌ جِدًّا بَلْ منكر، لأن الآية مدنية واجتماع قريش وائتمارهم كان ليلة الهجرة وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ بِنَحْوٍ ثلاث سنين) الآية. والدليل على صحة ما قلنا، ما روى محمد بن إسحاق صاحب المغازي عن مجاهد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَشْرَافِ كُلِّ قَبِيلَةٍ اجْتَمَعُوا لِيَدْخُلُوا دَارَ النَّدْوَةِ، فَاعْتَرَضَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ، فلما رأوه قالوا له من أنت؟ قال شيخ من أهل نَجْدٍ سَمِعْتُ أَنَّكُمُ اجْتَمَعْتُمْ فَأَرَدْتُ أَنْ أَحْضُرَكُمْ، وَلَنْ يُعْدِمَكُمْ رَأْيِي وَنُصْحِي قَالُوا: أَجَلْ ادْخُلْ فَدَخَلَ مَعَهُمْ، فَقَالَ: انْظُرُوا فِي شَأْنِ هَذَا الرَّجُلِ، وَاللَّهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يُوَاثِبَكُمْ فِي أَمْرِكُمْ بأمره، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: احْبِسُوهُ فِي وِثَاقٍ ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ حَتَّى يَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ زُهَيْرٌ والنابغة، قال: فصرخ عدو الله فقال: والله ما هذا بِرَأْيٍ، وَاللَّهِ لَيُخْرِجَنَّهُ رَبُّهُ مِنْ مَحْبِسِهِ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَيُوشِكَنَّ أَنْ يَثِبُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَأْخُذُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ فَيَمْنَعُوهُ مِنْكُمْ، فَمَا آمَنُ عَلَيْكُمْ أن يخرجوكم من بلادكم، قالوا صدق الشيخ فانظروا في غير هذا، قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ: أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا مِنْهُ، فَإِنَّهُ إِذَا خَرَجَ لَنْ يَضُرَّكُمْ مَا صنع إذا غاب

عنكم أذاه؛ فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: وَاللَّهِ مَا هَذَا لَكُمْ برأي ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لِسَانِهِ، وَأَخْذَ الْقُلُوبِ مَا تَسْمَعُ مِنْ حَدِيثِهِ؟ وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ ثُمَّ اسْتَعْرَضَ الْعَرَبَ لَيَجْتَمِعَنَّ عليه، ثُمَّ لَيَأْتِيَنَّ إِلَيْكُمْ حَتَّى يُخْرِجَكُمْ مِنْ بِلَادِكُمْ ويقتل أشرافكم، قالوا صدق والله، فانظروا رأياً غير هذا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: وَاللَّهِ لَأُشِيرَنَّ عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، لا أرى غيره، قالوا: وما هو؟ قال: تأخذون مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ غُلَامًا شَابًّا وَسِيطًا نَهِدًا، ثُمَّ يُعْطَى كُلُّ غُلَامٍ مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا، ثُمَّ يَضْرِبُونَهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا قَتَلُوهُ تفرق دمه في القبائل كلها، فما أَظُنُّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَقْوَوْنَ عَلَى حَرْبِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، فَإِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا ذلك قبلوا العقل (الدية) وَاسْتَرَحْنَا وَقَطَعْنَا عَنَّا أَذَاهُ، قَالَ: فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: هَذَا وَاللَّهِ الرَّأْيُ، الْقَوْلُ مَا قَالَ الفتى، ولا أرى غَيْرَهُ؛ قَالَ: فَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ، فَأَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمره أن لا يَبِيتَ فِي مَضْجَعِهِ الَّذِي كَانَ يَبِيتُ فِيهِ، وَأَخْبَرَهُ بِمَكْرِ الْقَوْمِ، فَلَمْ يَبِتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَأَذِنَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْخُرُوجِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ الْأَنْفَالَ يَذْكُرُ نِعَمَهُ عَلَيْهِ وَبَلَاءَهُ عِنْدَهُ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، وأنزل في قولهم تربصوا به ريب المنون: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}. قال ابن إسحاق: أتاه جبريل عليه السلام فأمره أن لا يَبِيتَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي كَانَ يَبِيتُ فِيهِ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) فَأَمَرَهُ أَنْ يَبِيتَ على فراشه ويتسجى بِبُرْدٍ لَهُ أَخْضَرَ، فَفَعَلَ ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ، وَهُمْ عَلَى بَابِهِ، وَخَرَجَ مَعَهُ بِحَفْنَةٍ مِنْ تراب فجعل يذروها على رؤوسهم، وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {يسن وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ - إِلَى قَوْلِهِ - فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}. وقد روى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تبكي، قال: «مَا يُبْكِيكِ يَا بُنَيَّةُ؟» قَالَتْ: يَا أَبَتِ ومالي لَا أَبْكِي وَهَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الحِجْر يتعاهدون بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى لَوْ قَدْ رَأَوْكَ لَقَامُوا إِلَيْكَ فَيَقْتُلُونَكَ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ إِلاَّ مَن قَدْ عَرَفَ نَصِيبَهُ مِنْ دَمِكَ، فَقَالَ: «يَا بُنَيَّةُ ائْتِنِي بِوَضُوءٍ»، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المسجد، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، فطأطأوا رؤوسهم، وسقطت رقابهم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَلَمْ يَرْفَعُوا أَبْصَارَهُمْ، فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبضة من تُرَابٍ فَحَصَبَهُمْ بِهَا، وَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ»، فَمَا أَصَابَ رَجُلًا مِنْهُمْ حَصَاةٌ مِنْ حَصَيَاتِهِ إِلَّا قتل يوم بدر كافراً (قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ولا أعرف له علة). وعن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ} الآية. قَالَ: تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوِثَاقِ يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ، فَأَطْلَعُ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ فَبَاتَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى مَكْرَهُمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعودا فِي الْجَبَلِ، فَمَرُّوا بِالْغَارِ، فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ، فَمَكَثَ فيه ثلاث ليال (رواه الإمام أحمد في المسند). وقال عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله} أَيْ فَمَكَرْتُ بِهِمْ بِكَيْدِيَ الْمَتِينِ حَتَّى خَلَّصْتُكَ منهم.

- 31 - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ - 32 - وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - 33 - وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كُفْرِ قُرَيْشٍ وَعُتُوِّهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، ودعواهم الباطل عند سماع آياته، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} وَهَذَا مِنْهُمْ قَوْلٌ بلا فِعْلٌ، وَإِلَّا فَقَدَ تُحُدُّوا غَيْرَ مَا مَرَّةٍ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَلَا يَجِدُونَ إلى ذلك سبيلاً، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْقَائِلَ لِذَلِكَ هُوَ (النَّضْرُ بن الحارث)، فَإِنَّهُ لَعَنَهُ اللَّهُ كَانَ قَدْ ذَهَبَ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ، وَتَعَلَّمَ مِنْ أَخْبَارِ مُلُوكِهِمْ رُسْتُمَ وَاسْفَنْدِيَارَ، وَلَمَّا قَدِمَ وَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَعَثَهُ اللَّهُ وَهُوَ يتلو على الناس القرآن، فكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس، جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك، ثم يقول: بالله أينا أَحْسَنُ قَصَصًا أَنَا أَوْ مُحَمَّدٌ؟ وَلِهَذَا لَمَّا أَمْكَنَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَوَقَعَ فِي الْأُسَارَى أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تضرب رقبته صبراً بيد يَدَيْهِ، فَفُعِلَ ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَكَانَ الَّذِي أَسَرَهُ (الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كما قال ابن جرير. ومعنى {أَسَاطِيرُ الأولين} جَمْعُ أُسْطُورَةٍ: أَيْ كُتُبُهُمُ، اقْتَبَسَهَا فَهُوَ يَتَعَلَّمُ مِنْهَا وَيَتْلُوهَا عَلَى النَّاسِ، وَهَذَا هُوَ الْكَذِبُ الْبَحْتُ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً - إلى - إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} أَيْ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ فَإِنَّهُ يَتَقَبَّلُ منه ويصفح عنه. وقوله تَعَالَى: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} هَذَا مِنْ كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم، وَهَذَا مِمَّا عِيبُوا بِهِ، وَكَانَ الْأَوْلَى لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَاهْدِنَا لَهُ وَوَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِهِ، وَلَكِنِ اسْتَفْتَحُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَاسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ وَتَقْدِيمَ العقوبة، كقوله تَعَالَى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ}، {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب}، وقوله: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ واقع}، وَكَذَلِكَ قَالَ الْجَهَلَةُ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ كَمَا قَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ لَهُ: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ من الصادقين}. عن أنس بن مالك قال أبو جهل ابن هشام: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فَنَزَلَتْ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (أخرجه البخاري في صحيحه). وقال الاعمش عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالُواْ اللهم} الآية، قَالَ: هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دافع) (وهو قول مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، قال ابن عباس: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إلا شريك هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ

وَمَا مَلَكَ، وَيَقُولُونَ: غُفْرَانَكَ غُفْرَانَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} الآية. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِيهِمْ أَمَانَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاسْتِغْفَارُ، فَذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار (أخرجه ابن أبي حاتم). وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} يَقُولُ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ قَوْمًا وَأَنْبِيَاؤُهُمْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يَقُولُ: مَنْ قَدْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ الدُّخُولُ فِي الْإِيمَانِ، وَهُوَ الِاسْتِغْفَارُ، يَسْتَغْفِرُونَ يَعْنِي يُصَلُّونَ، يعني بهذا أهل مكة، وقال الضحاك: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يَعْنِي المؤمنين الذين كانوا بمكة. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ أَمَانَيْنِ لِأُمَّتِي: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ، وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فَإِذَا مَضَيْتُ تَرَكْتُ فِيهِمُ الاستغفار إلى يوم القيامة" (رواه الترمذي في سننه). ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعَزَّتِكَ يَا رَبِّ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، فَقَالَ الرَّبُّ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا استغفروني" (أخرجه أحمد والحاكم، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه).

- 34 - وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ - 35 - وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُمْ أَهْلٌ لِأَنْ يُعَذِّبَهُمْ، ولكنْ لَمْ يوقع ذلك بهم لبركة مقام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهُمْ، وَلِهَذَا لَمَّا خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهُمْ أَوْقَعَ اللَّهُ بهم بأسه يوم بدر فقتل صناديدهم، وأسر سَرَاتُهُمْ، وَأَرْشَدَهُمْ تَعَالَى إِلَى الِاسْتِغْفَارِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهَا مِنَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ، قال قتادة والسدي: لَمْ يَكُنِ الْقَوْمُ يَسْتَغْفِرُونَ وَلَوْ كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ ما عذبوا. قال ابن جرير عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَا، قَالَ فِي الْأَنْفَالِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ، وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ - إِلَى قَوْلِهِ - فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} فقاتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع والضر، وقال ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، ثُمَّ اسْتَثْنَى أَهْلَ الشِّرْكِ فَقَالَ: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، وَقَوْلُهُ: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ وَكَيْفَ لَا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أي الذي بمكة، يَصُدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهُ عَنِ الصَّلَاةِ فيه وَالطَّوَافِ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} أَيْ هُمْ لَيْسُوا أَهْلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّمَا أَهْلُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، وقال تعالى:

{وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ} الآية، وقال الحافط ابن مردويه في تفسير هذه الآية عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أوليائك؟ قَالَ: «كُلُّ تَقِيٍّ»، وَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ}. وقال الحاكم في مستدركه: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريشاً فقال: «هل فيكم من غيركم؟» فقالوا: فِينَا ابْنُ أُخْتِنَا وَفِينَا حَلِيفُنَا وَفِينَا مَوْلَانَا، فَقَالَ: «حَلِيفُنَا مِنَّا وَابْنُ أُخْتِنَا مِنَّا وَمَوْلَانَا منا إن أوليائي منكم المتقون». وقال عروة والسدي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} قَالَ: هُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ المجاهدون من كانوا حيث كَانُوا، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا يُعَامِلُونَهُ بِهِ، فَقَالَ: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} المكاء هو الصفير (وهو قول ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقتادة)، وزاد مجاهد: وكانوا يدخلون أصابعم في أَفْوَاهِهِمْ. وقال السدي: المكاء هو الصَّفِيرُ عَلَى نَحْوِ طَيْرٍ أَبْيَضَ يُقَالُ لَهُ المكاء ويكون بأرض الحجاز. عن ابن عباس قال: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق، والمكاء الصفير، والتصدية التصفيق. وقال ابن جرير عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} قَالَ: المكاء الصفير، والتصدية التصفيق، وعن ابن عمر أيضاً أنه قال: إنهم كَانُوا يَضَعُونَ خُدُودَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ وَيُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ، ويصنعون ذَلِكَ لِيَخْلِطُوا بِذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِلَاتَهُ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يَسْتَهْزِئُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وعن سعيد بن جبير {وَتَصْدِيَةً} قَالَ: صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، قَوْلُهُ: {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} قَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هُوَ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ القتل والسبي، واختاره ابن جرير عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: عَذَابُ أَهْلِ الْإِقْرَارِ بِالسَّيْفِ، وعذاب أهل التكذيب بالصحية والزلزلة.

- 36 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ - 37 - لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق: لما أصيب قُرَيْشٌ يَوْمَ بَدْرٍ وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِعِيرِهِ، مَشَى (عَبْدُ اللَّهِ بن أبي ربيعة) و (عكرمة بن أبي جهل) و (صفوان بْنُ أُمية) فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ بِبَدْرٍ، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ فِي تِلْكَ الْعِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةٌ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ لَعَلَّنَا أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُ ثَأْرًا بِمَنْ أُصِيبَ مِنَّا، فَفَعَلُوا، قال: ففيهم أَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ - إلى قوله - هُمُ الخاسرون} (في اللباب: أخرج ابن جرير أنها نزلت في أبي سفيان استأجر يوم أُحُد ألفين من الأحابيش ليقاتل بِهِمْ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهِيَ عَامَّةٌ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا خَاصًّا، فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى

أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدون عن اتباع الْحَقِّ، فَسَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَذْهَبُ أَمْوَالُهُمْ، ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً أَيْ نَدَامَةً، حَيْثُ لَمْ تُجْدِ شَيْئًا لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا إِطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ وَظُهُورَ كَلِمَتِهِمْ عَلَى كَلِمَةِ الْحَقِّ، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون، فَهَذَا الْخِزْيُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ، فَمَنْ عَاشَ مِنْهُمْ رَأَى بعينه وسمه بأذنه ما يسوؤه، وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ أَوْ مَاتَ فَإِلَى الْخِزْيِ الْأَبَدِي وَالْعَذَابِ السَّرْمَدِي، وَلِهَذَا قَالَ: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الخبيث مِنَ الطيب} قال ابن عباس: يميز أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَمِيزُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ؛ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يكون هذا التمييز في الآخرة، كقوله: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ آمنوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فزيلنا بينهم} الآية، وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ}، وقال في الآية الأخرى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}، وقال تعالى: {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون}، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّمْيِيزُ فِي الدُّنْيَا بما يظهر من أعمالهم لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: إِنَّمَا أَقْدَرْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} أَيْ مَنْ يُطِيعُهُ بِقِتَالِ أَعْدَائِهِ الْكَافِرِينَ، أَوْ يَعْصِيهِ بِالنُّكُولِ عَنْ ذَلِكَ، كقوله: {وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ المؤمنين، وَلِيَعْلَمَ الذين نافقوا} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطيب} الآية، فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا إِنَّمَا ابْتَلَيْنَاكُمْ بِالْكُفَّارِ يُقَاتِلُونَكُمْ وَأَقْدَرْنَاهُمْ عَلَى إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ وَبَذْلِهَا فِي ذلك {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ} أي يجعله كُلَّهُ، وَهُوَ جَمْعُ الشَّيْءِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السَّحَابِ {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} أَيْ مُتَرَاكِمًا مُتَرَاكِبًا، {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أَيْ هَؤُلَاءِ هُمُ الْخَاسِرُونَ فِي الدنيا والآخرة.

- 38 - قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ - 39 - وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ - 40 - وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُواْ} أَيْ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُشَاقَّةِ وَالْعِنَادِ وَيَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَالطَّاعَةِ وَالْإِنَابَةِ يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ: أَيْ مِنْ كُفْرِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ وخطاياهم، كما جاء في الصحيح: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ». وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «الْإِسْلَامُ يُجبُّ مَا قَبْلَهُ وَالتَّوْبَةُ تجبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا». وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ يَعُودُواْ} أَيْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ، {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}: أَيْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُنَا فِي الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ إِذَا كَذَّبُوا وَاسْتَمَرُّوا عَلَى عِنَادِهِمْ أَنَّا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة، قال مجاهد في قوله: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} أَيْ فِي قُرَيْشٍ يوم بدر وغيرها من الأمم، وقوله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كله لله}، قال البخاري عن ابن عمر: أن رجلاً جاء فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} الآية، فما يمنعك أن لا تُقَاتِلَ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أعيَّر

بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَا أُقَاتِلُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أن أعيّر بالآية التي يقول الله، قال عزَّ وجلَّ: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا} إِلَى آخر الآية. قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ فعلنا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ، إِمَّا أَنْ يَقْتُلُوهُ وَإِمَّا أَنْ يُوثِقُوهُ، حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يُوَافِقُهُ فِيمَا يريد، قال: فما قولكم في علي وعثمان؟ قال ابن عمر: أَمَّا عُثْمَانُ فَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَفَا عَنْهُ وكرهتم أن يعفو الله عَنْهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَتَنَهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ، وهذه ابنته أو بنته حيث ترون. وأتى رجلان في فتنة ابن الزبير إلى ابن عمر فَقَالَا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَنَعُوا مَا تَرَى وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يمنعك أن تخرج؟ قال: يمنعني الله أن حرم عليَّ دم الْمُسْلِمِ، قَالُوا: أَوْ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} قَالَ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ وَكَانَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لغير الله. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} يعني لا يكون شرك (وهو قول مجاهد والحسن وقتادة والسدي ومقاتل وزيد بن أسلم). وقال عروة بن الزبير: {حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} حَتَّى لَا يُفْتَنَ مُسْلِمٌ عَنْ دِينِهِ، وَقَوْلُهُ: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله}، قال الضحاك عن ابن عباس: يخلص التوحيد لله؛ وقال الحسن وقتادة: أن يقال لا إله إلا الله، أن يكون التوحيد خالصاً لله فليس فِيهِ شِرْكٌ وَيَخْلَعَ مَا دُونَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ، وقال عبد الرحمن بْنِ أَسْلَمَ: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} لَا يكون مع دينكم كفر، ويشهد لهذا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إلا الله، فإذا قالوها فقد عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ على الله عزَّ وجلَّ». وقوله: {فإن انتهوا} عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ فَكَفُّوا عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا بَوَاطِنَهُمْ {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، كقوله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} الآية، وفي الآية الأُخْرى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين}، وقال: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُسَامَةَ لَمَّا عَلَا ذَلِكَ الرَّجُلَ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فضربه فقتله، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لأسامة: «أقتلته بعدما قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ وَكَيْفَ تَصْنَعُ بلا إله إلا الله يوم القيامة»؟ فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا، قَالَ: «هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ»، وَجَعَلَ يَقُولُ وَيُكَرِّرُ عَلَيْهِ: «مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؟ قَالَ أُسَامَةُ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لم أكن أسلمت إلا يومئذ، وَقَوْلُهُ: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} أَيْ وَإِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى خِلَافِكُمْ وَمُحَارَبَتِكُمْ {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ} سَيِّدُكُمْ وَنَاصِرُكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النصير.

- 41 - وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُبَيِّنُ تَعَالَى تَفْصِيلَ مَا شَرَعَهُ مُخَصَّصًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الشَّرِيفَةِ من بين سائر الأمم المتقدمة إحلال الغنائم، والغنيمة هِيَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنَ الْكُفَّارِ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ والركاب، والفيء مَا أُخِذَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، كَالْأَمْوَالِ الَّتِي يصالحون

عَلَيْهَا أَوْ يُتَوَفَّوْنَ عَنْهَا وَلَا وَارِثَ لَهُمْ، وَالْجِزْيَةُ وَالْخَرَاجُ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ هَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ الشافعي، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُطْلِقُ الْفَيْءَ عَلَى مَا تطلق عليه الغنيمة والعكس أيضاً، {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَإِنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} تَوْكِيدٌ لِتَخْمِيسِ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ حَتَّى الْخَيْطِ وَالْمَخِيطِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة} الآية، وَقَوْلُهُ: {فَإِن للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ ههنا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِلَّهِ نَصِيبٌ مِنَ الْخُمُسِ يُجْعَلُ في الكعبة. وقال آخرون: ذكر الله ههنا استفتاح كلام للتبرك، وسهم لرسوله صلى الله عليه وسلم. قال ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمُوا خمَّس الْغَنِيمَةَ، فَضَرَبَ ذَلِكَ الْخُمُسَ فِي خَمْسَةٍ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَإِنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}، فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ: مفتاح الكلام {لِلَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ}، فَجَعَلَ سَهْمَ اللَّهِ وَسَهْمَ الرسول صلى الله عليه وسلم واحداً (وهو قول النخعي والحسن البصري والشعبي وعطاء وقتادة وغيرهم)، ويؤيد هذا ما رواه الحافظ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شقيق عن رجل قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى، وَهُوَ يَعْرِضُ فَرَسًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الْغَنِيمَةِ؟ فقال: «لله خمسها وأربعة أخماسها لِلْجَيْشِ» قُلْتُ فَمَا أَحَدٌ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: «لَا وَلَا السَّهْمُ تَسْتَخْرِجُهُ مِنْ جيبك لَيْسَ أَنْتَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ». وقال ابن جرير عن الحسن قال: أوصى الحسن بِالْخُمُسِ مِنْ مَالِهِ، وَقَالَ: أَلَا أَرْضَى مِنْ مالي بما رضي الله لنفسه؛ وعن عطاء قَالَ: خُمُسُ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَاحِدٌ يَحْمِلُ مِنْهُ وَيَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، وَهُوَ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَصَرَّفُ فِي الْخُمُسِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ بِمَا شَاءَ وَيَرُدُّهُ فِي أُمَّتِهِ كَيْفَ شَاءَ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا رواه الإمام أحمد عن المقادم بن معد يكرب الْكِنْدِيِّ: أَنَّهُ جَلَسَ مَعَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَالْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيِّ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَتَذَاكَرُوا حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، فقال أبو الدراء لِعُبَادَةَ: يَا عُبَادَةُ كَلِمَاتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا فِي شَأْنِ الْأَخْمَاسِ، فَقَالَ عُبَادَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم صلى بهم فِي غَزْوَةٍ إِلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَاوَلَ وَبَرَةً بَيْنَ أُنْمُلَتَيْهِ فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ مِنْ غَنَائِمِكُمْ، وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي فِيهَا إلا نصيبي معكم الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ، فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ، وَأَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْغَرَ، وَلَا تَغُلُّوا، فَإِنَّ الغلول عار ونار عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَجَاهِدُوا النَّاسَ فِي اللَّهِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ، وَلَا تُبَالُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَأَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ فِي السفر والحضر، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ عظيم ينجي الله به من الهم والغم» (قال ابن كثير: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ عَظِيمٌ وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ وله شواهد). وعن عمرو بن عنبسة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ إِلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَلَمَّا سلم أخذ وبرة من هذا الْبَعِيرِ ثُمَّ قَالَ: «وَلاَ يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلَ هَذِهِ إِلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عليكم» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ). وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من الغنائم شيء يصطفيه لنفسه عبد أو أمة أو فرس أو سيف أو نحو ذلك، كما نص عليه مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَتَبِعَهُمَا عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَفَّلَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحد. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا

قَالَتْ: كَانَتْ صَفِيَّةُ مِنَ الصَّفِيِّ (رَوَاهُ أبو داود في سننه)، وعن يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا بِالْمِرْبَدِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مَعَهُ قِطْعَةُ أَدِيمٍ فَقَرَأْنَاهَا فَإِذَا فِيهَا: «مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى بَنِي زُهَيْرِ بْنِ أُقَيْشٍ، إِنَّكُمْ إِنْ شَهِدْتُمْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ، وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَأَدَّيْتُمُ الخمس من المغنم، وسهم النبي صلى الله عليه وسلم، وَسَهْمَ الصَّفِيِّ، أَنْتُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»، فَقُلْنَا: مَنْ كَتَبَ لَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رواه أبو داود والنسائي). فهذه أحاديث جيدة تدل على تقرير هَذَا وَثُبُوتِهِ، وَلِهَذَا جَعَلَ ذَلِكَ كَثِيرُونَ مِنَ الْخَصَائِصِ لَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْخُمُسَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الْفَيْءِ. وَقَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَكْثَرُ السَّلَفِ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَعُلِمَ فَقَدِ اخْتُلِفَ أيضاً في الذي كان يناله مِنَ الْخُمُسِ مَاذَا يُصْنَعُ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ؟ فَقَالَ قَائِلُونَ: يَكُونُ لِمَنْ يَلِي الْأَمْرَ مِنْ بعده، وَقَالَ آخَرُونَ: يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ مَرْدُودٌ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَصْنَافِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى مَرْدُودَانِ عَلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَلِكَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْخُمُسَ جَمِيعُهُ لِذَوِي الْقُرْبَى، ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَيْنَ السَّهْمَيْنِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قَائِلُونَ: سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يُسلّم للخليفة من بعده، وقال آخرون: لِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ آخرون: سهم القرابة لقرابة الخليفة، واجتمع رأيهم أَنْ يَجْعَلُوا هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ فِي الْخَيْلِ وَالْعُدَّةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَانَا عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ يَجْعَلَانِ سَهْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الكُرَاع وَالسِّلَاحِ، فَقُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ: مَّا كَانَ عليَّ يقول فيه؟ قال: كان أَشَدَّهُمْ فِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَأَمَّا سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فإنه يصرف إلى (بني هاشم) و (بني الْمُطَّلِبِ) لِأَنَّ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَازَرُوا بَنِي هَاشِمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَدَخَلُوا مَعَهُمْ فِي الشِّعْبِ غَضَبًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِمَايَةً لَهُ، مُسْلِمُهُمْ طَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَكَافِرُهُمْ حَمِيَّةً لِلْعَشِيرَةِ وَأَنَفَةً وَطَاعَةً لِأَبِي طَالِبٍ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَأَمَّا بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنُو نَوْفَلٍ، وَإِنْ كانوا بني عمهم فلم يوافقوا على ذلك، بل حاربوهم ونابذوهم، ومالأوا بطون قريش على حرب الرسول. وقال جبير بن مطعم: مشيت أنا وعثمان بن عفان، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيتُ بني عبد الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ: «إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وبنو المطلب شيء واحد» (رواه البخاري في عدة أبواب). وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ: «إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ»؛ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ بَنُو هاشم، ثم روي عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِي بَنِي هَاشِمٍ فَقُرَاءَ، فَجَعَلَ لَهُمُ الْخُمُسَ مَكَانَ الصَّدَقَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: هُمْ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ لا تحل لهم الصدقة؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَغِبْتُ لَكُمْ عَنْ غُسَالَةِ الْأَيْدِي، لِأَنَّ لَكُمْ مِنْ خُمُسِ

الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم» (رواه ابن أبي حاتم، قال ابن كثير: حديث حسن الإسناد)، وقوله: {واليتامى} أي أيتام الْمُسْلِمِينَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَخْتَصُّ بِالْأَيْتَامِ الْفُقَرَاءِ أو يعم الأغنياء والفقراء؟ على قولين، والمساكين هُمُ الْمَحَاوِيجُ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يَسُدُّ خَلَّتَهُمْ وَمَسْكَنَتَهُمْ {وَابْنِ السَّبِيلِ} هُوَ الْمُسَافِرُ أَوِ الْمُرِيدُ لِلسَّفَرِ إِلَى مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَلَيْسَ لَهُ مَا يُنْفِقُهُ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ مِنْ سورة براءة إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أَي امْتَثِلُوا مَا شَرَعْنَا لَكُمْ مِنَ الْخُمُسِ فِي الْغَنَائِمِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس في وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: "وَآمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تؤدوا الخمس من المغنم" الحديث، فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان، وقوله: {يَوْمَ الفرقان يوم التقى الجمعان} يُنَبِّهُ تَعَالَى عَلَى نِعْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ بِمَا فَرَقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِبَدْرٍ، ويسمى الفرقان، لأن الله أَعْلَى فِيهِ كَلِمَةَ الْإِيمَانِ عَلَى كَلِمَةِ الْبَاطِلِ، وأظهر دينه ونصر نبيه وحزبه، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمُ بَدْرٍ، فَرَقَ الله فيه بين الحق والباطل (أخرجه الحاكم). وقال عروة بن الزبير: {يَوْمَ الفرقان} يوم فرق الله بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ رَأْسُ الْمُشْرِكِينَ (عُتْبَةُ بْنُ ربيعة) فالتقوا يوم الجمعان لِتِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ سَبْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ ثَلَثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَالْمُشْرِكُونَ مَا بَيْنَ الْأَلِفِ وَالتِّسْعِمِائَةِ، فَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ زِيَادَةٌ عَلَى السَّبْعِينَ وَأُسِرَ مِنْهُمْ مثل ذلك. وكانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان في صبحيتها لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرةَ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغَازِي وَالسَّيْرِ.

- 42 - إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَوْمِ الْفُرْقَانِ: {إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا} أي أَنْتُمْ نُزُولٌ بِعُدْوَةِ الْوَادِي الدُّنْيَا الْقَرِيبَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ {وَهُم} أَي الْمُشْرِكُونَ نُزُولٌ {بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} أي البعيدة من المدينة إلى نَاحِيَةِ مَكَّةَ {وَالرَّكْبُ} أَي الْعِيرُ الَّذِي فِيهِ أَبُو سُفْيَانَ بِمَا مَعَهُ مِنَ التِّجَارَةِ، {أَسْفَلَ مِنكُمْ} أَيْ مِمَّا يَلِي سَيْفَ الْبَحْرِ {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} أَيْ أَنْتُمْ وَالْمُشْرِكُونَ إِلَى مَكَانٍ {لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد}، قال محمد بن إسحاق في هذه الآية: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ مِيعَادٍ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ، ثُمَّ بَلَغَكُمْ كَثْرَةُ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةُ عَدَدِكُمْ مَا لَقِيتُمُوهُمْ {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً} أي ليقضي

اللَّهُ مَا أَرَادَ بِقُدْرَتِهِ مِنْ إِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وأهله وإذلال الشرك وأهله من غَيْرِ مَلَأٍ مِنْكُمْ، فَفَعَلَ مَا أَرَادَ مِنْ ذلك بلطفه (أخرجه مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ)، وَإِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وقال ابن جرير: أقبل أبو سفيام فِي الرَّكْبِ مِنَ الشَّامِ، وَخَرَجَ أَبُو جَهْلٍ لِيَمْنَعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فالتقوا ببدر، ولا يَشْعُرُ هَؤُلَاءِ بِهَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ بِهَؤُلَاءِ، حَتَّى التقى السُّقَاةُ وَنَهَدَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بن إسحاق وبعث أبو سفيان إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَجَّى عِيرَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَرِجَالَكُمْ فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَأْتِيَ بَدْرًا - وَكَانَتْ بَدْرٌ سُوقًا مِنْ أَسْوَاقِ الْعَرَبِ - فَنُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا، فَنُطْعِمَ بِهَا الطَّعَامَ وَنَنْحَرَ بِهَا الْجُزُرَ، ونَسْقِيَ بِهَا الْخَمْرَ، وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعَ بنا العرب وبمسيرنا، فلا يزالون يهابوننا بعدها أبداً. وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا». قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا الْتَقَى النَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَبْنِي لَكَ عَرِيشًا تَكُونُ فِيهِ وَنُنِيخُ إِلَيْكَ رَكَائِبَكَ، وَنَلْقَى عَدُوَّنَا؟ فَإِنْ أَظْفَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَعَزَّنَا فَذَاكَ مَا نُحِبُّ، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى فَتَجْلِسْ عَلَى رَكَائِبِكَ وَتَلْحَقْ بِمَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَدْ وَاللَّهِ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ مَا نَحْنُ بِأَشَدَّ لَكَ حُبًّا مِنْهُمْ، لَوْ عَلِمُوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك ويوازرونك وَيَنْصُرُونَكَ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيراً، ودعا له، فَبُنِيَ لَهُ عَرِيشٌ فَكَانَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ مَا مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَارْتَحَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ أَصْبَحَتْ، فَلَمَّا أَقْبَلَتْ وَرَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم هذه قريش قد أقلبت بخيلائها وفخرها تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ أَحِنْهُمُ الْغَدَاةَ». وَقَوْلُهُ: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} أَيْ لِيَكْفُرَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ الْحُجَّةِ لِمَا رَأَى مِنَ الْآيَةِ وَالْعِبْرَةِ، وَيُؤْمِنَ مَنْ آمَنَ على مثل ذلك، يقول تعالى: إنما جمعكم من عَدُوِّكُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ لِيَنْصُرَكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَرْفَعَ كَلِمَةَ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ، لِيَصِيرَ الْأَمْرُ ظَاهِرًا، وَالْحُجَّةُ قَاطِعَةً وَالْبَرَاهِينُ سَاطِعَةً، وَلَا يَبْقَى لِأَحَدٍ حُجَّةٌ وَلَا شُبْهَةٌ، فَحِينَئِذٍ يَهْلِكُ مَنْ هَلَكَ، أَيْ يَسْتَمِرُّ فِي الْكُفْرِ مَنِ اسْتَمَرَّ فِيهِ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ مُبْطِلٌ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ} أَيْ يُؤْمِنَ مَنْ آمَنَ {عَن بَيِّنَةٍ} أَيْ حُجَّةٍ وَبَصِيرَةٍ، وَالْإِيمَانُ هُوَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}، وقالت عائشة في قصة الإفك: فهلك فيّ مَنْ هَلَكَ، أَيْ قَالَ فِيهَا مَا قَالَ من البهتان وَالْإِفْكِ، وَقَوْلُهُ {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ} أَيْ لِدُعَائِكُمْ وَتَضَرُّعِكُمْ وَاسْتِغَاثَتِكُمْ بِهِ {عَلِيمٌ} أَيْ بِكُمْ وَأَنَّكُمْ تَسْتَحِقُّونَ النَّصْرَ عَلَى أَعْدَائِكُمُ الْكَفَرَةِ الْمُعَانِدِينَ.

- 43 - إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ - 44 - وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور

قال مجاهد: أراهم الله إياه في منامه قليلاً، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فكان تثبيتاً لهم، وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ} أَيْ لَجَبُنْتُمْ وَاخْتَلَفْتُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} أَيْ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ أَرَاكَهُمْ قَلِيلًا، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ بِمَا تُجِنُّهُ الضَّمَائِرُ وَتَنْطَوِي عليه الأحشاء، {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}، وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} وَهَذَا أَيْضًا مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى بِهِمْ إِذْ أَرَاهُمْ إِيَّاهُمْ قَلِيلًا فِي رَأْيِ الْعَيْنِ فَيُجَرِّؤُهُمْ عَلَيْهِمْ ويطمعهم فيهم. قال ابن مسعود رضي الله عنه: لَقَدْ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى قلت لرجل إلى جنبي تَرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ قَالَ: لَا، بَلْ هُمْ مِائَةٌ، حتى أخذنا رجلاً منهم، فسألناه فقال: كُنَّا أَلْفًا (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جرير}، وقوله: {وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ}، قال عكرمة: حضض بعضهم على بعض، {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} أَيْ لِيُلْقِيَ بينهم الحرب للنقمة من أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ، وَالْإِنْعَامِ عَلَى مَنْ أَرَادَ تَمَامَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى أَغْرَى كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْآخَرِ، وَقَلَّلَهُ فِي عَيْنِهِ لِيَطْمَعَ فِيهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ، فَلَمَّا الْتَحَمَ الْقِتَالُ وَأَيَّدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدَفِينَ، بَقِيَ حِزْبُ الْكُفَّارِ يَرَى حِزْبَ الْإِيمَانِ ضِعْفَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رأى العين} وَهَذَا هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا حَقٌّ وَصِدْقٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

- 45 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - 46 - وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولُهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ هَذَا تَعْلِيمُ من الله تعالى لعباده الْمُؤْمِنِينَ آدَابَ اللِّقَاءِ وَطَرِيقَ الشَّجَاعَةِ عِنْدَ مُوَاجَهَةِ الْأَعْدَاءِ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لقيتم فِئَةً فاثبتوا}. وفي الصحيحين: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ»، ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وانصرنا عليهم» (أخرجه الشيخان عن عبد الله بن أبي أوفى مرفوعاً). وفي الحديث: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الصَّمْتَ عِنْدَ ثَلَاثٍ: عِنْدَ تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة" (أخرجه الطبراني عن زيد بن أرقم مرفوعاً). وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الْمَرْفُوعِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِيَ الَّذِي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مناجزٌ قِرْنَهُ»: أَيْ لَا يَشْغَلُهُ ذَلِكَ الْحَالُ عن ذكري ودعائي واستعانتي. وقال قتادة: افترض الله ذكره عند أشغل ما يكون، عند الضرب بالسيوف. وعن كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: مَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا أُمِرَ النَّاسُ بِالصَّلَاةِ وَالْقِتَالِ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهُ أَمَرَ النَّاسَ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْقِتَالِ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}. فأمر تعالى باثبات عِنْدَ قِتَالِ الْأَعْدَاءِ وَالصَّبْرِ عَلَى مُبَارَزَتِهِمْ، فَلَا يَفِرُّوا وَلَا يَنْكُلُوا وَلَا يَجْبُنُوا، وَأَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَلَا يَنْسَوْهُ، بَلْ يستعينوا به، ويتوكلوا عليه، ويسألوه النصر على أعدائهم، وَلَا يَتَنَازَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَيْضًا فَيَخْتَلِفُوا، فَيَكُونَ

سَبَبًا لِتَخَاذُلِهِمْ وَفَشَلِهِمْ، {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أَيْ قُوَّتُكُمْ وَحِدَّتُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْإِقْبَالِ {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وَقَدْ كَانَ لِلصَّحَابَةِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي بَابِ الشَّجَاعَةِ وَالِائْتِمَارِ بما أمرهم الله ورسوله به، وَامْتِثَالِ مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الأُمم وَالْقُرُونِ قَبْلَهُمْ، وَلَا يَكُونُ لأحد ممن بعدهم، فإنهم ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ فَتَحُوا الْقُلُوبَ وَالْأَقَالِيمَ شَرْقًا وَغَرْبًا فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم، وقهروا الْجَمِيعَ حَتَّى عَلَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ وَظَهَرَ دِينُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَامْتَدَّتِ الْمَمَالِكُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ سنة، فرضي الله عنهم وأرضاهم.

- 47 - وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ - 48 - وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ - 49 - إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى بَعْدَ أَمْرِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِخْلَاصِ فِي الْقِتَالِ فِي سَبِيلِهِ وَكَثْرَةِ ذِكْرِهِ، نَاهِيًا لَهُمْ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا، أَيْ دَفْعًا لِلْحَقِّ، {وَرِئَآءَ النَّاسِ} وَهُوَ الْمُفَاخَرَةُ وَالتَّكَبُّرُ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ أَبُو جهل: لَا وَاللَّهِ، لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ مَاءَ بَدْرٍ وَنَنْحَرَ الْجُزُرَ، وَنَشْرَبَ الْخَمْرَ وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا القيان، فانعكس ذلك عليه أجمع، لأنهم وردوا به الحِمام، وركموا في أطواء بدر مهانين أذلاء، فِي عَذَابٍ سَرْمَدِيٍّ أَبَدِيٍّ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أَيْ عَالِمٌ بِمَا جَاءُوا به، ولهذا جازاهم عليه شَرَّ الْجَزَاءِ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ قَاتَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يوم بدر (وهو قول قتادة والضحاك والسدي وغيرهم)، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، لَمَّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَدْرٍ خَرَجُوا بِالْقِيَانِ وَالدُّفُوفِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس}، وقوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} الْآيَةَ؛ حسَّن لَهُمْ لَعَنَهُ اللَّهُ مَا جَاءُوا لَهُ وَمَا هَمُّوا بِهِ، وَأَطْمَعَهُمْ أَنَّهُ لَا غَالِبَ لَهُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، وَنَفَى عَنْهُمُ الْخَشْيَةَ مِنْ أَنْ يُؤْتُوا فِي دِيَارِهِمْ، كما قال تَعَالَى عَنْهُ: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ سَارَ إِبْلِيسُ بِرَايَتِهِ وَجُنُودِهِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَلْقَى فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَغْلِبَكُمْ، وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ، فَلَمَّا الْتَقَوْا وَنَظَرَ الشَّيْطَانُ إِلَى إِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} قَالَ: رَجَعَ مُدْبِرًا، وَقَالَ: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} الْآيَةَ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس قال: جَاءَ إِبْلِيسُ يَوْمَ بَدْرٍ فِي جندٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَعَهُ رَايَتُهُ، فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بني مدلج فِي صُورَةِ (سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ) فَقَالَ الشَّيْطَانُ لِلْمُشْرِكِينَ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ

مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ، فَلَمَّا اصْطَفَّ النَّاسُ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى إِبْلِيسَ، فَلَمَّا رَآهُ وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، انْتَزَعَ يَدَهُ ثم ولى مدبراً وَشِيعَتُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ يَا سُرَاقَةُ أَتَزْعُمُ أَنَّكَ لَنَا جَارٌ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ؛ وذلك حين رأى الملائكة. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَنَزَّلُ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ، فَعَلِمَ عَدُوُّ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَدَانِ لَهُ بِالْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَكَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا بِهِ مَخَافَةُ اللَّهِ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا مَنَعَةَ، وَتِلْكَ عَادَةُ عَدُوِّ اللَّهِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَاسْتَقَادَ لَهُ، حَتَّى إِذَا الْتَقَى الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ أَسْلَمَهُمْ شَرَّ مُسَلَّمٍ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ عند ذلك. قال تَعَالَى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ الله رب العالمين}، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} الآية. وقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ غَرَّ هؤلاء دينهم}، قال ابن عباس: لَمَّا دَنَا الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ قَلَّلَ الله المسلمين في أعين المشركينن وَقَلَّلَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: غرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ مِنْ قِلَّتِهِمْ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ سَيَهْزِمُونَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فإن الله عزيز حَكِيمٌ}، قال قتادة: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ أَبَا جَهْلٍ عَدُوَّ اللَّهِ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأصحابه قال: والله لا يعبد اللَّهَ بَعْدَ الْيَوْمِ قَسْوَةً وَعُتُوًّا، وَقَالَ ابْنُ جريج: هم قوم كانوا مع المنافقين بمكة قالوه يوم بدر، وقال الشَّعْبِيُّ: كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَدْ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ فَخَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: غرَّ هَؤُلَاءِ دينهم. وقال مجاهد: هم فئة من قريش خَرَجُوا مَعَ قُرَيْشٍ مِنْ مَكَّةَ وَهُمْ عَلَى الارتياب فحسبهم ارْتِيَابُهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: غرَّ هَؤُلَاءِ دينهم، حتى قدموا على قَدِمُوا عَلَيْهِ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ. وَهَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ سواء. وقال ابن جرير عَنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ لَمْ يَشْهَدُوا الْقِتَالَ يَوْمَ بَدْرٍ فَسُمُّوا منافقين، وَقَوْلُهُ: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أَيْ يَعْتَمِدْ عَلَى جَنَابِهِ {فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} أَيْ لَا يُضَامُ مَنِ الْتَجَأَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ مَنِيعُ الْجَنَابِ عَظِيمُ السُّلْطَانِ {حَكِيمٌ} فِي أَفْعَالِهِ لَا يَضَعُهَا إِلَّا فِي مَوَاضِعِهَا، فَيَنْصُرُ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّصْرَ، وَيَخْذُلُ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ.

- 50 - لو تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ - 51 - ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ يَقُولُ تَعَالَى: وَلَوْ عَايَنْتَ يَا مُحَمَّدُ حَالَ تَوَفِّي الْمَلَائِكَةِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ، لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا هَائِلًا فَظِيعًا مُنْكَرًا، إِذْ {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق}. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا أَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ بِوُجُوهِهِمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ضَرَبُوا وُجُوهَهُمْ بِالسُّيُوفِ، وَإِذَا وَلَّوْا أدركتهم الملائكة يضربون أدبارهم، وقال مجاهد في قوله: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} يوم بدر، وقال سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} قَالَ: وأستاههم، ولكنَّ الله يكني؛ والسياق وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ وَقْعَةَ بَدْرٍ، وَلَكِنَّهُ عَامٌّ في حق كل كافر، ولهذا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى

إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} وَفِي سُورَةِ الْقِتَالِ مِثْلُهَا، وَتَقَدَّمَ فِي قوله تعالى: {ولو ترى إذ المجرمون فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} أي باسطو أيديهم بالضرب فيهم بأمر ربهم إِذَا اسْتَصْعَبَتْ أَنْفُسُهُمْ، وَامْتَنَعَتْ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الأجساد أن تخرج قهراً، وذلك إذا بَشَّرُوهُمْ بِالْعَذَابِ وَالْغَضَبِ مِنَ اللَّهِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: "إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ إِذَا جَاءَ الْكَافِرَ عِنْدَ احْتِضَارِهِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الْمُنْكَرَةِ يَقُولُ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ إِلَى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ، فَتَتَفَرَّقُ فِي بَدَنِهِ، فَيَسْتَخْرِجُونَهَا مِنْ جَسَدِهِ كَمَا يَخْرُجُ السَّفُّودُ من الصفوف الْمَبْلُولِ، فَتَخْرُجُ مَعَهَا الْعُرُوقُ وَالْعَصَبُ"، وَلِهَذَا أَخْبَرَ تعالى أن الملائكة تقول لَهُمْ: ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أَيْ هَذَا الْجَزَاءُ بِسَبَبِ مَا عَمِلْتُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا، جَازَاكُمُ اللَّهُ بِهَا هَذَا الْجَزَاءَ، {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}: أَيْ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، بَلْ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا يَجُورُ، تبارك وتقدس الغني الحميد، ولهذا جاء في الحديث القدسي الصحيح: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمِنْ وَجَدَ غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».

- 52 - كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ يَقُولُ تَعَالَى: فَعَلَ هَؤُلَاءِ من المشركين المكذبين بِمَا أُرْسِلْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، كَمَا فَعَلَ الْأُمَمُ الْمُكَذِّبَةُ قَبْلَهُمْ، فَفَعَلْنَا بِهِمْ مَا هُوَ دَأْبُنَا، أَيْ عَادَتُنَا وَسُنَّتُنَا فِي أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بِالرُّسُلِ، الْكَافِرِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} أي بسبب ذنوبهم أهلكهم، وأخذهم أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أَيْ لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ وَلَا يَفُوتُهُ هارب.

- 53 - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - 54 - كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَمَامِ عَدْلِهِ وَقِسْطِهِ فِي حُكْمِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُغَيِّرُ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا على أحدٍ إلا بسبب ذنب ارتكبه، كقوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، وَقَوْلُهُ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} أَيْ كَصُنْعِهِ بِآلِ فرعون وأمثالهم حين كذبوا بآياته، لكهم بسبب ذنوبهم وسلبهم تلك النعمة التي أسداها إليهم من جنات وعيون، ونعمة كانوا فاكهينن وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ بَلْ كَانُواْ هُمُ الظالمين.

- 55 - إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ - 56 - الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ - 57 - فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ -[114]- أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ شَرَّ مَا دَبَّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ، الَّذِينَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَقَضُوهُ، وَكُلَّمَا أَكَّدُوهُ بِالْأَيْمَانِ نَكَثُوهُ، {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ}: أَيْ لَا يَخَافُونَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْآثَامِ، {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} أَيْ تَغْلِبُهُمْ وَتَظْفَرُ بِهِمْ فِي حَرْبٍ {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} أَيْ نَكِّلْ بِهِمْ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ)، وَمَعْنَاهُ: غَلِّظْ عُقُوبَتَهُمْ وَأَثْخِنْهُمْ قَتْلًا لِيَخَافَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَصِيرُوا لَهُمْ عبرة {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ أَنْ يَنْكُثُوا فَيُصْنَعَ بِهِمْ مِثْلُ ذلك.

- 58 - وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ} قَدْ عَاهَدْتَهُمْ {خِيَانَةً} أَيْ نَقْضًا لِمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْمَوَاثِيقِ وَالْعُهُودِ {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} أَيْ عَهْدَهُمْ عَلَى سَوَآءٍ: أَيْ أَعْلِمْهُمْ بِأَنَّكَ قَدْ نَقَضْتَ عَهْدَهُمْ حَتَّى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم وحرب لَكَ، وَأَنَّهُ لَا عَهْدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ، أَيْ تَسْتَوِي أَنْتَ وَهُمْ فِي ذَلِكَ، قال الراجز: فاضرب وجوه الغدر للأعداء * حتى يجيبوك إلى السواء {إن الله لا يُحِبُّ الخائنين} ولو في حق الكفار لا يحبها أيضاً، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ يَسِيرُ فِي أَرْضِ الرُّومِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَمَدٌ فَأَرَادَ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُمْ، فَإِذَا انْقَضَى الْأَمَدُ غَزَاهُمْ، فَإِذَا شَيْخٌ عَلَى دَابَّةٍ يَقُولُ: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحِلَّنَّ عُقْدَةً وَلَا يَشُدَّهَا، حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ»، قَالَ فبلغ ذلك معاوية، فرجع فإذا بالشيخ عمرو بن عنبسة رضي الله عنه (رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ). وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عن سلمان الْفَارِسِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: دَعُونِي أَدْعُوهُمْ كَمَا رأيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعوهم، فقال إنما كنت رجلاً منكم فهداني الله عزَّ وجلَّ للإسلام، فإن أَسْلَمْتُمْ فَلَكُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْنَا، وأن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون، وإن أَبَيْتُمْ نَابَذْنَاكُمْ عَلَى سَوَاءٍ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الخائنين} يفعل ذلك بهم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ غَدَا النَّاسُ إِلَيْهَا فَفَتَحُوهَا بِعَوْنِ اللَّهِ.

- 59 - وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ - 60 - وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ} يَا مُحَمَّدُ {الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوا} أَيْ فَاتُونَا فَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِمْ، بَلْ هُمْ تَحْتَ قَهْرِ قُدْرَتِنَا وَفِي قَبْضَةِ مَشِيئَتِنَا فَلَا يُعْجِزُونَنَا، كقوله تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا

سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي يظنون، وقوله تَعَالَى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النار وَلَبِئْسَ المصير}، وقوله تَعَالَى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}. ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِإِعْدَادِ آلَاتِ الْحَرْبِ لِمُقَاتَلَتِهِمْ حَسَبَ الطَّاقَةِ وَالْإِمْكَانِ وَالِاسْتِطَاعَةِ فَقَالَ: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ} أَيْ مَهْمَا أَمْكَنَكُمْ {مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل}. عن عقبة بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ}، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرمي، إلا إن القوة الرمي» (أخرجه مسلم وأحمد وابن ماجه وأبو داود). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْمُوا وَارْكَبُوا وَأَنْ تَرْمُوا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تركبوا». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ. فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أو شرفين كانت آثارها وأورائها حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، فَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَجْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا في ظُهُورِهَا فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ «. وَسُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الْحُمُرِ؟ فَقَالَ»: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ الْجَامِعَةَ الْفَاذَّةَ: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (أخرجه البخاري واللفظ له ومسلم ومالك}. وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الرَّمْيَ أَفْضَلُ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ، وَذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ إلى أن الركوب أفضل من الرمي؛ وقوله الجمهور أقوى للحديث والله أعلم. وفي الحديث: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَهْلُهَا مُعَانُونَ عَلَيْهَا، وَمَنْ رَبَطَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ كَالْمَادِّ يده بالصدقة لا يقبضها» (أخرجه الطبراني عن سهل بن الحنظلية). وفي صحيح البخاري قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ»، وَقَوْلُهُ: {تُرْهِبُونَ} أَيْ تُخَوِّفُونَ {بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} أَيْ مِنَ الْكُفَّارِ {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ}، قال مجاهد: يعني بني قُرَيْظَةَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَارِسُ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: هم الشياطين التي في الدور، وقال مقاتل: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَهَذَا أَشْبَهُ الْأَقْوَالِ، وَيَشْهَدُ لَهُ قوله تَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}، وَقَوْلُهُ: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} أَيْ مهما أنفقتم في الجهاد فإنه يوف إِلَيْكُمْ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ الدِّرْهَمَ يُضَاعَفُ ثَوَابُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

- 61 - وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - 62 - وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ

حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ - 63 - وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى: إِذَا خِفْتَ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، فَإِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى حَرْبِكَ وَمُنَابِذَتِكَ فَقَاتِلْهُمْ {وَإِن جَنَحُواْ} أَيْ مَالُوا {لِلسَّلْمِ} أَيْ الْمُسَالَمَةِ وَالْمُصَالَحَةِ وَالْمُهَادَنَةِ {فَاجْنَحْ لَهَا} أَيْ فَمِلْ إِلَيْهَا، وَاقْبَلْ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمَّا طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الصُّلْحَ وَوَضْعَ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ سِنِينَ، أَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ مع ما اشترطوا من الشروط الأخر. قال ابن عباس ومجاهد: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ فِي بَرَاءَةَ {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخر} الآية (وهو قول عطاء وعكرمة والحسن وقتادة وزيد بن أسلم)، وفيه نظر، لِأَنَّ آيَةَ بَرَاءَةَ فِيهَا الْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ إِذَا أمكن ذلك، فَأَمَّآ إِن كَانَ العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم، كما دلت هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَكَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَلَا مُنَافَاةَ وَلَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ واللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أَيْ صَالِحْهُمْ وَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ وَلَوْ كَانُوا يُرِيدُونَ بِالصُّلْحِ خَدِيعَةً لِيَتَقَوَّوْا وَيَسْتَعِدُّوا {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} أَيْ كَافِيكَ وَحْدَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ نِعْمَتَهُ عليه بما أيده مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أَيْ جَمَعَهَا عَلَى الْإِيمَانِ بِكَ وَعَلَى طَاعَتِكَ وَمُنَاصَرَتِكَ وَمُوَازَرَتِكَ، {لَوْ أَنفَقْتَ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أَيْ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَإِنَّ الْأَنْصَارَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ الْأَوْسِ والخزرج، حَتَّى قَطَعَ اللَّهُ ذَلِكَ بِنُورِ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَ الْأَنْصَارَ فِي شَأْنِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ قَالَ لَهُمْ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي» كلما قالوا شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أَيْ عَزِيزُ الْجَنَابِ فَلَا يُخَيِّبُ رَجَاءَ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ {حَكِيمٌ} فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الرَّحِمَ لَتُقْطَعُ، وَإِنَّ النِّعْمَةَ لَتُكْفَرُ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا قَارَبَ بَيْنَ الْقُلُوبِ لَمْ يُزَحْزِحْهَا شَيْءٌ، ثُمَّ قَرَأَ: {لَوْ أَنفَقْتَ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، وعن مجاهد قال: إذا التقى الْمُتَحَابَّانِ فِي اللَّهِ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ وضحك إليه، تحاتت خطاياهما كما تحات وَرَقُ الشَّجَرِ، قَالَ عَبْدَةُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ هَذَا لَيَسِيرٌ فَقَالَ: لَا تَقُلْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الله يَقُولُ: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} قَالَ عَبْدَةُ: فَعَرَفْتُ أنه أفقه مني. عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا لَقِيَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ تَحَاتَّتْ عَنْهُمَا ذنوبهما كما تحات الْوَرَقُ عَنِ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ فِي يَوْمِ رِيحٍ عاصف، وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مِثْلَ زَبَدِ الْبِحَارِ».

- 64 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - 65 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى القتال

إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ - 66 - الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ يُحَرِّضُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، وَمُنَاجَزَةِ الْأَعْدَاءِ، وَمُبَارَزَةِ الْأَقْرَانِ، ويخبرهم أنه حسبهم: أي كافيهم وَمُؤَيِّدُهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَإِنْ كَثُرَتْ أَعْدَادُهُمْ وَتَرَادَفَتْ أَمْدَادُهُمْ، وَلَوْ قَلَّ عَدَدُ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ أبي حاتم عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ: حسبك الله وحسب من شهد معك، وَلِهَذَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى القتال} أي حثهم وذمرهم عَلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ عِنْدَ صَفِّهِمْ وَمُوَاجَهَةِ الْعَدُوِّ، كَمَا قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ أَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ فِي عدَدَهم وعُدَدهم: «قُومُوا إلى جنة عرضها السموات والأرض» فقال (عمير بن الحمام) عرضها السموات وَالْأَرْضِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَعَمْ»، فَقَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ»؟ قَالَ: رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنَ أَهْلِهَا»، فَتَقَدَّمَ الرَّجُلُ فَكَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، وَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ أَلْقَى بَقِيَّتَهُنَّ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَهُنَّ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حتى قتل رضي الله عنه. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَشِّرًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَآمِرًا: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} كُلُّ وَاحِدٍ بِعَشَرَةٍ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْأَمْرُ وَبَقِيَتِ الْبِشَارَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المبارك عن ابن عباس لَمَّا نَزَلَتْ {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ} شِقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، ثُمَّ جَاءَ التَّخْفِيفُ، فَقَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ} قَالَ: خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْعُدَّةِ وَنَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خَفَّفَ عَنْهُمْ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ نحوه، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثقل عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَعْظَمُوا أَنْ يُقَاتِلَ عِشْرُونَ مِائَتَيْنِ، ومائةٌ أَلْفًا، فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَنَسَخَهَا بِالْآيَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} الْآيَةَ، فَكَانُوا إِذَا كَانُوا على الشطر من عدوهم لم يسغ لَهُمْ أَنْ يَفِرُّوا مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَإِذَا كَانُوا دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ قِتَالُهُمْ وَجَازَ لهم أن يتحرزوا عنهم (وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَزَيْدِ ين أسلم وغيرهم ونحو ذلك). وروى الحافظ ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما في قوله: {إِنْ يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قَالَ: نَزَلَتْ فِينَا أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

- 67 - مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ - 68 - لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - 69 - فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا واتقوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ

لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هؤلاء الأسارى؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ، اسْتَبْقِهِمْ وَاسْتَتِبْهُمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عليهم، وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْحَطَبِ فَأَضْرِمِ الْوَادِي عَلَيْهِمْ نَارًا ثُمَّ أَلْقِهِمْ فِيهِ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يرد عليهم شيئاً، ثم قال فَدَخَلَ، فَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ؛ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كمثل إبراهيم عليه السلام قال: {من تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رحيم}، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وإن مثلك يا عمر كمثل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}، وإن مثلك يا عبد الله كَمَثَلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} أنتم عاله فلا ينفكن أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ"، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا (سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ) فَإِنَّهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا رأيتني في يوم أخوف من أَن تَقَعَ عَلَى حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ مِنِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا سُهَيْلُ بْنُ بيضاء»، فأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (رَوَاهُ الإمام أحمد والترمذي والحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه). عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا أُسِرَ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ أُسِرَ الْعَبَّاسُ فِيمَنْ أُسِرَ، أَسَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: وَقَدْ أَوْعَدَتْهُ الْأَنْصَارُ أن يقتلوه، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَمْ أَنَمِ اللَّيْلَةَ مِنْ أَجْلِ عَمِّي الْعَبَّاسِ، وَقَدْ زَعَمَتِ الْأَنْصَارُ أَنَّهُمْ قَاتِلُوهُ» فَقَالَ له عمر: أفآتهم؟ فقال: «نعم»، فأتى عمر الأنصار، فقال لهم: أرسولا العباس، فقالواك لَا وَاللَّهِ لَا نُرْسِلُهُ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: فَإِنْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِضًى، قَالُوا: فَإِنْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِضًى فَخُذْهُ، فَأَخَذَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا صَارَ فِي يَدِهِ قَالَ لَهُ: يَا عَبَّاسُ أَسْلِمْ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ تُسْلِمَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُسْلِمَ الْخَطَّابُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعجبه إسلامك، قال: وَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بكر فيهم، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَشِيرَتُكَ فَأَرْسِلْهُمْ، فَاسْتَشَارَ عُمَرَ فَقَالَ: اقْتُلْهُمْ، فَفَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} الآية (أخرجه ابن مردويه والحاكم في المستدرك وقال الحاكم: صحيح الإسناد). قال ابْنِ عَبَّاسٍ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} قَالَ غَنَائِمُ بَدْرٍ قَبْلَ أَنْ يُحِلَّهَا لَهُمْ، يَقُولُ: لَوْلَا أَنِّي لَا أُعَذِّبُ مَنْ عَصَانِي حَتَّى أَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ، لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عظيم، وكذا روي عن مجاهد، وقال الأعمش: سبق منه أن لا يعذب أحداً شهد بدراً، وقال شعبة عَنْ مُجَاهِدٍ {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} أي لهم بالمغفرة، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ} يَعْنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ أن المغانم والأسارى لَكُمْ {لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ} مِنَ الْأُسَارَى {عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وَيُسْتَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نصرتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً". وقد روى

الإمام أبو داود في سننه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ فِدَاءَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يوم بدر أربعمائة، وقد استمر الْحُكْمُ فِي الْأَسْرَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِيهِمْ، إِنْ شَاءَ قَتَلَ كَمَا فَعَلَ بِبَنِي قُرَيْظَةَ، وَإِنْ شَاءَ فَادَى بِمَالٍ كَمَا فَعَلَ بِأَسْرَى بَدْرٍ، أَوْ بِمَنْ أُسِرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْجَارِيَةِ وَابْنَتِهَا اللَّتَيْنِ كَانَتَا فِي سَبْيِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، حَيْثُ رَدَّهُمَا وَأَخَذَ فِي مُقَابَلَتِهِمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّ مَنْ أَسَرَ، هَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ آخَرُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.

- 70 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِّنَ الْأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. - 71 - وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: «إني قد رعفت أَنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ قَدْ أُخْرِجُوا كُرْهًا لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِقِتَالِنَا، فَمَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْهُمْ - أَيْ مِنْ بَنِي هاشم - فلا يقتله، ومن لقي الْبَخْتَرِيِّ بْنَ هِشَامٍ فَلَا يَقْتُلُهُ، وَمَنْ لَقِيَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَا يَقْتُلُهُ، فَإِنَّهُ إنما خرج مُسْتَكْرَهًا»، فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ: أَنَقْتُلُ آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس؟ ولله لَئِنْ لَقِيتُهُ لَأَلْجِمَنَّهُ بِالسَّيْفِ، فبلُغت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: "يَا أَبَا حَفْصٍ - قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَوَّلُ يَوْمٍ كَنَّانِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا حفص - أَيُضْرَبُ وَجْهُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ؟ "، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ نافقن فَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَاللَّهِ مَا آمَنُ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي قُلْتُ ولا أزال خائفاً منها إلا أن يكفرها الله تعالى عَنِّي بِشَهَادَةٍ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا رَضِيَ الله عنه، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَكْثَرُ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ فِدَاءً الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُوسِرًا فَافْتَدَى نَفْسَهُ بمائة أوقية ذهباً. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ قالوا: يا رسول الله ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ. قَالَ: «لَا وَاللَّهِ لَا تَذَرُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا»، وبعثت قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ، فَفَدَى كُلُّ قَوْمٍ أَسِيرَهُمْ بِمَا رَضُوا، وَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كُنْتُ مُسْلِمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِسْلَامِكَ، فَإِنْ يَكُنْ كَمَا تَقُولُ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْزِيكَ، وَأَمَّا ظَاهِرُكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا، فَافْتَدِ نَفْسَكَ وابني أخيك نوفل وعقيل، وحليفك عتبة بن عمرو» قَالَ: مَا ذَاكَ عِنْدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَأَيْنَ الْمَالُ الَّذِي دَفَنْتَهُ أَنْتَ وَأُمُّ الْفَضْلِ؟ فَقُلْتَ لَهَا إِنْ أُصِبْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، فَهَذَا الْمَالُ الَّذِي دَفَنْتُهُ لِبَنِيَّ الْفَضْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ وَقُثَمَ»، قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لِأَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا عَلِمَهُ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ أُمِّ الْفَضْلِ، فَاحْسِبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصَبْتُمْ مِنِّي عِشْرِينَ أُوقِيَّةً مِنْ مَالٍ كَانَ مَعِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا، ذَاكَ شَيْءٌ أَعْطَانَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْكَ»، فَفَدَى نَفْسَهُ وَابْنَيْ أَخَوَيْهِ وَحَلِيفَهُ، فأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ فِيهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِّنَ الْأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَأَعْطَانِي اللَّهُ مَكَانَ الْعِشْرِينَ الْأُوقِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ عِشْرِينَ عَبْدًا كُلُّهُمْ فِي يَدِهِ مَالٌ يَضْرِبُ بِهِ، مَعَ مَا أَرْجُو من مغفرة اللَّهِ عزَّ وجلَّ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جرير: قال

الْعَبَّاسُ فِيَّ نَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْلَامِي، وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذت مِنِّي فَأَبَى، فَأَبْدَلَنِي اللَّهُ بِهَا عِشْرِينَ عَبْدًا كُلُّهُمْ تاجرٌ مَالِي فِي يَدِهِ. وَقَالَ ابْنُ عباس قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمَنَّا بِمَا جِئْتَ بِهِ وَنَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَنَنْصَحَنَّ لَكَ عَلَى قَوْمِنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْرًا ممآ أخذ مِنكُمْ} يُخْلِفْ لَكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} الشَّرْكَ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ، قَالَ فَكَانَ الْعَبَّاسُ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَنْزِلْ فِينَا، وَأَنَّ لِيَ الدُّنْيَا، لَقَدْ قَالَ: {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ} فَقَدْ أَعْطَانِي خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنِّي مِائَةَ ضِعْفٍ، وقال: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} وأرجو أن يكون قد غفر لي. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ مَالُ الْبَحْرَيْنِ ثَمَانُونَ أَلْفًا، وَقَدْ تَوَضَّأَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَمَا أَعْطَى يَوْمَئِذٍ شَاكِيًا، وَلَا حَرَمَ سَائِلًا، وَمَا صَلَّى يَوْمَئِذٍ حَتَّى فَرَّقَهُ، فَأَمَرَ الْعَبَّاسَ أَنْ يأخذ منه ويحتثي، فَكَانَ الْعَبَّاسُ يَقُولُ: هَذَا خَيْرٌ مِمَّا أُخِذَ منا وأرجو المغفرة. قال الحافظ أبو بكر البيهقي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ مِنَ البحرين فقال: «لنثروه في مسجدي» قَالَ: وَكَانَ أَكْثَرُ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ إِلَى الصلاة ولم يلتف إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدًا إِلَّا أَعْطَاهُ، إِذْ جاءه الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذْ» فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ: مُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعُهُ إِلَيَّ، قَالَ: «لَا»، قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: «لَا»، فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَنْهُ عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وثَمَّ منها درهم (ورواه البخاري في مواضع من صحيحه تعليقاً). وقوله: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ} أي وإن يريدوا خيانتك فِيمَا أَظْهَرُوا لَكَ مِنَ الْأَقْوَالِ {فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ} أَيْ مِنْ قَبْلِ بَدْرٍ بالكفر به {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي بالأسارى يَوْمَ بَدْرٍ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ عَلِيمٌ بفعله حَكِيمٌ فِيهِ، قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي (عَبْدِ الله بْنِ أَبِي سَرْحٍ) الْكَاتِبِ حِينَ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بالمشركين، وقال عطاء الخراساني: نَزَلَتْ فِي عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ حِينَ قَالُوا: لَنَنْصَحَنَّ لك على قومنا، وقال السدي بالعموم، وَهُوَ أَشْمَلُ وَأَظْهَرُ واللَّهُ أَعْلَمُ.

- 72 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ذَكَرَ تَعَالَى أَصْنَافَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَسَمَهُمْ إِلَى (مُهَاجِرِينَ) خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَجَاءُوا لِنَصْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ، وَبَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَإِلَى (أَنْصَارٍ) وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِذْ ذَاكَ آوَوْا إِخْوَانَهُمُ الْمُهَاجِرِينَ فِي مَنَازِلِهِمْ وَوَاسَوْهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَنَصَرُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِالْقِتَالِ مَعَهُمْ فَهَؤُلَاءِ {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}، أَيْ كُلٌّ مِنْهُمْ أَحَقُّ بِالْآخَرِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَلِهَذَا آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، كُلُّ اثْنَيْنِ أخوان،

فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ إِرْثًا مُقَدَّمًا عَلَى الْقَرَابَةِ، حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِالْمَوَارِيثِ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المهاجرون والأنصار بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إلى يوم القيامة» (أخرجه أحمد عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ وَرَوَاهُ الحافظ أبو يعلى عن ابن مسعود موقوفاً)، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عنه} الآية، وَقَالَ: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} الآية، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُوا} أَيْ لَا يَحْسُدُونَهُمْ عَلَى فَضْلِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ عَلَى هِجْرَتِهِمْ فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَاتِ تَقْدِيمُ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الأنصار، وهذا أمر مجمع عليه الْعُلَمَاءِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ الإمام البزار عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: خَيَّرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الهجرة والنصرة فاخترت الهجرة، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ}، هَذَا هُوَ الصِّنْفُ الثَّالِثُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا بَلْ أَقَامُوا فِي بَوَادِيهِمْ، فَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لهم في المغانم نصيبن وَلَا فِي خُمُسِهَا إِلَّا مَا حَضَرُوا فِيهِ القتال، كما روي عن يزيد بْنِ الْخَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ أوصاه في خاصة بتقوى الله وبمن مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، وَقَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِالْلَّهِ، إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلَالٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَعْلِمْهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَأَنَّ عَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا وَاخْتَارُوا دَارَهُمْ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ إِلَّا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أَبَوْا فَادْعُهُمْ إِلَى إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَجَابُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بالله وقاتلهم» (أخرجه مسلم وعنده زيادات أخرى ورواه أحمد واللفظ له)، وَقَوْلُهُ: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}، يقول تعالى: وَإِن استنصركم هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا فِي قِتَالٍ دِينِيٍّ عَلَى عَدُوٍّ لَهُمْ فَانْصُرُوهُمْ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ نَصْرُهُمْ لِأَنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ إِلَّا أَنْ يَسْتَنْصِرُوكُمْ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْكُفَّارِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَيْ مُهَادَنَةٌ إِلَى مُدَّةٍ، فَلَا تَخْفِرُوا ذِمَّتَكُمْ وَلَا تَنْقُضُوا أَيْمَانَكُمْ مَعَ الَّذِينَ عاهدتم.

- 73 - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ، قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ، كَمَا قَالَ الحاكم عَنْ أُسَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ وَلَا يَرِثُ مُسْلِمٌ كَافِرًا وَلَا كَافِرٌ مُسْلِمًا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} "، وفي الصحيحين: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ -[122]- وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» وفي المسند والسنن: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» (أخرجه أحمد وأصحاب السنن وقال الترمذي: حسن صحيح)، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ المشركين، لا يتراءى نارهما» (أخرجه ابن جرير مرسلاً ومتصلاً)، وروى أبو داود عن سمرة بن جندب: أما بعد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله». ومعنى قوله: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} أَيْ إِنْ لَمْ تُجَانِبُوا الْمُشْرِكِينَ وَتُوَالُوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس، وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل.

- 74 - وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ - 75 - وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وَأْوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حُكْمَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، عَطَفَ بِذِكْرِ مَا لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بحقية الإيمان، وأنه سبحانه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن الذنوب إِنْ كَانَتْ، وَبِالرِّزْقِ الْكَرِيمِ وَهُوَ الْحَسَنُ الْكَثِيرُ الطيب الشريف الذي لَا يَنْقَطِعُ وَلَا يَنْقَضِي، وَلَا يُسْأَمُ وَلَا يُمَلُّ لِحُسْنِهِ وَتَنَوُّعِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَتْبَاعَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الإيمانُ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَهُمْ مَعَهُمْ فِي الآخرة كما قال: {والسابقون الأولون} الآية، وقال: {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} الآية، وفي الحديث المتفق عليه: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «ومن أحب قوماً فهو منهم» وفي رواية: «حشر معهم»، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأْوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أَيْ فِي حُكْمِ الله، وليس المراد بقوله: {وَأْوْلُواْ الأرحام} (أخرج ابن جرير: كان الرجل يعاقد الرجل فيقول ترثني وأرثك، فنزلت: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ ... } الآية، وأخرج ابن سعد: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الزبير بن العوام وكعب بن مالك، قال الزبير: لقد رأيت كعباً أصابته الجراحة بأحد، فقلت: لو مات لورثته، فنزلت هذه الآية) خُصُوصِيَّةَ مَا يُطْلِقُهُ عُلَمَاءُ الْفَرَائِضِ، عَلَى الْقَرَابَةِ الَّذِينَ لَا فَرْضَ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ عَصَبَةٌ، بل يدلون بوارث كالخالة والخال والعمة ونحوهم، كما قد يزعمه بعضهم، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ تَشْمَلُ جَمِيعَ القرابات، كما نص عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَلَى أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلْإِرْثِ بِالْحِلْفِ والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولاً، وَعَلَى هَذَا فَتَشْمَلُ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ والله أعلم.

9 - سورة التوبة

- 9 - سورة التوبة

- 1 - بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ - 2 - فَسِيحُواْ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ هَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، كما قال البراء بن عازب: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة}، وآخر سورة نزلت: براءة (أخرجه البخاري عن البراء بن عازب). وإنما لم يُبَسْمَلُ فِي أَوَّلِهَا لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكْتُبُوا البسملة في أولها في المصحف الإمام، بل اقتدوا فِي ذَلِكَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأرضاه. وَأَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ من غزوة تبوك، وبعث أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمِيرًا على الحج تلك السنة ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين أن لا يَحُجُّوا بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا، وَأَنْ يُنَادِيَ فِي الناس: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ}، فلما قفل أتبعه بعلي ابن أَبِي طَالِبٍ لِيَكُونَ مُبَلِّغًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما سيأتي بيانه. فقوله تعالى {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَيْ هَذِهِ بَرَاءَةٌ أَيْ تَبَرُّؤٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ، فَسِيحُواْ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أشهر}. اختلف المفسرون ههنا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِذَوِي الْعُهُودِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرِ الْمُؤَقَّتَةِ، أَوْ مَنْ لَهُ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَيُكْمَلُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ مَهْمَا كَانَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مدتهم} الآية، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ؛ وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا، وَقَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ ابن عباس: حدَّ اللَّهُ لِلَّذِينِ عَاهَدُوا رَسُولَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، يسيحون في الأرض حيث شَاءُوا، وأجلَّ أَجَلَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ انسلاخ الأشهر الحرم، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إِذَا انْسَلَخَ الْمُحَرَّمُ أَنْ يَضَعَ السَّيْفَ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عهد، بقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام، وأمر بمن كَانَ لَهُ عَهْدٌ إِذَا انْسَلَخَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى عَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ ربيع الآخر أن يضع فيهم السيف أيضاً حتى يدخلوا في الإسلام. وقال مُجَاهِدٍ: {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إِلَى أَهْلِ الْعَهْدِ خُزَاعَةَ وَمُدْلِجٍ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ أو غيرهم، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تَبُوكَ حِينَ فَرَغَ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجُّ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّمَا يَحْضُرُ الْمُشْرِكُونَ فَيَطُوفُونَ عُرَاةً فَلَا أُحِبُّ أَنْ أَحُجَّ حَتَّى لَا يَكُونَ ذَلِكَ»،

فَأَرْسَلَ أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي ذِي الْمَجَازِ وَبِأَمْكِنَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بها وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَهِيَ الْأَشْهُرُ الْمُتَوَالِيَاتُ عِشْرُونَ مِنْ ذي الحجة إلى عشر تخلو مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، ثُمَّ لَا عَهْدَ لَهُمْ، وَآذَنَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِالْقِتَالِ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ.

- 3 - وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى: وَإِعْلَامٌ {مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَتَقَدُّمٌ، وَإِنْذَارٌ إِلَى النَّاسِ {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ الَّذِي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكبرها جميعاً {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} أَيْ بَرِيءٌ مِنْهُمْ أَيْضًا. ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ إِلَيْهِ فَقَالَ: {فَإِن تُبْتُمْ} أَيْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ، {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ، وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أَيِ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ}، بَلْ هو قادر عليكم وَأَنْتُمْ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَمَشِيئَتِهِ {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ فِي الدُّنْيَا بالخزي والنكال، وفي الآخرة بالمقامع والأغلال. روى البخاري عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر يؤذن فيمن يؤذن يوم النحر بِمِنَى أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا قِيلَ الْأَكْبَرُ، مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ، فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّذِي حَجَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشرك (أخرجه البخاري في كتاب الجهاد). وقال الإمام أحمد عن أبي هريرة قَالَ: كُنْتُ مَعَ (عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِبَرَاءَةَ فَقَالَ: مَا كنتم تنادون؟ قال: كنا ننادي أنه لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فإن أجله أو مدته إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ فَإِنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، وَلَا يحج هذا البيت بعد عامنا هذا مُشْرِكٌ، قَالَ: فَكُنْتُ أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ صَوْتِي. وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ ببراءة مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَا الْحُلَيْفَةِ قَالَ: «لَا يُبَلِّغُهَا إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي»، فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: حسن غريب). وعن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم حين بعثه ببراءة قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي لَسْتُ بِاللَّسِنِ ولا بالخطيب، قال: «لا بد لي أن أذهب بها أَوْ تَذْهَبَ بِهَا أَنْتَ» قَالَ: فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فَسَأَذْهَبُ أَنَا، قَالَ: «انْطَلِقْ فَإِنَّ اللَّهَ يُثَبِّتُ لِسَانَكَ وَيَهْدِي قَلْبَكَ»، قَالَ: ثُمَّ وَضَعَ يده على فيه. وقال محمد بن إسحاق: نَزَلَتْ بَرَاءَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ لِيُقِيمَ الْحَجَّ لِلنَّاسِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ بَعَثْتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: «لَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي»، ثم دعا علياً فقال: "اذهب بهذ القصة من سورة بَرَاءَةَ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ إِذَا اجتمعوا بمنى أن لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ فَخَرَجَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَضْبَاءِ، حَتَّى أَدْرَكَ أَبَا بَكْرٍ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: أَمِيرٌ أو مأمور؟ فقال: بَلْ مَأْمُورٌ، ثُمَّ مَضَيَا، فَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ للناس الحج إِذْ ذَاكَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْحَجِّ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ قَامَ عَلِيُّ بن أبي طالب فأذن بالناس بِالَّذِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ، فَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ثُمَّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَكَانَ هَذَا مِنْ بَرَاءَةَ فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ الْعَامِّ وَأَهْلِ المدة إلى الأجل المسمى. عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ عرفة، وقال عمرو بن الوليد السهمي عن عباد البصري قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: هَذَا يَوْمُ عَرَفَةَ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَلَا يُصَومَنَّهُ أَحَدٌ، قَالَ: فَحَجَجْتُ بَعْدَ أَبِي فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَسَأَلْتُ عَنْ أَفْضَلِ أَهْلِهَا، فَقَالُوا: (سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ) فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَأَلْتُ عَنْ أَفْضَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، فَأَخْبِرْنِي عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنِّي مِائَةَ ضِعْفٍ (عُمَرُ) أو (ابن عمر) كان ينهى صَوْمِهِ، وَيَقُولُ هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَهَكَذَا رُوِيَ عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وطاووس وغيرهم). والقول الثاني: أنه يوم النحر، قال الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ: سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَقَالَ: هُوَ يَوْمُ النحر. وقال عبد الرزاق عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ قَالَ: يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ. وَقَالَ عبد الله بن سنان خَطَبَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَوْمَ الْأَضْحَى عَلَى بَعِيرٍ فَقَالَ: هَذَا يَوْمُ الْأَضْحَى، وَهَذَا يَوْمُ النحر، وهذا يوم الحج الأكبر، واختاره ابن جرير، وروى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ قَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ وَأَخَذَ بِخِطَامِهِ أَوْ زِمَامِهِ فَقَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قَالَ: فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ هَذَا يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ؟» (رواه ابن جرير قال ابن كثير: إسناده صحيح وأصله مخرج في الصحيحين).

- 4 - إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَرْبِ مُدَّةِ التَّأْجِيلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِمَنْ لَهُ عَهْدٌ مُطْلَقٌ لَيْسَ بؤقت، فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ يَذْهَبُ فِيهَا لِيَنْجُوَ بِنَفْسِهِ حَيْثُ شَاءَ، إِلَّا مَنْ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ الْمَضْرُوبَةِ الَّتِي عُوهِدَ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ (وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ) وَذَلِكَ بشرط أن لا يَنْقُضَ الْمُعَاهَدُ عَهْدَهُ وَلَمْ يُظَاهِرْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أحداً، أي يماليء عَلَيْهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ، فَهَذَا الَّذِي يُوَفَّى لَهُ بذمته وعهده إلى مدته، ولهذا حرض تَعَالَى عَلَى الْوَفَاءِ بِذَلِكَ فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أَيْ الْمُوفِينَ بِعَهْدِهِمْ.

- 5 - فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ في المراد بالأشهر الحرم ههنا مَا هِيَ؟ فَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّهَا المذكروة فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدين القيم} الآية، ولكن قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: آخِرُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي حقهم المحرم، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ السِّيَاقِ ما ذهب إليه ابن عباس (وهو قول مجاهد وقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وهو الأرجح) في رواية العوفي عنه، أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَشْهُرُ التَّسْيِيرِ الْأَرْبَعَةِ الْمَنْصُوصِ عليها بقوله: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أربعة أشهر}، ثُمَّ قَالَ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} أَيْ إِذَا انْقَضَتِ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ فِيهَا قِتَالَهُمْ وَأَجَّلْنَاهُمْ فِيهَا فَحَيْثُمَا وَجَدْتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، لِأَنَّ عَوْدَ الْعَهْدِ عَلَى مَذْكُورٍ أَوْلَى مِنْ مُقَدَّرٍ، ثُمَّ إِنَّ الْأَشْهُرَ الْأَرْبَعَةَ الْمُحَرَّمَةَ سَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِهَا فِي آيَةٍ أُخرى بَعْدُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ. وَقَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} أَيْ مِنَ الْأَرْضِ، وَهَذَا عَامٌّ، وَالْمَشْهُورُ تَخْصِيصُهُ بِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ بِقَوْلِهِ: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم}، وَقَوْلُهُ: {وَخُذُوهُمْ} أَيْ وَأْسِرُوهُمْ، إِنْ شِئْتُمْ قَتْلًا وَإِنْ شِئْتُمْ أَسْرًا، وَقَوْلُهُ: {وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أَيْ لَا تَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ وِجْدَانِكُمْ لَهُمْ، بَلِ اقْصِدُوهُمْ بِالْحِصَارِ فِي مَعَاقِلِهِمْ وَحُصُونِهِمْ، وَالرَّصْدِ فِي طُرُقِهِمْ وَمَسَالِكِهِمْ، حَتَّى تُضَيِّقُوا عَلَيْهِمُ الْوَاسِعَ وَتَضْطَرُّوهُمْ إِلَى الْقَتْلِ أَوِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وَلِهَذَا اعْتَمَدَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِتَالِ مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة، حيث حرمت قتالهم بشرط الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ وَالْقِيَامُ بِأَدَاءِ وَاجِبَاتِهِ، وَنَبَّهَ بأعلاها على أدناها، فإن أشرف أركان الإسلام بعد الشهادتين الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَبَعْدَهَا أَدَاءُ الزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ نَفْعٌ مُتَعَدٍّ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ، وَهِيَ أَشْرَفُ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَخْلُوقِينَ، وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ بَيْنَ الصلاة والزكاة، وقد جاء في الصحيحين: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ» الْحَدِيثَ، وَقَالَ عبد الله ابن مسعود: أمرتم بلإقام الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَمَنْ لَمْ يُزَكِّ فَلَا صلاة له، وقال ابن أَسْلَمَ: أَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ الصَّلَاةَ إِلَّا بالزكاة وقال: يرحم الله ما كان أفقهه! وروى الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَأَكَلُوا ذَبِيحَتَنَا، وَصَلُّوا صَلَاتَنَا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم». قال أنس: تَوْبَتُهُمْ خَلْعُ الْأَوْثَانِ وَعِبَادَةُ رَبِّهِمْ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، ثُمَّ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين}. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ هِيَ آيَةُ السَّيْفِ الَّتِي قال فيها الضحاك: إِنَّهَا نَسَخَتْ كُلَّ عَهْدٍ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وكل عقد وكل مدة. وقال ابن عباس في هذه الآية: أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى

أَنْ يَضَعَ السَّيْفَ فِيمَنْ عَاهَدَ إِنْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَنَقْضِ مَا كَانَ سَمَّى لهم من العهد والمواثيق، وأذهب الشرط الأول. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي آيَةِ السَّيْفِ هَذِهِ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فداء} وَقَالَ قَتَادَةُ بِالْعَكْسِ.

- 6 - وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} الَّذِينَ أَمَرْتُكَ بِقِتَالِهِمْ، وَأَحْلَلْتُ لَكَ اسْتِبَاحَةَ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ {اسْتَجَارَكَ} أَيْ اسْتَأْمَنَكَ فَأَجِبْهُ إِلَى طِلْبَتِهِ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ، أَيْ الْقُرْآنَ تَقْرَؤُهُ عَلَيْهِ، وَتَذْكُرُ لَهُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدين تقيم به عليه حُجَّةَ اللَّهِ {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أَيْ وَهُوَ آمِنٌ مُسْتَمِرُّ الْأَمَانِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بِلَادِهِ وَدَارِهِ وَمَأْمَنِهِ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ إِنَّمَا شَرَعْنَا أَمَانَ مِثْلِ هَؤُلَاءِ لِيَعْلَمُوا دِينَ اللَّهِ وَتَنْتَشِرَ دَعْوَةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعطي الأمان لمن جاءه مسترشداً، كما جاء يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّسُلِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَرَأَوْا مِنْ إِعْظَامِ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَهَرَهُمْ، وَمَا لَمْ يُشَاهِدُوهُ عِنْدَ مَلِكٍ وَلَا قَيْصَرَ، فَرَجَعُوا إِلَى قومهم وأخبروهم بِذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ هِدَايَةِ أَكْثَرِهِمْ. وَلِهَذَا أَيْضًا لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لا تقتل لضربت عنقك»، وَالْغَرَضُ أَنَّ مَنْ قَدِمَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَدَاءِ رِسَالَةٍ أَوْ تجارة أو طلب صلح أو نحو ذلك من الأسباب وطلب مِنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَمَانًا، أُعْطِيَ أَمَانًا مَا دَامَ مُتَرَدِّدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَحَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَأْمَنِهِ وَوَطَنِهِ، لَكِنْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَنَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُمكِّن مِنْ إِقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَنَقَصَ عَنْ سَنَةٍ قَوْلَانِ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ رحمهم الله.

- 7 - كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يُبَيِّنُ تَعَالَى حِكْمَتَهُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَنَظْرَتِهِ إِيَّاهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ السَّيْفُ الْمُرْهَفُ أَيْنَ ثُقِفُوا، فَقَالَ تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} أي إمان وَيُتْرَكُونَ فِيمَا هُمْ فِيهِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ كَافِرُونَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ المسجد الحرام} يعني يوم الحديبية، {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} أَيْ مَهْمَا تَمَسَّكُوا بِمَا عَاقَدْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ وَعَاهَدْتُمُوهُمْ مِنْ تَرْكِ الحرب بينكم وبينهم {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}، وَقَدْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ، اسْتَمَرَّ الْعَقْدُ وَالْهُدْنَةُ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فِي سَنَةِ سِتٍّ إلى أن انقضت قريش العهد ومالأوا حلفاءهم، وهم (بنو بَكْرٍ) عَلَى خُزَاعَةَ أَحْلَافِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَتَلُوهُمْ مَعَهُمْ فِي الْحَرَمِ أَيْضًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ غَزَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْبَلَدَ الْحَرَامَ وَمَكَّنَهُ مِنْ نَوَاصِيهِمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، فَأَطْلَقَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ فَسُمُّوا الطُّلَقَاءَ، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْنِ، وَمَنِ اسْتَمَرَّ

عَلَى كُفْرِهِ وَفَرَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَيْهِ بِالْأَمَانِ وَالتَّسْيِيرِ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَ، ومنهم (صفوان بن أُمية) و (عكرمة بْنُ أَبِي جَهْلٍ) وَغَيْرُهُمَا ثُمَّ هَدَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ التَّامِّ، وَاللَّهُ الْمَحْمُودُ عَلَى جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَفْعَلُهُ.

- 8 - كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وأكثرهم فاسقون يقول تعالى محرضاً المؤمنين على معاداتهم وَالتَّبَرِّي مِنْهُمْ، وَمُبَيِّنًا أَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَن يَكُونَ لَهُمُ عهد لشركهم بالله تعالى وكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنهم لو ظَهَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأُدِيلُوا عَلَيْهِمْ لَمْ يُبْقُوا وَلَمْ يَذَرُوا وَلَا رَاقَبُوا فِيهِمْ إِلًّا وَلَا ذمة، قال ابن عباس: الإل القرابة، والذمة العهد (وهو قول الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ كَمَا قَالَ تَمِيمُ بْنُ مُقْبِلٍ: أَفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا: قَطَعُوا الْإِلَّ وَأَعْرَاقَ الرحم)، وقال مجاهد: الإل: الله أي لا يرقبون الله ولا غيره، والقول الأول أظهر وأشهر وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: الْإِلُّ الْعَهْدُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْإِلُّ الْحِلْفُ.

- 9 - اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ - 10 - لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ - 11 - فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى ذَمًّا لِلْمُشْرِكِينَ وَحَثًّا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى قِتَالِهِمْ: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} يَعْنِي أَنَّهُمُ اعْتَاضُوا عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِ اللَّهِ بِمَا الْتَهَوْا بِهِ مِنْ أُمور الدُّنْيَا الْخَسِيسَةِ {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} أَيْ مَنَعُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} تقدم تفسيرها وكذا الآية التي بعدها.

- 12 - وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ يَقُولُ تَعَالَى: وَإِن نكث هؤلاء المشركون الذين عاهدتم أَيْمَانَهُمْ أَيْ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} أي عابوه وانتقصوه، ومن ههنا أُخِذَ قَتْلُ مَنْ سَبَّ الرَّسُولَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، أَوْ مَنْ طَعَنَ فِي دِينِ الإسلام أو ذكره بنقص، وَلِهَذَا قَالَ: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} أَيْ يَرْجِعُونَ عَمَّا هم فيه من الكفر والعناد والضلال، قال قتادة: أَئِمَّةُ الْكُفْرِ كَأَبِي جَهْلٍ وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَأُمَيَّةَ بن خلف، قال ابن مردوية: مرَّ (سعد بن أبي وقاص) بِرَجُلٍ مِنَ الْخَوَارِجِ، فَقَالَ الْخَارِجِيُّ: هَذَا مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ، فَقَالَ سَعْدٌ: كَذَبْتَ بَلْ أَنَا قاتلت أئمة الكفر، والآية عامة وإن كان سبب نزولها في مشركي قريش والله أعلم.

- 13 - أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرسول وهم بدؤوكم أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ - 14 - قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ - 15 - وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَهَذَا أَيْضًا تَهْيِيجٌ وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين بأيمانهم الَّذِينَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ مَكَّةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يخرجوك}، وَقَالَ تَعَالَى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ منها} الآية، وقوله: {وَهُم بدؤوكم أَوَّلَ مَرَّةٍ} قِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ حين خرجوا لنصر غيرهم، وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَقْضُهُمُ الْعَهْدَ وَقِتَالُهُمْ مَعَ حُلَفَائِهِمْ بَنِي بَكْرٍ لِخُزَاعَةَ أَحْلَافِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَارَ إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ وكان ما كان، وَقَوْلُهُ: {أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ}، يَقُولُ تَعَالَى: لَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ يَخْشَى الْعِبَادُ مِنْ سَطْوَتِي وعقوبتي، ثم قال تعالى بياناً لِحِكْمَتِهِ فِيمَا شَرَعَ لَهُمْ مِنَ الْجِهَادِ، مَعَ قدرته على إهلاك العدو {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} وَهَذَا عَامٌّ فِي المؤمنين كلهم، وقال مجاهد وعكرمة: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} يعني خزاعة، {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ} أَيْ مِنْ عِبَادِهِ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} أَيْ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ، {حَكِيمٌ} فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ فَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَهُوَ الْعَادِلُ الحاكم الذي لا يجور أبداً.

- 16 - أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ} أي ظننتم أَنْ نَتْرُكَكُمْ مُهْمَلِينَ، لَا نَخْتَبِرُكُمْ بِأُمُورٍ يَظْهَرُ فيها الصَّادِقِ مِنَ الْكَاذِبِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} أَيْ بِطَانَةً وَدَخِيلَةً، بَلْ هُمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى النُّصْحِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَاكْتَفَى بِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا * أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يليني وقال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ}؟ وقال تعالى: {ما اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ} الآية، والحاصل: أنه تعالى لما شرع لعباده الجهاد بيَّن أَنَّ لَهُ فِيهِ حِكْمَةً وَهُوَ اخْتِبَارُ عَبِيدِهِ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَهُوَ تَعَالَى العالم بما كان وما يَكُونُ، فَيَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ كَوْنِهِ وَمَعَ كَوْنِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.

- 17 - مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النار

هُمْ خَالِدُونَ - 18 - إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ يَقُولُ تَعَالَى: مَا يَنْبَغِي لِلْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، وَهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أَيْ بِحَالِهِمْ وَقَالِهِمْ: كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ: لَوْ سَأَلْتَ النَّصْرَانِيَّ ما دينك؟ لقال: نصراني، ولو سألت اليهودي ما دينك؟ لقال: يهودي، {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أَيْ بِشِرْكِهِمْ {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}، ولهذا قال تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فَشَهِدَ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ لِعُمَّارِ المساجد. كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر} (رواه أحمد والترمذي وابن مردويه والحاكم). وروى الحافظ أبو بكر البزار عَنْ أَنَسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ هُمْ أهل الله»، وعن أَنَسٍ مَرْفُوعًا يَقُولُ اللَّهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي إِنِّي لَأَهِمُّ بِأَهْلِ الْأَرْضِ عَذَابًا، فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَى عُمَّارِ بُيُوتِي، وَإِلَى الْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَإِلَى الْمُسْتَغْفِرِينَ بالإسحار، صرفت ذلك عنهم (قال ابن عساكر: حديث غريب). وقال عبد الرزاق عن عمر بن ميمون الأودي قال: أدركت أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكْرِمَ مَنْ زَارَهُ فِيهَا، وقال المسعودي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ ولم يأت الْمَسْجِدَ وَيُصَلِّي، فَلَا صَلَاةَ لَهُ وَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (أخرجه ابن مردويه)، وَقَوْلُهُ: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} أَيْ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ {وَآتَى الزَّكَاةَ} أَيْ الَّتِي هِيَ أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق، وقوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} أَيْ وَلَمْ يَخَفْ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَخْشَ سِوَاهُ {فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، قَالَ ابن عباس: من وحّد الله وآمن باليوم الآخر {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} يَعْنِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} يَقُولُ لَمْ يَعْبُدْ إِلَّا اللَّهَ {فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، يَقُولُ تعالى إِنَّ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ كَقَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً}، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ، وَكُلُّ «عَسَى» فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وعسى مِنَ اللَّهِ حَقٌّ.

- 19 - أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ الله لا يستوون عند الله والله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - 20 - الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ - 21 - يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ - 22 - خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ

قَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تفسير هذه الآية: نَزَلَتْ فِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ أسر ببدر قَالَ: لَئِنْ كُنْتُمْ سَبَقْتُمُونَا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، لَقَدْ كُنَّا نَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَنَسْقِي الْحَاجَّ وَنَفُكُّ الْعَانِيَ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ - إِلَى قَوْلِهِ - وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}، يعني أن ذلك كله كَانَ فِي الشِّرْكِ وَلَا أَقْبَلُ مَا كَانَ في الشرك، وقال الضحاك: أَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْعَبَّاسِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ أُسِرُوا يَوْمَ بَدْرٍ يُعَيِّرُونَهُمْ بِالشِّرْكِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نُعَمِّرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَنَفُكُّ الْعَانِيَ، وَنَحْجُبُ الْبَيْتَ، وَنَسْقِي الْحَاجَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} الآية. وعن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: ما أبالي أن لا أَعْمَلَ لِلَّهِ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ، وَقَالَ آخَرُ: بَلْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَالَ آخَرُ: بَلِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا قُلْتُمْ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ: لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ، قَالَ: فَفَعَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد - إِلَى قَوْلِهِ - وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (أخرجه عبد الرزاق ورواه مسلم وأبو داود وابن مردويه وابن حبان وابن جرير وهذا لفظه).

- 23 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - 24 - قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين أمر تعالى بمباينة الكفار، وَإِنْ كَانُوا آبَاءً أَوْ أَبْنَاءً، وَنَهَى عَنْ موالاتهم إن اسْتَحَبُّوا أَيْ اخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَتَوَعَّدَ على ذلك، كقوله تَعَالَى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}، ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَتَوَعَّدَ مَنْ آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَقَالَ: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} أَيْ اكْتَسَبْتُمُوهَا وَحَصَّلْتُمُوهَا {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ} أَيْ تُحِبُّونَهَا لِطِيبِهَا وَحُسْنِهَا أَيْ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ} أَيْ فَانْتَظِرُوا مَاذَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَنَكَالِهِ بِكُمْ وَلِهَذَا قَالَ: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين}. وروى الإمام أحمد عَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فقال: والله يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنَّتْ أَحَبُّ إليَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ»، فَقَالَ عُمَرُ: فَأَنْتَ الْآنَ وَاللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الآن يا عمر» (انفرد بإخراجه البخاري). وقد ثبت

في الصحيح عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أجمعين». وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ بِأَذْنَابِ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى ترجعوا إلى دينكم» (رواه الإمام أحمد وأبو داود واللفظ له عن ابن عمر مرفوعاً).

- 25 - لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وليِتُم مُّدْبِرِينَ - 26 - ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ - 27 - ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يشآء والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَذْكُرُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانَهُ لَدَيْهِمْ فِي نَصْرِهِ إِيَّاهُمْ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ مِنْ غَزَوَاتِهِمْ مَعَ رَسُولِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى وَبِتَأْيِيدِهِ وَتَقْدِيرِهِ لَا بِعَدَدِهِمْ وَلَا بِعُدَدِهِمْ، وَنَبَّهَهُمْ عَلَى أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِهِ سَوَاءٌ قَلَّ الْجَمْعُ أَوْ كَثُرَ، فَإِنَّ يَوْمَ حُنَيْنٍ أعجبتهم كثرتهم (أخرج البيهقي: أن رجلاً قال يوم حنين: لن نغلب من قلة؟ وكانوا اثني عشر ألفاً، فشق ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فأنزل الله: {ويوم حنين ... } الآية)، وَمَعَ هَذَا مَا أَجْدَى ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ وَتَأْيِيدَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الذين معه، لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَبِإِمْدَادِهِ، وَإِنَّ قَلَّ الْجَمْعُ، {فَكَمْ مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصابرين}، وقد كانت وقعة حنين (حنين: اسم موضع بأوطاس، عرف باسم رجل اسمه: حنين بن قانية بن مهلائيل من العماليق، كما في معجم البكري) بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ من الهجرة، وذلك لما فرغ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ وَتَمَهَّدَتْ أُمُورُهَا، وَأَسْلَمَ عَامَّةُ أَهْلِهَا، وَأَطْلَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فبلغه أن (هوزان) جَمَعُوا لَهُ لِيُقَاتِلُوهُ، وَأَنَّ أَمِيرَهُمْ (مَالِكَ بْنَ عوف النضري) ومعه ثقيف بكمالها وناس من بني عمرو بن عامر وعون بن عامر، وقد أقبلوا ومعهم النِّسَاءَ وَالْوِلْدَانَ وَالشَّاءَ وَالنَّعَمَ، وَجَاءُوا بِقَضِّهِمْ وقَضِيضِهِمْ؛ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَيْشِهِ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ لِلْفَتْحِ وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَمَعَهُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وهم الطلقاء في ألفين، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى الْعَدُوِّ، فَالْتَقَوْا بِوَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ يُقَالُ لَهُ حُنَيْنٌ، فَكَانَتْ فِيهِ الْوَقْعَةُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فِي غَلَسِ الصُّبْحِ، انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوزان، فلما توجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم وقد بادروهم، وَرَشَقُوا بِالنِّبَالِ، وَأَصْلَتُوا السُّيُوفَ، وَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، كَمَا أَمَرَهُمْ مَلِكُهُمْ؛ فَعِنْدَ ذَلِكَ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو راكب يومئذ بغلته الشبهاء، يَسُوقُهَا إِلَى نَحْرِ الْعَدُوِّ، وَالْعَبَّاسُ عَمُّهُ آخِذٌ بركابها الأيمن، وَيَقُولُ فِي تِلْكَ الْحَالِ: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ * أَنَا ابْنُ عَبدِ الْمُطَّلِبْ»، وَثَبَتَ مَعَهُ من أصحابه قريب من مائة، ثُمَّ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّهُ الْعَبَّاسَ وَكَانَ جَهِيرَ الصَّوْتِ أَنْ يُنَادِيَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ يَعْنِي شَجَرَةَ بَيْعَةِ

الرِّضْوَانِ الَّتِي بَايَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ تحتها، على أن لا يَفِرُّوا عَنْهُ، فَجَعَلَ يُنَادِي بِهِمْ: يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ، وَيَقُولُ تَارَةً: يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فجعلوا يقولون: لبيك لبيك، وانعطف الناس، فتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن الرجل منهم إن لَمْ يُطَاوِعُهُ بَعِيرُهُ عَلَى الرُّجُوعِ لَبِسَ دِرْعَهُ، ثُمَّ انْحَدَرَ عَنْهُ وَأَرْسَلَهُ، وَرَجَعَ بِنَفْسِهِ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اجتمعت شرذمة منهم عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يَصْدُقُوا الْحَمْلَةَ، وَأَخَذَ قبضة من تراب بَعْدَمَا دَعَا رَبَّهُ وَاسْتَنْصَرَهُ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، ثُمَّ رَمَى الْقَوْمَ بِهَا، فَمَا بَقِيَ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَصَابَهُ مِنْهَا فِي عَيْنَيْهِ وَفَمِهِ مَا شَغَلَهُ عَنِ الْقِتَالِ، ثُمَّ انْهَزَمُوا، فَاتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ أَقْفَاءَهُمْ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. وقال الإمام أحمد عن (يزيد بن أسيد) قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، فَسِرْنَا فِي يَوْمٍ قَائِظٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، فَنَزَلْنَا تَحْتَ ظِلَالِ الشجر، فما زَالَتِ الشَّمْسُ لَبِسْتُ لَأْمَتِي، وَرَكِبْتُ فَرَسِي، فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَهُوَ فِي فُسْطَاطِهِ، فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رسول الله ورحمة الله وبركاته، حَانَ الرَّوَاحُ، فَقَالَ: «أَجَلْ» فَقَالَ: «يَا بِلَالُ»، فثار من تحت سمرة كأن ظلها ظِلُّ طَائِرٍ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَأَنَا فِدَاؤُكَ، فَقَالَ: «أَسْرِجْ لِي فَرَسِي»، فَأَخْرَجَ سَرْجًا دَفَّتَاهُ مِنْ لِيفٍ لَيْسَ فِيهِمَا أَشَرٌ وَلَا بَطَرٌ، قَالَ فَأَسْرَجَ فَرَكِبَ وَرَكِبْنَا، فَصَافَفْنَاهُمْ عَشِيَّتَنَا وَلَيْلَتَنَا، فَتَشَامَّتِ الْخِيلَانِ، فَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، كَمَا قَالَ تعالى: {ثُمَّ وليِتُم مُّدْبِرِينَ}، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عِبَادَ اللَّهِ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» قَالَ: ثُمَّ اقتحم عَنْ فَرَسِهِ، فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ، فَأَخْبَرَنِي الَّذِي كَانَ أَدْنَى إِلَيْهِ مِنِّي أَنَّهُ ضَرَبَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، وَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تعالى، قَالَ يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ: فَحَدَّثَنِي أَبْنَاؤُهُمْ عَنْ آبَائِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ يَبْقَ مِنَّا أَحَدٌ إلا امتلأت عينيه وَفَمُهُ تُرَابًا، وَسَمِعْنَا صَلْصَلَةً بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، كإمرار الحديد على الطست الجديد (رواه الإمام أحمد والحافظ البيهقي). وفي الصحيحين عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن رجلاً قال له: يَا أَبَا عُمَارَةَ أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ فَقَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يفر، إن هوزان كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً، فَلَمَّا لَقِينَاهُمْ وَحَمَلْنَا عَلَيْهِمُ انْهَزَمُوا، فَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَى الْغَنَائِمِ، فَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، فَانْهَزَمَ النَّاسُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ أخذ بلجام بغلته الْبَيْضَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المطلب» (أخرجه الشيخان عن البراء بن عازب). قال تعالى: {ثُمَّ أنزل سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ} أَيْ طُمَأْنِينَتَهُ وَثَبَاتَهُ عَلَى رَسُولِهِ {وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ الَّذِينَ مَعَهُ {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ مَوْلَى ابْنِ بُرْثُنٍ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ كان مع المشركين يوم حنين قال: فلما الْتَقَيْنَا نَحْنُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يوم حنين، لو يقوموا لنا حلب شاة، قال: لما كَشَفْنَاهُمْ جَعَلْنَا نَسُوقُهُمْ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى صَاحِبِ الْبَغْلَةِ الْبَيْضَاءِ، فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَتَلَقَّانَا عِنْدَهُ رِجَالٌ بِيضٌ حِسَانُ الْوُجُوهِ، فَقَالُوا لَنَا: شَاهَتِ الْوُجُوهُ ارْجِعُوا، قَالَ: فَانْهَزَمْنَا وَرَكِبُوا أَكْتَافَنَا، فكانت إياها. وقال ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حُنَيْنٍ، فَوَلَّى عَنْهُ النَّاسُ وَبَقِيتُ مَعَهُ فِي ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ قَدِمْنَا وَلَمْ نولهم الدبرن وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ، قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

على بغلته البيضاء يَمْضِي قُدُمًا، فَحَادَتْ بَغْلَتُهُ، فَمَالَ عَنِ السَّرْجِ، فَقُلْتُ ارْتَفِعْ رَفَعَكَ اللَّهُ، قَالَ: «نَاوِلْنِي كَفًّا مِنَ التُّرَابِ» فَنَاوَلْتُهُ قَالَ: فَضَرَبَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَامْتَلَأَتْ أَعْيُنُهُمْ تُرَابًا قَالَ: «أَيْنَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ؟» قُلْتُ: هُمْ هُنَاكَ، قَالَ: «اهْتِفْ بِهِمْ» فَهَتَفْتُ بِهِمْ، فَجَاءُوا وَسُيُوفُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، كَأَنَّهَا الشُّهُبُ، وَوَلَّى المشركون أدبارهم (رواه الحافظ البيهقي والإمام أحمد في مسنده بنحوه). وعن شيبة بن عثمان قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَدْ عُرِيَ، ذَكَرْتُ أَبِي وَعَمِّي وَقَتْلَ عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ إِيَّاهُمَا، فَقُلْتُ الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي مِنْهُ قَالَ: فَذَهَبْتُ لِأَجِيئَهُ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِذَا أَنَا بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَائِمًا عَلَيْهِ دِرْعٌ بَيْضَاءُ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ يَكْشِفُ عَنْهَا الْعَجَاجُ، فَقُلْتُ: عَمُّهُ وَلَنْ يَخْذُلَهُ، قَالَ: فَجِئْتُهُ عَنْ يَسَارِهِ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي سُفْيَانَ، فَقُلْتُ: ابْنُ عَمِّهِ وَلَنْ يَخْذُلَهُ، فَجِئْتُهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ أُسَوِّرَهُ سَوْرَةً بِالسَّيْفِ، إِذْ رُفِعَ لِي شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ بيني وبينه كأنه برق فخفت أن يخمشني، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى بَصَرِي وَمَشَيْتُ الْقَهْقَرَى، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: «يا شيبة يا شيبة ادْنُ مِنِّي، اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الشَّيْطَانَ» قَالَ: فَرَفَعْتُ إِلَيْهِ بَصَرِي وَلَهُو أَحَبُّ إليَّ مِنْ سمعي وبصري، فقال: «يا شيبة قاتل الكفار» (أخرجه الحافظ البيهقي). قال محمد بن إسحاق عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّا لَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ، إِذْ نَظَرْتُ إِلَى مِثْلِ الْبِجَادِ الْأَسْوَدِ يَهْوِي مِنَ السَّمَاءِ، حَتَّى وَقَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ، فَإِذَا نَمْلٌ مَنْثُورٌ قَدْ مَلَأَ الْوَادِيَ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ، فَمَا كُنَّا نَشُكُّ أَنَّهَا الملائكة، وفي صحيح مسلم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ}، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قَدْ تَابَ اللَّهُ على بقية هوازن فأسلموا وَقَدِمُوا عَلَيْهِ مُسْلِمِينَ وَلَحِقُوهُ، وَقَدْ قَارَبَ مَكَّةَ عِنْدَ الْجِعْرَانَةَ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ بِقَرِيبٍ مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ خيَّرهم بَيْنَ سَبْيِهِمْ وبين أموالهم، فاختاروا سبيهم، وكانوا سنة آلَافِ أَسِيرٍ مَا بَيْنَ صَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ، فردَّه عليهم، وقسم الأموال بين الغانمين، ونفل أناساً من الطلقاء، لكي يتألف قُلُوبَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَعْطَاهُمْ مِائَةً مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أُعْطِيَ مِائَةً (مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ) وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا كَانَ، فَامْتَدَحَهُ بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا: مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ * فِي الناس كلهم بمثل محمد فكأنه ليث على أشباله * وسط المباءة خَادِرٌ فِي مَرْصَدِ

- 28 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - 29 - قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغرون

أَمَرَ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنَيْنِ الطَّاهِرِينَ دِينًا وَذَاتًا، بنفي المشركين الذين هم نجس عَنِ المسجد الحرام، وأن لا يَقْرَبُوهُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ نُزُولُهَا في سنة تسعن وَلِهَذَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً صحبة أبي بكر وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي الْمُشْرِكِينَ أَلَّا يَحُجَّ بعد هذا الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، فَأَتَمَّ الله ذلك وحكم به شرعاً وقدراً، وكتب عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنِ امْنَعُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ دُخُولِ مَسَاجِدِ المسلمين، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، وَقَالَ عَطَاءٌ: الْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ على نجاسة المشرك، كما ورد في الصَّحِيحِ: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ»، وَأَمَّا نَجَاسَةُ بَدَنِهِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْبَدَنِ وَالذَّاتِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ إِلَى نَجَاسَةِ أَبْدَانِهِمْ، وَقَالَ أشعث عن الحسن مَن صافحهم فليتوضأ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِّن فَضْلِهِ}، قال محمد بن إسحاق: قال الناس: لتقطعن عنا الأسواق، ولتهلكن التجارة، وليذهبن عنا ما كنا نصيب فيها من المرافق، فأنزل الله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (في اللباب: أخرج أبي حاتم: كان المشركون يجيئون إلى البيت بالطعام يتجرون فيه، فلما نهوا عن إتيان البيت، قال المسلمون: أين لنا الطعام؟ فأنزل الله: {وَإِنْ خفتم ... } الآية. وأخرج ابن جرير: لما نزلت {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ .. } شقّ ذلك على المسلمين، وقالوا: من يأتينا بالطعام وبالمتاع؟ فأنزل الله الآية) مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ ذَلِكَ {إِن شَآءَ}، إِلَى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي هَذَا عِوَضُ مَا تَخَوَّفْتُمْ مِنْ قَطْعِ تِلْكَ الأسواق، فعوضهم الله مما قطع أَمْرِ الشِّرْكِ مَا أَعْطَاهُمْ مِنْ أَعْنَاقِ أَهْلِ الكتاب من الجزية، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} أَيْ بِمَا يُصْلِحُكُمْ {حَكِيمٌ} أي فيما يأمر وَيَنْهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ الْكَامِلُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، الْعَادِلُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلِهَذَا عَوَّضَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْمَكَاسِبِ بِأَمْوَالِ الْجِزْيَةِ الَّتِي يأخذونها من أهل الذمة، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمَّا كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِيمَانٌ صَحِيحٌ بِأَحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا بِمَا جَاءُوا بِهِ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ آرَاءَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ وَآبَاءَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ، لَا لِأَنَّهُ شَرْعُ اللَّهِ وَدِينُهُ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِمَا بِأَيْدِيهِمْ إِيمَانًا صَحِيحًا لَقَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن جميع الأنبياء بشروا به وأمروا باتباعه، فلما جاءوا كفروا به وهو أشرف الرسل على أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُتَمَسِّكِينَ بِشَرْعِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بَلْ لِحُظُوظِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، فَلِهَذَا لَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ بِبَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِسَيِّدِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ وَخَاتَمِهِمْ وَأَكْمَلِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ نَزَلَتْ أَوَّلَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ أهل الكتاب بعدما تَمَهَّدَتْ أُمُورُ الْمُشْرِكِينَ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ الله أفواجا واستقامت جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ؛ وَلِهَذَا تَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقِتَالِ الرُّومِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ وَأَظْهَرَهُ لَهُمْ، وَبَعَثَ إِلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ حول المدينة فندبهم، واجتمع من المقاتلة نحو ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَتَخَلَّفَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ؛ وَكَانَ ذَلِكَ فِي عَامِ جَدْبٍ، وَوَقْتِ قَيْظٍ وَحَرٍّ، وَخَرَجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الشَّامَ لِقِتَالِ الرُّومِ فَبَلَغَ تَبُوكَ فَنَزَلَ بها

وأقام بها قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ اسْتَخَارَ اللَّهَ فِي الرُّجُوعِ فَرَجَعَ عَامَهُ ذَلِكَ لِضِيقِ الْحَالِ، وَضَعْفِ النَّاسِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدُ إِنْ شاء الله تعالى. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ} أَيْ إِنْ لَمْ يُسْلِمُوا {عَن يَدٍ}: أَيْ عَنْ قَهْرٍ لَهُمْ وهم غلبة {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أَيْ ذَلِيلُونَ حَقِيرُونَ مُهَانُونَ، فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إِعْزَازُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا رَفْعُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَلْ هُمْ أَذِلَّاءُ صَغَرَةٌ أَشْقِيَاءُ، كما جاء في صحيح مسلم: «لا تبدأوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طريق فاضطروهم إِلَى أَضْيَقِهِ» وَلِهَذَا اشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تِلْكَ الشُّرُوطِ الْمَعْرُوفَةَ فِي إِذْلَالِهِمْ وَتَصْغِيرِهِمْ وَتَحْقِيرِهِمْ، وَذَلِكَ مِمَّا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الْحُفَّاظُ مِنْ رِوَايَةِ (عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيِّ) قَالَ: كَتَبْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ صَالَحَ نَصَارَى مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا كِتَابٌ لِعَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى مَدِينَةِ كَذَا وَكَذَا، إِنَّكُمْ لَمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمُ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَذَرَارِينَا وَأَمْوَالِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا، وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا أن لا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا ولا كنسية وَلَا قِلَايَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ، وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْهَا، وَلَا نُحْيِيَ مِنْهَا مَا كان خططاً للمسلمين، وأن لا نَمْنَعَ كَنَائِسَنَا أَنْ يَنْزِلَهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا للمارة وابن السبيل، وأن ننزل مَنْ مَرَّ بِنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ نطعمهم، ولا نؤوي فِي كَنَائِسِنَا وَلَا مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا، وَلَا نَكْتُمَ غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ، وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا، وَلَا نَدْعُوَ إِلَيْهِ أَحَدًا، وَلَا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ ذَوِي قَرَابَتِنَا الدُّخُولَ فِي الإِسلام إِنْ أَرَادُوهُ، وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ نَقُومَ لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِنَا إِنْ أَرَادُوا الْجُلُوسَ، وَلَا نَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ مَلَابِسِهِمْ فِي قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ، وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ، وَلَا نَكْتَنِيَ بِكُنَاهُمْ، وَلَا نَرْكَبَ السُّرُوجَ، وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ، وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنَ السِّلَاحِ، وَلَا نَحْمِلَهُ معنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعريبة، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رؤوسنا، وأن نلزم حَيْثُمَا كُنَّا، وَأَنْ نَشُدَّ الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِنَا، وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا، وأن لا نُظْهِرَ صُلُبَنَا وَلَا كُتُبَنَا فِي شَيْءٍ مِنْ طريق الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِمْ، وَلَا نَضْرِبَ نَوَاقِيسَنَا فِي كنائسنا إلا ضرباً خفيفاً، وأن لا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا بِالْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا فِي شَيْءٍ من حضرة المسلمين، ولا نحرج شعانين ولا بعوثاً، وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ مَوْتَانَا، وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَسْوَاقِهِمْ، وَلَا نُجَاوِرَهُمْ بِمَوْتَانَا، وَلَا نَتَّخِذَ مِنَ الرَّقِيقِ مَا جَرَى عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ نُرْشِدَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، قَالَ: فَلَمَّا أَتَيْتُ عُمَرَ بِالْكِتَابِ زَادَ فِيهِ: «وَلَا نَضْرِبُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» شَرَطْنَا لَكُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا، وَقَبِلْنَا عَلَيْهِ الْأَمَانَ، فَإِنْ نَحْنُ خَالَفْنَا فِي شَيْءٍ مِمَّا شَرَطْنَاهُ لَكُمْ وَوَظَّفْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا، فَلَا ذِمَّةَ لَنَا، وَقَدْ حَلَّ لَكُمْ مِنَّا مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ".

- 30 - وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ - 31 - اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِداً لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَهَذَا إِغْرَاءٌ مِنَ الله تعالى للمؤمنين على قتال الْكُفَّارِ مِنَ (الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) لِمَقَالَتِهِمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ الشَّنِيعَةَ وَالْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا الْيَهُودُ فقالوا في العزيز إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ علواً كبيراً، وَأَمَّا ضَلَالُ النَّصَارَى

فِي الْمَسِيحِ فَظَاهِرٌ، وَلِهَذَا كَذَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الطَّائِفَتَيْنِ، فَقَالَ: {ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} أَيْ لَا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلافهم، {يُضَاهِئُونَ} أَيْ يُشَابِهُونَ {قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} أَيْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ ضَلُّوا كما ضل هؤلاء {قَاتَلَهُمُ الله} قال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَعَنَهُمُ اللَّهُ {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}؟ أَيْ كَيْفَ يَضِلُّونَ عَنِ الْحَقِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَيَعْدِلُونَ إِلَى الْبَاطِلِ؟ وَقَوْلُهُ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}، رَوَى الإمام أحمد والترمذي عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأُسِرَتْ أُخْتُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ مَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُخْتِهِ وَأَعْطَاهَا، فَرَجَعَتْ إلى أخيها فرغبته فِي الْإِسْلَامِ وَفِي الْقُدُومِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي إلى الْمَدِينَةَ، وَكَانَ رَئِيسًا فِي قَوْمِهِ طَيِّئٍ وَأَبُوهُ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ الْمَشْهُورُ بِالْكَرَمِ، فَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِقُدُومِهِ، فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِ عَدِيٍّ صَلِيبٌ مِنْ فِضَّةٍ، وهو يقرأ هَذِهِ الْآيَةَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} قَالَ فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ فَقَالَ: «بَلَى إِنَّهُمْ حَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ وَأَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ فَاتَّبَعُوهُمْ فَذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عدي ما تقول؟ أيضرك أَنْ يُقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ؟ فَهَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا أكبر من الله؟ أيضرك أَنْ يُقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَهَلْ تعلم إلهاً غير الله؟» ثم دعاه إلى الإسلام، وفأسلم وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ وَجْهَهُ اسْتَبْشَرَ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ». وَهَكَذَا قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا فِي تَفْسِيرِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إلها وَاحِداً} أي الذي ما شَرَعَهُ اتُّبِعَ، وَمَا حَكَمَ بِهِ نُفِّذَ {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أَيْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنِ الشُّرَكَاءِ وَالنُّظَرَاءِ وَالْأَعْوَانِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَوْلَادِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.

- 32 - يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ - 33 - هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُ تَعَالَى: يُرِيدُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ {أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ}: أي ما بعث بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ بِمُجَرَّدِ جِدَالِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ، فَمَثَلُهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُطْفِئَ شُعَاعَ الشَّمْسِ أَوْ نُورَ الْقَمَرِ بِنَفْخِهِ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بُدَّ أَنْ يَتِمَّ وَيَظْهَرَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُقَابِلًا لَهُمْ فِيمَا رَامُوهُ وَأَرَادُوهُ: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وَالْكَافِرُ هُوَ الَّذِي يَسْتُرُ الشَّيْءَ وَيُغَطِّيهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} فَالْهُدَى هُوَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْإِخْبَارَاتِ الصَّادِقَةِ وَالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعِلْمِ النافع (ودين الحق) هو الأعمال الصَّحِيحَةُ النَّافِعَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}: أَيْ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لي منها». وعن تميم الدارمي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ هذا الدين يعز عزيزاً ويذل ذليلاً، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ الله به الكفر»، فكان تميم الدارمي يَقُولُ: قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ

بَيْتِي لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرَ والشرف والعز، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وفي المسند أيضاً عن عدي بن حاتم قال: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا عَدِيُّ أَسْلِمْ تَسْلَمْ" فَقُلْتُ: إِنِّي مِنْ أَهْلِ دِينٍ، قَالَ: «أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ»، فَقُلْتُ أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ أَلَسْتَ مَنِ الرَّكُوسِيَّةِ وَأَنْتَ تَأْكُلُ مِرْبَاعَ قَوْمِكَ؟» قُلْتُ بَلَى! قَالَ: «فَإِنَّ هَذَا لاَّ يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ» قَالَ: فَلَمْ يَعْدُ أَنْ قَالَهَا فَتَوَاضَعْتُ لَهَا، قَالَ: «أَمَا إِنِّي أَعْلَمُ مَا الَّذِي يَمْنَعُكَ مِنَ الْإِسْلَامِ، تَقُولُ إِنَّمَا اتَّبَعَهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ وَمَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ، وَقَدْ رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ، أَتَعْرِفُ الْحِيرَةَ؟» قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا وَقَدْ سَمِعْتُ بِهَا. قَالَ: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ حتى تطوف بالبيت من غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَتَفْتَحُنَّ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ» قُلْتُ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟ قَالَ: «نَعَمْ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وَلَيُبْذَلَنَّ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ». قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: فَهَذِهِ الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَقَدْ كُنْتُ فِيمَنْ فَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قالها (أخرجه أحمد في المسند). وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} الآية، أَنَّ ذَلِكَ تَامٌّ، قَالَ: «إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً، فَيَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ فَيَرْجِعُونَ إلى دين آبائهم» (رواه مسلم في صحيحه).

- 34 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - 35 - يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ قَالَ السُّدِّيُّ: الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ، وَالرُّهْبَانُ مِنَ النَّصَارَى، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ الْأَحْبَارَ هُمْ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ والأحبار عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت} وَالرُّهْبَانُ: عُبَّادُ النَّصَارَى، وَالْقِسِّيسُونَ: عُلَمَاؤُهُمْ، كَمَا قَالَ تعالى: {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ورهبانا} وَالْمَقْصُودُ التَّحْذِيرُ مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ وَعُبَّادِ الضَّلَالِ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عُبَّادِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ» قَالُوا: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟»، وَفِي رِوَايَةٍ فَارِسَ وَالرُّومَ؟ قال: «فمن النَّاسُ إِلَّا هَؤُلَاءِ؟». وَالْحَاصِلُ التَّحْذِيرُ مِنَ التَّشَبُّهِ بهم في أقوالهم وأحوالهم، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ،

وَمَنَاصِبِهِمْ وَرِيَاسَتِهِمْ فِي النَّاسِ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَهُمْ بِذَلِكَ، كَمَا كَانَ لِأَحْبَارِ الْيَهُودِ عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ خراج وَهَدَايَا وَضَرَائِبُ تَجِيءُ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَمَرُّوا عَلَى ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ طَمَعًا مِنْهُمْ أَنْ تَبْقَى لَهُمْ تِلْكَ الرِّيَاسَاتُ، فَأَطْفَأَهَا اللَّهُ بنور النبوة وسلبهم إياها، وعوضهم الذل والصغار، وباؤوا بغضب من الله تعالى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ وَهُمْ مَعَ أَكْلِهِمُ الْحَرَامَ، يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَيُلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَيُظْهِرُونَ لِمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْجَهَلَةِ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَلَيْسُوا كَمَا يَزْعُمُونَ، بَلْ هُمْ دُعَاةٌ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} الآية، هؤلاء هم القسم الثالث من رؤوس النَّاسِ، فَإِنَّ النَّاسَ عَالَةٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَعَلَى العبّاد، وعلى أرباب الأموال، فإن فَسَدَتْ أَحْوَالُ هَؤُلَاءِ فَسَدَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ كَمَا قال ابن المبارك: وَهَلْ أفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ * وَأَحْبَارُ سُوءٍ ورهبانها وأما الكنز، فقال ابن عمر: هو المال الذي لا تؤدي زكاته، وعنه قَالَ: مَا أُدي زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ، وَمَا كَانَ ظَاهِرًا لا تؤدي زكاته فهو كنز (وروي هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وغيرهم)، وقال عمر بن الخطاب: أَيُّمَا مَالٍ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ، وَأَيُّمَا مَالٍ لَمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ: هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طهرة لِلْأَمْوَالِ، وَكَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وعراك ابن مَالِكٍ نَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {خُذِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية. قال الإمام أحمد عن ثوبان قال: لما نزل في الذهب والفضة مَا نَزَلَ قَالُوا: فَأَيُّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟ قَالَ عمر: فأنا أعلم لكم ذلك، فَأَوْضَعَ عَلَى بَعِيرٍ فَأَدْرَكَهُ وَأَنَا فِي أَثَرِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟ قال: «قَلْبًا شَاكِرًا وَلِسَانًا ذَاكِرًا وَزَوْجَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ على أمر الآخرة». (حديث آخر): رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الْآيَةَ، كَبُرَ ذلك على المسلمون وقالوا: ما يستطيع أحد منا يدع لولده مالاً يَبْقَى بَعْدَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أَفُرِّجُ عَنْكُمْ، فَانْطَلَقَ عُمَرُ وَاتَّبَعَهُ ثَوْبَانُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ كَبُرَ عَلَى أَصْحَابِكَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلَّا لِيُطَيِّبَ بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرضت الْمَوَارِيثَ مِنْ أَمْوَالٍ تَبْقَى بَعْدَكُمْ»، قَالَ فَكَبَّرَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ الَّتِي إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حفظته» (رواه أحمد وأبو داود والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ هَذَا الْكَلَامُ تَبْكِيتًا وَتَقْرِيعًا وتهكماً، كما في قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} أي هذا بذاك وهذا الَّذِي كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ لِأَنْفُسِكُمْ، وَلِهَذَا يُقَالُ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا وَقَدَّمَهُ عَلَى طَاعَةِ

اللَّهِ عُذّب بِهِ، وَهَؤُلَاءِ لَمَّا كَانَ جَمْعُ هَذِهِ الْأَمْوَالِ آثَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ رِضَا اللَّهِ عنهم عذبوا بها، وكانت أَضَرَّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَيُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَنَاهِيكَ بِحَرِّهَا، فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وجنوبهم وظهورهم، قال عبد الله بن مسعود: والذي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَا يُكْوَى عَبْدٌ بِكَنْزٍ فيمس ديناراً دِينَارًا وَلَا دِرْهَمٌ دِرْهَمًا، وَلَكِنْ يُوَسَّعُ جِلْدُهُ فيوضع كل دينار ودرهم على حدته؛ وقال طاووس: بَلَغَنِي أَنَّ الْكَنْزَ يَتَحَوَّلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا يَتْبَعُ صَاحِبَهُ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ وَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ لَا يُدْرِكُ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا أَخَذَهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا جُعِلَ لَهُ يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ العباد ثُمَّ يُرَى سَبِيلُهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلى النار».

- 36 - إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المتقين عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جمادى وشعبان» (رواه الإمام أحمد وأخرجه البخاري في التفسير بتمامه) الحديث. وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ فَهُوَ الْيَوْمَ كَهَيْئَتِهِ يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ أَوَّلُهُنَّ رَجَبُ مُضَرَ بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الحجة والمحرم» (أخرجه ابن جرير وابن مردويه). وقال سعيد بن منصور عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} قَالَ: مُحَرَّمٌ وَرَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خلق الله السموات وَالْأَرْضَ» تَقْرِيرٌ مِنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وتثبيت للأمر على ما جعله الله فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَلَا نَسِيءٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، كَمَا قَالَ فِي تَحْرِيمِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السموات الأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة»، وهكذا قال ههنا: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السموات والأرض» أي الأمر اليوم شرعاً كما ابتدع الله ذلك في كتابه يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: «قَدِ اسْتَدَارَ كهيئته يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ» أَنَّهُ اتَّفَقَ أَنَّ حَجَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ كَانَتْ نَسَأَتِ النَّسِيءَ يَحُجُّونَ فِي كَثِيرٍ مِّن السِّنِينَ بَلْ أَكْثَرِهَا فِي غَيْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَزَعَمُوا أَنَّ حَجَّةَ الصِّدِّيقِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، كَمَا سنبينه إذا تكلمنا على النسيء.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} فَهَذَا مِمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ أَيْضًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُحَرِّمُهُ، وَهُوَ الذي كان عليه جمهورهم وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» فَإِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَى مُضَرَ لِيُبَيِّنَ صِحَّةَ قَوْلِهِمْ فِي رَجَبٍ أَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، لا كما تَظُنُّهُ رَبِيعَةُ مِنْ أَنَّ رَجَبَ الْمُحَرَّمَ هُوَ الشَّهْرُ الَّذِي بَيْنَ شَعْبَانَ وَشَوَّالٍ وَهُوَ رَمَضَانُ اليوم، فبين صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَجَبُ مُضَرَ لَا رَجَبُ رَبِيعَةَ؛ وَإِنَّمَا كَانَتِ الْأَشْهُرُ الْمُحَرَّمَةُ أَرْبَعَةٌ: ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ، وَوَاحِدٌ فرد، لأجل مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل أشهر الحج شهراً وَهُوَ ذُو الْقَعْدَةِ، لِأَنَّهُمْ يَقْعُدُونَ فِيهِ عَنِ الْقِتَالِ، وَحَرُمَ شَهْرُ ذِي الْحِجَّةِ لِأَنَّهُمْ يُوقِعُونَ فِيهِ الْحَجَّ وَيَشْتَغِلُونَ فِيهِ بِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَحَرُمَ بَعْدَهُ شَهْرٌ آخَرُ وَهُوَ الْمُحَرَّمُ لِيَرْجِعُوا فِيهِ إلى أَقْصَى بِلَادِهِمْ آمِنِينَ، وَحَرُمَ رَجَبُ فِي وَسَطِ الْحَوْلِ لِأَجْلِ زِيَارَةِ الْبَيْتِ وَالِاعْتِمَارِ بِهِ لِمَنْ يَقْدُمُ إِلَيْهِ مِنْ أَقْصَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَيَزُورُهُ ثم يعود إلى وطنه آمناً، وقوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أَيْ هَذَا هُوَ الشَّرْعُ الْمُسْتَقِيمُ مِنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ فِيمَا جَعَلَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَالْحَذْوُ بِهَا عَلَى مَا سبق من كتاب الله الأول، قال تَعَالَى: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ فِي هذه الأشهر المحرمة لأنها آكَدُ وَأَبْلَغُ فِي الْإِثْمِ مِنْ غَيْرِهَا، كَمَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ تُضَاعَفُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أليم}، وَكَذَلِكَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ تَغْلُظُ فِيهِ الْآثَامُ؛ وَلِهَذَا تَغْلُظُ فِيهِ الدِّيَةُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ كثيرة من العلماء، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} قال في الشهور كلها، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَجَعَلَهُنَّ حَرَامًا وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ والعمل الصالح والأجر أعظم، وقال قتادة: إِنَّ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الحُرُم أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يعظم من أمره ما يشاء، وقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى صَفَايا مِنْ خَلْقِهِ، اصْطَفَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ رُسُلًا وَاصْطَفَى مِنَ الْكَلَامِ ذِكْرَهُ، وَاصْطَفَى مِنَ الْأَرْضِ الْمَسَاجِدَ، وَاصْطَفَى مِنَ الشُّهُورِ رَمَضَانَ وَالْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَاصْطَفَى مِنَ الْأَيَّامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاصْطَفَى مِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَعَظِّمُوا مَا عَظَّمَ اللَّهُ، فَإِنَّمَا تعظيم الْأُمُورُ بِمَا عَظَّمَهَا اللَّهُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الفهم وأهل العقل، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ لَا تَجْعَلُوا حَرَامَهَا حَلَالًا وَلَا حلالها حراماً كما فعل أهل الشرك، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَوْلُهُ: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} أَيْ جَمِيعَكُمْ {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} أي جميعاً {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيمِ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ مُحْكَمٌ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) وَهُوَ الْأَشْهَرُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ تعالى قال: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} وَأَمَرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ أَمْرًا عاماً، ولو كَانَ مُحَرَّمًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَأَوْشَكَ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِانْسِلَاخِهَا، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ وَهُوَ ذُو الْقَعْدَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصحيحين أنه خرج إلى هوزان فِي شَوَّالَ فَلَمَّا كَسَرَهُمْ وَاسْتَفَاءَ أَمْوَالَهُمْ وَرَجَعَ فلهم لجأوا إلى الطائف فعمد إلى الطائف، فحاصرهم أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَفْتَتِحْهَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ حاصر في الشهر الحرام (القول الْآخَرُ): أَنَّ ابْتِدَاءَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ حرام وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الْحَرَامِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ}، وَقَالَ: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}، وَقَالَ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية، وأما في قوله: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ وَأَنَّهُ حُكْمٌ مُسْتَأْنَفٌ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ

التَّهْيِيجِ وَالتَّحْضِيضِ، أَيْ كَمَا يَجْتَمِعُونَ لِحَرْبِكُمْ إِذَا حاربكم فَاجْتَمِعُوا أَنْتُمْ أَيْضًا لَهُمْ إِذَا حَارَبْتُمُوهُمْ وَقَاتِلُوهُمْ بِنَظِيرِ مَا يَفْعَلُونَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَذِنَ لِلْمُؤْمِنِينَ بقتال المشركين في الشهر الحرم إِذَا كَانَتِ الْبُدَاءَةُ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} الْآيَةَ، وَهَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ حِصَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الطَّائِفِ وَاسْتِصْحَابِهِ الْحِصَارَ إِلَى أَنْ دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ، فَإِنَّهُ مِنْ تتمة قتال هوزان وأحلافها من ثقيف فإنهم هم الذين ابتدأوا الْقِتَالَ وَجَمَعُوا الرِّجَالَ وَدَعَوْا إِلَى الْحَرْبِ وَالنِّزَالِ، فعندها قَصَدَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَمَّا تَحَصَّنُوا بِالطَّائِفِ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ لِيُنْزِلَهُمْ مِنْ حُصُونِهِمْ فَنَالُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَتَلُوا جَمَاعَةً، وَاسْتَمَرَّ الْحِصَارُ بِالْمَجَانِيقِ وَغَيْرِهَا قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَانَ ابْتِدَاؤُهُ فِي شَهْرٍ حَلَالٍ، وَدَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ فَاسْتَمَرَّ فِيهِ أَيَّامًا ثُمَّ قَفَلَ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لا يغتفر في الابتداء، وهذا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ واللَّهُ أَعْلَمُ.

- 37 - إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ هَذَا مِمَّا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ فِي شَرْعِ الله بآرائهم الفاسدة، وَتَحْلِيلِهِمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَتَحْرِيمِهِمْ مَا أَحَلَّ الله، فإنهم كان فيهم من القوة والعصبية مَا اسْتَطَالُوا بِهِ مُدَّةَ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ فِي التحريم، المانع لهم مِنْ قِتَالِ أَعْدَائِهِمْ، فَكَانُوا قَدْ أَحْدَثُوا قَبْلَ الإسلام بمدة تحليل المحرم فأخروه إِلَى صَفَرٍ، فَيُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَيُحَرِّمُونَ الشَّهْرَ الحلال، ليواطئوا عدة ما حرم الله. قال ابن عباس: النسيء أن جنادة الْكِنَانِيَّ كَانَ يُوَافِي الْمَوْسِمَ فِي كُلِّ عَامٍ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا ثُمَامَةَ، فَيُنَادِي: أَلَا إِنَّ أبا ثمامة لا يجاب وَلَا يُعَابُ، أَلَا وَإِنَّ صَفَرَ الْعَامَ الْأَوَّلَ العام حَلَالٌ فَيَحِلُّهُ لِلنَّاسِ، فَيُحَرِّمُ صَفَرًا عَامًا، وَيُحَرِّمُ الْمُحَرَّمَ عَامًا، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكفر} يقول: يتركون عاماً وعاماً يحرمونه. وعن مُجَاهِدٍ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يَأْتِي كل عام إلى المواسم على حمار له فيقول أيها الناس: إني لا أعاب ولا أجاب وَلَا مَرَدَّ لِمَا أَقُولُ، إِنَّا قَدْ حَرَّمْنَا المحرم وأخرنا صفر؛ ثُمَّ يَجِيءُ الْعَامُ الْمُقْبِلُ بَعْدَهُ، فَيَقُولُ مِثْلَ مقالته، ويقول: إنا قد حرمنا صفر وَأَخَّرْنَا الْمُحَرَّمَ، فَهُوَ قَوْلُهُ: {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} قَالَ: يَعْنِي الْأَرْبَعَةَ فَيُحِلُّوا مَا حرم الله بتأخير هذا الشهر الحرام، فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم يحرمون عوضه صفراً وبعده ربيع وربيع إلى آخر السنة بِحَالِهَا عَلَى نِظَامِهَا وَعِدَّتِهَا وَأَسْمَاءِ شُهُورِهَا، ثُمَّ في السنة الثانية يُحَرِّمُونَ الْمُحَرَّمَ وَيَتْرُكُونَهُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَبَعْدَهُ صَفَرٌ وَرَبِيعٌ وَرَبِيعٌ إِلَى آخِرِهَا فَيُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ}: أَيْ فِي تَحْرِيمِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنَ السَّنَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ تَارَةً يُقَدِّمُونَ تَحْرِيمَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْمُتَوَالِيَةِ وَهُوَ الْمُحَرَّمُ، وَتَارَةً يَنْسَئُونَهُ إِلَى صَفَرٍ أَيْ يُؤَخِّرُونَهُ، وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار» الحديث: أَيْ أَنَّ الْأَمْرَ فِي عِدَّةِ الشُّهُورِ، وَتَحْرِيمِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ مِنْهَا، عَلَى مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْعَدَدِ وَالتَّوَالِي، لَا كما تعتمده جَهَلَةُ الْعَرَبِ مِنْ فَصْلِهِمْ تَحْرِيمَ بَعْضِهَا بِالنَّسِيءِ عن بعض والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق: كَانَ أَوَّلَ مَنْ نَسَأَ الشُّهُورَ عَلَى الْعَرَبِ فَأَحَلَّ مِنْهَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَحَرَّمَ مِنْهَا ما أحل الله عزَّ وجلَّ (القلمس)، ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُهُ عَبَّادٌ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ عَبَّادٍ ابْنُهُ قَلَعُ بْنُ عَبَّادٍ، ثُمَّ ابْنُهُ أُمَيَّةُ بْنُ قَلَعٍ، ثُمَّ ابنه

عَوْفُ بْنُ أُمية، ثُمَّ ابْنُهُ أَبُو ثُمَامَةَ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ آخِرَهُمْ، وَعَلَيْهِ قَامَ الْإِسْلَامُ، فَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَجِّهَا اجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ، فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، فَحَرَّمَ رَجَبًا وَذَا الْقَعْدَةِ وَذَا الْحِجَّةِ، وَيُحِلُّ الْمُحَرَّمَ عَامًا، ويجعل مكانه صفر، وَيُحَرِّمُهُ عَامًا لِيُوَاطِئَ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فيحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله، والله أعلم. (أخرج ابن جرير: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهراً، فيحلون المحرم صفراً، فيستحلون فيه المحرمات، فأنزل الله {إِنَّمَا النسيء ... } الآية).

- 38 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ - 39 - إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هَذَا شُرُوعٌ فِي عِتَابِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وحَمَارَّةِ الْقَيْظِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ}: أَيْ تَكَاسَلْتُمْ وَمِلْتُمْ إِلَى الْمَقَامِ فِي الدَّعَةِ وَالْخَفْضِ وَطَيِّبِ الثِّمَارِ {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ}؟ أَيْ ما لكم فعلتم هكذا رضاً مِنْكُمْ بِالدُّنْيَا بَدَلًا مِنَ الْآخِرَةِ؛ ثُمَّ زهَّد تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الدُّنْيَا، ورغَّب فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ»، وأشار بالسبابة (أخرجه مسلم في صحيحه والإمام أحمد في المسند). وقال الأعمش {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} قَالَ: كَزَادِ الرَّاكِبِ، وَقَالَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ: لَمَّا حَضَرَتْ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مَرْوَانَ الْوَفَاةُ، قَالَ: ائْتُونِي بِكَفَنَيِ الَّذِي أُكَفَّنُ فِيهِ أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ نَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَمَا لي من كبير ما أخاف مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا هَذَا؟ ثُمَّ وَلَّى ظَهْرَهُ فَبَكَى، وَهُوَ يَقُولُ: أُفٍّ لَكِ مِنْ دَارٍ إِنْ كَانَ كَثِيرُكِ لَقَلِيلٌ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلُكِ لَقَصِيرٌ، وَإِنْ كُنَّا مِنْكِ لَفِي غُرُورٍ. ثُمَّ توعد تعالى من تَرْكِ الْجِهَادِ فَقَالَ: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَنْفَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا مِنَ الْعَرَبِ فَتَثَاقَلُوا عَنْهُ فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْقَطْرَ فَكَانَ عَذَابَهُمْ {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ}: أَيْ لِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ وإقامة دينه كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ * ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً}: أَيْ وَلَا تَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا بِتَوَلِّيكُمْ عَنِ الْجِهَادِ، ونُكُولِكُمْ وَتَثَاقُلِكُمْ عَنْهُ {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أَيْ قَادِرٌ على الانتصار من الأعداء بدونكم.

- 40 - إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

يَقُولُ تَعَالَى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} أَيْ تَنْصُرُوا رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ وَمُؤَيِّدُهُ وَكَافِيهِ وَحَافِظُهُ كَمَا تَوَلَّى نَصْرَهُ {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين} أَيْ عَامَ الْهِجْرَةِ، لَمَّا هَمَّ الْمُشْرِكُونَ بِقَتْلِهِ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ هَارِبًا صُحْبَةَ صِدِّيقِهِ وَصَاحِبِهِ أَبِي بكر، فَلَجَأَ إِلَى (غَارِ ثَوْرٍ) ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيَرْجِعَ الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم يسيروا نَحْوَ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَجْزَعُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ، فَيَخْلُصَ إلى الرسول عليه الصلاة والسلام مِنْهُمْ أَذًى، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَكِّنُهُ وَيُثَبِّتُهُ وَيَقُولُ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا». كَمَا قَالَ الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَهُ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ قَالَ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» (أخرجه الشيخان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أَيْ تَأْيِيدَهُ وَنَصْرَهُ عَلَيْهِ، أَيْ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم (في الأشهر وروي عن ابن عباس وغيره أن الضمير يعود على (أبي بكر) لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تزل معه سكينة قال ابن كثير وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة)، وقيل: على أبي بكر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تزل معه سكينة، {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا}: أَيِ الْمَلَائِكَةِ {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العليا} قال ابن عباس: يعني بكلمة الذين كفروا - الشرك، وكلمة اللَّهِ هِيَ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}. وَفِي الصحيحين: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} أَيْ فِي انْتِقَامِهِ وَانْتِصَارِهِ، مَنِيعُ الْجَنَابِ لَا يُضَامُ مَنْ لَاذَ بِبَابِهِ، وَاحْتَمَى بِالتَّمَسُّكِ بِخِطَابِهِ، {حَكِيمٌ} فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.

- 41 - انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ أمر الله تعالى بالنفير العام مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ لِقِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنَ الرُّومِ الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَحَتَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْخُرُوجِ مَعَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَالْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، فَقَالَ: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} وقال أبو طلحة: كهولاً وشباناً (قال ابن عباس والحسن البصري وعكرمة ومقاتل والضحّاك وغير واحد {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} أي شباباً وكهولاً) ما سمع الله عذر أحد، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَرَأَ أَبُو طَلْحَةَ سُورَةَ بَرَاءَةَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَقَالَ: أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباناً، جَهِّزُونِي يَا بنَّي، فَقَالَ بَنُوهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ قد غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَاتَ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى مَاتَ، وَمَعَ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ، فَنَحْنُ نَغْزُو عَنْكَ، فَأَبَى، فَرَكِبَ الْبَحْرَ، فَمَاتَ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ جَزِيرَةً يَدْفِنُوهُ فِيهَا إِلَّا بَعْدَ تِسْعَةِ أَيَّامٍ، فلم يتغير فدفنوه فيها. وقال مجاهد: شباناً وشيوخاً وأغنياء ومساكين، وقال الحكم: مَشَاغِيلُ وَغَيْرُ مَشَاغِيلَ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عباس {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} يَقُولُ: انْفَرُوا نَشَاطًا وَغَيْرَ نشاط؛ وقال الحسن البصري: فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعُمُومِ فِي الْآيَةِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وقال الإمام الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا كَانَ النَّفِيرُ إِلَى دُرُوبِ الرُّومِ نَفَرَ النَّاسُ إِلَيْهَا خِفَافًا وَرُكْبَانًا، وَإِذَا كَانَ النَّفِيرُ إِلَى هَذِهِ السَّوَاحِلِ نَفَرُوا إِلَيْهَا خِفَافًا وَثِقَالًا وَرُكْبَانًا وَمُشَاةً؛ وَهَذَا تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ وَقَالَ السُّدِّيُّ قَوْلُهُ {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} يَقُولُ: غَنِيًّا وَفَقِيرًا وَقَوِيًّا وَضَعِيفًا فَجَاءَهُ رَجُلٌ يَوْمَئِذٍ زَعَمُوا أَنَّهُ الْمِقْدَادُ وَكَانَ عَظِيمًا سَمِينًا، فَشَكَا إليه،

وَسَأَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فَأَبَى، فَنَزَلَتْ يَوْمَئِذٍ: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اشتد على الناس، فَنَسَخَهَا اللَّهُ فَقَالَ: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ}. وقال ابن جرير عن أبي راشد الحراني قَالَ: وَافَيْتُ (الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ) فَارِسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا عَلَى تابوت من توابيت الصيارفة بحمص وقد فصل عَنْهَا مِنْ عِظَمِهِ يُرِيدُ الْغَزْوَ، فَقُلْتُ لَهُ: قد أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: أَتَتْ عَلَيْنَا سُورَةُ البعوث: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً}، وقال ابن جرير عن حبان بْنُ زَيْدٍ الشَّرْعَبِيُّ قَالَ: نَفَرْنَا مَعَ (صَفْوَانَ بن عمرو) وكان والياً على حمص، فرأيت شيخاً كبيراً قد سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ على راحلته فيمن أغار فأقلبت إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا عَمِّ لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكَ، قَالَ: فَرَفَعَ حَاجِبَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، إلا إِنَّهُ مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ يَبْتَلِيهِ ثُمَّ يُعِيدُهُ اللَّهُ فَيُبْقِيهِ، وَإِنَّمَا يَبْتَلِي اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ شَكَرَ وَصَبَرَ وَذَكَرَ، وَلَمْ يَعْبُدْ إِلَّا اللَّهَ عزَّ وجلَّ. ثُمَّ رَغَّبَ تَعَالَى فِي النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِهِ وَبَذْلِ الْمُهَجِ فِي مَرْضَاتِهِ وَمَرْضَاةِ رَسُولِهِ، فَقَالَ: {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ هَذَا خَيْرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا والآخرة، لأنكم تَغْرَمُونَ فِي النَّفَقَةِ قَلِيلًا، فَيُغْنِمُكُمُ اللَّهُ أَمْوَالَ عَدُوِّكُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَكُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تكفل اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ إِنْ تَوَفَّاهُ أَنْ يدخله الجنة، أو يرده إلى منزلة بما نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} الآية، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: «أَسْلِمْ» قَالَ أَجِدُنِي كَارِهًا، قَالَ: أَسْلِمْ وَإِنْ كُنْتَ كَارِهًا".

- 42 - لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُوَبِّخًا لِلَّذِينِ تَخَلَّفُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غزوة تبوك وقعدوا بعدما اسْتَأْذَنُوهُ فِي ذَلِكَ، مُظْهِرِينَ أَنَّهُمْ ذَوُو أَعْذَارٍ وَلَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، فَقَالَ: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَنِيمَةٌ قَرِيبَةٌ {وَسَفَرًا قَاصِدًا} أَيْ قَرِيبًا أَيْضًا {لَاتَّبَعُوكَ}: أَيْ لَكَانُوا جَاءُوا مَعَكَ لِذَلِكَ {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ}: أَي الْمَسَافَةُ إِلَى الشَّامِ {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ}: أَيْ لَكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا معكم}: أي لو لم يكن لَنَا أَعْذَارٌ لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.

- 43 - عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ - 44 - لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ - 45 - إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ قَالَ عون: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ ناداه بِالْعَفْوِ قَبْلَ الْمُعَاتَبَةِ، فَقَالَ: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لم أذنت

لهم} (أخرج ابن جرير: اثنان قبلهما رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسارى فأنزل الله: {عَفَا الله عَنكَ} اللباب)، وَقَالَ قَتَادَةُ: عَاتَبَهُ كَمَا تَسْمَعُونَ، ثُمَّ أَنْزَلَ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي أن يأذن لهم إن شاء، فقال: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ منهم} الآية. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أُنَاسٍ قالوا: اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ أَذِنَ لَكُمْ فَاقْعُدُوا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ فَاقْعُدُوا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ} أَيْ فِي إِبْدَاءِ الْأَعْذَارِ {وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} يَقُولُ تَعَالَى: هَلَّا تَرَكْتَهُمْ لَمَّا اسْتَأْذَنُوكَ فَلَمْ تَأْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الْقُعُودِ، لِتَعْلَمَ الصَّادِقَ مِنْهُمْ فِي إِظْهَارِ طَاعَتِكَ مِنَ الْكَاذِبِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ وَإِنْ لَمْ تَأْذَنْ لَهُمْ فِيهِ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ أَحَدٌ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ} أَيْ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} لأنهم يَرَوْنَ الْجِهَادَ قُرْبَةً وَلَمَّا نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ بَادَرُوا وَامْتَثَلُوا {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ}: أَيْ فِي الْقُعُودِ مِمَّنْ لَا عُذْرَ لَهُ {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أَيْ لَا يَرْجُونَ ثَوَابَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} أَيْ شَكَّتْ فِي صِحَّةِ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ، {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}: أَيْ يَتَحَيَّرُونَ، يُقَدِّمُونَ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُونَ أُخْرَى وَلَيْسَتْ لَهُمْ قَدَمٌ ثَابِتَةٌ فِي شَيْءٍ، فَهُمْ قَوْمٌ حَيَارَى هَلْكَى، لاَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلَاءِ، وَمَنْ يضلل الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سبيلا.

- 46 - وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ. - 47 - لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ} أَيْ مَعَكَ إِلَى الْغَزْوِ {لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} أَيْ لَكَانُوا تَأَهَّبُوا لَهُ {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} أَيْ أَبْغَضَ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَكَ قَدَرًا {فَثَبَّطَهُمْ} أَيْ أَخَّرَهُمْ، {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعدين} أي قدراً، ثم بين تَعَالَى وَجْهَ كَرَاهِيَتِهِ لِخُرُوجِهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} أَيْ لِأَنَّهُمْ جُبَنَاءُ مَخْذُولُونَ {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أَيْ وَلَأَسْرَعُوا السَّيْرَ وَالْمَشْيَ بَيْنَكُمْ بِالنَّمِيمَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالْفِتْنَةِ، {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أَيْ مُطِيعُونَ لَهُمْ وَمُسْتَحْسِنُونَ لِحَدِيثِهِمْ وَكَلَامِهِمْ يَسْتَنْصِحُونَهُمْ وَإِنْ كَانُوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي إِلَى وُقُوعِ شَرٍّ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَفَسَادٍ كَبِيرٍ. وقال مجاهد {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}: أَيْ عُيُونٌ يَسْمَعُونَ لَهُمُ الْأَخْبَارَ وَيَنْقُلُونَهَا إِلَيْهِمْ، وَهَذَا لَا يَبْقَى لَهُ اخْتِصَاصٌ بِخُرُوجِهِمْ مَعَهُمْ، بَلْ هَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْمُنَاسَبَةِ بِالسِّيَاقِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وقال محمد ابن إسحاق: كان الذين استأذنوا فيما بلغني مِنْ ذَوِي الشَّرَفِ مِنْهُمْ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي سلول) و (الجد بْنُ قَيْسٍ) وَكَانُوا أَشْرَافًا فِي قَوْمِهِمْ فَثَبَّطَهُمُ اللَّهُ لِعِلْمِهِ بِهِمْ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ فَيُفْسِدُوا عَلَيْهِ جُنْدَهُ، وَكَانَ فِي جُنْدِهِ قَوْمٌ أَهْلُ مَحَبَّةٍ لَهُمْ وَطَاعَةٍ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ لِشَرَفِهِمْ فِيهِمْ، فَقَالَ: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ تَمَامِ عِلْمِهِ فَقَالَ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالظالمين}،

فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} فَأَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ كَيْفَ يَكُونُ لَوْ خَرَجُوا وَمَعَ هَذَا مَا خَرَجُوا، كما قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تثبيتاً}.

- 48 - لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُحَرِّضًا لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الْأُمُورَ} أَيْ لَقَدْ أَعْمَلُوا فِكْرَهُمْ وَأَجَالُوا آرَاءَهُمْ فِي كَيْدِكَ وَكَيْدِ أَصْحَابِكَ وخذلان دينك وإخماده مُدَّةً طَوِيلَةً، وَذَلِكَ أَوَّلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ رَمَتْهُ الْعَرَبُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَحَارَبَتْهُ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَمُنَافِقُوهَا فَلَمَّا نَصَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَعْلَى كَلِمَتَهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ، فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا، ثُمَّ كُلَّمَا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ غَاظَهُمْ ذَلِكَ وَسَاءَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}.

- 49 - وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَقُولُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ {ائْذَنْ لِي} فِي الْقُعُودِ، {وَلاَ تَفْتِنِّي} بِالْخُرُوجِ مَعَكَ بِسَبَبِ الْجَوَارِي مِنْ نساء الروم، قال تَعَالَى: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} أَيْ قَدْ سَقَطُوا فِي الْفِتْنَةِ بِقَوْلِهِمْ هَذَا، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جَهَازِهِ (لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ): «هَلْ لَكَ يَا جَدُّ الْعَامَ فِي جِلَادِ بني الأصفر؟» فقال: يا رسول الله أو تأذن لِي وَلَا تَفْتِنِّي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي مَا رَجُلٌ أَشَدُّ عَجَبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لَا أَصْبِرُ عَنْهُنَّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «قَدْ أَذِنْتُ لَكَ»، فَفِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} (أخرجه محمد بن إسحاق عن الزهري وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وغير واحد، وكان الجد بن قيس من أشراف بني سلمة) الآية: أي إن كان يَخْشَى مِنْ نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ به، فما سقط فيه من الفتنة لتخلفه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم، {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أَيْ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا وَلَا مَحِيصَ وَلَا مَهْرَبَ.

- 50 - إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ - 51 - قُلْ لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون يعلم تبارك وتعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم بعدواة هَؤُلَاءِ لَهُ لِأَنَّهُ مَهْمَا أَصَابَهُ مِنْ حَسَنَةٌ، أَيْ فَتْحٍ وَنَصْرٍ وَظَفَرٍ عَلَى الْأَعْدَاءِ مِمَّا يَسُرُّهُ وَيَسُرُّ أَصْحَابُهُ سَاءَهُمْ ذَلِكَ، {وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ} (في اللباب: أخرج ابن أبي حاتم: جعل المنافقون المتخلفون بالمدينة يخبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار السوء، ويقولون: إنه هو وأصحابه، فساءهم ذلك، فأنزل الله: {إن تصبك حسنة ... } الآية) أي قد احترزنا -[148]- من متابعته قَبْلِ هَذَا، {وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} فَأَرْشَدَ اللَّهُ تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جَوَابِهِمْ فِي عَدَاوَتِهِمْ هَذِهِ التَّامَّةِ، فَقَالَ {قُل} أَيْ لَهُمْ، {لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ الله لَنَا} أي نحن تحت مشيئته وَقَدَرِهِ، {هُوَ مَوْلاَنَا} أَيْ سَيِّدُنَا وَمَلْجَؤُنَا، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أَيْ وَنَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

- 52 - قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ - 53 - قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ - 54 - وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ، {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ} أَيْ تَنْتَظِرُونَ بِنَا {إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} شهادة أو ظفر بكم، {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} أي ننتظر بِكُمْ {أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} أي ننتظر بكم هذا بِسَبْيٍ أَوْ بِقَتْلٍ، {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ}، وقوله تعالى: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أو كرها} (في اللباب: أخرج ابن جرير: قال الجد بن قيس: إني رأيت لم أصبر ولكن أعينك بمالي، فنزلت فيه: {أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كرها ... } الآية) أَيْ مَهْمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ طَائِعِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ} ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ {إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ} أي وَالْأَعْمَالُ إِنَّمَا تَصِحُّ بِالْإِيمَانِ، {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلاَّ وَهُمْ كسالى} أي ليس لهم قدم صَحِيحٌ وَلَا هِمَّةٌ فِي الْعَمَلِ، {وَلاَ يُنفِقُونَ} نَفَقَةً {إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ}، وَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ المصدوق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يمل حتى تملوا» و «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيَّبًا»، فَلِهَذَا لَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ هَؤُلَاءِ نَفَقَةً وَلَا عَمَلًا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.

- 55 - فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ}، كقوله تَعَالَى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا}، وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: بِزَكَاتِهَا وَالنَّفَقَةِ مِنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ تَقْدِيرُهُ: فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَوِيُّ الْحَسَنُ، وَقَوْلُهُ: {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أَيْ وَيُرِيدُ أَنْ يُمِيتَهُمْ - حِينَ يُمِيتُهُمْ - عَلَى الْكُفْرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَنَكَى لَهُمْ وَأَشَدَّ لِعَذَابِهِمْ؛ عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْرَاجِ لهم فما هم فيه.

- 56 - وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ - 57 - لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ يخبر تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم عَنْ جَزَعِهِمْ وَفَزَعِهِمْ وَفَرَقِهِمْ وَهَلَعِهِمْ أَنَّهُمْ {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} يَمِينًا مُؤَكَّدَةً {وَمَا هُم مِّنكُمْ} أَيْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أَيْ فَهُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى الْحَلِفِ، {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} أَيْ حِصْنًا يَتَحَصَّنُونَ بِهِ وحرزاً يتحرزون بِهِ، {أَوْ مَغَارَاتٍ} وَهِيَ الَّتِي فِي الْجِبَالِ {أَوْ مُدَّخَلاً} وَهُوَ السَّرَبُ فِي الْأَرْضِ وَالنَّفَقُ، {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أَيْ يُسْرِعُونَ فِي ذَهَابِهِمْ عَنْكُمْ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُخَالِطُونَكُمْ كرهاًَ لَا محبة، وَلِهَذَا لَا يَزَالُونَ فِي هَمٍّ وَحُزْنٍ وَغَمٍّ، لأن الإسلام وأهله لا يزالون في عز ونصر ورفعة.

- 58 - وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ - 59 - وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ} أَيْ وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ {مَّن يَلْمِزُكَ} أَيْ يَعِيبُ عَلَيْكَ {فِي} قَسْمَ {الصَّدَقَاتِ} إِذَا فَرَّقْتَهَا، وَيَتَّهِمُكَ فِي ذَلِكَ، وَهُمُ الْمُتَّهَمُونَ المأبونون، ومع هَذَا لَا يُنْكِرُونَ لِلدِّينِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ لِحَظِّ أنفسهم، ولهذا {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أَيْ يَغْضَبُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، قال قتادة: وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْعَنُ عَلَيْكَ فِي الصَّدَقَاتِ، وَذُكِرَ لنا أن رجلاً من أهل البادية أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ ذَهَبًا وَفِضَّةً، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَعْدِلَ مَا عَدَلْتَ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ويلك فمن الذي يعدل عليك بعدي؟»، وهذا الذي ذكره قتادة يشبه ما رواه الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ (ذِي الْخُوَيْصِرَةِ) لَمَّا اعْتَرَضَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَ لَهُ: اعدل، فإنك لن تَعْدِلْ، فَقَالَ: «لَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ»؛ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَآهُ مُقَفِّيًا: «إِنَّهُ يخرج من ضِئْضِيء (أي من أصله ومعدنه أو من نسله) هَذَا قَوْمٌ يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهِ مَعَ صِيَامِهِمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ»، وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى ما هو خير لهم من ذلك {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَدَبًا عَظِيمًا وَسِرًّا شَرِيفًا، حَيْثُ جَعَلَ الرِّضَا بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالتَّوَكُّلَ على الله وحده، في قَوْلُهُ {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ}، وَكَذَلِكَ الرَّغْبَةُ إِلَى الله وحده، في التوفيق لطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ، وَتَصْدِيقِ أَخْبَارِهِ وَالِاقْتِفَاءِ بآثاره.

- 60 - إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

لما ذكر تَعَالَى اعْتِرَاضَ الْمُنَافِقِينَ الْجَهَلَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْزَهُمْ إِيَّاهُ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ، بيَّن تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَسَمَهَا وَبَيَّنَ حُكْمَهَا وَتَوَلَّى أَمْرَهَا بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَكِلْ قَسْمَهَا إِلَى أَحَدٍ غَيْرِهِ، فَجَزَّأَهَا لِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، هل يجب استيعاب الدفع لها أَوْ إِلَى مَا أَمْكَنَ مِنْهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أحدهما) أنه يجب ذلك، وهو الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ، (وَالثَّانِي): أَنَّهُ لَا يَجِبُ اسْتِيعَابُهَا بل يجوز الدفع إلى واحد منها، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ (منهم عمر وابن عباس وحذيفة وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون ابن مهران وغيرهم). وقال ابْنُ جَرِيرٍ: وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ وإنما قدم الفقراء ههنا على البقية لأنهم أحوج من غيرهم على المشهور، ولشدة فَاقَتِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ أحمد، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْفَقِيرُ لَيْسَ بِالَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَلَكِنَّ الْفَقِيرَ الْأَخْلَقُ الْكَسْبِ؛ قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: الْأَخْلَقُ الْمُحَارَفُ عِنْدَنَا وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا، وَالْمِسْكِينَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ وَيَطُوفُ وَيَتَّبِعُ النَّاسَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفَقِيرُ مَنْ بِهِ زَمَانَةٌ، وَالْمِسْكِينُ الصَّحِيحُ الْجِسْمِ. وَلْنَذْكُرْ أَحَادِيثَ تَتَعَلَّقُ بِكُلٍّ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ. فأما الفقراء فعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرّةٍ سَوِيٍّ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو داود والترمذي). وعن عبيد الله ابن عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلَانِهِ من الصدقة فقلّب فيهما الْبَصَرَ، فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: «إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قوي)، وَأَمَّا الْمَسَاكِينُ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ» قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسُ شَيْئًا» (رواه الشيخان). وَأَمَّا الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَهُمُ الْجُبَاةُ وَالسُّعَاةُ يَسْتَحِقُّونَ مِنْهَا قِسْطًا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَن يَكُونُواْ مِنَ أَقْرِبَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ تَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ لِمَا ثبت عن عبد المطلب بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ انْطَلَقَ هُوَ وَالْفَضْلُ بْنُ العباس يَسْأَلَانِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَعْمِلَهُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ إِنَّمَا هِيَ أوساخ الناس» (رواه مسلم). وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَأَقْسَامٌ: مِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى لِيُسْلِمَ، كَمَا أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صَفْوَانَ بْنَ أُمية) مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ، وقد كان شهدهاً مشركاً، كما قال الإمام أحمد عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إليَّ، فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حتى إنه لأحب الناس إلي (رواه أحمد ومسلم والترمذي). وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى لِيَحْسُنَ إِسْلَامُهُ وَيَثْبُتَ قَلْبُهُ، كَمَا أَعْطَى يَوْمَ حُنَيْنٍ أَيْضًا جَمَاعَةً مِنْ صَنَادِيدِ الطُّلَقَاءِ وَأَشْرَافِهِمْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَقَالَ: «إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أحب إليَّ منه خشية أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ». وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ عَلِيًّا بَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم

بذهبيه فِي تُرْبَتِهَا مِنَ الْيَمَنِ فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ، وَزَيْدِ الْخَيْرِ، وَقَالَ: «أَتَأَلَّفُهُمْ»، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى لِمَا يُرْجَى مِنْ إِسْلَامِ نُظَرَائِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى لِيَجْبِيَ الصَّدَقَاتِ مِمَّنْ يَلِيهِ أَوْ لِيَدْفَعَ عَنْ حَوْزَةِ الْمُسْلِمِينَ الضَّرَرَ من أطراف البلاد. وَهَلْ تُعْطَى الْمُؤَلَّفَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فِيهِ خِلَافٌ، فَرُوِيَ عن عمر وعامر والشعبي وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ بَعْدَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ وَمَكَّنَ لَهُمْ فِي الْبِلَادِ وَأَذَلَّ لَهُمْ رِقَابَ الْعِبَادِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يُعْطَوْنَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ أعطاهم بعد فتح مكة وكسر هوزان، وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَيُصْرَفُ إِلَيْهِمْ. وَأَمَّا الرِّقَابُ فَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُقَاتِلِ وسعيد بن جبير أنهم المكاتبون؛ وهو قول الشافعي والليث رضي الله عنهما، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ لَا بَأْسَ أَنْ تعتق الرقبة من الزكاة، وهو مذهب أحمد ومالك أَيْ إِنَّ الرِّقَابَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُعْطَى المكاتب أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالاً؛ وفي الحديث: "ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الذي يريد العفاف" (رواه أحمد وأصحاب السُّنَنِ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ). وَفِي الْمُسْنَدِ عَنِ أبي الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، فَقَالَ: «أَعْتِقِ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أو ليسا وَاحِدًا؟ قَالَ: «لَا، عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تُفْرَدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وَأَمَّا الْغَارِمُونَ فَهُمْ أَقْسَامٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً أَوْ ضَمِنَ دَيْنًا فَلَزِمَهُ فَأَجْحَفَ بِمَالِهِ أَوْ غَرِمَ فِي أَدَاءِ دَيْنِهِ أَوْ فِي معصية ثم تاب فهؤلاء يدفع إليهم، لما روي عن أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ»، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عليه فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ لِغُرَمَائِهِ: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذلك» (أخرجه مسلم في صحيحه). وَأَمَّا {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَمِنْهُمُ الْغُزَاةُ الَّذِينَ لا حق لهم في الديون. وعند الحسن: والحج من سبيل الله وَكَذَلِكَ {ابْنُ السَّبِيلِ} وَهُوَ الْمُسَافِرُ الْمُجْتَازُ فِي بَلَدٍ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى سَفَرِهِ، فَيُعْطَى مِنَ الصَّدَقَاتِ مَا يَكْفِيهِ إِلَى بلده وإن كان له مال، لحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، أَوْ جَارٍ فَقِيرٍ فَيُهْدِي لَكَ أَوْ يَدْعُوكَ» (رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري). وَقَوْلُهُ: {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} أَيْ حُكْمًا مُقَدَّرًا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَفَرْضِهِ وَقَسْمِهِ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: أَيْ عَلِيمٌ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ وَبَوَاطِنِهَا وَبِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، {حَكِيمٌ} فيما يقوله وَيَشْرَعُهُ وَيَحْكُمُ بِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.

- 61 - وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ -[152]- يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ قَوْمٌ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم بالكلام فيه (قيل: هو عتاب بن قشير، وقيل هو نبتل بن الحارث) وَيَقُولُونَ {هُوَ أُذُنٌ} أَيْ مَنْ قَالَ لَهُ شيئاً صدقة فينا، ومن حدّثه صدقه فإذا جئناه وحلفنا له صدقنا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي هو أذن يَعْرِفُ الصَّادِقَ مِنَ الْكَاذِبِ، {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ، {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} أي وهو حجة على الكافرينن وَلِهَذَا قَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

- 62 - يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ - 63 - أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ قال قتادة: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَخِيَارُنَا وَأَشْرَافُنَا، وَإِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا، لَهُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، قَالَ: فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ لَحَقٌّ، وَلَأَنْتَ أَشَرُّ مِنَ الْحِمَارِ، قَالَ: فَسَعَى بِهَا الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّجُلِ فَدَعَاهُ فَقَالَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي قُلْتَ؟» فَجَعَلَ يَلْتَعِنُ وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا قَالَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ صَدِّقِ الصَّادِقَ وَكَذِّبِ الْكَاذِبَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الآية، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ} أي ألم يتحققوا أنه مَنْ حَآدَّ الله عزَّ وجلَّ أي شاقه وحاربه وخالفه {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا} أَيْ مهاناً معذباً، و {ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} أَيْ وَهَذَا هُوَ الذُّلُّ الْعَظِيمُ وَالشَّقَاءُ الْكَبِيرُ.

- 64 - يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بما فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ استهزؤوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُونَ الْقَوْلَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ عَسَى اللَّهُ أَن لا يُفْشِيَ عَلَيْنَا سِرَّنَا هَذَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ بقوله تعالى: {وَإِذَا جاؤوك حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير}، وقال في هذه الآية: {قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} أَيْ إِنَّ اللَّهَ سَيُنْزِلُ عَلَى رَسُولِهِ مَا يفضحكم به ويبين له أمركم، كقوله تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ}، وَلِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ تُسَمَّى هَذِهِ السُّورَةُ الفاضحة فضحت المنافقين.

- 65 - وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ - 66 - لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: مَا أَرَى قُرَّاءَنَا هَؤُلَاءِ إِلَّا أَرْغَبَنَا بُطُونًا، وَأَكْذَبَنَا أَلْسِنَةً، وَأَجْبَنَنَا عِنْدَ اللِّقَاءِ؛ فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وقد ارتحل نَاقَتَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَقَالَ: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تستهزئون - إلى قوله - كَانُواْ مُجْرِمِينَ} وإن رجليه لتسفعان الحجارة

وَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متعلق بسيف رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ذَكَرَهُ الْمَدِينِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَغَيْرِهِ). وقال ابن إسحاق: كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ (وَدِيعَةُ بْنُ ثابت) ورجل من أشجع يقال له (مخشى بن حمير) يسيرون مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى تَبُوكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ جِلَادَ بَنِي الْأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَاللَّهِ لَكَأَنَّا بِكُمْ غَدًا مُقَرَّنِينَ فِي الحبال، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: «أَدْرِكِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدِ احترقوا فاسألهم عَمَّا قَالُوا، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلَى قُلْتُمْ كذا وكذا» فانطلق إليهم عمار فقال لهم ذلك، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فقال مخشى بْنُ حُمَيِّرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَعَدَ بِيَ اسْمِي وَاسْمُ أَبِي، فَكَانَ الَّذِي عُفي عَنْهُ في هذه الآية (مخشى بْنُ حُمَيِّرٍ) فَتَسَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُقْتَلَ شَهِيدًا لَا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ، فَقُتِلَ يوم اليمامة (رواه ابن إسحاق). وقال قتادة بينما النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وركبٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالُوا: يَظُنُّ هَذَا أَنْ يَفْتَحَ قُصُورَ الرُّومِ وَحُصُونَهَا؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالُوا، فَقَالَ: «عليَّ بِهَؤُلَاءِ النَّفَرِ» فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: «قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا»، فَحَلَفُوا مَا كُنَّا إِلَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. وَقَوْلُهُ: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أَيْ بِهَذَا الْمَقَالِ الَّذِي اسْتَهْزَأْتُمْ بِهِ، {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً} أَيْ لَا يُعْفَى عَنْ جَمِيعِكُمْ وَلَا بُدَّ مِنْ عَذَابِ بَعْضِكُمْ {بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} أَيْ مُجْرِمِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ الْفَاجِرَةِ الْخَاطِئَةِ.

- 67 - الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - 68 - وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى خِلَافِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ كَانَ هَؤُلَاءِ {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أَيْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، {نَسُواْ اللَّهَ} أَيْ نَسُوا ذِكْرَ اللَّهِ {فَنَسِيَهُمْ} أَيْ عاملهم معاملة من نسيهم، كقوله تعالى: {فاليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا}، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أَيْ الْخَارِجُونَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ الدَّاخِلُونَ فِي طَرِيقِ الضَّلَالَةِ، وَقَوْلُهُ: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} أَيْ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ الَّذِي ذُكِرَ عَنْهُمْ، {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا مُخَلَّدِينَ هُمْ وَالْكُفَّارُ {هِيَ حَسْبُهُمْ} أَيْ كِفَايَتُهُمْ فِي الْعَذَابِ، {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} أَيْ طَرَدَهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}.

- 69 - كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ

يَقُولُ تَعَالَى: أَصَابَ هَؤُلَاءِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تعالى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ، {بِخَلاقِهِمْ} قال الحسن: بدينهم، {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} أَيْ فِي الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ، {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أَيْ بَطَلَتْ مَسَاعِيهِمْ فَلَا ثَوَابَ لَهُمْ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا فَاسِدَةٌ، {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْصُلْ لهم عليها ثواب. عن ابن عباس قال: مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ، {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَتَّبِعُنَّهُمْ حَتَّى لَوْ دَخَلَ الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه (أخرجه ابن جرير عن عطاء بن عكرمة عن ابن عباس). وفي الحديث: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَبَاعًا بِبَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ»، قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ أَهْلُ الْكِتَابِ؟ قال: «فمن؟»، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الْخَلَاقُ الدِّينُ، {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمَا صَنَعَتْ فَارِسُ وَالرُّومُ؟ قَالَ: «فَهَلِ النَّاسُ إِلَّا هُمْ؟» (قال ابن كثير: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ).

- 70 - أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يَقُولُ تَعَالَى وَاعِظًا لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أَيْ أَلَمْ تُخْبَرُوا خَبَرَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ، {قَوْمِ نُوحٍ} وَمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْغَرَقِ الْعَامِّ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، إِلَّا مَنْ آمَنَ بِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {وَعَادٍ} كَيْفَ أُهْلِكُوا بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ لَمَّا كَذَّبُوا هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، {وَثَمُودَ} كَيْفَ أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ لَمَّا كَذَّبُوا صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَقَرُوا النَّاقَةَ، {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} كَيْفَ نَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَيَّدَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ عليهم وأهلك ملكهم نمرود لَعَنَهُ اللَّهُ، {وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ} وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ عليه السلام وكيف أصابتهم الرجفة وَعَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} قَوْمِ لُوطٍ وَقَدْ كانوا يسكنون في مدائن، وقال {والمؤتفكة أهوى}، وَالْغَرَضُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْلَكَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ بِتَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّ اللَّهِ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِتْيَانِهِمُ الْفَاحِشَةَ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُمْ بِهَا أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ، {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أَيْ بِإِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ لِأَنَّهُ أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِزَاحَةِ الْعِلَلِ، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أَيْ بِتَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وَمُخَالَفَتِهِمُ الْحَقَّ، فَصَارُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالدَّمَارِ.

- 71 - وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ الله عَزِيزٌ حكيم لما ذكر تَعَالَى صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الذَّمِيمَةَ عَطَفَ بِذِكْرِ صِفَاتِ المؤمنين المحمودة، فقال: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أَيْ يَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاضَدُونَ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ

بَعْضًا» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ». وَقَوْلُهُ: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وينهون عن المنكر}، كقوله تَعَالَى: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الآية، وقوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أَيْ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَيُحْسِنُونَ إِلَى خَلْقِهِ، {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أَيْ فِيمَا أَمَرَ وَتَرْكِ مَا عَنْهُ زَجَرَ، {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} أَيْ سَيَرْحَمُ اللَّهُ مَنِ اتَّصَفَ بهذه الصفات، {إِنَّ الله عَزِيزٌ} أي يعز من أطاعه، فَإِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، {حَكِيمٌ} فِي قِسْمَتِهِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِهَؤُلَاءِ، وَتَخْصِيصِهِ الْمُنَافِقِينَ بِصِفَاتِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّ لَهُ الْحِكْمَةَ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

- 72 - وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يُخْبِرُ تَعَالَى بِمَا أَعَدَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْمُؤْمِنَاتِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا، {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} أَيْ حَسَنَةَ الْبِنَاءِ طَيِّبَةَ الْقَرَارِ، كَمَا جَاءَ في الصحيحين: «جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ»، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تفجَّر أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» (أخرج الشيخان عن أبي هريرة). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أهل الجنة ليتراؤون الغرف في الجنة كما ترون الكواكب في السماء» أخرجاه في الصحيحين. وفي مسند الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ: «لَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ، وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ، مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ، وَيَخْلُدُ لَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ»، وعند الترمذي عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لغرفاً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا» فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَنْ هِيَ؟ فَقَالَ: «لِمَنْ طيَّب الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وصلى بالليل والناس نيام»، وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا هَلْ من مشمر إلى الجنة؟ فإن الجنة لا حظر لَهَا، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَثَمَرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، وَمَقَامٌ فِي أَبَدٍ فِي دَارٍ سَلِيمَةٍ، وَفَاكِهَةٍ وَخُضْرَةٍ، وَحَبْرَةٍ وَنَعْمَةٍ، فِي مَحَلَّةٍ عَالِيَةٍ بَهِيَّةٍ»، قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا، قَالَ: «قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فَقَالَ الْقَوْمُ" إِنْ شاء الله (رواه ابن ماجه عن أسامة بن زيد)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أَيْ رِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ، مِمَّا هم فيه من النعيم، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ والخير في يديك، فيقول: هل

رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ لكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً" (رواه الشيخان ومالك عن أبي سعيد الخدري).

- 73 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ - 74 - يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَخْفِضَ جَنَاحَهُ لِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ مَصِيرَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ إِلَى النَّارِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعَةِ أَسْيَافٍ: سَيْفٍ لِلْمُشْرِكِينَ {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين}، وَسَيْفٍ لِلْكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخر} وسيف للمنافقين {جَاهِدِ الكفار والمنافقين}، وَسَيْفٍ لِلْبُغَاةِ {فَقَاتِلُواْ التِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله}، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يُجَاهَدُونَ بِالسُّيُوفِ إِذَا أَظْهَرُوا النفاق). قال ابن مسعود {جَاهِدِ الكفار والمنافقين} قال: بيده قإن لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَكْفَهِرَّ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِجِهَادِ الْكُفَّارِ بِالسَّيْفِ، وَالْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ، وَأَذْهَبَ الرِّفْقَ عَنْهُمْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: جَاهِدِ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ، وَاغْلُظْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِالْكَلَامِ وهو مجاهدتهم. وقال الحسن وقتادة ومجاهد: مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم؛ ولا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّهُ تَارَةً يُؤَاخِذُهُمْ بِهَذَا وَتَارَةً بِهَذَا بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ واللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي) وَذَلِكَ أنه اقتتل رجلان، جهني وأنصاري، فعلا الجني عَلَى الْأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِلْأَنْصَارِ أَلَا تنصرون أَخَاكُمْ؟ وَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ مُحَمَّدٍ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: سمِّن كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، وَقَالَ: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأذل}، فَسَعَى بِهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ، فَجَعَلَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا قَالَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فيه هذه الآية. وقال الإمام أبو جعفر بن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي ظِلِّ شجرة، فقال: «إنه يسأتيكم إنسان فينظر إِلَيْكُمْ - بِعَيْنَيِ الشَّيْطَانِ - فَإِذَا جَاءَ فَلَا تُكَلِّمُوهُ» فلم يلبثوا أن طلع عليهم رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ؟» فانطلق الرجل، فجاءه بِأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا بِاللَّهِ مَا قَالُوا حَتَّى تَجَاوُزَ عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالوا} (أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن عباس) الآية، وقوله: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} قيل أنزلت في الجلاس بن سويد، وذلك أنه همّ بقتل ابن امرأته حين قال لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل: في (عبد الله

بن أبي) همَّ بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد ورد أن نفرا من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في غزوة تبوك في بعض تلك الليالي في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلاً، قال الضحاك: ففيهم نزلت هذه الآية، روى الحافظ البيهقي في كتاب «دلائل النبوة» عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِخِطَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقُودُ بِهِ، وَعَمَّارٌ يسوق الناقة، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَقَبَةِ، فَإِذَا أَنَا بِاثْنَيْ عشر راكباً قد اعترضوه فيها، قال: فانتهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصرخ بهم، فولوا مُّدْبِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ عَرَفْتُمُ الْقَوْمَ؟» قُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَانُوا مُتَلَثِّمِينَ، وَلَكُنَّا قَدْ عَرَفْنَا الرِّكَّابَ، قَالَ: «هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَلْ تَدْرُونَ مَا أَرَادُوا؟» قُلْنَا: لَا، قال: «أرادوا أن يزاحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة فليقوه منها»، قلنا يا رسول الله أفلا نبعث إِلَى عَشَائِرِهِمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْكَ كُلُّ قَوْمٍ بِرَأْسِ صَاحِبِهِمْ؟ قَالَ: «لَا، أَكْرَهُ أَنْ تَتَحَدَّثَ العرب بينها أن محمداً قاتل، حتى إذا أظهره الله أقبل عليهم يقتلهم». وقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِّن فَضْلِهِ} أَيْ وَمَا لِلرَّسُولِ عِنْدَهُمْ ذَنْبٌ إلاّ أن الله أغناهم ببركته ويمن سعادته، وَلَوْ تَمَّتْ عَلَيْهِمُ السَّعَادَةُ لَهَدَاهُمُ اللَّهُ لِمَا جاء به كما قال صلى الله عليه وسلم لِلْأَنْصَارِ: «أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟» كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا: قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تُقَالُ حَيْثُ لَا ذنب، كَقَوْلِهِ: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ} الآية، ثم دعاهم تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى التَّوْبَةِ فَقَالَ: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أَيْ وَإِنْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى طَرِيقِهِمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا: أَيْ بِالْقَتْلِ وَالْهَمِّ وَالْغَمِّ، وَالْآخِرَةِ: أَيْ بِالْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْهَوَانِ وَالصَّغَارِ {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} أَيْ وليس لهم أحد يسعدهم ولا ينجدهم، لا يحصِّلُ لَهُمْ خَيْرًا، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ شَرًّا.

- 75 - وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ - 76 - فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ - 77 - فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - 78 - أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ أَعْطَى اللَّهَ عَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ لئن أغناه الله مِن فَضْلِهِ لَيَصَّدَّقَنَّ مِنْ مَالِهِ وَلَيَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَمَا وَفَّى بِمَا قَالَ، وَلَا صَدَقَ فِيمَا ادَّعَى، فَأَعْقَبَهُمْ هَذَا الصَّنِيعُ نِفَاقًا سَكَنَ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِياذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وقد ذكر كثير من المفسرين أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي (ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ) الْأَنْصَارِيِّ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حديث رواه ابن جرير عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مالاً، قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ» قَالَ، ثُمَّ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَ نَبِيِّ اللَّهِ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لو شئت أن تسير الجبال معي ذَهَبًا وَفِضَّةً لَسَارَتْ» قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَرَزَقَنِي مَالًا لأعطينَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ مَالًا»، قال: فاتخذ غنماً، فنمت كما ينمي الدُّودُ، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ، فَتَنَحَّى عَنْهَا، فَنَزَلَ وَادِيًا مِنْ أَوْدِيَتِهَا، حَتَّى جَعَلَ يُصَلِّي الظُّهْرَ والعصر في

جَمَاعَةٍ وَيَتْرُكَ مَا سِوَاهُمَا، ثُمَّ نَمَتْ وَكَثُرَتْ، فَتَنَحَّى حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَاتِ إِلَّا الْجُمُعَةَ، وَهِيَ تنمى كما ينمى الدُّودُ، حَتَّى تَرَكَ الْجُمُعَةَ، فَطَفِقَ يَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ يوم الجمعة ليسألهم عَنِ الْأَخْبَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا فَعَلَ ثَعْلَبَةُ؟» فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّخَذَ غَنَمًا فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ فَأَخْبَرُوهُ بِأَمْرِهِ، فَقَالَ: «يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ يَا ويح ثعلبة»، وأنزل الله عزَّ وجلَّ ثناؤه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صدقة} الآية، ونزلت فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلين على الصدقة من المسلمين، وَكَتَبَ لَهُمَا كَيْفَ يَأْخُذَانِ الصَّدَقَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ لَهُمَا: «مُرَّا بِثَعْلَبَةَ وَبِفُلَانٍ - رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ - فَخُذَا صَدَقَاتِهِمَا»، فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا ثَعْلَبَةَ، فَسَأَلَاهُ الصَّدَقَةَ، وَأَقْرَآهُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ، مَا هَذِهِ إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ، وَمَآ أَدْرِي مَا هَذَا! انْطَلِقَا حَتَّى تَفْرُغَا ثُمَّ عُودَا إليَّ، فَانْطَلَقَا، وَسَمِعَ بِهِمَا السُّلَمِيُّ، فَنَظَرَ إِلَى خِيَارِ أَسْنَانِ إِبِلِهِ، فَعَزْلَهَا لِلصَّدَقَةِ، ثُمَّ استقبلهما بهما، فَلَمَّا رَأَوْهَا، قَالُوا: مَا يَجِبُ عَلَيْكَ هَذَا، وما نريد أن نأخذ هذا منك، فقال: بلى فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة، فأخذاها منه، ومرا على الناس، فأخذا الصدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة فقال: أروني كتابكما، فقرأه فَقَالَ: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ مَا هَذِهِ إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ! انْطَلِقَا حَتَّى أَرَى رَأْيِي، فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُمَا قَالَ: «يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ»، قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا، وَدَعَا لِلسُّلَمِيِّ بِالْبَرَكَةِ، فَأَخْبَرَاهُ بِالَّذِي صَنَعَ ثَعْلَبَةُ وَالَّذِي صَنَعَ السُّلَمِيُّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} الآية. فهلك ثعلبة في خلافة عثمان (أخرجه ابن جرير بتمامه وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لم يقبل صدقته في حياته فلما قبض صلى الله عليه وسلم عرضها على أبي بكر فلم يقبلها ثم عرضها على عمر فلم يقبلها حتى هلك في زمن عثمان، ورواه أيضاً ابن أبي حاتم بنحوه). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} الآية، أَيْ أَعْقَبَهُمُ النِّفَاقَ فِي قُلُوبِهِمْ بِسَبَبِ إِخْلَافِهِمُ الوعد وكذبهم، وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} الآية، يخبر تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وَأَنَّهُ أَعْلَمُ بِضَمَائِرِهِمْ، وَإِنْ أَظْهَرُوا أَنَّهُ إِنْ حَصَلَ لَهُمْ أموال تصدقوا منها وشكروا عليها، فإن الله أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّامُ الْغُيُوبِ، أَيْ يَعْلَمُ كُلَّ غَيْبٍ وَشَهَادَةٍ وَكُلَّ سِرٍّ وَنَجْوَى، وَيَعْلَمُ مَا ظَهَرَ وَمَا بَطَنَ.

- 79 - الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وهذا أَيْضًا مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ من عيبهم ولمزهم في جيمع الأحوال، وإن جَاءَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَالٍ جَزِيلٍ قَالُوا؛ هَذَا مِرَاءٌ، وَإِنْ جَاءَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ قَالُوا: إِنَّ الله لغني عن صدقة هذا، كما روى البخاري عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل (أي نؤاجر أنفسنا في الحمل، وفي رواية عنده في التفسير: نتحامل، أي يحمل بعضنا لبعض بالأجرة) عَلَى ظُهُورِنَا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، فقالوا: مراء، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا، فَنَزَلَتْ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المطوعين} الآية. وقال ابن عباس: جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ: وَاللَّهِ مَا جاء عبد الرحمن بما جاء إلا رياء، وقالوا: إن

الله ورسوله لغنيان عن هذا الصاع. وقال ابن إسحاق: كان من المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ (عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عوف) تصدق بأربعة آلاف درهم، و (عاصم بن عدي) أخو بَنِي الْعَجْلَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رغب في الصدقة وَحَضَّ عَلَيْهَا، فَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فتصدق بأربعة آلاف، وقام عاصم بن عدي وتصدق بِمِائَةِ وَسَقٍ مِنْ تَمْرٍ، فَلَمَزُوهُمَا وَقَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا رِيَاءٌ، وَكَانَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِجُهْدِهِ (أبو عقيل) حليف بني عمرو ابن عَوْفٍ، أَتَى بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ فَأَفْرَغَهُ فِي الصدقة، فتضاحكوابه، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ أَبِي عقيل. وقال الحافظ أبو بكر البزار عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقُوا فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْثًا»، قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي أَرْبَعَةُ آلَافٍ، أَلْفَيْنِ أُقْرِضُهُمَا رَبِّي وَأَلْفَيْنِ لِعِيَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ» وَبَاتَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَصَابَ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَصَبْتُ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، صَاعٌ أُقْرِضُهُ لِرَبِّي وَصَاعٌ لِعِيَالِي، قَالَ: فَلَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: مَا أَعْطَى الَّذِي أَعْطَى ابْنُ عَوْفٍ إِلَّا رِيَاءً، وَقَالُوا: أَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ غَنِيَّيْنِ عَنْ صَاعِ هَذَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ منهم} (أخرج الحافظ البزار) الآية، وقوله: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ} هذا مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جَنْسِ الْعَمَلِ، فَعَامَلَهُمْ معاملة من سخر منهم انْتِصَارًا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَأَعَدَّ لِلْمُنَافِقِينَ فِي الآخرة عذاباً أليماً، لأن الجزاء من جنس العمل.

- 80 - اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ لَيْسُوا أَهْلًا لِلِاسْتِغْفَارِ، وَأَنَّهُ لَوِ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ سبعين مرة فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ؛ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ السَّبْعِينَ إِنَّمَا ذُكِرَتْ حَسْمًا لِمَادَّةِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، لِأَنَّ الْعَرَبَ فِي أَسَالِيبِ كَلَامِهَا تَذْكُرُ السَّبْعِينَ فِي مُبَالَغَةِ كَلَامِهَا، وَلَا تُرِيدُ التَّحْدِيدَ بِهَا، وَلَا أَنْ يَكُونَ مَا زَادَ عَلَيْهَا بِخِلَافِهَا؛ وَقِيلَ: بَلْ لَهَا مفهوم كما روي، لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: «أن رَبِّي قَدْ رَخَّصَ لِي فِيهِمْ، فَوَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لهم أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يغفر لهم»، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمَّا ثَقُلَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ) انْطَلَقَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إن أبي يحتضر، فأحب أن تشهده وتصلي عليه، فانطلق معه حتى شهده، وألبسه قميصه، وصلى عليه، فقيل له: أتصلي عليه؟ فقال: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مرة}، ولأستغفرن لهم سبعين وسبعين وسبعين" (رواه ابن جرير بسنده).

- 81 - فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ - 82 - فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَآءً

بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِلْمُنَافِقِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم في غزوة تبوك، وفرحوا بقعودهم بَعْدَ خُرُوجِهِ {وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُواْ} مَعَهُ {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ} - أَيْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ - {لَا تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ}، وَذَلِكَ أَنَّ الْخُرُوجَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، عِنْدَ طِيبِ الظِّلَالِ وَالثِّمَارِ، فَلِهَذَا قَالُوا: {لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ} لَهُمْ {نَارُ جَهَنَّمَ} الَّتِي تَصِيرُونَ إِلَيْهَا بمخالفتكم {أَشَدُّ حَرّاً} مِمَّا فَرَرْتُمْ مِنْهُ مِنَ الْحَرِّ بَلْ أَشَدُّ حَرًّا مِنَ النَّارِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «نار بني آدم التي توقدنها جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةٌ، فَقَالَ: «فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ومسلم ومالك عن أبي هريرة)، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ نَارَكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَضُرِبَتْ في البحر مَرَّتَيْنِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا منفعة لأحد» (أخرجه أحمد قال ابن كثير: إسناده صحيح). وروى الترمذي وَابْنُ مَاجَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أوقد الله عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سوداء كالليل المظلم». وعن أنَس قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة} قَالَ: «أُوقِدُ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، وَأَلْفَ عَامٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، وَأَلْفَ عَامٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سَوْدَاءُ كَاللَّيْلِ لَا يُضِيءُ لَهَبُهَا» (أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك)، وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ النَّبَوِيَّةُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً للشوى}، وقال تعالى: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رؤوسهم الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ من حديد}، وقال تعالى: {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ليذوقوا العذاب}، وقال تعالى هنا: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يفقهون} (في اللباب: أخرج ابن جرير: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في حر شديد، إلى تبوك، فقال رجل من بني سلمة: لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر، فنزلت: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ ... } الآية) أي أنهم لو يَفْقَهُونَ وَيَفْهَمُونَ لَنَفَرُوا مَعَ الرَّسُولِ فِي سَبِيلِ الله في الحر، ليتقوا به من حَرَّ جَهَنَّمَ الَّذِي هُوَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ هَذَا، ولكنهم كما قال الشاعر: * كالمستجير من الرمضاء بالنار * ثم قال تعالى جل جلاله متوعداً هؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً} الآية، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الدُّنْيَا قَلِيلٌ، فَلْيَضْحَكُوا فِيهَا مَا شَاءُوا، فَإِذَا انْقَطَعَتِ الدُّنْيَا وَصَارُوا إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ اسْتَأْنَفُوا بُكَاءً لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا، وقال الحافظ الموصلي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ ابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا، فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَبْكُونَ حَتَّى تَسِيلَ دُمُوعُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ، كَأَنَّهَا جَدَاوِلُ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ فَتَسِيلَ الدِّمَاءُ فَتَقَرَّحُ الْعُيُونُ، فَلَوْ أَنَّ سُفُنًا أزجيت فيها لجرت» (رواه ابن ماجة والحافظ الموصلي).

- 83 - فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ} أَيْ رَدَّكَ اللَّهُ مِنْ غَزْوَتِكَ هَذِهِ {إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ}: أَيْ مَعَكَ إِلَى غَزْوَةٍ أُخْرَى {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً}، أَيْ تعزيزاً لَهُمْ وَعُقُوبَةً، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية، فإن جزاء السيئة السيئة بعدها، كما أن ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ الرِّجَالِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزَاةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} أَيْ مَعَ النِّسَاءِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ جَمْعَ النِّسَاءِ لَا يَكُونُ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ، وَلَوْ أُرِيدُ النِّسَاءُ لَقَالَ: فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَوَالِفِ أَوِ الْخَالِفَاتِ، وَرَجَّحَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما.

- 84 - وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْرَأَ من المنافقين، وأن لا يصلي على أحد منهم إذا مات، وأن لا يَقُومَ عَلَى قَبْرِهِ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُ أَوْ يَدْعُوَ لَهُ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا عَلَيْهِ؛ وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ عُرِفَ نِفَاقُهُ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ فِي (عبد الله بن أبي سلول) رأس المنافقين. كما قال البخاري عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا توفي عبد الله ابْنُ أُبَيٍّ، جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فسأله أن يعيطه قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ، فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ، فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ، وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما خَيَّرَنِي اللَّهُ فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لهم} وسأزيده على سبعين"، قَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ آيَةَ: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (أخرجه البخاري ومسلم). وعن عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَمَّا تُوُفِّيَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ) دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وقف يريد الصلاة عليه تَحَوَّلْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي صَدْرِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَى عَدُوِّ اللَّهِ (عَبْدِ اللَّهِ بن أبي) القائل يوم كَذَا وَكَذَا - يُعَدِّدُ أَيَّامَهُ -؟ قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسَّمُ، حَتَّى إِذَا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: "أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ، إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، قَدْ قِيلَ لِي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية، لو أعلم أني لو زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ"، قَالَ: ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ، وَمَشَى مَعَهُ، وَقَامَ عَلَى قبره حتى فرغ منه، قال: فعجبتُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ ما كان يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} الآية، فَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ عَلَى مُنَافِقٍ، وَلَا قَامَ عَلَى قبره حتى قبضه الله عزَّ وجلَّ (رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح)، وروى الإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَتَى ابْنُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم

فقال: يا رسول الله إنك لَمْ تَأْتِهِ لَمْ نَزَلْ نُعَيَّرُ بِهَذَا، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَهُ قَدْ أُدْخِلَ فِي حُفْرَتِهِ، فَقَالَ: «أَفَلَا قَبْلَ أَنْ تُدْخِلُوهُ»، فَأُخْرِجَ مِنْ حُفْرَتِهِ، وَتَفَلَ عَلَيْهِ مِنْ ريقه من قرنه إلى قدمه وألبسه قميصه. وقال البخاري: أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبي بعدما أُدْخِلَ فِي قَبْرِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، وَوُضِعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قميصه، والله أعلم. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَرِيضٌ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَهْلَكَكَ حُبُّ يَهُودٍ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ لِتَسْتَغْفِرَ لِي وَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ لِتُؤَنِّبَنِي، ثُمَّ سَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنَ فِيهِ أَبَاهُ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا} (أخرجه ابن جرير الطبري) الآية، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَيْهِ لَا يُصَلِّي عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَلَا يقوم على قبره، كما قال قَتَادَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دعي إلى جنازة سَأَلَ عَنْهَا، فَإِنْ أُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا قَامَ فصلى عليها، وإن كان غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ لِأَهْلِهَا: «شَأْنُكُمْ بِهَا»، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهَا؛ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا يُصَلِّي عَلَى جِنَازَةِ مَنْ جُهِلَ حَالُهُ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا (حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ) لِأَنَّهُ كَانَ يعلم أعيان المنافقين، قَدْ أَخْبَرَهُ بِهِمْ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ لَهُ: (صَاحِبُ السر) الذي لا يعلمه غيره أي من الصحابة، وَلَمَّا نَهَى اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ لِلِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ كَانَ هَذَا الصَّنِيعُ مِنْ أَكْبَرِ الْقُرُبَاتِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ فَشَرَعَ ذَلِكَ، وَفِي فِعْلِهِ الْأَجْرُ الجزيل، كما ثبت في الصحاح: «مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ» قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: «أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُد»؛ وَأَمَّا الْقِيَامُ عِنْدَ قَبْرِ الْمُؤْمِنِ إِذَا مَاتَ فروى أبو داود عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فرغ من دفن الميت وقف على قبره وَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الآن يسأل» (أخرجه أبو داود في سننه).

- 85 - وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَلِلَّهِ الحمد والمنة.

- 86 - وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مع رسوله استأذنك أولوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ - 87 - رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا وَذَامًّا لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْجِهَادِ، النَّاكِلِينَ عَنْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَوُجُودِ السَّعَةِ وَالطَّوْلِ، وَاسْتَأْذَنُوا الرَّسُولَ فِي الْقُعُودِ وَقَالُوا: {ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ} وَرَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْعَارِ وَالْقُعُودِ فِي الْبَلَدِ مَعَ النِّسَاءِ، وَهُنَّ الْخَوَالِفُ بَعْدَ خُرُوجِ الْجَيْشِ، فَإِذَا وَقَعَ الْحَرْبُ كَانُوا أَجْبَنَ النَّاسِ، وَإِذَا كَانَ أَمْنٌ كَانُوا أَكْثَرَ النَّاسِ كَلَامًا كَمَا قَالَ تعالى عنهم: {فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِذَا ذَهَبَ

الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} أَيْ عَلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْكَلَامِ الْحَادِّ الْقَوِيِّ فِي الأمن، كما قَالَ الشَّاعِرُ: أَفِي السِّلْمِ أَعْيَارًا: جَفَاءً وَغِلْظَةً * وَفِي الحرب أشباه النساء الفوارك؟ وقال تعالى: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ}، وَقَوْلُهُ: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أَيْ بِسَبَبِ نُكُولِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ وَالْخُرُوجِ مَعَ الرَّسُولِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} أَيْ لَا يَفْهَمُونَ مَا فِيهِ صَلَاحٌ لَهُمْ فَيَفْعَلُوهُ، وَلَا مَا فِيهِ مَضَرَّةٌ لَهُمْ فَيَجْتَنِبُوهُ.

- 88 - لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - 89 - أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لَمَّا ذكر تعالى ذنب المنافقين، بيّّن ثناءه على الْمُؤْمِنِينَ وَمَا لَهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ فَقَالَ: {لَكِنِ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ} لبيان حَالِهِمْ وَمَآلِهِمْ، وَقَوْلُهُ: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ وَالدَّرَجَاتِ العلي.

- 90 - وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ثُمَّ بيَّن تَعَالَى حَالَ ذَوِي الْأَعْذَارِ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ الَّذِينَ جُاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يعتذرون إليه، وَهُمْ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ مِمَّنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ نَفَرٌ مِنْ بني غفار، وهذا القول هو الأظهر (روى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ {وَجَاءَ الْمُعْذِرُونَ} بِالتَّخْفِيفِ وَيَقُولُ: هُمْ أَهْلُ الْعُذْرِ وقراءة الجمهور بالتشديد)، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ هَذَا: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أَيْ لَمْ يَأْتُوا فَيَعْتَذِرُوا، وَقَالَ مُجَاهِدٍ: {وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} قَالَ: نَفَرٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، جَاءُوا فَاعْتَذَرُوا فَلَمْ يَعْذِرْهُمُ الله؛ وكذا قال الحسن وقتادة: ثُمَّ أَوْعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ فَقَالَ: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

- 91 - لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ - 92 - وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ - 93 - إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ

ثُمَّ بيَّن تَعَالَى الْأَعْذَارَ الَّتِي لَا حَرَجَ على من قعد معها على الْقِتَالِ، فَذَكَرَ مِنْهَا مَا هُوَ لَازِمٌ لِلشَّخْصِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، وَهُوَ الضَّعْفُ فِي التَّرْكِيبِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الْجِلَادَ فِي الْجِهَادِ، وَمِنْهُ الْعَمَى وَالْعَرَجُ وَنَحْوُهُمَا؛ وَلِهَذَا بَدَأَ بِهِ، ومنها ما هو عارض بسبب مرض فِي بَدَنِهِ شَغَلَهُ عَنِ الْخُرُوجِ فِي سَبِيلِ الله، أو بسبب فقر لا يقدر على التجهيز لِلْحَرْبِ، فَلَيْسَ عَلَى هَؤُلَاءِ حَرَجٌ إِذَا قَعَدُوا وَنَصَحُوا فِي حَالِ قُعُودِهِمْ، وَلَمْ يُرْجِفُوا بِالنَّاسِ، وَلَمْ يُثَبِّطُوهُمْ، وَهُمْ مُحْسِنُونَ فِي حَالِهِمْ هَذَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. قال قتادة: نزلت هذه الآية في عائذ ابن عمرو المزني، وروي عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنْتُ أَكْتُبُ بَرَاءَةَ، فَإِنِّي لَوَاضِعٌ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِي، إِذْ أُمِرْنَا بِالْقِتَالِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر ما نزل عَلَيْهِ، إِذْ جَاءَ أَعْمَى فَقَالَ: كَيْفَ بِي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الضعفآء} الآية. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أمر النَّاسَ أَنْ يَنْبَعِثُوا غَازِينَ مَعَهُ، فَجَاءَتْهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيُّ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنَا، فَقَالَ لَهُمْ: «وَاللَّهِ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ»، فتولوا وهم يبكون، وَعَزَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْلِسُوا عَنِ الْجِهَادِ وَلَا يَجِدُونَ نَفَقَةً وَلَا مَحْمَلًا، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ حِرْصَهُمْ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ أَنْزَلَ عُذْرَهُمْ في كتابه فقال: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء} إلى قوله: {فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} نزلت في بني مقرن من مزينة، كانوا سبعة نفر، فَاسْتَحْمَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ، فَقَالَ: {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ}. وفي حديث أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا قَطَعْتُمْ وادياً ولا سرتم سيراً إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ» قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «نعم حبسهم العذر» (أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك). وعن جَابِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ خَلَّفْتُمْ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا وَلَا سَلَكْتُمْ طَرِيقًا إِلَّا شَرَكُوكُمْ في الأجر حبسهم المرض» (رواه أحمد ومسلم وابن ماجه)، ثُمَّ رَدَّ تَعَالَى الْمَلَامَةَ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ فِي الْقُعُودِ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَأَنَّبَهُمْ فِي رِضَاهُمْ بأن يكونوا مع النساء الخوالف في الرجال: {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.

- 94 - يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ - 95 - سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ - 96 - يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِمْ {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} لَنْ نُصَدِّقَكُمْ {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} أَيْ قَدْ أَعْلَمَنَا اللَّهُ أَحْوَالَكُمْ، {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أَيْ سَيُظْهِرُ أَعْمَالَكُمْ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا، {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ فَيُخْبِرُكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ

خَيْرِهَا وَشَرِّهَا وَيُجْزِيكُمْ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أنهم سيحلفون لكم مُعْتَذِرِينَ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ، فَلَا تُؤَنِّبُوهُمْ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ احتقاراً لهم {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} أي خبث نجس بواطنهم واعتقادتهم، وَمَأْوَاهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ جَهَنَّمُ، {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أَيْ مِنَ الْآثَامِ وَالْخَطَايَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ إن رَضُوا عَنْهُمْ بِحَلِفِهِمْ لَهُمْ، {فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} أَيِ الْخَارِجِينَ عَنْ طاعة الله وطاعة رسوله.

- 97 - الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - 98 - وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - 99 - وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ فِي الْأَعْرَابِ كُفَّارًا وَمُنَافِقِينَ وَمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ كُفْرَهُمْ وَنِفَاقَهُمْ أَعْظَمُ مِنْ غَيْرِهِمْ وَأَشَدُّ، {وَأَجْدَرُ} أَيْ أَحْرَى {أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رسوله}، كما قال الاعمش: جَلَسَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ وَهُوَ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ، وَكَانَتْ يَدُهُ قَدْ أُصِيبَتْ يَوْمَ (نَهَاوَنْدَ) فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ إِنَّ حَدِيثَكَ لَيُعْجِبُنِي، وَإِنَّ يَدَكَ لَتُرِيبُنِي، فَقَالَ زَيْدٌ: مَا يُرِيبُكَ مِنْ يَدِي إِنَّهَا الشِّمَالُ؟ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي الْيَمِينَ يَقْطَعُونَ أَوِ الشِّمَالَ! فَقَالَ زيد صَدَقَ اللَّهُ: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}، وفي الحديث: «مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غفل، ومن أتى السلطان افتتن» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عباس مرفوعاً)، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ. وَلَمَّا كَانَتِ الْغِلْظَةُ وَالْجَفَاءُ فِي أَهْلِ الْبَوَادِي لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ مِنْهُمْ رَسُولًا، وَإِنَّمَا كَانَتِ البعثة مِّنْ أَهْلِ القرى، لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن، فَهُمْ أَلْطَفُ أَخْلَاقًا مِنَ الْأَعْرَابِ لِمَا فِي طباع الأعراب من الجفاء، وفي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ قالوا: نعم، قالوا: لكنا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وأملك (وفي البخاري أو أملك لك إن نزع الله من قلبك الرحمة) أَنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ»؟ وَقَالَ ابن نميرة: «مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ». وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَلِّمَهُ الْإِيمَانَ والعلم، {حَكِيمٌ} فيما قسم بين عباده، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لِعَلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مِنْهُمْ: {مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ} أَيْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ {مَغْرَماً} أَيْ غَرَامَةً وَخَسَارَةً، {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} أَيْ يَنْتَظِرُ بِكُمُ الْحَوَادِثَ وَالْآفَاتِ، {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ} أَيْ هِيَ مُنْعَكِسَةٌ عَلَيْهِمْ وَالسَّوْءُ دَائِرٌ عَلَيْهِمْ، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أَيْ سَمِيعٌ لِدُعَاءِ عِبَادِهِ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ النَّصْرَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْخُذْلَانَ، وَقَوْلُهُ: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْمَمْدُوحُ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ مَا يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قُرْبَةً يَتَقَرَّبُونَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ وَيَبْتَغُونَ بِذَلِكَ

دُعَاءَ الرَّسُولِ لَهُمْ، {أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} أَيْ أَلَا إِنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لَهُمْ، {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

- 100 - وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ رِضَاهُ عَنِ السَّابِقَيْنِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ لهم بإحسان، ورضاهم بما أعد لهم من جنات النعيم، قال الشعبي: السابقون الأولون مَنْ أَدْرَكَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَالَ الحسن وَقَتَادَةُ: هُمُ الَّذِينَ صَلَّوْا إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ الْعَظِيمُ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَيَا وَيْلُ مَنْ أَبْغَضَهُمْ أَوْ سَبَّهُمْ أَوْ أَبْغَضَ أَوْ سَبَّ بَعْضَهُمْ، وَلَا سِيَّمَا سَيِّدُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الرَّسُولِ وَخَيْرُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ أَعْنِي الصِّدِّيقَ الْأَكْبَرَ، وَالْخَلِيفَةَ الْأَعْظَمَ (أَبَا بَكْرِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ الطَّائِفَةَ الْمَخْذُولَةَ مِنَ الرَّافِضَةِ يُعَادُونَ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ وَيُبْغِضُونَهُمْ وَيَسُبُّونَهُمْ، عِياذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُقُولَهُمْ مَعْكُوسَةٌ، وَقُلُوبَهُمْ مَنْكُوسَةٌ، فَأَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ إِذْ يَسُبُّونَ مَنْ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَمَّا أَهْلُ السنَّة فَإِنَّهُمْ يَتَرَضُّونَ عَمَّنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَيَسُبُّونَ مَنْ سَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُوَالُونَ مَنْ يُوَالِي اللَّهَ، وَيُعَادُونَ مَنْ يعادي الله، ومهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون، وهؤلاء هم حزب الله المفلحون.

- 101 - وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ يُخْبِرُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي أَحْيَاءِ الْعَرَبِ مِمَّنْ حَوْلَ المدينة منافقون، وَفِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَيْضًا مُنَافِقُونَ، {مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ} أَيْ مَرَنُوا وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: شَيْطَانٌ مَرِيدٌ وَمَارِدٌ، وَيُقَالُ تَمَرَّدَ فُلَانٌ عَلَى اللَّهِ أَيْ عَتَا وَتَجَبَّرَ، وَقَوْلُهُ: {لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُم} لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ}، لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّوَسُّمِ فِيهِمْ بِصِفَاتٍ يعرفون بها، لا لأنه يَعْرِفُ جَمِيعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ والريب على التعيين؛ قال مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} يَعْنِي الْقَتْلَ والسبي، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: بِالْجُوعِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، {ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ}، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابٌ في القبر، وقال ابن زيد: أما عذاب الدنيا فالأموال والأولاد، وقرأ قوله تَعَالَى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فَهَذِهِ الْمَصَائِبُ لَهُمْ عَذَابٌ وَهِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَجْرٌ، وَعَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ فِي النَّارِ، {ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} قال: النار.

- 102 - وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ المنافقين المتخلفين عن الغزو تكذيباً وشكاً، شرع في بيان حال المكذبين الذين تأخروا عن الجهاد

كسلاً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ بِالْحَقِّ، فَقَالَ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} أَيْ أَقَرُّوا بِهَا وَاعْتَرَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَلَهُمْ أَعْمَالٌ أُخَرُ صَالِحَةٌ خَلَطُوا هَذِهِ بِتِلْكَ، فَهَؤُلَاءِ تَحْتَ عَفْوِ اللَّهِ وَغُفْرَانِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مُعَيَّنِينَ، إِلَّا أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ الْمُذْنِبِينَ الخطائين، وقد قال ابن عباس: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غزوته، ربطوا أنفسهم بسواري المسجد، وحلفوا ألا يَحُلُّهُمْ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، وروى البخاري عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا: "أَتَانِي الليلة آتيان فابتعثاني فانتهيا بي إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنٍ ذَهَبٍ وَلَبِنٍ فِضَّةٍ، فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، قَالَا لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ، فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ، فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، قَالَا لِي هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَا مَنْزِلُكَ، قالا: وأما الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُواْ شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سيئاً تجاوز الله عنهم".

- 103 - خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - 104 - أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التواب الرحيم. أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يأخذ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً يطهرهم بها وَيُزَكِّيهِمْ بِهَا، وَهَذَا عَامٌّ وَإِنْ أَعَادَ بَعْضُهُمُ الضَّمِيرَ فِي {أَمْوَالِهِمْ} إِلَى الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ (في اللباب: أخرج ابن جرير: وجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا، فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا، فتصدق بها واستغفر لنا، فقال: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً»، فأنزل الله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الآية. وعن قتادة: أن هذه الآيات نزلت في سبعة: أربعة منهم ربطوا أنفسهم، وهم أبو لبابة، ومرداس، وأوس ابن خزان، وثعلبة بن وديعة). ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة أَنَّ دَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَى الْإِمَامِ لَا يَكُونُ، وإنما كان خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية، وقد رد عليهم أبو بكر الصدّيق وقاتلهم حتى أدوا الزكاة كَمَا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى قَالَ الصِّدِّيقُ: وَاللَّهِ لو منعوني عناقاً - وفي رواية عقالاً - كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أَيْ ادْعُ لَهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُتي بِصَدَقَةِ قَوْمٍ صَلَّى عَلَيْهِمْ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلِّ عَلَيَّ وَعَلَى زَوْجِي، فَقَالَ: «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وَعَلَى زَوْجِكِ»، وقوله: {إن صلاتك سَكَنٌ لَّهُمْ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَحْمَةٌ لَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَقَارٌ، وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} أَيْ لِدُعَائِكَ {عَلِيمٌ} أَيْ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْكَ ومن هو أهل له، {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}، هَذَا تَهْيِيجٌ إِلَى التَّوْبَةِ وَالصَّدَقَةِ اللَّتَيْنِ كَلَّ مِنْهَا يَحُطُّ الذُّنُوبَ وَيُمَحِّصُهَا وَيَمْحَقُهَا، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ من كسب حلال فإن الله يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا، حَتَّى تَصِيرَ التَّمْرَةُ مثل أُحد، كما جاء في الحديث الصحيح: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ، حَتَّى

أن اللقمة لتكون مِثْلَ أُحد»، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات}.

- 105 - وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنْتُمْ تعملون قال مجاهد: هذا وعيد مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُخَالِفِينَ أَوَامِرَهُ، بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ ستعرض عليه تبارك وتعالى، وعلى الرسول عليه الصلاة والسلام وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}، وَقَالَ تعالى: {يَوْمَ تبلى السرائر}، وقال: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور}، وقد يظهر الله تعالى ذَلِكَ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ، لَأَخْرَجَ اللَّهُ عَمَلَهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ»، وَقَدْ وَرَدَ: أَنَّ أَعْمَالَ الْأَحْيَاءِ تُعْرَضُ عَلَى الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ وَالْعَشَائِرِ فِي الْبَرْزَخِ، كما ورد عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: "إِنْ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنَ الْأَمْوَاتِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُمْ حتى تهديهم كما هديتنا" (أخرجه أحمد والطيالسي). وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إذا أعجبك حسن عمل امرئ مسلم فَقُلْ: {اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}، وفي الحديث الصحيح: «إذا أراد الله بعبده خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟ قَالَ: «يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ ثم يقبضه عليه» (أخرجه أحمد عن أنس ابن مالك).

- 106 - وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد: هُمُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا، أَيْ عَنِ التَّوْبَةِ، وهم (مرارة بن الربيع) و (كعب بن مالك) و (هلال بْنُ أُمَيَّةَ)، قَعَدُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَعَدَ كَسَلًا وَمَيْلًا إِلَى الدَّعَةِ والحفظ وطيب الثمار والظلال، لا شكاً ولا نفاقاً، فَكَانَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ رَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي كَمَا فَعَلَ أَبُو لُبَابَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَطَائِفَةٌ لَمْ يَفْعَلُوا ذلك، وهم الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورُونَ، فَنَزَلَتْ تَوْبَةُ أُولَئِكَ قَبْلَ هَؤُلَاءِ، وَأَرْجَى هَؤُلَاءِ عَنِ التَّوْبَةِ، حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الْآتِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النبي والمهاجرين والأنصار} الآية، {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بما رحبت} الآية، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَوْلُهُ: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أَيْ هُمْ تَحْتَ عَفْوِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ فَعَلَ بِهِمْ هَذَا، وَإِنْ شَاءَ فَعَلَ بِهِمْ ذاك، ولكن رحمته تغلب غضبه، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْعَفْوَ، {حَكِيمٌ} فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.

- 107 - وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ - 108 - لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ يُقَالُ لَهُ (أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ) وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وقرأ علم أهل الكتاب، وَلَهُ شَرَفٌ فِي الْخَزْرَجِ كَبِيرٌ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، وَصَارَتْ لِلْإِسْلَامِ كَلِمَةٌ عَالِيَةٌ، وَأَظْهَرَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، شَرِقَ اللَّعِينُ (أَبُو عَامِرٍ) بِرِيقِهِ، وَبَارَزَ بِالْعَدَاوَةِ وَظَاهَرَ بِهَا، وَخَرَجَ فَارًّا إِلَى كُفَّارِ مَكَّةَ مِنْ مشركي قريش، يمالئهم عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاجْتَمَعُوا بِمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَقَدِمُوا عَامَ أُحُدٍ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ ما كان وامتحنهم الله عزَّ وجلَّ، وكانت العالقبة لِلْمُتَّقِينَ، وَكَانَ هَذَا الْفَاسِقُ قَدْ حَفَرَ حَفَائِرَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَوَقَعَ فِي إِحْدَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُصِيبَ ذَلِكَ اليوم فجرح وَجْهِهِ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ الْيُمْنَى السُّفْلَى، وَشُجَّ رَأْسُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ (أَبُو عَامِرٍ) فِي أَوَّلِ الْمُبَارَزَةِ إِلَى قَوْمِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ فَخَاطَبَهُمْ وَاسْتَمَالَهُمْ إِلَى نَصْرِهِ وَمُوَافَقَتِهِ، فَلَمَّا عَرَفُوا كَلَامَهُ قَالُوا: لَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا يَا فَاسِقُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، وَنَالُوا مِنْهُ وسبوه، فرجع وهو يقول: والله قد أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرٌّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَعَاهُ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ فِرَارِهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ وَتَمَرَّدَ، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمُوتَ بعيداً طريداً، فنالته هذه الدعوة. وذلك لَمَّا فَرَغَ النَّاسُ مِنْ أُحُدٍ، وَرَأَى أَمْرَ الرسول صلى الله عليه وسلم فِي ارْتِفَاعٍ وَظُهُورٍ، ذَهَبَ إِلَى (هِرَقْلَ) مَلِكِ الرُّومِ يَسْتَنْصِرُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَعَدَهُ ومنَّاه وَأَقَامَ عِنْدَهُ، وَكَتَبَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ أَنَّهُ سَيَقَدَمُ بِجَيْشٍ يُقَاتِلُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَغْلِبُهُ وَيَرُدُّهُ عَمَّا هُوَ فِيهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا لَهُ مَعْقِلًا يَقْدَمُ عَلَيْهِمْ فِيهِ من يقدم عِنْدِهِ لِأَدَاءِ كُتُبِهِ، وَيَكُونُ مَرْصَدًا لَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَشَرَعُوا فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ مُجَاوِرٍ لِمَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَبَنَوْهُ وَأَحْكَمُوهُ وَفَرَغُوا منه قبل خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ، وَجَاءُوا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهِمْ فَيُصَلِّيَ في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم بَنَوْهُ لِلضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ وَأَهْلِ الْعِلَّةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَقَالَ: «إِنَّا عَلَى سَفَرٍ، وَلَكِنْ إِذَا رَجَعْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فَلَمَّا قَفَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ تَبُوكَ وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا يَوْمٌ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، نَزَلَ عليه جبريل بِخَبَرِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَمَا اعْتَمَدَهُ بَانُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَسْجِدِهِمْ (مسجد قباء) الذي أسس من أول يوم عَلَى التَّقْوَى، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ مَنْ هَدَمَهُ قبل مقدمه المدينة؛ كما قال ابن عباس في الآية: هم أناس من الأنصار بنوا مَسْجِدًا، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو عَامِرٍ: ابْنُوا مَسْجِدًا وَاسْتَعِدُّوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِنْ سِلَاحٍ، فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ فَآتِي بجنود مِنَ الرُّومِ وَأُخْرِجُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْجِدِهِمْ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: قَدْ فَرَغْنَا مِنْ بِنَاءِ مَسْجِدِنَا، فَنُحِبُّ أَنْ تُصَلِيَ فِيهِ وَتَدْعُوَ لَنَا بِالْبَرَكَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} الآية. وقوله تعالى: {وَلَيَحْلِفُنَّ}: أَيْ الَّذِينَ بَنَوْهُ، {إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ الحسنى} أي ما أردنا ببنيانه إلا خيراً ورفقاً

بالناس، قال تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أَيْ فِيمَا قَصَدُوا وَفِيمَا نَوَوْا، وَإِنَّمَا بَنُوهُ ضِرَارًا لِمَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَفْرًا بِاللَّهِ وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْصَادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الفاسق لَعَنَهُ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} نهي له صلى الله عليه وسلم وَالْأُمَّةُ تَبَعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ عَنْ أَنْ تقوم فيه: أي يصلي أبداً، ثم حثه على الصلاة بمسجد قباء الذي أسس من يوم بنيانه عَلَى التَّقْوَى، وَهِيَ طَاعَةُ اللَّهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وجمعاً لكلمة المؤمنين وَمَوْئِلًا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ}، وَالسِّيَاقُ إِنَّمَا هُوَ فِي مَعْرِضِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ كَعُمْرَةٍ»، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَزُورُ مَسْجِدَ قُبَاءٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَنَاهُ وَأَسَّسَهُ أَوَّلَ قُدُومِهِ وَنُزُولِهِ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، كَانَ جِبْرِيلُ هُوَ الَّذِي عَيَّنَ لَهُ جِهَةَ القبلة والله أعلم. قال الإمام أحمد، عن عويم بن ساعدة الأنصاري أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ فِي الطَّهُورِ فِي قِصَّةِ مَسْجِدِكُمْ فَمَا هَذَا الطَّهُورُ الَّذِي تَطَهَّرُونَ بِهِ؟» فَقَالُوا: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَعْلَمُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَنَا جِيرَانٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَكَانُوا يَغْسِلُونَ أَدْبَارَهُمْ مِنَ الْغَائِطِ، فغسلنا كما غسلوا. وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ مَسْجِدُ قُبَاءٍ جَمَاعَةٌ مِنَ السلف (منهم ابن عباس وعروة بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالشَّعْبِيُّ والحسن البصري وسعيد بن حبان وقتادة وغيرهم). وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي في جوف المدنية هُوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؛ وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ هَذَا لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ قَدْ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التقوى، أحدهما قال: هو مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ فَقَالَ: «هو مسجدي هذا». وفي رواية أخرى عن أبي سعيد الخدري قَالَ: تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يوم، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: هو مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هو مسجدي هذا» (رواهما الإمام أحمد رضي الله عنه). وقال الإمام أحمد، عن أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هو مسجدي». (رواه أحمد والترمزي والنسائي). (طريق آخَرُ): قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أنيس بن يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي خُدْرَةَ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ الْخُدْرِيُّ: هُوَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْعَمْرِيُّ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «هُوَ هَذَا الْمَسْجِدُ»، لَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال في ذلك يعني مسجد قباء، وَقَدْ قَالَ: بِأَنَّهُ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَوْلُهُ: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ

يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}، دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ الْقَدِيمَةِ الْمُؤَسَّسَةِ مِنْ أَوَّلِ بِنَائِهَا عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ مَعَ الجماعة الصَّالِحِينَ، وَالْعِبَادِ الْعَامِلِينَ الْمُحَافِظِينَ عَلَى إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ، والتنزه عن ملابسة القاذورات، وقال الإمام أحمد: عن رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم صلى بهم الصبح، فقرأ الروم فيها فَأَوْهَمَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «إِنَّهُ يَلْبَسُ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ، إِنْ أَقْوَامًا مِنْكُمْ يُصَلُّونَ مَعَنَا لَا يُحْسِنُونَ الْوُضُوءَ، فَمَنْ شَهِدَ الصَّلَاةَ مَعَنَا، فَلْيُحْسِنِ الوضوء»، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ إِكْمَالَ الطَّهَارَةِ يُسَهِّلُ الْقِيَامَ فِي الْعِبَادَةِ وَيُعِينُ عَلَى إِتْمَامِهَا وَإِكْمَالِهَا وَالْقِيَامِ بِمَشْرُوعَاتِهَا، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} إِنَّ الطَّهُورَ بِالْمَاءِ لَحَسَنٌ وَلَكِنَّهُمُ الْمُطَّهِّرُونَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ التوبة من الذنوب والتطهر من الشرك.

- 109 - أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - 110 - لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ، ومن بنى مسجد ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، فإنما يبني هَؤُلَاءِ بُنْيَانَهُمْ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، أَيْ طرف حفيرة فِي نَارِ جَهَنَّمَ، {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أَيْ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ، قَالَ جابر: رَأَيْتُ الْمَسْجِدَ الَّذِي بُنِيَ ضِرَارًا يَخْرُجُ مِنْهُ الدخان عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رجالاً حفروا فوجدوا الدخان الذي يَخْرُجُ مِنْهُ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ. وَقَالَ خَلَفُ الْكُوفِيُّ: رَأَيْتُ مَسْجِدَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَفِيهِ جَحَرٌ يَخْرُجُ مِنْهُ الدخان وهو اليوم مزبلة، وقوله تعالى: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أَيْ شَكًّا وَنِفَاقًا بِسَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ الشَّنِيعِ، أَوْرَثَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا أُشرِب عَابِدُو العجلِ حبَّه، وَقَوْلُهُ: {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أَيْ بِمَوْتِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عباس ومجاهد وغير واحد من السَّلَفِ، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} أَيْ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ، {حَكِيمٌ} فِي مُجَازَاتِهِمْ عَنْهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.

- 111 - إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ والإِنجيل وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم يخبر تعالى أنه عاوض من عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ - إِذْ بَذَلُوهَا فِي سَبِيلِهِ - بِالْجَنَّةِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَإِنَّهُ قَبِلَ العَوْض عَمَّا يَمْلِكُهُ بِمَا تفضل به على عبيده الْمُطِيعِينَ لَهُ. وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ

وَقَتَادَةُ: بَايَعَهُمْ وَاللَّهِ فَأَغْلَى ثَمَنَهُمْ، وَقَالَ شَمِرُ بْنُ عَطِيَّةَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ إِلَّا وَلِلَّهِ عزَّ وجلَّ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ وَفَّى بِهَا أَوْ مَاتَ عَلَيْهَا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، وقال (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ: اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ فَقَالَ: «أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ»، قَالُوا: فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؟ قَالَ: «الْجَنَّةُ»، قَالُوا: رَبِحَ الْبَيْعُ لَا نُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ، فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ} الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} أَيْ سَوَاءٌ قَتَلوا أَوْ قُتلوا، أَوِ اجْتَمَعَ لَهُمْ هَذَا وَهَذَا، فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُمُ الجنة، ولهذا جاء في الصحيحين: «تكفل اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إلا جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي بِأَنْ تَوَفَّاهُ أَنْ يدخله الجنة، أو يرجعه إلى منزله الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ»، وَقَوْلُهُ: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ والإِنجيل وَالْقُرْآنِ} تَأْكِيدٌ لِهَذَا الْوَعْدِ، وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُ قَدْ كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وأنزله على رسله في كتبه العظيمة وهي {التوراة} المنزلة على موسى، و {الإنجيل} المنزل على عيسى، و {القرآن} الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} فإنه لا يخلف الميعاد، وهذا كقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حديثا}، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قيلا}، وَلِهَذَا قَالَ: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أَيْ فَلْيَسْتَبْشِرْ مَنْ قَامَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْعَقْدِ، وَوَفَى بِهَذَا الْعَهْدِ، بِالْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ.

- 112 - التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا نَعْتُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اشْتَرَى اللَّهُ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ وَالْخِلَالِ الْجَلِيلَةِ، {التَّائِبُونَ} مِنَ الذُّنُوبِ كُلِّهَا، التَّارِكُونَ لِلْفَوَاحِشِ، {الْعَابِدُونَ} أَيْ الْقَائِمُونَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ مُحَافِظِينَ عليها، ومن أخصها الحمد لله، ولهذا قَالَ: {الْحَامِدُونَ}، وَمِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصِّيَامُ، وَهُوَ تَرْكُ الْمَلَاذِّ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ، وَهُوَ المراد بالسياحة ههنا، قَالَ: {السَّائِحُونَ} كَمَا وَصَفَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَائِحَاتٍ} أَيْ صَائِمَاتٍ، وَكَذَا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَهُمَا عِبَارَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ}، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَنْفَعُونَ خَلْقَ اللَّهِ وَيُرْشِدُونَهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ بِأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، مَعَ الْعِلْمِ بِمَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ وَيَجِبُ تَرْكُهُ، وَهُوَ حِفْظُ حُدُودِ اللَّهِ فِي تَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا، فَقَامُوا بِعِبَادَةِ الْحَقِّ وَنُصْحِ الْخُلُقِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ، وَالسَّعَادَةُ كُلُّ السَّعَادَةِ لِمَنِ اتَّصَفَ به، والسياحة يراد بها الصيام فقد سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السائحين؟ فقال: «هم الصائمون»، وهذا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَشْهَرُهَا. وَجَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى أن السياحة الجهاد، وهو ما رواه أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِيَاحَةُ أُمَّتَيِ الْجِهَادُ فِي سبيل الله». وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ طَلَبَةُ الْعِلْمِ، وقال ابن أسلم: هم المهاجرون، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ السِّيَاحَةِ مَا قَدْ يَفْهَمُهُ بَعْضُ مَنْ يَتَعَبَّدُ بِمُجَرَّدِ السِّيَاحَةِ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّفَرُّدِ فِي شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، وَالْكُهُوفِ وَالْبَرَارِي، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ إِلَّا فِي أَيَّامِ الْفِتَنِ وَالزَّلَازِلِ فِي الدِّينِ، كَمَا ثَبَتَ فِي

صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الرَّجُلِ غَنَمٌ يتبع بها شعف الجبال (شعف الجبال: أي رؤوس الْجِبَالِ) وَمَوَاقِعَ الْقَطْرَ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ"، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} قَالَ: الْقَائِمُونَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ البصري، وعنه قال: لفرائض الله، والقائمون عَلَى أَمْرِ اللَّهِ.

- 113 - مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ - 114 - وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جهل وعبد الله ابن أَبِي أُمَيَّةَ فَقَالَ: "أَيْ عَمِّ! قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ"، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عبد المطلب؟ فقال: أنا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»، فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}، قَالَ، وَنَزَلَتْ فِيهِ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يشاء} (أخرجه الشيخان وأحمد عن ابن المسيب). وقال الإمام أحمد، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ونحن في سفر، فنزل بنا ونحن قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ رَاكِبٍ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَفَدَاهُ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ؟ قَالَ: "إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي عزَّ وجلَّ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَدَمِعَتْ عَيْنَايَ رَحْمَةً لَهَا مِنَ النَّارِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ: نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا لِتُذَكِّرَكُمْ زِيَارَتُهَا خَيْرًا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَكُلُوا وَأَمْسِكُوا مَا شِئْتُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ في الاوعية فاشريوا في أي وعاء شئتم ولا تشربوا مسكراً". وقال ابن أبي حاتم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا إِلَى الْمَقَابِرِ، فَاتَّبَعْنَاهُ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى قَبْرٍ مِنْهَا، فَنَاجَاهُ طَوِيلًا، ثُمَّ بَكَى فَبَكَيْنَا لبكائه، ثم قام إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَدَعَاهُ ثُمَّ دَعَانَا فَقَالَ: «مَا أَبْكَاكُمْ»؟ فَقُلْنَا: بَكَيْنَا لِبُكَائِكَ، قَالَ: «إِنَّ الْقَبْرَ الَّذِي جَلَسْتُ عِنْدَهُ قَبْرَ آمِنَةَ، وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي زِيَارَتِهَا فَأَذِنَ لِي»، ثم أورده من وجه آخر وَفِيهِ: "وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي الدُّعَاءِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَأَنْزَلَ عليَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا} الآية، فأخذني ما يأخذ الولد للوالد، وَكُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تذكر الآخرة. وقال ابن عباس في هذه الرواية: كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فأمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْأَحْيَاءِ حَتَّى يَمُوتُوا، ثُمَّ أَنْزَلَ الله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} الْآيَةَ، وَقَالَ قتادة في الْآيَةِ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ مِنْ آبَائِنَا مَنْ كَانَ يُحْسِنُ الْجِوَارَ، وَيَصِلُ الْأَرْحَامَ، وَيَفُكُّ الْعَانِي، وَيُوفِي بِالذِّمَمِ، أَفَلَا نَسْتَغْفِرُ لَهُمْ؟ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلَى، وَاللَّهِ إِنِّي لأستغفر

لِأَبِي كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ}، ثم عذر الله تعالى إبراهيم عليه السلام فقال: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} الْآيَةَ، وَقَالَ الثوري، عن ابن عباس: مَاتَ رَجُلٌ يَهُودِيٌّ وَلَهُ ابْنٌ مُسْلِمٌ فَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ وَيَدْفِنَهُ وَيَدْعُوَ لَهُ بِالصَّلَاحِ مَا دَامَ حَيًّا، فَإِذَا مَاتَ وَكَلَهُ إِلَى شَأْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ - إلى قوله - تَبَرَّأَ مِنْهُ}، وَيَشْهَدُ لَهُ بِالصِّحَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وغيره عن علي رضي الله عنه: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ، قَالَ: «اذْهَبْ فَوَارِهِ وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تأتيني»، فذكر تمام الحديث. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا زَالَ إِبْرَاهِيمُ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِيهِ حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ الله تَبَرَّأَ مِنْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عدو الله، وكذا قال مجاهد والضحاك، وقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}، قال ابن مسعود: الأواه الدعَّاء؛ وقال ابن جرير: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْأَوَّاهُ؟ قال: «المتضرع»، وقال الثوري: سئل ابْنَ مَسْعُودٍ عَنِ الْأَوَّاهِ، فَقَالَ: هُوَ الرَّحِيمُ أي بعباد الله، وقال ابن عباس: الأواه الموقن، بلسان الحبشة. وعنه: الأواه المؤمن. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ: الْأَوَّاهُ الْمُسَبِّحُ، وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَا يحافظ على سبحة الضحى إلا الأواه، وعن مجاهد: الأواه الحفيظ، الرجل يُذْنِبُ الذَّنْبَ سِرًّا ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ سِرًّا، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ رَحِمَهُ الله. وقال ابن جرير: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَ اللَّهِ وَيُسَبِّحُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إنه أواه»، وقال أيضاً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَنَ مَيِّتًا فَقَالَ: «رَحِمَكَ اللَّهُ إن كنت لأواهاً» يعني تلاءً للقرآن، قال ابن جَرِيرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الدَّعَّاءُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلسِّيَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ إِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لأبيه مع شدة أذاه له فِي قَوْلِهِ: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً * قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حفيا} فَحَلُمَ عَنْهُ مَعَ أَذَاهُ لَهُ وَدَعَا لَهُ وَاسْتَغْفَرَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}.

- 115 - وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ - 116 - أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَحُكْمِهِ العادل، إنه لا يضل قوماً إلا بعد إبلاغ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يَكُونُوا قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} الآية، قال ابن جرير: يقول تَعَالَى: وَمَآ كَانَ اللَّهُ لِيَقْضِيَ عَلَيْكُمْ فِي اسْتِغْفَارِكُمْ لِمَوْتَاكُمُ الْمُشْرِكِينَ بِالضَّلَالِ بَعْدَ إِذْ رَزَقَكُمُ الْهِدَايَةَ وَوَفَّقَكُمْ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، حَتَّى يَتَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فَتَتْرُكُوا، فَأَمَّا قَبْلَ أَنْ يبين كم كراهة ذلك فَإِنَّهُ لَا يَحْكُمُ عَلَيْكُمْ بِالضَّلَالِ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ إِنَّمَا يَكُونَانِ مِنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ وَلَمْ يُنْهَ فَغَيْرُ كَائِنٍ مُطِيعًا أَوْ عَاصِيًا فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ ولم ينه عنه، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا تَحْرِيضٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِتَالِ المشركين وملوك الكفر، وأنهم يثقوا بنصر الله مالك السموات والأرض، ولا يَرْهَبُوا مِنْ أَعْدَائِهِ، فَإِنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ، وَلَا نَصِيرَ لَهُمْ سِوَاهُ. وقال ابن أبي حاتم، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ إِذْ قَالَ لَهُمْ: «هَلْ تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ؟»، قالوا:

مَا نَسْمَعُ مِن شَيْءٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَسْمَعُ أَطِيطَ السَّمَاءِ، وَمَا تُلَامُ أَنْ تَئِطَّ، وَمَا فِيهَا مِنْ مَوْضِعِ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ قائم».

- 117 - لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بهم رؤوف رَّحِيمٌ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَذَلِكَ أنهم خرجوا إليها في سنة مجبة وحر شديد، وعسر من الزاد والماء، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي شَأْنِ الْعُسْرَةِ، فقال عمر خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رقابنا ستنقطع، وحتى وإن كَانَ الرَّجُلُ لَيَذْهَبُ يَلْتَمِسُ الْمَاءَ فَلَا يَرْجِعُ حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ لَنَا، فقال: «تُحِبُّ ذَلِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت، فَمَلَؤُوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نجدها جاوزت العسكر (أخرجه ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} أَيْ مِنَ النَّفَقَةِ وَالظَّهْرِ وَالزَّادِ وَالْمَاءِ، {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٌ مِّنْهُم} أَيْ عَنِ الْحَقِّ، وَيَشُكُّ فِي دين الرسول صلى الله عليه وسلم، ويرتاب للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم، {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} يَقُولُ: ثُمَّ رَزَقَهُمُ الْإِنَابَةَ إِلَى رَبِّهِمْ وَالرُّجُوعَ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى دِينِهِ {إِنَّهُ بهم رؤوف رَّحِيمٌ}.

- 118 - وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ - 119 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ قَالَ الْإِمَامُ أحمد، عن عبيد اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزاة غزاها قَطُّ إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزَاةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غير معاد، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة العقبة حين تواثقنا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي الناس منها وأشهر. وكان خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ، وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ،

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلَّا ورَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز، وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ وَجْهَهُ الَّذِي يُرِيدُ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ لَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ - يُرِيدُ الدِّيوَانَ -. قال كَعْبٌ: فقلَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظن أن ذلك سيخفى عليه مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْغَزَاةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ والظلال، وَأَنَا إِلَيْهَا أَصْعَرُ، فَتَجَهَّزَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون معه، فطفقت أغدو لكي أنجز مَعَهُمْ، فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازِي شَيْئًا، فَأَقُولُ لِنَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي، حَتَّى استمر بِالنَّاسِ الْجَدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَادِيًا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ من جهازي شيئاً، وقلت: أتجهز بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُ، فَغَدَوْتُ بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئاً، ثُمَّ غَدَوْتُ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الغزو، فهممت أن أرتحل فألحقهم وَلَيْتَ أَنِّي فَعَلْتُ، ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ لِي، فَطَفِقْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحزنني أني لا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مالك»؟ فقال رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ: حَبَسَهُ يَا رَسُولَ الله برداه والنظر في عطفيه، فقال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَمَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رسول الله ما علمنا عنه إِلَّا خَيْرًا. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بثي، وطفقت أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ، وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سُخْطِهِ غداً، وأستعين على ذلك بكل ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً راح عَنِّي الْبَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَمْ أَنْجُ مِنْهُ بشيء أبداً، فأجمعت صدقه. فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فصلى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُتَخَلِّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فيقبل مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى جِئْتُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ لِي: «تَعَالَ»، فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: «ما خلفك، ألم تكن قد اشتريت ظهراً؟» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَوْ جَلَسْتُ عند غيرك من الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ سُخْطِهِ بِعُذْرٍ، لقد أعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يُسْخِطُكَ عَلِيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ بِصِدْقٍ تَجِدُ عليَّ فيه إني لأرجو عقبى ذلك مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَاللَّهِ مَا كَانَ لِيَ عُذْرٌ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَفْرَغُ وَلَا أَيْسَرُ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما هذا فصدق، فقم حتى يقضي الله فيك» فقمت، وقام إلى رجال من بني سلمة واتبعوني، فقالوا: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هذا، ولقد عجزت أن لا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ الْمُتَخَلِّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافِيكَ مِنْ ذَنْبِكَ اسْتِغْفَارَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قال: والله مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لقي معي هذا أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلَانِ، قَالَا مثل مَا قُلْتَ، وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لك، فقلت: فَمَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَامِرِيُّ وَهِلَالُ بْنُ أُمية الْوَاقِفِيُّ، فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا لِي فِيهِمَا أُسْوَةٌ، قَالَ: فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي؛

قَالَ: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وَتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي فِي نَفْسِي الْأَرْضُ، فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي كُنْتُ أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خمسين ليلة. ثم ذكر تتمة الحديث (أخرجه الشيخان وأحمد، وله تتمة طويلة في توبة الله عزَّ وجلَّ عليه يرجع إليها في الصحيحين). قَالَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بهم رؤوف رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين}. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا فَرَّجَ بِهِ عَنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الضِّيقِ وَالْكَرْبِ مِنْ هَجْرِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ لَيْلَةً بِأَيَّامِهَا وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رحبت أي مع سعتها، فسدت عَلَيْهِمُ الْمَسَالِكُ وَالْمَذَاهِبُ، فَلَا يَهْتَدُونَ مَا يَصْنَعُونَ، فَصَبَرُوا لِأَمْرِ اللَّهِ وَاسْتَكَانُوا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَثَبَتُوا حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِسَبَبِ صِدْقِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَخَلُّفِهِمْ، وَأَنَّهُ كَانَ عَنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَعُوقِبُوا عَلَى ذَلِكَ هَذِهِ الْمُدَّةَ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ عَاقِبَةُ صِدْقِهِمْ خَيْرًا لَهُمْ وَتَوْبَةً عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ" {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} أَيْ اصْدُقُوا وَالْزَمُوا الصدق تكونوا من أَهْلِهِ وَتَنْجُوَا مِنَ الْمَهَالِكِ، وَيَجْعَلُ لَكُمْ فَرَجًا من أموركم ومخرجاً، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنه قال: الْكَذِبَ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ جَدٌّ وَلَا هَزْلٌ، اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين}، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ مع الصادقين فعليك بالزهذ فِي الدُّنْيَا وَالْكَفِّ عَنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ.

- 120 - مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سبيل الله ولا يطؤون مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار ولاينالون مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين يعاتب تبارك وتعالى الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلِهَا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَرَغْبَتَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ عن مواساته فيما حصل له مِنَ الْمَشَقَّةِ، فَإِنَّهُمْ نَقَصُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ، لِأَنَّهُمْ {لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} وَهُوَ الْعَطَشُ {وَلاَ نَصَبٌ} وَهُوَ التَّعَبُ {وَلاَ مَخْمَصَةٌ} وَهِيَ الْمَجَاعَةُ {ولا يطؤون مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار} أي ينزلوا مَنْزِلًا يُرْهِبُ عَدُوَّهُمْ، {وَلاَ يَنَالُونَ} مِنْهُ ظَفَرًا وغلبة عليه، {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ} بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَيْسَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ قدرهم وَإِنَّمَا هِيَ نَاشِئَةٌ عَنْ أَفْعَالِهِمْ أَعْمَالًا صَالِحَةً وَثَوَابًا جَزِيلًا، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} كَقَوْلِهِ: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}.

- 121 - وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَقُولُ تَعَالَى وَلَا يُنْفِقُ هَؤُلَاءِ الْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ {نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} أَيْ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، {وَلاَ يَقْطَعُونَ

وَادِياً} أَيْ فِي السَّيْرِ إِلَى الْأَعْدَاءِ، {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ}، ولم يقل ههنا بِهِ لِأَنَّ هَذِهِ أَفْعَالٌ صَادِرَةٌ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا قال: {وليجزيهم اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وَقَدْ حَصَلَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَظٌّ وَافِرٌ ونصيب عظيم؛ وذلك أنه أفق فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ النَّفَقَاتِ الْجَلِيلَةَ وَالْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ، كما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خطب فَحَثَّ عَلَى جَيْشِ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عليَّ مِائَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا قَالَ: ثُمَّ حَثَّ، فَقَالَ عُثْمَانُ بن عفان: عليَّ مائة بعير أُخْرَى بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا، قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ مَرْقَاةً مِنَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ حَثَّ، فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: عَلَيَّ مِائَةٌ أُخْرَى بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال بيده هكذا يحركها، «مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا». وعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: جَاءَ عُثْمَانُ رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي ثَوْبِهِ حِينَ جَهَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ، قَالَ: فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرأيت النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّبُهَا بِيَدِهِ، وَيَقُولُ: «مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ» يُرَدِّدُهَا مِرَارًا، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ} الآية، ما ازداد قوم في سبيل الله بعداً من أهليهم إلا ازدادوا قرباً من الله.

- 122 - وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا أراد من نفير الأحياء مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، عن ابن عباس في الآية: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَآفَّةً}، يَقُولُ: مَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا جَمِيعًا وَيَتْرُكُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} يَعْنِي عُصْبَةً، يَعْنِي السرايا ولا يسيروا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد أنزل بَعْدَهُمْ قُرْآنٌ تَعَلَّمَهُ الْقَاعِدُونَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ عليَّ نَبِيِّكُمْ قُرْآنًا، وَقَدْ تَعَلَّمْنَاهُ فَتَمْكُثُ السَّرَايَا يَتَعَلَّمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِمْ بِعَدَهُمْ، وَيَبْعَثُ سَرَايَا أُخْرَى، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} يقول: ليعلموا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِمْ، وَلِيُعَلِّمُوا السَّرَايَا إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِمْ {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجُوا فِي الْبَوَادِي، فَأَصَابُوا مِنَ النَّاسِ مَعْرُوفًا، وَمِنَ الْخِصْبِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَدَعَوْا مَنْ وَجَدُوا مِنَ النَّاسِ إلى الهدى، فقال لهم الناس: مَا نَرَاكُمْ إِلَّا وَقَدْ تَرَكْتُمْ أَصْحَابَكُمْ وَجِئْتُمُونَا، فوجدوا من أَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ تَحَرُّجًا، وَأَقْبَلُوا مِنَ الْبَادِيَةِ كُلُّهُمْ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} يبغون الخير {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} وليستمعوا إلى ما أنزل الله، {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} النَّاسَ كُلَّهُمْ {إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لعلهم يحذرون}، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَزَا بِنَفْسِهِ لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ إِلَّا أهل الأعذار، وكان إذا أقام وأرسل السَّرَايَا لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يَنْطَلِقُوا إِلَّا بإذنه، وكان الرجل إذا غزا فنزل بعده قرآن وتلاه نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ الْقَاعِدِينَ مَعَهُ، فَإِذَا رَجَعَتِ السَّرِيَّةُ قَالَ لَهُمُ الَّذِينَ أَقَامُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ بَعْدَكُمْ عَلَى نَبِيِّهِ قُرْآنًا فَيُقْرِئُونَهُمْ وَيُفَقِّهُونَهُمْ فِي الدِّينِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً}، يقول: إذا أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} يعني ذلك أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْفِرُوا جَمِيعًا، وَنَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ، ولكن إذا قعد نبي الله فسرت السرايا

وقعد معه معظم الناس. وقال عكرمة: لما نزلت هذه الآية: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً}، {وما كَانَ لأَهْلِ المدينة} الآية، قال المنافقون: هلك أصحاب البدو والذين تَخَلَّفُوا عَنْ مُحَمَّدٍ وَلَمْ يَنْفِرُوا مَعَهُ، وَقَدْ كَانَ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجُوا إِلَى الْبَدْوِ إِلَى قَوْمِهِمْ يفقونهم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجلَّ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً}.

- 123 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أن يقاتلوا الكفار الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ إِلَى حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُمْ وفتح الله عليه مكة والمدينة والطائف وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَقَالِيمِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَدَخَلَ النَّاسُ مِنْ سَائِرِ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا شَرَعَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فتجهز لغزو الروم لأنهم أَهْلَ الْكِتَابِ، فَبَلَغَ تَبُوكَ، ثُمَّ رَجَعَ لِأَجْلِ جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال، وذلك سَنَةَ تِسْعٍ مِنْ هِجْرَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ اشتغل في السنة العاشرة بحجة الْوَدَاعِ، ثُمَّ عَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه بعد حجته بِأَحَدٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا، فَاخْتَارَهُ اللَّهُ لِمَا عِنْدَهُ، وقام بالأمر بعده وزيره وخليفته أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، فأدى عَنِ الرَّسُولِ مَا حَمَلَهُ، ثُمَّ شَرَعَ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى الرُّومِ عَبَدَةِ الصُّلْبَانِ، وَإِلَى الفُرس عَبَدَةِ النِّيرَانِ، فَفَتَحَ اللَّهُ بِبَرَكَةِ سفارته البلاد، وأرغم أنف كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَمَنْ أَطَاعَهُمَا مِنَ الْعِبَادِ، وَأَنْفَقَ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رسول الله، وَكَانَ تَمَامُ الْأَمْرِ عَلَى يَدِي وَصِيِّهِ مِنْ بعده، وولي عهده الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين، واستولى على الممالك شرقاً وغرباً، ثم لما مات أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى خِلَافَةِ عثمان بن عفان رضي الله عنه شهيد الدار، فكسى الإسلام حُلَّةٍ سَابِغَةً، وَأُمِدَّتْ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ عَلَى رقاب العباد حجة الله البالغة فظهر الْإِسْلَامُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا. وَعَلَتْ كَلِمَةُ الله وظهر دينه، وبلغت الملة الحنيفة من أعداء الله غاية مآربها، وكلما عَلَوْا أُمَّةً انْتَقَلُوا إِلَى مِن بَعْدِهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ مِنَ الْعُتَاةِ الْفُجَّارِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفَّار}. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} أَيْ وَلِيَجِدَ الْكُفَّارُ مِنْكُمْ غِلْظَةً عَلَيْهِمْ فِي قِتَالِكُمْ لَهُمْ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ هُوَ الذي يكون رفيقاً بأخيه المؤمن، غليظاً على عدوه الكافر، كقوله تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، وقوله تعالى: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بينهم}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أنا الضحوك القتال» يعين أَنَّهُ ضَحُوكٌ فِي وَجْهِ وَلِيِّهِ، قَتَّالٌ لِهَامَةِ عَدُوِّهِ. وَقَوْلُهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أَيْ قَاتِلُوا الْكُفَّارَ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الله معكم إذا اتَّقَيْتُمُوهُ وَأَطَعْتُمُوهُ، وَهَكَذَا الْأَمْرُ لَمَّا كَانَتِ الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي غَايَةِ الِاسْتِقَامَةِ وَالْقِيَامِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَزَالُوا ظَاهِرِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَلَمْ تَزَلِ الْفُتُوحَاتُ كثيرة، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَتِ الْفِتَنُ وَالْأَهْوَاءُ وَالِاخْتِلَافَاتُ بَيْنَ الملوك طمع الأعداء في البلاد، ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا حَتَّى اسْتَحْوَذُوا عَلَى كَثِيرٍ من بلاد الإسلام، ولله الأمر مِن قَبْلُ وَمَن بعد.

- 124 - وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ - 125 - وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} فَمِنَ الْمُنَافِقِينَ {مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} أي يقول بعضهم لبعض، وفي الآية الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَئِمَّةِ العلماء، {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} أَيْ زَادَتْهُمْ شَكًّا إِلَى شَكِّهِمْ وريباً إلى ريبهم، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}، وهذه مِنْ جُمْلَةِ شَقَائِهِمْ أَنَّ مَا يَهْدِي الْقُلُوبَ يكون سبباً لضلالهم ودمارهم، كما أن سيء الْمِزَاجِ لَوْ غُذِّيَ بِمَا غُذِّيَ بِهِ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا خَبَالًا وَنَقْصًا.

- 126 - أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ - 127 - وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ يَقُولُ تَعَالَى: أَوَلَا يَرَى هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ، {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} أَيْ يُخْتَبَرُونَ، {فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لا يتوبون عن ذُنُوبِهِمُ السَّالِفَةِ، وَلَا هُمْ يَذْكُرُونَ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يُخْتَبَرُونَ بِالسَّنَةِ وَالْجُوعِ، وَقَالَ قَتَادَةُ بِالْغَزْوِ فِي السَّنَةِ مَرَّةً أَوْ مرتين، وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} هَذَا أَيْضًا إِخْبَارٌ عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ إِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} أَيْ تَلَفَّتُوا {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا} أَيْ تَوَلَّوْا عَنِ الْحَقِّ وَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَهَذَا حالهم في الدنيا لَا يَثْبُتُونَ عِنْدَ الْحَقِّ وَلَا يَقْبَلُونَهُ وَلَا يفهمونه كقوله تَعَالَى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ}، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم}، كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ}، قوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} أَيْ لَا يَفْهَمُونَ عن الله خطابه، ولا يتصدون لفهمه ولا يريدونه، بَلْ هُمْ فِي شغل عَنْهُ وَنُفُورٍ مِنْهُ، فَلِهَذَا صَارُوا إِلَى مَا صاروا إليه.

- 128 - لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رؤوف رَحِيمٌ - 129 - فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ وَعَلَى لُغَتِهِمْ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ}، وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أنفسهم}، وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي منكم وبلغتكم، وقوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أَيْ يَعِزُّ عَلَيْهِ الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها، وَشَرِيعَتَهُ كُلَّهَا سَهْلَةٌ سَمْحَةٌ كَامِلَةٌ يَسِيرَةٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أَيْ عَلَى هِدَايَتِكُمْ وَوُصُولِ النَّفْعِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ إليكم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ حُرْمَةً إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَطَّلِعُهَا مِنْكُمْ مُطَّلِعٌ، أَلَا وَإِنِّي آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ أَنْ تَهَافَتُوا فِي النار كتهافت الفراش والذباب» (أخرجه الإمام أحمد). وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ مَلَكَانِ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَالْآخِرُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيْهِ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِهِ: اضْرِبْ مَثَلَ هَذَا وَمَثَلَ أُمَّتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ مَثَلَهُ وَمَثَلَ أُمَّتِهِ كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفَرٍ انْتَهَوْا إلى رأس مفازة ولم يَكُنْ مَعَهُمْ مِنَ الزَّادِ مَا يَقْطَعُونَ بِهِ الْمَفَازَةَ وَلَا مَا يَرْجِعُونَ بِهِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمْ رَجُلٌ فِي حُلَّةٍ حِبَرَةٍ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ وَرَدْتُ بِكُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رِوَاءً تَتَّبِعُونِي؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِمْ فَأَوْرَدَهُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رُوَاءً، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَسَمِنُوا، فَقَالَ لَهُمْ: أَلَمْ أَلْقَكُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَجَعَلْتُمْ لِي إِنْ وَرَدْتُ بِكُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رِوَاءً أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ فقالوا: بلى، فقال: فَإِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ رِيَاضًا هِيَ أَعْشَبُ مِنْ هَذِهِ وَحِيَاضًا هِيَ أَرَوَى مِنْ هَذِهِ فَاتَّبَعُونِي، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: صَدَقَ وَاللَّهِ لنتبعنَّه، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: قَدْ رَضِينَا بِهَذَا نُقِيمُ عَلَيْهِ (رواه أحمد). وقوله: {بالمؤمنين رؤوف رَّحِيمٌ} كقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أَيْ تَوَلَّوْا عَمَّا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْعَظِيمَةِ الْمُطَهَّرَةِ الْكَامِلَةِ الشَّامِلَةِ، {فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ} أَيْ اللَّهُ كَافِيَّ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً}، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} أَيْ هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقِهِ، لِأَنَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا تَحْتَ الْعَرْشِ، مَقْهُورُونَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَقَدَرُهُ نَافِذٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، وقد روى أبو داود عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى: حَسْبِيَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَبْعَ مَرَّاتٍ إِلَّا كَفَاهُ اللَّهُ مَا أهمه.

10 - سورة يونس

- 10 - سورة يونس

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ - 2 - أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ أما الحروف المقطعة فقد تقدم الكلام عليها في أوائل سورة البقرة. وقال أبن عباس {الر} أي أنا الله أرى، وكذلك قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} أَيْ هَذِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُحْكَمِ الْمُبِينِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} قَالَ: الْكُتُبُ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وهذا القول لا أعرف وجهه ومعناه: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى مَنْ تَعَجَّبَ مِنَ الكفار، ومن إِرْسَالِ الْمُرْسَلِينَ مِنَ الْبَشَرِ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عن القرون الماضين من قولهم: {أبشر يهدوننا}؟ وقال هود وصالح لقومهما: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ منكم}؟ وقال تعالى مخبراً عن كفار قريش: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عجاب}؟! وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا أَنْكَرَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ أَوْ مِن أَنْكَرَ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا مِثْلَ مُحَمَّدٍ، قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} الآية، وَقَوْلُهُ: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} اختلفوا فيه؛ فقال ابن عباس: سبقت لهم السعادة في الذكر، وقال العوفي عنه: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} يَقُولُ: أجراً حسناً بما قدموا (وهو قول الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أنَس وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ)، وَقَالَ مجاهد: الأعمال الصالحة، صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم، قال: ومحمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم؛ وَقَالَ قَتَادَةُ سَلَفُ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ؛ وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ التي قدموها، كما يقال: له قدم في الإسلام، كقول حسان: لَنَا الْقَدَمُ الْعُلْيَا إِلَيْكَ وَخَلْفُنَا * لِأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَابِعُ وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: لَكُمْ قَدَمٌ لَا يُنْكِرُ النَّاسُ أَنَّهَا * مَعَ الْحَسَبِ العاديِّ طَمَّتْ عَلَى الْبَحْرِ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} أَيْ مَعَ أَنَّا بَعَثْنَا إِلَيْهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ رَجُلًا مِنْ جِنْسِهِمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} أَيْ ظَاهِرٌ، وَهُمُ الْكَاذِبُونَ فِي ذَلِكَ.

- 3 - إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِ جَمِيعِهِ، وأنه خالق السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، قِيلَ: كَهَذِهِ الْأَيَّامِ، وَقِيلَ: كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تعدون، كما سيأتي بيانه، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، وَالْعَرْشُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ وسقفها، وهو ياقوتة حمراء، وقوله: {يُدَبِّرُ الأمر} أي يدبر الْخَلَائِقِ {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السموات ولا في الأرض} ولا يشغله شأن عن شأن، وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ، وَلَا يُلْهِيهِ تَدْبِيرُ الْكَبِيرِ عَنِ الصَّغِيرِ، فِي الْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالْعِمْرَانِ وَالْقَفَارِ {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} الْآيَةَ، {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مبين}. وَقَوْلُهُ: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، وكقوله تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى}، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أَيْ أَفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ فِي أَمْرِكُمْ تَعْبُدُونَ مَعَ اللَّهِ إلها غَيْرَهُ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْخَلْقِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُمْ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}.

- 4 - إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ يخبر تَعَالَى أَنَّ إِلَيْهِ مَرْجِعَ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَتْرُكُ مِنْهُمْ أَحَدًا حَتَّى يُعِيدَهُ كَمَا بَدَأَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ كَمَا بَدَأَ الْخَلْقَ كَذَلِكَ يُعِيدُهُ، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه}، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} أَيْ بِالْعَدْلِ وَالْجَزَاءِ الْأَوْفَى، {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}، أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْوَاعِ العذاب من سموم وحميم وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ، {هذا فليذقوه حميم وغساق}.

- 5 - هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - 6 - إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا خَلَقَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء، وجعل شعاع الْقَمَرِ نُورًا، هَذَا فَنٌّ وَهَذَا فَنٌّ آخَرُ؛ فَفَاوَتَ بَيْنَهُمَا لِئَلَّا يَشْتَبِهَا، وَجَعَلَ سُلْطَانَ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ، وَسُلْطَانَ الْقَمَرِ بِاللَّيْلِ، وَقَدَّرَ الْقَمَرَ مَنَازِلَ، فَأَوَّلُ مَا يَبْدُو صَغِيرًا، ثُمَّ يَتَزَايَدُ نُورُهُ وَجِرْمُهُ حَتَّى يَسْتَوْسِقَ وَيَكْمُلَ إِبْدَارُهُ، ثُمَّ يَشْرَعُ في النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى في تمام شهر، كقوله تَعَالَى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}. وقوله تعالى: {والشمس والقمر حُسْبَاناً}، {وَقَدَّرَهُ} أي القمر، {مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} فَبِالشَّمْسِ تُعْرَفُ الْأَيَّامُ، وَبِسَيْرِ الْقَمَرِ تُعْرَفُ الشُّهُورُ وَالْأَعْوَامُ، {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ} أَيْ لَمْ يَخْلُقْهُ عَبَثًا بَلْ لَهُ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ فِي ذلك وحجة بالغة، كقوله تعالى: {وَمَا خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا}، وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ ترجعون}، وَقَوْلُهُ: {نفَصِّلُ الْآيَاتِ} أَيْ نُبَيِّنُ الْحُجَجَ وَالْأَدِلَّةَ، {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أَيْ تَعَاقُبُهُمَا إِذَا جَاءَ هَذَا ذَهَبَ هَذَا، وَإِذَا ذَهَبَ هَذَا جَاءَ هَذَا، لَا يتأخر عنه شيئاً كقوله: {يغشي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً}، وَقَالَ: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ} الآية، وَقَوْلُهُ: {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ تَعَالَى، كما قال: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السموات والأرض} الآية، وقوله: {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السموات والأرض}، وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب} أي العقول، وقال ههنا {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}، أَيْ عِقَابَ اللَّهِ وَسَخَطَهُ وعذابه.

- 7 - إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ آيَاتِنَا غَافِلُونَ - 8 - أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ يقول تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَرْجُونَ فِي لقائه شَيْئًا، وَرَضُوا بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهَا نفوسهم {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدنيا واطمأنوا بِهَا} الآية، قَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا زَيَّنُوهَا وَلَا رَفَعُوهَا حَتَّى رَضُوا بِهَا، وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ الْكَوْنِيَّةِ، فَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا، وَالشَّرْعِيَّةِ فَلَا يَأْتَمِرُونَ بِهَا بِأَنَّ مَأْوَاهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمُ النَّارُ جزاء مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ في ديناهم مِنَ الْآثَامِ وَالْخَطَايَا وَالْإِجْرَامِ، مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.

- 9 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ - 10 - دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هذا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِ السُّعَدَاءِ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ وَامْتَثَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، فَعَمِلُوا الصالحات، بأنه سيهديهم بإيمانهم، أي بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ يَوْمَ القيامة على الصراط المستقيم حَتَّى يَجُوزُوهُ وَيَخْلُصُوا إِلَى الْجَنَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِعَانَةِ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} قَالَ: يَكُونُ لَهُمْ نُورًا يمشون به، وقال ابن جريج: في الآية يمثل له عمله في صورة حسنة إذا قام من قبره يبشره بِكُلِّ خَيْرٍ، فَيَقُولُ

لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ، فَيُجْعَلُ له نوره مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ حَتَّى يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} وَالْكَافِرُ يَمْثُلُ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةٍ سَيِّئَةٍ وَرِيحٍ مُنْتِنَةٍ، فليزم صاحبه حتى يقذفه في النار. وقوله تَعَالَى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ، وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ هَذَا حَالُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالَ ابْنُ جريج: أخبرت أنه إِذَا مَرَّ بِهِمُ الطَّيْرُ يَشْتَهُونَهُ قَالُوا: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وَذَلِكَ دَعْوَاهُمْ فَيَأْتِيهِمُ الْمَلَكُ بِمَا يَشْتَهُونَهُ، فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ}، قَالَ: فَإِذَا أَكَلُوا حَمِدُوا اللَّهَ رَبَّهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقال مقاتل: إِذَا أَرَادَ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْعُوَا بِالطَّعَامِ قَالَ أَحَدُهُمْ: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} قَالَ: فَيَقُومُ عَلَى أَحَدِهِمْ عَشَرَةُ آلَافِ خَادِمٍ مَعَ كُلِّ خَادِمٍ صَحْفَةٌ مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا طَعَامٌ لَيْسَ فِي الأخرى، قال: فيأكل منهن كلهن، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا شَبَهٌ مِنْ قَوْلِهِ: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ}، وقوله: {إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما}، وقوله: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}، وَقَوْلِهِ: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سلام عليكم} الآية، وَقَوْلُهُ: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيه دلالة على أنه تَعَالَى هُوَ الْمَحْمُودُ أَبَدًا، الْمَعْبُودُ عَلَى طُولِ الْمَدَى، وَلِهَذَا حَمِدَ نَفْسَهُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ خَلْقِهِ، وَفِي ابْتِدَاءِ كِتَابِهِ، وَعِنْدَ ابْتِدَاءِ تَنْزِيلِهِ، حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكتاب}، {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَطُولُ بسطها، وأنه المحمود في الأولى والآخرة فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ»، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ لِمَا يرون من تزايد نعم الله عليهم، فتكرر وتعاد وتزداد، فَلَيْسَ لَهَا انْقِضَاءٌ وَلَا أَمَدٌ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.

- 11 - وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حِلْمِهِ وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ، أَنَّهُ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ إذا دعوا على أنفسهم أو أولادهم بالشر، فِي حَالِ ضَجَرِهِمْ وَغَضَبِهِمْ، وَأَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْهُمْ عَدَمَ الْقَصْدِ إِلَى إِرَادَةِ ذَلِكَ، فَلِهَذَا لَا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لُطْفًا وَرَحْمَةً، كَمَا يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأولادهم بالخير والبركة، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} الآية: أَيْ لَوِ اسْتَجَابَ لَهُمْ كُلَّ مَا دَعَوْهُ بِهِ فِي ذَلِكَ لَأَهْلَكَهُمْ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي الْإِكْثَارُ مِنْ ذَلِكَ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الذي رواه جَابِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْعُوَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، لَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، لَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً فِيهَا إِجَابَةٌ فيستحجيب لكم» (أخرجه البزار وأبو داود عن جابر بن عبد الله)، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بالخير} الآية، وقال مجاهد في تفسير هذه الآية: هو قول الإنسان لولده أو ماله إِذَا غَضِبَ عَلَيْهِ: اللَّهُمَّ لَا تُبَارِكْ فِيهِ والعنه، فلو يجعل لَهُمُ الِاسْتِجَابَةَ فِي ذَلِكَ كَمَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِي الْخَيْرِ لَأَهْلَكَهُمْ.

- 12 - وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ وَضَجَرِهِ وَقَلَقِهِ إِذَا مَسَّهُ الضر، كقوله: {وإذا مسه الضر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} أَيْ كَثِيرٍ، وَهُمَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا أَصَابَتْهُ شِدَّةٌ قَلِقَ لَهَا وَجَزِعَ مِنْهَا، وَأَكْثَرَ الدُّعَاءَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَدَعَا اللَّهَ في كشفها ورفعها عَنْهُ، فِي حَالِ اضْطِجَاعِهِ وَقُعُودِهِ وَقِيَامِهِ وَفِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، فَإِذَا فَرَّجَ اللَّهُ شِدَّتَهُ وَكَشَفَ كربته أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وذهب، كأن ما كان به من ذلك شَيْءٌ، {مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ}، ثُمَّ ذَمَّ تَعَالَى مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَطَرِيقَتُهُ فَقَالَ: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فَأَمَّا مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ الْهِدَايَةَ وَالسَّدَادَ، والتوفيق والرشاد فإنه مستثنى من ذلك، وفي الْحَدِيثِ: «عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فصبر كان خيراً له، وإن أصابته سراء فشكر كان خَيْرًا لَهُ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ».

- 13 - وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ - 14 - ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّا أَحَلَّ بِالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، فِي تَكْذِيبِهِمُ الرسل فيما جاءوهم به من البينات، اسْتَخْلَفَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ مَنْ بَعْدِهِمْ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا لِيَنْظُرَ طَاعَتَهُمْ لَهُ، وَاتِّبَاعَهُمْ رَسُولَهُ، وفي صحيح مسلم: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فيها فناظر كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فتنة بني إسرائيل كانت من النساء».

- 15 - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ - 16 - قُل لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَعَنُّتِ الْكُفَّارِ مِنْ مشركي قريش الجاحدين الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ، أَنَّهُمْ إِذَا قَرَأَ عَلَيْهِمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابَ اللَّهِ وَحُجَجَهُ الْوَاضِحَةَ قَالُوا لَهُ: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا، أَيْ رُدَّ هَذَا وَجِئْنَا بِغَيْرِهِ مِنْ نَمَطٍ آخَرَ أَوْ بَدِّلْهُ إِلَى وَضْعٍ آخَرَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي} أَيْ لَيْسَ هَذَا إِلَيَّ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مَأْمُورٌ، وَرَسُولٌ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ، {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٌ}؛ ثُمَّ قَالَ مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ فِي صِحَّةِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ؛ {قُل لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ} أَيْ هَذَا إِنَّمَا جِئْتُكُمْ بِهِ عَنْ إِذَنِ اللَّهِ لِي فِي ذَلِكَ وَمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنِّي لَسْتُ أَتَقَوَّلُهُ مِنْ عِنْدِي، وَلَا افْتَرَيْتُهُ أَنَّكُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ صِدْقِي وَأَمَانَتِي مُنْذُ نَشَأْتُ بَيْنَكُمْ إِلَى حِينِ بَعَثَنِي اللَّهُ عزَّ وجلَّ، لَا تَنْتَقِدُونَ عليَّ شَيْئًا تَغْمِصُونِي بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ:

{فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أَيْ أَفَلَيْسَ لَكُمْ عُقُولٌ تَعْرِفُونَ بِهَا الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ؟ وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ هِرَقْلُ ملك الروم (أبا سفيان) قال له: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: لَا، وكان أَبُو سُفْيَانَ إِذْ ذَاكَ رَأْسَ الْكَفَرَةِ وَزَعِيمَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَعَ هَذَا اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ (وَالْفَضْلُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأَعْدَاءُ) فَقَالَ لَهُ هِرَقْلُ: فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى الناس ثم يذهب ليكذب عَلَى اللَّهِ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِلنَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ: بَعَثَ اللَّهُ فِينَا رَسُولًا نعرف صدقه ونسبه وَأَمَانَتَهُ، وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةَ مَقَامِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة.

- 17 - فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ يَقُولُ تَعَالَى: لَا أَحَدَ أَظْلَمَ وَلَا أَعْتَى وَلَا أَشَدَّ إِجْرَامًا {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، وَتَقَوَّلَ عَلَى اللَّهِ، وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ أَحَدٌ أَكْبَرَ جُرْمًا وَلَا أَعْظَمَ ظُلْمًا مِنْ هَذَا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى أَمْرُهُ عَلَى الْأَغْبِيَاءِ فَكَيْفَ يُشْتَبَهُ حَالُ هَذَا بِالْأَنْبِيَاءِ؟ فَإِنَّ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا فَلَا بُدَّ أَنَّ اللَّهَ يَنْصَبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى بره أو فجوره ما هو أظهر مِنَ الشَّمْسِ، فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلم وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين الضحى وبين حندس الظلماء، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ الناس (يعني قومه اليهود. وأما العرب وهم الأنصار فكانوا في أشد الغبطة والسرور) فَكُنْتُ فِيمَنِ انْجَفَلَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَرَفَتْ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ رَجُلٍ كَذَّابٍ، قال: فَكَانَ أَوَّلَ مَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ»، ولما وفد (ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْمِهِ بَنِي سَعْدِ بن بكر قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما قاله: مَنْ رَفَعَ هَذِهِ السَّمَاءَ؟ قَالَ: «اللَّهُ»، قَالَ: وَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ؟ قَالَ: «اللَّهُ»، قَالَ: وَمَنْ سَطَحَ هَذِهِ الْأَرْضَ؟ قَالَ: «اللَّهُ»، قَالَ: فَبِالَّذِي رَفَعَ هَذِهِ السَّمَاءَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَسَطَحَ هَذِهِ الْأَرْضَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ»، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَيَحْلِفُ عِنْدَ كُلِّ واحدة هذه اليمين، ويحلف لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: صَدَقْتَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أزيد على ذلك ولا أنقص، فقد أَيْقَنَ بِصِدْقِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِمَا رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه، قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ * كَانَتْ بَدِيهَتُهُ تَأْتِيكَ بِالْخَبَرِ وذكروا أَنَّ (عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ) وَفَدَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ، وَكَانَ صَدِيقًا لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ عَمْرٌو لَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ، فَقَالَ لَهُ مُسَيْلِمَةُ: وَيْحَكَ يَا عَمْرُو، مَاذَا أُنْزِلَ عَلَى صَاحِبِكُمْ، يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ؟ فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ أصحابه يقرأون سُورَةً عَظِيمَةً قَصِيرَةً، فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لفي خسر} إلى آخر السورة، ففكر مسيلمة ساعة، ثم قال: وأنا قد أُنْزِلَ عليَّ مِثْلُهُ، فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: (يَا وَبْرُ، يَا وَبْرُ، إِنَّمَا أَنْتِ أُذُنَانِ وَصَدْرٌ وَسَائِرُكِ حفر نَقْرٌ)، كَيْفَ تَرَى يَا عَمْرُو، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ تَكْذِبُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ مُشْرِكٍ فِي حَالِ شِرْكِهِ لَمْ يُشْتَبَهْ عَلَيْهِ حَالُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقَهُ، وَحَالُ مُسَيْلِمَةَ لَعَنَهُ

اللَّهُ وَكَذَبَّهُ، فَكَيْفَ بِأُولِي الْبَصَائِرِ وَالنُّهَى، وَأَصْحَابِ العقول السليمة المستقيمة والحجى؟ ولهذ قال تَعَالَى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}، وَكَذَلِكَ مَنْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَجُ، لَا أَحَدَ أَظْلَمُ منه كما في الحديث: «أعتى لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نبي».

- 18 - وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ - 19 - وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يُنْكِرُ تَعَالَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ ظَانِّينَ أن تلك الآلهة أَنَّ تِلْكَ الْآلِهَةَ تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَتُهَا عِنْدَ اللَّهِ، فأخبر تعالى أنها لا تضر ولا تنفع وَلَا تَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَا يَقَعُ شَيْءٌ مِمَّا يَزْعُمُونَ فِيهَا وَلَا يَكُونُ هَذَا أَبَدًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ في السماوات ولا في الأرض} قال ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ أَتُخَبِّرُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَكُونُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ؟ ثُمَّ نزه نفسه الكريمة عَنْ شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ فَقَالَ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الشِّرْكَ حَادِثٌ فِي النَّاسِ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ كَانُوا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ وَعُبِدَتِ الْأَصْنَامُ وَالْأَنْدَادُ وَالْأَوْثَانُ، فَبَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ بِآيَاتِهِ وَبَيِّنَاتِهِ وَحُجَجِهِ الْبَالِغَةِ وَبَرَاهِينِهِ الدَّامِغَةِ: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بينة}، وقوله: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} الآية، أَيْ لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عليه، وأنه أَجَّلَ الْخَلْقَ إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودٍ، لَقَضَى بَيْنَهُمْ فيما اختلفوا فيه، فَأَسْعَدَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعْنَتَ الْكَافِرِينَ.

- 20 - وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين أي ويقول هؤلاء الكفرة الْمُكَذِّبُونَ الْمُعَانِدُونَ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، يَعْنُونَ: كَمَا أَعْطَى اللَّهُ ثَمُودَ النَّاقَةَ، أَوْ أَنْ يُحَوِّلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبَا، أَوْ يُزِيحَ عَنْهُمْ جِبَالَ مَكَّةَ وَيَجْعَلَ مَكَانَهَا بساتين وأنهاراً، أو نحو ذَلِكَ، مِمَّا اللَّهُ عَلَيْهِ قَادِرٌ، وَلَكِنَّهُ حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لك قصورا}، وكقوله: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} الآية، يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ سُنَّتِي فِي خَلْقِي أَنِّي إِذَا آتَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، فَإِنْ آمَنُوا وَإِلَّا عَاجَلْتُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَلِهَذَا لَمَّا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ إعطائهم ما سألوا فإن آمنوا وإلا عذبوا، وبين أنظارهم، اخْتَارَ إِنْظَارَهُمْ، كَمَا حَلَمَ عَنْهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى إرشاداً لنبيّه صلى الله عليه وسلم إِلَى الْجَوَابِ عَمَّا سَأَلُوا: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ} أَيْ الْأَمْرُ كُلَّهُ للَّهِ وَهُوَ يَعْلَمُ الْعَوَاقِبَ فِي الْأُمُورِ، {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ} أَيْ إِنْ كُنْتُمْ لَا تُؤَمِّنُونَ حَتَّى تُشَاهِدُوا مَا سَأَلْتُمْ فَانْتَظَرُوا حُكْمَ اللَّهِ فيَّ وفيكم، ولو علم أَنَّهُمْ سَأَلُوا ذَلِكَ اسْتِرْشَادًا وَتَثَبُّتًا لَأَجَابَهُمْ، وَلَكِنْ علم

أنهم إنما يسألون ذلك عِنَادًا وَتَعَنُّتًا فَتَرَكَهُمْ فِيمَا رَابَهُمْ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لا يؤمن منهم أحد لما فيه من المكابرة كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ} الآية، وقوله تَعَالَى: {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً} الآية، وقوله تَعَالَى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} فمثل هؤلاء لا فائدة من جوابهم لِأَنَّهُ دَائِرٌ عَلَى تَعَنُّتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ لِكَثْرَةِ فُجُورِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين}.

- 21 - وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ - 22 - هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ - 23 - فَلَمَّآ أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا أَذَاقَ النَّاسَ رَحْمَةً مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ كَالرَّخَاءِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، وَالْخِصْبِ بَعْدَ الْجَدْبِ، وَالْمَطَرِ بَعْدَ الْقَحْطِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ {إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا}، قَالَ مُجَاهِدٌ اسْتِهْزَاءٌ وتكذيب، {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً} أَيْ أَشَدُّ اسْتِدْرَاجًا وَإِمْهَالًا حَتَّى يَظُنَّ الظَّانَّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُعَذَّبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي مُهْلَةٍ ثُمَّ يُؤْخَذُ عَلَى غِرَّةٍ مِنْهُ، وَالْكَاتِبُونَ الْكِرَامُ يَكْتُبُونَ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ وَيُحْصُونَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَعْرِضُونَهُ عَلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُجَازِيهِ عَلَى النقير وَالْقِطْمِيرِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أَيْ يَحْفَظُكُمْ وَيَكْلَؤُكُمْ بِحِرَاسَتِهِ، {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا} أَيْ بِسُرْعَةِ سيرهم رافلين، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ {جَاءَتْهَا} أَيْ تِلْكَ السُّفُنَ {رِيحٌ عَاصِفٌ} أَيْ شَدِيدَةٌ، {وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ} أَيْ اغْتَلَمَ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أَيْ هَلَكُوا، {دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أَيْ لَا يَدْعُونَ معه صنماً ولا وثناً يفردونه بالدعاء والابتهال، كقوله تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ}، {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ} أَيْ هَذِهِ الْحَالُ {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أَيْ لَا نُشْرِكُ بِكَ أحداً ولنفردنك بالعبادة كما أفردناك بالدعاء ههنا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ} أَيْ مِنْ تِلْكَ الْوَرْطَةِ، {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أَيْ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذلك شَيْءٌ، {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أَيْ إِنَّمَا يَذُوقُ وَبَالَ هَذَا الْبَغْيِ أَنْتُمْ أَنْفُسُكُمْ، وَلَا تَضُرُّونَ بِهِ أَحَدًا غَيْرَكُمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»، وَقَوْلُهُ: {مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ إِنَّمَا لَكُمْ مَتَاعٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الدَّنِيئَةِ الْحَقِيرَةِ، {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ} أَيْ مَصِيرُكُمْ وَمَآلُكُمْ، {فَنُنَبِّئُكُمْ} أَيْ فَنُخْبِرُكُمْ بِجَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ وَنُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمِنْ وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.

- 24 - إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ - 25 - وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ضَرَبَ تَبَارَكَ وتعالى مَثَلًا لِزَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَسُرْعَةِ انْقِضَائِهَا وَزَوَالِهَا، بِالنَّبَاتِ الَّذِي أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَرْضِ، مما يأكل الناس من زروع وَثِمَارٍ، عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَأَصْنَافِهَا، وَمَا تَأْكُلُ الأنعام، {حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} أَيْ زِينَتَهَا الفانية، {وازينت} أي حسنت بما خرج في رُبَاهَا مِنْ زُهُورٍ نَضِرَةٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ {وَظَنَّ أَهْلُهَآ} الَّذِينَ زَرَعُوهَا وَغَرَسُوهَا {أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ} أي على جذاذها وحصادها، فبينما هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتْهَا صَاعِقَةٌ أَوْ رِيحٌ شديدة بَارِدَةٌ، فَأَيْبَسَتْ أَوْرَاقَهَا وَأَتْلَفَتْ ثِمَارَهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} أي يابساً بعد الْخُضْرَةِ وَالنَّضَارَةِ، {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} أَيْ كأنها ما كانت حيناً قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {كَأَن لَّمْ تَغْنَ} كَأَنَّ لَمْ تَنْعَمْ، وَهَكَذَا الْأُمُورُ بَعْدَ زَوَالِهَا كأنها لم تكن، قال تعالى: أخبارا عن المهلكين: {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فيها}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ نفَصِّلُ الْآيَاتِ} أَيْ نُبَيِّنُ الْحُجَجَ وَالْأَدِلَّةَ {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فَيَعْتَبِرُونَ بِهَذَا المثل في زوال الدنيا عن أهلها سريعاً، مع اغترارهم بها وتفلتها عنهم، وقد ضرب الله تعالى مثل الدُّنْيَا بِنَبَاتِ الْأَرْضِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ من كتابه العزيز فقال: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شيء مقتدرا}، وكذا في سورة (الزمر) و (الحديد) يضرب الله بذلك مثل الحياة الدنيا، وقوله: {والله يدعو إلى دَارِ السلام} لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة زَوَالِهَا، رغَّب فِي الْجَنَّةِ وَدَعَا إِلَيْهَا وَسَمَّاهَا دَارَ السَّلَامِ، أَيْ مِنَ الْآفَاتِ وَالنَّقَائِصِ وَالنَّكَبَاتِ فَقَالَ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ، وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صراط مستقيم}. روي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنه، أنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي، وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلِي، يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اضْرِبْ لَهُ مَثَلًا، فقال: إِنَّمَا مَثَلُكَ وَمَثَلُ أُمَّتِكَ كَمَثَلِ مَلِكٍ اتَّخَذَ دَارًا، ثُمَّ بَنَى فِيهَا بَيْتًا ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً، ثُمَّ بَعَثَ رَسُولًا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ؛ فَاللَّهُ الْمَلِكُ، وَالدَّارُ الْإِسْلَامُ، وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ الرَّسُولُ؛ فَمَنْ أَجَابَكَ دَخَلَ الْإِسْلَامَ، وَمَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، من دخل الجنة أكل منها" (أخرجه ابن جرير عن جابر بن عبد الله).

- 26 - لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ لِمَنْ أَحْسَنَ العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح، {الحسنى} في الدار الآخرة {هَلْ جَزَآءُ

الإحسان إلا الإحسان}؟ وقوله: {وَزِيَادَةٌ} هي تضعيف ثواب الأعمال ويشمل ما يعطيهم الله في الجنة مِنَ الْقُصُورِ وَالْحُورِ وَالرِّضَا عَنْهُمْ، وَمَا أَخْفَاهُ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ، وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْلَاهُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، فَإِنَّهُ زِيَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ مَا أُعْطُوهُ لَا يَسْتَحِقُّونَهَا بِعَمَلِهِمْ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَقَدْ رُوِيَ تَفْسِيرُ الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم الجمهور من السلف والخلف، روى الإمام أحمد عن صهيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، وَقَالَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، نَادَى منادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، فَيَقُولُونَ: وَمَا هُوَ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويدخلنا الجنة ويجرنا مِنَ النَّارِ؟ - قَالَ: فَيَكْشِفُ لَهُمُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ وَلَا أَقَرَّ لِأَعْيُنِهِمْ" (أخرجه أحمد ورواه مسلم وجماعة من الأئمة). وعن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُنَادِيًا يُنَادِي: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ - بِصَوْتٍ يُسْمِعُ أَوَّلَهُمْ وآخرهم - إِنَّ الله وَعَدَكُمْ الحسنى وزيادة، فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن عزَّ وجلَّ" (أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم). وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قَالَ: "الْحُسْنَى: الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وجه الله عزَّ وجلَّ"، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} أَيْ قَتَامٌ وَسَوَادٌ فِي عَرَصَاتِ الْمَحْشَرِ، كَمَا يَعْتَرِي وُجُوهَ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ مِنَ الْقَتَرَةِ وَالْغَبَرَةِ، {وَلاَ ذِلَّةٌ} أي هوان وصغار، بَلْ هُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} أَيْ نَضْرَةً فِي وُجُوهِهِمْ وَسُرُوراً فِي قُلُوبِهِمْ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ آمِينَ.

- 27 - وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حَالِ السُّعَدَاءِ الَّذِينَ يُضَاعِفُ لهم الحسنات عطف بذكر حال الأشقياء، فذكر تعالى عدله فِيهِمْ وَأَنَّهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا لَا يَزِيدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، {وَتَرْهَقُهُمْ} أَيْ تَعْتَرِيهِمْ وَتَعْلُوهُمْ ذِلَّةٌ مِنْ مَعَاصِيهِمْ وَخَوْفِهِمْ مِنْهَا، كَمَا قَالَ: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذل} الآية، وقال تعالى: {مهطعين مقنعي رؤوسهم} الآية، وَقَوْلُهُ: {مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} أي مانع ولا واقٍ يقيهم العذاب، كقوله تعالى: {وَيَقُولُ الإنسان يؤمئذ أَيْنَ المفر * كَلاَّ لا وزر}، وقوله: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ} الآية إِخْبَارٌ عَنْ سَوَادِ وُجُوهِهِمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، وقوله تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غبرة} الآية.

- 28 - وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ ما كنتم

إِيَّانَا تَعْبُدُونَ - 29 - فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إن كنا عن عبادتكم لغافلين - 30 - هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} أَيْ أَهْلَ الْأَرْضِ كلهم من جن وإنس وبر وفاجر، كقوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أحدا}، {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} الآية، أَيْ الْزَمُوا أَنْتُمْ وَهَمَ مَكَانًا مُعَيَّنًا، امْتَازُوا فيه عن مقام المؤمنين، كقوله تعالى: {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون}، وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ}، وفي الآية الأُخْرى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أَيْ يَصِيرُونَ صَدْعَيْنِ؛ وَهَذَا يَكُونُ إِذَا جَاءَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، {مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} أي أنهم أنكروا عبادتهم وتبرؤوا منهم، كقوله: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} الآية، وقوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}، وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً} الآية، {فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية، أَيْ مَا كُنَّا نَشْعُرُ بِهَا وَلَا نَعْلَمُ بها، وإنما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَنَا مِنْ حَيْثُ لَا نَدْرِي بِكُمْ وَاللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنَّا مَا دَعَوْنَاكُمْ إِلَى عِبَادَتِنَا وَلَا أَمَرْنَاكُمْ بِهَا وَلَا رَضِينَا مِنْكُمْ بِذَلِكَ، وَفِي هَذَا تَبْكِيتٌ عَظِيمٌ لِلْمُشْرِكِينَ الذين عبدوا مع الله غيره وقد تركوا عبادة الحي القيوم الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ، وقد أرسل رسله آمِرًا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ نَاهِيًا عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون}، وَقَالَ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟}، وقوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} أَيْ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُخْتَبَرُ كُلُّ نَفْسٍ وَتَعْلَمُ ما سلف من عملها من خير وشر، كقوله تعالى: {يَوْمَ تبلى السرآئر}، وَقَالَ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقرأ كتابك}، وَقَوْلُهُ: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} أَيْ وَرَجَعْتِ الْأُمُورُ كُلُّهَا إِلَى اللَّهِ الْحَكَمِ الْعَدْلِ، فَفَصَّلَهَا وَأَدْخَلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ، {وَضَلَّ عَنْهُمْ} أَيْ ذَهَبَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، {مَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أَيْ مَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ افْتِرَاءً عَلَيْهِ.

- 31 - قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ - 32 - فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ - 33 - كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ يَحْتَجُّ تَعَالَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِاعْتِرَافِهِمْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ على واحدنية إلاهيته، فقال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أَيْ مَنْ ذَا الَّذِي يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءَ المطر، فيشق الأرض شقاً يقدرته ومشيئته، فيخرج منها {حبا وعنبا وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ؟ فَسَيَقُولُونَ: اللَّهُ {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ}؟ وقوله: {أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار} أَيْ الَّذِي وَهَبَكُمْ هَذِهِ الْقُوَّةَ السَّامِعَةَ، وَالْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ، وَلَوْ شَاءَ لَذَهَبَ بِهَا وَلَسَلَبَكُمْ إِيَّاهَا، كقوله تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ}

الآية، وَقَالَ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} الآية، وَقَوْلُهُ: {وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} أَيْ بِقُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ وَمِنَّتِهِ العميمة، وَقَوْلُهُ: {وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} أَيْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شيء، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهم يسألون، فالملك كله العلوي والسفلي فقيرون إليه خاضعون لديه، {فَسَيَقُولُونَ الله} أي وهم يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيَعْتَرِفُونَ بِهِ، {فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}؟ أَيْ أَفَلَا تَخَافُونَ مِنْهُ أَنْ تَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ بِآرَائِكُمْ وَجَهِلِكُمْ؟ وَقَوْلُهُ: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الحق} الآية، أَيْ فَهَذَا الَّذِي اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ كُلَّهُ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَهُكُمُ الْحَقُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلَالُ}؟ أَيْ فَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ بَاطِلٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَاحِدٌ، لَا شَرِيكَ لَهُ، {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أَيْ فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ إِلَى عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ؟ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ الرَّبُّ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَالْمُتَصَرِّفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين فَسَقُواْ} أَيْ كَمَا كَفَرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى شِرْكِهِمْ، وَعِبَادَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ مَعَ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْمُلْكِ وَحْدَهُ، الَّذِي بَعَثَ رُسُلَهُ بِتَوْحِيدِهِ، فَلِهَذَا حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ أَنَّهُمْ أَشْقِيَاءُ مِنْ سَاكِنِي النَّارِ، كَقَوْلِهِ: {قَالُواْ بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الكافرين}.

- 34 - قُلْ هَلْ مِن شركائكم من يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يعيده قل الله يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ - 35 - قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ - 36 - وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وَهَذَا إِبْطَالٌ لِدَعْوَاهُمْ فِيمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ غَيْرَهُ، وَعَبَدُوا مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ من يبدؤ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أَيْ مَنْ بَدَأَ خَلْقَ هَذِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ يُنْشِئُ مَا فِيهِمَا مِنَ الْخَلَائِقِ، وَيُفَرِّقُ أَجْرَامَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيُبْدِلْهُمَا بِفَنَاءِ مَا فِيهِمَا ثُمَّ يُعِيدُ الْخَلْقَ خَلْقًا جَدِيدًا {قُلِ اللَّهُ} هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا ويستقل به وحده لا شريك به، {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أَيْ فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ طَرِيقِ الرُّشْدِ إِلَى الْبَاطِلِ، {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ؟ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} أَيْ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ شُرَكَاءَكُمْ لَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ ضَالٍّ، وَإِنَّمَا يَهْدِي الْحَيَارَى والضُلاّل، وَيُقَلِّبُ الْقُلُوبَ مِنَ الْغَيِّ إِلَى الرُّشْدِ الله رب العالمين، {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى} أَيْ أَفَيُتَّبَعُ الْعَبْدُ الَّذِي يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَيُبَصِّرُ بَعْدَ الْعَمَى، أَمِ الَّذِي لَا يَهْدِي إِلَى شَيْءٍ إِلاَّ أَن يُهْدَى لِعَمَاهُ وَبُكْمِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}. وقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أَيْ فَمَا بَالُكُمْ يُذْهَبُ بِعُقُولِكُمْ، كَيْفَ سَوَّيْتُمْ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَعَدَلْتُمْ هَذَا بِهَذَا وَعَبَدْتُمْ هَذَا وَهَذَا؟ وهلا أفردتم الرب جل جلاله بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَأَخْلَصْتُمْ إِلَيْهِ الدَّعْوَةَ وَالْإِنَابَةَ؟ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ فِي دِينِهِمْ هَذَا دَلِيلًا وَلَا بُرْهَانًا، وَإِنَّمَا هُوَ ظنٌ مِنْهُمْ أَيْ تَوَهُّمٌ وَتَخَيُّلٌ، وَذَلِكَ لاَ يُغْنِي

عَنْهُمْ شَيْئًا، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الْجَزَاءِ.

- 37 - وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ - 38 - أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 39 - بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ - 40 - وَمِنْهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ هَذَا بَيَانٌ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَشَرُ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَلَا بِعَشْرِ سُوَرٍ، وَلَا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَوَجَازَتِهِ وحلاوته، واشتماله على المعاني العزيزة الغزيرة النَّافِعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ في ذاته ولا في صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، فَكَلَامُهُ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} أَيْ مِثْلُ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا كَلَامَ الْبَشَرِ، وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب المتقدمة ومهيمناً عليه، وَمُبَيِّنًا لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ وَالتَّبْدِيلِ، وَقَوْلُهُ: {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} أي وبيان الأحكام بياناً شافياً كافياً لَا مِرْيَةَ فِيهِ مِنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كما تقدم في الحديث «فِيهِ خَبَرُ مَا قَبْلَكُمْ وَنَبَأُ مَا بَعْدَكُمْ وَفَصْلُ مَا بَيْنَكُمْ» أَيْ خَبَرٌ عَمَّا سَلَفَ وَعَمَّا سَيَأْتِي، وَحُكْمٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِالشَّرْعِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ. وَقَوْلُهُ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ إِنِ ادَّعَيْتُمْ وَافْتَرَيْتُمْ وَشَكَكْتُمْ فِي أَنَّ هذا من عند الله، وقلتم كذباً إِنَّ هَذَا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ، فَمُحَمَّدٌ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَقَدْ جَاءَ فِيمَا زَعَمْتُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَأْتُوا أَنْتُمْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، أَيْ مِنْ جِنْسِ هذا الْقُرْآنِ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ مَنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِنْسٍ وَجَانٍّ، وَهَذَا هُوَ الْمَقَامُ الثَّالِثُ فِي التَّحَدِّي، فَإِنَّهُ تَعَالَى تَحَدَّاهُمْ وَدَعَاهُمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ مِنْ عند محمد، فليعارضوه بنظير ما جاء، ولسيتعينوا بمن شاءوا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}، ثُمَّ تَقَاصَرَ مَعَهُمْ إِلَى عَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ، فَقَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، ثُمَّ تَنَازَلَ إِلَى سُورَةٍ، فَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، وَكَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ مِنْهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ أَبَدًا فَقَالَ: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُوا النَّارَ} الآية. وهذا وَقَدْ كَانَتِ الْفَصَاحَةُ مِنْ سَجَايَاهُمْ وَأَشْعَارِهِمْ وَمُعَلَّقَاتِهِمْ إليها المنتهى من هَذَا الْبَابِ، وَلَكِنْ، جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَا قِبَلَ

لِأَحَدٍ بِهِ؛ وَلِهَذَا آمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِمَا عَرَفَ مِنْ بَلَاغَةِ هَذَا الْكَلَامِ، وَحَلَاوَتِهِ وَجَزَالَتِهِ وَطَلَاوَتِهِ وَإِفَادَتِهِ وَبَرَاعَتِهِ، فَكَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ به وأفهمهم له وأشدهم له انقياداً. لهذا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إليَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا». وَقَوْلُهُ: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تأويله} يقول: بل كذب هؤلاء بالقرآنن وَلَمْ يَفْهَمُوهُ وَلَا عَرَفُوهُ {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أَيْ وَلَمْ يُحَصِّلُوا مَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ إِلَى حِينِ تَكْذِيبِهِمْ بِهِ جَهْلًا وَسَفَهًا، {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} أَيْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أَيْ فَانْظُرْ كَيْفَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَنَا ظلماً وعلواً وكفراً وعناداً، فَاحْذَرُوا أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ، وقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ} الآية، أَيْ وَمِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بُعِثْتَ إِلَيْهِمْ يَا مُحَمَّدُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَيَتَّبِعُكَ وَيَنْتَفِعُ بِمَا أُرْسِلْتَ بِهِ، {وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} بَلْ يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ وَيُبْعَثُ عَلَيْهِ، {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} أَيْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ فَيَهْدِيهِ. وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الضَّلَالَةَ فَيُضِلُّهُ، وَهُوَ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ، بَلْ يُعْطِي كلا ما يستحقه تبارك وتعالى وتقدس.

- 41 - وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ - 42 - وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ - 43 - وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ - 44 - إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّ كَذَبَّكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ وَمِنْ عَمَلِهِمْ {فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ}، كقوله تعالى عَنِ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ وَأَتْبَاعُهُ لِقَوْمِهِمُ الْمُشْرِكِينَ: {إِنَّا بُرَآءُ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله}، وَقَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} أَيْ يَسْمَعُونَ كلامك الحسن والقرآن العظيم النافع في القلوب والأبدان، وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ وَلَا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّكَ كما لا تقدر على إسماع الأصم، فَكَذَلِكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ هَؤُلَاءِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ، {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} أَيْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَإِلَى مَا أَعْطَاكَ اللَّهُ من الخلق العظيم، والدلالة الظاهرة على نبوتك، وَهَؤُلَاءِ يَنْظُرُونَ كَمَا يَنْظُرُ غَيْرُهُمْ، وَلَا يَحْصُلُ لهم من الهداية شيء كما يَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ، بَلِ الْمُؤْمِنُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ بِعَيْنِ الوقار، وهؤلاء الكفار يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ، {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} الآية، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا شَيْئاً، وَإِن كَانَ قَدْ هَدَى بِهِ مِنْ هدى وَبَصَّرَ بِهِ مِنَ الْعَمَى، وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عمياء وآذاناً صماء وَقُلُوبًا غُلْفًا، وَأَضَلَّ بِهِ عَنِ الْإِيمَانِ آخَرِينَ؛ فَهُوَ الْحَاكِمُ الْمُتَصَرِّفُ فِي مُلْكِهِ بِمَا يَشَاءُ لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أنفسهم يظلمون}.

- 45 - وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ

يَقُولُ تَعَالَى مُذَكِّرًا لِلنَّاسِ قِيَامَ السَّاعَةِ، وَحَشْرَهُمْ من أجداثهم إلى عرصات القيامة: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} الآية، كقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ}، وكقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}، وقال تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يوما}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غير ساعة}، وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِقْصَارِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الدار الآخرة كقوله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العادين}، وَقَوْلُهُ: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} أَيْ يَعْرِفُ الْأَبْنَاءُ الْآبَاءَ وَالْقُرَابَاتِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا وَلَكِنْ كُلٌّ مَشْغُولٌ بِنَفْسِهِ، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ} الآية، وقال تعالى: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حميما}، وَقَوْلُهُ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وَلَا خَسَارَةَ أَعْظَمُ مِنْ خَسَارَةِ مَنْ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ.

- 46 - وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ - 47 - وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أَيْ نَنْتَقِمُ مِنْهُمْ فِي حَيَاتِكَ لِتَقَرَّ عَيْنُكَ مِنْهُمْ، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}، أي مصيرهم ومنقلبهم، والله يشهد على أفعالهم بعدك، وَقَوْلُهُ: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط} الآية، كقوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ ربها} الآية، فَكُلُّ أُمَّةٍ تُعْرَضُ عَلَى اللَّهِ بِحَضْرَةِ رَسُولِهَا، وكتاب أعمالها من خير وشر شاهد عليها وحفظتهم من الملائكة شهود أيضاً، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ الشَّرِيفَةُ وَإِنْ كَانَتْ آخِرَ الْأُمَمِ فِي الْخَلْقِ، إِلَّا أَنَّهَا أَوَّلُ الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُفْصَلُ بَيْنَهُمْ وَيُقْضَى لَهُمْ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ»، فَأُمَّتُهُ إنما حازت قصب السبق بشرف رَسُولِهَا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدين.

- 48 - وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 49 - قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ - 50 - قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ - 51 - أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ - 52 - ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفْرِ هؤلاء المشركين في استعجالهم العذابن وسؤالهم عن وقته قبل التعيين، مما لا فائدة لهم فيه، كَقَوْلِهِ: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} أي كائنة

لَا مَحَالَةَ وَوَاقِعَةٌ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا وَقْتَهَا عيناً، ولهذا أرشد تعالى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَوَابِهِمْ فَقَالَ: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} الآية، أَيْ لَا أَقُولُ إِلَّا مَا عَلَّمَنِي، وَلَا أَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ، إِلاَّ أَن يطلعني الله عَلَيْهِ، فَأَنَا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلَيْكُمْ، وَقَدْ أَخْبَرْتُكُمْ بِمَجِيءِ السَّاعَةِ وَأَنَّهَا كَائِنَةٌ وَلَمْ يُطْلِعْنِي عَلَى وَقْتِهَا، وَلَكِنْ {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أَيْ لِكُلِّ قَرْنٍ مُدَّةٌ مِنَ الْعُمُرِ مُقَدَّرَةٌ فَإِذَا انْقَضَى أجلهم {فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}، كقوله: {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَا} الآية، ثم أخبر أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ سَيَأْتِيهِمْ بَغْتَةً، فَقَالَ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً}؟ أَيْ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} يَعْنِي أَنَّهُمْ إِذَا جَاءَهُمُ الْعَذَابُ قَالُوا: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} الآية، {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا}، وقوله: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ هَذَا تَبْكِيتًا وتقريعاً كقوله: {اصلوها فاصبروا أولا تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تعملون}.

- 53 - وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ - 54 - وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَّا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى: وَيَسْتَخْبِرُونَكَ {أَحَقٌّ هُوَ} أي المعاد بَعْدَ صَيْرُورَةِ الْأَجْسَامِ تُرَابًا {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أَيْ لَيْسَ صَيْرُورَتُكُمْ تُرَابًا بِمُعْجِزِ اللَّهِ عَنْ إِعَادَتِكُمْ كَمَا بدأكم من العدم {فإنما أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كن فيكون}، وَهَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا آيَتَانِ أُخْرَيَانِ، يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِهِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْمَعَادَ فِي سُورَةِ سَبَأٍ، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}، وَفِي التَّغَابُنِ: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا علمتم وَذَلِكَ عَلَى الله يسير}، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ يَوَدُّ الْكَافِرُ لَوِ افْتَدَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أَيْ بِالْحَقِّ {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}.

- 55 - أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ - 56 - هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يخبر تعالى أنه مالك السموات وَالْأَرْضِ، وَأَنَّ وَعْدَهُ حَقٌّ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ مَرْجِعُهُمْ، وَأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ الْعَلِيمُ بِمَا تَفَرَّقَ مِنَ الْأَجْسَامِ وَتَمَزَّقَ فِي سَائِرِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَالْبِحَارِ وَالْقِفَارِ.

- 57 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ - 58 - قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا على خلقه بما أنزله مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ -[198]- مِّن رَّبِّكُمْ} أَيْ زَاجِرٌ عَنِ الْفَوَاحِشِ، {وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} أَيْ مِنَ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ وَهُوَ إِزَالَةُ مَا فِيهَا مِنْ رِجْسٍ وَدَنَسٍ، {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} أي يحصل به الْهِدَايَةُ وَالرَّحْمَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا ذَلِكَ للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه كقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا فيه شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً}. وقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ} الآية. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} أَيْ بِهَذَا الَّذِي جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ فَلْيَفْرَحُوا فَإِنَّهُ أَوْلَى مَا يَفْرَحُونَ بِهِ، {هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} أَيْ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ الفانية الذاهبة لا محالة.

- 59 - قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ - 60 - وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد: نزلت إنكاراً على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصايل، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نصيبا} الآيات، وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ حَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، أَوْ أَحَلَّ مَا حَرَّمَ بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ الَّتِي لَا مُسْتَنَدَ لَهَا وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ مَا ظَنُّهُمْ أَنْ يُصْنَعَ بِهِمْ يَوْمَ مَرْجِعِهِمْ إِلَيْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِي تَرْكِهِ معاجلتهم بالعقوبة في الدنيا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ {لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} فِيمَا أَبَاحَ لَهُمْ مِمَّا خَلَقَهُ مِنَ المنافع، وَلَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَا هُوَ ضَارٌّ لهم في ديناهم أَوْ دِينِهِمْ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} بَلْ يُحَرِّمُونَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَيُضَيِّقُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَجْعَلُونَ بَعْضًا حَلَالًا وَبَعْضًا حَرَامًا.

- 61 - وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ يُخْبِرُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ جَمِيعَ أَحْوَالِهِ وَأَحْوَالِ أُمَّتِهِ، وَجَمِيعَ الخلائق في كل ساعة وأوان وَلَحْظَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ وَبَصَرِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي حَقَارَتِهَا وَصِغَرِهَا فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا أَصْغَرَ مِنْهَا وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ، كَقَوْلِهِ: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مبين}، فَأَخْبَرَ تَعَالَى إِنَّهُ يَعْلَمُ حَرَكَةَ الْأَشْجَارِ وَغَيْرِهَا من الجمادات وكذلك الدواب السارحة، {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى الله رِزْقُهَا} الآية،

وَإِذَا كَانَ هَذَا عِلْمَهُ بِحَرَكَاتِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فكيف علمه بِحَرَكَاتِ الْمُكَلَّفِينَ الْمَأْمُورِينَ بِالْعِبَادَةِ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أَيْ إِذْ تَأْخُذُونَ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ نَحْنُ مُشَاهِدُونَ لَكُمْ رَاءُونَ سامعون، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عَنِ الْإِحْسَانُ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».

- 62 - أَلَا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ - 63 - الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ - 64 - لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ العظيم يخبر تعالى أن أولياءه {الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} كما فسرهم بهم، فكل من كان تقيا، كان الله ولياً ف {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أَيْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَهْوَالِ الآخرة، {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} عَلَى مَا وَرَاءَهُمْ فِي الدنيا. وقال عبد الله بن مسعود: أولياء الله الذين إذا رأوا ذكر الله (ورد هذا القول في حديث مرفوع رواه البزار عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رسول الله مِنْ أَوْلِيَآءَ الله؟ فذكره) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ عِبَادًا يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ»، قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَعَلَّنَا نُحِبُّهُمْ؟ قَالَ: «هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا فِي اللَّهِ مِن غَيْرِ أَمْوَالٍ وَلَا أَنْسَابٍ، وُجُوهُهُمْ نُورٌ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ» ثُمَّ قَرَأَ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة ورواه أبو داود قي سننه)، وقال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}، قَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يراها المسلم أو ترى له». وقال الإمام أحمد، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أرأيتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} فَقَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أحد من أمتي - أو قال أحد قبلك - تلك الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له»؛ وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: الرَّجُلُ يَعْمَلُ العمل ويحمده النَّاسُ عَلَيْهِ وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بشرى المؤمن» (رواه مسلم وأخرجه أحمد عن أبي ذر). وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يُبَشَّرُهَا الْمُؤْمِنُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النبوة» (أخرجه ابن جرير، وقد روي عن جمع من الصحابة والتابعين تفسير (البشرى) بالرؤيا الصالحة). وقال ابن جرير، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} - قال - فِي الدُّنْيَا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْعَبْدُ أَوْ ترى له وهي في الآخرة الجنة» (وروي موقوفاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ وَهِيَ من المبشرات)، وقال ابن جرير، عن أم كريز الْكَعْبِيَّةِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «ذهبت النبوة وبقيت المبشرات»؛ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ بُشْرَى الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِ عِنْدَ احتضاره بالجنة والمغفرة، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}، وفي حديث البراء رضي الله عنه: (إن المؤمن

إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ جَاءَهُ مَلَائِكَةٌ بِيضُ الْوُجُوهِ بِيضُ الثِّيَابِ، فَقَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَتَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ). وَأَمَّا بُشْرَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَكَمَا قَالَ تعالى: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تحتها الأنهار}، وَقَوْلُهُ: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} أَيْ هَذَا الْوَعْدُ لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُخْلَفُ وَلَا يُغَيَّرُ بَلْ هُوَ مُقَرَّرٌ مُثَبَّتٌ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

- 65 - وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - 66 - أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ - 67 - هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلاَ يَحْزُنكَ} قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَيْهِمْ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فَإِنَّ {الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً} أي جميعاً لَهُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيِ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ الْعَلِيمُ بِأَحْوَالِهِمْ؛ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ لَهُ مُلْكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَهِيَ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، لَا ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهَا، بَلْ إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ ظُنُونَهُمْ وَتَخَرُّصَهُمْ وَكَذِبَهُمْ وَإِفْكَهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ الَّذِي جَعَلَ لِعِبَادِهِ اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ، أَيْ يَسْتَرِيحُونَ فِيهِ مِنْ نَصَبِهِمْ وَكَلَالِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ، {وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} أَيْ مُضِيئًا لِمَعَاشِهِمْ وَسَعْيِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أَيْ يَسْمَعُونَ هَذِهِ الْحُجَجَ وَالْأَدِلَّةَ فَيَعْتَبِرُونَ بِهَا وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا وَمُقَدِّرِهَا وَمُسَيِّرِهَا.

- 68 - قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ - 69 - قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ - 70 - مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ يَقُولُ تَعَالَى منكراً على من ادعى أنه لَهُ {وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} أَيْ تَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، أَيْ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ مِمَّا خَلَقَ وَكُلُّ شَيْءٍ مَمْلُوكٌ لَهُ عَبْدٌ لَهُ {إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا} أَيْ لَيْسَ عِنْدَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى مَا تَقُولُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}؟ إِنْكَارٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ وتهديد شديد، كقوله تَعَالَى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تكاد السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن ولدً * وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً}، ثُمَّ تَوَعَّدَ تَعَالَى الْكَاذِبِينَ عَلَيْهِ الْمُفْتَرِينَ مِمَّنْ زعم أن لَهُ وَلَدًا، بِأَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ،

فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ إِذَا اسْتَدْرَجَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ مَتَّعَهُمْ قَلِيلًا {ثُمَّ يَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}، كما قال تعالى ههنا: {مَتَاعٌ فِي الدنيا} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ} أَيْ الْمُوجِعَ الْمُؤْلِمَ {بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ وَكَذِبِهِمْ عَلَى اللَّهِ فِيمَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْإِفْكِ وَالزُّورِ.

- 71 - وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يا قوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إليَّ وَلَا تُنْظِرُونِ - 72 - فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - 73 - فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} أَيْ أَخْبِرْهُمْ وَاقْصُصْ عَلَيْهِمْ، أَيْ عَلَى كُفَّارِ مَكَّةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَكَ وَيُخَالِفُونَكَ، {نَبَأَ نُوحٍ} أَيْ خَبَرَهُ مَعَ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ كَيْفَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ وَدَمَّرَهُمْ بِالْغَرَقِ أَجْمَعِينَ عَنْ آخِرِهِمْ لِيَحْذَرَ هَؤُلَاءِ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ، {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يا قوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ} أَيْ عَظُمَ عَلَيْكُمْ {مَّقَامِي} أَيْ فِيكُمْ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، {وَتَذْكِيرِي} إِيَّاكُمْ {بِآيَاتِ اللَّهِ} أَيْ بِحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ، {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} أَيْ فَإِنِّي لَا أُبَالِي وَلَا أَكُفُّ عَنْكُمْ سَوَاءٌ عَظُمَ عَلَيْكُمْ أَوْ لَا، {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} أَيْ فَاجْتَمِعُوا أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن صَنَمٍ وَوَثَنٍ، {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أَيْ ولا تجعلوا أمركم عليكم متلبساً، بَلِ افْصِلُوا حَالَكُمْ مَعِي، فَإِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ مُحِقُّونَ فَاقْضُوا إليَّ وَلَا تَنْظُرُونَ، أَيْ وَلَا تُؤَخِّرُونِي سَاعَةً وَاحِدَةً، أَيْ مَهْمَا قَدَرْتُمْ فَافْعَلُوا، فَإِنِّي لَا أُبَالِيكُمْ وَلَا أَخَافُ مِنْكُمْ لِأَنَّكُمْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، كَمَا قَالَ هُودٌ لقومه: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ} الآية. وقوله {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أَيْ كَذَّبْتُمْ وَأَدْبَرْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ} أَيْ لَمْ أَطْلُبْ منكم على نصيحتي إِيَّاكُمْ شَيْئًا، {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أَيْ وَأَنَا مُمْتَثِلٌ مَا أُمِرْتُ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، والإسلام هو دين الأنبياء جميعاً مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ وتعددت مناهلهم، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ} أَيْ عَلَى دِينِهِ {فِي الْفُلْكِ} وَهِيَ السَّفِينَةُ، {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ} أَيْ فِي الْأَرْضِ، {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} أَيْ فانظر يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ أَنْجَيْنَا الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلَكْنَا الْمُكَذِّبِينَ.

- 74 - ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فجاؤوهم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ

يَقُولُ تَعَالَى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِ نُوحٍ رُسُلاً إلى قومهم فجاؤوهم بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ بِالْحُجَجِ وَالْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى صِدْقِ ما جاؤوهم بِهِ، {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ}، أَيْ فَمَا كَانَتِ الْأُمَمُ لِتُؤْمِنَ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمْ أول ما أرسلوا إليهم، كقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} الآية، وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ} أَيْ كَمَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ هَؤُلَاءِ، فَمَا آمَنُوا بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ، هَكَذَا يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ مَنْ أَشْبَهَهُمْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَيَخْتِمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ؛ وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْلَكَ الْأُمَمَ المكذبة وَأَنْجَى مَنْ آمَنَ بِهِمْ وَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا مِن قَبْلِهِ مِنَ زَمَانِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْإِسْلَامِ، إِلَى أَنْ أَحْدَثَ النَّاسُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نوح} الآية، وَفِي هَذَا إِنْذَارٌ عَظِيمٌ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ كذبوا سيد الرُّسُلِ وَخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ أَصَابَ مَنْ كَذَّبَ بِتِلْكَ الرُّسُلِ مَا ذكره الله تعالى من العذاب وَالنَّكَالِ، فَمَاذَا ظَنَّ هَؤُلَاءِ وَقَدِ ارْتَكَبُوا أَكْبَرَ من أولئك؟

- 75 - ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فرعون وملإيه بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُواْ قَوْماً مُجْرِمِينَ - 76 - فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ - 77 - قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ - 78 - قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ يَقُولُ تَعَالَى: {ثُمَّ بَعَثْنَا} مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الرُّسُلِ {مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أَيْ قَوْمِهِ، {بِآيَاتِنَا} أَيْ حُجَجِنَا وَبَرَاهِينِنَا، {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} أَيْ اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ والانقياد له وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ، {فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ}، كَأَنَّهُمْ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ أَقْسَمُوا عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا قَالُوهُ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} الآية، {قَالَ} لَهُمْ {مُوسَى} مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ {أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} أَيْ تَثْنِينَا {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} أَيْ الدِّينُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، {وَتَكُونَ لَكُمَا} أَيْ لَكَ وَلِهَارُونَ {الْكِبْرِيَاءُ} أَيْ الْعَظَمَةُ وَالرِّيَاسَةُ {فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}. وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَعْجَبِ الْقِصَصِ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ حُذِّرَ مِنْ مُوسَى كُلَّ الْحَذَرِ، فَسَخَّرَهُ الْقَدَرُ: إِنَّ رُبّي على فراشه بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ ثُمَّ تَرَعْرَعَ وَعَقَدَ اللَّهُ لَهُ سَبَبًا أَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَرَزَقَهُ النُّبُوَّةَ والرسالة والتكليم، ولم تزل الآيات تَقُومُ عَلَى يَدَيْ مُوسَى شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَمَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، مِمَّا يُبْهِرُ الْعُقُولَ، وَيُدْهِشُ الألباب، {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} وصمم فرعون وملأه قَبَّحَهُمُ اللَّهُ عَلَى التَّكْذِيبِ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَالْجَحَدِ وَالْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ، حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، وَأَغْرَقَهُمْ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْمَعِينَ، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رب العالمين}.

- 79 - وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ - 80 - فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُلْقُونَ - 81 - فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ - 82 - وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذَكَرَ تَعَالَى قصة السحرة مع موسى عليه السلام، وما أراده فرعون من معارضة الحق المبين، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ}، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمُ لما اصْطُفُوا وَقَدْ وُعِدُوا مِنْ فِرْعَوْنَ بِالتَّقْرِيبِ وَالْعَطَاءِ الجزيل {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى}، فَأَرَادَ مُوسَى أَنْ تَكُونَ الْبَدَاءَةُ مِنْهُمْ لِيَرَى النَّاسُ مَا صَنَعُوا، ثُمَّ يَأْتِي بِالْحَقِّ بَعْدَهُ فَيَدْمَغُ بَاطِلَهُمْ، وَلِهَذَا لَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عظيم، {فَأَوْجَسَ في نفسه خفية مُوسَى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى}، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى لَمَّا أَلْقَوْا: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الحق بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كره المجرمون}.

- 83 - فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِّن فرعون وملإيهم أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَاتِ وَالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَاتِ، إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ مِنَ الذُّرِّيَّةِ، وَهُمُ الشَّبَابُ عَلَى وَجِلٍ وَخَوْفٍ مِنْهُ وَمِنْ مَلَئِهِ أَنْ يَرُدُّوهُمْ إِلَى مَا كَانُوا عليه من الكفر، لأن فرعون لعنه الله كَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا مُسْرِفًا فِي التَّمَرُّدِ وَالْعُتُوِّ، وكانت له سطوة ومهابة يخاف رعيته منه خوفاً شديداً. قال ابن عباس: الذرية التي آمنت لموسى من غير بني إسرائيل من قوم يَسِيرٌ «مِنْهُمْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وخازن فرعون، وامرأة خازنه»، وعنه: {فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} يقول: من بني إسرائيل، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} هُمْ أَوْلَادُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى مِنْ طُولِ الزَّمَانِ وَمَاتَ آبَاؤُهُمْ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ مُجَاهِدٍ فِي الذُّرِّيَّةِ أَنَّهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَا مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ لِعُودِ الضَّمِيرُ عَلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِينَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالذُّرِّيَّةِ الْأَحْدَاثَ وَالشَّبَابَ، وَأَنَّهُمْ مِنْ بَنِي إسرائيل، والمعروف أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّهُمْ آمَنُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السلام وَقَدْ كَانُوا يَعْرِفُونَ نَعْتَهُ وَصِفَتَهُ وَالْبِشَارَةَ بِهِ من كتبه الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُنْقِذُهُمْ بِهِ مِنْ أسر فرعون ويظهرهم عليه، وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى آذَاهُمْ فِرْعَوْنُ أَشَدَّ الْأَذَى، {قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُرَادُ إِلَّا ذُرِّيَّةً مِنْ قَوْمِ مُوسَى وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ {عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} أَيْ وَأَشْرَافِ قَوْمِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَفْتِنَ عَنِ الإيمان، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مُؤْمِنٌ قَوْلُهُ تَعَالَى:

- 84 - وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ - 85 - فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا

لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - 86 - وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ موسى أنه قال لبني إسرائيل: {يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ كافٍ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عبده}، {من يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فهو حسبه}، وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين العبادة والتوكل، كقوله تعالى: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}، وَقَدِ امْتَثَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ ذَلِكَ فَقَالُوا: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين} أي لا تظفرهم وَتُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا فَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا سُلِّطُوا لِأَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَنَحْنُ عَلَى الْبَاطِلِ فَيُفْتَنُوا بِذَلِكَ، هكذا روي عن أبي الضحى، وقال مجاهد: لاتعذبنا بأيدي آل فِرْعَوْنَ وَلَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ فَيَقُولُ قَوْمُ فِرْعَوْنَ: لَوْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ مَا عُذِّبُوا ولا سلطنا عليهم فيفتنوا بنا. وعن مجاهد: لاَّ تسلطهم علينا فيفتنونا، وقوله: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ} أَيْ خَلِّصْنَا بِرَحْمَةٍ مِنْكَ وَإِحْسَانٍ {مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أَيْ الَّذِينَ كَفَرُوا الْحَقَّ وَسَتَرُوهُ وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا بِكَ وَتَوَكَّلْنَا عَلَيْكَ.

- 87 - وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يَذْكُرُ تَعَالَى سَبَبَ إِنْجَائِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَكَيْفِيَّةِ خَلَاصِهِمْ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ مُوسَى وأخاه هارون عليهما السلام أن يتبوآ، أَيْ يَتَّخِذَا لِقَوْمِهِمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، فقال ابن عباس: امروا أن يتخذوها مساجد، وقال الثوري، عن إبراهيم: كَانُوا خَائِفِينَ فَأُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ، وأمروا بكثرة الصلاة كقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}، وَفِي الْحَدِيثِ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى) (أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ)، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}، أَيْ بِالثَّوَابِ وَالنَّصْرِ الْقَرِيبِ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قال، قالت بنو إسرائيل عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُظْهِرَ صَلَاتَنَا مَعَ الْفَرَاعِنَةِ، فَأَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ، وَأُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا بُيُوتَهُمْ قبل القبلة.

- 88 - وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ - 89 - قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا دَعَا بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، لَمَّا أَبَوْا قَبُولَ الْحَقِّ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ مُعَانِدِينَ جاحدين ظلماً وتكبراً وعتواً، قال مُوسَى: {رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً}

أَيْ مِنْ أَثَاثِ الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا، {وَأَمْوَالاً} أَيْ جَزِيلَةً كَثِيرَةً {فِي} هَذِهِ {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} أَيْ لِيَفْتَتِنَ بِمَا أَعْطَيْتَهُمْ مَنْ شِئْتَ مِنْ خلقك، وليظن من أغويته أنك إنما أعطيتهم هَذَا لِحُبِّكَ إِيَّاهُمْ وَاعْتِنَائِكَ بِهِمْ {رَبَّنَا اطْمِسْ على أَمْوَالِهِمْ}، قال ابن عباس: أي أهلكها، وقال الضحاك: اجعلها حِجَارَةً مَنْقُوشَةً كَهَيْئَةِ مَا كَانَتْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بلغنا أن زروعهم تحولت حِجَارَةٍ، وَقَوْلُهُ: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ اطْبَعْ عَلَيْهَا {فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ كَانَتْ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ غَضَبًا لِلَّهِ وَلِدِينِهِ عَلَى فرعون وملئه الذين تبين له أنهم لَا خَيْرَ فِيهِمْ وَلَا يَجِيءُ مِنْهُمْ شَيْءٌ، كَمَا دَعَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}، وَلِهَذَا اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِمْ هَذِهِ الدَّعْوَةَ الَّتِي أمَّن عَلَيْهَا أَخُوهُ هَارُونُ، فَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا}، قَالَ أبو العالية وعكرمة: دَعَا مُوسَى وَأَمَّنَ هَارُونُ، أَيْ قَدْ أَجَبْنَاكُمَا فيما سألتما من تدمير آل فرعون، {فاستقيما} أَيْ كَمَا أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا عَلَى أَمْرِي، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: فَاسْتَقِيمَا: فَامْضِيَا لِأَمْرِي وَهِيَ الِاسْتِقَامَةُ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَقُولُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ مَكَثَ بعد هذه الدعوة أربعين سنة، وقيل: أربعين يوماً.

- 90 - وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - 91 - آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ - 92 - فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ يَذْكُرُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ إغراقه فرعون وجنوده، فإن بين إسرائيل لما خرجوا من مصر وَهُمْ فِيمَا قِيلَ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ سِوَى الذرية، اشتد حَنَقُ فِرْعَوْنَ عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَجْمَعُونَ لَهُ جُنُودَهُ مِنْ أَقَالِيمِهِ، فَرَكَبَ وَرَاءَهُمْ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ وَجُيُوشٍ هَائِلَةٍ لِمَا يُرِيدُهُ الله تعالى بهم، فَلَحِقُوهُمْ وَقْتَ شُرُوقِ الشَّمْسِ، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لمدركون}، أي كيف المخلص مما نحن فيه؟ فقال: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ الْبَحْرُ، فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العظيم، وجاوزت بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ، فَلَمَّا خَرَجَ آخِرُهُمْ مِنْهُ، انْتَهَى فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ إِلَى حَافَّتِهِ مِنَ النَّاحِيَةِ الأخرى، وهو في مائة ألف، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ هَالَهُ، وَأَحْجَمَ وَهَابَ وهمَّ بالرجوع، وهيهات وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ، فَاقْتَحَمُوا كُلُّهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَمِيكَائِيلُ فِي سَاقَتِهِمْ، لا يترك منهم أحداً إِلَّا أَلْحَقَهُ بِهِمْ، فَلَمَّا اسْتَوْسَقُوا فِيهِ وَتَكَامَلُوا، وهمَّ أَوَّلُهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ أَمَرَ اللَّهُ الْقَدِيرُ الْبَحْرَ أَنْ يَرْتَطِمَ عَلَيْهِمْ، فَارْتَطَمَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَجَعَلَتِ الْأَمْوَاجُ تَرْفَعُهُمْ وَتَخْفِضُهُمْ، وَتَرَاكَمَتِ الْأَمْوَاجُ فَوْقَ فِرْعَوْنَ، وَغَشِيَتْهُ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: {آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، فَآمَنَ حَيْثُ لَا ينفعه الإيمان {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا}، ولهذا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَوَابِ فِرْعَوْنَ حِينَ قَالَ مَا قَالَ: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} أَيْ أَهَذَا الْوَقْتُ تَقُولُ، وَقَدْ عَصَيْتَ اللَّهَ قبل هذا قيما بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؟ {وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} أَيْ فِي الأرض، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ}، وَهَذَا الَّذِي حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ من قوله هذا في حاله، ذلك مِنْ أَسْرَارِ الْغَيْبِ الَّتِي أَعْلَمَ

الله بها رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أحمد بن حنبل، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ - قَالَ، قَالَ لِي جِبْرِيلُ: لو رأيتني وقد أخذت من حال (حال البحر: طينه الأسود) الْبَحْرِ فَدَسَسْتُهُ فِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ الرحمة" (ورواه الترمذي وابن أبي حاتم وقال الترمذي: حديث حسن). وقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: إنَّ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ شَكُّوا فِي مَوْتِ فِرْعَوْنَ، فأمر الله البحر أن يلقيه بجسده سوياً بلا روح، ليتحققوا من مَوْتَهُ وَهَلَاكَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ} أَيْ نَرْفَعُكَ عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ {بِبَدَنِكَ}، قَالَ مُجَاهِدٌ: بِجَسَدِكَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: بِجِسْمٍ لَا روح فيه، وَقَوْلُهُ: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} أَيْ لِتَكُونَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ دَلِيلًا عَلَى مَوْتِكَ وَهَلَاكِكَ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ بيده، وأنه لا يقوم لغضبه شيء، {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} أي لا يتعظون بها ولا يعتبرون بها، وقد كان إهلاكهم يوم عاشوراء كما قال ابن عباس: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ واليهود تصوم يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تصومونه؟» فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «وأنتم أحق بموسى منهم فصوموه» (رواه البخاري عن ابن عباس).

- 93 - وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أَنْعَمُ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ والدنيوية، وقوله: {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} قِيلَ: هُوَ بِلَادُ مِصْرَ وَالشَّامِ مما يلي بين الْمَقْدِسِ وَنَوَاحِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ، اسْتَقَرَّتْ يَدُ الدَّوْلَةِ الْمُوسَوِيَّةِ عَلَى بلاد مصر بكمالها، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}، وقال في الآية الأخرى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إسرائيل}، وقال: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جنات وعيون} الآيات، وَلَكِنْ اسْتَمَرُّوا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ طَالِبِينَ إِلَى بِلَادِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهِيَ بِلَادُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاسْتَمَرَّ مُوسَى بِمَنْ مَعَهُ طَالِبًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ فِيهِ قَوْمٌ مِنَ الْعَمَالِقَةِ، فنكل بنو إسرائيل عن قتالهم، فَشَرَّدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي التِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمَاتَ فِيهِ هَارُونُ، ثُمَّ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَخَرَجُوا بَعْدَهُمَا مَعَ (يُوشَعَ بْنِ نُونٍ) فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَاسْتَقَرَّتْ أَيْدِيهِمْ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ أَخْذَهَا مِنْهُمْ بُخْتُنَصَّرُ حِينًا مِنَ الدهر، ثم انتزعها الصحابة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ من يد النصارى، وكان فتح بيت المقدس عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وَقَوْلُهُ: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} أَيْ الْحَلَالِ مِنَ الرِّزْقِ الطَّيِّبِ النَّافِعِ الْمُسْتَطَابِ طَبْعًا وَشَرْعًا، وَقَوْلُهُ: {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} أَيْ مَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَسَائِلِ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ، أَيْ وَلَمْ يَكُنْ لهم أن يختلفوا، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الْيَهُودَ اخْتَلَفُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَأَنَّ النَّصَارَى اخْتَلَفُوا عَلَى

اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، مِنْهَا وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ. قِيلَ مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وأصحابي»، (رواه الحاكم بِهَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ فِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ)، وَلِهَذَا قال تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} أَيْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ {يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.

- 94 - فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يقرؤون الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ - 95 - وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ - 96 - إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ - 97 - وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ العذاب الأليم قَالَ قتادة بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لا أشك ولا أسأل»، وهذا تَثْبِيتٌ لِلْأُمَّةِ وَإِعْلَامٌ لَهُمْ أَنَّ صِفَةَ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْجُودَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} الْآيَةَ، ثم مع هذا العلم الذي يَعْرِفُونَهُ مِنْ كُتُبِهِمْ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، يَلْبَسُونَ ذَلِكَ وَيُحَرِّفُونَهُ وَيُبَدِّلُونَهُ، وَلَا يُؤَمِّنُونَ بِهِ مَعَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ إِيمَانًا يَنْفَعُهُمْ، بَلْ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، وَلِهَذَا لَمَّا دعا موسى على فرعون وملئه قال: {فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم}.

- 98 - فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ يَقُولُ تَعَالَى: فَهَلَّا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ بِكَمَالِهَا من الأمم السالفة بَلْ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَذَّبَهُ قَوْمُهُ أَوْ أَكْثَرُهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يِا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يأيتهم من رسول إلا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، وقوله: {كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مجنون}. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «عُرِضَ عليَّ الْأَنْبِيَاءُ فَجَعَلَ النبي يمر ومعه الفئام من الناس، والبني يمر مَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ» ثُمَّ ذَكَرَ كَثْرَةَ أَتْبَاعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ ذَكَرَ كَثْرَةَ أُمَّتِهِ صَلَوَاتُ الله وسلامه عليه كثرةً سدَّت الخافقين، وَالْغَرَضُ أَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ بِكَمَالِهَا بِنَبِيِّهِمْ مِمَّنْ سَلَفَ مِنَ الْقُرَى إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ، وَهُمْ (أَهْلُ نِينَوَى) وَمَا كَانَ إِيمَانُهُمْ إلا تخوفاً مِنْ وُصُولِ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ رَسُولُهُمْ، بَعْدَ مَا عَايَنُوا أَسْبَابَهُ، وَخَرَجَ رَسُولُهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ فَعِنْدَهَا جَأَرُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَغَاثُوا به وتضرعوا له، وَاسْتَكَانُوا، وَأَحْضَرُوا أَطْفَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ، وَسَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ؛ فَعِنْدَهَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَكَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَأُخِّرُوا: كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}. وقال قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ

هَذِهِ الْآيَةِ: لَمْ يَنْفَعْ قَرْيَةً كَفَرَتْ ثُمَّ آمنت حين حضرها العذاب، إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا فَقَدُوا نَبِيَّهُمْ، وَظَنُّوا أَنَّ الْعَذَابَ قَدْ دَنَا مِنْهُمْ قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ التَّوْبَةَ، وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ بَهِيمَةٍ وَوَلَدِهَا، ثُمَّ عَجُّوا إِلَى اللَّهِ أربعين ليلة، فلما عرف الله الصِّدْقَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَالتَّوْبَةَ وَالنَّدَامَةَ عَلَى مَا مضى منهم كشف عنهم العذاب.

- 99 - وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ - 100 - وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ} يَا محمد لأذن أهل الأرض كلهم في الإيمان، ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى، كقوله تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}، وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا إِن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جميعاً}، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} أَيْ تُلْزِمُهُمْ وَتُلْجِئُهُمْ، {حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أَيْ لَيْسَ ذلك عليك ولا إليك {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يشاء}، {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي من أحببت}، {فإنا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب}، {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، الْهَادِي مَنْ يَشَاءُ الْمُضِلُّ لِمَنْ يَشَاءُ، لِعِلْمِهِ وحكمته وعدله، ولهذا قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ} وَهُوَ الْخَبَالُ وَالضَّلَالُ {عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} أَيْ حُجَجَ اللَّهِ وَأَدِلَّتَهُ، وَهُوَ الْعَادِلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ فِي هِدَايَةِ مَنْ هَدَى وَإِضْلَالِ مَنْ ضَلَّ.

- 101 - قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ - 102 - فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ - 103 - ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ يُرْشِدُ تَعَالَى عِبَادَهُ إلى التفكر في آلائه، وما خلق الله فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ لِذَوِي الألباب، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْهَا مِنْ مَطَرٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَأَخْرَجَ فِيهَا مِنْ أَفَانِينِ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَالْأَزَاهِيرِ وَصُنُوفِ النَّبَاتِ، وَمَا ذَرَأَ فِيهَا مِنْ دَوَابٍّ مُخْتَلِفَةِ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ وَالْمَنَافِعِ، وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَسُهُولٍ وَقِفَارٍ وَعِمْرَانٍ وَخَرَابٍ، وَمَا فِي الْبَحْرِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْأَمْوَاجِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا مُسَخَّرٌ مُذَلَّلٌ لِلسَّالِكِينَ، بتسخير القدير لا إله إلا هو رب العالمين، وَقَوْلُهُ: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: وأي شيء تغني الْآيَاتُ السَّمَاوِيَّةُ وَالْأَرْضِيَّةُ، وَالرُّسُلُ بِآيَاتِهَا وَحُجَجِهَا وَبَرَاهِينِهَا الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهَا، عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} الآية، وَقَوْلُهُ: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ}، أَيْ فَهَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ النِّقْمَةِ وَالْعَذَابِ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قبلهم من الأمم الماضية الْمُكَذِّبَةِ لِرُسُلِهِمْ، {قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ}، أَيْ وَنُهْلِكُ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ، {كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين} حقاً أوجبه الله تعالى على نفسه الكريمة، كقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نفسه

الرحمة}، وكما جاء في الصحيحين: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي».

- 104 - قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - 105 - وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - 106 - وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ - 107 - وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شك} من صحة ما جئتكم به مِنَ الدِّينِ الْحَنِيفِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إليَّ، فأنا لَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم كَمَا أَحْيَاكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ، فَإِنْ كَانَتْ آلِهَتُكُمُ الَّتِي تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَقًّا فَأَنَا لَا أَعْبُدُهَا، فَادْعُوهَا فَلْتَضُرَّنِي فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَإِنَّمَا الَّذِي بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلُهُ: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً}، أَيْ أَخْلِصِ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ حَنِيفًا أَيْ مُنْحَرِفًا عَنِ الشِّرْكِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وَقَوْلُهُ: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ} الآية، فيه بَيَانٌ لِأَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالنَّفْعَ وَالضُّرَّ إِنَّمَا هو راجع إلى الله تعالى وحده، روى الحافظ بن عساكر، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اطْلُبُوا الْخَيْرَ دهركم كله، وتعرضوا لنفحات ربكم، فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحِمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَاسْأَلُوهُ أَنْ يَسْتُرَ عوراتكم ويؤمن روعاتكم» وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أَيْ لِمَنْ تَابَ إليه وَلَوْ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ حَتَّى مِنَ الشِّرْكِ بِهِ فَإِنَّهُ يَتُوبُ عَلَيْهِ.

- 108 - قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ - 109 - وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ، أَنَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مرية فيه، فمن اهتدى به واتبعه فإنما يعود نفعه عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ عَنْهُ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}، أَيْ وَمَا أَنَا مُوَكَّلٌ بِكُمْ حَتَّى تَكُونُوا مؤمنين وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ لَكُمْ، وَالْهِدَايَةُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ} أَيْ تَمَسَّكَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَأَوْحَاهُ إليك، وَاصْبِرْ عَلَى مُخَالَفَةِ مَنْ خَالَفَكَ مِنَ النَّاسِ {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} أَيْ يَفْتَحَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أَيْ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ بِعَدْلِهِ وحكمته.

11 - سورة هود

- 11 - سورة هود

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ - 2 - أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ - 3 - وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ - 4 - إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعادته هنا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} أَيْ هِيَ مُحْكَمَةٌ فِي لَفْظِهَا، مُفَصَّلَةٌ في معناها فالقرآن كَامِلٌ صُورَةً وَمَعْنًى، هَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَوْلُهُ: {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} أَيْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْحَكِيمِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، الْخَبِيرِ بِعَوَاقِبِ الأمور {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} أي أنزل هَذَا الْقُرْآنَ الْمُحْكَمَ الْمُفَصِّلَ لِعِبَادَةِ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له، وَقَوْلُهُ: {إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} أَيْ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مِنَ الْعَذَابِ إِنْ خَالَفْتُمُوهُ، وَبَشِيرٌ بِالثَّوَابِ إِنْ أَطَعْتُمُوهُ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ الصَّفَا، فَدَعَا بُطُونَ قُرَيْشٍ الْأَقْرَبَ ثُمَّ الْأَقْرَبَ، فَاجْتَمَعُوا، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تُصَبِّحُكُمْ أَلَسْتُمْ مُصَدِّقِيَ؟» فَقَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ»، وَقَوْلُهُ: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أَيْ وَآمُرُكُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الذُّنُوبِ السَّالِفَةِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ فِيمَا تَسْتَقْبِلُونَهُ، وَأَنْ تَسْتَمِرُّوا عَلَى ذَلِكَ: {يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً} أَيْ فِي الدُّنْيَا، {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلِهِ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، كَقَوْلِهِ: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طيبة} الآية، وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِسَعْدٍ: «وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك»، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}، قَالَ: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ، وَمَنْ عَمِلَ حَسَنَةً كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، فَإِنْ عُوقِبَ بِالسَّيِّئَةِ الَّتِي كَانَ عَمِلَهَا فِي الدُّنْيَا، بَقِيَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ لَمْ

يُعَاقَبْ بِهَا فِي الدُّنْيَا أُخِذَ مِنَ الْحَسَنَاتِ الْعَشْرِ وَاحِدَةٌ وَبَقِيَتْ لَهُ تِسْعُ حَسَنَاتٍ، ثُمَّ يقول: هلك من غلب آحاده على أعشاره (أخرجه ابن جرير الطبري). وَقَوْلُهُ: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}، هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ تَوَلَّى عَنْ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، وكذَّب رُسُلَهُ فَإِنَّ العذاب يناله يوم القيامة لَا مَحَالَةَ {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} أَيْ مَعَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أَيْ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَى أَوْلِيَائِهِ وَانْتِقَامِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَإِعَادَةِ الخلائق يوم القيامة، وهذا مقام ترهيب كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ مَقَامُ تَرْغِيبٍ.

- 5 - أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا السَّمَاءَ بِفُرُوجِهِمْ وحال وقاعهم، فأنزل الله هذه الآية، وفي لفظ آخر له: أناس كان يستحون أَنْ يَتَخَلَّوْا، فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنْ يُجَامِعُوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل بعد ذلك فيهم (أخرجه البخاري عن ابن عباس)، قال البخاري: {يَسْتَغْشُونَ} يغطون رؤوسهم، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ،: يَعْنِي بِهِ الشَّكَّ فِي الله وعمل السيئات، أَيْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ إِذَا قَالُوا شيئاً أو عملوه، فيظنون أنهم يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله بذلك، فأخبرهم اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ عِنْدَ مَنَامِهِمْ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} مِنَ الْقَوْلِ، {وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ مِنَ النِّيَّاتِ وَالضَّمَائِرِ وَالسَّرَائِرِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ (زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى) فِي مُعَلَّقَتِهِ الْمَشْهُورَةِ: فلا تكتمن الله مَا فِي قلوبكم * ليخفى ومهما يكتم الله يعلم وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثنى عنه صَدْرَهُ وَغَطَّى رَأْسَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَعَوْدُ الضمير إلى اللَّهِ أُولَى، لِقَوْلِهِ: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}.

- 6 - وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مُتَكَفِّلٌ بِأَرْزَاقِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ سَائِرِ دَوَابِّ الْأَرْضِ، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا وأنه يعلم مستقرها، أَيْ يَعْلَمُ أَيْنَ مُنْتَهَى سَيْرِهَا فِي الْأَرْضِ وَأَيْنَ تَأْوِي إِلَيْهِ مِنْ وَكْرِهَا وَهُوَ مُسْتَوْدَعُهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أَيْ حَيْثُ تَأْوِي {وَمُسْتَوْدَعَهَا} حَيْثُ تَمُوتُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: {مُسْتَقَرَّهَا} في الرحم {وَمُسْتَوْدَعَهَا} في الصلب، فجميع ذلك مكتوب في كتاب عند الله كقوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}، وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مبين}.

- 7 - وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ - 8 - وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قدرته على كل شيء وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَإِنَّ عَرْشَهُ كَانَ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا روى الإمام أحمد، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ»، قَالُوا قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، قَالَ: «اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ»، قَالُوا قَدْ قَبِلْنَا، فَأَخْبِرْنَا عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ كَيْفَ كَانَ؟ قَالَ: «كَانَ اللَّهُ قَبْلَ كُلِّ شيء، وكان عرشه تحت الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ذِكْرَ كُلِّ شَيْءٍ»، قَالَ، فَأَتَانِي آتٍ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ انْحَلَّتْ نَاقَتُكَ مِنْ عِقَالِهَا، قَالَ فَخَرَجْتُ فِي إثرها، فلا أدري ما كان بعدي (قال ابن كثير: وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ بألفاظ كثيرة، فمنها قالوا: جئنا نَسْأَلُكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ، فَقَالَ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ غيره، وفي رواية منه كان عرشه على المآء)، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قدَّر مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء»، قال مُجَاهِدٌ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} قَبْلَ أَنْ يخلق شيئاً، وقال قتادة: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} يُنْبِئُكُمْ كَيْفَ كَانَ بدء خلقه قبل أن يخلق السماوات والأرض، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْعَرْشُ عَرْشًا لارتفاعه، وعن سعيد بن جبير: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَاءُ؟ قَالَ: عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِّيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي خلق السماوات والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ولم يخلق ذلك عبثاً، كَقَوْلِهِ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً}، وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}، وَقَوْلُهُ: {لِيَبْلُوَكُمْ} أَيْ لِيَخْتَبِرَكُمْ {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وَلَمْ يَقِلْ أَكْثَرُ عَمَلًا، بَلْ {أَحْسَنُ عَمَلًا}، وَلَا يَكُونُ الْعَمَلُ حَسَنًا حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ عزَّ وَجَلَّ، عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَتَى فَقَدَ الْعَمَلُ واحداً من هذين الشرطين حبط وبطل، وَقَوْلُهُ: {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت} الآية، يَقُولُ تَعَالَى وَلَئِنْ أَخْبَرَتْ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ اللَّهَ سَيَبْعَثُهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ كَمَا بَدَأَهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الذي خلق السماوات والأرض، وَهُمْ مَعَ هَذَا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالْمَعَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الَّذِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُدْرَةِ أَهْوَنُ مِنَ الْبَدَاءَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، وَقَوْلُهُمْ: {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أَيْ يَقُولُونَ كُفْرًا وَعِنَادًا مَا نُصَدِّقُكَ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ، وَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ سَحَرْتَهُ فَهُوَ يَتَّبِعُكَ عَلَى مَا تَقُولُ، وَقَوْلُهُ: {وَلَئِنْ أخرنا عنهم العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} الآية، يقول تعالى: ولئن أخرنا عنهم العذاب والمؤخذاة إلى أجل معدود وأمد محصور، وأوعدناهم إِلَى مُدَّةٍ مَضْرُوبَةٍ لِيَقُولُنَّ

تَكْذِيبًا وَاسْتِعْجَالًا {مَا يَحْبِسُهُ} أَيْ يُؤَخِّرُ هَذَا الْعَذَابَ عَنَّا، فَإِنَّ سَجَايَاهُمْ قَدْ أَلِفَتِ التَّكْذِيبَ وَالشَّكَّ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَحِيصٌ عَنْهُ وَلَا محيد؛ والأمة تستعمل القرآن فِي مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَيُرَادُ بِهَا الْأَمَدُ كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ}، وَقَوْلِهِ في يوسف: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ}، وَتُسْتَعْمَلُ فِي الْإِمَامِ الْمُقْتَدَى بِهِ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}، وتستعمل في الملة والدين كقول المشركين: {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أمة}، وتستعمل في الْجَمَاعَةُ كَقَوْلِهِ: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}، وتستعمل فِي الْفِرْقَةِ وَالطَّائِفَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يعدلون}.

- 9 - وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ ليؤوس كَفُورٌ - 10 - وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ - 11 - إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ وَمَا فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، إِلَّا مَنْ رحم الله، أنه إِذَا أَصَابَتْهُ شِدَّةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ حَصَلَ لَهُ يأس وقنوط بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَكُفْرٌ وَجُحُودٌ لِمَاضِي الْحَالِ، كَأَنَّهُ لَمْ يَرَ خَيْرًا وَلَمْ يَرْجُ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَجًا، وَهَكَذَا إِنْ أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ بَعْدَ نِقْمَةٍ {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} أَيْ يَقُولُ ما يَنَالُنِي بَعْدَ هَذَا ضَيْمٌ وَلَا سُوءٌ، {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} أَيْ فَرِحٌ بِمَا فِي يَدِهِ بَطِرٌ فَخُورٌ عَلَى غَيْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} أي على الشَّدَائِدِ وَالْمَكَارِهِ، {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أَيْ فِي الرَّخَاءِ وَالْعَافِيَةِ، {أُولَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ} أَيْ بِمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الضَّرَّاءِ {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} بِمَا أَسْلَفُوهُ فِي زَمَنِ الرَّخَاءِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ هَمٌّ وَلَا غَمٌّ وَلَا نَصَبٌ وَلَا وَصَبٌ وَلَا حَزَنٌ حتى الشوكة يشاكها إلا غفر اللَّهُ عَنْهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ»، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأحد غير المؤمن».

- 12 - فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ - 13 - أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 14 - فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يَقُولُ تعالى مسليا لرسوله صلى الله عليه وسلم عَمَّا كَانَ يَتَعَنَّتُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ عَنِ الرَّسُولِ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ في قوله: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَسْحُورًا}، فأمر اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وأرشده إلى أن لا يضيق بذلك منهم صدره، ولا يصدنه ذلك ولا يثنيه عَنْ دُعَائِهِمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ آنَاءَ الليل

وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} الآية، وقال ههنا: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ} أَيْ لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَلَكَ أُسْوَةٌ بِإِخْوَانِكَ مِنَ الرُّسُلِ قَبْلَكَ فَإِنَّهُمْ كُذّبوا وَأُوذُوا فَصَبَرُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ بَيَّنَ تعالى إعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله ولا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ، وَلَا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، لِأَنَّ كَلَامَ الرب تعالى لا يشبه كَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ كَمَا أَنَّ صِفَاتِهِ لَا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ، وَذَاتَهُ لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ، تَعَالَى وتقدس وتنزه، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} أي فإن لم يأتوا بما دَعَوْتُمُوهُمْ إِلَيْهِ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُتَضَمِّنٌ عِلْمَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ {وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ}.

- 15 - مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ - 16 - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قال ابن عباس: إِنَّ أَهْلَ الرِّيَاءِ يُعْطَوْنَ بِحَسَنَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا، يَقُولُ: مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً الْتِمَاسَ الدُّنْيَا صَوْمًا أَوْ صَلَاةً لا يعمله إلا التماس الدنيا، أُوَفِّيهِ الَّذِي الْتَمَسَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَثَابَةِ وحبط عمله الذي كان يعمله وهو في الآخرة من الخاسرين، وقال أنَس وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الرِّيَاءِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مَنْ كانت الدنيا همه ونيته وطلبته، جَازَاهُ اللَّهُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُفْضِي إِلَى الْآخِرَةِ وَلَيْسَ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا جَزَاءً؛ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُجَازَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا ويثاب عليها في الآخرة، كما قال تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً}، وقال تعالى: {مَن كان يرد حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ في الآخرة من نصيب}.

- 17 - أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى فِطْرَةِ اللَّهِ تعالى، التي فطر عليها عباده، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لدين حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآية. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يمجسانه) الحديث. وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ، فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، فَاجْتَالَتْهُمْ على دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتَ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ. وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سلطاناً). فَالْمُؤْمِنُ بَاقٍ عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ، وَقَوْلُهُ: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} أَيْ وَجَاءَهُ شَاهِدٌ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ مَا أَوْحَاهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُطَهَّرَةِ الْمُكَمَّلَةِ الْمُعَظَّمَةِ، الْمُخْتَتَمَةِ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَلِهَذَا

قال ابن عباس ومجاهد: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} إِنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُلَاهُمَا قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ كُلًّا مِنْ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهما بلغ رسالة الله تعالى، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} وَهُوَ الْقُرْآنُ بلّغه جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبلّغه النبي إِلَى أُمَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} أي ومن قبل الْقُرْآنِ كِتَابُ مُوسَى وَهُوَ التَّوْرَاةُ {إِمَاماً وَرَحْمَةً} أي أنزله اللَّهُ تَعَالَى إِلَى تِلْكَ الْأُمَّةِ إِمَامًا لَهُمْ، وَقُدْوَةً يَقْتَدُونَ بِهَا وَرَحْمَةً مِنَ اللَّهِ بِهِمْ، فمن آمن به حَقَّ الْإِيمَانِ قَادَهُ ذَلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}، ثُمَّ قال مُتَوَعِّدًا لِمَنْ كَذَّبَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ، {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} أَيْ وَمَنْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الأرض، مشركهم وكافرهم وأهل الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ طَوَائِفَ بَنِي آدَمَ مِمَّنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ}، {فالنار مَوْعِدُهُ} كما ورد في الصَّحِيحِ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا دَخَلَ النار) (أخرجه مسلم عن أبي موسى الأشعري)، وقال سعيد بن جبير: كنت لا أسمع بحديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا وجدت تصديقه في القرآن، فبلغني أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ فَلَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا دَخَلَ النَّارَ»، فَجَعَلْتُ أَقُولُ أَيْنَ مِصْدَاقُهُ فِي كتاب الله؟ حَتَّى وَجَدْتُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمِنَ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}، قَالَ: مِنَ الْمِلَلِ كلها، وقوله: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} الآية، أَيِ الْقُرْآنُ حَقٌّ مِنَ اللَّهِ لَا مِرْيَةَ ولا شك فيه، كما قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ العالمين}، وَقَالَ تَعَالَى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ}، وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، وَقَوْلِهِ: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله}.

- 18 - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ - 19 - الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ - 20 - أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ - 21 - أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ - 22 - لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ يُبَيِّنُ تَعَالَى حَالَ الْمُفْتَرِينَ عَلَيْهِ وَفَضِيحَتَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى رؤوس الخلائق، كما ورد عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، وَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ:

{الْأَشْهَادِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} " (أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وأحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما) الآية. وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي يردون عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَسُلُوكِ طَرِيقِ الْهُدَى الْمُوَصِّلَةِ إلى الله عزَّ وجلَّ، {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أَيْ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُهُمْ {عِوَجاً} غَيْرَ مُعْتَدِلَةٍ، {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} أي جاحدون بها مكذبون بوقوعها، {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ} أَيْ بَلْ كَانُوا تَحْتَ قَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ، وَفِي قَبْضَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، ولكنْ {يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار}، وفي الصحيحين: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب}، الآية، أي يضاعف عليهم العذاب، وذلك أن اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً، فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ، بَلْ كَانُوا صُمًّا عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، عُمْيًا عَنِ اتِّبَاعِهِ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ حِينَ دُخُولِهِمُ النَّارَ {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير}. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي خسروا أنفسهم لأنهم أدخلوا نَارًا حَامِيَةً، فَهُمْ مُعَذَّبُونَ فِيهَا لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}، {وَضَلَّ عَنْهُمْ} أَيْ ذَهَبَ عَنْهُمْ، {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}، مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَصْنَامِ فَلَمْ تُجْدِ عَنْهُمْ شَيْئًا بَلْ ضَرَّتْهُمْ كُلَّ الضَّرَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}، وقال تعالى: {سيكفرون بعبادتهم ويكون عليهم ضدا}، وقال الخليل لقومه: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يكفر بعضكم لبعض وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى خُسْرِهِمْ وَدَمَارِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}، يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مآلهم بأنهم أخسر الناس في الآخرة، لأنهم اعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن، وَعَنِ الْحُورِ الْعَيْنِ بِطَعَامٍ مِنْ غِسْلِينٍ، وَعَنِ القصور العالية بالهاوية، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ.

- 23 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - 24 - مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلَا تَذَكَّرُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ، ثَّنى بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ آمنوا وعملوا الصالحات، وَبِهَذَا وَرِثُوا الْجَنَّاتِ، الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْغُرَفِ الْعَالِيَاتِ، والقطوف الدانيات، والحسان الخيرات، والفواكه المتنوعات، والنظر إلى خالق الأرض والسماوات، وَهُمْ فِي ذَلِكَ خَالِدُونَ لَا يَمُوتُونَ وَلَا يهرمون ولا يمرضون وَلَا يَبْصُقُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ، إِنْ هُوَ إِلاَّ رشح مسك يعرقون؛ ثم ضرب تَعَالَى مَثَلَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} أي الذين وصفهم أولاً بالشقاء، والمؤمنين بالسعادة، فَأُولَئِكَ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ، وَهَؤُلَاءِ كَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، فَالْكَافِرُ أعمى لَا يَهْتَدِي إِلَى خَيْرٍ وَلَا يَعْرِفُهُ، أَصَمُّ عَنْ سَمَاعِ الْحُجَجِ فَلَا يَسْمَعُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ}، وأما المؤمن

ففطن ذكي، بَصِيرٌ بِالْحَقِّ يُمَيِّزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَاطِلِ، فَيَتَّبِعُ الخير ويترك الشر، سميع للحجة فَلَا يَرُوجُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ، فَهَلْ يَسْتَوِي هَذَا وهذا؟ {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أفلا تعتبرون فتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الجنة هُمْ الفائزون}، وكقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء ولا الأموات}.

- 25 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - 26 - أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ - 27 - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَبَدَةَ الْأَصْنَامِ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أَيْ ظَاهِرُ النَّذَارَةِ لَكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ أَنْتُمْ عَبَدْتُمْ غَيْرَ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلَّا اللَّهَ}، وَقَوْلُهُ: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أَيْ إِنِ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى مَا أنتم عليه عذبكم الله عذاباً أليماً، {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ}، وَالْمَلَأُ هُمَ (السَّادَةُ وَالْكُبَرَاءُ) مِنَ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا}، أَيْ لَسْتَ بِمَلَكٍ وَلَكِنَّكَ بَشَرٌ، فَكَيْفَ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ دُونِنَا؟ ثم ما نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا كَالْبَاعَةِ وَالْحَاكَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ وَلَمْ يَتْبَعْكَ الْأَشْرَافُ وَلَا الرُّؤَسَاءُ مِنَّا، ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ لم يكن عن فكر وَلَا نَظَرٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ مَا دَعَوْتَهُمْ أَجَابُوكَ، ولهذا قالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي} أي في أول بادئ {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ}، يَقُولُونَ: ما رأينا لكم علينا فضلية في خَلْق ولا خُلُق لَمَّا دَخَلْتُمْ فِي دِينِكُمْ هَذَا، {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} أَيْ فِيمَا تَدَّعُونَهُ لَكُمْ مِنَ الْبِرِّ والصلاح والعبادة والسعادة. هَذَا اعْتِرَاضُ الْكَافِرِينَ عَلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وأتباعه، وهو دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَارٍ عَلَى الْحَقِّ رَذَالَةُ مَنِ اتَّبَعَهُ، سواء اتَّبَعَهُ الْأَشْرَافُ أَوِ الْأَرَاذِلُ، بَلِ الْحَقُّ الَّذِي لا شك فيه أن أتباع الحق وهم الْأَشْرَافُ وَلَوْ كَانُوا فَقُرَّاءَ، وَالَّذِينَ يَأْبَوْنَهُ هُمُ الأراذل ولو كانوا أغنياء. والغالب على الأشراف والكبراء مخالفة الحق، كما قال تعالى: {قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مقتدون}، وَلَمَّا سَأَلَ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ أَبَا سُفْيَانَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَوْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قَالَ: بَلْ ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل (أخرجه البخاري وهو جزء من حديث طويل)، وَقَوْلُهُمْ بَادِيَ الرَّأْيِ لَيْسَ بِمَذَمَّةٍ وَلَا عَيْبٍ، لأن الحق إذا وضح لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، وَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ إِنَّمَا جاءوا بأمر جلي واضح، وفي الحديث: «مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ كَبْوَةٌ غَيْرَ (أَبِي بَكْرٍ)، فَإِنَّهُ لَمْ يتلعثم» (أخرجه الشيخان في فضائل أبي بكر) أَيْ مَا تَرَدَّدَ وَلَا تَرَوَّى، لِأَنَّهُ رَأَى أمراً عظيماً واضحاً فبادر إليه وسارع، وقوله: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ}، هَمْ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عميٌ عَنِ الْحَقِّ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ، بَلْ هُمْ فِي ريبهم يترددون، وفي الآخرة هم الأخسرون.

- 28 - قال يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا -[218]- وأنتم لها كارهون يقول تعالى مخبراً عما رد به نوح عَلَى قَوْمِهِ فِي ذَلِكَ: {أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} أَيْ عَلَى يَقِينٍ وَأَمْرٍ جَلِيٍّ وَنُبُوَّةٍ صَادِقَةٍ وَهِيَ الرَّحْمَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ اللَّهِ بِهِ وَبِهِمْ، {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أَيْ خَفِيَتْ عَلَيْكُمْ فَلَمْ تَهْتَدُوا إِلَيْهَا وَلَا عَرَفْتُمْ قَدْرَهَا بَلْ بَادَرْتُمْ إِلَى تَكْذِيبِهَا وَرَدِّهَا {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أَيْ نَغْصِبُكُمْ بِقَبُولِهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ.

- 29 - وَيَا قَوْمِ لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ - 30 - وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تذكرون يقول لقومه: ولا أسألكم على نصحي {مَالاً} أُجْرَةً آخُذُهَا مِنْكُمْ، إِنَّمَا أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا} طلبوا منه أن يطرد المؤمنين احتشاماً أَنْ يَجْلِسُوا مَعَهُمْ، كَمَا سَأَلَ أَمْثَالُهُمْ خَاتَمَ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْرُدَ عَنْهُمْ جَمَاعَةً مِنَ الضُّعَفَاءِ وَيَجْلِسَ مَعَهُمْ مَجْلِسًا خَاصًّا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}.

- 31 - وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ رَسُولٌ مِّنَ الله يدعو إلى عبادة الله وحده، ولا يسألهم على ذلك أجراً، ثم هو يدعو الشريف والوضيع، فَمَنِ اسْتَجَابَ لَهُ فَقَدْ نَجَا، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لا قدرة له عَلَى التَّصَرُّفِ فِي خَزَائِنِ اللَّهِ، وَلَا يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وليس هو بملك من الملائكة، بل هو بشرٌ مُرْسَلٌ مُؤَيَّدٌ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَلَا أَقُولُ عَنْ هؤلاء الذين تحتقرونهم وتزدرونهم، إنهم ليس لهم عند الله ثواب على أعمالهم {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ}، فَإِنْ كَانُوا مؤمنين، فلهم جزاء الحسنى.

- 32 - قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ - 33 - قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ - 34 - وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اسْتِعْجَالِ قَوْمِ نُوحٍ نقمة الله وعذابه - وَالْبَلَاءُ موكلٌ بِالْمَنْطِقِ - قَالُوا: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أَيْ حَاجَجْتَنَا فَأَكْثَرَتْ مِنْ ذَلِكَ وَنَحْنُ لَا نَتَبِّعُكَ، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} أي من النقمة والعذاب ادع بما شئت علينا فَلْيَأْتِنَا مَا تَدْعُو بِهِ، {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أَيْ إِنَّمَا الَّذِي يُعَاقِبُكُمْ وَيُعَجِّلُهَا لَكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ

يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} أَيْ أيُّ شَيْءٍ يُجْدِي عَلَيْكُمْ إِبْلَاغِي لَكُمْ وَإِنْذَارِي إِيَّاكُمْ وَنُصْحِي {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} أي إِغْوَاءَكُمْ وَدَمَارَكُمْ، {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ هو مالك أزمة الأمور، المتصرف الحاكم العادل الذي لا يجوز، لَهُ الْخَلْقُ وَلَهُ الْأَمْرُ وَهُوَ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ.

- 35 - أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ هَذَا كَلَامٌ مُعْتَرَضٌ فِي وَسَطِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، مُؤَكِّدٌ لَهَا مقرر لها، يَقُولُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ الْجَاحِدُونَ افْتَرَى هَذَا وَافْتَعَلَهُ مِنْ عِنْدِهِ، {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} أي قائم ذَلِكَ عَلَيَّ، {وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ} أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ مُفْتَعَلًا وَلَا مُفْتَرًى، لِأَنِّي أَعْلَمُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ لِمَنْ كَذَبَ عليه.

- 36 - وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ - 37 - وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ - 38 - وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ - 39 - فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى نُوحٍ، لَمَّا اسْتَعْجَلَ قَوْمُهُ نِقْمَةَ اللَّهِ بِهِمْ وَعَذَابَهُ لهم، فدعا عليهم نوح دعوته: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ ديارا}، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مغلوب فانتصر} فعند ذلك أوحى الله إِلَيْهِ: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا يَهُمَّنَّكَ أَمْرُهُمْ، {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} يَعْنِي السَّفِينَةَ، {بِأَعْيُنِنَا} أي بمرأى منا، {وَوَحْيِنَا} أي تعليمنا لك ما تَصْنَعُهُ، {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ}. قال قتادة: كان طولها ثلثمائة ذِرَاعٍ فِي عَرْضِ خَمْسِينَ، وَعَنِ الْحَسَنِ: طُولُهَا ستمائة ذراع وعرضها ثلثمائة، وقيل غير ذلك، قالوا: وَكَانَ ارْتِفَاعُهَا فِي السَّمَاءِ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ كُلُّ طَبَقَةٍ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، فَالسُّفْلَى لِلدَّوَابِّ وَالْوُحُوشِ، وَالْوُسْطَى لِلْإِنْسِ، وَالْعُلْيَا لِلطُّيُورِ، وَكَانَ بَابُهَا فِي عَرْضِهَا وَلَهَا غِطَاءٌ مِنْ فَوْقِهَا مُطْبِقٌ عليها. وقوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} أي يهزأون بِهِ وَيُكَذِّبُونَ بِمَا يَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ مِنَ الْغَرَقِ، {قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} الآية. وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَتَهْدِيدٌ أَكِيدٌ، {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي يهينه فِي الدُّنْيَا، {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أَيْ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا.

- 40 - حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قليل هذه موعدة مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذَا جَآءَ أَمْرُ الله من المطر الهتَّان، الذي لا يقلع ولا يفتر، كما

قَالَ تَعَالَى: {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ}، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَفَارَ التَّنُّورُ}، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: التَّنُّورُ وَجْهُ الْأَرْضِ، أَيْ صَارَتِ الْأَرْضُ عُيُونًا تَفُورُ، حَتَّى فَارَ الْمَاءُ مِنَ التَّنَانِيرِ الَّتِي هِيَ مَكَانُ النَّارِ صَارَتْ تَفُورُ مَاءً، وَهَذَا قول جمهور السلف وعلماء الخلف، فحينئذٍ أَمَرَ اللَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يحمل معه السفينة {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} من صنوف المخلوقات ذوات الأرواح، وغيرها من النباتات اثنين ذكراً وانثى، وَقَوْلُهُ: {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} أَيْ وَاحْمِلْ فِيهَا أَهْلَكَ وَهُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ وَقَرَابَتِهِ، {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} مِنْهُمْ من لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ، فَكَانَ مِنْهُمُ ابْنُهُ (يَامٌ) الَّذِي انْعَزَلَ وَحْدَهُ، وَاِمْرَأَةُ نُوحٍ وَكَانَتْ كَافِرَةً بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ آمَنَ} أَيْ مِنْ قَوْمِكَ، {وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} أَيْ نَزْرٌ يَسِيرٌ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ وَالْمُقَامِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا ثَمَانِينَ نَفْسًا مِنْهُمْ نِسَاؤُهُمْ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ: كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ نَفْسًا، وقيل كانوا عشرة، والله أعلم.

- 41 - وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ - 42 - وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ - 43 - قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ للذين أمر بحملهم معه في السفينة أنه قال: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} أَيْ بِسْمِ اللَّهِ يَكُونُ جَرْيُهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَبِسْمِ اللَّهِ يَكُونُ مُنْتَهَى سَيْرِهَا وَهُوَ رُسُوُّهَا. قال تَعَالَى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين}، وَلِهَذَا تُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ فِي ابْتِدَاءِ الْأُمُورِ، عِنْدَ الركوب على السفينة وعلى الدابة، كما روى الطبراني، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَمَانُ أُمَّتِي مِنَ الْغَرَقِ إذا ركبوا في السفن أن يقولوا: بسم اللَّهِ الْمَلِكِ {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ - الآية، - {بِسْمِ الله مجريها وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} "، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} مُنَاسِبٌ عِنْدَ ذِكْرِ الِانْتِقَامِ من الكافرين بإغراقهم أجمعين فذكر أنه غفور رحيم كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ * وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وَقَوْلُهُ: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} أَيِ السَّفِينَةُ سَائِرَةٌ بِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، الذي قد طبق جميع الأرض، حتى طغت على رؤوس الْجِبَالِ، وَارْتَفَعَ عَلَيْهَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَقِيلَ بثمانين ميلاً، وهذه السفينة جارية على وجه الماء بإذن الله وكنفه وعنايته، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}، وقال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كفر}، وقوله: {ونادى نُوحٌ ابنه} الآية، هذا هو الابن الرابع واسمه يام (وقيل كنعان، وهو الهالك، وأما الناجي من ولد آدم فهو (سام، وحام، ويافث)) وكان كافراً، دعاه أبوه أَنْ يُؤْمِنَ وَيَرْكَبَ مَعَهُمْ، وَلَا يَغْرَقَ مِثْلَ مَا يَغْرَقُ الْكَافِرُونَ، {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} اعْتَقَدَ بِجَهْلِهِ أَنَّ الطُّوفَانَ لا يبلغ إلى رؤوس الْجِبَالِ، وَأَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَ فِي رَأْسِ جَبَلٍ لَنَجَّاهُ ذَلِكَ مِنَ الْغَرَقِ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ {لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} أَيْ لَيْسَ شيء

يَعْصِمُ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَقِيلَ إِنَّ {عَاصِمَ} بِمَعْنَى (مَعْصُومٍ) كَمَا يُقَالُ طَاعِمٌ وَكَاسٍ، بِمَعْنَى مَطْعُومٍ وَمَكْسُوٍ {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ المغرقين}.

- 44 - وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى أنه لما أغرق أهل الأرض كلهم إِلَّا أَصْحَابَ السَّفِينَةِ، أَمَرَ الْأَرْضَ أَنْ تَبْلَعَ مَاءَهَا الَّذِي نَبَعَ مِنْهَا وَاجْتَمَعَ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ السَّمَاءَ أَنْ تُقْلِعَ عَنِ الْمَطَرِ {وَغِيضَ الْمَاءُ}، أَيْ شَرَعَ فِي النَّقْصِ، {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} أَيْ فُرِغَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ قَاطِبَةً مِمَّنْ كَفَرَ بِاللَّهِ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ دَيَّارٌ، {وَاسْتَوَتِ} السَّفِينَةُ بِمَنْ فِيهَا {عَلَى الْجُودِيِّ}، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ جبل بالجزيرة أرست عَلَيْهِ سَفِينَةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: استوت عليه شهراً حتى نزلوا منها وأبقى الله السفينة على الجودي عِبْرَةً وَآيَةً، حَتَّى رَآهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكَمْ مِنْ سَفِينَةٍ قَدْ كَانَتْ بَعْدَهَا فَهَلَكَتْ وَصَارَتْ رَمَادًا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْجُودِيُّ جَبَلٌ بِالْمَوْصِلِ، وقال بعضهم: هو الطور، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: إِنَّ السَّفِينَةَ طَافَتْ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قَبْلَ أَنْ تَسْتَقِرَّ عَلَى الْجُودِيِّ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: رَكِبُوا فِي عَاشِرِ شهر رجب فساروا مائة وخمسين يوماً، وَاسْتَقَرَّتْ بِهِمْ عَلَى الْجُودِيِّ شَهْرًا، وَكَانَ خُرُوجُهُمْ مِنَ السَّفِينَةِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَقَدْ وَرَدَ نَحْوَ هَذَا فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ رواه ابن جرير، وأنهم صاموا يومهم ذلك، والله أعلم، وَقَوْلُهُ: {وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ هَلَاكًا وَخَسَارًا لَهُمْ وَبُعْدًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ بقية، وقد روى ابن جرير عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ أَحَدًا لرحم أم الصبي».

- 45 - وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ - 46 - قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ - 47 - قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ من الخاسرين هذا سؤال استعلام مِنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ حَالِ وَلَدِهِ الذي غرق: {فقال إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} أَيْ وَقَدْ وَعَدَتْنِي بِنَجَاةِ أَهْلِي وَوَعْدُكَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يُخْلَفُ، فكيف غرق وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أَيِ الَّذِينَ وَعَدْتُ إِنْجَاءَهَمْ لِأَنِّي إِنَّمَا وَعَدْتُكَ بِنَجَاةِ مَنْ آمَنَ مَنْ أَهْلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول منهم} فَكَانَ هَذَا الْوَلَدُ مِمَّنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِالْغَرَقِ، لِكُفْرِهِ وَمُخَالَفَتِهِ أَبَاهُ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا عليه السلام، قال ابن عباس: هُوَ ابْنُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خَالَفَهُ فِي الْعَمَلِ والنية، وقال عكرمة: إنه عمل عملاً غير صالح، وَيُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قرأ بذلك.

- 48 - قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قال محمد بن إسحاق: لما أراد الله أَنْ يَكُفَّ الطُّوفَانُ أَرْسَلَ رِيحًا عَلَى وَجْهِ الارض فسكن الماء، وانسدت ينابيع الأرض وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقِيلَ يَا أرض ابلعي ماءك} الآية، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْقُصُ وَيَغِيضُ وَيُدْبِرُ، وَكَانَ اسْتِوَاءُ الْفُلْكِ عَلَى الْجُودِيِّ فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ التَّوْرَاةِ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْهُ، وَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ الْعَاشِرِ رأى رؤوس الجبال، وظهر البر، وكشف نوح غطاء الفلك {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} الآية.

- 49 - تِلْكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ. يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَأَشْبَاهُهَا {مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ} يَعْنِي مِنْ أَخْبَارِ الْغُيُوبِ السالفة نوحيها إليك كَأَنَّكَ شَاهِدُهَا {نُوحِيهَآ إِلَيْكَ} أَيْ نُعْلِمُكَ بِهَا وَحْيًا مِنَّا إِلَيْكَ، {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا} أَيْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ قَوْمِكَ عَلِمٌ بِهَا حَتَّى يَقُولَ مَنْ يُكَذِّبُكَ إِنَّكَ تَعَلَّمْتَهَا مِنْهُ، بَلْ أَخْبَرَكَ اللَّهُ بِهَا مُطَابِقَةً لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ الصَّحِيحُ، كَمَا تَشْهَدُ بِهِ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ، فَاصْبِرْ عَلَى تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَكَ مِنْ قَوْمِكَ وَأَذَاهُمْ لَكَ فَإِنَّا سَنَنْصُرُكَ وَنَحُوطُكَ بِعِنَايَتِنَا، وَنَجْعَلُ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِأَتْبَاعِكَ في الدنيا والآخرة، كما فعلنا بِالْمُرْسَلِينَ حَيْثُ نَصَرْنَاهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمنوا} الآية، {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}.

- 50 - وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مفترون - 51 - يا قوم لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ - 52 - وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تتولوا مجرمين يقول تعالى: {وَ} لقد أَرْسَلْنَا {إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} آمِرًا لَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ نَاهِيًا لهم عن الْأَوْثَانِ الَّتِي افْتَرَوْهَا وَاخْتَلَقُوا لَهَا أَسْمَاءَ الْآلِهَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ مِنْهُمْ أُجْرَةً عَلَى هَذَا النُّصْحِ وَالْبَلَاغِ مِنَ اللَّهِ إِنَّمَا يَبْغِي ثوابه مِنَ اللَّهِ الَّذِي فَطَرَهُ، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى مَا يُصْلِحُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ أُجْرَةٍ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ الَّذِي فِيهِ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ السَّالِفَةِ وَبِالتَّوْبَةِ عَمَّا يَسْتَقْبِلُونَ، وَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ رزقه وسهل عليه أمره وحفظ شأنه، ولهذا قال: {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً}، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَمَنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ».

- 53 - قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ - 54 - إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ - 55 - مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ - 56 - إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ يخبر تعالى أَنَّهُمْ قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} أَيْ بحجة وَبُرْهَانَ عَلَى مَا تَدَّعِيهِ، {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} أَيْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِكَ اتْرُكُوهُمْ نتركهم {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} بِمُصَدِّقِينَ، {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} يَقُولُونَ مَا نَظُنُّ إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الْآلِهَةِ أَصَابَكَ بِجُنُونٍ وَخَبَلٍ فِي عَقْلِكَ، بِسَبَبِ نَهْيِكَ عَنْ عِبَادَتِهَا وَعَيْبِكَ لَهَا، {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ}، يَقُولُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْدَادِ وَالْأَصْنَامِ، {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} أَيْ أَنْتُمْ وَآلِهَتُكُمْ إن كانت حقاً {ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} أي طرفة عين. وَقَوْلُهُ: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ} أي تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ فِي حُكْمِهِ، فَإِنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مستقيم، وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْمَقَامُ حُجَّةً بَالِغَةً، وَدَلَالَةً قاطعة على صدق ما جاء هم بِهِ، وَبُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، بَلْ هِيَ جَمَادٌ لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَا تُوَالِي وَلَا تُعَادِي، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ إِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ الله وحده، الذي ما من شيء إلا تحت قهره وَسُلْطَانِهِ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.

- 57 - فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ - 58 - وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ - 59 - وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ - 60 - وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود يقول لهم هُودٌ: فَإِنْ تَوَلَّوْا عَمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ رَبِّكُمْ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَقَدْ قَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ بِإِبْلَاغِي إِيَّاكُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ الَّتِي بَعَثَنِي بِهَا، {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} يعبدونه وحده ولا يشركون به وَلَا يُبَالِي بِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَضُرُّونَهُ بِكُفْرِكُمْ بَلْ يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ، {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أَيْ شَاهِدٌ وَحَافِظٌ لأقوال عباده وأفعالهم، {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} وهو الريح العقيم أهلكهم الله عن آخرهم ونجى هوداً وأتباعه مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ بِرَحْمَتِهِ تَعَالَى وَلُطْفِهِ، {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} كَفَرُوا بِهَا وَعَصَوْا رُسُلَ اللَّهِ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِنَبِيٍّ فَقَدْ كَفَرَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فنزّل كفرهم مَنْزِلَةَ مَنْ كَفَرَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} تَرَكُوا اتِّبَاعَ رَسُولِهِمُ الرَّشِيدِ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، فَلِهَذَا أُتْبِعُوا في هذه الدنيا لعنة كُلَّمَا ذُكِرُوا، وَيُنَادَى عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

على رؤوس الأشهاد {ألا إن عادا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ} الآية، قَالَ السدُّي: مَا بُعِثَ نَبِيٌّ بَعْدَ عَادٍ إِلَّا لُعِنُوا عَلَى لِسَانِهِ.

- 61 - وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مجيب يقول تعالى: {وَ} لقد أَرْسَلْنَا {إِلَى ثَمُودَ} وَهْمُ الَّذِينَ كَانُوا يَسْكُنُونَ مَدَائِنَ الْحِجْرِ بَيْنَ تَبُوكَ وَالْمَدِينَةِ وَكَانُوا بَعْدَ عَادٍ فَبَعَثَ اللَّهُ مِنْهُمْ {أَخَاهُمْ صَالِحاً} فَأَمَرَهُمْ بعبادة الله وحده، وَلِهَذَا قَالَ: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الْأَرْضِ} أَيِ ابتدأ خلقكم منها خلق أباكم آدم، {واستعمركم فِيهَا} أي جعلكم عماراً تعمرونها وتستغلونها، {فاستغفروه} لسالف ذنوبكم {ثُمَّ توبوا إليه} فيما تسقبلونه {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية.

- 62 - قالوا يا صالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مريب - 63 - قال يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنَ الْكَلَامِ بَيْنَ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ فِي قَوْلِهِمْ: {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} أَيْ كُنَّا نَرْجُوكَ فِي عَقْلِكَ قَبْلَ أَنْ تَقُولَ مَا قُلْتَ {أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَسْلَافُنَا، {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} أي شك كثير، {قال يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} فِيمَا أَرْسَلَنِي بِهِ إِلَيْكُمْ عَلَى يَقِينٍ وَبُرْهَانٍ، {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ}، وَتَرَكْتُ دَعْوَتَكُمْ إِلَى الْحَقِّ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، فَلَوْ تَرَكْتُهُ لَمَا نَفَعْتُمُونِي وَلَمَا زِدْتُمُونِي {غَيْرَ تَخْسِير} أَيْ خَسَارَةٍ.

- 64 - وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ - 65 - فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ - 66 - فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمَئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ - 67 - وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ - 68 - كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ إِلاَّ أَن ثَمُودَ كَفَرُوا ربهم ألا بعدا لثمود تقدم في الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ها هنا وبالله التوفيق.

- 69 - وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ - 70 - فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ - 71 - وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ - 72 - قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ - 73 - قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رحمت اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مجيد يقول تعالى: {وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ} وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى، قِيلَ تُبَشِّرُهُ بِإِسْحَاقَ، وَقِيلَ بِهَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، وَيَشْهَدُ للأول قوله تعالى: {وَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لوط}، {قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} أَيْ عَلَيْكُمْ، قَالَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ: هَذَا أَحْسُنُ مِمَّا حَيَّوْهُ بِهِ لِأَنَّ الرَّفْعَ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ وَالدَّوَامِ {فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أَيْ ذَهَبَ سَرِيعًا، فَأَتَاهُمْ بِالضِّيَافَةِ وَهُوَ عجلٌ فتيٌّ الْبَقَرِ، {حَنِيذٍ} مشوي على الرَّضْف وهي الحجارة المحماة، هذل معنى ما روي عن ابن عباس وقتادة وَغَيْرِ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إليهم فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آدَابَ الضِّيَافَةِ مِنْ وجه كَثِيرَةٍ، وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} ينكرهم، {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا هِمَّةَ لَهُمْ إِلَى الطَّعَامِ وَلَا يَشْتَهُونَهُ وَلَا يأكلونه، فلهذا رأى حالهم معرضين عما جاء بِهِ فَارِغِينَ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَكِرَهُمْ {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ لِقَوْمِ لُوطٍ أَقْبَلَتْ تَمْشِي فِي صورة رِجَالٍ شُبَّانٍ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَتَضَيَّفُوهُ، فلما رآهم أجلَّهم {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} فذبحه ثم شواه في الرضف وَأَتَاهُمْ بِهِ فَقَعَدَ مَعَهُمْ، وَقَامَتْ سَارَّةُ تَخْدِمُهُمْ، فذلك حين يقول {وامرأته قائمة} (امرأة إبراهيم: هي سارة، والغلام الذي بشرت به - كما ذكره السهيلي - هو إسحاق، قال: ولم تلد سارة لإبراهيم غيره، وأما إسماعيل فهو بكره من هاجر القبطية) وهو جالس، فَلَمَّا قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ {قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ}؟ قَالُوا: يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا لَا نَأْكُلُ طَعَامًا إِلَّا بِثَمَنٍ، قَالَ: فَإِنَّ لِهَذَا ثَمَنًا، قَالُوا: وَمَا ثَمَنُهُ؟ قَالَ: تَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى أَوَّلِهِ وَتَحْمَدُونَهُ عَلَى آخِرِهِ، فَنَظَرَ جِبْرِيلُ إِلَى مِيكَائِيلَ فَقَالَ: حُقَّ لِهَذَا أَنْ يَتَّخِذَهُ رَبُّهُ خَلِيلًا {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ}، يَقُولُ فَلَمَّا رَآهُمْ لَا يَأْكُلُونَ فَزِعَ مِنْهُمْ وأوجس منهم خفية، وقالت سارة: عجباً لأضيافنا نَخْدِمُهُمْ بِأَنْفُسِنَا كَرَامَةً لَهُمْ وَهُمْ لاَ يَأْكُلُونَ طعامنا؟! {قَالُواْ لاَ تَخَفْ} أَيْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ مِنَّا إِنَّا مَلَائِكَةٌ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ لوط لنهلكم، فضحكت سارة استبشاراً بهلاكهم لكثرة فسادهم، وغلظ كفرهم وعنادهم، قال ابن عباس: {فَضَحِكَتْ} أي حاضت، وقول وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّمَا ضَحِكَتْ لَمَّا بُشِّرَتْ بإسحاق، فمخالف لِهَذَا السِّيَاقِ، فَإِنَّ الْبِشَارَةَ صَرِيحَةٌ مُرَتَّبَةٌ عَلَى ضحكها {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} أَيْ بِوَلَدٍ لَهَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَعَقِبٌ ونسل، فإن يعقوب ولد إسحاق، ومن هنا اسْتَدَلَّ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِنَّمَا هُوَ (إِسْمَاعِيلُ) وَأَنَّهُ يُمْتَنَعُ أَنْ يكون إِسْحَاقُ لِأَنَّهُ وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ، وَأَنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ يَعْقُوبُ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ إِبْرَاهِيمُ

بِذَبْحِهِ وَهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ وَلَمْ يُولَدْ لَهُ بَعْدُ يَعْقُوبُ الْمَوْعُودُ بِوُجُودِهِ، وَوَعْدُ اللَّهِ حَقٌّ لَا خُلْفَ فِيهِ، فَيُمْتَنَعُ أَنَّ يُؤْمَرَ بِذَبْحِ هَذَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِدْلَالِ وَأَصَحِّهِ وَأَبْيَنِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} الآية، حَكَى قَوْلَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا حَكَى فعلها في الآية الأخرى، فإنها {قالت يا ويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ}، وَفِي الذَّارِيَاتِ {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ}، كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ النِّسَاءُ فِي أَقْوَالِهِنَّ وَأَفْعَالِهِنَّ عِنْدَ التَّعَجُّبِ، {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أَيْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَهَا: لَا تَعْجَبِي مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً فإنما يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَلَا تَعْجَبِي مِنْ هذا وإن كنت عجوزاً عقيماً وبعلك شَيْخًا كَبِيرًا فَإِنَّ اللَّهَ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ، {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} أَيْ هُوَ الْحَمِيدُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، مَحْمُودٌ مُمَجَّدٌ فِي صِفَاتِهِ وذاته.

- 74 - فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ - 75 - إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ - 76 - يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مردود يخبر تعالى عن إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ الروع، وهو ما أوجس من الملائكة خفية حِينَ لَمْ يَأْكُلُوا وَبَشَّرُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْوَلَدِ وأخبروه بهلاك قوم لوط، أخذ يقول: أتهلكون قرية فيها ثلثمائة مُؤْمِنٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَفَتُهْلِكُونَ قَرْيَةً فِيهَا مائتا مؤمن؟ قَالُوا: لَا، حَتَّى بَلَغَ خَمْسَةً، قَالُوا: لَا، قَالَ: أَرَأَيْتُكُمْ إِنْ كَانَ فِيهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مُسْلِمٌ أَتُهْلِكُونَهَا؟ قَالُوا: لَا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ ذَلِكَ، {إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته} الآية، فسكت عنهم واطمأنت نفسه (قاله سعيد بن جبير رضي الله عنه)، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} مدحٌ لإبراهيم بهذه الصفات الجميلة، وقد تقدم تفسيرها. وقوله تعالى: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ} الآية، أَيْ إِنَّهُ قَدْ نَفَذَ فِيهِمُ الْقَضَاءُ وَحَقَّتْ عَلَيْهِمُ الْكَلِمَةُ بِالْهَلَاكِ وَحُلُولِ الْبَأْسِ الَّذِي لَا يُرد عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.

- 77 - وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ - 78 - وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ - 79 - قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قدوم الملائكة بعدما أعلموا إبراهيم بهلاكهم وفارقوه، فَانْطَلَقُوا مِنْ عِنْدِهِ فَأَتَوْا لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُمْ فِي أَجْمَلِ صُورَةٍ تَكُونُ عَلَى هَيْئَةِ شبان حسان الوجوه، ابتلاءً من الله - وله الحكمة والحجة البالغة - فَسَاءَهُ شَأْنُهُمْ وَضَاقَتْ نَفْسُهُ بِسَبَبِهِمْ، وَخَشِيَ إِنْ يُضِيفَهُمْ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ فَيَنَالُهُمْ بِسُوءٍ، {وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ}، قال ابن عباس: شَدِيدٌ بَلَاؤُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ سَيُدَافِعُ عَنْهُمْ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَذَكَرَ قَتَادَةُ أَنَّهُمْ أتوه وهو في أرض

له فَتَضَيَّفُوهُ فَاسْتَحْيَا مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ أَمَامَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ كَالْمُعَرِّضِ لَهُمْ بِأَنْ يَنْصَرِفُوا عنه: مَا أَعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلَ بَلَدٍ أَخْبَثَ مِنْ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ مَشَى قَلِيلًا، ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَتَّى كَرَّرَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، قال قتادة: وقد كانوا امروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك، قال السُّدِّيُّ: خَرَجَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ نَحْوَ قَرْيَةِ لُوطٍ فَبَلَغُوا نَهْرَ سَدُومَ نِصْفَ النَّهَارِ، ولقوا بنت لوط تستقي، فقالوا: يا جارية هل من منزل؟ فقالت: مَكَانَكُمْ حَتَّى آتِيَكُمْ وفَرِقت عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهَا فَأَتَتْ أَبَاهَا، فَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ أَدْرَكْ فِتْيَانًا عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ مَا رَأَيْتُ وُجُوهَ قَوْمٍ أحسن منهم لا يأخذهم قومك، وكان قَوْمُهُ نَهَوْهُ أَنْ يُضِيفَ رَجُلًا، فَقَالُوا: خَلِّ عنا فلنضيف الرِّجَالَ، فَجَاءَ بِهِمْ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ أَحَدٌ إِلَّا أَهْلُ بَيْتِهِ، فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ فَأَخْبَرَتْ قَوْمَهَا فَجَاءُوا يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} أَيْ يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك، وَقَوْلُهُ: {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} أَيْ لم يزل هذا من سجيتهم حَتَّى أُخِذُوا وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ، وَقَوْلُهُ: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} يرشدهم إلى نساءهم، فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد، فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُمْ فِي الدنيا والآخرة، كما قال في الآية الأخرى: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}، {قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كنتم فاعلين}، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَكُنَّ بَنَاتِهِ وَلَكِنْ كُنَّ مِنْ أُمَّتِهِ وَكُلُّ نَبِيٍّ أَبُو أُمَّتِهِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِ واحد. وَقَوْلُهُ: {فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} أَيْ اقْبَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى نِسَائِكُمْ، {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} أَيْ فِيهِ خَيْرٌ، يَقْبَلُ مَا آمُرُهُ بِهِ وَيَتْرُكُ مَا أَنْهَاهُ عَنْهُ، {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} أَيْ إِنَّكَ لتعلم أَنَّ نِسَاءَنَا لَا أَرَبَ لَنَا فِيهِنَّ وَلَا نَشْتَهِيهِنَّ، {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} أَيْ لَيْسَ لَنَا غَرَضٌ إِلَّا فِي الذُّكُورِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ ذَلِكَ، فَأَيُّ حَاجَةٍ فِي تَكْرَارِ الْقَوْلِ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ؟ قَالَ السُّدِّيُّ: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} إِنَّمَا نُرِيدُ الرِّجَالَ.

- 80 - قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ - 81 - قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّ لُوطًا تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} الآية، أَيْ لَكُنْتُ نَكَّلْتُ بِكُمْ وَفَعَلْتُ بِكُمُ الْأَفَاعِيلَ بنفسي وعشيرتي، ولهذا ورد في الحديث: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى لُوطٍ لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ - يَعْنِي اللَّهَ عزَّ وجلَّ - فَمَا بَعَثَ اللَّهُ بَعْدَهُ مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ في ثروة من قومه»، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخْبَرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ أَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ إليه، وأنهم لا وصول لهم إليه، {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ} وَأَمَرُوهُ أَنْ يَسْرِيَ بِأَهْلِهِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ وَأَنْ يَتَّبِعَ أَدْبَارَهُمْ، أَيْ يَكُونُ سَاقَةً لِأَهْلِهِ، {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} أَيْ إِذَا سَمِعْتَ مَا نَزلَ بِهِمْ وَلَا تَهُولُنَّكُمْ تلك الأصوات المزعجة، وقوله: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك}، ذكروا أنها خرجت معهم ولما سمعت الوجبة التفت وَقَالَتْ: وَاقَوْمَاهْ، فَجَاءَهَا حَجَرٌ مِنَ السَّمَاءِ فَقَتَلَهَا، ثُمَّ قَرَّبُوا لَهُ هَلَاكَ قَوْمِهِ تَبْشِيرًا لَهُ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ أَهْلِكُوهُمُ السَّاعَةَ، فَقَالُوا: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}؟ هَذَا وَقَوْمُ لوط وقوف على

الباب وعكوف، وقد جَاءُوا يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَلُوطٌ وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ يُدَافِعُهُمْ وَيَرْدَعُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ، وَهُمْ لَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ، بَلْ يتوعدونه ويتهددونه، فَعِنْدَ ذَلِكَ خَرَجَ عَلَيْهِمْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَضَرَبَ وُجُوهَهُمْ بِجَنَاحِهِ فَطَمَسَ أَعْيُنَهُمْ، فَرَجَعُوا وَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ الطَّرِيقَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} الآية.

- 82 - فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ - 83 - مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ يَقُولُ تَعَالَى: {فَلَمَّآ جَآءَ أَمْرُنَا} وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ طلوع الشمس {جَعَلْنَا عَالِيَهَا} وهي سدوم {سَافِلَهَا}، كقوله: {فَغَشَّاهَا مَا غشى}، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} أي حِجَارَةً مِّن طِينٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وقد قاله في الآية الأخرى: {حِجَارَةً مِّن طِينٍ} أَيْ مُسْتَحْجَرَةً قَوِيَّةً شَدِيدَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَشْوِيَّةٌ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: {سِجِّيلٍ} الشَّدِيدُ الْكَبِيرُ، سِجِّيلٌ وَسِجِّينٌ اللام والنون أختان، وَقَوْلُهُ: {مَّنْضُودٍ} قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْضُودَةٌ فِي السَّمَاءِ أَيْ مُعَدَّةٌ لِذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: {مَّنْضُودٍ} أَيْ يتبع بعضهم بَعْضًا فِي نُزُولِهَا عَلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ: {مُّسَوَّمَةً} أَيْ معلمة كُلُّ حَجَرٍ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ اسْمُ الَّذِي يَنْزِلُ عليه، فَبَيْنَا أَحَدُهُمْ يَكُونُ عِنْدَ النَّاسِ يَتَحَدَّثُ، إِذْ جَاءَهُ حَجَرٌ مِنَ السَّمَاءِ فَسَقَطَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ فَدَمَّرَهُ، فَتَتْبَعُهُمُ الْحِجَارَةُ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ حَتَّى أَهْلَكَتْهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَخَذَ جِبْرِيلُ قَوْمَ لُوطٍ مِنْ سَرْحِهِمْ وَدُورِهِمْ، حَمَلَهُمْ بِمَوَاشِيهِمْ وَأَمْتِعَتِهِمْ وَرَفَعَهُمْ حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ نُبَاحَ كِلَابِهِمْ، ثم كفأها؛ وكان حملهم على خوافي جناحه الأيمن، وَلَمَّا قَلَبَهَا كَانَ أَوَّلَ مَا سَقَطَ مِنْهَا شرفاتها. وقال قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ: بَلَغَنَا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لما أصبح نشر جناحه فانتسف بها أرضهم بما فيهم مِنْ قُصُورِهَا وَدَوَابِّهَا وَحِجَارَتِهَا وَشَجَرِهَا وَجَمِيعِ مَا فِيهَا، فَضَمَّهَا فِي جَنَاحِهِ، فَحَوَاهَا وَطَوَاهَا فِي جَوْفِ جَنَاحِهِ، ثُمَّ صَعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حَتَّى سَمِعَ سُكَّانُ السَّمَاءِ أَصْوَاتَ النَّاسِ وَالْكِلَابِ، وَكَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفٍ، ثُمَّ قَلَبَهَا، فَأَرْسَلَهَا إِلَى الْأَرْضِ مَنْكُوسَةً، وَدَمْدَمَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، فجعل عليها سافلها، ثم أتبعها حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ، قال تَعَالَى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} فَأَهْلَكَهَا اللَّهُ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الؤتفكات. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا أَصْبَحَ قَوْمُ لُوطٍ نَزلَ جِبْرِيلُ فَاقْتَلَعَ الْأَرْضَ مِنْ سَبْعِ أَرْضِينَ فَحَمَلَهَا حَتَّى بَلَّغَ بِهَا السَّمَاءَ، حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا نُبَاحَ كِلَابِهِمْ وَأَصْوَاتَ دُيُوكِهِمْ ثُمَّ قلبها فقتلهم فذلك قوله: {والمؤتفكة أهوى}، ومن لم يمت حتى سَقَطَ لِلْأَرْضِ أَمْطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ تَحْتَ الْأَرْضِ الْحِجَارَةَ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَاذًّا فِي الْأَرْضِ يَتْبَعُهُمْ فِي الْقُرَى، فَكَانَ الرَّجُلُ يَتَحَدَّثُ فَيَأْتِيهِ الْحَجَرُ فَيَقْتُلُهُ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {وأمطرنا عليها} أي في القرى حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ، وَقَوْلُهُ: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} أَيْ وَمَا هَذِهِ النِّقْمَةُ مِمَّنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ فِي ظلمهم ببعيد عنه.

- 84 - وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ -[229]- يَقُولُ تَعَالَى:؟؟ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى مَدْيَنَ} وَهُمْ قَبِيلَةٌ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَسْكُنُونَ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ قريباً من معان، بلاداً تعرف بِهِمْ يُقَالُ لَهَا (مَدْيَنُ)، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ شعيباً وكان من أشرافهم نَسَبًا، وَلِهَذَا قَالَ: {أَخَاهُمْ شُعَيْباً} يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الله تعالى وحده لا شريك له وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّطْفِيفِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أي في معيشتكم ورزقكم، وإني أخاف أَنْ تُسْلَبُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ بِانْتِهَاكِكُمْ مَحَارِمَ اللَّهِ، {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.

- 85 - وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مفسدين - 86 - بقيت اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بحفيظ نهاهم أَوَّلًا عَنْ نَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ إِذَا أَعْطَوُا الناس، ثم أمرهم بوفاء الكيل والوزن، ونهاهم عن العثو فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَقَدْ كَانُوا يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، وَقَوْلُهُ: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رِزْقُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: رِزْقُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَخْسِكُمُ النَّاسَ، وقال الربيع: وَصِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: طَاعَةُ الله، وَقَالَ قَتَادَةُ: حَظُّكُمْ مِنَ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ. وقال ابن جرير: أَيْ مَا يَفْضُلُ لَكُمْ مِنَ الرِّبْحِ بَعْدَ وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس، قُلْتُ: وَيُشْبِهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كثرة الخبيث} الآية، وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أَيْ بِرَقِيبٍ وَلَا حَفِيظٍ، أَيْ افْعَلُوا ذَلِكَ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، لا تفعلوا لِيَرَاكُمُ النَّاسُ بَلْ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ.

- 87 - قالوا يا شعيب أصلواتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ يَقُولُونَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التهكم - قبحهم الله - {أصلاتك} أي قراءتك (قاله الأعشى)، {تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} أي الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، {أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} فنترك التطفيف عن قولك، وهي أَمْوَالُنَا نُفعل فِيهَا مَا نُرِيدُ، قَالَ الْحَسَنُ في الآية: إيْ وَاللَّهِ إِنَّ صَلَاتَهُ لَتَأْمُرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}؟ يعنون الزكاة، {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد؟!} يقول ذَلِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ قَبَّحَهُمُ الله ولعنهم وقد فعل.

- 88 - قال يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَنًا وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ

يَقُولُ لَهُمْ أَرَأَيْتُمْ يَا قَوْمِ {إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} أَيْ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيمَا أَدْعُو إِلَيْهِ، {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} قِيلَ: أَرَادَ النُّبُوَّةَ، وَقِيلَ: أَرَادَ الرِّزْقَ الْحَلَّالَ ويحتمل الأمرين، قال الثَّوْرِيُّ: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عنه} أي لا أنهاكم عن الشيء وَأُخَالِفُ أَنَا فِي السِّرِّ فَأَفْعَلُهُ خُفْيَةً عَنْكُمْ، وقال قتادة: لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه، {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} أَيْ فيما أمركم وأنهاكم إنما أريد إصلاحكم جهدي وطاقتي، {وَمَا توفيقي} فِي إِصَابَةِ الْحَقِّ فِيمَا أُرِيدُهُ {إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فِي جَمِيعِ أُمُورِي {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي أرجع، قاله مجاهد. روى الإمام أحمد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حُمَيْدٍ وَأَبَا أُسَيْدٍ يقول عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَلِينُ لَهُ أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه قريب منكم فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَنْفُرُ مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه» (أخرجه ابن أبي حاتم). وَمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: مَهْمَا بَلَغَكُمْ عَنِّي مِنْ خَيْرٍ فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ، وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ مَكْرُوهٍ فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، قال أبو سليمان الضبي: كَانَتْ تَجِيئُنَا كُتُبُ (عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) فِيهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، فَيَكْتُبُ فِي آخِرِهَا: وَمَا كَانَتْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.

- 89 - وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ - 90 - وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ يَقُولُ لَهُمْ: {وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} أَيْ لَا تَحْمِلَنَّكُمْ عَدَاوَتِي وَبُغْضِي عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عليه من الكفر والفساد، فيصبيكم مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ وَقَوْمِ لُوطٍ مِنَ النِّقْمَةِ وَالْعَذَابِ، وقال قَتَادَةُ: {وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} يَقُولُ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ فِرَاقِي، وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَدَاوَتِي، عَلَى أن تمادوا فِي الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ فَيُصِيبُكُمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا أصابهم، ولما أحاط الناس بعثمان بن عفان أشرف عليهم مِنْ دَارِهِ فَقَالَ: {وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ}، يا قوم لا تقتلوني، إنكم إن قتلتموني كنتم هكذا، وشبّك بين أصابعه (أخرجه ابن أبي حاتم)، وَقَوْلُهُ: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} قِيلَ المراد في الزمان، قال قتادة: يعني إنما هلكوا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ بِالْأَمْسِ، وَقِيلَ: فِي الْمَكَانِ، وَيُحْتَمَلُ الأمران، {واستغفروا رَبَّكُمْ} من سالف الذنوب، {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} فِيمَا تَسْتَقْبِلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} لمن تاب.

- 91 - قالوا يا شعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بعزيز - 92 - قال يا قوم أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ -[231]- يَقُولُونَ: {يا شعيب مَا نَفْقَهُ} ما نفهم {كَثِيراً} من قولك، {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فينا ضعيفا} (روي عن سعيد بن جبير والثوري أنهما قالا: كان شعيب ضرير البصر)، قال السدي: أنت واحد، وقال أبو روق: يَعْنُوُنُ ذَلِيلًا، لِأَنَّ عَشِيرَتَكَ لَيْسُوا عَلَى دِينِكَ، {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} أي قومك لَرَجَمْنَاكَ} قِيلَ: بِالْحِجَارَةِ، وَقِيلَ: لَسَبَبْنَاكَ، {وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أي ليس عندنا لك معزة، {قال يا قوم أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ}، يَقُولُ: أَتَتْرُكُونِي لأجل قومي، ولا تتركوني إعظاماً لجناب الرب تبارك وتعالى أَنْ تَنَالُوا نَبِيَّهُ بِمَسَاءَةٍ وَقَدِ اتَّخَذْتُمْ جَانِبَ اللَّهِ {وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً} أَيْ نَبَذْتُمُوهُ خَلْفَكُمْ لَا تُطِيعُونَهُ وَلَا تُعَظِّمُونَهُ، {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أَيْ هُوَ يَعْلَمُ جَمِيعَ أَعْمَالِكُمْ وَسَيَجْزِيكُمْ عليها.

- 93 - وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ - 94 - وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ - 95 - كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ لَمَّا يئس نبي الله شعيب من استجابتهم لَهُ قَالَ: يَا قَوْمِ {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي طريقتكم، وهذا تهديد شديد {إني عامل} على طريقتي، {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ}، أَيْ مِنِّي وَمِنْكُمْ، {وَارْتَقِبُوا} أَيْ انْتَظِرُوا، {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}، وَقَوْلُهُ: {جَاثِمِينَ} أَيْ هامدين لا حراك بهم. وذكر ههنا أنه أتتهم صحية، وَفِي الْأَعْرَافِ رَجْفَةٌ، وَفِي الشُّعَرَاءِ {عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}، وَهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ عَذَابِهِمْ هَذِهِ النِّقَمُ كُلُّهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي كل سياق ما يناسبه، وَقَوْلُهُ: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} أَيْ يَعِيشُوا فِي دَارِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ {أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} وَكَانُوا جِيرَانَهُمْ قَرِيبًا مِنْهُمْ في الدار، وشبيهاً بهم في الكفر وكانوا عرباً مثلهم.

- 96 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ - 97 - إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ - 98 - يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ - 99 - وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ يَقُولُ تعالى مخبراً عن إرسال موسى بآياته ودلالاته الباهرة إلى فرعون ملك القبط وملئه {فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} أي منهجه ومسلكه وطريقته في الغي، {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أَيْ لَيْسَ فِيهِ رُشْدٌ وَلَا هُدًى، وَإِنَّمَا هُوَ جَهْلٌ وَضَلَالٌ وَكُفْرٌ وَعِنَادٌ؛ وَكَمَا أَنَّهُمُ اتَّبَعُوهُ فِي الدُّنْيَا وَكَانَ مُقَدَّمَهُمْ وَرَئِيسَهُمْ، كَذَلِكَ هُوَ يَقْدُمُهُمْ يَوْمَ القيامة إلى نار جهنم، {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ، وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْمَتْبُوعِينَ يَكُونُونَ مُوفَرِينَ في

العذاب يوم القيامة، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ}، وقال تعالى: {رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب} الآية، وَقَوْلُهُ: {وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية، أي أتبعناهم زيادة على عذاب النار لعنة فِي الدُّنْيَا، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}. قَالَ مُجَاهِدٌ: زِيدُوا لَعْنَةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَتِلْكَ لَعْنَتَانِ، وقال ابن عباس: لَعْنَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ)، وهو كقوله: {وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين}.

- 100 - ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ - 101 - وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ لَمَّا ذَكَرَ تعالى خبر الأنبياء وما جرى لهم من أُمَمِهِمْ وَكَيْفَ أَهْلَكَ الْكَافِرِينَ وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: {ذلك من أَنْبَآءِ القرى} أي أخبارهم، {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ} أَيْ عَامِرٌ، {وَحَصِيدٌ} أي هالك، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} أَيْ إِذْ أَهْلَكْنَاهُمْ {وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَنَا وَكَفْرِهِمْ بِهِمْ، {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ} أوثانهم التي يَعْبُدُونَهَا وَيَدْعُونَهَا {مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} ما نفعوهم ولا أنقذوهم بِإِهْلَاكِهِمْ، {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}. قَالَ مُجَاهِدٌ وقتادة: أَيْ غَيْرَ تَخْسِيرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ ودمارهم إنما كان باتباعبهم تلك الآلهة، فلهذا خسروا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

- 102 - وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَهْلَكْنَا أُولَئِكَ الْقُرُونَ الظَّالِمَةَ الْمُكَذِّبَةَ لِرُسُلِنَا كذلك نفعل بأشباههم، {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، ثم قرأ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الآية.

- 103 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ - 104 - وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ - 105 - يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ يقول تعالى: إِنَّ في إهلاكنا الكافرين وإنجائنا المؤمنين {لآيَةً} أي عظة واعتباراً على صدق موعودنا في الآخرة، كما قَالَ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} الآية. وقوله: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ} أَيْ أَوَّلُهُمْ وآخرهم، كقوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ منهم أحدا}، {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي عظيم تحضره الملائكة، ويجتمع فيه الرسل وتحشر الْخَلَائِقُ بِأَسْرِهِمْ، مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالطَّيْرِ وَالْوُحُوشِ والدواب، ويحكم فيه العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة، وَقَوْلُهُ: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} أَيْ ما نؤخر إقامة الْقِيَامَةِ إِلَّا لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَتْ كَلِمَةُ

الله في وجود أناس معدوين من ذرية آدم، ضرب مدة معينة إذا انقطعت وتكامل وجود أولئك المقدر خروجهم قامت السَّاعَةَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} أَيْ لِمُدَّةٍ مُؤَقَّتَةٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا ولا ينقص مِنْهَا، {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أي يأتي يوم القيامة لا يتكلم أحد إِلاَّ بِإِذْنِ الله، كقوله: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً}، وفي الصحيحين في حديث الشفاعة: «وَلَا يَتَكَلَّمُ يومئذٍ إِلَّا الرُّسُلُ وَدَعْوَى الرُّسُلِ يومئذٍ اللَّهُمَّ سلّمْ سلّمْ»، وَقَوْلُهُ: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} أَيْ فَمِنْ أَهْلِ الْجَمْعِ شَقِيَ وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ، كَمَا قَالَ: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ وَحَالَ السُّعَدَاءِ فقال:

- 106 - فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ - 107 - خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ يَقُولُ تَعَالَى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزَّفِيرُ فِي الْحَلْقِ، وَالشَّهِيقِ فِي الصَّدْرِ، أَيْ تَنَفُّسُهُمْ زَفِيرٌ وَأَخْذُهُمُ النَّفَسَ شَهِيقٌ، لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ العذاب، {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} قَالَ ابن جَرِيرٍ: مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَصِفَ الشَّيْءَ بِالدَّوَامِ أَبَدًا قَالَتْ: هَذَا دَائِمٌ، دوام السماوات وَالْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: هُوَ بَاقٍ مَا اخْتَلَفَ الليل والنهار، يعنون بذلك كله أَبَدًا، فَخَاطَبَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِمَا يَتَعَارَفُونَهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} قلت: ويحتمل أن المراد بما دامت السماوات وَالْأَرْضُ الْجِنْسُ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي عَالَمِ الآخرة من سماوات وَأَرْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غير الأرض والسموات}، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {مَّا دامت السماوات والأرض} قال: يقول سَمَاءٌ غَيْرَ هَذِهِ السَّمَاءِ وَأَرْضٌ غَيْرَ هَذِهِ، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض، وعن ابن عباس قال: لكل جنة سماء وأرض، وقال ابن أَسْلَمَ: مَا دَامَتِ الْأَرْضُ أَرْضًا وَالسَّمَاءُ سَمَاءً، وَقَوْلُهُ: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}، كقوله: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَاءَ الله إِنَّ رَبَّكَ حكيم عليم}، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا الاستثناء على أقوال كثيرة نقل كثيراً منها ابن جرير رحمه الله، واختار أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَائِدٌ عَلَى (الْعُصَاةِ) مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، مِمَّنْ يُخْرِجُهُمُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ الشافعين، ثُمَّ تَأْتِي رَحْمَةُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، فَتُخْرِجُ مِنَ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، وَقَالَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ {لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّارِ إِلَّا من وجب عليه الخلود فيها، وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وحديثاً، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً}.

- 108 - وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ يَقُولُ تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ} وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ {فَفِي الْجَنَّةِ} أَيْ فَمَأْوَاهُمُ الْجَنَّةُ، {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا، {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} معنى الاستثناء ههنا أَنْ دَوَامَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ

النَّعِيمِ لَيْسَ أَمْرًا وَاجِبًا بِذَاتِهِ، بَلْ هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَهُ الْمِنَّةُ عليهم دائماً، وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أَيْ غير مقطوع (قاله مجاهد وابن عباس وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ)، لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ بعد ذكره المشيئة أن ثم انقطاع أو لبس أو شيء، بل حتم له بالدوام وعدم الانقطاع، {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}، كقوله: {لا يسئل عما يفعل وهم يسألون}، وَهُنَا طيَّب الْقُلُوبَ وثَّبت الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}. وقد جاء في الصحيحين: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فَيُذْبَحُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ»، وفي الصحيح أَيْضًا: "فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إِنْ لَكُمْ أَنْ تَعِيشُوا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبَأَّسُوا أَبَدًا".

- 109 - فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ - 110 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ - 111 - وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يَقُولُ تَعَالَى: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} الْمُشْرِكُونَ إِنَّهُ بَاطِلٌ وَجَهْلٌ وَضَلَالٌ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِن قَبْلُ، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ فِيمَا هُمْ فِيهِ إِلَّا اتِّبَاعُ الْآبَاءِ فِي الْجَهَالَاتِ وَسَيَجْزِيهِمُ اللَّهُ على ذلك أتم الجزاء، قال سفيان الثوري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ}، قال: ما وعدوا من خير أو شر، وقال ابن أَسْلَمَ: لَمُوَفُّوهُمْ مِنَ الْعَذَابِ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَى مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ فَمِنْ مُؤْمِنٍ بِهِ وَمِنْ كَافِرٍ بِهِ، فَلَكَ بِمَنْ سَلَفَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قبلك يا محمد أسوة، فلا يغظنك تكذيبهم لك، وقوله تعالى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ تأجليه الْعَذَابَ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ لَقَضَى اللَّهُ بَيْنَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، ثم أخبر تَعَالَى أَنَّهُ سَيَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ مِنَ الْأُمَمِ ويجزيهم بأعمالهم فَقَالَ: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أَيْ عَلِيمٌ بِأَعْمَالِهِمْ جميعاً، جليلها وحقيرها صغيرها وكبيرها، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظُلِمُواْ} قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الرُّكُونُ إِلَى الشِّرْكِ، وَقَالَ أبو العالية: لا ترضوا بأعمالهم؛ وقال ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَا تَمِيلُوا إِلَى الَّذِينَ ظلموا؛ وهذا القول حسن، أي لا تسعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بأعمالهم، {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} أَيْ لَيْسَ لَكُمْ مَنْ دُونِهِ مَنْ وَلِيٍّ يُنْقِذُكُمْ، وَلَا ناصر يخلصكم من عذابه.

- 112 - فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ - 113 - وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ -[235]- يَأْمُرُ تَعَالَى رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد، وينهى عَنِ الطُّغْيَانِ وَهُوَ الْبَغْيُ، فَإِنَّهُ مَصْرَعَةٌ حَتَّى وَلَوْ كَانَ عَلَى مُشْرِكٍ، وَأَعْلَمَ تَعَالَى أَنَّهُ بَصِيرٌ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ لَا يَغْفُلُ عَنْ شَيْءٍ ولا يخفى عليه شيء.

- 114 - وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ - 115 - وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} قَالَ: يعنى الصبح والمغرب، وقال الحسن: هِيَ الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الصُّبْحُ في أول النهار والظهر والعصر مرة أخرى، {وزلفا من الليل} يعني صلاة العشاء (وهو قول ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وغيرهم)، وقال مجاهد وَالضَّحَّاكُ: إِنَّهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ؛ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَجِبُ مِنَ الصَّلَاةِ صَلَاتَانِ: صَلَاةٌ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَصَلَاةٌ قَبْلَ غُرُوبِهَا، وَفِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ قِيَامٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأُمَّةِ، ثُمَّ نُسِخَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، وَثَبَتَ وُجُوبُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ نُسِخَ عنه أيضاً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} يَقُولُ: إِنَّ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ السَّالِفَةَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي مِنْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي عَنْهُ أَحَدٌ اسْتَحْلَفْتُهُ فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ - وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إِلَّا غَفَرَ لَهُ»، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّهُ تَوَضَّأَ لَهُمْ كَوُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَتَوَضَّأُ وَقَالَ: «مَنْ توضأ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فيها نفسه، غفر له ما تقد من من ذنبه». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر. وقال البخاري، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السيئات}، فقال الرجل: يا رسول الله إلى هذا؟ قال: «لجميع أمتي كلهم» (أخرجه البخاري ورواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن إلا أبا داود). وروى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا مَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسْلم عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قلبُه وَلِسَانُهُ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» قَالَ، قُلْنَا: وَمَا بَوَائِقُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: «غِشُّهُ وَظُلْمُهُ، وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا حَرَامًا فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ فيتقبل مِنْهُ، وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث»، وروى الإمام أبو جعفر بن جرير عَنْ أَبِي الْيَسَرِ (كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو

الْأَنْصَارِيِّ) قَالَ: أَتَتْنِي امْرَأَةٌ تَبْتَاعُ مِنِّي بِدِرْهَمٍ تمراً، فقلت: إن في البيت تمراً أجود مِنْ هَذَا، فَدَخَلَتْ فَأَهْوَيْتُ إِلَيْهَا فَقَبَّلْتُهَا، فَأَتَيْتُ عُمَرَ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَاسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ، وَلَا تُخْبِرَنَّ أَحَدًا، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: «أخلفتَ رَجُلًا غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي أَهْلِهِ بِمِثْلِ هَذَا؟» حَتَّى ظَنَنْتُ أَنِّي مِنْ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ ساعتئذٍ"، فَأَطْرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً، فنزل جبريل، فقال: أبو اليسر: فجئت فقرأ عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فَقَالَ إِنْسَانٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَهُ خَاصَّةً أم للناس عامة؟ قال: «للناس عامة». وعن أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حسن» (أخرجه الإمام أحمد)، وفي رواية عنه قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: «إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَأَتْبِعْهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا»، قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَ الْحَسَنَاتِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)؟ قَالَ: «هِيَ أَفْضَلُ الْحَسَنَاتِ» رواه أحمد.

- 116 - فلولا كان مِنَ القرون مَنْ قبلكم أولوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ - 117 - وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ يَقُولُ تَعَالَى: فَهَلَّا وُجِدَ مِنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ، يَنْهَوْنَ عَمَّا كَانَ يَقَعُ بَيْنَهُمْ مِنَ الشُّرُورِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَقَوْلُهُ: {إِلاَّ قَلِيلاً} أَيْ قَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ مَنْ هَذَا الضَّرْبِ قَلِيلٌ لَمْ يَكُونُوا كَثِيرًا وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه وفجأة نقمته، ولهذا أمر الله تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ الشَّرِيفَةَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكِرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ»، وَقَوْلُهُ: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ} أي استمروا على ما عليه مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِنْكَارِ أُولَئِكَ حَتَّى فَجَأَهُمُ الْعَذَابُ، {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ}، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُهْلِكْ قَرْيَةً إِلَّا وَهِيَ ظَالِمَةٌ لِنَفْسِهَا، وَلَمْ يَأْتِ قَرْيَةً مُصْلِحَةً نقمته وَعَذَابُهُ قَطُّ حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الظَّالِمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} وقال: {وَمَا رَبُّكَ بظلام للعبيد}.

- 118 - وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. - 119 - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى جَعْلِ النَّاسِ كُلِّهِمْ أُمَّةً وَاحِدَةً من إيمان أو كفر، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً}، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} أَيْ وَلَا يَزَالُ الْخُلْفُ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَدْيَانِهِمْ وَاعْتِقَادَاتِ مِلَلِهِمْ وَنِحَلِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ وَآرَائِهِمْ، قال عكرمة: مختلفين في الهدى، وَقَوْلُهُ: {إِلاَّ مَن

رَّحِمَ رَبُّكَ} أَيْ إِلَّا الْمَرْحُومِينَ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ الَّذِينَ تَمَسَّكُوا بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الدِّينِ، أَخْبَرَتْهُمْ بِهِ رُسُلُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يزل ذلك دأبهم، حتى كان النبي وخاتم الرسل والأنبياء فاتبعوه وصدقوه ووازروه، ففاز بسعادة الدنيا والآخرة، لأنهم الفرقة الناجية، وَقَالَ عَطَاءٌ: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} يَعْنِي الْحَنِيفِيَّةَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَهْلُ رَحْمَةِ اللَّهِ: أَهْلُ الْجَمَاعَةِ وَإِنْ تَفَرَّقَتْ دِيَارُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ، وَأَهْلُ مَعْصِيَتِهِ أهل الفرقة، وَإِنِ اجْتَمَعَتْ دِيَارُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ. وَقَوْلُهُ: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، قال الحسن البصري: وللاختلاف خلقهم. قال ابْنِ عَبَّاسٍ: خَلَقَهُمْ فَرِيقَيْنِ كَقَوْلِهِ: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لِلرَّحْمَةِ خَلَقَهُمْ وَلَمْ يَخْلُقْهُمْ للعذاب. وَيَرْجِعُ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ وَلِلرَّحْمَةِ وَالِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي قوله: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}، قَالَ: النَّاسُ مُخْتَلِفُونَ عَلَى أَدْيَانٍ شَتَّى {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}، فَمِنْ رَحِمَ رَبُّكَ غَيْرُ مختلف، فقيل له لذلك خَلَقَهُمْ، قَالَ: خَلَقَ هَؤُلَاءِ لَجَنَّتِهِ، وَخَلَقَ هَؤُلَاءِ لناره، خلق هؤلاء لعذابه، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابن جرير، وَقَوْلُهُ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهُ لِعِلْمِهِ التَّامِّ وَحِكْمَتِهِ النَّافِذَةِ أَنَّ مِمَّنْ خَلَقَهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّارَ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمْلَأَ جَهَنَّمَ مِنْ هَذَيْنَ الثَّقَلَيْنِ (الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) وَلَهُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ وَالْحِكْمَةُ التَّامَّةُ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اخْتَصَمَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ الْجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقْطُهُمْ، وَقَالَتِ النَّارَ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، فَقَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتَ عَذَابِي أَنْتَقِمُ بِكِ مِمَّنْ أَشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا الْجَنَّةُ فَلَا يَزَالُ فِيهَا فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا يَسْكُنُ فَضْلَ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَزَالُ تَقُولُ: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} حتى يضع عليها رَبُّ الْعِزَّةِ قَدَّمَهُ فَتَقُولُ: قَطٍ قَطٍ وَعَزَّتِكُ".

- 120 - وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ تَعَالَى: وَكُلُّ أَخْبَارٍ نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قَبْلَكَ مَعَ أُمَمِهِمْ، وَكَيْفَ جَرَى لَهُمْ مِنَ المحاجات والخصومات، وما احتمله الأنبياء من الكتذيب وَالْأَذَى، وَكَيْفَ نَصَرَ اللَّهُ حِزْبَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَخَذَلَ أَعْدَاءَهُ الْكَافِرِينَ، كُلُّ هَذَا مِمَّا {نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} أي قلبك يا محمد لِيَكُونَ لَكَ بِمَنْ مَضَى مِنْ إِخْوَانِكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أُسْوَةً، وَقَوْلُهُ: {وَجَآءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} أي فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ، وكيف أنجاهم اللَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ، وَأَهْلَكَ الْكَافِرِينَ، جَاءَكَ فِيهَا قَصَصُ حَقٍّ وَنَبَأُ صِدْقٍ وَمَوْعِظَةٌ يَرْتَدِعُ بِهَا الكافرون، وذكرى يتذكر بها المؤمنون.

- 121 - وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ - 122 - وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ لِلَّذِينِ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ عَلَى وَجْهِ التَّهْدِيدِ {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أَيْ عَلَى طَرِيقَتِكُمْ وَمَنْهَجِكُمْ، {إِنَّا عَامِلُونَ} أَيْ عَلَى طَرِيقَتِنَا وَمَنْهَجِنَا، {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} أَيْ {فَسَتَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}، وقد أنجز الله لرسوله وعده وَأَيَّدَهُ، وَجَعَلَ كَلِمَتَهُ هِيَ الْعُلْيَا وَكَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

- 123 - وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ يخبر تعالى أنه عالم السماوات والأرض وأنه إليه المرجع والمآب، وسيؤتي كُلَّ عَامِلٍ عَمَلَهُ يَوْمَ الْحِسَابِ، فَلَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، فَأَمَرَ تَعَالَى بِعِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ كَافٍ مِنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَأَنَابَ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أَيْ لَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ مُكَذِّبُوكَ يَا مُحَمَّدُ بَلْ هُوَ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة وسنصرك وحزبك عليهم في الدارين.

12 - سورة يوسف

- 12 - سورة يوسف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين - 2 - إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ - 3 - نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَوْلُهُ {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} أَيْ هَذِهِ آيَاتُ الْكِتَابِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمُبِينُ أَيِ الْوَاضِحُ الْجَلِيُّ الَّذِي يُفْصِحُ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمُبْهَمَةِ وَيُفَسِّرُهَا وَيُبَيِّنُهَا {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وَذَلِكَ لأنه لُغَةَ الْعَرَبِ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَبْيَنُهَا وَأَوْسَعُهَا، وَأَكْثَرُهَا تَأْدِيَةً لِلْمَعَانِي الَّتِي تَقُومُ بِالنُّفُوسِ، فَلِهَذَا أُنْزِلَ أَشْرَفُ الْكُتُبِ، بِأَشْرَفِ اللُّغَاتِ، عَلَى أَشْرَفِ الرُّسُلِ، بِسِفَارَةِ أَشْرَفِ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَشْرَفِ بِقَاعِ الْأَرْضِ، وَابْتَدَئَ إِنْزَالُهُ فِي أَشْرَفِ شُهُورِ السَّنَةِ وَهُوَ (رَمَضَانُ) فَكَمُلَ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} بِسَبَبِ إِيحَائِنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا رَوَاهُ ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ الله صلى الله عليك وسلم لَوْ قَصَصْتَ عَلَيْنَا؟ فَنَزَلَتْ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص}، فأرادوا الْقَصَصَ فَدَلَّهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْقَصَصِ، وَمِمَّا يُنَاسِبُ ذِكْرَهُ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَدْحِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ كَافٍ عَنْ كُلِّ مَا سواه من الكتب ما رواه الإمام أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فغضب، وقال: «أمتهوِّكون فيها يا ابن الْخَطَّابِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُونَهُ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُونَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني». وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِأَخٍ لِي مِنْ قُرَيْظَةَ، فَكَتَبَ لِي جَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ أَلَا أَعْرِضُهَا عَلَيْكَ؟ قَالَ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ: فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: رَضِينَا بِاللَّهِ رِبَّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا. قَالَ: فسُرّي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ، إِنَّكُمْ حَظِّي مِنَ الأمم وأنا حظكم من النبيين» (أخرجه الإمام أحمد عن عبد الله بن ثابت).

- 4 - إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ يَقُولُ تَعَالَى: اذْكُرْ لِقَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ فِي قَصَصِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ، إِذْ قَالَ لأَبِيهِ - وأبوه هو يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ» (أخرجه البخاري وأحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما)، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: «أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ»، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: «فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ»، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: «فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فياركم فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارِكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا" (أخرجه الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحَيٌّ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى تَعْبِيرِ هَذَا الْمَنَامِ أَنَّ الْأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا عِبَارَةٌ عَنْ إِخْوَتِهِ، وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا سِوَاهُ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عِبَارَةٌ عن أمه وأبيه (رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ والثوري وعبد الرحمن بْنِ أَسْلَمَ وَقَدْ وَقَعَ تَفْسِيرُهَا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سنة على الأشهر)، ولما رَآهَا يُوسُفُ قَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ يَعْقُوبَ، فَقَالَ له أبوه: وهذا أمر مشتت يجمعه الله مِن بَعْدِ.

- 5 - قال يا بني لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ لِابْنِهِ يُوسُفَ حِينَ قَصَّ عَلَيْهِ مَا رَأَى مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَا الَّتِي تَعْبِيرُهَا خُضُوعُ إِخْوَتِهِ لَهُ وَتَعْظِيمُهُمْ إِيَّاهُ تَعْظِيمًا زَائِدًا، بِحَيْثُ يَخِرُّونَ لَهُ سَاجِدِينَ إجلالاً وَاحْتِرَامًا، فَخَشِيَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُحَدِّثَ بهذا المنام أحداً من إخوته، فيحسدونه على ذلك، فيبغون لَهُ الْغَوَائِلَ حَسَدًا مِنْهُمْ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ: {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً} أَيْ يَحْتَالُوا لَكَ حِيلَةً يُرْدُونَكَ فِيهَا، وَلِهَذَا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلْيُحَدِّثْ بِهِ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَحَوَّلْ إِلَى جَنْبِهِ الْآخَرِ، وَلْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فإنها لن تضره»، وفي الحديث الآخر: «الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ، فإذا عبرت وقعت» (رواه أحمد وبعض أصحاب السنن عن معاوية بن حيدة القشيري) وَمِنْ هَذَا يُؤْخَذُ الْأَمْرُ بِكِتْمَانِ النِّعْمَةِ حَتَّى تُوجَدَ وَتَظْهَرَ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ: «اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ الْحَوَائِجِ بِكِتْمَانِهَا، فَإِنَّ كُلَّ ذِي نعمة محسود».

- 6 - وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ لِوَلَدِهِ يُوسُفَ: إِنَّهُ كَمَا اخْتَارَكَ رَبُّكَ وَأَرَاكَ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ مَعَ الشَّمْسِ -[241]- والقمر ساجدة لك {كذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أَيْ يَخْتَارُكَ وَيَصْطَفِيكَ لِنُبُوَّتِهِ، {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} قال مجاهد: يَعْنِي تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا، {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أَيْ بِإِرْسَالِكَ وَالْإِيحَاءِ إِلَيْكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ} وَهُوَ الْخَلِيلُ، {وَإِسْحَاقَ} وَلَدِهِ وَهُوَ الذَّبِيحُ فِي قَوْلٍ، وَلَيْسَ بِالرَّجِيحِ {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ هُوَ أعلم حيث يجعل رسالته.

- 7 - لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ - 8 - إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ - 9 - اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ - 10 - قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وألقوه فِي غيابت الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ يَقُولُ تَعَالَى: لَّقَدْ كَانَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ وخبره مع إخوته {آيَاتٌ} أي عبرة وموعظة {لِّلسَّائِلِينَ} عن ذلك، فإنه خبر عجيب يستحق أن يخبر عَنْهُ، {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} أي حلفوا بما يَظُنُّونَ وَاللَّهِ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ، يَعْنُونُ بِنْيَامِينَ، وَكَانَ شَقِيقَهُ لِأُمِّهِ {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أَيْ جَمَاعَةٌ، فَكَيْفَ أَحَبَّ ذَيْنِكَ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرَ مِنَ الْجَمَاعَةِ؟ {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} يَعْنُونَ فِي تَقْدِيمِهِمَا عَلَيْنَا، وَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمَا أَكْثَرَ مِنَّا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى نُبُوَّةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ وَيَحْتَاجُ مُدَّعِي ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَمْ يَذْكُرُوا سِوَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ}، وَهَذَا فِيهِ احْتِمَالٌ، لِأَنَّ بُطُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُمُ الْأَسْبَاطُ، كَمَا يُقَالُ لِلْعَرَبِ قَبَائِلُ وَلِلْعَجَمِ شُعُوبٌ، يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَذَكَرَهُمْ إِجْمَالًا لِأَنَّهُمْ كَثِيرُونَ، وَلَكِنَّ كُلَّ سِبْطٍ مِنْ نَسْلِ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَعْيَانِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} يَقُولُونَ: هَذَا الَّذِي يُزَاحِمُكُمْ فِي مَحَبَّةِ أَبِيكُمْ لَكُمْ، أَعْدِمُوهُ مِنْ وَجْهِ أبيكم، ليخلوا لكم وحدكم، إما بأن تقتلوه، أو أن تُلْقُوهُ فِي أَرْضٍ مِنَ الْأَرَاضِي تَسْتَرِيحُوا مِنْهُ وتخلوا أنتم بأبيكم، {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ}، فَأَضْمَرُوا التَّوْبَةَ قَبْلَ الذَّنْبِ {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ}، قال قتادة: وكان أَكْبَرَهُمْ وَاسْمُهُ رُوبِيلُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الَّذِي قَالَ ذَلِكَ يَهُوذَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ شَمْعُونُ {لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ} أَيْ لَا تَصِلُوا فِي عَدَاوَتِهِ وَبُغْضِهِ إِلَى قَتْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَبِيلٌ إِلَى قَتْلِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يُرِيدُ مِنْهُ أَمْرًا لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهِ وَإِتْمَامِهِ، مِنَ الْإِيحَاءِ إِلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، وَمِنَ التَّمْكِينِ لَهُ بِبِلَادِ مِصْرَ وَالْحُكْمِ بِهَا، فَصَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْهُ بِمَقَالَةِ رُوبِيلَ فِيهِ، وَإِشَارَتِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُلْقُوهُ {فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} وَهُوَ أَسْفَلَهُ، قَالَ قَتَادَةُ: وَهِيَ بِئْرُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} أي المارة من المسافرين فتستريحوا منه بِهَذَا وَلَا حَاجَةَ إِلَى قَتْلِهِ، {إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} أَيْ إِنْ كُنْتُمْ عَازِمِينَ عَلَى مَا تقولون، قال محمد بن إسحاق: لَقَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنْ قَطِيعَةِ الرحم، وعقوق الوالد، وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له، وليفرقوا بينه وبين أبيه وَحَبِيبِهِ عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ

ورقة عظمه، مع مكانه من الله ممن أحبه طفلاً صغيراً، وبين ابنه عَلَى ضَعْفِ قُوَّتِهِ وَصِغَرِ سَنِّهِ وَحَاجَتِهِ إِلَى لُطْفِ وَالِدِهِ وَسُكُونِهِ إِلَيْهِ، يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَقَدِ احْتَمَلُوا أَمْرًا عَظِيمًا.

- 11 - قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ - 12 - أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ لَمَّا تواطؤوا عَلَى أَخْذِهِ وَطَرْحِهِ فِي الْبِئْرِ كَمَا أَشَارَ به عَلَيْهِمْ أَخُوهُمُ الْكَبِيرُ (رُوبِيلَ) جَاءُوا أَبَاهُمْ يَعْقُوبَ عليه السلام فقالوا: ما بالك {لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}؟ وهذه توطئة وَدَعْوَى وَهُمْ يُرِيدُونَ خِلَافَ ذَلِكَ لِمَا لَهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْحَسَدِ لِحُبِّ أَبِيهِ لَهُ، {أَرْسِلْهُ مَعَنَا} أَيِ ابْعَثْهُ مَعَنَا {غَدًا نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ}، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ بِالْيَاءِ، {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ}، قَالَ ابن عباس: يسعى وينشط، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} يَقُولُونَ: وَنَحْنُ نَحْفَظُهُ وَنَحُوطُهُ من أجلك.

- 13 - قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ - 14 - قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذًا لَخَاسِرُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ يَعْقُوبَ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِيهِ فِي جَوَابِ مَا سَأَلُوا مِنْ إِرْسَالِ يُوسُفَ مَعَهُمْ إِلَى الرَّعْيِ فِي الصَّحْرَاءِ: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ} أَيْ يَشُقُّ عليَّ مُفَارَقَتُهُ مُدَّةَ ذَهَابِكُمْ بِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ، وَذَلِكَ لِفَرْطِ مَحَبَّتِهِ لَهُ لِمَا يَتَوَسَّمُ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، وَشَمَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَالْكَمَالِ فِي الْخُلُقِ وَالْخَلْقِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}، يَقُولُ: وَأَخْشَى أَنْ تَشْتَغِلُوا عَنْهُ برميكم ورعيكم، فَيَأْتِيهِ ذِئْبٌ فَيَأْكُلُهُ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ، فَأَخَذُوا مِنْ فَمِهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَجَعَلُوهَا عُذْرَهُمْ فِيمَا فعلوه، وقالوا مجيبين له عَنْهَا فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} يَقُولُونَ: لَئِنْ عَدَا عَلَيْهِ الذِّئْبُ فَأَكَلَهُ مِنْ بَيْنِنَا وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ، إِنَّا إذًا لَهَالِكُونَ عَاجِزُونَ.

- 15 - فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يَقُولُ تَعَالَى: فَلَمَّآ ذَهَبَ بِهِ إِخْوَتُهُ مِنْ عِنْدِ أَبِيهِ بَعْدَ مُرَاجَعَتِهِمْ لَهُ فِي ذَلِكَ، {وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} هَذَا فِيهِ تَعْظِيمٌ لِمَا فَعَلُوهُ، أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى إِلْقَائِهِ فِي أَسْفَلِ ذَلِكَ الْجُبِّ، وَقَدْ أَخَذُوهُ مِنْ عِنْدِ أَبِيهِ فِيمَا يُظْهِرُونَهُ لَهُ إِكْرَامًا لَهُ وَبَسْطًا وَشَرْحًا لِصَدْرِهِ وَإِدْخَالًا لِلسُّرُورِ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ: إِنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَعَثَهُ مَعَهُمْ ضَمَّهُ إِلَيْهِ وقبله ودعا له، فذكر السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ إِكْرَامِهِمْ له وإظهار الْأَذَى لَهُ إِلَّا أَنْ غَابُوا عَنْ عَيْنِ أَبِيهِ، وَتَوَارَوْا عَنْهُ، ثُمَّ شَرَعُوا يُؤْذُونَهُ بِالْقَوْلِ مِنْ شَتْمٍ وَنَحْوِهُ، وَالْفِعْلِ مِنْ ضَرْبٍ وَنَحْوِهُ، ثم جاءوا به إلى ذلك الجب (قال قتادة: هي بئر بيت المقدس، وقال أبو زيد: بحيرة طبرية، وروي أنه أقام في الجب ثلاثة أيام) الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَى رَمْيِهِ فِيهِ فَرَبَطُوهُ بِحَبْلٍ ودلوه فيه، فَسَقَطَ فِي الْمَاءِ، فَغَمَرَهُ، فَصَعِدَ إِلَى صَخْرَةٍ تكون

في وسطه فقام فوقها، وقوله: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يشعرون}، يقول تعالى ذاكراً لطفته ورحمته، وَإِنْزَالَهُ الْيُسْرَ فِي حَالِ الْعُسْرِ، إِنَّهُ أَوْحَى إِلَى يُوسُفَ فِي ذَلِكَ الْحَالِ الضَّيِّقِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ، وَتَثْبِيتًا لَهُ: إِنَّكَ لَا تَحْزَنْ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ، فَإِنَّ لَكَ مِنْ ذَلِكَ فَرَجًا ومخرجاً حسناً، وسنصرك اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَيُعْلِيكَ وَيَرْفَعُ دَرَجَتَكَ، وَسَتُخْبِرُهُمْ بِمَا فَعَلُوا مَعَكَ مِنْ هَذَا الصَّنِيعِ، وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} قال مجاهد وقتادة: بِإِيحَاءِ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَتُنْبِئُهُمْ بِصَنِيعِهِمْ هَذَا فِي حَقِّكَ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَكَ ولا يشعرون بك.

- 16 - وجاؤوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ - 17 - قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ - 18 - وجاؤوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ إِخْوَةُ يُوسُفَ بَعْدَ مَا أَلْقَوْهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ أَنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ يَبْكُونَ وَيُظْهِرُونَ الْأَسَفَ وَالْجَزَعَ عَلَى يُوسُفَ، وَيَتَغَمَّمُونَ لِأَبِيهِمْ، وَقَالُوا مُعْتَذِرِينَ عَمَّا وَقَعَ فِيمَا زَعَمُوا: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أَيْ نَتَرَامَى، {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا} أَيْ ثِيَابِنَا وَأَمْتِعَتِنَا، {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ جزع منه وحذر عليه، وقوله: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} تَلَطُّفٌ عَظِيمٌ فِي تَقْرِيرِ مَا يُحَاوِلُونَهُ، يَقُولُونَ: وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تُصَدِّقُنَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَوْ كُنَّا عِنْدَكَ صَادِقِينَ، فَكَيْفَ وَأَنْتَ تَتَّهِمُنَا فِي ذَلِكَ لِأَنَّكَ خَشِيتَ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ؟ فَأَنْتَ مَعْذُورٌ فِي تَكْذِيبِكَ لَنَا، لِغَرَابَةِ مَا وَقَعَ، وَعَجِيبِ مَا اتَّفَقَ لَنَا في أمرنا هذا، {وجاؤوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أَيْ مَكْذُوبٍ مُفْتَرَى، وَهَذَا مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُؤَكِّدُونَ بِهَا مَا تمالأوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَكِيدَةِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى سخلة (ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ)، فَذَبَحُوهَا وَلَطَّخُوا ثَوْبَ يُوسُفَ بِدَمِهَا، مُوهِمِينَ أَنَّ هَذَا قَمِيصُهُ الَّذِي أَكَلَهُ فِيهِ الذِّئْبُ، وَقَدْ أَصَابَهُ مِنْ دَمِهِ، وَلَكِنَّهُمْ نَسُوا أَنَّ يَخْرِقُوهُ، فَلِهَذَا لَمْ يَرُجْ هَذَا الصَّنِيعُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ، بَلْ قَالَ لَهُمْ مُعْرِضًا عَنْ كَلَامِهِمْ إِلَى ما وقع في نفسه من لبسهم عَلَيْهِ: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}، أَيْ فَسَأَصْبِرُ صَبْرًا جَمِيلًا عَلَى هَذَا الأمر الذي اتَّفَقْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُفَرِّجَهُ اللَّهُ بِعَوْنِهِ وَلُطْفِهِ، {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أَيْ عَلَى ما تذكرون من الكذب والمحال، قال ابن عباس: {وجاؤوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} قَالَ: لَوْ أَكَلَهُ السبع لخرق القميص، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّبْرُ الْجَمِيلُ الَّذِي لَا جَزَعَ فيه، وقد روي مرفوعاً عن (حبان بن أبي حبلة) قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} فَقَالَ: صَبْرٌ لا شكوى فيه. وقال الثوري: ثلاث من الصبر: أن لا تُحَدِّثَ بِوَجَعِكَ، وَلَا بِمُصِيبَتِكَ، وَلَا تُزَكِّيَ نَفْسَكَ، وذكر البخاري ههنا حديث عائشة فِي الْإِفْكِ حَتَّى ذَكَرَ قَوْلَهَا: وَاللَّهِ لَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تصفون}.

- 19 - وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا

يَعْمَلُونَ - 20 - وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا جرى ليوسف عليه السلام في الجب حِينَ أَلْقَاهُ إِخْوَتُهُ، وَتَرَكُوهُ فِي ذَلِكَ الْجُبِّ وحيداً فريداً، فمكث عليه السلام في البئر ثلاثة أيام، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا أَلْقَاهُ إِخْوَتُهُ في البئر جلسوا حول البئر يومهم ذلك ينظرون ماذا يَصْنَعُ وَمَا يُصْنَعُ بِهِ، فَسَاقَ اللَّهُ لَهُ سيارة، فنزلوا قريباً من تلك البئر وأرسولا وَارِدَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَتَطَلَّبُ لَهُمُ الْمَاءَ، فَلَمَّا جاء ذلك الْبِئْرَ وَأَدْلَى دَلْوَهُ فِيهَا تَشَبَّثَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا، فَأَخْرَجَهُ وَاسْتَبْشَرَ بِهِ، وَقَالَ: {يَا بشرى هذا غُلاَمٌ} أي يا بشراي، {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أَيْ وَأَسَرَّهُ الْوَارِدُونَ مِنْ بَقِيَّةِ السيارة، وقالوا: اشتريناه مِنْ أَصْحَابِ الْمَاءِ مَخَافَةَ أَنْ يُشَارِكُوهُمْ فِيهِ إِذَا عَلِمُوا خَبَرَهُ (قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جرير وهذا أحد الأقوال في الآية)، وقال ابن عباس: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً}: يَعْنِي إِخْوَةَ يُوسُفَ أَسَرُّوا شَأْنَهُ، وَكَتَمُوا أَنْ يَكُونَ أَخَاهُمْ، وَكَتَمَ يُوسُفُ شَأْنَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَقْتُلَهُ إِخْوَتُهُ، وَاخْتَارَ الْبَيْعَ، فَذَكَرَهُ إِخْوَتُهُ لِوَارِدِ الْقَوْمِ، فَنَادَى أَصْحَابَهُ: {يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ} يُبَاعُ، فَبَاعَهُ إِخْوَتُهُ؛ وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي عليم بما يَفْعَلُهُ إِخْوَةُ يُوسُفَ وَمُشْتَرُوهُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَغْيِيرِ ذَلِكَ وَدَفْعِهِ، وَلَكِنْ لَهُ حِكْمَةٌ وَقَدَرٌ سَابِقٌ، فَتَرَكَ ذَلِكَ لِيُمْضَى مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالمين}، وَقَوْلُهُ: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} يَقُولُ تَعَالَى: وَبَاعَهُ إِخْوَتُهُ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ، وَالْبَخْسُ: هُوَ النَّقْصُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رهقا} أي اعتاض عنه إخوته بثمن قليل، ومع ذلك كانوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ رَغْبَةٌ فِيهِ بَلْ لَوْ سُئِلُوهُ بِلَا شَيْءٍ لَأَجَابُوا، والضمير فِي قَوْلِهِ: {وَشَرَوْهُ} عَائِدٌ عَلَى إِخْوَةِ يُوسُفَ (وهو رأى ابن عباس ومجاهد والضحاك)، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلْ هُوَ عَائِدٌ عَلَى السَّيَّارَةِ؛ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} إِنَّمَا أَرَادَ إِخْوَتَهُ لَا أُولَئِكَ السَّيَّارَةَ، لِأَنَّ السَّيَّارَةَ اسْتَبْشَرُوا بِهِ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً، وَلَوْ كانوا فيه زاهدين لما اشتروه، فترجح من هذا أن الضمير في {شَرَوْهُ} إنما هو لإخوته، وقوله: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} عن ابن مسعود رضي الله عنه: باعوه بعشرين درهماً، وقال عكرمة: أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: {وَكَانُواْ فيه من الزاهدين} ذلك أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا نُبُوَّتَهُ وَمَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.

- 21 - وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - 22 - وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى بِأَلْطَافِهِ بِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَيَّضَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ، حَتَّى اعْتَنَى بِهِ وَأَكْرَمَهُ، وَأَوْصَى أَهْلَهُ بِهِ وَتَوَسَّمَ فِيهِ الخير والصلاح، فَقَالَ لِاِمْرَأَتِهِ: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً}، وَكَانَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مصر عزيزها وهو الوزير بها، عن ابن عباس: وكان اسمه (قطفير) وَكَانَ عَلَى خَزَائِنِ مِصْرَ، وَكَانَ

الْمَلِكُ يومئذٍ (الرَّيَّانَ بْنَ الْوَلِيدِ) رَجُلٌ مِنَ العماليق، قال: واسم امرأته (راعيل)، وقال غيره: اسمها (زليخا)، وقال عبد الله بن مسعود: أَفَرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: عَزِيزُ مِصْرَ حِينَ قَالَ لِاِمْرَأَتِهِ: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي قَالَتْ لِأَبِيهَا: {يا أبت استأجره} الآية، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ بْنَ الخطاب رضي الله عنهما. يقول تعالى: كما أنقذنا يوسف من إخوته {كذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} يَعْنِي بِلَادَ مِصْرَ {وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ هُوَ تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} أَيْ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَلَا يُرَدُّ، وَلَا يُمَانَعُ، وَلَا يُخَالَفُ بَلْ هُوَ الْغَالِبُ لِمَا سواه، قال سعيد بن جبير: أَيْ فَعَّالٌ لِمَا يَشَاءُ، وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} يَقُولُ: لَا يَدْرُونَ حِكْمَتَهُ في خلقه وتلطفه وفعله لِمَا يُرِيدُ. وَقَوْلُهُ: {وَلَمَّا بَلَغَ} أَيْ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {أَشُدَّهُ} أَيِ اسْتُكْمِلَ عَقْلُهُ وَتَمَّ خلقه، {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} يعني النبوة، حَبَاهُ بِهَا بَيْنَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ، {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أَيْ إِنَّهُ كَانَ مُحْسِنًا فِي عَمَلِهِ عاملاً بطاعة الله تَعَالَى، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَلَغَ فِيهَا أَشُدَّهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقتادة: ثلاث وثلاثون سنة، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عشرون، وقال الحسن: أربعون سنة، وقيل غير ذلك (قال عكرمة: خمس وعشرون، وَقَالَ السُّدِّيُّ: ثَلَاثُونَ سَنَةً، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: ثماني عشرة سنة، ولعل ما ذهب إليه الحسن البصري هو الأرجح)، والله أعلم.

- 23 - وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ الَّتِي كَانَ يُوسُفُ فِي بَيْتِهَا بِمِصْرَ، وَقَدْ أوصها زوجها بإكرامه، فراودته عَن نَّفْسِهِ أَيْ حَاوَلَتْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَدَعَتْهُ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا أَحَبَّتْهُ حُبًّا شَدِيدًا لِجَمَالِهِ وَحُسْنِهِ وَبَهَائِهِ، فَحَمَلَهَا ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَجَمَّلَتْ لَهُ وغلَّقت عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ وَدَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ}، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الامتناع و {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}، وَكَانُوا يُطْلِقُونَ اَلرَّبَّ عَلَى السَّيِّدِ وَالْكَبِيرِ، أَيْ إِنَّ بَعْلَكِ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ أَيْ مَنْزِلِي، وَأَحْسَنَ إِلَيَّ فَلَا أُقَابِلُهُ بِالْفَاحِشَةِ فِي أَهْلِهِ، {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون}، وقد اختلف القرّاء في قوله: {هَيْتَ لَكَ} فَقَرَأَهُ كَثِيرُونَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الياء وفتح التاء، قال ابن عباس ومجاهد: معناه أنها تدعوه إلى نفسها، وقال البخاري، قال عكرمة: {هَيْتَ لَكَ}، أي هلم لك بالحورانية، هكذا ذكره معلقاً، وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَحْكِي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ يَعْنِي {هَيْتَ لَكَ} وَيَقُولُ: هِيَ لُغَةٌ لِأَهْلِ حَوْرَانَ، وَقَعَتْ إلى أهل الحجاز، ومعناها: تعال، وقال أبو عبيدة: سَأْلَتُ شَيْخًا عَالِمًا مِنْ أَهْلِ حَوْرَانَ، فَذَكَرَ أَنَّهَا لُغَتُهُمْ يَعْرِفُهَا، وَاسْتَشْهَدَ الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ على هذه القراءة بقول الشاعر (قالها لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه): أبلغ أمير المؤمنـ * ين أذى الْعِرَاقِ إِذَا أَتَيْنَا إِنَّ الْعِرَاقَ وَأَهْلَهُ * عُنُقٌ إِلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا

يقول: فتعال واقترب، وقرأ آخَرُونَ: {هئتُ لَكَ} بِكَسْرِ الْهَاءِ وَالْهَمْزَةِ وَضَمِّ التَّاءِ، بِمَعْنَى تَهَيَّأْتُ لَكَ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: هئت بالأمر بِمَعْنَى تَهَيَّأْتُ لَّكَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ أبو عمرو والكسائي ينكران هذه القراءة، وَقَالَ آخَرُونَ: {هِيتُ لَكَ} بِكَسْرِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الياء وضم التاء.

- 24 - وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الناس وعباراتهم في هذا المقام، فقيل: المراد بهمه بها خَطَرَاتِ حَدِيثِ النَّفْسِ، حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ بَعْضِ أهل التحقيق؛ ثم أورد البغوي ههنا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا همَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنَّ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَإِنْ همَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً، فَإِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي، فَإِنْ عملها فاكتبوها بمثلها" (هذا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَهُ أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ منها هذا، قاله ابن كثير)، وَقِيلَ: همَّ بِضَرْبِهَا، وَقِيلَ: تَمَنَّاهَا زَوْجَةً؛ وَقِيلَ: هم بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، أَيْ فلم يهم بها (حكاه ابن جرير وغيره فكأن في الآية تقديماً وتأخيراً: أي لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها، فلم يقع الهمُّ لوجود البرهان وهو عصمة الله عز وجل له. وانظر ما حققناه في كتابنا (النبوة والأنبياء) صفحة (78) حول هذا البحث فإنه دقيق ونفيس فقد أوردنا عشرة وجوه على عصمته عليه السلام)، وَأَمَّا الْبُرْهَانُ الَّذِي رَآهُ فَفِيهِ أَقْوَالٌ أَيْضًا، قيل: رأى صورة أبيه يعقوب عاضاً على إصبعه بفمه؛ وقيل: رأى خيال الملك يعني سيده، وقال ابن جرير عن محمد ابن كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: رَفَعَ يُوسُفُ رَأْسَهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ، فَإِذَا كِتَابٌ فِي حَائِطِ الْبَيْتِ: {لا تقربوا الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً}؛ وقيل: ثَلَاثُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: {إِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين} الآية، وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} الآية، وَقَوْلُهُ: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أي آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ الله تزجره عَمَّا كَانَ همَّ بِهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صُورَةَ يَعْقُوبَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صُورَةَ الْمَلِكِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا رَآهُ مَكْتُوبًا مِنَ الزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا حُجَّةَ قَاطِعَةٌ عَلَى تَعْيِينِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُطْلَقَ، كما قال الله تعالى، وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} أَيْ كَمَا أَرَيْنَاهُ بُرْهَانًا صَرَفَهُ عَمَّا كَانَ فِيهِ كذلك نفيه السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} أَيْ مِنَ الْمُجْتَبِينَ الْمُطَهَّرِينَ الْمُخْتَارِينَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.

- 25 - وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أراد بأهلك سوء إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 26 - قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ - 27 - وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ - 28 - فَلَمَّا رَأَى

قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ - 29 - يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِهِمَا حِينَ خَرَجَا يَسْتَبِقَانِ إِلَى الْبَابِ، يُوسُفُ هَارِبٌ، وَالْمَرْأَةُ تَطْلُبُهُ لِيَرْجِعَ إِلَى الْبَيْتِ، فَلَحِقَتْهُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ، فَأَمْسَكَتْ بِقَمِيصِهِ مِنْ وَرَائِهِ، فَقَدَّتْهُ قَدًّا فَظِيعًا، يُقَالُ: إِنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ، وَاسْتَمَرَّ يُوسُفُ هَارِبًا ذَاهِبًا، وَهِيَ فِي إِثْرِهِ، فَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا وَهُوَ زَوْجُهَا عِنْدَ الْبَابِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ خَرَجَتْ مِمَّا هِيَ فِيهِ بِمَكْرِهَا وَكَيْدِهَا، وَقَالَتْ لِزَوْجِهَا مُتَنَصِّلَةً وَقَاذِفَةً يُوسُفَ بَدَائَهَا: {مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} أَيْ فَاحِشَةً، {إِلاَّ أَن يُسْجَنَ} أَيْ يُحْبَسَ، {أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ يُضْرَبَ ضَرْبًا شَدِيدًا مُوجِعًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ انْتَصَرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْحَقِّ، وَتَبْرَّأَ مِمَّا رَمَتْهُ بِهِ مِنَ الخيانة، و {قَالَ} بَارًّا صَادِقًا: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي}، وَذَكَرَ أَنَّهَا اتَّبَعَتْهُ تَجْذِبُهُ إِلَيْهَا حَتَّى قَدَّتْ قَمِيصَهُ، {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قَبْلُ} أَيْ مِنْ قُدَّامِهِ {فَصَدَقَتْ} أي في قولها إنه راودها عَلَى نَفْسِهَا، لِأَنَّهُ يَكُونُ لَمَّا دَعَاهَا وَأَبَتْ عَلَيْهِ دَفَعَتْهُ فِي صَدْرِهِ فَقَدَّتْ قَمِيصَهُ فَيَصِحُّ مَا قَالَتْ، {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} وَذَلِكَ يَكُونُ كما وقع لما هرب منها، وطلبته، أَمْسَكَتْ بِقَمِيصِهِ مِنْ وَرَائِهِ لِتَرُدَّهُ إِلَيْهَا، فَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الشَّاهِدِ: هَلْ هُوَ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ؟ عَلَى قولين لعلماء السلف، فقال ابن عباس: كان من خاصة الملك وكان رجلاً ذا لحية، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ ابْنَ عمها، وقال العوفي عن ابن عباس: كَانَ صَبِيًّا فِي الْمَهْدِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ الحسن وسعيد بن جبير والضحاك: أَنَّهُ كَانَ صَبِيًّا فِي الدَّارِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جرير. وقد ورد فيه حديث مرفوع، رواه ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ صِغَارٌ: ابْنُ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَصَاحِبُ جريج، وعيسى بن مريم". وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} أي لما تَحَقَّقَ زَوْجُهَا صِدْقَ يُوسُفَ وَكَذِبَهَا فِيمَا قَذَفَتْهُ وَرَمَتْهُ بِهِ {قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ} أَيْ إِنَّ هَذَا الْبُهْتَ وَاللَّطْخَ الَّذِي لَطَّخْتِ عِرْضَ هَذَا الشَّابِّ بِهِ مِنْ جُمْلَةِ كَيْدِكُنَّ {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}، ثُمَّ قَالَ آمِرًا لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السلام بكتمان ما وقع: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أَيِ اضْرِبْ عَنْ هذا صفحاً أي فَلَا تَذْكُرْهُ لِأَحَدٍ، {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ} يَقُولُ لِاِمْرَأَتِهِ، وَقَدْ كَانَ لَيِّنَ الْعَرِيكَةِ سَهْلًا، أَوْ أَنَّهُ عَذَرَهَا لِأَنَّهَا رَأَتْ مَا لَا صَبْرَ لَهَا عنه، فقال لها: استغفر لِذَنْبِكِ أَيِ الَّذِي وَقَعَ مِنْكِ مِنْ إِرَادَةِ السُّوءِ بِهَذَا الشَّابِّ ثُمَّ قَذْفِهِ بِمَا هُوَ بريء منه {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}.

- 30 - وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ - 31 - فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كريم

- 32 - قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وليكونن مِنَ الصَّاغِرِينَ - 33 - قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ - 34 - فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ خَبَرَ يُوسُفَ وَاِمْرَأَةِ الْعَزِيزِ شَاعَ فِي الْمَدِينَةِ وَهِيَ مِصْرُ حَتَّى تحدث به الناس، {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة} نساء الكبراء والأمراء يُنْكِرْنَ عَلَى {امْرَأَةِ الْعَزِيزِ} وَهُوَ الْوَزِيرُ وَيَعِبْنَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ}: أي تدعوه إِلَى نَفْسِهَا، {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً} أَيْ قَدْ وَصَلَ حُبُّهُ إِلَى شَغَافِ قَلْبِهَا وَهُوَ غِلَافُهُ، قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّغَفُ الْحُبُّ الْقَاتِلُ، وَالشَّغَفُ دُونَ ذَلِكَ، وَالشَّغَافُ حِجَابُ الْقَلْبِ، {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أَيْ فِي صَنِيعِهَا هَذَا مِنْ حُبِّهَا فَتَاهَا وَمُرَاوَدَتِهَا إِيَّاهُ عَنْ نَفْسِهِ، {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ}، قَالَ بَعْضُهُمْ: بقولهن ذهب الحب بها. وقال محمد بن إسحاق: بَلَغَهُنَّ حُسن يُوسُفَ فَأَحْبَبْنَ أَنْ يَرَيْنَهُ، فَقُلْنَ ذَلِكَ لِيَتَوَصَّلْنَ إِلَى رُؤْيَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} أَيْ دَعَتْهُنَّ إِلَى مَنْزِلِهَا لِتُضَيِّفَهُنَّ {وَأَعْتَدَتْ لهن متكأ}، قال ابن عباس: هُوَ الْمَجْلِسُ الْمُعَدُّ فِيهِ مَفَارِشُ وَمَخَادُّ وَطَعَامٌ فِيهِ مَا يُقْطَعُ بِالسَّكَاكِينِ مَنْ أُتْرُجٍّ وَنَحْوِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً}، وَكَانَ هَذَا مَكِيدَةً مِنْهَا وَمُقَابَلَةً لَهُنَّ فِي احْتِيَالِهِنَّ عَلَى رُؤْيَتِهِ، {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ خَبَّأَتْهُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، {فَلَمَّا} خَرَجَ وَ {رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أَيْ أَعَظَمْنَ شَأْنَهُ وَأَجْلَلْنَ قَدْرَهُ، وَجَعَلْنَ يُقَطِّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ دَهَشًا بِرُؤْيَتِهِ، وَهُنَّ يَظْنُنَّ أَنَّهُنَّ يُقَطِّعْنَ الْأُتْرُجَّ بِالسَّكَاكِينِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُنَّ حَزَّزْنَ أَيْدِيَهُنَّ بِهَا، قَالَهُ غير واحد؛ وقد ذكر غير واحد أنها قالت لهن بعدما أَكَلْنَ وَطَابَتْ أَنْفُسُهُنَّ ثُمَّ وَضَعَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ أُتْرُجًّا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا: هَلْ لكنَّ فِي النَّظَرِ إِلَى يُوسُفَ؟ قُلْنَ: نَعَمْ، فَبَعَثَتْ إِلَيْهِ تَأْمُرُهُ أَنِ اخْرُجْ إِلَيْهِنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ جَعَلْنَ يَقْطَعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، ثُمَّ أَمَرَتْهُ أَنْ يرجع ليرينه مقبلاً ومدبراً، فرجع وَهُنَّ يُحَزُّزْنَ فِي أَيْدِيهِنَّ، فَلَمَّا أَحْسَسْنَ بِالْأَلَمِ، جَعَلْنَ يُوَلْوِلْنَ، فَقَالَتْ: أَنْتُنَّ مِنْ نظرةٍ وَاحِدَةٍ فعلتن هذا، فكيف ألام أنا؟ {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}، ثُمَّ قُلْنَ لَهَا: وما نرى عليك من لوم بعد هذا الَّذِي رَأَيْنَا، لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَرَيْنَ فِي الْبَشَرِ شبيهه ولا قريباً منه، فإنه عليه السلام كَانَ قَدْ أُعْطِي شَطْرَ الْحُسْنِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ قَالَ: «فَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ». {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} تَقُولُ: هَذَا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق أن يُحَبَّ لِجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} أَيْ فَامْتَنَعَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا رَأَيْنَ جَمَالَهُ الظَّاهِرَ أَخْبَرَتْهُنَّ بِصِفَاتِهِ الْحَسَنَةِ الَّتِي تَخْفَى عَنْهُنَّ وَهِيَ الْعِفَّةُ مَعَ هَذَا الْجَمَالِ، ثُمَّ قالت تتوعده: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِّن الصَّاغِرِينَ}، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَعَاذَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السلام من شرهن وكيدهن، و {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} أَيْ مِنَ الْفَاحِشَةِ، {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أَيْ إِنْ وَكَّلْتَنِي إِلَى نفسي فليس لي منها قُدْرَةٌ وَلَا أَمَلِكُ لَهَا ضُرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، أَنْتَ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْكَ التُّكْلَانُ، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين فاستجاب لَهُ رَبُّهُ} الآية، وَذَلِكَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَصَمَهُ اللَّهُ عِصْمَةً عَظِيمَةً وَحَمَاهُ، فَامْتَنَعَ مِنْهَا أَشَدَّ

الِامْتِنَاعِ، وَاخْتَارَ السِّجْنَ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا فِي غاية مقامات الكمال، أنه من شَبَابِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ تَدْعُوهُ سَيِّدَتُهُ وَهِيَ امْرَأَةُ عَزِيزِ مِصْرَ، وَهِيَ مَعَ هَذَا فِي غَايَةِ الْجَمَالِ وَالْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ، وَيَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَخْتَارُ السِّجْنَ عَلَى ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلاّ ظله»، وعدَّ منها «وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أخاف الله»، الحديث.

- 35 - ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ يَقُولُ تَعَالَى: ثُمَّ ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِيمَا رَأَوْهُ أَنَّهُمْ يَسْجُنُونَهُ إِلَى حِينٍ أَيْ إِلَى مُدَّةٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا عَرَفُوا بَرَاءَتَهُ وَظَهَرَتِ الْآيَاتُ، وَهِيَ الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته وكأنهم - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِنَّمَا سَجَنُوهُ لَمَّا شَاعَ الْحَدِيثُ إيهاماً أنه رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا وَأَنَّهُمْ سَجَنُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمَّا طَلَبَهُ الْمَلِكُ الْكَبِيرُ فِي آخِرِ المدة امتنع من الخروج، حتى تبين بَرَاءَتُهُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَلَمَّا تَقَرَّرَ ذَلِكَ خَرَجَ وَهُوَ نَقِيُّ الْعِرْضِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ. وَذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّهُمْ إِنَّمَا سَجَنُوهُ لِئَلَّا يَشِيعَ مَا كَانَ مِنْهَا فِي حَقِّهِ وَيَبْرَأَ عِرْضُهُ فَيَفْضَحَهَا.

- 36 - وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أَحَدُهُمَا سَاقِيَ الْمَلِكِ وَالْآخَرُ خَبَّازَهُ، قال السدي: كان سَبَبُ حَبْسِ الْمَلِكِ إِيَّاهُمَا أَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّهُمَا تَمَالَآ عَلَى سَمِّهِ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَكَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدِ اشْتُهِرَ فِي السِّجْنِ بالجود والأمانة، وصدق الحديث، وكثرة العبادة، ومعرفة التعبير، والإحسان إلى أهل السجن، وَلَمَّا دَخَلَ هَذَانِ الْفَتَيَانِ إِلَى السِّجْنِ تَآلَفَا بِهِ وَأَحَبَّاهُ حُبًّا شديداًَ، وَقَالَا لَهُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَحْبَبْنَاكَ حُبًّا زَائِدًا، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا، إِنَّهُ مَا أَحَبَّنِي أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ عليَّ مِنْ مَحَبَّتِهِ ضَرَرٌ، أَحَبَّتْنِي عَمَّتِي فَدَخَلَ عليَّ الضَّرَرُ بِسَبَبِهَا، وَأَحَبَّنِي أَبِي فأُوذيت بِسَبَبِهِ، وَأَحَبَّتْنِي امْرَأَةُ الْعَزِيزِ فَكَذَلِكَ، فَقَالَا: وَاللَّهِ مَا نَسْتَطِيعُ إِلَّا ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُمَا رَأَيَا مَنَامًا، فَرَأَى السَّاقِي أَنَّهُ يَعْصِرُ خَمْرًا، يَعْنِي عِنَبًا، قال الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} يَعْنِي عِنَبًا، قَالَ: وَأَهْلُ عَمَّانَ يُسَمُّونَ الْعِنَبَ خمراً، وقال عكرمة: قال له إني رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبة من عنب فنبتت، فخرج فيها عناقيد، فعصرتهن ثم سقيتهن الملك فقال: تَمْكُثُ فِي السِّجْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتَسْقِيَهُ خَمْرًا، وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ الْخَبَّازُ: {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} الآية، والمشهور عند الأكثرين ما ذكرناه أنهما رَأَيَا مَنَامًا وَطَلَبَا تَعْبِيرَهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود قَالَ: مَا رَأَى صَاحِبَا يُوسُفَ شَيْئًا إِنَّمَا كَانَا تَحَالَمَا لِيُجَرِّبَا عَلَيْهِ.

- 37 - قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ - 38 - وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا

كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ يُخْبِرُهُمَا يُوسُفُ عليه السلام أنهما مهما رأيا في منامهما مِنْ حُلْمٍ، فَإِنَّهُ عَارِفٌ بِتَفْسِيرِهِ، وَيُخْبِرُهُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَلِهَذَا قَالَ: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ}، قَالَ مُجَاهِدٌ، يَقُولُ: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في يومكما {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا}، وَكَذَا قال السدي، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ تَعْلِيمِ اللَّهِ إِيَّايَ، لِأَنِّي اجْتَنَبْتُ مِلَّةَ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَرْجُونَ ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا فِي الْمَعَادِ، {واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} الآية، ويقول: هَجَرْتُ طَرِيقَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَسَلَكْتُ طَرِيقَ هَؤُلَاءِ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهَكَذَا يَكُونُ حَالُ مِنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْهُدَى وَاتَّبَعَ طريق المرسلين وأعرض عن طريق الضالين، فإن الله يهدي قلبه ويعلمه ما لم يكن يعلم، وَيَجْعَلُهُ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ فِي الْخَيْرِ وَدَاعِيًا إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ، {مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ}، هَذَا التَّوْحِيدُ وَهُوَ الإقرار بأنه لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} أَيْ أَوْحَاهُ إِلَيْنَا وَأَمَرَنَا بِهِ، {وَعَلَى النَّاسِ} إِذْ جَعَلَنَا دُعَاةً لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} أَيْ لَا يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، بَلْ {بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار}.

- 39 - يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ - 40 - مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْبَلَ عَلَى الْفَتَيَيْنِ بِالْمُخَاطَبَةِ وَالدُّعَاءِ لَهُمَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَخَلْعِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَوْثَانِ الَّتِي يَعْبُدُهَا قَوْمُهُمَا، فَقَالَ: {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أَيْ الذي ذل كل شيء لعز جَلَالِهِ وَعَظَمَةِ سُلْطَانِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمَا أَنَّ التي يعبدونها ويسمونها آلهة إنما هو تسمية مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، تَلَقَّاهَا خَلَفُهُمْ عَنْ سَلَفِهِمْ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ مُسْتَنَدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أَيْ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْحُكْمَ وَالتَّصَرُّفَ وَالْمَشِيئَةَ وَالْمُلْكَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَقَدْ أمر عبادة قاطبة أن لا يعبدوا إلا إياه، ثم قال تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أَيْ هَذَا الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لَهُ، هُوَ الدِّينُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وأَنْزَلَ بِهِ الْحُجَّةَ وَالْبُرْهَانَ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ فَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ، {وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} جعل سؤالهما له سبباً إِلَى دُعَائِهِمَا إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِسْلَامِ، لِمَا رَأَى فِي سَجِيَّتِهِمَا مِنْ قَبُولِ الْخَيْرِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالْإِنْصَاتِ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمَّا فَرَغَ مِنْ دَعْوَتِهِمَا شَرَعَ فِي تَعْبِيرِ رُؤْيَاهُمَا مِنْ غَيْرِ تَكْرَارِ السؤال فقال:

- 41 - يا صاحبي السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَأْسِهِ قُضِيَ الأمر -[251]- الذي فيه تستفتيان يقول لهما: {يا صاحبي السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} وَهُوَ الَّذِي رَأَى أَنَّهُ يَعْصِرُ خَمْرًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يعنيه لِئَلَّا يَحْزَنَ ذَاكَ، وَلِهَذَا أَبْهَمَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} وهو الَّذِي رَأَى أَنَّهُ يَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِهِ خُبْزًا، ثم أعلمها أَنَّ هَذَا قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، وَهُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت. قال الثوري: لَمَّا قَالَا مَا قَالَا، وَأَخْبَرَهُمَا قَالَا: مَا رَأَيْنَا شَيْئًا، فَقَالَ: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}.

- 42 - وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ في السجن بضع سنين ولما ظن يوسف عليه السلام أن الساقي ناج، قال له يوسف خفية عن الآخر: {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} يَقُولُ: اذْكُرْ قِصَّتِي عِنْدَ رَبِّكَ وَهُوَ الْمَلِكُ فَنَسِيَ ذَلِكَ الْمُوصَى أَنْ يذكر مولاه الملك بِذَلِكَ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ لِئَلَّا يَطْلَعَ نَبِيُّ اللَّهِ مِنَ السِّجْنِ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} عائد على الناجي، كما قاله مجاهد وَغَيْرُ وَاحِدٍ؛ وَيُقَالُ إِنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابن عباس ومجاهد أيضاً، وَأَمَّا الْبِضْعُ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُوَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: مَكَثَ أَيُّوبُ فِي الْبَلَاءِ سَبْعًا، وَيُوسُفُ في السجن سبعاً.

- 43 - وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ - 44 - قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ - 45 - وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فأرسولن - 46 - يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ - 47 - قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ - 48 - ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ - 49 - ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ هَذِهِ الرُّؤْيَا مِنْ مَلِكِ مِصْرَ مِمَّا قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّهَا كَانَتْ سَبَبًا لِخُرُوجِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السِّجْنِ مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا فَهَالَتْهُ، وَتَعَجَّبَ مَنْ أمرها، وما يكون تفسيرها، فجمع الكهنة وكبار دولته وأمراءه، فقص عَلَيْهِمْ مَا رَأَى وَسَأَلَهُمْ عَنْ تَأْوِيلِهَا، فَلَمْ يعرفوا ذلك، واعتذروا إليه بأنها {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} أي أخلاط أحلام اقتضته رُؤْيَاكَ هَذِهِ، {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} أي لو كَانَتْ رُؤْيَا صَحِيحَةً مِنْ أَخْلَاطٍ

لَمَا كَانَ لَنَا مَعْرِفَةً بِتَأْوِيلِهَا وَهُوَ تَعْبِيرُهَا؛ وعند ذلك تذكر الذي نجا من ذنيك الْفَتَيَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَا فِي السِّجْنِ مَعَ يُوسُفَ، وكان الشيطان قد أنساه ماوصاه بِهِ يُوسُفُ مِنْ ذِكْرِ أَمْرِهِ لِلْمَلِكِ، فَعِنْدَ ذلك تذكر {بَعْدَ أُمَّةٍ} أي مدة، فقال للملك: {أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} أَيْ بِتَأْوِيلِ هَذَا الْمَنَامِ {فأرسولن} أَيْ فَابْعَثُونِ إِلَى يُوسُفَ الصِّدِّيقِ إِلَى السِّجْنِ، ومعنى الكلام فبعثوه فَجَاءَ فَقَالَ: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} وَذَكَرَ الْمَنَامَ الَّذِي رَآهُ الْمَلِكُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ لَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعْبِيرَهَا مِنْ غَيْرِ تعنيف للفتى في نسيانه ما أوصاه بِهِ وَمِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطٍ لِلْخُرُوجِ قَبْلَ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ: {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً} أَيْ يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات، {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ}: أي مهما استغللتم وهذه السبع السنين الخصب فادخروه فِي سُنْبُلِهِ لِيَكُونَ أَبْقَى لَهُ وَأَبْعَدَ عَنْ إِسْرَاعِ الْفَسَادِ إِلَيْهِ إِلَّا الْمِقْدَارَ الَّذِي تَأْكُلُونَهُ، وليكن قَلِيلًا لَا تُسْرِفُوا فِيهِ، لِتَنْتَفِعُوا فِي السَّبْعِ الشِّدَادِ، وَهُنَّ السَّبْعُ السِّنِينَ المُحْلُ الَّتِي تَعْقُبُ هذه السبع المتواليات، وهن البقرات العجاف اللاتي تأكل السِّمَانَ، لِأَنَّ سِنِيَّ الْجَدْبِ يُؤْكَلُ فِيهَا مَا جَمَعُوهُ فِي سِنِيِّ الْخِصْبِ، وَهُنَّ السُّنْبُلَاتُ الْيَابِسَاتُ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُنَّ لَا يُنْبِتْنَ شَيْئًا وَمَا بَذَرُوهُ فَلَا يَرْجِعُونَ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ} ثم بشَّرهم بعد الجدب الْعَامِ الْمُتَوَالِي بِأَنَّهُ يَعْقُبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ {عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} أَيْ يَأْتِيهِمُ الْغَيْثُ وَهُوَ الْمَطَرُ، وَتُغَلُّ الْبِلَادُ، وَيَعْصِرُ النَّاسُ مَا كَانُوا يعصرون على عادتهم من زيت وسكر ونحوه.

- 50 - وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ - 51 - قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ - 52 - ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ - 53 - وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ يقول تعالى أخبارا عن الملك بِتَعْبِيرِ رُؤْيَاهُ الَّتِي كَانَ رَآهَا بِمَا أَعْجَبَهُ وأيقنه، فَعَرَفَ فَضْلَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعِلْمَهُ وَحُسْنَ اطلاعه على رؤياه فَقَالَ: {ائْتُونِي بِهِ} أَيْ أَخْرِجُوهُ مِنَ السِّجْنِ وأحضروه، فلما جاءه الرسول امْتَنَعَ مِنَ الْخُرُوجِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمَلِكُ وَرَعَيَّتُهُ براءة ساحته، نزاهة عِرْضِهِ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ امْرَأَةِ العزيز، وأن هذا السجن كان ظلماً وعدواناً، فقال: {ارجع إلى ربك} الآية، وَقَدْ وَرَدَتِ السَّنَةُ بِمَدْحِهِ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّنْبِيهِ على فضله وشرفه وعلو قدره، ففي المسند والصحيحين عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى}، وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لبث يوسف لأجبت الداعي" (أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة). وفي لفظ لأحمد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْتُ أَنَا لَأَسْرَعْتُ الْإِجَابَةَ وَمَا ابتغيت العذر»، وعن عِكْرِمَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ يُوسُفَ وَصَبْرِهِ وَكَرَمِهِ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، حِينَ سُئِلَ عَنِ الْبَقَرَاتِ الْعِجَافِ وَالسِّمَانِ، وَلَوْ كُنْتُ مَكَانَهُ مَا أَجَبْتُهُمْ حَتَّى أَشْتَرِطَ أَنْ يُخْرِجُونِي، وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ يُوسُفَ وَصَبْرِهِ وَكَرَمِهِ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، حِينَ أَتَاهُ الرَّسُولُ وَلَوْ كُنْتُ مَكَانَهُ لَبَادَرْتُهُمُ الْبَابَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْعُذْرُ» (رواه عبد الرزاق عن عكرمة وهو حَدِيثٌ مُرْسَلٌ). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَّفْسِهِ} إِخْبَارٌ عَنِ الْمَلِكِ حِينَ جَمَعَ النِّسْوَةَ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ عِنْدَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ مُخَاطِبًا لَهُنَّ كُلَّهُنَّ وهو يريد امرأة وزيره وهو العزيز، قال الملك: {مَا خَطْبُكُنَّ} أي ما شَأْنُكُنَّ وَخَبَرُكُنَّ {إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} يَعْنِي يَوْمَ الضِّيَافَةِ {قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} أَيْ قَالَتِ النِّسْوَةُ جَوَابًا لِلْمَلِكِ: حَاشَ لِلَّهِ أَنْ يَكُونَ يُوسُفَ مُتَّهَمَا وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الحق}، قال ابن عباس: الْآنَ تَبَيَّنَ الْحَقُّ وَظَهَرَ وَبَرَزَ، {أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} أَيْ فِي قوله {هي روادتني عَنْ نَفْسِي}، {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} تَقُولُ: إِنَّمَا اعْتَرَفْتُ بِهَذَا عَلَى نَفْسِي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، وَإِنَّمَا رَاوَدْتُ هَذَا الشَّابَّ مُرَاوَدَةً، فَامْتَنَعَ، فَلِهَذَا اعْتَرَفْتُ لِيَعْلَمَ أَنِّي بَرِيئَةٌ {وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِي}، تَقُولُ الْمَرْأَةُ: وَلَسْتُ أُبَرِّئُ نَفْسِي، فَإِنَّ النَّفْسَ تَتَحَدَّثُ وتتمنى، ولهذا راودته {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} أَيْ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَشْهَرُ وَالْأَلْيَقُ وَالْأَنْسَبُ بِسِيَاقِ الْقِصَّةِ وَمَعَانِي الْكَلَامِ (حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَانْتَدَبَ لِنَصْرِهِ الْإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَفْرَدَهُ بِتَصْنِيفٍ عَلَى حِدَةٍ)، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ يوسف عليه السلام يقول: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ} فِي زَوْجَتِهِ {بِالْغَيْبِ} الْآيَتَيْنِ، أَيْ إِنَّمَا رَدَدْتُ الرَّسُولَ لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ بَرَاءَتِي، وَلِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ} فِي زَوْجَتِهِ، {بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} الْآيَةَ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي لَمَّ يَحْكِ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ سِوَاهُ. قال ابن جرير، عن ابن عباس: لَمَّا جَمَعَ الْمَلِكُ النِّسْوَةَ فَسَأَلَهُنَّ هَلْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ؟ {قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآن حَصْحَصَ الحق} الآية، قَالَ يُوسُفُ: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلَا يَوْمَ هَمَمْتَ بِمَا هَمَمْتَ بِهِ؟ فَقَالَ: {وَمَا أُبَرِّئُ نفسي} الآية، وهكذا قال مجاهد وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى وَأُظْهِرُ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ كُلِّهِ مِنْ كَلَامِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ وَلَمْ يَكُنْ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَهُمْ بَلْ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْضَرَهُ الْمَلِكُ.

- 54 - وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ - 55 - قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمَلِكِ حِينَ تَحَقَقَ بَرَاءَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَزَاهَةَ عِرْضِهِ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ قَالَ: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أَيْ أَجْعَلُهُ مِنْ خَاصَّتِي وَأَهْلِ مَشُورَتِي، {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} أَيْ خَاطَبَهُ الْمَلِكُ وَعَرَفَهُ وَرَأَى فَضْلَهُ -[254]- وَبَرَاعَتَهُ وَعَلِمَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ خَلْقٍ وَخُلُقٍ وَكَمَالٍ قَالَ لَهُ الْمَلِكُ: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} أَيْ إِنَّكَ عِنْدَنَا ذَا مَكَانَةٍ وَأَمَانَةٍ، فَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} مدح نفسه، ويجوز للرجل إِذَا جُهل أَمْرُهُ لِلْحَاجَةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ {حَفِيظٌ} أي خازن أمين، {عَلِيمٌ} ذو علم وبصيرة بما يتولاه، وقال شَيْبَةُ بْنُ نَعَامَةَ: حَفِيظٌ لِمَا اسْتَوْدَعَتْنِي، عَلِيمٌ بِسِنِيِّ الْجَدْبِ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ)، وَسَأَلَ العمل لعلمه بقدرته عليه، ولما فيه من المصالح للناس، وإنا سأله أن يجعله على خزآئن الأرض لِيَتَصَرَّفَ لَهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَحْوَطِ وَالْأَصْلَحِ وَالْأَرْشَدِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ رَغْبَةً فِيهِ وَتَكْرِمَةً لَهُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:

- 56 - وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - 57 - وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} أَيْ أَرْضِ مِصْرَ، {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حيث يشآء} قال السدي: يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَتَّخِذُ مِنْهَا مَنْزِلًا حَيْثُ يَشَاءُ بَعْدَ الضِّيقِ والحبس، {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين}، أي وما أضعنا صبر يوسف علىأذى إِخْوَتِهِ وَصَبْرَهُ عَلَى الْحَبْسِ بِسَبَبِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، فلهذا أعقبه الله عزَّ وجلَّ النصر والتأييد، {وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}، يخبر تعالى أن ما ادخره الله تعالى لِنَبِيِّهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ وَأَجَلُّ مِمَّا خَوَّلَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ والنفوذ في الدنيا، وَالْغَرَضُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَّاهُ مَلِكُ مِصْرَ (الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ) الْوَزَارَةَ فِي بِلَادِ مصر، وَأَسْلَمَ الْمَلِكُ عَلَى يَدَيْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قاله مجاهد.

- 58 - وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ - 59 - وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ - 60 - فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلاَ تَقْرَبُونِ - 61 - قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ - 62 - وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. ذَكَرَ السُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي أَقْدَمَ إِخْوَةَ يُوسُفَ بِلَادَ مِصْرَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا باشر الوزارة بمصر، ومضت السنين المخصبة، ثم تلتها السبع السنين المجدبة، وَعَمَّ الْقَحْطُ بِلَادَ مِصْرَ بِكَمَالِهَا وَوَصَلَ إِلَى بِلَادِ كَنْعَانَ، وَهِيَ الَّتِي فِيهَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَوْلَادُهُ، وحينئذٍ احْتَاطَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنَّاسِ فِي غَلَّاتِهِمْ، وَجَمَعَهَا أَحْسَنَ جَمْعٍ، فَحَصَلَ من ذلك مبلغ عظيم، وورد عليه الناس من سائر الأقاليم، يَمْتَارُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَعِيَالِهِمْ، فَكَانَ لَا يُعْطَى الرَّجُلُ أَكْثَرَ مِنْ حَمْلِ بِعِيرٍ فِي السَّنَةِ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُشْبِعُ نَفْسَهُ، وَلَا يَأْكُلُ

هُوَ وَالْمَلِكُ وَجُنُودُهُمَا إِلَّا أَكْلَةً وَاحِدَةً فِي وسط النهار، حتى يتكفأ النَّاسُ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مُدَّةَ السَّبْعِ سِنِينَ، وَكَانَ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ، وَالْغَرَضُ أَنَّهُ كَانَ فِي جُمْلَةِ مِنْ وَرَدَ للميرة إخوة يوسف، فَإِنَّهُ بَلَغَهُمْ أَنَّ عَزِيزَ مِصْرَ يُعْطِي النَّاسَ الطَّعَامَ بِثَمَنِهِ، فَأَخَذُوا مَعَهُمْ بِضَاعَةً، يَعْتَاضُونَ بِهَا طَعَامًا، وَرَكِبُوا عَشَرَةُ نَفَرٍ، وَاحْتَبَسَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السلام عنده ابنه (بنيامين) شقيق يوسف عليه السَّلَامُ، وَكَانَ أَحَبَّ وَلَدِهِ إِلَيْهِ بَعْدَ يُوسُفَ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي أُبَّهَتِهِ وَرِيَاسَتِهِ وَسِيَادَتِهِ عَرَفَهُمْ حِينَ نَظَرَ إِلَيْهِمْ {وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}، أَيْ لَا يَعْرِفُونَهُ، لِأَنَّهُمْ فارقوه وهو صغير حدث وباعوه لِلسَّيَّارَةِ وَلَمْ يَدْرُوا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهِ، وَلَا كَانُوا يَسْتَشْعِرُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَصِيرَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ، فَلِهَذَا لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَأَمَّا هُوَ فَعَرَفُهُمْ، فَذَكَرَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ شَرَعَ يُخَاطِبُهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ كَالْمُنْكِرِ عَلَيْهِمْ: مَا أَقْدَمُكُمْ بلادي؟ فقالوا: أيها العزيز قَدِمْنَا لِلْمِيرَةِ، قَالَ: فَلَعَلَّكُمْ عُيُونٌ؟ قَالُوا: مَعَاذَ اللَّهِ، قَالَ: فَمَنْ أَيْنَ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: مِنْ بلاد كنعان وأبونا يعقوب بني اللَّهِ، قَالَ: وَلَهُ أَوْلَادٌ غَيْرُكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، كُنَّا اثْنَى عَشَرَ، فَذَهَبَ أَصْغَرُنَا هَلَكَ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَكَانَ أَحَبَّنَا إِلَى أَبِيهِ، وَبَقِيَ شَقِيقُهُ فاحتبسه لِيَتَسَلَّى بِهِ عَنْهُ، فَأَمْرٌ بِإِنْزَالِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ، {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} أي أوفى لهم كَيْلَهُمْ وَحَمَّلَ لَهُمْ أَحْمَالَهُمْ قَالَ: ائْتُونِي بِأَخِيكُمْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمْ لِأَعْلَمَ صِدْقَكُمْ فِيمَا ذَكَرْتُمْ، {أَلاَ تَرَوْنَ أني أُوفِي الكيل وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ؟} يُرَغِّبُهُمْ فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، ثُمَّ رَهَّبَهُمْ فَقَالَ: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي} أَيْ إِنْ لَمْ تَقْدَمُوا بِهِ مَعَكُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَلَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي مِيرَةٌ، {وَلاَ تَقْرَبُونِ * قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} أَيْ سَنَحْرِصُ عَلَى مَجِيئِهِ إِلَيْكَ بِكُلِّ مُمْكِنٍ وَلَا نُبْقِي مَجْهُودًا لِتَعْلَمَ صِدْقَنَا فِيمَا قُلْنَاهُ. {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ} أي غلمانه، {اجعلوا بِضَاعَتَهُمْ} أي الَّتِي قَدِمُوا بِهَا لِيَمْتَارُوا عِوَضًا عَنْهَا {فِي رِحَالِهِمْ} أَيْ فِي أَمْتِعَتِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يشعرون {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} بها، قيل خشي أن لا يَكُونَ عِنْدَهُمْ بِضَاعَةٌ أُخرى يَرْجِعُونَ لِلْمِيرَةِ بِهَا، وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُمْ إِذَا وَجَدُوهَا فِي مَتَاعِهِمْ تَحَرُّجًا وَتَوَرُّعًا، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، والله أعلم.

- 63 - فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ - 64 - قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فالله خَيْرٌ حَافِظاً وهو أرحم الراحمين يقول تَعَالَى عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ: {قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} يَعْنُونَ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ إِنْ لَمْ تُرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا (بنيامين)، فأرسله معنا نكتل {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أَيْ لَا تَخَفْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ سَيَرْجِعُ إِلَيْكَ، وَهَذَا كَمَا قَالُوا لَهُ فِي يُوسُفَ {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ولهذا قال لهم: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ} أَيْ هَلْ أَنْتُمْ صَانِعُونَ بِهِ إِلَّا كَمَا صَنَعْتُمْ بِأَخِيهِ مِنْ قَبْلُ، تُغَيِّبُونَهُ عَنِّي وَتَحُولُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ؟ {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً}، {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أَيْ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ بِي وَسَيَرْحَمُ كِبَرِي وَضَعْفِي وَوَجْدِي بِوَلَدِي وَأَرْجُو مِنَ اللَّهِ إِن يَرُدَّهُ عليَّ وَيَجْمَعَ شَمْلِي بِهِ، إِنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

- 65 - وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ - 66 - قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ

إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ يَقُولُ تَعَالَى: وَلَمَّا فَتَحَ إِخْوَةُ يُوسُفَ مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بضاعتهم ردت إليهم، هي الَّتِي كَانَ أَمَرَ يُوسُفُ فِتْيَانَهُ بِوَضْعِهَا فِي رحالهم، ولما وَجَدُوهَا فِي مَتَاعِهِمْ {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} أَيْ مَاذَا نُرِيدُ، {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا}، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: مَا نَبْغِي وَرَاءَ هَذَا إِنَّ بِضَاعَتَنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَقَدْ أُوفِيَ لَنَا الْكَيْلُ، {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أَيْ إِذَا أَرْسَلْتَ أَخَانَا مَعَنَا نَأْتِي بِالْمِيرَةِ إِلَى أَهْلِنَا، {وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ}، وَذَلِكَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُعْطِي كُلَّ رَجُلٍ حِمْلَ بعير، {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} هَذَا مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ وَتَحْسِينِهِ، أَيْ إِنَّ هَذَا يَسِيرٌ فِي مُقَابَلَةِ أَخْذِ أَخِيهِمْ مَا يَعْدِلُ هَذَا، {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ} أَيْ تَحْلِفُونَ بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ}، إِلَّا أَنْ تُغْلَبُوا كُلُّكُمْ وَلَا تَقْدِرُونَ عَلَى تَخْلِيصِهِ، {فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} أكده عليهم، {قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مَنْ بَعْثِهِمْ لِأَجْلِ الْمِيرَةِ الَّتِي لَا غنى لهم عنها فبعثه معهم.

- 67 - وقال يا بني لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ - 68 - وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ أَمَرَ بَنِيهِ لَمَّا جَهَّزَهُمْ مَعَ أَخِيهِمْ (بِنْيَامِينَ) إلى مصر أن لا يدخلوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَلِيَدْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فإنه - كما قال ابن عباس والسدي وغير واحد - خَشِيَ عَلَيْهِمُ الْعَيْنَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا ذَوِي جَمَالٍ وَهَيْئَةٍ حَسَنَةٍ وَمَنْظَرٍ وَبَهَاءٍ، فَخَشِيَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصِيبَهُمُ النَّاسُ بِعُيُونِهِمْ، فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ تستنزل الفارس عن فرسه، وَقَوْلِهِ: {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ شيء} أي إن هَذَا الِاحْتِرَازُ لَا يَرُدُّ قَدَرَ اللَّهِ وَقَضَاءَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ، {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا}، قَالُوا: هِيَ دَفْعُ إِصَابَةِ الْعَيْنِ لَهُمْ {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ}، قال قتادة: لذو علم بِعِلْمِهِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَذُو عِلْمٍ لِتَعْلِيمِنَا إِيَّاهُ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.

- 69 - وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ لما قدموا على يوسف ومعهم (بنيامين) وأدخلهم دَارَ كَرَامَتِهِ وَمَنْزِلَ ضِيَافَتِهِ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمُ الصِّلَةَ وَالْإِلْطَافَ وَالْإِحْسَانَ، وَاخْتَلَى بِأَخِيهِ، فَأَطْلَعَهُ عَلَى شَأْنِهِ وَمَا جَرَى لَهُ وَعَرَّفَهُ أَنَّهُ أَخُوهُ وَقَالَ لَهُ: {لاَ تَبْتَئِسْ}، أَيْ لَا تَأْسَفْ عَلَى مَا صَنَعُوا بِي، وَأَمَرَهُ بِكِتْمَانِ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وأن لا يُطْلِعَهُمْ عَلَى مَا أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ أَخُوهُ، وَتَوَاطَأَ مَعَهُ أَنَّهُ سَيَحْتَالُ عَلَى أَنْ يُبْقِيَهُ عِنْدَهُ مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا.

- 70 - فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ - 71 - قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ - 72 - قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ لَمَّا جَهَّزَهُمْ وَحَمَّلَ معهم أَبْعِرَتَهُمْ طَعَامًا أَمَرَ بَعْضَ فِتْيَانِهِ أَنْ يَضَعَ {السِّقَايَةَ} وَهِيَ إِنَاءٌ مِنْ فِضَّةٍ فِي قَوْلِ الأكثرين، وقيل: من ذهب، وَيَكِيلُ لِلنَّاسِ بِهِ مِنْ عِزَّةِ الطَّعَامِ إِذْ ذاك، قاله ابن عباس ومجاهد، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: {صُوَاعَ الْمَلِكِ} قَالَ: كَانَ مِنْ فضة يشربون فيه، وَكَانَ لِلْعَبَّاسِ مِثْلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَوَضَعَهَا فِي مَتَاعِ (بِنْيَامِينَ) مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ أَحَدٌ، ثُمَّ نَادَى مُنَادٍ بَيْنَهُمْ: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}، فَالْتَفَتُوا إِلَى الْمُنَادِي، وَقَالُوا: {مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} أَيْ صَاعَهُ الَّذِي يَكِيلُ بِهِ، {وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} وَهَذَا مِنْ بَابِ الجُعَالة، {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} وَهَذَا مِنْ بَابِ الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ.

- 73 - قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ - 74 - قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ - 75 - قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ - 76 - فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ لَمَّا اتَّهَمَهُمْ أُولَئِكَ الْفِتْيَانُ بِالسَّرِقَةِ قَالَ لَهُمْ إِخْوَةُ يُوسُفَ: {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} أَيْ لَقَدْ تَحَقَّقْتُمْ وَعَلِمْتُمْ مُنْذُ عَرَفْتُمُونَا، لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا مِنْهُمْ سيرة حسنة، إنا {مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} أَيْ لَيْسَتْ سَجَايَانَا تَقْتَضِي هَذِهِ الصِّفَةَ، فَقَالَ لَهُمُ الْفِتْيَانُ: {فَمَا جَزَآؤُهُ} أَيِ السَّارِقُ إِنْ كَانَ فِيكُمْ {إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ} أَيْ: أيُّ شَيْءٍ يَكُونُ عُقُوبَتَهُ إِنْ وَجَدْنَا فِيكُمْ مِنْ أَخَذَهُ؟ {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}، وَهَكَذَا كانت شريعة إبراهيم عليه السلام أَنَّ السَّارِقَ يُدْفَعُ إِلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِهَذَا بَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ، أَيْ فَتَّشَهَا قَبْلَهُ تَوْرِيَةً، {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ} فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم وإلزمهم بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} وَهَذَا مِنَ الْكَيْدِ الْمَحْبُوبِ الْمُرَادِ الَّذِي يحبه وَيَرْضَاهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الْمَطْلُوبَةِ، وَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذَهُ فِي حكم ملك مصر، وإنما كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ شَرِيعَتِهِمْ، وَلِهَذَا مَدَحَهُ الله تَعَالَى فَقَالَ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ} الآية، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَيْسَ عَالِمٌ إِلَّا فَوْقَهُ عَالِمٌ حَتَّى ينتهي إلى الله عزَّ وجلَّ. عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابن عباس فحدّث بِحَدِيثٍ عَجِيبٍ، فَتَعَجَّبُ رَجُلٌ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، فَقَالَ ابْنُ عباس: بئس ما قلتَ، الله العليم فوق كل عالم (أخرجه عبد الرزاق عن سعيد بن جبير)، يَكُونُ هَذَا أَعْلَمَ مِنْ هَذَا وَهَذَا أَعْلَمَ من هذا، والله فوق

كل عالم، وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعِلْمُ إِلَى اللَّهِ، مِنْهُ بُدِئَ وتعلمت العلماء وإليه يعود.

- 77 - قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلِ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ وَقَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لَمَّا رَأَوُا الصُّوَاعَ قَدْ أُخْرِجَ مِنْ مَتَاعِ بِنْيَامِينَ {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِن قَبْلُ} يَتَنَصَّلُونَ إِلَى الْعَزِيزِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِهِ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّ هَذَا فَعَلَ كَمَا فَعَلَ أَخٌ لَهُ مِن قَبْلِ، يَعْنُونَ بِهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السلام. قال قتادة: كان يوسف عليه السلام قَدْ سَرَقَ صَنَمًا لِجَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ فَكَسَرَهُ، وَقَوْلُهُ: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} يَعْنِي الْكَلِمَةَ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} أَيْ تَذْكُرُونَ، قَالَ هذا في نفسه ولم يبدها لَهُمْ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ قَبْلَ الذَّكَرِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَاللُّغَةِ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} قَالَ: أسرَّ فِي نَفْسِهِ {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ}.

- 78 - قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ - 79 - قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ لَمَّا تَعَيَّنَ أَخْذُ بِنْيَامِينَ وَتَقَرَّرَ تَرْكُهُ عِنْدَ يُوسُفَ بِمُقْتَضَى اعْتِرَافِهِمْ، شَرَعُوا يَتَرَقَّقُونَ لَهُ ويعطفونه عليهم {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً} يَعْنُونَ وَهُوَ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا وَيَتَسَلَّى بِهِ عَنْ وَلَدِهِ الَّذِي فَقَدَهُ، {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} أَيْ بَدَلَهُ يَكُونُ عِنْدَكَ عِوَضًا عنه، {إِنَّا نَرَاكَ مِّنَ المحسنين} أي الْعَادِلِينَ الْمُنْصِفَيْنِ الْقَابِلَيْنِ لِلْخَيْرِ، {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ} أَيْ كَمَا قُلْتُمْ وَاعْتَرَفْتُمْ، {إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ} أي إن أخذنا بريئاً بمذنب.

- 80 - فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ - 81 - ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ - 82 - وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ أَنَّهُمْ لَمَّا يَئِسُوا مِنْ تَخْلِيصِ أَخِيهِمْ بِنْيَامِينَ الَّذِي قَدِ الْتَزَمُوا لِأَبِيهِمْ بِرَدِّهِ إِلَيْهِ وَعَاهَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ {خَلَصُواْ} أَيِ انْفَرَدُوا عَنِ النَّاسِ {نَجِيّاً} يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بينهم، {قَالَ كَبِيرُهُمْ} وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِإِلْقَائِهِ فِي الْبِئْرِ عِنْدَمَا هَمُّوا بِقَتْلِهِ قَالَ لَهُمْ: {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ الله}

لَتَرُدُّنَّهُ إِلَيْهِ، فَقَدْ رَأَيْتُمْ كَيْفَ تَعَذَّرَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ لَكُمْ مِنْ إِضَاعَةِ يُوسُفَ عَنْهُ، {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} أَيْ لَنْ أُفَارِقَ هَذِهِ الْبَلْدَةَ {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ رَاضِيًا عَنِّي، {أَوْ يَحْكُمَ الله لِي} بِأَنْ يُمَكِّنَنِي مِنْ أَخْذِ أَخِي {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين}، ثم أمرهم بأن يُخْبِرُوا أَبَاهُمْ بِصُورَةِ مَا وَقَعَ حَتَّى يَكُونَ عذراً لهم عنده، ويتنصلوا إليه ويبرأوا مِمَّا وَقَعَ بِقَوْلِهِمْ، وَقَوْلُهُ: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ}، قال قتادة: ما علمنا أن ابنك سرق، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} قِيلَ الْمُرَادُ مصر، وَقِيلَ غَيْرُهَا: {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أَيِ الَّتِي رَافَقْنَاهَا عَنْ صِدْقِنَا وَأَمَانَتِنَا وَحِفْظِنَا وَحِرَاسَتِنَا، {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فِيمَا أَخْبَرْنَاكَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ سَرَقَ وَأَخَذُوهُ بِسَرِقَتِهِ.

- 83 - قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ - 84 - وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ - 85 - قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين - 86 - قال إنما أشكوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قَالَ لَهُمْ، كَمَا قَالَ لَهُمْ حِينَ جَاءُوا عَلَى قَمِيصِ يُوسُفَ بِدَمٍ كَذِبٍ: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا جَاءُوا يعقوب وأخبروه بما جرى اتهمهم، فظن أَنَّهَا كَفَعْلَتِهِمْ بِيُوسُفَ، قَالَ: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}، ثُمَّ تَرَجَّى مِنَ اللَّهِ إِن يَرُدَّ عَلَيْهِ أَوْلَادَهُ الثَّلَاثَةَ يُوسُفَ وَأَخَاهُ بِنْيَامِينَ وَرُوبِيلَ الَّذِي أَقَامَ بِدِيَارِ مِصْرَ يَنْتَظِرُ أَمْرَ اللَّهِ فِيهِ، إِمَّا أَنْ يَرْضَى عَنْهُ أَبُوهُ، فَيَأْمُرُهُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ أَخَاهُ خُفْيَةً، وَلِهَذَا قَالَ: {عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} أَيِ الْعَلِيمُ بِحَالِي، {الْحَكِيمُ} فِي أَفْعَالِهِ وَقَضَائِهِ وقدره، {وتولى عنه وقال يا أسفا عَلَى يُوسُفَ} أَيْ أَعْرَضَ عَنْ بَنِيهِ، وَقَالَ متذكراً حزن يوسف القديم الأول {يا أسفا عَلَى يُوسُفَ} جَدَّدَ لَهُ حُزْنُ الِابْنَيْنِ الْحُزْنَ الدفين، قال سعيد بن جبير: لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الِاسْتِرْجَاعَ، أَلَّا تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْلِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {يا أسفا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} أَيْ سَاكِتٌ لَا يَشْكُو أَمْرَهُ إِلَى مَخْلُوقٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ {فَهُوَ كظيم} كئيب حزن، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَقَّ لَهُ بَنُوهُ، وَقَالُوا لَهُ على سبيل الرفق به والشفقة عليه: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أَيْ لَا تُفَارِقُ {حتى تَكُونَ حَرَضاً} أي ضَعِيفَ الْقُوَّةِ، {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}، يَقُولُونَ: إن اسْتَمَرَّ بِكَ هَذَا الْحَالُ خَشِينَا عَلَيْكَ الْهَلَاكَ والتلف، {قال إنما أشكوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} أَيْ أَجَابَهُمْ عَمَّا قالوا بقوله: {إنما أشكوا بَثِّي وَحُزْنِي} أَيْ هَمِّي وَمَا أَنَا فِيهِ {إِلَى اللَّهِ} وَحَدَّهُ، {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أَيْ أَرْجُو مِنْهُ كُلَّ خَيْرٍ. وعن ابن عباس في الآية يَعْنِي رُؤْيَا يُوسُفَ أَنَّهَا صِدْقٌ وَأَنَّ اللَّهَ لا بد أن يظهرها، وقال العوفي عنه: أَعْلَمُ أَنَّ رُؤْيَا يُوسُفَ صَادِقَةٌ وَأَنِّي سَوْفَ أسجد له.

- 87 - يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله أنه لا ييأس مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ

الْكَافِرُونَ - 88 - فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّهُ نَدَبَ بَنِيهِ عَلَى الذَّهَابِ فِي الْأَرْضِ يَسْتَعْلِمُونَ أَخْبَارَ يُوسُفَ وَأَخِيهِ بِنْيَامِينَ، و (التحسس) يكون في الخير، و (التجسس) يكون في الشر، ونهضهم وبشرهم وأمرهم أن لا يَيْأَسُوا {مِن رَّوْحِ اللَّهِ} أَيْ لَا يَقْطَعُوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرونه ويقصدونه فإنه لا يقطع الرجاء ولا ييأس مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ، وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ} تقدير الكلام: فذهبوا فدخلوا كصر وَدَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ، {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} يعنون الْجَدْبِ وَالْقَحْطِ وَقِلَّةِ الطَّعَامِ، {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} أي ومعنا ثمن الطعام الذي نمتاره وهو ثمن قليل، قاله مجاهد والحسن، وقال ابن عباس: الرديء لا ينفق، وفي رواية عنه: الدراهم الردئية التي لا تجوز إلا بنقصان، وقال الضحاك: كاسدة لا تنفق، وأصل الإزجاء الدفع لضغف الشيء، وَقَوْلُهُ إِخْبَارًا عَنْهُمْ: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} أَيْ أَعْطِنَا بِهَذَا الثَّمَنِ الْقَلِيلِ مَا كُنْتَ تُعْطِينَا قبل ذلك، قال ابْنُ جُرَيْجٍ: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} بِرَدِّ أَخِينَا إِلَيْنَا، وقال سعيد بن جبير والسدي: يَقُولُونَ تَصَدَّقْ عَلَيْنَا بِقَبْضِ هَذِهِ الْبِضَاعَةِ الْمُزْجَاةِ وتجوز فيها.

- 89 - قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ - 90 - قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - 91 - قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ - 92 - قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ إِخْوَتُهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَهْدِ وَالضِّيقِ وَقِلَّةِ الطَّعَامِ وَعُمُومِ الْجَدْبِ، وَتَذَكَّرَ أَبَاهُ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْحُزْنِ لِفَقْدِ وَلَدَيْهِ مَعَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ وَالتَّصَرُّفِ وَالسَّعَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَتْهُ رِقَّةٌ وَرَأْفَةٌ وَرَحْمَةٌ وَشَفَقَةٌ عَلَى أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ، وَبَدَرَهُ الْبُكَاءُ فَتَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ، وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنما تعرف إليهم بنفسه بإذن الله تعالى له في ذلك، كما أنه أَخْفَى مِنْهُمْ نَفْسَهُ فِي الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَكِنْ لَمَّا ضَاقَ الْحَالُ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ فَرَّجَ الله تعالى من ذلك الضيق فعند ذلك قالوا: {أئنك لأَنتَ يُوسُفُ}؟ والاستفهام يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْظَامِ، أَيْ إِنَّهُمْ تَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ مِنْ سَنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ، وهو لَا يَعْرِفُونَهُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا يَعْرِفُهُمْ وَيَكْتُمُ نَفْسَهُ، فَلِهَذَا قَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ: {أَئِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي}، وقوله: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} أَيْ بِجَمْعِهِ بَيْنَنَا بَعْدَ التَّفْرِقَةِ وَبَعْدَ الْمُدَّةِ، {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُواْ تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا} الآية، يَقُولُونَ مُعْتَرِفِينَ لَهُ بِالْفَضْلِ وَالْأَثْرَةِ عَلَيْهِمْ فِي الخلق والخلق والسعة والملك وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطأوا في حقه، {قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} يقول أي لَا تَأْنِيبَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَتْبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة، قال: {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} قَالَ السُّدِّيُّ: اعْتَذَرُوا إِلَى يُوسُفَ فَقَالَ: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} يَقُولُ:

لَا أَذْكُرُ لَكُمْ ذَنْبَكُمْ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ والثوري: أَيْ لَا تَأْنِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ عِنْدِي فِيمَا صنعتم، {يغفر الله لكم} أي يستر عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْتُمْ {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.

- 93 - اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ - 94 - وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ - 95 - قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ يَقُولُ: اذْهَبُوا بِهَذَا الْقَمِيصِ {فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} وَكَانَ قَدْ عَمِيَ مِنْ كَثْرَةِ الْبُكَاءِ، {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} أَيْ بِجَمِيعِ بَنِي يَعْقُوبَ، {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} أَيْ خَرَجَتْ مِنْ مِصْرَ، {قَالَ أَبُوهُمْ} يَعْنِي يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَنْ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ بَنِيهِ: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} تنسبوني إلى الفند والكبر، قال ابن عباس ومجاهد: تُسَفِّهُونِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَالْحَسَنُ: تُهَرِّمُونِ، وَقَوْلُهُمْ: {إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَفِي خَطَئِكَ الْقَدِيمِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ مِنْ حُبِّ يُوسُفَ لَا تَنْسَاهُ وَلَا تَسَلَاهُ، قَالُوا لِوَالِدِهِمْ كَلِمَةً غَلِيظَةً لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقُولُوهَا لِوَالِدِهِمْ وَلَا لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ.

- 96 - فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ - 97 - قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ - 98 - قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم قال ابن عباس: {البشير} البريد، وقال السدي (وهو قول مجاهد أيضاً): هو يهوذا بن يعقوب، وإنما جَاءَ بِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِالْقَمِيصِ وهو ملطخ بدم كذب، فأحب أَنْ يَغْسِلَ ذَلِكَ بِهَذَا، فَجَاءَ بِالْقَمِيصِ فَأَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِ أَبِيهِ فَرَجَعَ بَصِيرًا، وَقَالَ لِبَنِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أَيْ أَعْلَمُ أَنَّ الله سيرده إليَّ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا لِأَبِيهِمْ مُتَرَفِّقِينَ لَهُ: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أَيْ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عليه، قال ابن مسعود: أَرْجَأَهُمْ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْتِي الْمَسْجِدَ فَيَسْمَعُ إنساناًَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ دَعَوْتَنِي فَأَجَبْتُ، وَأَمَرْتَنِي فَأَطَعْتُ، وَهَذَا السَّحَرُ فَاغْفِرْ لِي، قَالَ: فَاسْتَمَعَ الصَّوْتَ فَإِذَا هُوَ مِنْ دَارِ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) فَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ يَعْقُوبَ أَخَّرَ بَنِيهِ إِلَى السِّحْرِ بقوله {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي} (أخرجه ابن جرير).

- 99 - فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ - 100 - وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي

مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ وُرُودِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقُدُومِهِ بِلَادَ مِصْرَ، لَمَّا كَانَ يوسف قد تقدم لإخوته أَنْ يَأْتُوهُ بِأَهْلِهِمْ أَجْمَعِينَ، فَتُحُمِّلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَتَرَحَّلُوا مِنْ بِلَادِ كَنْعَانَ قَاصِدِينَ بِلَادَ مِصْرَ، فَلَمَّا أُخْبِرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِاقْتِرَابِهِمْ خَرَجَ لِتَلَقِّيهِمْ، وَأَمَرَ الْمَلِكُ أُمَرَاءَهُ وَأَكَابِرَ النَّاسِ بِالْخُرُوجِ مَعَ يُوسُفَ لِتَلَقِّي نَبِيَّ اللَّهِ (يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ)، وَيُقَالُ إِنَّ الْمَلِكَ خَرَجَ أَيْضًا لِتَلَقِّيهِ وهو الأشبه، وقوله: {آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} قال السدي: إِنَّمَا كَانَ أَبَاهُ وَخَالَتَهُ وَكَانَتْ أُمُّهُ قَدْ ماتت قديماً، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى مَوْتِ أُمِّهِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى حَيَاتِهَا، وَقَوْلُهُ: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}، قَالَ ابْنُ عباس: يَعْنِي السَّرِيرَ أَيْ أَجْلَسَهُمَا مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} أَيْ سَجَدَ لَهُ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ الْبَاقُونَ، وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ} أي التي كان قصها على أبيه من قبل، وَقَدْ كَانَ هَذَا سَائِغًا فِي شَرَائِعِهِمْ إِذَا سَلَّمُوا عَلَى الْكَبِيرِ يَسْجُدُونَ لَهُ، وَلَمْ يَزَلْ هَذَا جَائِزًا مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى شَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحُرِّمَ هَذَا فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَجُعِلَ السُّجُودُ مُخْتَصًّا بِجَنَابِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هَذَا مَضْمُونُ قَوْلِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ، وَفِي الحديث: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها» (الحديث في الصحاح وسببه أَنَّ مُعَاذًا قَدِمَ الشَّامَ فَوَجَدَهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ، فلما رَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سجد له، فَقَالَ: "مَّا هَذَا يَا مُعَاذُ؟ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَأَنْتَ أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لك يا رسول الله فقاله صلى الله عليه وسلم)، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَنَّ سَلْمَانَ لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم في بعض الْمَدِينَةِ، وَكَانَ سَلْمَانُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، فَسَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «لَا تَسْجُدْ لِي يَا سَلْمَانُ وَاسْجُدْ لِلْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ». وَالْغَرَضُ أَنَّ هَذَا كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَلِهَذَا خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا فَعِنْدَهَا قَالَ يُوسُفُ: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} أَيْ هَذَا مَا آلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، فَإِنَّ التَّأْوِيلَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} أي يوم القيامة يأتيهم ما وعدوا به مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَقَوْلُهُ: {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} أَيْ صَحِيحَةً صِدْقًا، يَذْكُرُ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ} أَيِ الْبَادِيَةِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: كَانُوا أَهْلَ بَادِيَةٍ وماشية، {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ}، أَيْ إِذَا أراد أمراً قيض له أسبابه وقدره ويسره {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ {الْحَكِيمُ} فِي أقواله وأفعاله وقضائه وقدره وما يختاره ويريده. قال محمد بن إسحاق: ذكروا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ غَيْبَةَ يُوسُفَ عَنْ يَعْقُوبَ كانت ثماني عشرة سنة، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَقِيَ مَعَ يُوسُفَ بَعْدَ أَنَّ قَدِمَ عَلَيْهِ مِصْرَ سَبْعَ عَشْرَةَ سنة ثم قبضه الله إليه، وقال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ: اجْتَمَعَ آلُ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ بِمِصْرَ وَهُمْ سِتَّةٌ وَثَمَانُونَ إِنْسَانًا صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ، وَذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، وَخَرَجُوا مِنْهَا وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَنَيِّفٍ.

- 101 - رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا

وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ هَذَا دُعَاءٌ مَنْ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ، دَعَا بِهِ رَبَّهُ عزَّ وجلَّ لما تمت نعمة الله عَلَيْهِ بِاجْتِمَاعِهِ بِأَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ، وَمَا منَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ سَأَلَ رَبَّهُ عزَّ وجلَّ أن يتوفاه مسلماً حين يتوفاه وأن يلحقه بالصالحين، وهم إخوانه من النبين والمرسلين صلوات الله وسلامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهَذَا الدُّعَاءُ يُحْتَمَلُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَهُ عِنْدَ احْتِضَارِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يرفد أُصْبُعَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الأعلى» ثلاثاً؛ ويحتمل أن سَأَلَ الْوَفَاةَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّحَاقَ بِالصَّالِحِينَ إِذَا جاء أجله وانقضى عمره، لا أنه سأله ذَلِكَ مُنْجَزًا كَمَا يَقُولُ الدَّاعِي لِغَيْرِهِ أَمَاتَكَ اللَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيَقُولُ الدَّاعِي: اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَتُوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحَقَنَا بِالصَّالِحِينَ؛ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سأل ذلك منجزاً وكان سائغاً في ملتهم، كما قال قتادة: لَمَّا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ وَأَقَرَّ عَيْنَهُ وَهُوَ يومئذٍ مغمور في الدنيا وملكها ونضارتها اشتاق إِلَى الصَّالِحِينَ قَبْلَهُ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: ما تمى نَبِيٌّ قَطُّ الْمَوْتَ قَبْلَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ولكن هذا لا يجوز في شريعتنا لما في الصحيحين: "لَا يَتَمَنَّيْنَ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ إِمَّا مُحْسِنًا فَيَزْدَادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لي". وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَتَمَنَّيْنَ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ ولا يدع بِهِ مِن قَبْلُ أَنْ يَأْتِيَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَثِقَ بِعَمَلِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا مَاتَ أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمله إلا خيراً» (تفرد به الإمام أحمد رحمه الله)، وَهَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الضُّرُّ خَاصًّا بِهِ، وأما إِذَا كَانَ فِتْنَةً فِي الدِّينِ فَيَجُوزُ سُؤَالُ الموت، كما قال تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ السَّحَرَةِ لَمَّا أَرَادَهُمْ فِرْعَوْنُ عَنْ دِينِهِمْ وَتَهَدَّدَهُمْ بِالْقَتْلِ: {قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مسلمين}. وقالت مريم عليها السلام: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} لما علمت مِنْ أَنَّ النَّاسَ يَقْذِفُونَهَا بِالْفَاحِشَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تكن ذات زوج وقد حملت ووضعت. وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ والترمذي: «وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون»، فَعِنْدَ حُلُولِ الْفِتَنِ فِي الدِّينِ يَجُوزُ سُؤَالُ الْمَوْتِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في آخر خلافته لَمَّا رَأَى أَنَّ الْأُمُورَ لَا تَجْتَمِعُ لَهُ، ولا يزداد الأمر إلا شدة فقال: اللَّهُمَّ خُذْنِي إِلَيْكَ فَقَدْ سَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمَّا وَقَعَتْ لَهُ تِلْكَ الفتنة وجرى له مع أمير خراسان ما جرى قال: اللَّهُمَّ تَوَفَّنِي إِلَيْكَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَمُرُّ بِالْقَبْرِ - أَيْ فِي زَمَانِ الدَّجَّالِ - فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي مَكَانَكَ» لِمَا يَرَى مِنَ الْفِتَنِ والزلازل وَالْأُمُورِ الْهَائِلَةِ الَّتِي هِيَ فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ.

- 102 - ذَلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ - 103 - وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ - 104 - وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكر للعالمين يَقُولُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَصَّ عَلَيْهِ نَبَأَ إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَكَيْفَ رَفَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَ لَهُ الْعَاقِبَةَ وَالنَّصْرَ والملك

والحكم، مع ما أرادوا مه مِنَ السُّوءِ وَالْهَلَاكِ وَالْإِعْدَامِ: هَذَا وَأَمْثَالُهُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَخْبَارِ الْغُيُوبِ السَّابِقَةِ {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} ونعلمك به يا محمد لما فيه من العبرة لك والاتعاظ لمم خَالَفَكَ، {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} حَاضِرًا عِنْدَهُمْ وَلَا مُشَاهِدًا لَهُمْ {إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} أَيْ عَلَى إِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ، {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} بِهِ وَلَكِنَّا أعلمناك به وحياً إليك وإنزالاً عليك كقوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر} الآية، إلى قوله: {وما كنت بجانب الطور إِذْ نَادَيْنَا} الآية، يقول تَعَالَى: أَنَّهُ رَسُولُهُ وَأَنَّهُ قَدْ أَطْلَعَهُ عَلَى أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ مِمَّا فِيهِ عِبْرَةٌ لِلنَّاسِ وَنَجَاةٌ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَمَعَ هَذَا مَا آمَنَ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، وَقَالَ: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله}، وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أَيْ ما تسألهم يا محمد على هذا النصح وَالرُّشْدِ مَنْ أَجْرٍ أَيْ مِنْ جُعَالَةٍ وَلَا أجرة، بَلْ تَفْعَلُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَنُصْحًا لِخَلْقِهِ، {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} أَيْ يَتَذَكَّرُونَ بِهِ وَيَهْتَدُونَ وَيَنْجُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

- 105 - وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ - 106 - وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ - 107 - أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ غَفْلَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَدَلَائِلِ تَوْحِيدِهِ، بِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي السماوات والأرض من كواكب زاهرات وأفلاك دائرت؛ وحدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وحيوان ونبات، فسبحان الواحد الأحد خالق أنواع المخلوقات، المنفرد بالدوام والبقاء والصمدية للأسماء وَالصِّفَاتِ، وَقَوْلِهِ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ إِيمَانِهِمْ أنهم إِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَّنْ خَلَقَ السماوات وَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَمَنْ خَلَقَ الْجِبَالِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَهُمْ مُشْرِكُونَ بِهِ (وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وعطاء وعكرمة والشعبي وقتادة والضحاك). وفي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. وفي صحيح مسلم: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قَالُوا لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لك، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ قَدْ» أَيْ حَسْبُ حَسْبُ لَا تَزِيدُوا عَلَى هَذَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٍ}. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} قَالَ: ذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَعْمَلُ إِذَا عَمِلَ رِيَاءَ النَّاسِ، وَهُوَ مشرك بعمله ذلك، يعني في قوله تعالى: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وشركه» (أخرجه مسلم فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه)، وَعَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «إذا جمع الله الأولين والآخرين لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ، يُنَادِي منادٍ مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشركاء عن الشرك» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقال: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ»، قالوا:

وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاز الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟ ". وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ قَالَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إِذَا أصبحت وأمسيت وَإِذَا أَخَذْتُ مَضْجَعِي، قَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شر فسي، ومن شر الشيطان وشركه»، وَقَوْلُهُ: {أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ الله} الآية، أي افأمن هؤلاء المشركون أَنْ يَأْتِيَهُمْ أَمْرٌ يَغْشَاهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يشعرون، كقوله تَعَالَى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يشعرون}؟ وقوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ * فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون}؟.

- 108 - قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَآ مِنَ المشركين يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ آمِرًا لَهُ أَنْ يخبرا الناس أن هذه سبيله، أي طريقته وَمَسْلَكُهُ وَسُنَّتُهُ، وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» يَدْعُو إِلَى اللَّهِ بِهَا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَيَقِينٍ وَبُرْهَانٍ، هُوَ وَكُلُّ مَنِ اتبعه، وَقَوْلُهُ: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} أَيْ وَأُنَزِّهُ اللَّهَ وَأُجِلُّهُ وَأُعَظِّمُهُ وَأُقَدِّسُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ نَظِيرٌ أَوْ عَدِيلٌ أَوْ نَدِيدٌ أَوْ وَلَدٌ أَوْ وَالِدٌ أَوْ صَاحِبَةٌ أَوْ وَزِيرٌ أو مشير، تبارك وَتَقَدَّسَ وتنزَّه عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا {تُسَبِّحُ له السموات السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}.

- 109 - وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرْسَلَ رُسُلَهُ مِنَ (الرِّجَالِ) لَا مِنَ (النِّسَاءِ) وَهَذَا قَوْلُ جمهور العلماء، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ (سَارَّةَ) امْرَأَةَ الْخَلِيلِ، وَأُمَّ موسى، ومريم بنت عمران أَمَّ عِيسَى نَبِيَّاتٌ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَشَّرَتْ سَارَّةَ بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، وَبِقَوْلِهِ: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الْآيَةَ، وَبِأَنَّ الْمَلَكَ جَاءَ إِلَى مَرْيَمَ فَبَشَّرَهَا بِعِيسَى عليه السلام، وبقوله تَعَالَى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ}، وَهَذَا الْقَدْرُ حَاصِلٌ لَهُنَّ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ من هذا أن يكن نبيات بذلك، ويبقى الكلام فِي أَنَّ هَذَا هَلْ يَكْفِي فِي الِانْتِظَامِ فِي سَلْكِ النُّبُوَّةِ بِمُجَرَّدِهِ أَمْ لَا؟ الَّذِي عليه أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الشَّيْخُ أبو الحسن الْأَشْعَرِيُّ عَنْهُمْ - أَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ، وإنما فيهن (صدّيقات) (هذا هو القول الفصل في الموضوع: أنه ليس في النساء نبية، والأنبياء جميعهم من الرجال لقوله تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا} الآية، وبهذا تسقط دعوى ابن حزم أن من النساء نبيات)، كما قال تعالى مخبراً عن (مريم بنت عمران): {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام}، فَوَصَفَهَا فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهَا بِالصِّدِّيقَيةِ، فَلَوْ كَانَتْ نَبِيَّةً لَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَقَامِ التَّشْرِيفِ وَالْإِعْظَامِ فَهِيَ صِدِّيقَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابن عباس في الآية، أَيْ لَيْسُوا مِنْ

أَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا قُلْتُمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْتَضِدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} الآية، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ}، وَقَوْلُهُ: {مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى} الْمُرَادُ بِالْقُرَى الْمُدُنُ لَا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي الَّذِينَ هُمْ من أجفى الناس طباعاً وأخلاقاً، وَقَوْلُهُ: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ} يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ فِي الْأَرْضِ {فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ كَيْفَ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا، كَقَوْلِهِ: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ} الآية، فَإِذَا اسْتَمَعُوا خَبَرَ ذَلِكَ رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ الْكَافِرِينَ وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ كَانَتْ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا} أَيْ وَكَمَا نجينا الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ كَتَبْنَا لَهُمُ النَّجَاةَ في الدار الآخرة، وهي خير لهم من الدنيا بكثير، وَأَضَافَ الدَّارَ إِلَى الْآخِرَةِ فَقَالَ: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} كما يقال: صلاة الأولى ومسجد الجامع.

- 110 - حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلَا يرد بأسنا عَنِ القوم المجرمين يذكر تَعَالَى أَنَّ نَصْرَهُ يَنْزِلُ عَلَى رسُلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ عِنْدَ ضَيِّقِ الْحَالِ وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه، كقوله تعالى: {وزلزوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله} الآية. وَفِي قَوْلِهِ: {كُذِبُواْ} قِرَاءَتَانِ إِحْدَاهُمَا بِالتَّشْدِيدِ {قَدْ كُذّبوا}، وَكَذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تقرؤها، قال البخاري عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزبير عن عائشة أنها قَالَتْ لَهُ وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {حتى إِذَا استيأس الرسل} قال، قلت: أكذبوا أم كذّبوا؟ قالت عائشة: كذّبوا، قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ؟ قَالَتْ: أَجَلْ لَعَمْرِي لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهَا: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبوا}؟ قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا، قُلْتُ فَمَا هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَتْ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ، وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمُ النصر {حتى إِذَا استيأس الرُّسُلُ} مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَظَنَّتِ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ، جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عند ذلك (أخرجه البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير). وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ بِالتَّخْفِيفِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهَا، فَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} قَالَ: لَمَّا أَيِسَتِ الرُّسُلُ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُمْ قَوْمُهُمْ، وَظَنَّ قَوْمُهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمُ النَّصْرُ على ذلك، {فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ}، وقال ابن جرير، عن إبراهيم بن أبي حمزة الْجَزْرِيُّ قَالَ، سَأَلَ فَتَى مِنْ قُرَيْشٍ سَعِيدَ بن جبير قال: أخبرنا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَيْفَ هَذَا الْحَرْفُ: فَإِنِّي إذا أتيت عليه تمنيت أن لَا أَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} قَالَ: نَعَمْ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ قَوْمِهِمْ أَنْ يصدقوهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كُذِّبُوا، فَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ رَجُلًا يُدْعَى إِلَى عِلْمٍ فَيَتَلَكَّأُ، لو رحلت إلى اليمن في هذه كان قليلاً (أخرجه ابن جرير الطبري). ثُمَّ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ بِهَذَا الْجَوَابِ، فَقَامَ إِلَى سَعِيدٍ فَاعْتَنَقَهُ، وَقَالَ: فَرَّجَ اللَّهُ عنك كما فرجت عني. وأما ابن مسعود فقال ابن جرير، عن تميم بن حزم، قال: سمعت

عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِمْ، وَظَنَّ قَوْمُهُمْ حِينَ أَبْطَأَ الْأَمْرُ أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا بِالتَّخْفِيفِ، فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ كُلٍّ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عباس والله أعلم.

- 111 - لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يَقُولُ تَعَالَى: لَّقَدْ كَانَ فِي خبر المرسلين مع قومهم وكيف نجينا الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلَكْنَا الْكَافِرِينَ {عِبْرَةٌ لأُوْلِي الْأَلْبَابِ} وَهِيَ الْعُقُولُ، {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} أَيْ وَمَا كَانَ لِهَذَا الْقُرْآنِ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ يُكَذَّبَ وَيُخْتَلَقَ، {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أَيْ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السماء هو يُصَدِّقُ مَا فِيهَا مِنَ الصَّحِيحِ وَيَنْفِي مَا وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، {وَتَفْصِيلَ كل شيء} من تحليل وتحريم وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرِ بِالطَّاعَاتِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَا شَاكَلَهَا مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ، والإخبار عن الأمور الْجَلِيَّةِ، وَعَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْمُجْمَلَةِ وَالتَّفْصِيلِيَّةِ، وَالْإِخْبَارِ عن الرب تبارك وتعالى بالأسماء والصفات، وتنزهه عن ممائلة الْمَخْلُوقَاتِ، فَلِهَذَا كَانَ: {هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} تَهْتَدِي بِهِ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْغَيِّ إِلَى الرَّشَادِ، ومن الضلال إِلَى السَّدَادِ، وَيَبْتَغُونَ بِهِ الرَّحْمَةَ مِنْ رَبِّ الْعِبَادِ، فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْمَعَادِ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ فِي الدنيا والآخرة.

13 - سورة الرعد

- 13 - سورة الرعد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدَّمْنَا: أَنَّ كل سورة ابتدئت بِهَذِهِ الْحُرُوفِ فَفِيهَا الِانْتِصَارُ لِلْقُرْآنِ، وَتِبْيَانُ أَنْ نُزُولَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ وَلَا رَيْبَ، وَلِهَذَا قَالَ: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} أَيْ هَذِهِ آيَاتُ الْكِتَابِ وهو القرآن، ثم عطف على ذلك صفات فقال: {وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ} أَيْ يَا مُحَمَّدُ {مِن رَّبِّكَ الحق}، وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} كَقَوْلِهِ: {وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بؤمنين} أَيْ مَعَ هَذَا الْبَيَانِ وَالْجَلَاءِ وَالْوُضُوحِ لَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الشِّقَاقِ، وَالْعِنَادِ، والنفاق.

- 2 - اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ يخبر تَعَالَى عَنْ كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، أَنَّهُ الذي بإذنه وأمره رفع السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ، بَلْ بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ وَتَسْخِيرِهِ رَفَعَهَا عَنِ الْأَرْضِ بُعْدًا لَا تُنَالُ وَلَا يُدْرَكُ مَدَاهَا، فَالسَّمَاءُ الدُّنْيَا مُحِيطَةٌ بِجَمِيعِ الْأَرْضِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِيهَا وَجِهَاتِهَا وَأَرْجَائِهَا، مُرْتَفِعَةٌ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَلَى السَّوَاءِ، وَبُعْدُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ من كل ناحية مَسِيرَةُ خَمْسمِائَةِ عَامٍ، ثُمَّ السَّمَاءُ الثَّانِيَةُ مُحِيطَةٌ بالسماء الدنيا وما حوت، وهكذا إلى السابعة، وفي الحديث: «ما السموات السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَالْكُرْسِيِّ فِي العرش المجيد كَتِلْكَ الْحَلْقَةِ فِي تِلْكَ الْفَلَاةِ». وَفِي رِوَايَةٍ: «العرش لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ». وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: أَنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ الْعَرْشِ إِلَى الْأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَبُعْدَ مَا بَيْنَ قُطْرَيْهِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَهُوَ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَقَوْلُهُ: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلُ الْقُبَّةِ، يَعْنِي بِلَا عمد، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِالسِّيَاقِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بإذنه} فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: {تَرَوْنَهَا}

تَأْكِيدًا لِنَفْي ذَلِكَ، أَيْ هِيَ مَرْفُوعَةٌ بِغَيْرِ عمد كما ترونها، وهذا هو الأكمل في القدرة (وروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن أَنَّهُمْ قَالُوا: لَهَا عَمَدٌ وَلَكِنْ لَا تُرَى فتكون جملة (ترونها) صفة ل (عمد) أي بغير عمد مرئية، وهذا التأويل خلاف الظاهر المتبادر وقد أشار ابن كثير رحمه الله لضعف هذا القول)، وقوله تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش}، تقدم تفسير في سورة الأعراف، وأنه يمر كَمَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَلَا تَمْثِيلٍ، تَعَالَى اللَّهُ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَقَوْلُهُ: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ إِلَى انقطاعهما بقيام الساعة، كقوله تعالى: {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا}، وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِلَى مُسْتَقَرِّهِمَا وَهُوَ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَذَكَرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لِأَنَّهُمَا أَظْهَرُ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ السَّبْعَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ مِنَ الثَّوَابِتِ، فَإِذَا كَانَ قَدْ سَخَّرَ هَذِهِ فَلِأَنْ يُدْخُلُ فِي التَّسْخِيرِ سَائِرُ الْكَوَاكِبِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، كَمَا نَبَّهَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ القمر وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تعبدون}، مَعَ أَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين}، وَقَوْلُهُ: {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} أَيْ يُوَضِّحُ الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَنَّهُ يُعِيدُ الْخَلْقَ إذا شاء كما بدأه.

- 3 - وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ - 4 - وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْكَامِهِ لِلْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، فَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} أَيْ جَعَلَهَا مُتَّسِعَةً مُمْتَدَّةً فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَأَرْسَاهَا بجبال راسيات شمخات، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون، ليسقى مَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الثَّمَرَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ والأشكال والطعوم {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أَيْ مِنْ كُلِّ شَكْلٍ صِنْفَانِ {يُغْشِي اللَّيْلَ النهار} أي جعل مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْآخَرَ طَلَبًا حَثِيثًا، فَإِذَا ذَهَبَ هَذَا غَشِيَهُ هَذَا، وَإِذَا انْقَضَى هَذَا جَاءَ الآخر فيتصرف أيضاً في الزمان كما يتصرف فِي الْمَكَانِ وَالسُّكَّانِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، أي في آلاء الله وحكمه وَدَلَائِلِهِ، وَقَوْلُهُ: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} أَيْ أراض يجاور بَعْضُهَا بَعْضًا، مَعَ أَنَّ هَذِهِ طَيِّبَةٌ تُنْبِتُ ما ينفع النَّاسُ وَهَذِهِ سَبَخَةٌ مَالِحَةٌ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، ويدخل فِي هَذِهِ الْآيَةِ اخْتِلَافُ أَلْوَانِ بِقَاعِ الْأَرْضِ، فَهَذِهِ تُرْبَةٌ حَمْرَاءُ، وَهَذِهِ بَيْضَاءُ، وَهَذِهِ صَفْرَاءُ، وَهَذِهِ سَوْدَاءُ، وَهَذِهِ مُحَجَّرَةٌ، وَهَذِهِ سَهْلَةٌ، وَهَذِهِ سمكية، وهذه رقيقة، والكل متجاورات، فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ لا إله إلا هو، وَقَوْلُهُ: {وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً عَلَى جَنَّاتٍ، فَيَكُونُ {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} مَرْفُوعَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَعْنَابٍ فَيَكُونُ مَجْرُورًا، وَلِهَذَا قَرَأَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا طائفة

مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَقَوْلُهُ: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} الصِّنْوَانُ هو الْأُصُولُ الْمُجْتَمِعَةُ فِي مَنْبَتٍ وَاحِدٍ كَالرُّمَّانِ وَالتِّينِ وَبَعْضِ النَّخِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَغَيْرُ الصِّنْوَانِ مَّا كَانَ عَلَى أصل واحد كسائر الأشجار، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ: «أَمَّا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ»، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الصِّنْوَانُ هِيَ النَّخْلَاتُ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ؛ وَغَيْرُ الصِّنْوَانِ الْمُتَفَرِّقَاتُ، وَقَوْلُهُ: {يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} قَالَ: «الدَّقَلُ وَالْفَارِسِيُّ وَالْحُلْوُ وَالْحَامِضُ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ)، أَيْ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي أَجْنَاسِ الثَّمَرَاتِ وَالزُّرُوعِ فِي أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا وَطَعُومِهَا وَرَوَائِحِهَا وأوراقها وأزهارها، فهذا في غاية الحلاوة، وهذا فِي غَايَةِ الْحُمُوضَةِ، وَذَا فِي غَايَةِ الْمَرَارَةِ، وذا عفص، وهذا عذب، وهذا أصفر، وهذا أحمر، وهذا أبيض، وكذلك الزهورات مع أنها كلها تستمد مِنْ طَبِيعَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الْمَاءُ، مَعَ هَذَا الاختلاف الكثير الَّذِي لَا يَنْحَصِرُ وَلَا يَنْضَبِطُ، فَفِي ذَلِكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ وَاعِيًا، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَالَاتِ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الَّذِي بِقُدْرَتِهِ فَاوَتَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَخَلَقَهَا عَلَى مَا يُرِيدُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

- 5 - وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِن تَعْجَبْ} من تكذيب هؤلاء المشركين بالمعاد، مَعَ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ودلائله في خلقه، وَمَعَ مَا يَعْتَرِفُونَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ ابْتَدَأَ خلق الأشياء بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ شَيْئاً مَّذْكُوراً، ثُمَّ هم بعد هذا يكذبون في أنه سيعيد العالم خلقاً جديداً، فَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِهِمْ: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ عَالِمٍ وَعَاقِلٍ أَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مَنْ خلق الناس، وأن بدأ الخلق فالإعادة عليه أسهل، كما قال تعالى: {أو لم يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى؟ بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، ثم بعت الْمُكَذِّبِينَ بِهَذَا، فَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} أَيْ يُسْحَبُونَ بِهَا فِي النَّارِ، {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أَيْ مَاكِثُونَ أبداً لايحولون عَنْهَا وَلَا يَزُولُونَ.

- 6 - وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ يَقُولُ تَعَالَى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ، {بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} أَيْ بِالْعُقُوبَةِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} الآية، وقال تعالى: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ واقع}، وقال: {يَسْتَعْجِلُ

بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا}، وقال: {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} الآية، أي عقابنا وحسابنا، فكانوا من شدة تكذيبهم وعنادهم وكفرهم، يطلبون أن يأتيهم بعذاب الله، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات} أي قد أوقعنا نقمنا بالأمم الخالية، وجعلناهم عبرة وَعِظَةً لِمَنِ اتَّعَظَ بِهِمْ؛ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أنه لولا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة كَمَا قَالَ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ}، وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} أَيْ أنه تعالى ذُو عَفْوٍ وَصَفْحٍ وَسَتْرٍ لِلنَّاسِ، مَعَ أَنَّهُمْ يَظْلِمُونَ وَيُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، ثُمَّ قَرَنَ هَذَا الْحُكْمَ بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِيَعْتَدِلَ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين}، وَقَالَ: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَجْمَعُ الرجاء والخوف، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا عَفْوُ اللَّهِ وَتَجَاوُزُهُ مَا هَنَّأَ أَحَدًا الْعَيْشَ، وَلَوْلَا وَعِيدُهُ وَعِقَابُهُ لَاتَّكَلَ كُلُّ أَحَدٍ» (أخرجه ابن أبي حاتم).

- 7 - وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ كُفْرًا وَعِنَادًا: لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ، كَمَا تَعَنَّتُوا عَلَيْهِ أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن يزيح عَنْهُمُ الْجِبَالَ وَيَجْعَلَ مَكَانَهَا مُرُوجًا وَأَنْهَارًا، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} الآية، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ} أَيْ إِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تُبَلِّغَ رِسَالَةَ اللَّهِ الَّتِي أمرك بها، و {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يشاء}، وقوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ وَلِكُلِّ قَوْمٍ دَاعٍ، وَقَالَ العوفي عن ابن عباس في الآية: أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ مُنْذِرٌ وَأَنَا هَادِي كُلَّ قوم (وكذا قال الضحّاك وسعيد بن جبير). عن مجاهد {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أي نبي كقوله: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ}، وقال يحيى بْنُ رَافِعٍ: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أَيْ قَائِدٍ، وعن عكرمة: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}: هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ مَالِكٌ {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}: يدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ.

- 8 - اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ - 9 - عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَمَامِ عِلْمِهِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ مُحِيطٌ بِمَا تَحْمِلُهُ الْحَوَامِلُ من كل الإناث، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} أَيْ مَا حَمَلَتْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، أَوْ حَسَنٍ أَوْ قَبِيحٍ، أَوْ شَقِيٍّ أَوْ سعيد، أو طويل العمر أو قصيره، كقوله تَعَالَى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} أَيْ خَلَقَكُمْ طَوْرًا مِنْ بَعْدِ طَوْرٍ، كَمَا قال تعالى:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي خَلْقِ أحدكم أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه وَعَمَلَهُ وَشِقِّيٌ أَوْ سَعِيدٌ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «فَيَقُولُ الْمَلَكُ أَيْ رَبِّ! أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى! أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الْأَجَلُ؟ فيقول الله ويكتب الملك». وقوله تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ}، قَالَ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ، لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إلا الله»، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} يَعْنِي السَقْطَ {وَمَا تَزْدَادُ}، يَقُولُ: مَا زَادَتِ الرَّحِمَ فِي الْحَمْلِ عَلَى مَا غَاضَتْ حَتَّى وَلَدَتْهُ تَمَامًا، وَذَلِكَ أَنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ تَحْمِلُ عَشْرَةَ أشهر، ومن تَحْمِلُ تِسْعَةَ أَشْهُرَ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَزِيدُ فِي الحمل، ومنهن من تنقص، فلذلك الْغَيْضُ وَالزِّيَادَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَكُلُّ ذلك بعلمه تعالى، وعنه: مَا نَقَصَتْ مِنْ تِسْعَةٍ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَضَعَتْنِي أُمِّي وَقَدْ حَمَلَتْنِي فِي بَطْنِهَا سَنَتَيْنِ، وَوَلَدَتْنِي وَقَدْ نَبَتَتْ ثَنِيَّتِي، وَقَالَ ابن جريج، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَا يَكُونُ الْحَمْلُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ قَدْرَ مَا يَتَحَرَّكُ ظِلَّ مِغْزَلٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} قَالَ: مَا تَرَى مِنَ الدَّمِ فِي حَمْلِهَا وَمَا تَزْدَادُ عَلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ (وَبِهِ قَالَ الحسن البصري وقتادة والضحّاك)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ}: إِرَاقَةُ الدم حتى يحس الولد، {وَمَا تَزْدَادُ} إن لم تهرق الدم تَمَّ الْوَلَدُ وَعَظُمَ، وَقَالَ مَكْحُولٌ: الْجَنِينُ فِي بطن أمه لا يَحْزَنُ وَلَا يَغْتَمُّ، وَإِنَّمَا يَأْتِيهِ رِزْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ دَمِ حَيْضَتِهَا فَمِنْ ثَمَّ لَا تَحِيضُ الْحَامِلُ، فَإِذَا وَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ استهل، واستهلاله استنكاره لِمَكَانِهِ، فَإِذَا قُطِعَتْ سُرَّتُهُ حَوَّلَ اللَّهُ رِزْقَهُ إلى ثديي أمه، حتى لا يحزن ولا يطلب وَلَا يَغْتَمَّ، ثُمَّ يَصِيرُ طِفْلًا يَتَنَاوَلُ الشَّيْءَ بِكَفِّهِ فَيَأْكُلُهُ، فَإِذَا هُوَ بَلَغَ قَالَ: هُوَ الْمَوْتُ أَوِ الْقَتْلُ أَنَّى لِي بِالرِّزْقِ؟ فَيَقُولُ مكحول: يا ويحك، غَذَّاكَ وَأَنْتَ فِي بَطْنِ أُمِّكَ، وَأَنْتَ طِفْلٌ صَغِيرٌ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَدْتَ وَعَقَلْتَ قُلْتَ: هُوَ الْمَوْتُ أَوِ الْقَتْلُ أَنَّى لِي بِالرِّزْقِ؟ ثُمَّ قرأ مكحول: {والله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} الآية، وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} أَيْ بِأَجْلٍ، حَفِظَ أَرْزَاقَ خَلْقِهِ وَآجَالَهُمْ وَجَعَلَ لِذَلِكَ أَجَلًا مَعْلُومًا، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَتْ إِلَيْهِ أَنَّ ابْنًا لَهَا فِي الْمَوْتِ، وَأَنَّهَا تُحِبُّ أَنْ يَحْضُرَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا يَقُولُ: «إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرُوهَا فَلْتَصْبِرْ وَلِتَحْتَسِبْ» الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، وَقَوْلُهُ: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أَيْ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا يُشَاهِدُهُ الْعِبَادُ وَمِمَّا يَغِيبُ عَنْهُمْ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ {الْكَبِيرُ} الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، {الْمُتَعَالِ} أَيْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، {قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} وَقَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ فَخَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ وَدَانَ لَهُ الْعِبَادُ طَوْعًا وَكَرْهًا.

- 10 - سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ - 11 - لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ

يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سوء فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بجميع خلقه، وأنه سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ أَسَرَّ قَوْلَهُ أَوْ جَهَرَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ كقوله: {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}، وقال: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}، وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} أَيْ مُخْتَفٍ فِي قَعْرِ بَيْتِهِ فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ، {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} أَيْ ظَاهِرٌ مَاشٍ فِي بَيَاضِ النَّهَارِ وضيائه، فإن كلاهما في علم الله على السواء، كقوله تعالى: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} الآية، وقوله تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}، وَقَوْلُهُ: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أَيْ لِلْعَبْدِ مَلَائِكَةٌ يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهِ، حَرَسٌ بِاللَّيْلِ، وَحَرَسٌ بِالنَّهَارِ، يَحْفَظُونَهُ مِنَ الْأَسْوَاءِ وَالْحَادِثَاتِ، كَمَا يَتَعَاقَبُ مَلَائِكَةٌ آخَرُونَ لِحِفْظِ الْأَعْمَالِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، فَاثْنَانِ عَنِ الْيَمِينِ والشمال، يَكْتُبَانِ الْأَعْمَالَ، صَاحِبُ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَصَاحِبُ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، وَمَلَكَانِ آخَرَانِ يَحْفَظَانِهِ وَيَحْرُسَانِهِ، واحد مِنْ وَرَائِهِ وَآخِرَ مَنْ قُدَّامِهِ، فَهُوَ بَيْنُ أَرْبَعَةِ أَمْلَاكٍ بِالنَّهَارِ، وَأَرْبَعَةٍ آخَرِينَ بِاللَّيْلِ بَدَلًا، حَافِظَانِ وَكَاتِبَانِ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «يَتَعَاقَبُونَ فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» الحديث، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «إِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لَا يُفَارِقَكُمْ إِلَّا عِنْدَ الْخَلَاءِ وَعِنْدَ الْجِمَاعِ فَاسْتَحْيُوهُمْ وأكرموهم»، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} قَالَ: مَلَائِكَةٌ يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ، فَإِذَا جَاءَ قَدَرُ اللَّهِ خَلَّوْا عَنْهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا لَهُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ يَحْفَظُهُ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ، فَمَا مِنْهَا شَيْءٌ يَأْتِيهِ يُرِيدُهُ إلا قال له الملك: وراءك، إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه. وقال الإمام أحمد رحمه الله، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ» قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رسول الله، قال: «وإياي، ولكن الله أعانني عليه فلا يأمرني إلاّ بخير» (رواه مسلم وأحمد عن عبد الله بن مسعود). وَقَوْلُهُ: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} قِيلَ: الْمُرَادُ حفظهم له مِنْ أَمْرِ الله، قاله ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جبير، وقال قتادة: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَوْ تجلى لابن آدم كل سهل وكل حزن لرأى كل شيء من ذلك شيئاً يقيه، ولولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عَنْكُمْ فِي مَطْعَمِكُمْ وَمَشْرَبِكُمْ وَعَوْرَاتِكُمْ إِذًا لتُخُطفتم، قال أَبُو أُمَامَةَ: مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا وَمَعَهُ مَلَكٌ يَذُودُ عَنْهُ حَتَّى يُسْلِمَهُ لِلَّذِي قُدِّرَ له. وقال أبو مجلز: جاء رجل إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فقال: احترس، فإن ناساً يُرِيدُونَ قَتْلَكَ، فَقَالَ: إِنْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ ملكين يحفظانه مما لم يقدر له، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه، أن الْأَجَلَ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} بِأَمْرِ اللَّهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رقيا نَسْتَرْقِي بِهَا، هَلْ تَرُدُّ مَنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: «هِيَ مَنْ قَدَرِ اللَّهِ»، وَقَالَ ابن أبي حاتم: "أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ قُلْ لِقَوْمِكَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلَا أَهْلِ بَيْتٍ يَكُونُونَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَيَتَحَوَّلُونَ مِنْهَا

إلى معصية الله إلا حوّل الله عنهم ما يُحِبُّونَ إِلَى مَا يَكْرَهُونَ"، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ تصديق ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (أخرجه ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخغي موقوفاً، وقد ورد في حديث مرفوع رواه ابن أبي شيبة).

- 12 - هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ - 13 - وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُسَخِّرُ الْبَرْقَ، وَهُوَ مَا يُرَى مِنَ النُّورِ اللَّامِعِ سَاطِعًا من خلل السحاب، {خَوْفاً وَطَمَعاً}، قَالَ قَتَادَةُ: خَوْفًا لِلْمُسَافِرِ يَخَافُ أَذَاهُ وَمَشَقَّتَهُ، وَطَمَعًا لِلْمُقِيمِ يَرْجُو بَرَكَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ وَيَطْمَعُ فِي رِزْقِ اللَّهِ. {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} أَيْ وَيَخْلُقُهَا مُنْشَأَةً جَدِيدَةً، وَهِيَ لِكَثْرَةِ مَائِهَا ثقيلة قريبة إلى الأرض، قال مجاهد: السحاب الثِّقَالُ: الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ، {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ}، كقوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ وَالصَّوَاعِقَ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَا تقلتنا بِغَضَبِكَ، وَلَا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ» (رواه الترمذي والنسائي عن إبراهيم النخعي موقوفاً، وقد ورد نحوه في حديث مرفوع رواه ابن أبي شيبة). وعن أبي هريرة رفعه، إِنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ قَالَ: «سُبْحَانَ من يسبح الرعد بحمده»، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ تَرَكَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ (رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الأدب). وروى الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الرَّعْدَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ، فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ ذَاكِرًا»، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ} أَيْ يُرْسِلُهَا نِقْمَةً يَنْتَقِمُ بِهَا مِمَّنْ يَشَاءُ، وَلِهَذَا تَكْثُرُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ؛ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَكْثُرُ الصَّوَاعِقُ عِنْدَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ، حَتَّى يَأْتِيَ الرجل القوم فيقول: من صعق قبلكم الْغَدَاةَ؟ فَيَقُولُونَ: صُعِقَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ". وَقَدْ روي في سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا مَرَّةً إِلَى رَجُلٍ مِنْ فَرَاعِنَةِ العرب، فقال: «اذهب فادعه لي»، فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَدْعُوكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ رَسُولُ اللَّهِ؟ وَمَا اللَّهُ؟ أَمِنْ ذَهَبٍ هُوَ، أَمْ مِنْ فِضَّةٍ هُوَ، أَمْ مِنْ نُحَاسٍ هُوَ؟ قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قد خبرتك أَنَّهُ أَعْتَى مِنْ ذَلِكَ، قَالَ لِي: كَذَا وكذا. فقال لي: «ارجع إليه ثانية»، فَذَهَبَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَهَا، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ أَعْتَى مِنْ ذلك؛ فقال: «ارْجِعْ إِلَيْهِ فَادْعُهُ»، فَرَجَعَ إِلَيْهِ الثَّالِثَةَ قَالَ: فأعاد عليه الكلام، فبينما هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ سَحَابَةً حِيَالَ رَأْسِهِ فَرَعَدَتْ، فَوَقَعَتْ مِنْهَا صَاعِقَةٌ فذهبت بقحف رأسه، فأنزل الله عز وجلّ: {وَيُرْسِلُ الصواعق} الآية (رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي وابن جرير عن أنس رضي الله عنه وأخرجه الحافظ البزار بنحوه). وعن مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ يَهُودِيٌّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ رَبِّكَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ من نحاس هو؟ أم مَنْ لُؤْلُؤٍ، أَوْ يَاقُوتٍ؟ قَالَ، فَجَاءَتْ

صاعقة فأخذته، وأنزل الله: {وَيُرْسِلُ الصواعق} الْآيَةَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا أَنْكَرَ الْقُرْآنَ، وَكَذَّبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل الله صاعقة فأهلكته، وأنزل الله: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} الْآيَةَ؛ وَذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهَا قصة (عامر بن الطفيل) و (أربد بْنِ رَبِيعَةَ) لَمَّا قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَسَأَلَاهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمَا نِصْفَ الْأَمْرِ، فَأَبَى عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ لَعَنَهُ اللَّهُ: أَمَا وَاللَّهِ لِأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلًا جُرْدًا، وَرِجَالًا مُرْدًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يأبى الله عليك وَأَبْنَاءُ قَيْلَةَ» يَعْنِي الْأَنْصَارَ، ثُمَّ إِنَّهُمَا هَمَّا بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل أَحَدُهُمَا يُخَاطِبُهُ، وَالْآخَرُ يَسْتَلُّ سَيْفَهُ لِيَقْتُلَهُ مِنْ ورائه، فحماه الله تعالى مِنْهُمَا وَعَصَمَهُ، فَخَرَجَا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَانْطَلَقَا فِي أحياء العرب يجمعان الناس لحربه عليه الصلاة والسلام، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى (أَرْبَدَ) سَحَابَةً فِيهَا صَاعِقَةٌ فَأَحْرَقَتْهُ، وَأَمَّا (عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ) فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الطَّاعُونَ، فَخَرَجَتْ فِيهِ غُدَّةٌ عَظِيمَةٌ، فَجَعَلَ يقول: يا أهل عَامِرٍ غدةٌ كَغُدَّةِ الْبِكْرِ، وموتٌ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ، حَتَّى مَاتَا لَعَنَهُمَا اللَّهُ، وأَنْزَلَ اللَّهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ في الله} (روى هذه القصة الحافظ الطبراني عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مفصلة أكثر من هذا)، وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} أَيْ يَشُكُّونَ فِي عَظَمَتِهِ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: شَدِيدَةٌ مُمَاحَلَتُهُ فِي عُقُوبَةِ مَنْ طَغَى عَلَيْهِ، وَعَتَا وَتَمَادَى فِي كُفْرِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} أَيْ شَدِيدُ الْأَخْذِ؛ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَدِيدُ القوة.

- 14 - لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ {لَهُ دَعْوَةُ الحق} التوحيد، لا إله إلا الله (قاله ابن عباس وقتادة) {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} أَيْ وَمَثَلُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ آلِهَةً غَيْرَ اللَّهِ {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ}، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: كَمَثَلِ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الْمَاءَ مِنْ طَرَفِ الْبِئْرِ بِيَدِهِ، وَهُوَ لَا يَنَالُهُ أَبَدًا بِيَدِهِ، فَكَيْفَ يَبْلُغُ فَاهُ؟ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} يدعو الماء بلسانه ويشير إليه فَلَا يَأْتِيهِ أَبَدًا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ كَقَابِضِ يَدَهُ عَلَى الْمَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْكِمُ مِنْهُ عَلَى شيء، كما قال الشاعر: فَأَصْبَحْتُ ممَّا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا * مِنَ الوُدِّ مثل القابض الماء باليد ومعنى هذا الكلام أن الَّذِي يَبْسُطُ يَدَهُ إِلَى الْمَاءِ إِمَّا قَابِضًا، وَإِمَّا مُتَنَاوِلًا لَهُ مِن بَعْدُ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْمَاءِ الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَى فِيهِ الَّذِي جَعَلَهُ مَحَلًّا لِلشُّرْبِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِمْ أَبَدًا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ}.

- 15 - وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ -[276]- يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَظْمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ الَّذِي قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَدَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَلِهَذَا يَسْجُدُ لَهُ كُلُّ شيء طوعاً من المؤمنين وكرهاً من الكافرين، {وَظِلالُهُم بالغدو} أي البكور، {والآصال} وهو آخر النهار، كقوله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يتفيؤ ظلاله} الآية.

- 16 - قُلْ مَن رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ يُقَرِّرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا إله إلا هو لأنهم معترفون بأنه هُوَ الذي خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ وَهُوَ رَبُّهَا وَمُدَبِّرُهَا، وَهُمْ مَعَ هَذَا قَدِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ يَعْبُدُونَهُمْ، وَأُولَئِكَ الآلهة لا تملك لا لِنَفْسِهَا وَلَا لِعَابِدِيهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى نَفْعًا وَلَا ضرا، أي لا تحصل لهم منفعة ولا تدفع عنهم مَضَرَّةً، فَهَلْ يَسْتَوِي مَنْ عَبَدَ هَذِهِ الْآلِهَةَ مَعَ اللَّهِ وَمِنْ عَبْدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شريك له فَهُوَ على نُورٍ من ربه؟ ولهذا قال: {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} أَيْ أَجَعَلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً تُنَاظِرُ الرَّبَّ وَتُمَاثِلُهُ فِي الْخَلْقِ، فَخَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَدْرُونَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَخْلُوقٍ غَيْرِهِ، أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُشَابِهُهُ شَيْءٌ وَلَا يُمَاثِلُهُ، وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا عدل، وَلَا وَزِيرَ لَهُ وَلَا وَلَدَ وَلَا صَاحِبَةَ، {تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً}، فأنكر تعالى عليهم ذلك، حَيْثُ اعْتَقَدُوا ذَلِكَ وَهُوَ تَعَالَى لَا يَشْفَعُ أحد عنده إِلَّا بِإِذْنِهِ، {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ في السموات} الآية، وقال: {إِن كُلُّ مَن فِي السموات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عبدا}، فَإِذَا كَانَ الْجَمِيعُ عَبِيدًا فَلِمَ يَعْبُدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الرأي والاختراع والابتداع فحقت كَلِمَةُ الْعَذَابِ لَا مَحَالَةَ، {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}.

- 17 - أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى مَثَلَيْنِ مَضْرُوبَيْنِ لِلْحَقِّ فِي ثَبَاتِهِ وَبَقَائِهِ، وَالْبَاطِلِ فِي اضْمِحْلَالِهِ وَفَنَائِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أَيْ مَطَرًا، {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} أَيْ أَخَذَ كُلُّ وادٍ بِحَسْبِهِ، فَهَذَا كَبِيرٌ وَسِعَ كَثِيرًا من الماء، وهذا صغير وسع بِقَدْرِهِ، وَهُوَ إِشارة إِلَى الْقُلُوبِ وَتَفَاوُتِهَا، فَمِنْهَا ما يسع علماً كثيراً، ومنها من لَا يَتَّسِعُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ بَلْ يَضِيقُ عَنْهَا {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً}، أَيْ فَجَاءَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ الَّذِي سَالَ فِي هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ زَبَدٌ عالٍ عَلَيْهِ؛ هَذَا مَثَلٌ، وَقَوْلُهُ: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} الآية، هَذَا هُوَ الْمَثَلُ

الثَّانِي وَهُوَ مَا يُسْبَكُ فِي النَّارِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} أَيْ لِيَجْعَلَ حِلْيَةً أَوْ نُحَاسًا أَوْ حَدِيدًا فَيُجْعَلُ مَتَاعًا، فَإِنَّهُ يَعْلُوهُ زَبَدٌ مِنْهُ، كَمَا يَعْلُو ذَلِكَ زَبَدٌ مِنْهُ، {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}، أي إذا اجتمعا لإثبات الباطل وَلَا دَوَامَ لَهُ، كَمَا أَنَّ الزَّبَدَ لَا يثبت مع الماء، ولا مع الذهب والفضة مما سبك فِي النَّارِ، بَلْ يَذْهَبُ وَيَضْمَحِلُّ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً} أَيْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بَلْ يَتَفَرَّقُ وَيَتَمَزَّقُ وَيَذْهَبُ فِي جَانِبَيِ الْوَادِي، وَيَعْلَقُ بِالشَّجَرِ وَتَنْسِفُهُ الرِّيَاحُ، وَكَذَلِكَ خَبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ولا يَرْجِعُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَبْقَى إِلَّا الْمَاءُ، وَذَلِكَ الذَّهَبُ وَنَحْوُهُ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله الأمثال}، كقوله تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون}. وقال بَعْضُ السَّلَفِ: كُنْتُ إِذَا قرأتُ مَثَلًا مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ أَفْهَمْهُ بِكَيْتُ عَلَى نَفْسِي لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَالِمُونَ}، قال ابن عباس: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ احْتَمَلَتْ مِنْهُ الْقُلُوبُ عَلَى قَدْرِ يَقِينِهَا وَشَكِّهَا، فَأَمَّا الشَّكُّ فَلَا يَنْفَعُ مَعَهُ الْعَمَلُ، وَأَمَّا الْيَقِينُ فَيَنْفَعُ اللَّهُ به أهله، وهو قوله: {فَأَمَّا الزبد} وهو الشك {فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} وَهُوَ الْيَقِينُ، وَكَمَا يُجْعَلُ الْحُلِيُّ فِي النَّارِ فَيُؤْخَذُ خَالَصُهُ وَيُتْرَكُ خَبَثُهُ فِي النَّارِ، فَكَذَلِكَ يَقْبَلُ اللَّهُ الْيَقِينَ وَيَتْرُكُ الشَّكَّ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً} يَقُولُ: احْتَمَلَ السَّيْلُ مَا فِي الْوَادِي مِنْ عُودٍ وَدِمْنَةٍ، {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} فَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحِلْيَةُ والمتاع والنحاس والحديث، فَلِلنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ خَبَثٌ، فَجَعَلَ اللَّهُ مَثَلَ خَبَثِهِ كَزَبَدِ الْمَاءِ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ الْأَرْضَ فَمَا شَرِبَتْ مِنَ الْمَاءِ فَأَنْبَتَتْ فَجَعَلَ ذَاكَ مِثْلَ الْعَمَلِ الصالح يبقى لأهله، والعمل السيء يَضْمَحِلُّ عَنْ أَهْلِهِ، كَمَا يَذْهَبُ هَذَا الزَّبَدُ، وكذلك الْهُدَى وَالْحَقُّ، جَاءَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَنْ عمل بالحق كان له وبقي كما بقي مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ لَا يُسْتَطَاعُ أَنْ يُعْمَلَ مِنْهُ سِكِّينٌ وَلَا سَيْفٌ حَتَّى يُدْخَلَ فِي النَّارِ فَتَأْكُلُ خَبَثَهُ ويخرج جيده فينتفع به، فكذلك يضمحل الباطل، فإذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَأُقِيمَ النَّاسُ وَعُرِضَتِ الْأَعْمَالُ فيزيع الباطل ويهلك، وينتفع أهل الحق بالحق. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إِنَّ مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ منها طائفة قبلت الماء فأنبت الكلأ والعشب الكثير، وكان مِنْهَا أَجَادِبَ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَرَعَوْا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ طَائِفَةً مِنْهَا أُخرى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً؛ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي وَنَفَعَ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ؛ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أرسلت به».

- 18 - لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ يُخْبِرُ تعالى عن مآل السعداء والأشقياء: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} أَيْ أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَانْقَادُوا لِأَوَامِرِهِ وَصَدَّقُوا أَخْبَارَهُ الْمَاضِيَةَ وَالْآتِيَةَ، فَلَهُمُ {الحسنى} وهو الجزاء الحسن كقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً -[278]- فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً}، وقال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ}، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ} أَيْ لَمْ يُطِيعُوا اللَّهَ، {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، لَوْ أنه يُمْكِنَهُمْ أَنْ يَفْتَدُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا {أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، أَيْ يُنَاقَشُونَ عَلَى النَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ، وَالْجَلِيلِ وَالْحَقِيرِ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}.

- 19 - أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ يَقُولُ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي مَنْ يَعْلَمُ مِنَ النَّاسِ أَنَّ الَّذِي {أُنزِلَ إِلَيْكَ} يَا محمد {مِن رَبِّكَ} هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ، بَلْ هُوَ كُلُّهُ حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فأخباره كلها حق، وأوامره ونواهيه عدل، فَلَا يَسْتَوِي مِنْ تَحَقَّقَ صِدْقَ مَا جِئْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، وَمَنْ هُوَ أَعْمَى لَا يَهْتَدِي إِلَى خَيْرٍ وَلَا يَفْهَمُهُ، وَلَوْ فَهِمَهُ مَا انْقَادَ لَهُ وَلَا صَدَّقَهُ وَلَا اتَّبَعَهُ، كقوله تَعَالَى: {لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}، وقال هنا: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} أَيْ أَفَهَذَا كَهَذَا؟ لا استواء. وقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} أي إنما يتعظ ويعتبر أُولُو الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ الصَّحِيحَةِ؛ جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ.

- 20 - الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ - 21 - وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ - 22 - وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ويدرؤون بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ - 23 - جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ - 24 - سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ بِأَنَّ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ، وَهِيَ الْعَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} وَلَيْسُوا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ إِذَا عَاهَدَ أَحَدُهُمْ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ، {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أَيْ فِيمَا يَأْتُونَ وَمَا يَذْرُوَنَ مِنَ الْأَعْمَالِ، يُرَاقِبُونَ اللَّهَ فِي ذَلِكَ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَلِهَذَا أَمْرُهُمْ عَلَى السَّدَادِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} أَيْ عَنِ المحارم والمآئم ففطموا أنفسهم عنها لِلَّهِ عزَّ وجلَّ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ، {وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ} بِحُدُودِهَا وَمَوَاقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَخُشُوعِهَا عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَرْضِي، {وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أَيْ عَلَى الَّذِينَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِنْفَاقُ لَهُمْ، مِنْ زَوْجَاتٍ وَقَرَابَاتٍ وَأَجَانِبَ، مِنْ فُقَرَاءَ وَمَحَاوِيجَ وَمَسَاكِينَ، {سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} أَيْ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَالٌ مِنَ الْأَحْوَالِ آناء الليل وأطراف النهار، {ويدرؤون

بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أَيْ يَدْفَعُونَ الْقَبِيحَ بِالْحَسَنِ، فَإِذَا آذَاهُمْ أَحَدٌ قَابَلُوهُ بِالْجَمِيلِ صَبْرًا وَاحْتِمَالًا وَصَفْحًا وعفواً، كقوله تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وبينه عدواة كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، وَلِهَذَا قَالَ مُخْبِرًا عَنْ هَؤُلَاءِ السُّعَدَاءِ الْمُتَّصِفِينَ بهؤلاء الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ بِأَنَّ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} وَالْعَدْنُ: الْإِقَامَةُ، أي جنات إقامة يخلدون فيها. وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} مَدِينَةُ الْجَنَّةِ فِيهَا الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ، وَأَئِمَّةُ الْهُدَى والناس حولهم بعد والجنات حولها، وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} أَيْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَحْبَابِهِمْ فِيهَا مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَهْلِينَ وَالْأَبْنَاءِ مِمَّنْ هُوَ صَالِحٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِتَقَرَّ أَعْيُنُهُمْ بِهِمْ، حَتَّى إِنَّهُ تُرْفَعُ دَرَجَةُ الْأَدْنَى إِلَى دَرَجَةِ الْأَعْلَى امتناناً من الله، وإحساناً من غير تنقيص للأعلى عن درجته، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذريتهم} الآية. وَقَوْلِهِ: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} أي وتدخل عليهم الملائكة من ههنا ومن ههنا لِلتَّهْنِئَةِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَعِنْدَ دُخُولِهِمْ إِيَّاهَا تَفِدُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ مُسَلِّمِينَ مُهَنِّئِينَ لَهُمْ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنَ التَّقْرِيبِ وَالْإِنْعَامِ، وَالْإِقَامَةِ فِي دَارِ السَّلَامِ، فِي جِوَارِ الصِّدِّيقِينِ وَالْأَنْبِيَاءِ والرسل الكرام. روى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ أول من يدخل الجنة من خلق الله؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ الْفُقَرَاءُ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ تُسَدُّ بِهِمُ الثُّغُورُ، وَتُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَن يَشَآءُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ: ائْتُوهُمْ فَحَيُّوهُمْ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: نَحْنُ سُكَّانُ سَمَائِكَ وَخِيرَتُكَ مَنْ خَلْقِكَ، أَفَتَأْمُرُنَا أَنْ نأتي هؤلاء ونسلم عليهم؟ فيقول: إِنَّهُمْ كَانُوا عِبَادًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، وَتُسَدُّ بِهِمُ الثُّغُورُ، وَتُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ، وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً - قَالَ - فَتَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} "، وَرَوَاهُ أَبُو القاسم الطبراني، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَوَّلُ ثُلَّةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ تُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ، وَإِذَا أُمِرُوا سَمِعُوا وَأَطَاعُوا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْهُمْ حَاجَةٌ إِلَى سُلْطَانٍ لَمْ تُقْضَ حَتَّى يَمُوتَ وَهِيَ فِي صَدْرِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَدْعُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْجَنَّةَ فَتَأْتِي بِزُخْرُفِهَا وَزِينَتِهَا فَيَقُولُ: أَيْنَ عِبَادِي الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِي وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِي؟ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَذَابٍ وَلَا حِسَابٍ، وَتَأْتِي الْمَلَائِكَةُ فَيَسْجُدُونَ ويقولون: ربنا نحن نسبّح بحمدك اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، مَن هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آثَرْتَهُمْ عَلَيْنَا؟ فَيَقُولُ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ: هَؤُلَاءِ عِبَادِي الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِي، وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي، فَتَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ كُلِّ بَابٍ: {سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} "، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَزُورُ قُبُورَ الشُّهَدَاءِ فِي رَأْسِ كُلِّ حَوْلٍ فَيَقُولُ لَهُمْ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}، وكذلك أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ.

- 25 - وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ -[280]- هَذَا حَالُ الْأَشْقِيَاءِ وَصِفَاتُهُمْ وَذَكَرَ مآلهم في الْآخِرَةِ، وَمَصِيرَهُمْ إِلَى خِلَافِ مَا صَارَ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا أَنَّهُمُ اتَّصَفُوا بِخِلَافِ صِفَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا فَأُولَئِكَ كَانُوا يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَيَصِلُونَ ما أمر الله بِهِ أَن يُوصَلَ، وهولاء {يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» وَلِهَذَا قَالَ: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} وَهِيَ الْإِبْعَادُ عَنِ الرَّحْمَةِ {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}، وَهِيَ سُوءُ العاقبة والمآل {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد}. وقال أبو العالية: هي ست خصال في المنافقين، وإذا كَانَ فِيهِمُ الظَّهْرَةُ عَلَى النَّاسِ أَظْهَرُوا هَذِهِ الْخِصَالَ: إِذَا حَدَّثُوا كَذَبُوا، وَإِذَا وَعَدُوا أَخْلَفُوا، وَإِذَا ائتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله بَعْدِ مِيثَاقِهِ، وَقَطَعُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا كَانَتِ الظَّهْرَةُ عَلَيْهِمْ أَظْهَرُوا الثَّلَاثَ الْخِصَالَ: إِذَا حَدَّثُوا كَذَبُوا، وَإِذَا وَعَدُوا أَخْلَفُوا، وَإِذَا ائْتُمِنُوا خَانُوا.

- 26 - اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يوسع الرزق عَلَى مَنْ يَشَاءُ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ، وَفَرِحَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِمَا أوتوا من الْحَيَاةِ الدُّنْيَا اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ وَإِمْهَالًا كَمَا قَالَ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَ يَشْعُرُونَ}، ثُمَّ حَقَّرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ادخر تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَقَالَ: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ}، كَمَا قَالَ: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}، وَقَالَ: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، وقال الإمام أحمد، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ أَخِي بَني فِهْرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ»، وأشار بالسبابة (أخرجه مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ)، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، وَالْأَسَكُّ الصَّغِيرُ الْأُذُنَيْنِ، فَقَالَ: «وَاللَّهِ لِلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا على أهله حين ألقوه» (أخرجه مسلم أيضاً في صحيحه).

- 27 - وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ - 28 - الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ - 29 - الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وحسن مآب يخبر تعالى عن المشركين قولهم {لَوْلاَ} أَيْ هَلَّا، {أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ}، كقولهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون} وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ، وَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى إِجَابَةٍ مَا سَأَلُوا؛ {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أَيْ هُوَ الْمُضِلُّ وَالْهَادِي، سَوَاءٌ بَعَثَ الرَّسُولَ بِآيَةٍ عَلَى وَفْقِ مَا اقْتَرَحُوا، أَوْ لَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى سُؤَالِهِمْ، فَإِنَّ الهداية والإضلال ليس منوطاً بذلك، كَمَا قَالَ: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَا يؤمنون}، وَقَالَ: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ

أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}، وَلِهَذَا قَالَ: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أَيْ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن أَنَابَ إِلَى اللَّهِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ وَاسْتَعَانَ بِهِ وَتَضَرَّعَ لَدَيْهِ، {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ تَطِيبُ وَتَرْكَنُ إِلَى جَانِبِ اللَّهِ وَتَسْكُنُ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَتَرْضَى بِهِ مَوْلًى وَنَصِيرًا، وَلِهَذَا قَالَ: {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القلوب} أي هو حقيقي بذلك، وقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}، قال ابن عباس: فرجٌ وَقُرَّةُ عَيْنٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نِعْمَ مَا لَهُمْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: غِبْطَةٌ لَهُمْ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: خير لهم، وقال قتادة: يَقُولُ الرَّجُلُ: طُوبَى لَكَ، أَيْ أَصَبْتَ خَيْرًا، وقيل: حُسْنَى لَهُمْ، {وَحُسْنُ مَآبٍ} أَيْ مَرْجِعٍ، وَهَذِهِ الأقوال لا منافاة بينها، وروى السدي عن عكرمة: طوبى لهم هي الجنة، وبه قال مجاهد. وروى ابن جرير، عن شهر بن حوشب قال: طوبى هي شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ كُلُّ شَجَرِ الْجَنَّةِ مِنْهَا أغصانها، وهكذا روى غير وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ فِي كُلِّ دَارٍ مِنْهَا غُصْنٌ مِنْهَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الرَّحْمَنَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى غَرَسَهَا بيده من حبة لؤلؤة وأمرها أم تَمْتَدَّ، فَامْتَدَّتْ إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَخَرَجَتْ مِنْ أَصْلِهَا يَنَابِيعُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ من عسل وخمر وماء ولبن. وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شجرة يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يقطعها»، قال: فحدثت بها النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيَّ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضْمَرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يقطعها». وفي صحيح البخاري عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} قَالَ: «فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يقطعها».

- 30 - كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ يَقُولُ تَعَالَى وَكَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ {لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} أي تبلغهم رِسَالَةَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَا فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْكَافِرَةِ بِاللَّهِ، وَقَدْ كُذِّبَ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِكَ فَلَكَ بِهِمْ أُسْوَةٌ، وَكَمَا أَوْقَعْنَا بَأْسَنَا وَنِقْمَتَنَا بِأُولَئِكَ فَلْيَحْذَرْ هَؤُلَاءِ مِنْ حُلُولِ النِّقَمِ بهم، قال الله تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} أَيْ كَيْفَ نَصَرْنَاهُمْ وَجَعَلْنَا الْعَاقِبَةَ لَهُمْ وَلِأَتْبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} أَيْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الَّتِي بَعَثْنَاكَ فِيهِمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ لَا يُقِرُّونَ بِهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْنَفُونَ من وصف الله بـ {الرحمن الرَّحِيمِ} وَلِهَذَا أَنِفُوا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَكْتُبُوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَقَالُوا: مَّا نَدْرِي مَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالْحَدِيثُ فِي صحيح البخاري). وفي صحيح مسلم: «إِنَّ أَحَبَّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ». {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أَيْ هَذَا الَّذِي تَكْفُرُونَ بِهِ أَنَا مُؤْمِنٌ بِهِ مُعْتَرِفٌ مُقِرٌّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أَيْ فِي جَمِيعِ أُمُورِي، {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} أَيْ إِلَيْهِ أَرْجِعُ وَأُنِيبُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ.

- 31 - وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا إِن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ يَقُولُ تَعَالَى مَادِحًا لِلْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُفَضِّلًا لَهُ عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} أَيْ لَوْ كَانَ فِي الْكُتُبِ الْمَاضِيَةِ كِتَابٌ تَسِيرُ بِهِ الْجِبَالُ عَنْ أَمَاكِنِهَا، أَوْ تُقَطَّعُ بِهِ الْأَرْضُ وَتَنْشَقُّ أَوْ تُكَلَّمُ بِهِ الْمَوْتَى فِي قُبُورِهَا، لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، أَوْ بِطْرِيقِ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِعْجَازِ الَّذِي لَا يسطتيع الإنسان وَالْجِنُّ عَنْ آخِرِهِمْ إِذَا اجْتَمَعُوا أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ وَلَا بِسُورَةٍ مِنْ مَثَلِهِ، وَمَعَ هَذَا فَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ كَافِرُونَ بِهِ جَاحِدُونَ لَهُ، {بَل للَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} أَيْ مَرْجِعُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إلى الله عزَّ وجلَّ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يكن، وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْقُرْآنِ عَلَى كُلٍّ مِنَ الكتب المتقدمة لأنه مشتق من الجمع، وفي الحديث الصحيح، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقُرْآنَ، فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَابَّتِهِ أَنْ تُسْرَجَ، فَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُسْرَجَ دَابَّتُهُ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا من عمل يديه» (أخرجه البخاري وأحمد عن أبي هريرة)، والمراد بالقرآن هو الزَّبُورُ، وَقَوْلُهُ: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ} أَيْ مِنْ إِيمَانِ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَيَعْلَمُوا أَوْ يَتَبَيَّنُوا {أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ حُجَّةٌ وَلَا مُعْجِزَةٌ، أَبْلَغَ ولا أنجع في العقول والنفوس، مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي لَوْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مَا آمَنَ عَلَى مَثَلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إليَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» مَعْنَاهُ أَنَّ مُعْجِزَةَ كُلِّ نَبِيٍّ انْقَرَضَتْ بِمَوْتِهِ وَهَذَا الْقُرْآنُ حُجَّةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى الْآبَادِ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يخلُق عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ. وروي أن المشركين قَالُوا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ سَيَّرَتْ لَنَا جِبَالَ مَكَّةَ حَتَّى تَتَّسِعَ فَنَحْرُثَ فِيهَا، أَوْ قَطَعْتَ لَنَا الْأَرْضَ كَمَا كَانَ سُلَيْمَانُ يَقْطَعُ لِقَوْمِهِ بِالرِّيحِ، أَوْ أَحْيَيْتَ لَنَا الْمَوْتَى كَمَا كَانَ عِيسَى يُحْيِي الْمَوْتَى لِقَوْمِهِ، فأنزل الله هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} (رواه ابن أبي حاتم، وبه قال ابن عباس والشعبي وقتادة وَغَيْرِ وَاحِدٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ). وَقَالَ قَتَادَةُ: لَوْ فُعِلَ هَذَا بِقُرْآنٍ غَيْرِ قرآنكم لفعل بِقُرْآنِكُمْ، وَقَوْلُهُ: {بَل للَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لَا يَصْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إلا ما شاء ولم يكن ليفعل. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} أَفَلَمْ يَعْلَمِ الَّذِينَ آمنوا، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ} أَيْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ لَا تَزَالُ الْقَوَارِعُ تُصِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا أَوْ تُصِيبُ مَنْ حَوْلَهُمْ لِيَتَّعِظُوا ويعتبروا، كما قال تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون}، قال الْحَسَنِ: {أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ}: أَيْ القارعة، وهذا هو الظاهر من السياق، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {تُصِيبُهُم بِمَا

صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} قَالَ: عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، {أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ} يَعْنِي نُزُولَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ وقتاله إياهم؛ وقال عكرمة في رواية عنه {قَارِعَةٌ}: أي نكبة، {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} يَعْنِي فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أَيْ لَا يَنْقُضُ وَعْدَهُ لِرُسُلِهِ بِالنُّصْرَةِ لَهُمْ وَلِأَتْبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام}.

- 32 - وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ يَقُولُ تعالى مسليا لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مَنْ قَوْمِهُ: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} أَيْ فَلَكَ فِيهِمْ أُسْوَةٌ، {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ أَنْظَرْتُهُمْ وَأَجَّلْتُهُمْ، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أَخْذَةً رَابِيَةً فَكَيْفَ بَلَغَكَ مَا صنعت بهم وكيف كان عقابي لهم؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}. وفي الصحيحين: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}.

- 33 - أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ يَقُولُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أَيْ حَفِيظٌ عَلِيمٌ رَقِيبٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ مِنْ خَيْرٍ وشر ولا يخفى عليه خافية {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فيه}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا}، وَقَالَ: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}، وقال: {يَعْلَمُ السر وأخفى}، وَقَالَ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تعلمون بصير}، أفمن هو كذلك كَالْأَصْنَامِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ ولا تعقل ولا تكشف ضراً عَنْهَا وَلَا عَنْ عَابِدِيهَا؟ وَحَذَفَ هَذَا الْجَوَابَ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} أَيْ عَبَدُوهَا مَعَهُ مِنْ أَصْنَامٍ وَأَنْدَادٍ وَأَوْثَانٍ، {قُلْ سَمُّوهُمْ} أَيْ أَعْلِمُونَا بِهِمْ وَاكْشِفُوا عَنْهُمْ حَتَّى يُعْرَفُوا فَإِنَّهُمْ لَا حَقِيقَةَ لَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} أَيْ لَا وُجُودَ لَهُ، لأنه لو كان لها وُجُودٌ فِي الْأَرْضِ لَعَلِمَهَا، لِأَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ {أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ}، قَالَ مُجَاهِدٌ: بظنٍّ مِنَ الْقَوْلِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: بِبَاطِلٍ مِنَ الْقَوْلِ، أَيْ إِنَّمَا عَبَدْتُمْ هَذِهِ الْأَصْنَامَ بِظَنٍّ مِنْكُمْ أَنَّهَا تَنْفَعُ وَتَضُرُّ وَسَمَّيْتُمُوهَا آلِهَةً، {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ}، {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: قَوْلُهُمْ أَيْ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار، كقوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فزينوا لهم} الآية، {وصدوا عَنِ السبيل} أَيْ بِمَا زُيِّنَ لَهُمْ مِنْ صِحَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ صُدُّوا بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَنِ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}، كَمَا قَالَ: {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}، وَقَالَ: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ}.

- 34 - لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ - 35 - مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ذَكَرَ تَعَالَى عِقَابَ الْكُفَّارِ وَثَوَابَ الْأَبْرَارِ، فَقَالَ بَعْدَ إِخْبَارِهِ عَنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ: {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ قَتْلًا وَأَسْرًا، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ} أي المدخر مَعَ هَذَا الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا {أَشَقُّ} أَيْ مِنْ هَذَا بِكَثِيرٍ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتَلَاعِنِينَ: «إِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ»، وَهُوَ كَمَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا لَهُ انْقِضَاءٌ، وَذَاكَ دَائِمٌ أَبَدًا فِي نَارٍ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ سَبْعُونَ ضِعْفًا، وَوِثَاقٌ لَا يُتَصَوَّرُ كَثَافَتُهُ وَشِدَّتُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}، وقال تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُمْ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} ولهذا قرن هذا بقوله: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أَيْ صِفَتُهَا وَنَعْتُهَا {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ سَارِحَةٌ فِي أَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَحَيْثُ شَاءَ أَهْلُهَا يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً، أَيْ يَصْرِفُونَهَا كَيْفَ شَاءُوا وَأَيْنَ شَاءُوا، كقوله: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غير آسن} الآية، وقوله: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} أي فيها الفواكه والمطاعم والمشارب لا انقطاع وَلَا فَنَاءَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَفِيهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ، فَقَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ - أَوْ أُرِيتُ الْجَنَّةَ - فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا». وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يعلى، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، إِذْ تَقَدَّمُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقَدَّمْنَا، ثُمَّ تَنَاوَلَ شَيْئًا لِيَأْخُذَهُ ثُمَّ تَأَخَّرَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتَ الْيَوْمَ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا مَا رَأَيْنَاكَ كُنْتَ تَصْنَعُهُ، فَقَالَ: «إِنِّي عُرِضَتْ عليَّ الْجَنَّةُ وَمَا فيها من زهرة وَالنَّضْرَةِ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ لِآتِيَكُمْ بِهِ فَحِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَوْ أَتَيْتُكُمْ بِهِ لَأَكَلَ مِنْهُ مِنْ بَيْنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا ينقصونه». وروى الإمام أحمد والنسائي عن زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، تَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، والذي نفس محمد بيده إن الرجل منهم لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ والجماع والشهوة»، قال: إن الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُونُ لَهُ الْحَاجَةُ وَلَيْسَ في الجنة الأذى، قال: «تكون حاجة أحدهم رشحاً يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهِمْ كَرِيحِ الْمِسْكِ فَيَضْمُرُ بَطْنُهُ»، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ لَتَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ فِي الْجَنَّةِ فَيَخِرُّ بَيْنَ يَدَيْكَ مَشْوِيًّا»، وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ إِذَا فَرَغَ مِنْهُ عَادَ طَائِرًا كَمَا كَانَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قال الله تَعَالَى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ}، وَقَالَ: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}، وَكَذَلِكَ ظِلُّهَا لَا يَزُولُ وَلَا يَقْلِصُ كَمَا قال الله تعالى: {لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً}. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْمُجِدُّ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا» ثُمَّ قَرَأَ: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} وَكَثِيرًا مَا يُقْرِنُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَصِفَةِ النَّارِ لِيُرَغِّبَ فِي الْجَنَّةِ وَيُحَذِّرَ مِنَ النَّارِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ الْجَنَّةِ

بِمَا ذَكَرَ قَالَ بَعْدَهُ: {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}، كما قال الله تَعَالَى: {لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ، أَصْحَابُ الجنة هُمْ الفائزون}.

- 36 - وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ - 37 - وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عربيا وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ يَقُولُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} وَهُمْ قَائِمُونَ بِمُقْتَضَاهُ {يَفْرَحُونَ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ} أَيْ مِنَ الْقُرْآنِ لِمَا فِي كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة، كما قال تَعَالَى: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا - إلى قوله - إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لمفعولا} أَيْ إِنْ كَانَ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ بِهِ فِي كُتُبِنَا مِنْ إِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحَقًّا وَصِدْقًا مَفْعُولًا لَا مَحَالَةَ وكائناً وَقَوْلُهُ: {وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} أَيْ ومن الطوائف من يكذب بَعْضِ مَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَمِنَ الْأَحْزَابِ}: أي اليهود والنصارى {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} أي بعض مَا جَآءَكَ مِنَ الحق، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن مِّن أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الآية، {قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ}، أَيْ إِنَّمَا بُعِثْتُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا أُرْسِلَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِي، {إِلَيْهِ أَدْعُو} أَيْ إِلَى سَبِيلِهِ أَدْعُو النَّاسَ، {وَإِلَيْهِ مَآبِ} أَيْ مَرْجِعِي وَمَصِيرِي، وَقَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} أَيْ وَكَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ الْمُرْسَلِينَ وأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ مِنَ السَّمَاءِ، كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ مُحْكَمًا مُعْرَبًا شَرَّفْنَاكَ بِهِ وَفَضَّلْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمُبِينِ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ، الَّذِي {لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. وقوله: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم} أي آراءهم {بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} أي من الله سبحانه، {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ}، وَهَذَا وَعِيدٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَتَّبِعُوا سُبُلَ أهل الضلالة بعد ما صَارُوا إِلَيْهِ مَنْ سُلُوكِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالْمَحَجَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَى مَنْ جَاءَ بِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ والسلام.

- 38 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ - 39 - يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ رسولاً بشرياً، كذلك قد بعثنا المرسلين من قَبْلَكَ بَشَرًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَيَأْتُونَ الزَّوْجَاتِ، وَيُولَدُ لَهُمْ، وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وذرية، وقد قال تَعَالَى لِأَشْرَفِ الرُّسُلِ وَخَاتَمِهِمْ: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وأقوم وأنام، وَآكُلُ اللَّحْمَ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مني». وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} أَيْ لَمْ يَكُنْ يَأْتِي قَوْمَهُ بِخَارِقٍ، إِلَّا إِذَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْهِ بَلْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أَيْ لِكُلِّ مُدَّةٍ مَضْرُوبَةٍ كِتَابٌ مَكْتُوبٌ بِهَا وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ

بِمِقْدَارٍ، {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يسير}. وكان الضحاك يقول: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}: أَيْ لِكُلِّ كِتَابٍ أَجَلٌ، يعني لكل كتاب أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مُدَّةٌ مَضْرُوبَةٌ عِنْدَ اللَّهِ وَمِقْدَارٌ معين، فلهذا {يمحو الله مَا يَشَآءُ} مِنْهَا {وَيُثْبِتُ} يَعْنِي حَتَّى نُسِخَتْ كُلُّهَا بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ: فقال الثوري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُدَبِّرُ أَمْرَ السَّنَةِ، فَيَمْحُو الله مَا يَشَآءُ، إِلَّا الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ وَالْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. وفي رواية {يمحو الله وَيُثْبِتُ} قال: كل شيء إلا الموت والحياة، والشقاء والسعادة، فإنه قد فرغ منهما (وهذا قول مجاهد أيضاً حيث قال: إلا الحياة والموت والشقاوة وَالسَّعَادَةَ فَإِنَّهُمَا لَا يَتَغَيَّرَانِ}، وَقَالَ مَنْصُورٌ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ دُعَاءَ أَحَدِنَا، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ اسْمِي فِي السُّعَدَاءِ فَأَثْبِتْهُ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَشْقِيَاءِ فَامْحُهُ عَنْهُمْ، وَاجْعَلْهُ فِي السُّعَدَاءِ، فَقَالَ: حَسَنٌ؛ ثُمَّ لَقِيتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَوْلٍ أَوْ أَكْثَرَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فقال: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي ليلة مباركة} الآيتين، قَالَ: يَقْضِي فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ في السنة من رزق أو معصية، ثُمَّ يُقَدِّمُ مَا يَشَاءُ وَيُؤَخِّرُ مَا يَشَاءُ، فأما كتاب السعادة والشقاء فَهُوَ ثَابِتٌ لَا يُغَيَّرُ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أبي وائل: إنه كان كثيراً يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا أَشْقِيَاءَ فَامْحُهُ، وَاكْتُبْنَا سُعَدَاءَ، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا سُعَدَاءَ فَأَثْبِتْنَا، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وعندك أم الكتاب (أخرجه ابن جرير)، وقال ابن جرير، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ وَهُوَ يَطُوفُ بالبيت ويبكي: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عليَّ شِقْوَةً أَوْ ذَنْبًا فَامْحُهُ، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وعندك أم الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة. وَمَعْنَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْأَقْدَارَ يَنْسَخُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ مِنْهَا وَيُثْبِتُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ، وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا البر» (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه) وثبت في الصحيح أن صلة الرحم يزيد في العمر، وفي حديث آخر: «إِنَّ الدُّعَاءَ وَالْقَضَاءَ لَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ». وقال الكلبي: يمحو الرِّزْقِ وَيَزِيدُ فِيهِ، وَيَمْحُو مِنَ الْأَجَلِ وَيَزِيدُ فيه، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الرَّجُلُ يعمل بِطَاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ يَعُودُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَيَمُوتُ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَهُوَ الَّذِي يَمْحُو؛ وَالَّذِي يُثْبِتُ الرجل يعمل بمعصية وَقَدْ كَانَ سَبَقَ لَهُ خَيْرٌ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي يُثْبِتُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} يَقُولُ: يُبَدِّلُ مَا يَشَاءُ فَيَنْسَخُهُ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فلا يبدله {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب}، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ النَّاسِخُ وَمَا يُبَدِّلُ وَمَا يُثْبِتُ كُلُّ ذَلِكَ فِي كتاب، وقال مجاهد: قالت كفار قريش لما نزلت {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}: ما نرى محمداً يملك شيئاً وقد فُرِغَ مِنَ الْأَمْرِ، فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَخْوِيفًا وَوَعِيدًا لَهُمْ: إِنَّا إِنْ شِئْنَا أَحْدَثْنَا لَهُ مِّنْ أَمْرِنَا مَا شِئْنَا، وَنُحْدِثُ فِي كُلِّ رمضان، فيمحو مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم لَهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} قال: مَن جَآءَ أجله يذهب وَيُثْبِتُ الَّذِي هُوَ حَيٌّ يَجْرِي إِلَى

أَجْلِهِ، وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَوْلُهُ: {وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} قَالَ: الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ جملة الكتاب وأصله، وقال ابن جريج عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} قَالَ: الذكر.

- 40 - وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ - 41 - أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يقول تعالى لرسوله: {وإما نُرِيَنَّكَ} يا محمد بعض الذي نَعِدُ أَعْدَاءَكَ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ فِي الدُّنْيَا، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} أَيْ قَبْلَ ذَلِكَ {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} أَيْ إِنَّمَا أَرْسَلْنَاكَ لِتُبَلِّغَهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ وقد فعلت مَا أُمِرْتَ بِهِ {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} أَيْ حِسَابُهُمْ وجزاؤهم كقوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}. وَقَوْلُهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْ لَمْ يروا أنا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم الأرض بعد الأرض، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} قَالَ: خَرَابُهَا، وَقَالَ الْحُسْنُ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ ظُهُورُ الْمُسْلِمِينَ على المشركين، وقال نُقْصَانُ الْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَخَرَابُ الْأَرْضِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لو كانت الأرض تنتقص لضاق عليك حشك (الحُشّ والحِش: البستان، قال في القاموس: الحُشُّ مثلثة: المخرج لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين)، ولكن تنقص الأنفس والثمرات، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: خَرَابُهَا بِمَوْتِ علمائها وفقهائها وَأَهْلِ الْخَيْرِ مِنْهَا. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: هو موت العلماء، وأنشد أحمد بن نمزال: الْأَرْضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَا * مَتَى يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ كَالْأَرْضِ تَحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حلَّ بِهَا * وَإِنْ أَبَى عَادَ فِي أَكْنَافِهَا التَّلَفُ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ عَلَى الشِّرْكِ قَرْيَةً بَعْدَ قرية، كقوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى} الآية، وهذا اختيار ابن جرير.

- 42 - وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عقبى الدار يقول تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} بِرُسُلِهِمْ وَأَرَادُوا إخراجهم من بلادهم فمكر الله بهم جعل العاقبة للمتقين كقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كفروا} الآية، وقوله تَعَالَى: {وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} وَقَوْلُهُ: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ السَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ وَسَيَجْزِي كل عامل بعمله، {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} أَيْ لِمَنْ تَكُونُ الدَّائِرَةُ وَالْعَاقِبَةُ لَهُمْ أَوْ لِأَتْبَاعِ الرُّسُلِ، كَلَّا، بَلْ هِيَ لِأَتْبَاعِ الرُّسُلِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

- 43 - وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب يقول تعالى: يكذبك هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ وَيَقُولُونَ: {لَسْتَ مُرْسَلاً} أَيْ مَا أَرْسَلَكَ اللَّهُ، {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً -[288]- بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي حسبي الله هو الشَّاهِدُ عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ، شَاهِدٌ عَلَيَّ فِيمَا بَلَّغْتُ عَنْهُ مِنَ الرِّسَالَةِ، وَشَاهِدٌ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ فِيمَا تَفْتَرُونَهُ مِنَ الْبُهْتَانِ، وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} قِيلَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بن سلام، وهذ الْقَوْلُ غَرِيبٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ إِنَّمَا أَسْلَمُ فِي أَوَّلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَالْأَظْهَرُ فِي هذا ما قاله ابن عباس: هم من اليهود والنصارى، وهو يَشْمَلُ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَجِدُونَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتَهُ فِي كُتُبِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ بِشَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذين يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} الْآيَةَ، وقال تعالى: {أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إسرائيل}، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ الْإِخْبَارِ عَنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِهِمُ المنزلة.

14 - سورة إبراهيم

- 14 - سورة إبراهيم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ - 2 - اللَّهِ الَّذِي لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ - 3 - الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ. {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} أَيْ هَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَهُوَ (الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ) الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ، عَلَى أَشْرَفِ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، إِلَى جَمِيعِ أَهْلِهَا عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أَيْ إِنَّمَا بَعَثْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِهَذَا الْكِتَابِ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ والغي، إلى الهدى والرشد، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلَمَاتِ إِلَى النور} الآية، وقال تعالى: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أَيْ هُوَ الْهَادِي لِمَنْ قَدَّرَ لَهُ الْهِدَايَةَ عَلَى يَدَيْ رَسُولِهِ الْمَبْعُوثِ عَنْ أَمْرِهِ، يُهْدِيهِمْ {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ} أَيِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ بَلْ هُوَ الْقَاهِرُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، {الْحَمِيدُ} أَيِ الْمَحْمُودُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وشرعته وأمره ونهيه، الصادق في خبره، {اللَّهِ الَّذِي لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض} بالجر على الاتباع صفة للجلالة، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} الآية. وَقَوْلُهُ: {وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أَيْ وَيْلٌ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ خَالَفُوكَ يَا مُحَمَّدُ وَكَذَّبُوكَ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، أَيْ يُقَدِّمُونَهَا وَيُؤْثِرُونَهَا عَلَيْهَا وَيَعْمَلُونَ لِلدُّنْيَا، وَنَسُوا الْآخِرَةَ وَتَرَكُوهَا وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ. {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وَهِيَ اتِّبَاعُ الرُّسُلِ، {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أَيْ وَيُحِبُّونَ أَنْ تَكُونَ سَبِيلُ اللَّهِ عِوَجًا مَائِلَةً عَائِلَةً، وَهِيَ مُسْتَقِيمَةٌ فِي نَفْسِهَا، لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا وَلَا مَنْ خَذَلَهَا، فَهُمْ فِي ابْتِغَائِهِمْ ذَلِكَ فِي جَهْلٍ وَضَلَالٍ بَعِيدٍ مِنَ الْحَقِّ لَا يُرْجَى لَهُمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ صَلَاحٌ.

- 4 - وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ -[290]- هَذَا مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ أَنَّهُ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ رُسُلًا مِنْهُمْ بِلُغَاتِهِمْ لِيَفْهَمُوا عَنْهُمْ مَا يُرِيدُونَ وَمَا أرسولا به إليهم، كما روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ عزَّ وجلَّ نَبِيًّا إِلَّا بِلُغَةِ قَوْمِهِ». وَقَوْلُهُ: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} أَيْ بَعْدَ الْبَيَانِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، يُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ عَنْ وَجْهِ الْهُدَى، وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى الْحَقِّ {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، {الْحَكِيمُ} فِي أَفْعَالِهِ فَيُضِلُّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِضْلَالَ، ويهدي من هو أهل لذلك.

- 5 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وأَنْزَلْنَا عليك الكتاب، لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، كَذَلِكَ أَرْسَلْنَا مُوسَى إلى بني إسرائيل بآياتنا. قال مجاهد: هي التسع الآيات، {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ} أَيْ أَمَرْنَاهُ قَائِلِينَ لَهُ: {أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أَيِ ادْعُهُمْ إِلَى الْخَيْرِ لِيَخْرُجُوا مِنْ ظُلُمَاتِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، إِلَى نُورِ الْهُدَى وَبَصِيرَةِ الْإِيمَانِ، {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} أَيْ بِأَيَادِيهِ وَنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ (ورد تفسير {أيام الله} بالنعم في حديث مرفوع عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قوله تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} قال: بنعم الله، قال ابن كثير: وورد موقوفاً وهو أشبه)، فِي إِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ أَسْرِ فِرْعَوْنَ وَقَهْرِهِ وَظُلْمِهِ وَغَشْمِهِ، وَإِنْجَائِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ عَدْوِهِمْ، وَفَلْقِهِ لَهُمُ الْبَحْرَ، وَتَظْلِيلِهِ إِيَّاهُمْ بِالْغَمَامِ، وَإِنْزَالِهِ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ. قال ذلك مجاهد وقتادة ذلك وغير واحد. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أَيْ إِنَّ فِيمَا صَنَعْنَا بِأَوْلِيَائِنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ أَنْقَذْنَاهُمْ مِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ، وَأَنْجَيْنَاهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، لَعِبْرَةٌ لِّكُلِّ {صَبَّارٍ} أَيْ فِي الضَّرَّاءِ، {شَكُورٍ} أَيْ فِي السَّرَّاءِ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: نِعْمَ الْعَبْدُ عَبْدٌ إِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ. وَكَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ عَجَبٌ، لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ».

- 6 - وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ - 7 - وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ - 8 - وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى حِينَ ذَكَّرَ قَوْمَهُ بِأَيَّامِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ وَنِعَمَهُ عَلَيْهِمْ، إذ أنجاكم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَمَا كَانُوا

يسومونهم به من العذاب والإذلال، حيث كَانُوا يَذْبَحُونَ مَنْ وُجِدَ مِنْ أَبْنَائِهِمْ، وَيَتْرُكُونَ إناثهم فأنقذهم الله مِنْ ذَلِكَ، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ} أَيْ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْهُ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ أَنْتُمْ عاجزون عن القيام بشكرها. وقيل {بَلَاءٌ} أَيِ اخْتِبَارٌ عَظِيمٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ المراد هذا، وهذا - والله أعلم - كقوله تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} أَيْ آذَنَكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِوَعْدِهِ لَكُمْ؛ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَإِذْ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه، كقوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ القيامة}. وَقَوْلُهُ: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} أَيْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ لِأَزِيدَنَّكُمْ مِنْهَا، {وَلَئِن كَفَرْتُمْ} أَيْ كَفَرْتُمُ النِّعَمَ وَسَتَرْتُمُوهَا وَجَحَدْتُمُوهَا، {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} وَذَلِكَ بِسَلْبِهَا عَنْهُمْ وَعِقَابِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى كُفْرِهَا، وقد جاء الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ». وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} أَيْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْحَمِيدُ الْمَحْمُودُ وَإِنَّ كَفَرَهُ مَنْ كَفَرَهُ.

- 9 - أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إليه مريب قص الله علينا خبر نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ مِمَّا لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، {جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ الْبَاهِرَاتِ القاطعات، وَقَوْلُهُ: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ في معناه، قيل: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ أَشَارُوا إِلَى أَفْوَاهِ الرُّسُلِ يَأْمُرُونَهُمْ بِالسُّكُوتِ عَنْهُمْ لَمَّا دَعَوْهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَقِيلَ بَلْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ تكذيباً لهم، وقال مجاهد وقتادة: معناه أنهم كذبواهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم، وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ مُجَاهِدٍ: تَفْسِيرُ ذَلِكَ بِتَمَامِ الْكَلَامِ {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} فَكَأَنَّ هذا - والله أعلم - تفسير لمعنى: {فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ}، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا سُمِعُوا كلام اللَّهِ عَجِبُوا وَرَجَعُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَقَالُوا إنا كفرنا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ الآية، يَقُولُونَ: لَا نُصَدِّقُكُمْ فِيمَا جِئْتُمْ بِهِ فَإِنَّ عِنْدَنَا فِيهِ شَكًّا قَوِيًّا.

- 10 - قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ - 11 - قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يمنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ - 12 - وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سبلنا وَلَنَصْبِرَنَّ

عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا دَارَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَبَيْنَ رُسُلِهِمْ مِنَ الْمُجَادَلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ أُمَمَهُمْ لَمَّا واجهوهم بالشك فيما جاؤوهم بِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، قالت الرسل: {أَفِي الله شَكٌّ}، أَفِي وُجُودِهِ شَكٌّ؟ فَإِنَّ الْفِطَرَ شَاهِدَةٌ بِوُجُودِهِ وَمَجْبُولَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ، فَإِنَّ الِاعْتِرَافَ بِهِ ضَرُورِيٌّ فِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ، وَلَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لبعضها شك واضطرار، فَتَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ الْمُوَصِّلِ إِلَى وجوده، ولهذا قالت الرُّسُلُ تُرْشِدُهُمْ إِلَى طَرِيقِ مَعْرِفَتِهِ بِأَنَّهُ: {فَاطِرِ السماوات والأرض} الذي خلقهما وابتدعهما عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، فَإِنَّ شَوَاهِدَ الْحُدُوثِ والخلق والتسخير ظاهر عليهما فلا بد لهما مِنْ صَانِعٍ، وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وإلهه ومليكه، وقالت لهم رسلهم: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أَيْ فِي الدنيا، فقالت لهم الأمم: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} أَيْ كَيْفَ نَتَّبِعُكُمْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِكُمْ وَلَمَّا نَرَ مِنْكُمْ مُعْجِزَةً، {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أَيْ خَارِقٍ نَقْتَرِحُهُ عَلَيْكُمْ، {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} أَيْ صَحِيحٌ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يمنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أَيْ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، {وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ} عَلَى وَفْقِ مَا سَأَلْتُمْ {إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ}، أَيْ بَعْدَ سُؤَالِنَا إِيَّاهُ وَإِذْنِهِ لَنَا فِي ذَلِكَ، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أَيْ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ. ثُمَّ قَالَتِ الرُّسُلُ: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} أَيْ وَمَا يَمْنَعُنَا مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؟ وَقَدْ هَدَانَا لِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَوْضَحِهَا وَأَبْيَنِهَا، {وَلَنَصْبِرَنَّ على مَآ آذَيْتُمُونَا} أي من الكلام السيء وَالْأَفْعَالِ السَّخِيفَةِ، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.

- 13 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ - 14 - وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ - 15 - وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ - 16 - مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ - 17 - يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا تَوَعَّدَتْ بِهِ الْأُمَمُ الْكَافِرَةُ رُسُلَهُمْ مِنَ الْإِخْرَاجِ مَنْ أَرْضِهِمْ وَالنَّفْيِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، كَمَا قَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ لَهُ وَلِمَنْ آمَنَ به: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِنْ قريتنا} الآية، وكما قال قَوْمُ لُوطٍ: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} الآية، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ}، كَمَا قَالَ الله تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون}، وَقَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قوي عزيز}، وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ للمتقين}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا}، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} أَيْ وَعِيدِي، هَذَا لِمَنْ خَافَ مَقَامِي بَيْنَ يَدَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَخَشِيَ مِنْ وَعِيدِي وَهُوَ تَخْوِيفِي وَعَذَابِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ المأوى}،

وقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ ربه جنتان}، وَقَوْلُهُ: {وَاسْتَفْتَحُوا} أَيِ اسْتَنْصَرَتِ الرُّسُلُ رَبَّهَا عَلَى قومهم (قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة)، وقال ابن أَسْلَمَ: اسْتَفْتَحَتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنْفُسِهَا، كَمَا قَالُواْ: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، ويحتمل أن يكون مُرَادًا، وَهَذَا مُرَادًا، كَمَا أَنَّهُمُ اسْتَفْتَحُوا عَلَى أنفسهم يوم بدر، واستفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم وَاسْتَنْصَرَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} الآية، {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أَيْ مُتَجَبِّرٌ فِي نفسه عَنِيدٍ معاند للحق، كقوله تَعَالَى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ، مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مريب}. وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّهُ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتُنَادِي الْخَلَائِقَ فَتَقُولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِكُلِّ جَبَّارٍ عنيد" الحديث، وقوله: {من ورائه جهنم} وراء هنا بمعنى أمام، كقوله تَعَالَى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غصبا}، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ، أَيْ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ جَهَنَّمُ، أَيْ هِيَ لَهُ بِالْمِرْصَادِ يَسْكُنُهَا مُخَلَّدًا يَوْمَ الْمَعَادِ، وَيُعْرَضُ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ، {وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} أَيْ فِي النَّارِ ليس له شراب إلا من حميم وغساق، كَمَا قَالَ: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزواج}، وقال مجاهد: الصَّدِيدُ مِنَ الْقَيْحِ وَالدَّمِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَا يُسِيلُ مِنْ لَحْمِهِ وَجِلْدِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الصَّدِيدُ مَا يَخْرُجُ مِنْ جَوْفِ الْكَافِرِ فقد خالط القيح والدم، وفي حَدِيثِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ قَالَتْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: «صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ»، وَقَالَ الإمام أحمد، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} قَالَ: «يُقَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَتَكَرَّهُهُ، فَإِذَا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، فَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ حتى يخرج من دبره»، يقول تعالى: {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فقطع أمعاءهم}، وَيَقُولُ: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوجوه} الآية (أخرجه الإمام أحمد وابن جرير). وقوله تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ} أَيْ يَتَغَصَّصُهُ وَيَتَكَرَّهُهُ، أَيْ يَشْرَبُهُ قَهْرًا وقسراً لا يضعه في فمه حَتَّى يَضْرِبَهُ الْمَلَكُ بِمِطْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ، كَمَا قال تعالى: {وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حديد}، {ولا يكاد يسيغه} أي يزدرده لسوء طعمه ولونه وَرِيحِهِ وَحَرَارَتِهِ أَوْ بَرْدِهِ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ، {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ} أَيْ يَأْلَمُ له جميع بدنه من كل عظم وعصب وعرق، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: حَتَّى مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ، وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ} قَالَ: أَنْوَاعُ الْعَذَابِ الَّذِي يُعَذِّبُهُ اللَّهُ بِهَا يوم القيامة في نار جهنم ليس منها نوع إلا يأتيه الموت مِنْهُ، لَوْ كَانَ يَمُوتُ، وَلَكِنْ لَا يَمُوتُ لَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ من عذابها}، وَمَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَا مِنْ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ من الْعَذَابِ إِلَّا إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ، اقْتَضَى أَنْ يَمُوتَ مِنْهُ لَوْ كَانَ يَمُوتُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَمُوتُ لِيَخْلُدَ فِي دَوَامِ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، وَلِهَذَا قال تعالى: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}، وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} أَيْ وله من بعد هذه الْحَالِ عَذَابٌ آخَرُ غَلِيظٌ أَيْ مُؤْلِمٌ صَعْبٌ شَدِيدٌ أَغْلَظُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ وَأَدْهَى وَأَمَرُّ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ: {فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إن عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلى الجحيم}، فأخبر أنهم تارة يكونون في أكل الزقوم، وتارة في

شرب حميم، وتارة يردون إلى جحيم، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَكَذَا قَالَ تَعَالَى: {إن شجرة الزقزم طَعَامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الحميم}، وقال تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزواج} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَنَوُّعِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، وَتَكْرَارِهِ وَأَنْوَاعِهِ وَأَشْكَالِهِ، مِمَّا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، جَزَاءً وفاقاً {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}.

- 18 - مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَعْمَالِ الكفار، الذين عبدوا معه غَيْرَهُ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ وَبَنَوْا أَعْمَالَهُمْ عَلَى غَيْرِ أساس صحيح، فانهارت فَقَالَ تَعَالَى: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ} أي مثل أعمالهم يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا طَلَبُوا ثَوَابَهَا مِنَ اللَّهِ تعالى، لأنهم كانوا يحسبون أنهم كانوا على شيء، فلم يجدوا شيئاً إِلَّا كَمَا يُتَحَصَّلُ مِنَ الرَّمَادِ إِذَا اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ الْعَاصِفَةُ {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} أَيْ ذي ريح شديدة عاصفة قوية، فلم يقدروا على شيء من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا، كقوله تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى ماعملوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هباء منثورا}، وقوله تَعَالَى: {مَّثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ}، وقوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ}، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} أَيْ سَعْيُهُمْ وَعَمَلُهُمْ عَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ وَلَا اسْتِقَامَةٍ، حَتَّى فَقَدُوا ثوابهم أحوج ما كانوا إليه.

- 19 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ - 20 - وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى مَعَادِ الْأَبْدَانِ يَوْمَ القيامة، بأنه خلق السماوات وَالْأَرْضَ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، أفليس الذي قَدَرَ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ السَّمَاوَاتِ فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا وَعَظَمَتِهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الكواكب الثوابت والسيارات وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ، وَهَذِهِ الْأَرْضُ بِمَا فِيهَا مِنْ مِهَادٍ وَوِهَادٍ، وَأَوْتَادٍ وَبَرَارِي وَصَحَارِي وَقِفَارٍ وَبِحَارٍ وأشجار، ونبات وحيوان {أولم يرو أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى، بلى إِنَّهُ على كُلِّ شيء قدير}، وَقَوْلُهُ: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أَيْ بِعَظِيمٍ وَلَا مُمْتَنِعٍ، بَلْ هُوَ سَهْلٌ عَلَيْهِ إِذَا خالفتم أمره أن يذهبكم ويأت بآخرين على غير صفتكم.

- 21 - وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ يَقُولُ {وَبَرَزُواْ} أَيْ بَرَزَتِ الْخَلَائِقُ كُلُّهَا، بَرُّهَا وَفَاجِرُهَا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، أَيِ اجْتَمَعُوا لَهُ فِي بِرَازٍ

مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَسْتُرُ أَحَدًا، {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ} وَهْمُ الْأَتْبَاعُ لقادتهم وسادتهم وكبرائهم {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، وعن موافقة الرسل، قالوا لَهُمْ: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} أَيْ مَهْمَا أَمَرْتُمُونَا ائْتَمَرْنَا وَفَعَلْنَا، {فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} أَيْ فَهَلْ تَدْفَعُونَ عَنَّا شَيْئًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ كَمَا كُنْتُمْ تَعِدُونَنَا وَتُمَنُّونَنَا، فَقَالَتِ الْقَادَةُ لَهُمْ: {لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ} ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ، {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} أَيْ لَيْسَ لَنَا خَلَاصٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ إِنْ صَبْرَنَا عَلَيْهِ أَوْ جَزِعْنَا مِنْهُ. قَالَ عَبْدُ الرحمن بن أسلم: أن أهل النار قَالُواْ: تعالوا فإنما أدرك أهل الْجَنَّةَ بِبُكَائِهِمْ وَتَضَرُّعِهِمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، تعالوا نبك وتنضرع إلى الله، فبكوا وتضرعوا، فلما رأوا أنه لا ينفعهم، قالوا: إنما أَدْرَكَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ بِالصَّبْرِ، تَعَالَوْا حَتَّى نَصْبِرَ فَصَبَرُوا صَبْرًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا} الآية. قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةَ فِي النَّارِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً من النار}، وقال {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ، قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تعلمون}، وقال تعالى: {رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}، وَأَمَّا تُخَاصِمُهُمْ فِي الْمَحْشَرِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلِ، يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ، بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ}.

- 22 - وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 23 - وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فيها سلام يخبر تعالى عما خاطب به إبليس أتباعه بعد ما قَضَى اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فَأَدْخَلَ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّاتِ، وَأَسْكَنَ الْكَافِرِينَ الدَّرَكَاتِ، فَقَامَ فِيهِمْ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ الله يومئذ خَطِيبًا لِيَزِيدَهُمْ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ وَغَبْنًا إِلَى غَبْنِهِمْ وَحَسْرَةً إِلَى حَسْرَتِهِمْ فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} أَيْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ وَوَعَدَكُمْ فِي اتِّبَاعِهِمُ النَّجَاةَ وَالسَّلَامَةَ، وَكَانَ وَعْدًا حقاً وخبراً صدقاً وأما أنا فوعدتكم فأخلفتكم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} ثُمَّ قَالَ: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أَيْ مَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ فِيمَا دعوتكم إليه دليل ولا حجة فيما وَعَدْتُكُمْ بِهِ، {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، هَذَا وَقَدْ أَقَامَتْ عَلَيْكُمُ الرُّسُلُ الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاؤوكم بِهِ، فَخَالَفْتُمُوهُمْ فَصِرْتُمْ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ {فَلاَ تَلُومُونِي} الْيَوْمَ، {وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ} فَإِنَّ الذَّنْبَ لَكُمْ لِكَوْنِكُمْ خَالَفْتُمُ الْحُجَجَ، وَاتَّبَعْتُمُونِي بِمُجَرَّدِ مَا دَعَوْتُكُمْ إِلَى الْبَاطِلِ، {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} أَيْ بنافعكم ومنقذكم

وَمُخَلِّصِكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، {وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أَيْ بِنَافِعِيَّ بِإِنْقَاذِي مِمَّا أَنَا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} قال قتادة: أي بسبب ما أشركتموني مِن قَبْلُ، قال ابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُ إِنِّي جَحَدْتُ أَنْ أَكُونَ شَرِيكًا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ الرَّاجِحُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أعداءاً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}، وَقَالَ: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الظَّالِمِينَ} أَيْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَالظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ، أَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ تَكُونُ مِنْ إِبْلِيسَ بَعْدَ دُخُولِهِمُ النَّارَ كَمَا قَدَّمْنَا، قال الشعبي: يقوم خطيبان يوم القيامة على رؤوس الناس، يقول تعالى لعيسى بن مَرْيَمَ: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دون الله}؟ قَالَ: وَيَقُومُ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ فَيَقُولُ: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} الآية، ثم ذَكَرَ تَعَالَى مَآلَ الْأَشْقِيَاءِ وَمَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَأَنَّ خَطِيبَهُمْ إِبْلِيسُ عَطَفَ بمآل السعداء، فقال: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} سَارِحَةً فِيهَا حَيْثُ سَارُوا وَأَيْنَ سَارُوا، {خَالِدِينَ فِيهَا} مَاكِثِينَ أَبَدًا لَا يُحَوَّلُونَ وَلَا يَزُولُونَ {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ}، كما قال تعالى: {حتى إذا جاؤوها وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ هم خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عليكم}، وقال تعالى: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً}، وقال تَعَالَى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

- 24 - أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ - 25 - تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ - 26 - وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرض مَّا لَهَا مِن قرار قال ابن عباس: قَوْلِهِ {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً}: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ} وَهُوَ الْمُؤْمِنُ {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} يَقُولُ: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء: وقال البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَخْبِرُونِي عَنْ شَجَرَةٍ تُشْبِهُ - أَوْ - كَالرَّجُلِ اَلْمُسْلِمِ، لَا يتحات ورقها صيفاً ولا شتاء، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَا يَتَكَلَّمَانِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، فَلَمَّا لَمْ يَقُولُوا شَيْئًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ النَّخْلَةُ»، فَلَمَّا قُمْنَا قُلْتُ لِعُمَرَ: يَا أبتاه والله وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ: مَا مَنَعَكَ أن تتكلم؟ قلت: لَمْ أَرَكُمْ تَتَكَلَّمُونَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ أَوْ أَقُولَ شَيْئًا، قَالَ عُمَرُ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أحب إليَّ من كذا وكذا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ} قَالَ: هِيَ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ. وَقَوْلُهُ: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} قِيلَ: غُدْوَةً وَعَشِيًّا، وَقِيلَ: كُلَّ شَهْرٍ، وقيل كل شهرين، وقيل غير ذلك. وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ شجرة، لا يزال يوجد منها ثمرة فِي كُلِّ وَقْتٍ، مِنْ صَيْفٍ أَوْ شِتَاءٍ أَوْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ لَا يَزَالُ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ {بِإِذْنِ رَبِّهَا} أي كاملاً حسناً كثيراً طيباً مباركاً {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ

يَتَذَكَّرُونَ}. وقوله تعالى: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} هَذَا مَثَلُ كُفْرِ الْكَافِرِ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا ثَبَاتَ، مشبه بشجرة الحنظل (روي هذا في حديث مرفوع أن الشجرة الخبيثة هي الحنظلة، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ)، وَقَوْلُهُ: {اجْتُثَّتْ} أَيِ اسْتُؤْصِلَتْ {مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} أَيْ لَا أَصْلَ لَهَا وَلَا ثَبَاتَ، كَذَلِكَ الْكُفْرُ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا فَرْعَ، وَلَا يَصْعَدُ لِلْكَافِرِ عَمَلٌ وَلَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ شَيْءٌ.

- 27 - يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويفعل الله مَا يَشَآءُ روى البخاري، عن براء بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اَلْمُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي الْقَبْرِ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} " (وَرَوَاهُ مسلم أيضاً وبقية الجماعة). وقال الإمام أحمد، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جنازة رجل من الأنصار، فانتهيا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلَحَّدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الْأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مغفرةٍ مِّن اللَّهِ وَرِضْوَانٍ - قَالَ فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجَ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخرى، قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: "رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِي الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي منادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الريح فيقول: أبشر بالذي كنت يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ له: من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بِالْخَيْرِ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي. قَالَ: وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ من الآخرة، نزل عليه ملائكة من السماء سود الوجه

مَعَهُمُ الْمُسُوحُ فَجَلَسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فيجلس عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ - قَالَ - فَتُفَرَّقُ في جسده فينتزعه كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، فيخرج مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فَلَا يُفْتَحُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط}، فَيَقُولُ اللَّهُ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحَ رُوحُهُ طَرْحًا - ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيق}، فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ وَيَقُولَانِ لَهُ مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي منادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أن كذب عبدي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسُمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوؤُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: وَمَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِذَا خَرَجَتْ رُوحُ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ يَصْعَدَانِ بِهَا قَالَ حَمَّادٌ: فَذَكَرَ مَنْ طِيبِ رِيحِهَا وَذَكَرَ الْمِسْكَ - قَالَ - وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ طَيِّبَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وَعَلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ، فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ عزَّ وجلَّ فَيَقُولُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ. وإن كان الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ - قَالَ حَمَّادٌ - وَذَكَرَ مِنْ نَتْنِهَا، وَذَكَرَ مَقْتًا وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَيْطَةً كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفِهِ هكذا. وقال ابن حبان في صحيحيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا قُبِضَ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي إِلَى رَوْحِ اللَّهِ، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ مسك، حتى أنه ليناوله بعضهم يَشُمُّونَهُ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ بَابَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: ما هذه الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ؟ وَلَا يَأْتُونَ سَمَاءً إِلَّا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَهُمْ أَشُدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أَهْلِ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ، فَيَقُولُونَ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ، فَيَقُولُونَ: دَعُوهُ حَتَّى يَسْتَرِيحَ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمٍّ، فَيَقُولُ: قَدْ مَاتَ أما أتاكم، فيقولون: ذهب إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَأْتِيهِ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ بِمِسْحٍ فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي إِلَى غَضَبِ اللَّهِ، فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ، فَيُذْهَبُ بِهِ إِلَى الأرض". وروى الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ شَهِدَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَبَشَّرُوهُ بِالْجَنَّةِ، فَإِذَا مَاتَ مَشَوْا مَعَ جِنَازَتِهِ، ثُمَّ صَلَّوْا عَلَيْهِ مَعَ النَّاسِ، فَإِذَا دُفِنَ أُجْلِسَ فِي قَبْرِهِ فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَسُولُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا شَهَادَتُكَ؟ فَيَقُولُ:

أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَيُوَسَّعُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتَنْزِلُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ فَيَبْسُطُونَ أَيْدِيَهُمْ، وَالْبَسْطُ هُوَ الضَّرْبُ {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} عِنْدَ الْمَوْتِ، فَإِذَا أُدْخِلَ قَبْرَهُ أُقْعِدُ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ رَبُّكُ؟ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِمْ شَيْئًا، وَأَنْسَاهُ اللَّهُ ذِكْرَ ذَلِكَ، وَإِذَا قِيلَ: مَنِ الرَّسُولُ الَّذِي بُعِثَ إِلَيْكَ؟ لَمْ يهتد له ولم يرجع إليهم شَيْئًا {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}. وَقَالَ ابْنُ أبي حاتم، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} الْآيَةَ، قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا مَاتَ أُجْلِسَ فِي قَبْرِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فيقال له: ذَلِكَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النار، فيقال له: أنظر إلى منزلك من النَّارِ لَوْ زُغْتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الجنةَ فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَنْزِلِكَ من الجنة إذا ثَبَتَّ. وَإِذَا مَاتَ الْكَافِرُ أُجْلِسَ فِي قَبْرِهِ فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ مَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ، فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الجنةَ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَنْزِلِكَ إذا ثَبَتَّ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، فيقال له: أنظر إلى منزلك إذا زُغْتَ، فَذَلِكَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طاووس عَنْ أَبِيهِ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحياة الدنيا} قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ {وَفِي الْآخِرَةِ} الْمَسْأَلَةُ فِي الْقَبْرِ، وَقَالَ قَتَادَةُ أَمَّا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَيُثَبِّتُهُمْ بِالْخَيْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ {وَفِي الْآخِرَةِ}: فِي الْقَبْرِ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وعن عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الرَّجُلِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل» (أخرجه أبو داود في سننه).

- 28 - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ - 29 - جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ - 30 - وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً}، أَلَمْ تَعْلَمْ، كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ}، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خرجوا}. البوار: الهلاك، بار يبور بوراً، {قَوْماً بورا} هَالِكِينَ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ سَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً} قال: هو كفار أهل مكة. والمعنى جَمِيعَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ وَنِعْمَةً لِلنَّاسِ، فَمَنْ قَبِلَهَا وَقَامَ بِشُكْرِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، ومن ردها وكفرها دخل النار. وقال ابن أبي حاتم: قَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَلَا أَحَدٌ يَسْأَلُنِي عَنِ الْقُرْآنِ؟ فوالله لو أعلم اليوم أحداً أعلم به مني وَإِنْ كَانَ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ لَأَتَيْتُهُ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْكَوَّاءِ، فَقَالَ: مّنْ {الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار}؟ قال: مُشْرِكُو قُرَيْشٍ أَتَتْهُمْ نِعْمَةُ اللَّهِ الْإِيمَانُ، فَبَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ. وقال سفيان الثوري، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً} قَالَ: هُمُ الْأَفْجَرَانِ مِنْ قُرَيْشٍ: بَنُو الْمُغِيرَةِ وَبَنُو أُميَّة، فَأَمَّا بَنُو الْمُغِيرَةِ فكُفِيتُمُوهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا بَنُو أُمَيَّةَ فَمُتِّعُوا إِلَى حِينٍ. وَكَذَا رَوَاهُ حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعُمَرَ

بْنِ الْخَطَّابِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْآيَةُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} قَالَ: هُمُ الْأَفْجَرَانِ مِنْ قُرَيْشٍ أَخْوَالِي وَأَعْمَامُكَ، فَأَمَّا أَخْوَالِي فَاسْتَأْصَلَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا أَعْمَامُكُ فَأَمْلَى اللَّهُ لَهُمْ إِلَى حِينٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بن جبير والضحاك وقتادة وابن زَيْدٍ: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بدر؛ وكذا رواه مالك في تفسير عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ}، أَيْ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ عَبَدُوهُمْ مَعَهُ وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مُهَدِّدًا لَهُمْ وَمُتَوَعِّدًا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} أَيْ مَهْمَا قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَافْعَلُوا فهما يَكُنْ مِّن شَيْءٍ {فَأَنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} أَيْ مَرْجِعَكُمْ وَمَوْئِلَكُمْ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}. وَقَالَ تَعَالَى: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}.

- 31 - قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَالٌ يقول تعالى آمراً عباده بِطَاعَتِهِ، وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ، بِأَنْ يقيموا الصلاة، وَأَنْ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، بِأَدَاءِ الزَّكَوَاتِ وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْقَرَابَاتِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَجَانِبِ، وَالْمُرَادُ بِإِقَامَتِهَا هُوَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى وَقْتِهَا وَحُدُودِهَا وَرُكُوعِهَا وَخُشُوعِهَا وَسُجُودِهَا، وَأَمَرَ تَعَالَى بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَ فِي السِّرِّ، أَيْ فِي الْخُفْيَةِ وَالْعَلَانِيَةِ وَهِيَ الْجَهْرُ، وَلْيُبَادِرُوا إِلَى ذَلِكَ لِخَلَاصِ أَنْفُسِهِمْ {مِنْ قِبَل أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} أي ولا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ فِدْيَةٌ بِأَنْ تُبَاعَ نَفْسُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الذين كفروا}. وَقَوْلُهُ: {وَلاَ خِلاَلٌ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُ: ليس هناك مخالة خليل فيصبح عمن استوجب العقوبة عن العقاب لمخالفته، بل هناك العدل والقسط، يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ أَحَدًا بَيْعٌ وَلَا فِدْيَةٌ، وَلَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا لو وجده، ولا تنفعه صَدَاقَةُ أَحَدٍ وَلَا شَفَاعَةُ أَحَدٍ، إِذَا لَقِيَ اللَّهَ كَافِرًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شفاعة وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}، وقال تعالى: {ياأيها الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظالمون}.

- 32 - اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ - 33 - وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ - 34 - وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ يُعَدِّدُ تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى خَلْقِهِ بِأَنْ خَلَقَ لهم السموات سَقْفًا مَحْفُوظًا وَالْأَرْضَ فِرَاشًا، {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ} مَا بَيْنَ ثِمَارٍ وَزُرُوعٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَالْمَنَافِعِ، وَسَخَّرَ الْفُلْكَ بِأَنْ جَعْلَهَا طَافِيَةً عَلَى تَيَّارِ مَاءِ الْبَحْرِ، تَجْرِي عَلَيْهِ بأمر الله تعالى، وسخر البحر لحملها لِيَقْطَعَ الْمُسَافِرُونَ بِهَا

مِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ آخَرَ لِجَلْبِ مَا هنا إلى هناك، وما هناك إلى هنا، وَسَخَّرَ الْأَنْهَارَ تَشُقُّ الْأَرْضَ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قطر، رزقاً للعباد، {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ} أَيْ يَسِيرَانِ لا يفتران لَيْلًا وَلَا نَهَارًا {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، {يغشي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} فالشمس والقمر يتعاقبان، والليل والنهار يتعارضان، فَتَارَةً يَأْخُذُ هَذَا مِنْ هَذَا فَيَطُولُ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْآخَرُ مِنْ هَذَا فَيَقْصُرُ، {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى إِلاَّ هُوَ العزيز الغفار}، وَقَوْلُهُ: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} يَقُولُ: هَيَّأَ لَكُمْ كُلَّ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ مِمَّا تَسْأَلُونَهُ بِحَالِكُمْ وَقَالِكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَمَا لم تسألوه، وَقَوْلُهُ: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا}، يخبر تعالى عَنْ عَجْزِ الْعِبَادِ عَنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ فَضْلًا عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِهَا، كَمَا قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ رَّحْمَةِ اللَّهُ: إِنَّ حَقَّ اللَّهِ أَثْقَلُ مِنْ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْعِبَادُ، وَإِنَّ نِعَمَ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهَا الْعِبَادُ، وَلَكِنْ أصحبوا تائبين وأمسوا تائبين. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُودَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عنه ربنا». وَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَشْكُرُكَ وَشُكْرِي لَكَ نِعْمَةٌ مِنْكَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الْآنَ شَكَرْتَنِي يَا دَاوُدُ، أَيْ حِينَ اعْتَرَفْتَ بالتقصير عن أداء شكر المنعم. وقال الإمام الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يُؤَدَّى شُكْرُ نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِهِ، إِلَّا بِنِعْمَةٍ حادثة توجب على مؤديها شُكْرَهُ بِهَا، وَقَالَ الْقَائِلُ فِي ذَلِكَ: لَوْ كان جَارِحَةٍ مِنِّي لَهَا لُغَةٌ * تُثْنِي عَلَيكَ بِمَا أوليتَ مِنْ حَسَنِ لَكَانَ مَا زَادَ شُكْرِي إِذْ شَكَرْتُ بِهِ * إِلَيْكَ أَبْلُغَ فِي الْإِحْسَانِ والمنن.

- 35 - وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ - 36 - رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَذْكُرُ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَقَامِ مُحْتَجًّا عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِأَنَّ الْبَلَدَ الْحَرَامَ مَكَّةَ، إِنَّمَا وُضِعَتْ أَوَّلَ مَا وُضِعَتْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَتْ عَامِرَةً بِسَبَبِهِ آهِلَةً تَبَرَّأَ مِمَّنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ دَعَا لِمَكَّةَ بِالْأَمْنِ فَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً}، وَقَدِ اسْتَجَابَ الله له فقال تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حرما آمِناً} الآية. وَقَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البلد آمنا} فعرفه لأنه دَعَا بِهِ بَعْدَ بِنَائِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {الْحَمْدُ للَّهِ الذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وإسحق}، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ أَكْبَرُ مِنْ إِسْحَاقَ بِثَلَاثَ عشرة سنة، وقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} يَنْبَغِي لِكُلِّ دَاعٍ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِذُرِّيَّتِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ افْتَتَنَ بِالْأَصْنَامِ خَلَائِقُ مِنَ النَّاسِ، وأنه تبرأ مِمَّنْ عَبَدَهَا وَرَدَّ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ إِنْ شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، كقول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وليس فيه أَكْثَرُ مِنَ الرَّدِّ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَجْوِيزُ وُقُوعِ ذَلِكَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن وهب، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس} الآية، وَقَوْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عبادك} الآية، ثم رفع يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أُمَّتِي، اللَّهُمَّ أُمَّتِي، اللهم أمتي» وبكى، فقال الله: اذهب يا جبريل إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ

أَعْلَمُ؛ وَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قَالَ، فَقَالَ اللَّهُ: اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك.

- 37 - رَّبَّنَآ إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا دُعَاءٌ ثَانٍ بَعْدَ الدُّعَاءِ الْأَوَّلِ الَّذِي دَعَا بِهِ عِنْدَمَا وَلَّى عَنْ هَاجَرَ وَوَلَدِهَا، وَذَلِكَ قَبْلَ بِنَاءِ الْبَيْتِ، وَهَذَا كَانَ بَعْدَ بِنَائِهِ تَأْكِيدًا وَرَغْبَةً إِلَى اللَّهِ عَزَّ وجلَّ، وَلِهَذَا قَالَ: {عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}. وقوله: {رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة} أَيْ إِنَّمَا جَعَلْتَهُ مُحَرَّمًا لِيَتَمَكَّنَ أَهْلُهُ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تهوي إِلَيْهِمْ}، قال ابن عباس (وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما): لَوْ قَالَ أَفْئِدَةَ النَّاسِ لَازْدَحَمَ عَلَيْهِ فَارِسُ وَالرُّومُ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ، وَلَكِنْ قَالَ: {مِّنَ النَّاسِ} فاختُص بِهِ الْمُسْلِمُونَ. وَقَوْلُهُ: {وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ} أَيْ لِيَكُونَ ذَلِكَ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى طَاعَتِكَ، وَكَمَا أَنَّهُ وادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ فَاجْعَلْ لَهُمْ ثِمَارًا يَأْكُلُونَهَا، وَقَدِ اسْتَجَابَ الله ذلك، كما قال: {أو لم نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كل شيء رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا} وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ وَبَرَكَتِهِ أنه لس فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ (مَكَّةَ) شَجَرَةٌ مُثْمِرَةٌ، وَهِيَ تجبى إليها ثمرات ما حولها استجابة لدعاء الخليل عليه السلام.

- 38 - رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ - 39 - الْحَمْدُ لِلَّهِ الذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ - 40 - رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ - 41 - رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ أَنَّهُ قَالَ: {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} أَيْ أَنْتَ تَعْلَمُ قَصْدِي فِي دُعَائِي وَمَا أَرَدْتُ بِدُعَائِي لِأَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْقَصْدُ إِلَى رِضَاكَ وَالْإِخْلَاصِ لَكَ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ حَمِدَ رَبَّهُ عزَّ وجلَّ عَلَى مَا رَزَقَهُ مِنَ الْوَلَدِ بَعْدَ الْكِبَرِ فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} أي أنه يستجيب لِمَنْ دَعَاهُ، وَقَدِ اسْتَجَابَ لِي فِيمَا سَأَلْتُهُ مِنَ الْوَلَدِ، ثُمَّ قَالَ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} أَيْ مُحَافِظًا عَلَيْهَا مُقِيمًا لِحُدُودِهَا {وَمِن ذُرِّيَتِي} أي واجعلهم كذلك مقيمين لها (يعني بذريته: بني إسماعيل الذين تناسلت فيهم عرب الحجاز. وقيل أيضاً عرب اليمن، وذريته اثنا عشر رجلاً وامرأة)، {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ} أَيْ فِيمَا سَأَلْتُكَ فِيهِ {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ}، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ لما تبين عَدَاوَتُهُ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ كُلِّهِمْ {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} أَيْ يَوْمَ تُحَاسِبُ عِبَادَكَ فتجازيهم بِأَعْمَالِهِمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ.

- 42 - وَلَا تحسبنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ - 43 - مُهْطِعِينَ مقنعي رؤوسهم لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طرفهم وأفئدتهم هواء يقول تعالى: وَلَا تحسبنَّ اللَّهَ - يَا مُحَمَّدُ - غَافِلًا عَمَّا يعمل الظالمون، أي لا تحسبنه إذا أَنْظَرَهُمْ وَأَجَّلَهُمْ أَنَّهُ غَافِلٌ عَنْهُمْ، مُهْمِلٌ لَهُمْ لَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَى صُنْعِهِمْ، بَلْ هُوَ يُحْصِي ذلك عليهم ويعده عليهم عداً، {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} أَيْ مِنْ شِدَّةِ الْأَهْوَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ثُمَّ ذَكَرَ تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إِلَى قِيَامِ الْمَحْشَرِ، فَقَالَ: {مُهْطِعِينَ} أَيْ مُسْرِعِينَ، كما قال تعالى: {مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع} الآية، وقال تعالى: {يؤمئذ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ}. وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً} الآية، وقوله: {مُقْنِعِي رُؤُوسَهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: رَافِعِي رؤوسهم، {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي أبصارهم ظاهرة شاخصة مديمون النَّظَرَ، لَا يَطْرِفُونَ لَحْظَةً لِكَثْرَةِ مَا هُمْ فيه من الهول وَالْمَخَافَةِ لِمَا يَحِلُّ بِهِمْ عِيَاذًا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ مِنْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} أَيْ وَقُلُوبُهُمْ خَاوِيَةٌ خَالِيَةٌ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ لِكَثْرَةِ الْوَجِلِ وَالْخَوْفِ، وَلِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ: إِنَّ أَمْكِنَةَ أَفْئِدَتِهِمْ خَالِيَةٌ، لِأَنَّ الْقُلُوبَ لَدَى الْحَنَاجِرِ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ. وقال بعضهم: هي خراب لا تعي شيئاً لشدة ما أخبر به تعالى عنهم، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:

- 44 - وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ - 45 - وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ - 46 - وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لتزول منه الجبال يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم عند معانية الْعَذَابِ: {رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل}، كقوله: {حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارجعون} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أموالكم} الآيتين، وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ فِي حَالِ مَحْشَرِهِمْ: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون ناكسوا رؤوسهم} الآية، وَقَالَ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} الآية، وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} الآية، قال تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} أي أو لم تكونوا تحلفون في قبل هذه الحالة أَنَّهُ لَا زَوَالَ لَكُمْ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا مَعَادَ وَلَا جَزَاءَ فَذُوقُوا هَذَا بذلك، قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ}: أَيْ مَا لَكَمْ مِنِ انْتِقَالٍ مِنَ الدُّنْيَا إلى الآخرة، كقوله: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثَ اللَّهُ مِن يموت} الآية، {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} أَيْ قَدْ رَأَيْتُمْ وَبَلَغَكُمْ مَا أَحْلَلْنَا بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ قَبْلَكُمْ وَمَعَ هَذَا لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ فِيهِمْ مُعْتَبَرٌ وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا أَوْقَعْنَا بِهِمْ مزدجر {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فما تغني النذر}. وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} يَقُولُ: مَا كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَوَجَّهَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّ هذا الذي فعلوه بأنفسهم من شركهم بالله وكفرهم بِهِ مَا ضَرَّ ذَلِكَ شَيْئًا مِنَ الْجِبَالِ ولا غيرها، وإنما عاد وبال ذلك عليهم، ويشبه هذا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}، وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِهَا مَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَإِن كَانَ

مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} يَقُولُ: شِرْكُهُمْ كَقَوْلِهِ: {تكاد السموات والأرض يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} الآية، وَهَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ.

- 47 - فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ - 48 - يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ يَقُولُ تَعَالَى مُقَرِّرًا لِوَعْدِهِ وَمُؤَكِّدًا {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} أَيْ مِنْ نُصْرَتِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، ثُمَّ أخبر تعالى أنه ذو عزة لا يمنتع عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ وَلَا يُغَالَبُ، وَذُو انْتِقَامٍ ممن كفر به وجحده، {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}، وَلِهَذَا قَالَ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} أَيْ وَعْدُهُ هَذَا حَاصِلٌ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غير الأرض، كما جاء في الصحيحين، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ»، وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الأرض والسموات} قَالَتْ، قُلْتُ: أَيْنَ النَّاسُ يومئذٍ يَا رَسُولَ الله؟ قال: «على الصراط» (رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح). وَقَالَ الْإِمَامُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ يهود فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا، فَقَالَ: لِمَ تَدْفَعُنِي؟ فَقُلْتُ: أَلَا تَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اسْمِي مُحَمَّدٌ الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي»، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أينفعك شيئاً إِنْ حَدَّثْتُكَ»؟ فَقَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ، فَنَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُودٍ مَعَهُ، فَقَالَ: «سَلْ»، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غير الأرض والسماوات؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ»، قَالَ: فَمَنْ أول الناس إجازة؟ فقال: «فقراء المهاجرين»، فقال الْيَهُودِيُّ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: «زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ»، قَالَ: فَمَا غِذَاؤُهُمْ فِي أَثَرِهَا؟ قَالَ: «يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا»، قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً»، قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: وَجِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ، قَالَ: «أَيَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ»؟ قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ، قَالَ جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنِ الْوَلَدِ، قَالَ: «مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلَا مَنِيُّ الرجل مني المرأة كان ذكراً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرجل كان أُنثى بِإِذْنِ اللَّهِ»، قَالَ الْيَهُودِيُّ: لَقَدْ صَدَقْتَ، وَإِنَّكَ لَنَبِيٌّ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ سَأَلَنِي هَذَا عَنِ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ وَمَا لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ منه حتى أتاني الله به».

وروى أبو جعفر بن جرير الطبري، عن عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ يَقُولُ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غير الأرض} قال: أرض كالفضة البيضاء النقية، لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ، وَلَمْ يُعْمَلْ عَلَيْهَا خَطِيئَةٌ، يُنْفِذُهُمُ الْبَصَرُ، وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي حُفَاةً عُرَاةً كَمَا خُلِقُوا، قَالَ، أُرَاهُ قَالَ قِيَامًا حَتَّى يلجمهم العرق، وعن عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الأرض} قال: «أرض بيضاء لم يسفك عليها دم، ولم يعمل عليها خطيئة» (رواه الحافظ أبو بكر البزار). وقال الربيع، عن أبي بن كعب قال: تصير السماوات جناناً. وقال الاعمش، عن عبد الله بن مسعود: الأرض كلها نار يوم القيامة، والجنة مِنْ وَرَائِهَا تَرَى أَكْوَابَهَا وَكَوَاعِبَهَا، وَالَّذِي نَفْسُ عَبْدِ اللَّهِ بِيَدِهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَفِيضُ عَرَقًا حتى ترشح فِي الْأَرْضِ قَدَمُهُ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ حَتَّى يَبْلُغَ أنفه، وما مسه الحساب، قالوا: ممَ ذلك يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ مِمَّا يَرَى الناس ويلقون. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَس عَنْ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غير الأرض والسموات} قال: تصير السماوات جِنَانًا وَيَصِيرُ مَكَانُ الْبَحْرِ نَارًا وَتُبَدَّلُ الْأَرْضُ غيرها. وَقَوْلُهُ: {وَبَرَزُواْ للَّهِ} أَيْ خَرَجَتِ الْخَلَائِقُ جَمِيعُهَا مِنْ قُبُورِهِمْ لِلَّهِ {الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أَيِ الَّذِي قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَغَلَبَهُ، وَدَانَتْ لَهُ الرِّقَابُ وَخَضَعَتْ لَهُ الْأَلْبَابُ.

- 49 - وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ - 50 - سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ - 51 - لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يَقُولُ تَعَالَى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الأرض والسموات} وَتَبْرُزُ الْخَلَائِقُ لديَّانها تَرَى يَا مُحَمَّدُ يومئذٍ الْمُجْرِمِينَ وَهُمُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بِكُفْرِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، {مُّقَرَّنِينَ} أَيْ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَدْ جُمِعَ بَيْنَ النُّظَرَاءِ أَوِ الْأَشْكَالِ مِنْهُمْ كُلِّ صِنْفٍ إِلَى صِنْفٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ}، وقال: {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ}، وَقَالَ: {وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً}، وَقَالَ: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} وَالْأَصْفَادُ هِيَ الْقُيُودُ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْأَعْمَشُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ)، قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: فَآبُوا، بِالثِّيَابِ وَبِالسَّبَايَا * وأبنا بالملوك مصفدينا وقوله تعالى: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} أَيْ ثِيَابُهُمُ الَّتِي يَلْبَسُونَهَا مِنْ قَطِرَانٍ، وَهُوَ الَّذِي تُهَنَّأُ بِهِ الْإِبِلُ، أي تطلى، قال قتادة: وهو ألصق شيء بالنار، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: الْقَطِرَانُ هُوَ النُّحَاسُ المذاب (وهو مروي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة)، أَيْ مِنْ نُحَاسٍ حَارٍّ قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، وَقَوْلُهُ: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}، كَقَوْلِهِ: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}، وقال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن بالأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت، وَالنَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا؛ تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٍ مِنْ جرب" (أخرجه مسلم والإمام أحمد في المسند)، وقوله: {لِيَجْزِيَ الله كل نفس ما كَسَبَتْ} أي يوم

القيامة {لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بما عملوا} الآية، {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} ويحتمل أنه في حال محاسبة لِعَبْدِهِ سَرِيعُ النَّجَازِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَإِنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ كَالْوَاحِدِ مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: {سَرِيعُ الْحِسَابِ} إِحْصَاءً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَيَانِ مُرَادَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

- 52 - هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ يَقُولُ تَعَالَى: هَذَا الْقُرْآنُ بَلَاغٌ لِلنَّاسِ، كقوله: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بلغ} أي هو بلاغ لجميع الخلائق من إنس وجن كما قال في أول السورة: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النور} الآية، و {لينذروا بِهِ} أَيْ لِيَتَّعِظُوا بِهِ، {وَلِيَعْلَمُوا إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أَيْ يَسْتَدِلُّوا بِمَا فِيهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالدَّلَالَاتِ عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} أَيْ ذَوُو الْعُقُولِ.

15 - سورة الحجر

- 15 - سورة الحجر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ - 2 - رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ - 3 - ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أوائل السور، وقوله تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} إِخْبَارٌ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ عَلَى مَا كَانُوا فيه من الكفر، ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين، ونقل السدي عن ابن عباس، أن كفّار قريش لَمَّا عُرِضُوا عَلَى النَّارِ تَمَنَّوْا أَنْ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ يَوَدُّ عِنْدَ احْتِضَارِهِ أَنْ لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا، وقيل: هذا إخبار عن يوم القيامة، كقوله تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ من المؤمنين}، وقال بعضهم: يَحْبِسُ اللَّهُ أَهْلَ الْخَطَايَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّارِ، قَالَ: فَيَقُولُ لَهُمُ الْمُشْرِكُونَ: مَآ أَغْنَى عَنكُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ فِي الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَغْضَبُ اللَّهُ لَهُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، فَيُخْرِجُهُمْ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} (روى هذا القول ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وأنَس بْنِ مالك وقال: كانا يتأولان الآية: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} بذلك التأويل). وقال مجاهد: يَقُولُ أَهْلُ النَّارِ لِلْمُوَحِّدِينَ: مَآ أَغْنَى عَنكُمْ إيمانكم؟ فإذا قالوا ذلك قال الله: أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمان، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ}، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ، فَقَالَ الحافظ الطبراني، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلٍ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِذُنُوبِهِمْ، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُ اللَّاتِ وَالْعُزَّى: مَآ أَغْنَى عَنكُمْ قَوْلُكُمْ: {لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وَأَنْتُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ؟ فَيَغْضَبُ اللَّهُ لَهُمْ، فَيُخْرِجُهُمْ فَيُلْقِيهِمْ فِي نهر الحياة، فيبرؤون مِنْ حَرْقِهِمْ، كَمَا يَبْرَأُ الْقَمَرُ مِنْ خُسُوفِهِ، ويدخلون الجنة ويسمون فيها الجهنميين". (الحديث الثاني): عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إذا اجتمع أهل

النَّارِ وَمَعَهُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، قَالَ الْكُفَّارُ لِلْمُسْلِمِينَ: أَلَمْ تَكُونُوا مُسْلِمِينَ؟ قَالُواْ: بَلَى، قَالُواْ: فَمَا أَغْنَى عَنْكُمُ الْإِسْلَامُ وقد صِرْتُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ؟ قَالُوا: كَانَتْ لَنَا ذنوباً فَأُخِذْنَا بِهَا، فَسَمِعَ اللَّهُ مَا قَالُوا، فَأَمَرَ بِمَنْ كَانَ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَأُخْرِجُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْكُفَّارِ قَالُوا: يَا لَيْتَنَا كُنَّا مُسْلِمِينَ فَنَخْرُجَ كَمَا خَرَجُوا - قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ * رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} " (أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم). وقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} تهديد شديد لهم وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إلى النار}، وقوله: {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إنكم مجرمون}، وَلِهَذَا قَالَ: {وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} أَيْ عَنِ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أَيْ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ.

- 4 - وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ - 5 - مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يستأخرون يخبر تَعَالَى إِنَّهُ مَا أَهْلَكَ قَرْيَةً إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهَا وَانْتِهَاءِ أَجَلِهَا، وَإِنَّهُ لَا يؤخر أمة حان هلاكهم عن ميقاتهم وَلَا يَتَقَدَّمُونَ عَنْ مُدَّتِهِمْ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَإِرْشَادٌ لَهُمْ، إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هَمْ عليه مِنَ الشِّرْكِ وَالْعِنَادِ وَالْإِلْحَادِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الهلاك.

- 6 - وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ - 7 - لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ - 8 - مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ - 9 - إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عن كفرهم وَعِنَادِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} أي الذي تدعي ذَلِكَ، {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} أَيْ فِي دُعَائِكَ إِيَّانَا إِلَى اتِّبَاعِكَ وَتَرْكِ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، {لَّوْ مَا} أَيْ هَلَّا، {تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} أَيْ يشهدون لك بصحة ما جئت به كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ: {فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائمة مقترنين}، {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كبيرا}، وَكَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ}. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ}: بِالرِّسَالَةِ وَالْعَذَابِ، ثُمَّ قَرَّرَ تَعَالَى إِنَّهُ هُوَ الذي أنزل عليه الذِّكْرَ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ الْحَافِظُ لَهُ مِنَ التغيير والتبديل.

- 10 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَع الْأَوَّلِينَ - 11 - وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ - 12 - كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ - 13 - لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ يَقُولُ تعالى مسليا لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، إنه أرسل مِن قَبْلِهِ مِنَ الأمم الماضية، وإنه ما أتى أمة من رسول إلا كذبوه واستهزؤوا بِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَلَكَ التَّكْذِيبَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ عَانَدُوا -[309]- وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْهُدَى، قَالَ أنَس وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين}: يعني الشرك، وقوله: {قد خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}: أَيْ قَدْ عَلِمَ مَا فَعَلَ تَعَالَى بِمَنْ كَذَّبَ رُسُلَهُ مِنَ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ، وَكَيْفَ أَنْجَى اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ فِي الدنيا والآخرة.

- 14 - وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ - 15 - لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قُوَّةِ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ لِلْحَقِّ أَنَّهُ لَوْ فَتَحَ لَهُمْ بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَجَعَلُوا يَصْعَدُونَ فِيهِ لما صدقوا بذلك بل قالوا: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} قال مجاهد وَالضَّحَّاكُ: سُدَّتْ أَبْصَارُنَا، وَقَالَ قَتَادَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أُخِذَتْ أَبْصَارُنَا. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: شُبِّهَ عَلَيْنَا وَإِنَّمَا سُحِرْنَا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عميت أبصارنا.

- 16 - وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ - 17 - وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ - 18 - إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ - 19 - وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ - 20 - وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ يَذْكُرُ تَعَالَى خَلْقَهُ السَّمَاءَ فِي ارْتِفَاعِهَا، وَمَا زَيَّنَهَا بِهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ الثوابت والسيارات، لمن تأمل وكرر النظر فيما يرى مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ، مَا يَحَارُ نَظَرُهُ فيه، ولهذا قال مجاهد وقتادة: البروج ههنا هي الكواكب وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} الآية، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْبُرُوجُ هِيَ مَنَازِلُ الشَّمْسِ والقمر، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى خَلْقَهُ الْأَرْضَ وَمَدَّهُ إِيَّاهَا وَتَوْسِيعَهَا وَبَسْطَهَا، وَمَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي وَالْأَوْدِيَةِ وَالْأَرَاضِي وَالرِّمَالِ، وَمَا أَنْبَتَ فِيهَا مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الْمُتَنَاسِبَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ}: أي معلوم (وكذلك قال عكرمة ومجاهد والحسن وَقَتَادَةُ)، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مُقَدَّرٌ بِقَدَرٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُوزَنُ وَيُقَدَّرُ بقدر، وقوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} المعايش وَهِيَ جَمْعُ مَعِيشَةٍ، وَقَوْلُهُ: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}، قال مجاهد: هي الدَّوَابُّ وَالْأَنْعَامُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هُمُ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ وَالدَّوَابُّ وَالْأَنْعَامُ، وَالْقَصْدُ أَنَّهُ تَعَالَى يَمْتَنُّ عَلَيْهِمْ بِمَا يَسَّرَ لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْمَكَاسِبِ وَوُجُوهِ الْأَسْبَابِ وَصُنُوفِ الْمَعَايِشِ، وَبِمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي يَرْكَبُونَهَا، وَالْأَنْعَامِ الَّتِي يَأْكُلُونَهَا، وَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ الَّتِي يَسْتَخْدِمُونَهَا، وَرِزْقُهُمْ عَلَى خَالِقِهِمْ لَا عَلَيْهِمْ، فَلَهُمْ هُمُ الْمَنْفَعَةُ، وَالرِّزْقُ عَلَى الله تعالى.

- 21 - وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ - 22 - وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ - 23 - وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ - 24 - وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ

مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ - 25 - وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لَدَيْهِ، وَأَنَّ عِنْدَهُ خَزَائِنَ الْأَشْيَاءِ مِنْ جَمِيعِ الصُّنُوفِ {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} كما يشاء وكما يريد، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالرَّحْمَةِ بعباده، لا على جهة الْوُجُوبِ بَلْ هُوَ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. قال ابن مسعود فِي قَوْلِهِ: {وَمَآ نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} مَا عَامٌ بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَا أقل، ولكنه يمطر قوم، ويحرم آخرون بما كَانَ فِي الْبَحْرِ، قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّهُ يَنْزِلُ مَعَ الْمَطَرِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ وَلَدِ إِبْلِيسَ وَوُلِدِ آدَمَ، يُحْصُونَ كُلَّ قَطْرَةٍ حيث تقع وما تنبت (رواه ابن جرير عن عبد الله بن مسعود)، وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} أَيْ تُلَقِّحُ السَّحَابَ فَتُدِرُّ ماء وتلقح الشجر، فتفتح عن أوراقها وأكمامها، وذكرها بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِيَكُونَ مِنْهَا الْإِنْتَاجُ بِخِلَافِ الرِّيحِ الْعَقِيمِ، فَإِنَّهُ أَفْرَدَهَا وَوَصَفَهَا بِالْعَقِيمِ، وَهُوَ عَدَمُ الإنتاج، وقال أعمش، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} قال: ترسل الريح فتحمل الماء من السماء، ثم تمر مر السَّحَابَ حَتَّى تُدِرَّ كَمَا تُدِرُّ اللَّقْحَةُ (وَكَذَا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي والضحّاك)، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَبْعَثُهَا اللَّهُ عَلَى السَّحَابِ فَتُلَقِّحُهُ فَيَمْتَلِئُ مَاءً، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ: يَبْعَثُ اللَّهُ الْمُبَشِّرَةَ فَتَقُمُّ الْأَرْضَ قَمًّا، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ الْمُؤَلِّفَةَ فَتُؤَلِّفُ السَّحَابَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ اللَّوَاقِحَ فَتُلَقِّحُ الشَّجَرَ، ثُمَّ تَلَا: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ}. وقوله تعالى: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} أَيْ أَنْزَلْنَاهُ لَكُمْ عَذْبًا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تشربوا منه {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أجاجا} كما نبّه على ذلك في قوله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ}، وَقَوْلُهُ: {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}، قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: بِمَانِعِينَ؛ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ: وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِحَافِظِينَ، بَلْ نَحْنُ نُنَزِّلُهُ وَنَحْفَظُهُ عَلَيْكُمْ وَنَجْعَلُهُ مَعِينًا وَيَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى لَأَغَارَهُ وَذَهَبَ بِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَتِهِ أَنْزَلَهُ وَجَعْلِهِ عَذْبًا وَحَفِظَهُ فِي الْعُيُونِ وَالْآبَارِ والأنهار، لِيَبْقَى لَهُمْ فِي طُولِ السَّنَةِ يَشْرَبُونَ وَيَسْقُونَ أَنْعَامَهُمْ وَزُرُوعَهُمْ وَثِمَارَهُمْ. وَقَوْلُهُ: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} إِخْبَارٌ عَنْ قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى بَدْءِ الخلق وإعادته، وأنه هو الذي أحيى الْخَلْقَ مِنَ الْعَدَمِ، ثُمَّ يُمِيتُهُمْ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ ليوم الجمع، وأخبر تعالى بأنه يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْهِ يَرْجِعُونَ. ثُمَّ أخبر تعالى عن تمام علمه بهم أولهم وآخرهم فقال: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ} الآية. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْمُسْتَقْدِمُونَ كُلُّ مَنْ هَلَكَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمُسْتَأْخِرُونَ مَنْ هُوَ حَيٌّ وَمَنْ سَيَأْتِي إلى يوم القيامة، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ ابن جرير، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أُنَاسٌ يَسْتَأْخِرُونَ فِي الصُّفُوفِ مِنْ أَجْلِ النِّسَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين} (قال ابن كثير: ورد فيه حديث غريب جداً رواه أصحاب السنن وفيه نكارة شديدة وهو أنه كانت تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء، وكان بعض المسلمين إذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم فنزلت الآية. وقد نبه رحمه الله إلى نكارة هذه الرواية وضعفها). وروى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَوْنَ بْنَ عَبْدِ الله يذكر مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} وَأَنَّهَا فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ:

لَيْسَ هَكَذَا {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ}: الْمَيِّتَ والمقتول، {والمستأخرين} مَنْ يُخْلَقُ بَعْدُ، {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}، فَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَفَّقَكَ اللَّهُ وَجَزَاكَ خَيْرًا.

- 26 - وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ - 27 - وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم قال ابن عباس: المراد بالصلصال التراب اليابس، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}. وعن مجاهد: (الصلصال) المنتن، وتفسير الآية بِالْآيَةِ أَوْلَى، وَقَوْلُهُ: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} أَيِ الصَّلْصَالُ مِنْ حَمَأٍ وَهُوَ الطِّينُ، وَالْمَسْنُونُ الْأَمْلَسُ، وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ التُّرَابُ الرطب، وعن ابن عباس ومجاهد أَنَّ الْحَمَأَ الْمَسْنُونَ هُوَ الْمُنْتِنُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بالمسنون ههنا الْمَصْبُوبُ. وَقَوْلُهُ: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ} أَيْ مِنْ قَبْلِ الْإِنْسَانِ، {مِن نَّارِ السَّمُومِ} قَالَ ابن عباس: هي السموم التي تقتل، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْجَانَّ خُلِقَ مِنْ لهب النار، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: «خُلِقت الملائكةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَتِ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخَلَقَ آدَمَ مما وصف لكم» (رواه مسلم وأحمد عن عائشة)، والمقصود من الْآيَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى شَرَفِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَطِيبِ عُنْصُرِهِ وَطَهَارَةِ مَحْتِدِهِ.

- 28 - وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ - 29 - فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ - 30 - فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ - 31 - إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ - 32 - قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ - 33 - قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ يَذْكُرُ تَعَالَى تَنْوِيهَهُ بِذِكْرِ آدَمَ فِي مَلَائِكَتِهِ، قَبْلَ خَلْقِهِ لَهُ وَتَشْرِيفَهُ إياه بأمر الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَيَذْكُرُ تَخَلُّفَ إِبْلِيسَ عَدُوِّهُ عن السجود له حَسَدًا وَكُفْرًا، وَعِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا وَافْتِخَارًا بِالْبَاطِلِ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَّمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صلصال من حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}، كقوله: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}.

- 34 - قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ - 35 - وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ - 36 - قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ - 37 - قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ - 38 - إِلَى يَوْمِ الوقت المعلوم يذكر تعالى أنه أمر إبليس بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَإِنَّهُ رَجِيمٌ أَيْ مَرْجُومٌ، وَإِنَّهُ قَدْ أَتْبَعَهُ لَعْنَةً لَا تَزَالُ مُتَّصِلَةً بِهِ لَاحِقَةً لَهُ مُتَوَاتِرَةً عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا لعن الله إبليس تغيرت صورته عن صور الْمَلَائِكَةِ، وَرَنَّ رَنَّةً، فَكُلُّ رَنَّةٍ فِي الدُّنْيَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْهَا (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حاتم عن سعيد بن جبير). وَإِنَّهُ لَمَّا تَحَقَّقَ الْغَضَبُ الَّذِي -[312]- لاَّ مَرَدَّ لَهُ سَأَلَ مِنْ تَمَامِ حَسَدِهِ لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ النَّظِرَةَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ، وَأَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا لَهُ وَإِمْهَالًا، فلما تحقق النظرة قبحه الله قال ما قصّه الله تعالى:

- 39 - قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - 40 - إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ - 41 - قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ - 42 - إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ - 43 - وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ - 44 - لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جزء مقسوم يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْلِيسَ وَتَمَرُّدِهِ وَعُتُوِّهِ إنه قال للرب: {بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} أي بِسَبَبِ مَا أَغْوَيْتَنِي وَأَضْلَلْتَنِي {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} أَيْ لِذُرِّيَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {فِي الْأَرْضِ} أَيْ أحبب إليهم المعاصي وأرغبهم فيها، {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي كما أغويتني وقدّرت على ذلك، {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين}، كقوله: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً}، {قَالَ} اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مُتَهَدِّدًا وَمُتَوَعِّدًا، {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} أي مرجعكم إليَّ فَأُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شرا فشر، وَقِيلَ: طَرِيقُ الْحَقِّ مَرْجِعُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وإليه تنتهي (قاله مجاهد والحسن وقتادة)، كقوله: {وعلى الله قَصْدُ السبيل}، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أَيِ الَّذِينَ قَدَّرْتُ لَهُمُ الْهِدَايَةَ فَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهِمْ، وَلَا وُصُولَ لَكَ إِلَيْهِمْ {إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} استثناء منقطع، {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} أَيْ جَهَنَّمُ مَوْعِدُ جَمِيعِ مَنِ اتَّبَعَ إِبْلِيسَ كَمَا قَالَ عَنِ الْقُرْآنِ، {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}، ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب (في اللباب: أخرج الثعلبي: أن سلمان الفارسي لما سمع قوله تعالى: {وَإِن جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} فرّ ثلاثة أيام هارباً من الخوف لا يعقل، فجيء به إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يا رسول الله، أنزلت هذه الآية؟ فوالذي بعثك بالحق لقد قطعت قلبي، فأنزل الله: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وعيون}) {لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} أَيْ قَدْ كَتَبَ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهَا جُزْءٌ مِنْ أَتْبَاعِ إِبْلِيسَ يَدْخُلُونَهُ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْهَا، وَكُلٌّ يَدْخُلُ مِنْ بَابٍ بِحَسَبِ عمله ويستقر في درك بقدر عمله، وعن علي بن أبي طالب أنه قال: إن أبواب جهنم هكذا أطباقٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وعن هبيرة بن أبي مريم عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَبْوَابُ جَهَنَّمَ سَبْعَةٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، فَيَمْتَلِئُ الْأَوَّلُ ثم الثاني ثم الثالث، حتى تمتلئ كُلُّهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَبْعَةُ أَبْوَابٍ سَبْعَةُ أَطْبَاقٍ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَبْعَةُ أَبْوَابٍ أَوَّلُهَا جَهَنَّمُ، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية (روى الضحاك عن ابن عباس نحوه، وكذلك روي عن الأعمش)، وَقَالَ قَتَادَةُ {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مقسوم}: هي والله منازل بأعمالهم، وقال الترمذي، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِجَهَنَّمَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ بَابٌ مِنْهَا لِمَنْ سَلَّ السَّيْفَ عَلَى أُمَّتِي - أَوْ قال علي أمة محمد -» (رواه الترمذي وقال: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ مغول). وقال ابن أبي حاتم، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} قَالَ: "إِنَّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى حِجزته، وَمِنْهُمْ من تأخذه النار إلى تراقيه، منازلهم بِأَعْمَالِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ}.

- 45 - إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - 46 - ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ - 47 - وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ - 48 - لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ - 49 - نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - 50 - وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ أَهْلِ النَّارِ، عَطَفَ عَلَى ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَنَّهُمْ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَقَوْلُهُ: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} أَيْ سالمين من الآفات مسلم عليكم، {آمِنِينَ} أي مِنْ كُلِّ خَوْفٍ وَفَزَعٍ، وَلَا تَخْشَوْا مِنْ إِخْرَاجٍ وَلَا انْقِطَاعٍ وَلَا فَنَاءٍ. وَقَوْلُهُ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}. عن أبي أمامة قال: لا يدخل الجنة مؤمن حتى ينزع الله مَا فِي صدره مِنْ غِلٍّ حَتَّى يَنْزِعَ مِنْهُ مِثْلَ السَّبْعِ الضاري، وهذا موافق لما فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لبعضهم من بعض مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ». وقال ابن جرير: دَخَلَ عِمْرَانُ بْنُ طَلْحَةَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ الله عنه بعد ما فَرَغَ مِنْ أَصْحَابِ الْجَمَلِ فَرَحَّبَ بِهِ وَقَالَ: إني لأرجو أن يجعلني الله وإياك مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}. وعن أَبِي حَبِيبَةَ مَوْلًى لِطَلْحَةَ قَالَ: دَخَلَ عِمْرَانُ بْنُ طَلْحَةَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بعد ما فَرَغَ مِنْ أَصْحَابِ الْجَمَلِ فَرَحَّبَ بِهِ وَقَالَ: إني لأرجو أن يجعلني الله وإياك مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} قال: ورجلان جالسان إلى نَاحِيَةِ الْبِسَاطِ، فَقَالَا: اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ ذَلِكَ تَقْتُلُهُمْ بِالْأَمْسِ وَتَكُونُونَ إِخْوَانًا، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قُوما أَبْعَدَ أَرْضٍ وَأَسْحَقَهَا، فَمَنْ هم إذاً إن لم أكن أنا وطلحة؟ وفي رواية: فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ فَقَالَ: اللَّهُ أَعْدَلُ من ذلك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَصَاحَ بِهِ عَلِيٌّ صَيْحَةً، فَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَصْرَ تَدَهْدَهَ لَهَا، ثُمَّ قال: إذا لم نكن نحن فمن هم؟ وقال سفيان الثوري: جَاءَ ابْنُ (جُرْمُوزٍ)، قَاتِلُ الزُّبَيْرِ، يَسْتَأْذِنُ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَحَجَبَهُ طَوِيلًا، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَمَّا أَهْلُ الْبَلَاءِ فَتَجْفُوهُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: بِفِيكَ التُّرَابُ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}. وقال الحسن البصري، قَالَ عَلِيٌّ: فِينَا وَاللَّهِ أَهْلَ بَدْرٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}. وقال الثوري فِي قَوْلِهِ: {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} قَالَ، هُمْ عَشَرَةٌ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَقَوْلُهُ: {مُّتَقَابِلِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ فِي قَفَا بَعْضٍ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ. قَالَ ابن أبي حاتم، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} في الله ينظر بعضهم إلى بعض (في اللباب: أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن الحسن: أن هذه الآية: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صدورهم ... } نزلت في أبي بكر، وعمر، قيل: وأي غل؟ قال: غل الجاهلية، إن بني تميم وبني عدي وبني هاشم كانوا أعداء، فلما أسلموا تحابوا، فأخذت أبا بكر الخاصرة، فجعل علي يسخن يده فيكمد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية). وَقَوْلُهُ: {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} يَعْنِي الْمَشَقَّةُ وَالْأَذَى، كَمَا جَاءَ فِي

الصَّحِيحَيْنِ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُبَشِّرَ خَدِيجَةَ ببيت في الجنة لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ». وَقَوْلُهُ: {وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ}، كقوله تَعَالَى: {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}، وَقَوْلُهُ: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} أَيْ أَخْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عِبَادِي أَنِّي ذُو رَحْمَةٍ وَذُو عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى مَقَامَيِ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وذكر في سبب نزولها ما رواه ابن جرير عَنِ ابْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: طَلَعَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ بَنُو شيبة فقال: «لا أَرَاكُمْ تَضْحَكُونَ» ثُمَّ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانَ عند الحجر رجع علينا الْقَهْقَرَى فَقَالَ: "إِنِّي لَمَّا خَرَجْتُ جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لِمَ تُقَنِّطُ عِبَادِي؟ {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأليم} ". وقال قتادة: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْعَبْدُ قَدْرَ عَفْوِ اللَّهِ لَمَا تَوَرَّعَ مِنْ حَرَامٍ، وَلَوْ يَعْلَمُ العبد قدر عذاب الله لبخع نفسه».

- 51 - وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ - 52 - إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ - 53 - قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ - 54 - قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ - 55 - قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْقَانِطِينَ - 56 - قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ يَقُولُ تَعَالَى: وَخَبِّرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ عَنْ قِصَّةِ {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}، وَالضَّيْفُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ كَالزَّوْرِ والسَّفْرِ، وَكَيْفَ {دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أَيْ خَائِفُونَ، وَقَدْ ذَكَرَ سَبَبَ خَوْفِهِ مِنْهُمْ لَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تصل إلى ما قربه إليهم من الضيافة وَهُوَ الْعِجْلُ السَّمِينُ الْحَنِيذُ، {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ} أي لاَ تَخَفْ، {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} أي إِسْحَاقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ، ثُمَّ {قَالَ} مُتَعَجِّبًا مِنْ كِبَرِهِ وَكِبَرِ زَوْجَتِهِ وَمُتَحَقِّقًا لِلْوَعْدِ {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}، فَأَجَابُوهُ مُؤَكِّدِينَ لِمَا بَشَّرُوهُ بِهِ تَحْقِيقًا وَبِشَارَةً بَعْدَ بِشَارَةٍ، {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُنْ مِّن القانطين}، فَأَجَابَهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ يَقْنَطُ وَلَكِنْ يَرْجُو مِنَ اللَّهِ الْوَلَدَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ كَبِرَ وَأَسَنَّتِ امْرَأَتُهُ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ.

- 57 - قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ - 58 - قَالُوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ - 59 - إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ - 60 - إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى، إِنَّهُ شَرَعَ يَسْأَلُهُمْ عَمَّا جَاءُوا لَهُ فَقَالُوا: {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} يَعْنُونَ قَوْمَ لُوطٍ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ سَيُنَجُّونَ آلَ لُوطٍ من بينهم إلا امرأته فإنها من الهالكين، وَلِهَذَا قَالُوا: {إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} أَيِ الْبَاقِينَ الْمُهْلَكِينَ.

- 61 - فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ - 62 - قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ - 63 - قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ - 64 - وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ -[315]- يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ لُوطٍ لَمَّا جَاءَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فِي صُورَةِ شَبَابٍ حِسَانِ الْوُجُوهِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ دَارَهُ قَالَ: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} يَعْنُونَ بِعَذَابِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ وَدَمَارِهِمُ الَّذِي كَانُوا يَشُكُّونَ فِي وُقُوعِهِ بِهِمْ وحلوله بساحتهم، {وَآتَيْنَاكَ بالحق} كقوله تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق}، وَقَوْلُهُ: {وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} تَأْكِيدٌ لِخَبَرِهِمْ إِيَّاهُ بِمَا أخبروه به من نجاته وإهلاك قومه.

- 65 - فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ - 66 - وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ يَذْكُرُ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ أَمَرُوهُ أَنْ يَسْرِيَ بِأَهْلِهِ بَعْدَ مُضِيِّ جَانِبٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَأَنْ يَكُونَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَمْشِي وَرَاءَهُمْ لِيَكُونَ أَحْفَظَ لَهُمْ؛ وَهَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي في الغزو يُزْجِي الضَّعِيفَ وَيَحْمِلُ الْمُنْقَطِعَ، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} أَيْ إِذَا سَمِعْتُمُ الصَّيْحَةَ بِالْقَوْمِ فَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ وَذَرُوهُمْ فِيمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} كَأَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ مَنْ يَهْدِيهِمُ السَّبِيلَ، {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} أَيْ تَقَدَّمَنَا إِلَيْهِ فِي هَذَا {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} أَيْ وَقْتَ الصباح، كقوله فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ}.

- 67 - وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ - 68 - قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ - 69 - وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ - 70 - قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ - 71 - قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ - 72 - لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عِنْ مَجِيءِ قَوْمِ لُوطٍ لَمَّا عَلِمُوا بِأَضْيَافِهِ وَصَبَاحَةِ وُجُوهِهِمْ، وَأَنَّهُمْ جَاءُوا مُسْتَبْشِرِينَ بِهِمْ فَرِحِينَ {قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ} وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أنهم رسل الله، كما قال في سورة هود، وأما ههنا فَتَقَدَّمَ ذِكْرُ أَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ وَعُطِفَ بِذِكْرِ مَجِيءِ قَوْمِهِ وَمُحَاجَّتِهِ لَهُمْ، وَلَكِنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِيَ التَّرْتِيبَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، فَقَالُوا لَهُ مُجِيبِينَ: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} أَيْ أَوَمَا نَهَيْنَاكَ أَنْ تُضِيفَ أَحَدًا؟ فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى نِسَائِهِمْ وَمَا خَلَقَ لَهُمْ ربهم منهن من الفروج المباحة، هَذَا كُلُّهُ وَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ وَمَا قَدْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ، وَمَاذَا يُصَبِّحُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْمُسْتَقِرِّ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}، أَقْسَمَ تَعَالَى بِحَيَاةِ نَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ ومقام رفيع وجاه عريض. قال ابن عباس: مَا خَلَقَ اللَّهُ وَمَا ذَرَأَ وَمَا بَرَأَ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا سَمِعْتُ اللَّهَ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} يَقُولُ: وَحَيَاتِكَ وَعُمْرِكَ وَبَقَائِكَ فِي الدُّنْيَا {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ)، وَقَالَ قَتَادَةُ: {فِي سَكْرَتِهِمْ} أَيْ ضلالتهم، {يَعْمَهُونَ} أي يلعبون، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {لَعَمْرُكَ} لَعَيْشُكَ، {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} قال: يترددون.

- 73 - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ - 74 - فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ - 75 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ - 76 - وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ - 77 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ تَعَالَى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} وَهِيَ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الصَّوْتِ الْقَاصِفِ عِنْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَهُوَ طُلُوعُهَا، وَذَلِكَ مَعَ رَفْعِ بِلَادِهِمْ إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، ثُمَّ قَلْبِهَا، وَجَعْلِ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَإِرْسَالِ حِجَارَةِ السِّجِّيلِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ تقدم الكلام على السجيل في هُودٍ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أَيْ إِنَّ آثَارَ هَذِهِ النقم الظاهرة عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ لِمَنْ تَأَمَّلَ ذَلِكَ وَتَوَسَّمَهُ بِعَيْنِ بَصَرِهِ وَبَصِيرَتِهِ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قَالَ: الْمُتَفَرِّسِينَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: لِلنَّاظِرِينَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} لِلْمُتَأَمِّلِينَ. وَقَالَ ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد مرفوعاً قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا فِراسةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ»، ثُمَّ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} (رَوَاهُ الترمذي وابن جرير، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ). وَفِي رواية عن ابن عمر: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْظُرُ بِنُورِ الله» (رواه ابن جرير). وروى الحافظ البزار عَنْ أَنَسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ». وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} أَيْ وَإِنَّ قَرْيَةَ سَدُومَ الَّتِي أَصَابَهَا مَا أَصَابَهَا من القلب والقذف للحجارة حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة، بطريق مهيع مسالكه مستعمرة إلى اليوم، كقوله: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مصبحين وبالليل أفلا تعقلون}، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} قَالَ: مُعَلَّمٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بِطَرِيقٍ وَاضِحٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ أيضاً: بصقع من الأرض واحد. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ إِنَّ الَّذِي صَنَعْنَا بِقَوْمِ لُوطٍ مِنَ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ، وَإِنْجَائِنَا لُوطًا وَأَهْلَهُ لَدَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ جَلِيَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ.

- 78 - وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ - 79 - فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ هُمْ قَوْمُ شعيب، قال الضحاك: الْأَيْكَةُ: الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ، وَكَانَ ظُلْمُهُمْ بِشِرْكِهِمْ بِاللَّهِ وَقَطْعِهِمُ الطَّرِيقَ، وَنَقْصِهِمُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، فَانْتَقَمَ اللَّهُ منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلمة، وَقَدْ كَانُوا قَرِيبًا مِنْ قَوْمِ لُوطٍ بَعْدَهُمْ فِي الزَّمَانِ وَمُسَامِتِينَ لَهُمْ فِي الْمَكَانِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} أَيْ طَرِيقٍ مُّبِينٌ. قال ابن عباس: طَرِيقٌ ظَاهِرٌ، وَلِهَذَا لَمَّا أَنْذَرَ شُعَيْبٌ قَوْمَهُ قال في إنذاره إِيَّاهُمْ: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}.

- 80 - وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ - 81 - وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ - 82 - وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ - 83 - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ - 84 - فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أَصْحَابُ الْحَجَرِ هُمْ ثمود الذين كذبوا صالحاً نبيّهم عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَنْ كَذَّبَ بِرَسُولٍ فَقَدْ كَذَّبَ بجميع

الْمُرْسَلِينَ، وَلِهَذَا أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ تَكْذِيبُ الْمُرْسَلِينَ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا يَدُلُّهُمْ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ صَالِحٌ، كَالنَّاقَةِ الَّتِي أَخْرَجَهَا اللَّهُ لَهُمْ بِدُعَاءِ صَالِحٍ مِنْ صخرة صماء، وكانت تَسْرَحُ فِي بِلَادِهِمْ لَهَا شِرْبٌ وَلَهُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ، فَلَمَّا عَتَوْا وَعَقَرُوهَا قَالَ لَهُمْ: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مكذوب}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ {كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ} أَيْ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا احْتِيَاجٍ إِلَيْهَا بَلْ أَشَرًا وَبَطَرًا وَعَبَثًا، كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ مِنْ صَنِيعِهِمْ فِي بُيُوتِهِمْ بِوَادِي الْحِجْرِ الَّذِي مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى تَبُوكَ، فَقَنَّعَ رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ دَابَّتَهُ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: «لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ الْقَوْمِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا خَشْيَةَ أَنْ يصيبكم ما أصابهم» (الحديث في الصحاح والسنن). وَقَوْلُهُ: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} أَيْ وَقْتَ الصَّبَاحِ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، {فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أَيْ مَا كَانُوا يَسْتَغِلُّونَهُ مِنْ زُرُوعِهِمْ وَثِمَارِهِمُ الَّتِي ضَنُّوا بِمَائِهَا عَنِ النَّاقَةِ حَتَّى عَقَرُوهَا لِئَلَّا تُضَيِّقَ عَلَيْهِمْ فِي الْمِيَاهِ، فَمَا دَفَعَتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الْأَمْوَالُ وَلَا نَفَعَتْهُمْ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ.

- 85 - وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ - 86 - إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَآ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ} أَيْ بِالْعَدْلِ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُوا} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كفروا من النار}، ثُمَّ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ وَأَنَّهَا كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالصَّفْحِ الْجَمِيلِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَذَاهُمْ لَهُ وَتَكْذِيبِهِمْ مَا جَاءَهُمْ به، كقوله: {فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، وقال مجاهد وقتادة: كان هذا قبل القتال (قال ابن كثير: وهو كما قالا، فإن الآية مَكِّيَّةٌ وَالْقِتَالُ إِنَّمَا شُرِعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ)، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} تَقْرِيرٌ لِلْمَعَادِ وَأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِقَامَةِ السَّاعَةِ، فَإِنَّهُ الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء {الْعَلِيمُ} بِمَا تَمَزَّقَ مِنَ الْأَجْسَادِ وَتَفَرَّقَ فِي سائر أقطار الأرض كقوله: {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الخلاق العظيم}.

- 87 - وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ - 88 - لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ للمؤمنين يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمَا آتَيْنَاكَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ فَلَا تَنْظُرَنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا، وَمَا مَتَّعْنَا بِهِ أَهْلَهَا مِنَ الزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، فَلَا تَغْبِطْهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ، وَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ حُزْنًا عَلَيْهِمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ لَكَ وَمُخَالَفَتِهِمْ دِينَكَ، {واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} أي ألن لهم جانبك، كقوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ

عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رحيم}، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي السَّبْعِ الْمَثَانِي مَا هِيَ؟ فقال ابن مسعود وابن عباس: هي السبع الطوال، يَعْنُونَ «الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءُ وَالْمَائِدَةُ وَالْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ ويونس» (وهو قول ابن عمر ومجاهد وسعيد بن جبير والضحّاك وغيرهم)، وقال سعيد: بين فيهن الفرائض والحدود والقصاص وَالْأَحْكَامَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بيَّن الْأَمْثَالَ وَالْخَبَرَ والعبر، وَلَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ إِلَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وأعطي موسى منهن ثنتين، (وَالْقَوْلُ الثَّانِي): أَنَّهَا الْفَاتِحَةُ وَهِيَ سَبْعُ آيَاتٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْبَسْمَلَةُ هِيَ الْآيَةُ السَّابِعَةُ، وقد خصكم الله بها، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُنَّ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وأنهن يثنين في كل ركعة مكتوبة أو تطوع، اختاره ابْنُ جَرِيرٍ، وَاحْتَجَّ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وقد أورد البخاري رحمه الله ههنا حديثين: (أحدهما) عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: مَرَّ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أصلي فدعاني فلم آته حتى صليت فأتيته، فَقَالَ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟» فَقُلْتُ: كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: "أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ والرسول إذا دعاكم} أَلَا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ"؟ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم ليخرج فذكرت فقال: «{الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ». (الثاني) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ»، فهذا نص في الفاتحة هي (السَّبْعُ الْمَثَانِي) وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَلَكِنْ لَا يُنَافِي وصف غيرها من السبع الطوال بِذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، كَمَا لَا يُنَافِي وَصْفَ الْقُرْآنِ بِكَمَالِهِ بِذَلِكَ أَيْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} فَهُوَ مَثَانِي مِنْ وَجْهٍ وَمُتَشَابِهٌ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ أَيْضًا، كَمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصلاة والسلام لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَأَشَارَ إِلَى مَسْجِدِهِ وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَلَا تَنَافِيَ، فَإِنَّ ذِكْرَ الشَّيْءِ لَا يَنْفِي ذِكْرَ مَا عَدَاهُ إِذَا اشْتَرَكَا فِي تِلْكَ الصِّفَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} أَيِ اسْتَغْنَ بِمَا آتَاكَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْمَتَاعِ والزهرة الفانية. ومن ههنا ذَهَبَ ابْنُ عُيَيْنَةَ إِلَى تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» إِلَى أَنَّهُ يُسْتَغْنَى بِهِ عَمَّا عَدَاهُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَدِيثِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ، وَقَالَ ابْنُ أبي حاتم عَنْ أَبِي رَافِعٍ صَاحِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: ضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيف، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ يُصْلِحُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ: «يَقُولُ لَكَ مُحَمَّدٌ رَسُولَ اللَّهِ أَسْلِفْنِي دَقِيقًا إِلَى هِلَالِ رَجَبٍ»، قَالَ: لَا، إِلَّا برهنٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: «أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَأَمِينُ مَنْ فِي الْأَرْضِ، وَلَئِنْ أسلفني أو باعني لأودين إِلَيْهِ»، فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الآية {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إِلَى آخَرِ الآية، كأنه يعزيه عن الدنيا. قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} قَالَ: نُهِيَ الرجل أن يتمنى ما لصاحبه. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} هَمُ الْأَغْنِيَاءُ.

- 89 - وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ - 90 - كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ - 91 - الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ - 92 - فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - 93 - عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

يأمر تعالى نبيّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: {إني أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} الْبَيِّنُ النِّذَارَةِ، نَذِيرٌ لِلنَّاسِ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، كَمَا حَلَّ بِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِرُسُلِهَا، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالِانْتِقَامِ، وَقَوْلُهُ: {الْمُقْتَسِمِينَ} أَيِ الْمُتَحَالِفِينَ، أَيْ تَحَالَفُوا على مخالفة الأنبياء وتكذبيهم وأذاهم، كقوله تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ أَنَّهُمْ: {قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله لنبيتنه وأهله} الآية، أي نقتلهم ليلاً، قال مجاهد: تقاسموا وتحالفوا {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثَ اللَّهُ مِن يموت}، {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} فكأنهم لا يكذبون بشيء من الدنيا إِلَّا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ فَسُمُّوا مُقْتَسِمِينَ. قَالَ عَبْدُ الرحمن بن زيد: الْمُقْتَسِمُونَ أَصْحَابُ صَالِحٍ الَّذِينَ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وأهله، وفي الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: يَا قَوْمُ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا وَانْطَلَقُوا عَلَى مَهْلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي واتبع مَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ"، وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} أي جزأوا كُتُبَهُمُ الْمُنَزَّلَةَ عَلَيْهِمْ، فَآمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، قال البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ} قَالَ: هم أهل الكتاب جزأوه فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه (وروي عن مجاهد والحسن والضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير نحو ذلك). وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْعَضْهُ، السِّحْرُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، تَقُولُ لِلسَّاحِرَةِ: إِنَّهَا الْعَاضِهَةُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَضُوهُ أَعْضَاءً قَالُوا: سِحْرٌ، وَقَالُوا: كِهَانَةٌ، وَقَالُوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وقال عطاء: قال بعضهم: ساحر، وقالوا: مجنون، وقالوا: كاهن، فذلك العضين. وقال محمد بن إسحاق، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِيهِمْ، وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمُ، فَقَالَ لَهُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ، وَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَرُدَّ قَوْلُكُمْ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَقَالُوا: وَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُولُ بِهِ، قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ قُولُوا لِأَسْمَعَ، قَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، قَالُوا: فَنَقُولُ مَجْنُونٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ، قَالُوا: فَنَقُولُ شَاعِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، قَالُوا: فَنَقُولُ سَاحِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِسَاحِرٍ، قالوا: فماذا تقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة فَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ أَنْ تَقُولُوا: هُوَ سَاحِرٌ، فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ، وأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ} أَصْنَافًا: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أولئك النفر الذي قالوا لرسول الله. وقال ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: {لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قَالَ: عَنْ {لَا إِلَهَ إِلَّا الله} (ورد فيه حديث مرفوع رواه الترمذي عَنْ أنَس عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في قوله: {فَوَرَبِّكَ لنسألهم أَجْمَعِينَ} قَالَ: عَنْ {لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ})، وقال ابْنَ مَسْعُودٍ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيَخْلُو اللَّهُ بِهِ يوم القيامة، فَيَقُولُ: ابْنَ آدَمَ مَاذَا غَرَّكَ مِنِّي بِي؟ ابْنَ آدَمَ مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ ابْنَ آدَمَ مَاذَا أَجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ؟ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ، عن أبي العالية في قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قَالَ: يُسْأَلُ الْعِبَادُ كُلُّهُمْ عَنْ خُلَّتَيْنِ يَوْمَ القيامة: عما كانوا يعبدون، وعماذا أَجَابُوا الْمُرْسَلِينَ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَنْ عَمَلِكَ وعن مالك، وقال ابن أبي حاتم، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ إِنَّ المرء يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ جَمِيعِ سَعْيِهِ حَتَّى كُحْلِ عينيه، وعن فتات الطينة بأصبعه فلا ألفينك يوم القيامة وأحد غيرك أسعد بما آتاك الله منك». وقال ابن عباس في قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، ثُمَّ قَالَ: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} قَالَ: لَا يَسْأَلُهُمْ هَلْ عَمِلْتُمْ كَذَا؟ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ يَقُولُ لِمَ عَمِلْتُمْ كذا وكذا؟

- 94 - فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ - 95 - إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ - 96 - الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ - 97 - وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ - 98 - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ - 99 - وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبْلَاغِ مَا بَعَثَهُ بِهِ وَبِإِنْفَاذِهِ وَالصَّدْعِ بِهِ، وَهُوَ مُوَاجَهَةُ الْمُشْرِكِينَ بِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عباس في قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}: أَيْ أَمْضِهِ؛ وَفِي رِوَايَةٍ (افْعَلْ مَا تُؤمَرُ). وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْجَهْرُ بالقرآن في الصلاة. وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: مَا زَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِيًا حَتَّى نَزَلَتْ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فَخَرَجَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَقَوْلُهُ: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} أَيْ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} وَلَا تَخَفْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ إِيَّاهُمْ، وَحَافِظُكَ منهم، كقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس}. وعن أنَس مرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَمَزَهُ بَعْضُهُمْ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ - أَحْسَبُهُ قَالَ: فَغَمَزَهُمْ - فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة فماتوا (أخرجه الحافظ البزار في قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين}). وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ عُظَمَاءُ الْمُسْتَهْزِئِينَ خمسة نفر، وكانوا ذَوِي أَسْنَانٍ وَشَرَفٍ فِي قَوْمِهِمْ، مِنْ بَنِي أسد بن عبد العزى (أَبُو زَمْعَةَ) كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنِي قَدْ دَعَا عَلَيْهِ لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَعْمِ بَصَرَهُ وَأَثْكِلْهُ وَلَدَهُ»، وَمِنْ بني زهرة (الأسود بن عبد يغوث)، ومن بني مخزوم (الوليد بن المغيرة)، ومن بني سهم (العاص بن وائل)، ومن خزاعة (الحارث بن الطلاطلة). فَلَمَّا تَمَادَوْا فِي الشَّرِّ وَأَكْثَرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِهْزَاءَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ - إِلَى قَوْلِهِ - فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُون} تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ مَعْبُودًا آخَرَ. وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ} أَيْ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ يَا مُحَمَّدُ أَنَّكَ يَحْصُلُ لَكَ مِنْ أَذَاهُمْ لك ضيق صدر وانقباض، فلا يضيقنك ذَلِكَ، وَلَا يَثْنِيَنَّكَ عَنْ إِبْلَاغِكَ رِسَالَةَ اللَّهِ وتوكل عليه، فَإِنَّهُ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ، فَاشْتَغِلْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتَحْمِيدِهِ وَتَسْبِيحِهِ وَعِبَادَتِهِ الَّتِي هِيَ الصَّلَاةُ. وَلِهَذَا قال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين}، ولهذا كان رسول الله إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى. وَقَوْلُهُ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين}، قال البخاري عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} قال:

الموت (وهكذا روي عن مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ وغيرهم أنهم فسروا اليقين بالموت). وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ أهل النار أنهم قالوا: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}. وفي الصحيح: «أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَإِنِّي لَأَرْجُو له الخير» (قاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى عثمان بن مظعون وقد مات، فقالت أم العلاء: رحمة الله عليك، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «وما يدرك أن الله أكرمه» الحديث). ويستدل بهذه الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ كَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ مَا دَامَ عَقْلُهُ ثَابِتًا فَيُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ»، وَيُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى تَخْطِئَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ الْمُعْرِفَةُ، فَمَتَى وَصَلَ أَحَدُهُمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا كُفْرٌ وَضَلَالٌ وَجَهْلٌ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانُوا - هُمْ وَأَصْحَابُهُمْ - أَعْلَمَ النَّاسِ بِاللَّهِ وَأَعْرَفَهُمْ بِحُقُوقِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّ مِنَ التَّعْظِيمِ، وكانوا أكثر النَّاسِ عِبَادَةً وَمُوَاظَبَةً عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ إِلَى حين الوفاة؛ وإنما المراد باليقين ههنا الموت، كما قدمناه، ولله الحمد والمنة.

16 - سورة النحل

- 16 - سورة النحل

بسم الله الرحمن الرحيم. - 1 - أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركون يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ وَدُنُوِّهَا، مُعَبِّرًا بِصِيغَةِ الْمَاضِي الدَّالِّ عَلَى التَّحَقُّقِ وَالْوُقُوعِ لَا محالة، كقوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}، وقال: {اقتربت الساعة وانشق الْقَمَرِ}، وَقَوْلُهُ: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} أَيْ قَرُبَ مَا تباعد فلا تستعجلوه، والضمير يعود على العذاب، كقوله تَعَالَى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يشعرون}، فإنهم استعجلوا العذاب قبل كونه استبعاداً وتكذيباً، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ شِرْكِهِمْ بِهِ غَيْرَهُ، وَعِبَادَتِهِمْ مَعَهُ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَهَؤُلَاءِ هم المكذبون بالساعة (في اللباب: أخرج ابن مردويه: لما نزلت {أتى أَمْرُ الله} وغمر أصحاب رسول الله حتى نزلت {فلا تستعجلوه} فسكتوا - وأخرج عبد الله بن الإمام أحمد: لما نزلت {أتى أَمْرُ الله} قاموا، فنزلت: {فلا تستعجلوه})، فَقَالَ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

- 2 - يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ يَقُولُ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الملائكة بالروح} أي الوحي كَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا}، وَقَوْلُهُ: {عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وَهُمُ الأنبياء، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالته}، وَقَالَ: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ}، وَقَالَ: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ من عباده}، وَقَوْلُهُ: {أَنْ أَنْذِرُوا} أَيْ لِيُنْذِرُوا {أَنَّهُ لَا إله إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ} أَيْ فَاتَّقُوا عُقُوبَتِي لِمَنْ خَالَفَ أَمْرِي وعبد غيري.

- 3 - خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ - 4 - خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ خَلْقِهِ العالَم الْعُلْوِيَّ وَهُوَ السَّمَاوَاتُ، والعالَم السُّفْلِيَّ وَهُوَ الْأَرْضُ بِمَا حَوَتْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ بِالْحَقِّ لَا لِلْعَبَثِ بَلْ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بالحسنى}، ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ شِرْكِ

من عبد مَعَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ فَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى خَلْقِ جنس الإنسان {مِن نُّطْفَةٍ} أي مهينة ضعيفة، فَلَمَّا اسْتَقَلَّ وَدَرَجَ إِذَا هُوَ يُخَاصِمُ رَبَّهُ تَعَالَى وَيُكَذِّبُهُ وَيُحَارِبُ رُسُلَهُ، وَهُوَ إِنَّمَا خُلِقَ ليكون عبداً لا ضداً كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً}. وقوله: {أو لم يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ}. وَفِي الْحَدِيثِ الذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ بشر بن جحاش قال: بصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفه، ثم قال: "يقول اللَّهُ تَعَالَى: ابْنَ آدَمَ! أنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ، حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ فَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْكَ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ أَتَصَدَّقُ، وأنَّى أوان الصدقة؟ " (رواه الإمام أحمد وابن ماجه في السنن).

- 5 - وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ - 6 - وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ - 7 - وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس إِنَّ رَبَّكُمْ لرؤوف رَحِيمٌ يَمْتَنُّ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ وَهِيَ (الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ) وَبِمَا جَعَلَ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ يَلْبَسُونَ وَيَفْتَرِشُونَ، وَمِنْ أَلْبَانِهَا يَشْرَبُونَ، وَيَأْكُلُونَ مِنْ أَوْلَادِهَا وَمَا لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْجَمَالِ وَهُوَ الزِّينَةُ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ}، وَهُوَ وَقْتُ رُجُوعِهَا عَشِيًّا مِنَ الْمَرْعَى، فَإِنَّهَا تَكُونُ أَمَدَّهُ خَوَاصِرَ وَأَعْظَمَهُ ضُرُوعًا وَأَعْلَاهُ أَسْنِمَةً، {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} أي غدوة حين تبعثونها المرعى، {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} وهي الأحمال الثقيلة الَّتِي تَعْجِزُونَ عَنْ نَقْلِهَا وَحَمْلِهَا، {إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} وَذَلِكَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْغَزْوِ وَالتِّجَارَةِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، تَسْتَعْمِلُونَهَا فِي أَنْوَاعِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ ركوب وتحميل كقوله تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}، ولهذا قال ههنا بعد تعداد هذه النعم: {إِنَّ رَبَّكُمْ لرؤوف رَحِيمٌ} أَيْ رَبَّكُمُ الَّذِي قَيَّضَ لَكُمْ هَذِهِ الأنعام وسخرها لكم كقوله: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ}، وَقَالَ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} أَيْ ثياب، {وَمَنَافِعُ} ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة، وَمَنَافِعُ نَسْلُ كُلِّ دَابَّةٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} أي لباس ينسج و {منافع} مركبٌ وَلَحْمٌ وَلَبَنٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: دِفْءٌ وَمَنَافِعُ يَقُولُ: لَكُمْ فِيهَا لِبَاسٌ وَمَنْفَعَةٌ وبُلغة، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ المفسِّرين بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ.

- 8 - وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ هَذَا صِنْفٌ آخَرُ مِمَّا خَلَقَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِعِبَادِهِ يَمْتَنُّ بِهِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ {الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ} الَّتِي جَعَلَهَا لِلرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ بِهَا وَذَلِكَ أَكْبَرُ الْمَقَاصِدِ مِنْهَا، وَلَمَّا فَصَلَهَا مِنَ الْأَنْعَامِ وَأَفْرَدَهَا بِالذِّكْرِ، اسْتَدَلَّ مَنِ اسْتَدَلَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى تَحْرِيمِ لُحُومِ الْخَيْلِ بِذَلِكَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِيهَا، كَالْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ

من الفقهاء بأنه تَعَالَى قَرَنَهَا بِالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَهِيَ حَرَامٌ، كَمَا ثَبَتَتْ بِهِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ بْنُ جرير عن ابن عباس: أنه كَانَ يَكْرَهُ لُحُومَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَكَانَ يقول: قال الله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} فَهَذِهِ لِلْأَكْلِ، {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} فهذه للركوب، ويستأنس لهذا بحديث رواه الإمام أحمد عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَلَكِنْ لَا يُقَاوِمُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن لُحُومٍ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ، وعن جَابِرٍ قَالَ: ذَبَحْنَا يَوْمَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنِ الخيل (وكذا قال قتادة والضحّاك)، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ فَهَذِهِ أَدَلُّ وَأَقْوَى وَأَثْبَتُ، وَإِلَى ذَلِكَ صَارَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُمْ وَأَكْثَرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَاللَّهُ أعلم.

- 9 - وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ لما ذكر تعالى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا الَّتِي يَرْكَبُونَهَا وَيَبْلُغُونَ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِهِمْ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَهُمْ إِلَى الْبِلَادِ وَالْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ وَالْأَسْفَارِ الشَّاقَّةِ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ الطُّرُقِ الَّتِي يَسْلُكُهَا النَّاسُ إِلَيْهِ، فبيَّن أَنَّ الْحَقَّ مِنْهَا مَا هِيَ مُوَصِّلَةٌ إِلَيْهِ فَقَالَ: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السبيل}، كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}، وقال: {هَذَا صِرَاطٌ عليَّ مستقيم}، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}، قَالَ: طَرِيقُ الْحَقِّ عَلَى اللَّهِ. وَقَالَ السدي: {وعلى الله قَصْدُ السبيل} الإسلام، وقال ابن عباس: وعلى الله البيان أي يبين الهدى والضلالة (وكذا قال قتادة والضحّاك). وقول مجاهد ههنا أَقْوَى مِنْ حَيْثُ السِّيَاقِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ ثَمَّ طُرُقًا تُسْلَكُ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْهَا إِلَّا طَرِيقُ الْحَقِّ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي شَرَعَهَا وَرَضِيَهَا، وَمَا عَدَاهَا مَسْدُودَةٌ وَالْأَعْمَالُ فِيهَا مَرْدُودَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} أي حائد مائل زائل عَنِ الْحَقِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هِيَ الطُّرُقُ الْمُخْتَلِفَةُ وَالْآرَاءُ وَالْأَهْوَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ والمجوسية، وقرأ ابن مسعود: {منكم جائر}؛ ثم أخبر تعالى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَائِنٌ عَنْ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَقَالَ: {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً}، وَقَالَ: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية.

- 10 - هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ - 11 - يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يتفكرون لما ذكر تعالى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالدَّوَابِّ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ نِعَمْتِهِ عَلَيْهِمْ فِي إِنْزَالِ الْمَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ - وَهُوَ الْعُلُوُّ - مِمَّا لَهُمْ فِيهِ بُلْغَةٌ وَمَتَاعٌ لَهُمْ وَلِأَنْعَامِهِمْ فَقَالَ: {لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ} أَيْ جَعَلَهُ عَذْبًا زُلَالًا يَسُوغُ لَكُمْ شَرَابُهُ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِلْحًا أُجَاجًا، {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} أي وأخرج لكم منه شَجَرًا تَرْعَوْنَ فِيهِ أَنْعَامَكُمْ، كَمَا قَالَ ابْنُ

عباس (وهو قول عكرمة والضحاك وقتادة وابن زيد): {تُسِيمُونَ} أَيْ تَرْعَوْنَ وَمِنْهُ الْإِبِلُ السَّائِمَةُ، وَالسَّوْمُ: الرعي. روى ابْنُ مَاجَهْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ السَّوْمِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَقَوْلُهُ: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أَيْ يُخْرِجُهَا مِنَ الْأَرْضِ بِهَذَا الْمَاءِ الْوَاحِدِ عَلَى اخْتِلَافِ صُنُوفِهَا وَطَعُومِهَا وَأَلْوَانِهَا وَرَوَائِحِهَا وَأَشْكَالِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أَيْ دَلَالَةً وَحُجَّةً عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا قَالَ تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا؟ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:

- 12 - وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ - 13 - وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ يُنَبِّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَى آيَاتِهِ الْعِظَامُ، وَمِنَنِهِ الْجِسَامِ فِي تَسْخِيرِهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَتَعَاقَبَانِ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَدُورَانِ، وَالنُّجُومَ الثَّوَابِتَ وَالسَّيَّارَاتِ فِي أَرْجَاءِ السماوات. نوراً وضياء ليتهدي بِهَا فِي الظُّلُمَاتِ، وَكُلٌّ مِنْهَا يَسِيرُ فِي فَلَكِهِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، يَسِيرُ بِحَرَكَةٍ مُقَدَّرَةٍ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا يُنْقِصُ عنها، والجميع تحت قهره وسلطانه وتسخيره وتقديره وتسهيله كقوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي لدلالات على قدرته تعالى الْبَاهِرَةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ وَيَفْهَمُونَ حُجَجَهُ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} لما نبه تعالى على معالم السماء نَبَّهَ عَلَى مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ وَالْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، عَلَى اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا وَأَشْكَالِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْخَوَاصِّ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أَيْ آلَاءَ اللَّهِ وَنِعَمَهُ فيشكرونها.

- 14 - وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - 15 - وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ - 16 - وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ - 17 - أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ - 18 - وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَسْخِيرِهِ الْبَحْرَ الْمُتَلَاطِمَ الْأَمْوَاجِ، وَيَمْتَنُّ عَلَى عِبَادِهِ بتذليله لهم وتيسيرهم للركوب فيه، وما يخلقه فيه من اللآلئ والجواهر النفسية، وتسهيله للعباد استخراجهم من قراره حِلْيَةً يَلْبَسُونَهَا، وَتَسْخِيرِهِ الْبَحْرَ لِحَمْلِ السُّفُنِ الَّتِي تَمْخُرُهُ أَيْ تَشُقُّهُ، وَقِيلَ: تَمْخُرُ الرِّيَاحَ وَكِلَاهُمَا صحيح، الَّذِي أَرْشَدَ الْعِبَادَ إِلَى صَنْعَتِهَا، وَهَدَاهُمْ إِلَى ذلك إرثاً عن نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ رَكِبَ السُّفُنَ، وَلَهُ كَانَ تَعْلِيمُ صَنْعَتِهَا، ثُمَّ أَخَذَهَا النَّاسُ عَنْهُ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بَعْدَ

جيل، يسيرون من قطر إلى قطر، ومن بلد إلى بلد، لجلب ما هناك من الأرزاق، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي نعمه وإحسانه؛ ثم ذكر تعالى وما ألقى فِيهَا مِنَ الرَّوَاسِي الشَّامِخَاتِ وَالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ لِتَقِرَّ الْأَرْضُ وَلَا تَمِيدُ، أَيْ تَضْطَرِبُ بِمَا عَلَيْهَا من الحيوانات، فَلَا يَهْنَأُ لَهُمْ عَيْشٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قال: {والجبال أرساها} وقال الحسن: لَمَّا خُلِقَتِ الْأَرْضُ كَانَتْ تَمِيدُ فَقَالُوا: مَا هَذِهِ بِمُقِرَّةٍ عَلَى ظَهْرِهَا أَحَدًا، فَأَصْبَحُوا وَقَدْ خلقت الجبال، فلم تَدْرِ الْمَلَائِكَةُ مِمَّ خُلِقَتِ الْجِبَالُ؟ وَقَالَ سَعِيدٌ، عن قيس بن عبادة: إن الله لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمُورُ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً، فأصحبت صبحاً وفيها رواسيها (وفي رواية ابن جرير عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ فمضت وَقَالَتْ: أَيْ رَبِّ تَجْعَلُ عليَّ بَنِي آدَمَ يعملون الْخَطَايَا وَيَجْعَلُونَ عليَّ الْخَبَثَ؟ قَالَ: فَأَرْسَى اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ مَا تَرَوْنَ وَمَا لَا ترون). وقوله: {وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً} أي جعل فيها أنهاراً تجري من مكان إلى آخَرَ رِزْقًا لِلْعِبَادِ يَنْبُعُ فِي مَوْضِعٍ، وَهُوَ رِزْقٌ لِأَهْلِ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَيَقْطَعُ الْبِقَاعَ وَالْبَرَارِيَ والقفار، ويخترق الجبال والآكان، فَيَصِلُ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي سُخِّرَ لِأَهْلِهِ، وَهِيَ سَائِرَةٌ فِي الْأَرْضِ يُمْنَةً وَيُسْرَةً وَجَنُوبًا وَشِمَالًا وَشَرْقًا وَغَرْبًا، مَا بَيْنَ صِغَارٍ وَكِبَارٍ، وَأَوْدِيَةً تَجْرِي حِينًا وَتَنْقَطِعُ فِي وَقْتٍ، وَمَا بَيْنَ نَبْعٍ وَجَمْعٍ، وَقَوِيِّ السَّيْرِ وَبَطِيئِهِ بِحَسَبِ مَا أَرَادَ وَقَدَّرَ وَسَخَّرَ وَيَسَّرَ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ فِيهَا {سُبُلاً} أَيْ طُرُقًا يُسْلَكُ فِيهَا مِنْ بِلَادٍ إِلَى بِلَادٍ حَتَّى إِنَّهُ تَعَالَى لَيَقْطَعُ الْجَبَلَ حَتَّى يَكُونَ مَا بَيْنَهُمَا مَمَرًّا وَمَسْلَكًا، كَمَا قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سبلا} الآية. وَقَوْلُهُ: {وَعَلامَاتٍ} أَيْ دَلَائِلَ مِنْ جِبَالٍ كِبَارٍ وَآكَامٍ صِغَارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَسْتَدِلُّ بِهَا الْمُسَافِرُونَ براً وبحراً إذا ضلوا الطرق. {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} أَيْ فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ، قاله ابن عباس، ثم نبَّه تعالى عَلَى عَظَمَتِهِ وَأَنَّهُ لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَوْثَانِ الَّتِي لَا تَخْلُقُ شَيْئًا بَلْ هُمْ يُخْلَقُونَ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى كَثْرَةِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أَيْ يَتَجَاوَزُ عَنْكُمْ وَلَوْ طَالَبَكُمْ بِشُكْرِ جَمِيعِ نِعَمِهِ لَعَجَزْتُمْ عَنِ الْقِيَامِ بِذَلِكَ، وَلَوْ أَمَرَكُمْ بِهِ لَضَعُفْتُمْ وَتَرَكْتُمْ، وَلَوْ عَذَّبَكُمْ لَعَذَّبَكُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَغْفِرُ الْكَثِيرَ وَيُجَازِي عَلَى الْيَسِيرِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُ: إن الله لغفور لِمَا كَانَ مِنْكُمْ مِنْ تَقْصِيرٍ فِي شُكْرِ بَعْضِ ذَلِكَ إِذَا تُبْتُمْ وَأَنَبْتُمْ إِلَى طَاعَتِهِ واتباع مرضاته، رحيم بكم لا يعذبكم بَعْدَ الْإِنَابَةِ وَالتَّوْبَةِ.

- 19 - وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ - 20 - وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ - 21 - أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَمُ الضَّمَائِرَ وَالسَّرَائِرَ كَمَا يَعْلَمُ الظَّوَاهِرَ، وَسَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْأَصْنَامَ الَّتِي يَدْعُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ؟ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}، وَقَوْلُهُ: {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ} أَيْ هِيَ جَمَادَاتٌ لَا أَرْوَاحَ فِيهَا فَلَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَعْقِلُ {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أَيْ لَا يَدْرُونَ مَتَى تَكُونُ السَّاعَةُ فَكَيْفَ يُرْتَجَى عند هذه نفع أو ثاب أو جزاء؟ إنما يرجى ذَلِكَ مِنَ الَّذِي يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.

- 22 - إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ - 23 - لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْكَافِرِينَ تُنْكِرُ قُلُوبُهُمْ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ مُتَعَجِّبِينَ مِنْ ذَلِكَ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إلها واحد؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عجاب}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة}، وَقَوْلُهُ: {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} أَيْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ مع إنكار قلوبهم التوحيد. كَمَا قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين}، ولهذا قال ههنا: {لاَ جَرَمَ} أَيْ حَقًّا، {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أَيْ وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الْجَزَاءَ {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}.

- 24 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ - 25 - لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ يَقُولُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ {مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا} مُعْرِضِينَ عَنِ الْجَوَابِ {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أَيْ لَمْ يُنْزِلْ شيئاً إنما هذا الذي تتلى عَلَيْنَا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ مَأْخُوذٌ مِنْ كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي يفترون على الرسول ويقولون أقوالاً متضادة مختلفة كُلُّهَا بَاطِلَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْحَقِّ فَمَهْمَا قَالَ أَخْطَأَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: سَاحِرٌ وَشَاعِرٌ وَكَاهِنٌ وَمَجْنُونٌ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُمْ إِلَى مَا اختلقه لهم شيخهم المسمى بالوليد بن المغيرة لَمَّا {فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي ينفل، وَيُحْكَى: فَتَفَرَّقُوا عَنْ قَوْلِهِ وَرَأْيهِ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، أَيْ إِنَّمَا قَدَّرْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ ليتحملوا أوزارهم وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يتبعونهم ووافقونهم، أَيْ يَصِيرُ عَلَيْهِمْ خَطِيئَةُ ضَلَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَخَطِيئَةُ إِغْوَائِهِمْ لِغَيْرِهِمْ وَاقْتِدَاءِ أُولَئِكَ بِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنِ اتَّبَعَهُ لَا يَنْقُصُ ذلك من آثامهم شيئاً»، روى العوفي عن ابن عباس في الآية: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} إِنَّهَا كَقَوْلِهِ: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مع أثقالهم}، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَحْمِلُونَ أَثْقَالَهُمْ، ذُنُوبَهُمْ وَذُنُوبَ مَنْ أَطَاعَهُمْ، وَلَا يُخَفَّفُ عَمَّنْ أَطَاعَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ شيئاً.

- 26 - قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ

حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ - 27 - ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ اليوم والسوء عَلَى الكافرين قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ من قَبْلِهِمْ} قال: هو النمروذ الذي بنى الصرح؛ وقال زيد بن أسلم: أول جبار كان النمروذ، وقال آخرون: بل هو بختنصر، وقال آخرون: هذا من الْمَثَلِ لِإِبْطَالِ مَا صَنَعَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَأَشْرَكُوا فِي عِبَادَتِهِ غَيْرَهُ، كَمَا قَالَ نوح عليه السلام: {ومكروا مكرا كبار} أَيِ احْتَالُوا فِي إِضْلَالِ النَّاسِ بِكُلِّ حِيلَةٍ وَأَمَالُوهُمْ إِلَى شِرْكِهِمْ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ كَمَا يَقُولُ لَهُمْ أَتْبَاعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} الآية. وَقَوْلُهُ: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ} أَيِ اجتثه من أصله وأبطل عملهم، كقوله تَعَالَى: {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}، وَقَوْلُهُ: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب}، وقال الله ههنا: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} أَيْ يُظْهِرُ فَضَائِحَهُمْ وَمَا كَانَتْ تُجِنُّهُ ضَمَائِرُهُمْ فَيَجْعَلُهُ علانية كقوله تعالى: {يَوْمَ تبلى السرآئر} أَيْ تَظْهَرُ وَتَشْتَهِرُ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ". وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ يَظْهَرُ لِلنَّاسِ مَا كَانُوا يُسِرُّونَهُ مِنَ الْمَكْرِ ويخزيهم الله على رؤوس الْخَلَائِقِ، وَيَقُولُ لَهُمُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُقَرِّعًا وَمُوَبِّخًا: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ؟} تحاربون وتعادون في سبيلهم أين هم عن نصركم وخلاصكم ههنا؟ {هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ ينتصرون}، {فما له من قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ}، فَإِذَا تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الدَّلَالَةُ: وحقت عليهم الكلمة وسكتوا عَنِ الِاعْتِذَارِ حِينَ لَا فِرَارَ، {قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} وَهُمُ السَّادَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} أَيِ الفضحية والعذاب محيط اليوم بِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَا يضره وما لا ينفعه.

- 28 - الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - 29 - فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِي أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم الخبيثة {فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ} أَيْ أَظْهَرُوا السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ وَالِانْقِيَادَ قَائِلِينَ: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ}، كَمَا يَقُولُونَ يَوْمَ الْمَعَادِ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، قَالَ اللَّهُ مُكَذِّبًا لَهُمْ فِي قِيلِهِمْ ذَلِكَ: {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أَيْ بِئْسَ الْمَقِيلُ وَالْمَقَامُ، وَالْمَكَانُ، مِنْ دَارِ هَوَانٍ لِمَنْ كَانَ مُتَكَبِّرًا عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ، وَهُمْ يَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ مِنْ يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أَجْسَادَهُمْ فِي قُبُورِهَا مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ سَلَكَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَخَلَدَتْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ

وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب}.

- 30 - وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ - 31 - جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فيها ما يشاؤون كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ - 32 - الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا خَبَرٌ عَنِ السُّعَدَاءِ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْأَشْقِيَاءِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ قِيلَ لَهُمْ: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} قَالُواْ: مُعْرِضِينَ عَنِ الْجَوَابِ، لَمْ يُنْزِلْ شَيْئًا إِنَّمَا هَذَا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: خَيْرًا أَيْ أَنْزَلَ خَيْرًا، أَيْ رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به، ثم أخبر عما وعد الله عباده فيما أنزله على رسله، فقال: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} الآية، كقوله تَعَالَى: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طيبة} أَيْ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلَهُ فِي الدُّنْيَا أَحْسَنَ الله إليه عمله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّ دَارَ الْآخِرَةِ خَيْرٌ، أَيْ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْجَزَاءُ فيها أتم من الجزاء في الدنيا، كقوله: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ}، وقال تعالى: {والآخرة خَيْرٌ وأبقى}، وَقَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ من الأولى}، ثم وصف الدار الآخرة فقال: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}، وَقَوْلُهُ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بَدَلٌ من دار المتقين، أي لهم في الآخرة جنات عدن أي مقام يَدْخُلُونَهَا، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ بَيْنَ أشجارها وقصورها، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ}، كقوله تَعَالَى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ السَّحَابَةَ لَتَمُرُّ بِالْمَلَأِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى شَرَابِهِمْ، فَلَا يشتهي أحد منهم شيئاً إلا أمطرته عليه، حتى إن منهم ليقول: أَمْطِرِينَا كَوَاعِبَ أَتْرَابًا فَيَكُونُ ذَلِكَ"، {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}، أَيْ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّقَاهُ وَأَحْسَنَ عَمَلَهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حَالِهِمْ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ أَنَّهُمْ طَيِّبُونَ، أَيْ مُخَلَّصُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالدَّنَسِ وَكُلِّ سُوءٍ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَتُبَشِّرُهُمْ بِالْجَنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أن لا تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ توعدون}. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي قَبْضِ رُوحِ الْمُؤْمِنِ وَرُوحِ الْكَافِرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بالقول الثابت}. الآية.

- 33 - هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ - 34 - فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ يقول تعالى مهدداً لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي الْبَاطِلِ وَاغْتِرَارِهِمْ بِالدُّنْيَا: هَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا الْمَلَائِكَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ لقبض أَرْوَاحِهِمْ، قَالَهُ قَتَادَةُ، {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} أَيْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَمَا يُعَايِنُونَهُ مِنَ الْأَهْوَالِ. وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ هَكَذَا تَمَادَى فِي شِرْكِهِمْ أَسْلَافُهُمْ وَنُظَرَاؤُهُمْ وَأَشْبَاهُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَ -[330]- اللَّهِ، وَحَلُّوا فيما هم مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ وَأَقَامَ حُجَجَهُ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ رُسُلِهِ، وَإِنْزَالِ كُتُبِهِ، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أَيْ بِمُخَالَفَةِ الرُّسُلِ وَالتَّكْذِيبِ بِمَا جَاءُوا بِهِ؛ فَلِهَذَا أَصَابَتْهُمْ عُقُوبَةُ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، {وَحَاقَ بِهِم} أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ يَسْخَرُونَ مِنَ الرُّسُلِ إِذَا تَوَعَّدُوهُمْ بِعِقَابِ اللَّهِ فَلِهَذَا يُقال لهم يَوْمَ الْقِيَامَةِ {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ}.

- 35 - وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ - 36 - وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ - 37 - إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ اغترار المشركين بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم محتجين بالقدر بقولهم: {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} أَيْ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَائِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا كَانُوا ابْتَدَعُوهُ وَاخْتَرَعُوهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مَا لَمْ يُنَزِّلِ به سطاناً، وَمَضْمُونُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَعَالَى كَارِهًا لما فعلنا لأنكره علينا بالعقوبة ولما أمكننا منه، قال تعالى رَادًّا عَلَيْهِمْ شُبْهَتَهُمْ: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ أنه لم ينكره عليكم، بَلْ قَدْ أَنْكَرَهُ عَلَيْكُمْ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ آكَدَ النَّهْيِ، وَبَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ في كل قرن وطائفة من الناس رسولاً، فَلَمْ يَزَلْ تَعَالَى يُرْسِلُ إِلَى النَّاسِ الرُّسُلَ بِذَلِكَ مُنْذُ حَدَثَ الشِّرْكُ فِي بَنِي آدَمَ فِي قَوْمِ نُوحٍ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ نُوحٌ، وَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، إِلَى أَنْ خَتَمَهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي طَبَّقَتْ دَعْوَتُهُ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ في المشارق والمغارب. {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فَكَيْفَ يَسُوغُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَقُولَ: {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ}؟ فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منفية لِأَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ؛ وَأَمَّا مَشِيئَتُهُ الْكَوْنِيَّةُ وَهِيَ تَمْكِينُهُمْ مِنْ ذَلِكَ قَدَرًا فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ النَّارَ وَأَهْلَهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْكَفَرَةِ وَهُوَ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ بَالِغَةٌ وَحِكْمَةٌ قَاطِعَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قد أخبر أنه أنكر عَلَيْهِمْ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ إِنْذَارِ الرُّسُلِ، فَلِهَذَا قَالَ: {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أَيِ اسْأَلُوا عَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ مَنْ خَالَفَ الرُّسُلَ وَكَذَّبَ الْحَقَّ، كَيْفَ {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أمثالها}، فقال: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكير}، ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ حِرْصَهُ عَلَى هِدَايَتِهِمْ لَا يَنْفَعُهُمْ، إِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَرَادَ إِضْلَالَهُمْ، كقوله تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شيئا}، وَقَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يغويكم}، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {إِنَّ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَن يُضِلُّ}. كما قال الله: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ

ويذرهم في طيغانهم يعمهون}، وقوله: {فَإِنَّ الله} أي شأنه وأمره، {لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} أَيْ مَنْ أَضَلَّهُ، فمن ذا الَّذِي يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ؟ أَيْ لَا أحد {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} أي ينقذونه مِنْ عَذَابِهِ وَوَثَاقِهِ {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالمين}.

- 38 - وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مِن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - 39 - لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ - 40 - إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عن المشركين إنهم خلفوا فَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أَيِ اجْتَهَدُوا فِي الحلف وغلظوا الأيمان أَنَّهُ لَا يَبْعَثَ اللَّهُ مِن يَمُوتُ، أَيِ استبعدوا ذلك وكذبوا الرُّسُلَ فِي إِخْبَارِهِمْ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَحَلَفُوا عَلَى نقيضه. فقال تعالى مكذباً لهم وراداً عَلَيْهِمْ: {بَلَى} أَيْ بَلَى سَيَكُونُ ذَلِكَ، {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} أَيْ لَا بُدَّ مِنْهُ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ فَلِجَهْلِهِمْ يُخَالِفُونَ الرُّسُلَ وَيَقَعُونَ فِي الْكُفْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حِكْمَتَهُ فِي الْمَعَادِ وَقِيَامِ الْأَجْسَادِ يَوْمَ التَّنَادِ فَقَالَ: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} أَيْ لِلنَّاسِ، {الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي من كل شيء، {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ} أَيْ فِي أَيْمَانِهِمْ وَأَقْسَامِهِمْ لَا يَبْعَثَ اللَّهُ مِن يموت. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ وَأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ ولا في السماء، وَالْمَعَادُ مِنْ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ كَوْنُهُ فَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيَكُونُ كَمَا يَشَاءُ كقوله {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر}، وَقَالَ: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يمانع، ولا يخالف، لأنه الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، الْعَظِيمُ الَّذِي قَهَرَ سُلْطَانُهُ وَجَبَرُوتُهُ وَعِزَّتُهُ كُلَّ شَيْءٍ فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.

- 41 - وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ - 42 - الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَزَائِهِ لِلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، الَّذِينَ فَارَقُوا الدَّارَ والإخوان والخلان رجاء ثواب الله وجزائه، وقد وعدهم تَعَالَى بِالْمُجَازَاةِ الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَالَ: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَدِينَةُ، وَقِيلَ: الرِّزْقُ الطَّيِّبُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنَّهُمْ تَرَكُوا مَسَاكِنَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَعَوَّضَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ بِمَا هو خير له منه، وكذلك وقع، فإن الله مكن لَهُمْ فِي الْبِلَادِ، وَحَكَّمَهُمْ عَلَى رِقَابِ الْعِبَادِ، وصاروا أُمَرَاءَ حُكَّامًا وَكُلٌّ مِنْهُمْ لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ ثَوَابَهُ لِلْمُهَاجِرِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِمَّا أَعْطَاهُمْ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: {وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} أَيْ مِمَّا أَعْطَيْنَاهُمْ فِي الدُّنْيَا {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أَيْ لَوْ كَانَ الْمُتَخَلِّفُونَ عَنِ الْهِجْرَةِ مَعَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا ادَّخَرَ اللَّهُ لِمَنْ أطاعه واتبع رسوله، وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ

بن الخطاب رضي الله عنه إِذَا أَعْطَى الرَّجُلَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَطَاءَهُ يَقُولُ: خُذْ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِ، هَذَا مَا وَعَدَكَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا ادَّخَرَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}، ثُمَّ وَصَفَهُمْ تَعَالَى فَقَالَ: {الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أَيْ صَبَرُوا على الأذى مِنْ قَوْمِهِمْ مُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ الَّذِي أَحْسَنَ لَهُمُ الْعَاقِبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

- 43 - وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ - 44 - بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا أَنْكَرَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ أَوْ مِن أَنْكَرَ مِنْهُمْ وَقَالُوا: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أنذر الناس} الآية، وَقَالَ: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} يَعْنِي أَهْلَ الْكُتُبِ الْمَاضِيَةِ أَبَشَرًا كانت الرسل إليهم أَمْ مَلَائِكَةً؟ فَإِنْ كَانُوا مَلَائِكَةً أَنْكَرْتُمْ، وَإِنْ كَانُوا بَشَرًا فَلَا تُنْكِرُوا أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم رسولاً، والغرض أن هذه الآية الكريمة أخبرت بأن الرسل الماضيين قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا بَشَرًا كَمَا هُوَ بَشَرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رسولا}، وَقَالَ: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ}، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}، ثُمَّ أَرْشَدَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ شَكَّ فِي كَوْنِ الرُّسُلِ كَانُوا بَشَرًا إِلَى سُؤَالِ أَصْحَابِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ سَلَفُوا، هَلْ كَانَ أَنْبِيَاؤُهُمْ بَشَرًا أَوْ مَلَائِكَةً، ثُمَّ ذَكَرَ تعالى أنه أرسلهم {بالبينات} أي بالحجج والدلائل {وَالزُّبُرِ} وَهِيَ الْكُتُبُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ؛ وَالزُّبُرُ: جَمْعُ زَبُورٍ، تَقُولُ الْعَرَبُ: زَبَرْتُ الْكِتَابَ إِذَا كَتَبْتُهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ}، وَقَالَ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} يَعْنِي القرآن {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} أي من ربهم لعلمك بمعنى ما أنزل الله عَلَيْكَ، وَحِرْصِكَ عَلَيْهِ وَاتِّبَاعِكَ لَهُ، وَلِعِلْمِنَا بِأَنَّكَ أَفْضَلُ الْخَلَائِقِ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فَتُفَصِّلَ لَهُمْ ما أجمل وتبين لهم ما أشكل والمراد بأهل الذكر أهل الكتاب (قاله ابن عباس ومجاهد والأعمش وعبد الرحمن بن زيد)، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي ينظرون لأنفسهم فيتهدون فَيَفُوزُونَ بِالنَّجَاةِ فِي الدَّارَيْنِ.

- 45 - أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ - 46 - أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ - 47 - أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ يخبر تعالى عن حلمه وَإِنْظَارِهِ الْعُصَاةَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا، وَيَمْكُرُونَ بِالنَّاسِ فِي دُعَائِهِمْ إِيَّاهُمْ وَحَمْلِهِمْ عَلَيْهَا مع قدرته على أن يخسف بِهِمُ الْأَرْضَ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ، أَيْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ مجئيه إليهم، كقوله تعالى: {أفأمنتم مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تمور}، وقوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ

فِي تَقَلُّبِهِمْ} أي تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها في أَسْفَارٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَشْغَالِ الْمُلْهِيَةِ، قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: تَقَلُّبِهِمْ أَيْ أَسْفَارِهِمْ؛ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: {فِي تَقَلُّبِهِمْ} فِي الليل والنهار، كقوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وهو نائمون}، وَقَوْلُهُ: {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} أَيْ لَا يُعْجِزُونَ على اللَّهَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانُوا عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: {أَوِ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} أَيْ أَوْ يَأْخُذَهُمُ اللَّهُ فِي حَالِ خَوْفِهِمْ مِنْ أَخْذِهِ لَهُمْ، فإنه يكون أبلغ وأشد، فإن حصول ما يتوقع مع الخوف الشديد، ولهذا قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ}: يَقُولُ: إِنْ شِئْتُ أَخَذْتُهُ عَلَى أَثَرِ مَوْتِ صَاحِبِهِ وتحوفه بذلك (وكذا روي عن مجاهد وقتادة والضحّاك). ثم قال تعالى: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم} أَيْ حَيْثُ لَمْ يُعَاجِلْكُمْ بِالْعُقُوبَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ ويعافيهم»، وقال تعالى: {وكأي مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير}.

- 48 - أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ - 49 - وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَآبَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ - 50 - يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ الَّذِي خَضَعَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها، جماداتها وَحَيَوَانَاتُهَا وَمُكَلَّفُوهَا مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ مَا لَهُ ظِلٍّ يَتَفَيَّأُ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، أَيْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا فَإِنَّهُ سَاجِدٌ بِظِلِّهِ لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ سَجَدَ كُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ دَاخِرُونَ} أَيْ صَاغِرُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أيضاً: سجود كل شيء فيؤه، وأمواج البحر صلاته، ونزلهم منزلة من يعقل إذا أسند السجود إليهم، فقال: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ}، كَمَا قَالَ: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال}، وَقَوْلُهُ: {وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} أَيْ تَسْجُدُ لِلَّهِ أَيْ غَيْرَ مُسْتَكْبِرِينَ عَنْ عِبَادَتِهِ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ} أَيْ يَسْجُدُونَ خَائِفِينَ وَجِلِينَ مِنَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أَيْ مُثَابِرِينَ عَلَى طَاعَتِهِ تَعَالَى وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وترك زواجره.

- 51 - وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ - 52 - وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ - 53 - وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ - 54 - ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ - 55 - لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تعلمون

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّهُ مَالِكُ كُلُّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ وَرَبُّهُ {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً}، قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد: أي دائماً، وعن ابن عباس أيضاً: أي واجباً، وقال مجاهد: أي خالصاً له، أَيْ لَهُ الْعِبَادَةُ وَحْدَهُ مِمَّنْ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض، كقوله: {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص}، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَالِكُ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَأَنَّ ما بالعباد مِنْ رِزْقٍ وَنِعْمَةٍ وَعَافِيَةٍ وَنَصْرٍ فَمِنْ فَضْلِهِ عليهم، وإحسانه إليهم، {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} أَيْ لِعِلْمِكُمْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَتِهِ إِلَّا هو، فإنكم عند الضرورات تلجأون إليه، وتسألونه وتلحون في الرغبة إليه مستغيثين به، كقوله تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ}، وقال ههنا: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ} قِيلَ اللام ههنا لام العاقبة، وقيل: لام التعليل. بمعنى قضينا لَهُمْ ذَلِكَ لِيَكْفُرُوا أَيْ يَسْتُرُوا وَيَجْحَدُوا نِعَمَ الله عليهم، مع أنه الْمُسْدِي إِلَيْهِمُ النِّعَمَ، الْكَاشِفُ عَنْهُمُ النِّقَمَ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ قَائِلًا: {فَتَمَتَّعُواْ} أَيِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ بِمَا أَنْتُمْ فِيهِ قَلِيلًا {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أَيْ عاقبة ذلك.

- 56 - وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ - 57 - وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ - 58 - وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ - 59 - يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ - 60 - لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ مِنَ الأصنام والأوثان والأنداد بغير علم وجعلوا للأوثان نَصِيبًا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، فَقَالُواْ: {هَذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا} أي جعلوا لآلهتم نصيباً مع الله وفضلوها عَلَى جَانِبِهِ، فَأَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه ائتفكوه، وَلَيُقَابِلَنَّهُمْ عَلَيْهِ وَلَيُجَازِيَنَّهُمْ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَقَالَ: {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ}، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ إناثاً وجعلوها بنات الله، فعبدوها معه، فنسبوا إليه تعالى الولد وَلَا وَلَدَ لَهُ، ثُمَّ أَعْطَوْهُ أَخَسَّ الْقِسْمَيْنِ مِنَ الْأَوْلَادِ وَهُوَ الْبَنَاتُ وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَهَا لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى}، وقوله ههنا: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ} أَيْ عَنْ قَوْلِهِمْ وإفكهم، {أَلاَ إنهم ليقولن وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى البنين؟ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}، وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} أَيْ يَخْتَارُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الذُّكُورَ وَيَأْنَفُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبَنَاتِ الَّتِي نَسَبُوهَا إِلَى اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِنَّهُ {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} أَيْ كَئِيبًا مِنَ الْهَمِّ {وَهُوَ كَظِيمٌ} سَاكِتٌ مِنْ شِدَّةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْحُزْنِ، {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} أَيْ يَكْرَهُ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ، {مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} أَيْ إِنْ أَبْقَاهَا أَبْقَاهَا مُهَانَةً لَا يُورِّثُهَا وَلَا يَعْتَنِي بِهَا، وَيُفَضِّلُ أَوْلَادَهُ الذُّكُورَ عَلَيْهَا، {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} أَيْ يَئِدُهَا وَهُوَ أَنْ يَدْفِنَهَا فِيهِ حَيَّةً كَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَفَمَنْ يَكْرَهُونَهُ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ وَيَأْنَفُونَ لِأَنْفُسِهِمْ عَنْهُ يَجْعَلُونَهُ لِلَّهِ؟ {أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أَيْ بِئْسَ مَا قَالُوا،

وبئس ما قسموا، وبئس ما نسبوه إليه، كقوله تَعَالَى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ}، وقوله ههنا: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} أَيِ النَّقْصُ إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} أَيِ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

- 61 - وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ - 62 - وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حِلْمِهِ بِخَلْقِهِ مَعَ ظُلْمِهِمْ، وَأَنَّهُ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِ الأرض مِن دَآبَّةٍ، أي لأهلك دواب الأرض ومعهم بنو آدَمَ، وَلَكِنَّ الرَّبَّ جَلَّ جَلَالُهُ يَحْلُمُ وَيَسْتُرُ، وَيُنْظِرُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ لَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ إِذْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ لَمَا أبقى أحداً. وفي الحديث: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُؤَخِّرُ شَيْئًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهُ، وَإِنَّمَا زِيَادَةُ الْعُمُرِ بِالذُّرِّيَّةِ الصَّالِحَةِ يَرْزُقُهَا الله العبد فيدعون لَهُ مِن بَعْدِهِ، فليحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء مرفوعاً). وَقَوْلُهُ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} أَيْ مِنَ البنات ومن الشركاء الذين هم عَبِيدِهِ وَهُمْ يَأْنَفُونَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَحَدِهِمْ شَرِيكٌ لَهُ فِي مَالِهِ، وَقَوْلُهُ: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أن لهم الحسنى} إنكاراً عَلَيْهِمْ فِي دَعْوَاهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ لَهُمُ الحسنى في الدنيا، كقوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى}، وَقَوْلُهُ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مالا وولدا} فَجَمَعَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ عَمَلِ السُّوءِ، وَتَمَنِّي الْبَاطِلَ بِأَنْ يُجَازَوْا عَلَى ذَلِكَ حُسْنًا وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ، يعملون السيئات ويجزون الحسنات؟ أيجتبى من الشوك العنب؟ ولهذا قال تعالى رداً عَلَيْهِمْ فِي تَمَنِّيهِمْ ذَلِكَ: {لاَ جَرَمَ} أَيْ حَقًّا لَا بُدَّ مِنْهُ، {أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ}، قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: مَنْسِيُّونَ فِيهَا مُضَيَّعُونَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا {مُّفْرَطُونَ}: أَيْ مُعَجَّلُونَ إِلَى النَّارِ مِنَ الْفَرَطِ وَهُوَ السَّابِقُ إِلَى الْوِرْدِ، وَلَا مُنَافَاةَ لِأَنَّهُمْ يُعَجَّلُ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى النَّارِ وَيُنْسَوْنَ فِيهَا أَيْ يَخْلُدُونَ.

- 63 - تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 64 - وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ - 65 - وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ رُسُلًا فَكُذِّبَتِ الرسل، فلك يا محمد فِي إخوتك من المرسلين أسوة فلا يهُمنَّك تَكْذِيبُ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَزْيِينُ الشَّيْطَانِ لهم ما

فَعَلُوهُ. {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} أَيْ هُمْ تَحْتَ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ، وَالشَّيْطَانُ وَلِيُّهُمْ وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ خَلَاصًا، وَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَالْقُرْآنُ فَاصِلٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ، {وَهُدًى} أَيْ لِلْقُلُوبِ، {وَرَحْمَةً} أَيْ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، وَكَمَا جَعَلَ سبحانه القرآن حياة القلوب الميتة بكفرها كذلك يُحْيِي الأرض بَعْدَ موتها بما أنزله عَلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ مِن مَاءٍ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أَيْ يَفْهَمُونَ الْكَلَامَ ومعناه.

- 66 - وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ - 67 - وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَإِن لَكُمْ} أَيُّهَا النَّاسُ {فِي الْأَنْعَامِ} وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ {لَعِبْرَةً} أَيْ لَآيَةً وَدَلَالَةً عَلَى حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه، {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْحَيَوَانِ، فَإِنَّ الْأَنْعَامَ حَيَوَانَاتٌ، أَيْ نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بَطْنِ هَذَا الْحَيَوَانِ، وفي الآية الأُخْرى {مِّمَّا فِي بطونها} ويجوز هذا وهذا، كما في قوله: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ}، وَقَوْلُهُ: {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً} أَيْ يَتَخَلَّصُ الدَّمُ بَيَاضَهُ وَطَعْمَهُ وَحَلَاوَتَهُ، مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ فِي بَاطِنِ الْحَيَوَانِ، فَيَسْرِي كُلٌّ إِلَى مَوْطِنِهِ إِذَا نَضِجَ الْغِذَاءُ فِي معدته، فينصرف مِنْهُ دَمٌ إِلَى الْعُرُوقِ، وَلَبَنٌ إِلَى الضَّرْعِ، وَبَوْلٌ إِلَى الْمَثَانَةِ، وَرَوْثٌ إِلَى الْمَخْرَجِ، وَكُلٌّ مِنْهَا لَا يَشُوبُ الْآخَرَ، وَلَا يُمَازِجُهُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنْهُ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: {لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} أَيْ لَا يَغَصُّ بِهِ أَحَدٌ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّبَنَ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ شَرَابًا لِلنَّاسِ سَائِغًا ثَنَّى بِذِكْرِ مَا يَتَّخِذُهُ النَّاسُ مِنَ الْأَشْرِبَةِ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، وَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ مِنَ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ قَبْلَ تَحْرِيمِهِ، وَلِهَذَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً}، قال ابن عباس: السَّكَرُ مَا حُرِّمَ مِنْ ثَمَرَتَيْهِمَا، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ مَا أُحِلَّ مِنْ ثَمَرَتَيْهِمَا، وَفِي رِوَايَةٍ: السَّكَرُ حَرَامُهُ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ حَلَالُهُ، يَعْنِي مَا يَبِسَ مِنْهُمَا مِنْ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ، وَمَا عُمِلَ مِنْهُمَا مِنْ طِلَاءٍ وَهُوَ الدِّبْسُ وَخَلٍّ وَنَبِيذٍ حَلَالٌ يُشْرَبُ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ، كَمَا وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِذَلِكَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ناسب ذكر العقل ههنا فإنه أشرف ما في الإنسان، ولهذا حرمه اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَشْرِبَةَ الْمُسْكِرَةَ صِيَانَةً لعقولها وقال اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أفلا يشكرون}؟.

- 68 - وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ - 69 - ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لقوم يتفكرون المراد بالوحي هنا (الإلهام) والهداية والإرشاد للنحل، أَنْ تَتَّخِذَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً تَأْوِي إِلَيْهَا، ومن الشجر ومما يعرشون، ثُمَّ أَذِنَ لَهَا تَعَالَى إِذْنًا قَدَرِيًّا تَسْخِيرِيًّا أَنْ تَأْكُلَ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ، وَأَنْ تَسْلُكَ الطرق التي جعلها الله تعالى

مذللة لها أي مسهلة عليها حيث شاءت من هَذَا الْجَوِّ الْعَظِيمِ وَالْبَرَارِي الشَّاسِعَةِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْجِبَالِ الشَّاهِقَةِ، ثُمَّ تَعُودُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى بيتا وَمَا لَهَا فِيهِ مِنْ فِرَاخٍ وَعَسَلٍ، فَتَبْنِي الشَّمْعَ مِنْ أَجْنِحَتِهَا، وَتَقِيءُ الْعَسَلَ مِنْ فِيهَا، ثم تصبح إلى مراعيها. وقوله تعالى: {فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} أَيْ فَاسْلُكِيهَا مُذَلَّلَةً لَكِ، نَصَّ عَلَيْهِ مُجَاهِدٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فيه شفآء للناس} مَا بَيْنَ أَبْيَضَ وَأَصْفَرَ وَأَحْمَرَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْوَانِ الْحَسَنَةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاعِيهَا وَمَأْكَلِهَا مِنْهَا، وَقَوْلُهُ: {فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ} أَيْ فِي العسل شفاء للناس، أمِنْ أَدْوَاءٍ تَعْرِضُ لَّهُمْ. قَالَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الطِّبِّ النَّبَوِيِّ: لَوْ قَالَ فِيهِ الشِّفَاءُ لِلنَّاسِ لَكَانَ دَوَاءً لِكُلِّ دَاءٍ؛ وَلَكِنْ قال: فيه شفآء للناس (روي عن مجاهد وابن جرير في قوله: {فيه شفآء للناس} أن المراد به الْقُرْآنَ وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنْ ليس هو الظاهر ههنا من سياق الآية، فإن الآية ذكر فيها العسل فالضمير يعود إليه والله أعلم)، أَيْ يَصْلُحُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَدْوَاءٍ بَارِدَةٍ، فإنه حار، والشيء يداوى بضده. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رجلاً جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ، فَقَالَ: «اسقه عسلاً» فذهب فَسَقَاهُ عَسَلًا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله سقيته عسلاً فما زاده اسْتِطْلَاقًا. قَالَ: «اذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلًا»، فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عَسَلًا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ، اذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلًا»، فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عسلاً فبرئ (أخرجه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالطِّبِّ: كَانَ هَذَا الرَّجُلُ عِنْدَهُ فَضَلَاتٌ، فَلَمَّا سَقَاهُ عَسَلًا وَهُوَ حَارٌّ تحللت فأسرعت في الاندفاع، فزاده إسهالاً، فَاعْتَقَدَ الْأَعْرَابِيُّ أَنَّ هَذَا يَضُرُّهُ وَهُوَ مَصْلَحَةٌ لِأَخِيهِ، ثُمَّ سَقَاهُ فَازْدَادَ التَّحْلِيلُ وَالدَّفْعُ، ثُمَّ سقاه فكذلك، فلما اندفعت الفضلات لفاسدة الْمُضِرَّةُ بِالْبَدَنِ اسْتَمْسَكَ بَطْنُهُ وَصَلُحَ مِزَاجُهُ وَانْدَفَعَتِ الْأَسْقَامُ وَالْآلَامُ بِبَرَكَةِ إِشَارَتِهِ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أفضل الصلاة والسلام. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل. وفي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ". وَقَالَ البخاري، عَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "إن كان فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ: فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ توافق الداء، وما أحب أن أكتوي". وفي الحديث: "عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن" (رواه ابن ماجه عن ابن مسعود مرفوعاً، قال ابن كثير: وإسناده جيد)، وعن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمُ الشِّفَاءَ فَلْيَكْتُبْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي صَحْفَةٍ، وَلْيَغْسِلْهَا بِمَاءِ السَّمَاءِ، وَلْيَأْخُذْ مِنِ امْرَأَتِهِ دِرْهَمًا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا، فَلْيَشْتَرِ بِهِ عَسَلًا فَلْيَشْرَبْهُ كذلك فَإِنَّهُ شِفَاءٌ، أَيْ مِنْ وُجُوهٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ ورحمة للمؤمنين}، وقال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مآء مباركا}، وَقَالَ: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مريئا}، وقال في العسل: {فيه شفآء للناس}، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أَيْ إِنَّ فِي إِلْهَامِ اللَّهِ لِهَذِهِ الدَّوَابِّ الضَّعِيفَةِ الْخِلْقَةِ إِلَى السُّلُوكِ فِي هَذِهِ الْمَهَامَةِ وَالِاجْتِنَاءِ مِنْ سَائِرِ الثِّمَارِ، ثُمَّ جَمْعِهَا لِلشَّمْعِ والعسل وهو أَطْيَبِ الْأَشْيَاءِ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي عَظَمَةِ خَالِقِهَا وَمُقَدِّرِهَا وَمُسَخِّرِهَا وَمُيَسِّرِهَا فَيَسْتَدِلُّونَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ الْقَادِرُ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الْكَرِيمُ الرَّحِيمُ.

- 70 - وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَصَرُّفِهِ فِي عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَهُمْ مِنَ الْعَدَمِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَوَفَّاهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ الْهَرَمُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {أَرْذَلِ العمر}: خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَفِي هَذَا السِّنِّ يَحْصُلُ لَهُ ضَعْفُ الْقُوَى وَالْخَرَفُ وَسُوءُ الْحِفْظِ وَقِلَّةُ الْعِلْمِ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} أي بعد ما كَانَ عَالِمًا أَصْبَحَ لَا يَدْرِي شَيْئًا مِنَ الْفَنَدِ وَالْخَرَفِ، وَلِهَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هذه الآية عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو: «أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَالْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ».

- 71 - وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ يُبَيِّنُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ جَهْلَهُمْ وَكُفْرَهُمْ فِيمَا زعموه لله من الشركاء، وهم يعترفون أنه عَبِيدٌ لَهُ، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ فِي حَجِّهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، فَقَالَ تعالى منكراً عليهم: أنتم لَا تَرْضَوْنَ أَنْ تُسَاوُوا عَبِيدَكُمْ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم؟ قال ابن عباس في هذه الآية: لَمْ يَكُونُوا لِيُشْرِكُوا عَبِيدَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ عَبِيدِي مَعِي فِي سُلْطَانِي؟ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}. وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ: فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِي مَا لَا تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ؟ وقال مجاهد: هذا مثل الآلهة الْبَاطِلَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ فهل منكم من أحد يشاركه مَمْلُوكَهُ فِي زَوْجَتِهِ وَفِي فِرَاشِهِ فَتَعْدِلُونَ بِاللَّهِ خَلْقَهُ وَعِبَادَهُ؟ فَإِنْ لَمْ تَرْضَ لِنَفْسِكَ هَذَا فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُنَزَّهَ مِنْكَ، وَقَوْلُهُ: {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} أي كيف جحدوا نَعَمْتَهُ وَأَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: (وَاقْنَعْ بِرِزْقِكَ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الرَّحْمَنَ فَضَّلَ بَعْضَ عِبَادِهِ عَلَى بعض في الرزق، بلاء يبتلي به كلا، فيبتلي به مَنْ بَسَطَ لَهُ كَيْفَ شُكْرُهُ لِلَّهِ وَأَدَاؤُهُ الْحَقَّ الَّذِي افْتَرَضَ عَلَيْهِ فِيمَا رَزَقَهُ وَخَوَّلَهُ) (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ).

- 72 - وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ يَذْكُرُ تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى عَبِيدِهِ بِأَنْ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَزْوَاجًا مِنْ جِنْسِهِمْ وَشِكْلِهِمْ، ولو جعل الأزواج من نوع

آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة، وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَتِهِ خَلَقَ مِنْ بَنِي آدَمَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَجَعَلَ الْإِنَاثَ أَزْوَاجًا لِلذُّكُورِ، ثُمَّ ذكر تعالى بأنه جَعَلَ مِنَ الْأَزْوَاجِ الْبَنِينَ وَالْحَفَدَةَ وَهُمْ أَوْلَادُ البنين، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} هُمُ الْوَلَدُ وولد الولد، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} ابْنَهُ وَخَادِمَهُ، وَقَالَ طاووس وغير واحد: الحفدة الخدم. وعن عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْحَفَدَةُ مَنْ خَدَمك مِنْ وَلَدِكَ وَوَلَدِ وَلَدِكَ، قَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّمَا كَانَتِ العرب تخدمها بنوها. وقال على ابن أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمُ الْأَصْهَارُ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ في معنى الحفدة وهو الخدمة، ومنه قَوْلُهُ فِي الْقُنُوتِ: (وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ) وَلَمَّا كانت الخدمة قد تكون من الأولاد والخدم والأصهار فَالنِّعْمَةُ حَاصِلَةٌ بِهَذَا كُلِّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً}، قُلْتُ: فَمَنْ جَعَلَ {وَحَفَدَةً} مُتَعَلِّقًا بِأَزْوَاجِكُمْ فَلَا بُدَّ أَنْ يكون المراد الأولاد وأولاد الأولاد أو الأصهار، لأنهم أزواج البنات أو أولاد الزوجة، فإنهم يكونون غالباً تَحْتَ كَنَفِ الرَّجُلِ وَفِي حِجْرِهِ وَفِي خِدْمَتِهِ، وأما من جعل الحفدة الْخَدَمُ فَعِنْدَهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} أي جعل لكم الأزواج والأولاد خدماء، وقوله: {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات} أي مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى مَنْ أَشْرَكَ فِي عِبَادَةِ الْمُنْعِمِ غَيْرَهُ: {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ}؟ وهم الأنداد والأصنام {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}؟ أَيْ يَسْتُرُونَ نِعَمَ الله عليهم ويضيفونها إلى غيره.

- 73 - وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ - 74 - فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الْأَمْثَالَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ مَعَ أَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مِنْ دونه الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ {مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً} أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِنْزِالِ مَطَرٍ وَلَا إِنْبَاتِ زَرْعٍ ولا شجر، ولا يملكون ذلك لأنفسهم، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ لَوْ أَرَادُوهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} أَيْ لَا تَجْعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا وَأَشْبَاهًا وَأَمْثَالًا {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أَيْ أَنَّهُ يَعْلَمُ وَيَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إله إلا هو وَأَنْتُمْ بِجَهْلِكُمْ تُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ.

- 75 - ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ لِلْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، فالعبد الْمَمْلُوكُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِثْلُ الْكَافِرِ، وَالْمَرْزُوقُ الرِّزْقَ الْحَسَنَ فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سراً وجهراً هو المؤمن، وقال مُجَاهِدٍ: هُوَ مَثَلٌ مَضْرُوبٌ لِلْوَثَنِ وَلِلْحَقِّ تَعَالَى، فهل يستوي هذا وهذا؟ ولكا كان الفرق بينهما ظاهراً واضحاً بيناً لَا يَجْهَلُهُ إِلَّا كُلُّ غَبِيٍّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.

- 76 - وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهَذَا أَيْضًا الْمُرَادُ بِهِ الْوَثَنُ وَالْحَقُّ تَعَالَى، يَعْنِي أَنَّ الْوَثَنَ أَبْكَمُ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَنْطِقُ بِخَيْرٍ وَلَا بِشَيْءٍ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا مَقَالَ وَلَا فِعَالَ، وَهُوَ مَعَ هَذَا {كلٌّ} أَيْ عِيَالٌ وَكُلْفَةٌ عَلَى مَوْلاهُ {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ} أَيْ يَبْعَثُهُ {لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} وَلَا يَنْجَحُ مَسْعَاهُ {هَلْ يَسْتَوِي} مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ {وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} أي بالقسط فمقاله حَقٌّ وَفِعَالُهُ مُسْتَقِيمَةٌ {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ مَثَلٌ لِلْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ أَيْضًا كما تقدم: وقال ابن جرير: نزلت في رجل من قريش وعبده يعني قوله: {عبدا مملوكا} الآية، وَفِي قَوْلِهِ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ - إِلَى قَوْلِهِ - وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قَالَ: هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، قَالَ: وَالْأَبْكَمُ الَّذِي أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ قَالَ: هُوَ مَوْلًى لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، كَانَ عُثْمَانُ يُنْفِقُ عليه ويكفله ويكفيه المؤونة، وَكَانَ الْآخَرُ يَكْرَهُ الْإِسْلَامَ وَيَأْبَاهُ، وَيَنْهَاهُ عَنِ الصدقة والمعروف، فنزلت فيهما (ذكر السهيلي: أن الأبكم هو أبو جهل لعنه الله، واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة. والذي يأمر بالعدل: هو عمار بن ياسر العنسي المذحجي، وكان أبو جهل يعذبه على الإسلام، ويعذّب أُمه سمية، وكانت مولاة لأبي جهل، وقد طعنها بالرمح في قلبها فماتت، فهي أول شهيدة في الإسلام).

- 77 - وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 78 - وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - 79 - أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يخبر تعالى عن كمال قدرته عَلَى الْأَشْيَاءِ فِي عِلْمِهِ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ واختصاصه بعلم الغيب، فَلَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يطلعه تَعَالَى عَلَى مَا يَشَاءُ، وَفِي قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا تُخَالَفُ وَلَا تُمَانَعُ، وَأَنَّهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ كَمَا قَالَ: {وَمَا أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} أَيْ فَيَكُونُ مَا يُرِيدُ كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَهَكَذَا قال ههنا: {وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير}، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مِنَّتَهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي إِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً، ثم بعد هذا يرزقهم السمع الذي به يدركون الأصوات، والأبصار التي بها يحسون المرئيات، والأفئدة وهي العقول، وَهَذِهِ الْقُوَى وَالْحَوَاسُّ تَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ عَلَى التَّدْرِيجِ قَلِيلًا قَلِيلًا، كُلَّمَا كَبِرَ زِيدَ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعَقْلِهِ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ تَعَالَى هَذِهِ فِي الْإِنْسَانِ لِيَتَمَكَّنَ بِهَا مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ تَعَالَى، فَيَسْتَعِينُ بِكُلِّ جَارِحَةٍ وَعُضْوٍ وَقُوَّةٍ عَلَى طَاعَةِ مَوْلَاهُ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " يَقُولُ تَعَالَى: مَّنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْحَرْبِ، وما تقرّب إليَّ عبدي بشيء أفضل من أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إليَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا

أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولئن دعاني لأجبيبنه، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَ بِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلَا بد مِنْهُ". فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْلَصَ الطَّاعَةَ صَارَتْ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، فلا يسمع إلا لله، ولا يبصر إِلاَّ للَّهِ أَيْ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ، وَلَا يَبْطِشُ وَلَا يَمْشِي إِلَّا فِي طَاعَةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ الصحيح: «فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، كقوله تعالى فِي الْآيَةِ الأُخرى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}، ثُمَّ نبَّه تَعَالَى عِبَادَهُ إِلَى النَّظَرِ إِلَى الطَّيْرِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَيْفَ جَعَلَهُ يطير بجناحين بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يملكه هناك إلا الله بقدرته تعالى التي جَعَلَ فِيهَا قُوًى تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَسَخَّرَ الْهَوَاءَ يحملها، وبسير الطير كذلك كما قال تعالى في سورة الملك: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}، وقال ههنا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

- 80 - وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ - 81 - وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ - 82 - فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ - 83 - يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ يَذْكُرُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَمَامَ نِعَمِهِ عَلَى عَبِيدِهِ بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي هِيَ سَكَنٌ لَهُمْ يَأْوُونَ إِلَيْهَا، وَيَسْتَتِرُونَ بِهَا وَيَنْتَفِعُونَ بها بسائر وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ. وَجَعَلَ لَهُمْ أَيْضًا مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا، أَيْ مِنَ الْأَدَمِ يَسْتَخِفُّونَ حَمْلَهَا فِي أَسْفَارِهِمْ لِيَضْرِبُوهَا لَهُمْ فِي إِقَامَتِهِمْ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ. وَلِهَذَا قَالَ: {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا} أَيِ الْغَنَمِ، {وَأَوْبَارِهَا} أَيِ الْإِبِلِ، {وَأَشْعَارِهَآ} أَيِ الْمَعْزِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْأَنْعَامِ {أَثَاثاً} أَيْ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ أَثَاثًا، وَهُوَ الْمَالُ وَقِيلَ: الْمَتَاعُ، وَقِيلَ: الثِّيَابُ، وَالصَّحِيحُ أَعَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فَإِنَّهُ يُتَّخَذُ مِنَ الْأَثَاثِ الْبُسُطُ وَالثِّيَابُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَيُتَّخَذُ مَالًا وتجارة. وَقَوْلُهُ: {إِلَى حِينٍ} أَيْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى وَوَقْتٍ مَعْلُومٍ. وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً}، قَالَ قَتَادَةُ يَعْنِي الشَّجَرَ {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} أَيْ حُصُونًا وَمَعَاقِلَ كَمَا {جَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وَهِيَ الثِّيَابُ مِنَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} كالدروع من الحديث الْمُصَفَّحِ وَالزَّرَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أَيْ هَكَذَا يَجْعَلُ لَكُمْ مَا تَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى أَمْرِكُمْ وَمَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لِيَكُونَ عَوْنًا لَكُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} أي من الإسلام، وَقَوْلُهُ: {فَإِن تَوَلَّوْا} أَيْ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ وَهَذَا الِامْتِنَانِ فَلَا عَلَيْكَ مِنْهُمْ، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} وَقَدْ أَدَّيْتَهُ إِلَيْهِمْ، {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} أَيْ يَعْرِفُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُسْدِي إِلَيْهِمْ ذَلِكَ وَهُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَمَعَ هَذَا

يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَيُسْنِدُونَ النَّصْرَ والرزق إلى غيره {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون}، عن مجاهد أن أعرابياً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً} فقال الْأَعْرَابِيُّ: نَعَمْ، قَالَ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً}. الآية، قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: نَعَمْ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْهِ كُلَّ ذَلِكَ، يَقُولُ الْأَعْرَابِيُّ: نَعَمْ، حَتَّى بَلَغَ: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} فولَّى الْأَعْرَابِيُّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} (أخرجه ابن أبي حاتم).

- 84 - وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ - 85 - وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ - 86 - وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ - 87 - وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ - 88 - الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ مَعَادِهِمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ يَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا وَهُوَ نَبِيُّهَا، يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِمَا أَجَابَتْهُ فِيمَا بَلَّغَهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ في الاعتذار لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه كَقَوْلِهِ: {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}، فلهذا قَالَ: {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي الذين أَشْرَكُوا {الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} أَيْ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ سَاعَةً وَاحِدَةً {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي لَا يُؤَخَّرُ عَنْهُمْ، بَلْ يَأْخُذُهُمْ سَرِيعًا مِنَ الموقف بلا حساب، ثم أخبر تعالى عن تبري آلِهَتِهِمْ مِنْهُمْ أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ إِلَيْهَا فَقَالَ: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ} أَيِ الَّذِينَ كانوا يعبدونها فِي الدُّنْيَا {قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ * فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} أَيْ قَالَتْ لَهُمُ الْآلِهَةُ كَذَبْتُمْ مَا نَحْنُ أَمَرْنَاكُمْ بِعِبَادَتِنَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ} وَقَوْلُهُ: {وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} قَالَ: قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: ذَلُّوا وَاسْتَسْلَمُوا يومئذٍ، أَيِ اسْتَسْلَمُوا لِلَّهِ جَمِيعِهِمْ، فَلَا أَحَدَ إِلَّا سَامِعٌ مُطِيعٌ، وكقوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} أَيْ مَا أَسْمَعَهُمْ وَمَا أَبْصَرَهُمْ يومئذٍ، وَقَالَ: {وَلَوْ ترى إذا المجرمون ناكسوا رؤوسهم عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أبصرنا وسمعنا} الآية، وقال: {وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم} أي خضعت وذلت واستكانت وأنابت واستسلمت. وقوله: {وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أَيْ ذَهَبَ وَاضْمَحَلَّ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ ولا معين ولا مجير، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَنْ سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً} الآية، أَيْ عَذَابًا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعَذَابًا عَلَى صَدِّهِمُ الناس عن اتباع الحق، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَفَاوُتِ الْكُفَّارِ فِي عَذَابِهِمْ كَمَا يَتَفَاوَتُ الْمُؤْمِنُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الْجَنَّةِ ودرجاتهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لاَّ تَعْلَمُونَ}.

- 89 - وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلَاءِ} يَعْنِي أمتك، أَيِ اذْكُرْ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَهَوْلَهُ وَمَا مَنَحَكَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الشَّرَفِ الْعَظِيمِ وَالْمَقَامِ الرَّفِيعِ، وهذه الآية شبيهة بقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً}، وَقَوْلُهُ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} قال ابن مسعود: قَدْ بَيَّنَ لَنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ كُلَّ عِلْمٍ وَكُلَّ شَيْءٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ حَلَالٍ وكل حرام. وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ اشْتَمَلَ عَلَى كُلِّ عِلْمٍ نَافِعٍ مِنْ خَبَرِ ما سبق، وعلم ما سيأتي، وكل حَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَمَا النَّاسُ إِلَيْهِ مُحْتَاجُونَ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ وَدِينِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، {وَهُدًى} أَيْ للقلوب، {وَرَحْمَةً وبشرى للمسلمين}.

- 90 - إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَأْمُرُ عِبَادَهُ بالعدل وهو القسط، ويندب إلى الإحسان كقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ على الله}، وَقَالَ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ له} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى شرعية العدل والندب إلى الفضل. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ سفيان ابن عُيَيْنَةَ: الْعَدْلُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ اسْتِوَاءُ السَّرِيرَةِ وَالْعَلَانِيَةِ مِنْ كُلِّ عَامِلٍ لِلَّهِ عَمَلًا، وَالْإِحْسَانُ أَنْ تَكُونَ سَرِيرَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ عَلَانِيَتِهِ، وَقَوْلُهُ: {وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى} أَيْ يَأْمُرُ بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، كَمَا قَالَ: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السبيل وَلاَ تبذر تبذيرا}، وَقَوْلُهُ: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، فَالْفَوَاحِشُ الْمُحَرَّمَاتُ وَالْمُنْكَرَاتُ مَا ظَهَرَ مِنْهَا مِنْ فَاعِلِهَا؛ وَلِهَذَا قال فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بطن}، وَأَمَّا الْبَغْيُ فَهُوَ الْعُدْوَانُ عَلَى النَّاسِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»، وَقَوْلُهُ: {يَعِظُكُمْ} أَيْ يَأْمُرُكُمْ بِمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا يَنْهَاكُمْ عنه من الشر {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. وقال الشعبي، عن ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: إِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} الآية (أخرجه ابن جرير الطبري)، وقال قتادة: لَّيْسَ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ وَيَسْتَحْسِنُونَهُ إِلَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وليس من خلق سيء كَانُوا يَتَعَايَرُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَقَدَّمَ فِيهِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ سَفَاسِفِ الْأَخْلَاقِ ومذامها، وفي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافها». وقال الحافظ أبو يعلى عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَلَغَ أَكْثَمَ بْنَ صَيْفِيٍّ مخرج النبي

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَادَ أَنْ يَأْتِيَهُ فَأَبَى قَوْمُهُ أَنْ يَدَعُوهُ وَقَالُوا: أَنْتَ كَبِيرُنَا لَمْ تَكُنْ لِتَخِفَّ إِلَيْهِ، قَالَ: فَلْيَأْتِهِ مَنْ يُبَلِّغُهُ عَنِّي وَيُبَلِّغُنِي عَنْهُ، فَانْتَدَبَ رَجُلَانِ، فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا: نَحْنُ رُسُلُ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ، وَهُوَ يَسْأَلُكَ مَنْ أَنْتَ وَمَا أَنْتَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا مَنْ أَنَا فَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَمَّا مَا أَنَا فَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»، قَالَ، ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الآية، قالوا: ردد علينا هذا القول، فردد عَلَيْهِمْ حَتَّى حَفِظُوهُ، فَأَتَيَا أَكْثَمَ فَقَالَا: أَبَى أَنْ يَرْفَعَ نَسَبَهُ، فَسَأَلْنَا عَنْ نَسَبِهِ فَوَجَدْنَاهُ زاكي النسب وسطاً في مضر - أي شريفاً - وَقَدْ رَمَى إِلَيْنَا بِكَلِمَاتٍ قَدْ سَمِعْنَاهَا، فَلَمَّا سمعهن أكثم قال: إني أَرَاهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَيَنْهَى عَنْ مَلَائِمِهَا، فكونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا فيه أذناباً. وعن عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا إِذْ شَخَصَ بَصَرُهُ فَقَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (أخرجه الإمام أحمد في المسند) " الآية.

- 91 - وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ - 92 - وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فيه تختلفون هذا مِمَّا يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَهُوَ الْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلاَ تَنقُضُواْ الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} الآية، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانِكُمْ} أي لا تتركوها بلا كفارة، وَبَيْنَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا ثَبَتَ عَنْهُ في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إِنِّي وَاللَّهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي" لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا كله ولا بين الآية المذكورة ههنا وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَلاَ تَنقُضُواْ الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ الْمُرَادَ بِهَا الدَّاخِلَةُ فِي الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، لَا الْأَيْمَانَ الَّتِي هِيَ وَارِدَةٌ عَلَى حَثٍّ أَوْ مَنْعٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَلاَ تَنقُضُواْ الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} يَعْنِي الْحِلْفَ، أَيْ حِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رواه الإمام أحمد عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فإنه لا يزيد الإسلام إلاّ شدة» (رواه أحمد ومسلم عن جبير بن مطعم مرفوعاً)، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْحِلْفِ الَّذِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَهُ، فَإِنَّ فِي التَّمَسُّكِ بِالْإِسْلَامِ كِفَايَةً عَمَّا كَانُوا فِيهِ. وقال ابن جرير، عن بريدة فِي قَوْلِهِ: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي بَيْعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ مَنْ أَسْلَمَ بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} هَذِهِ الْبَيْعَةَ الَّتِي بَايَعْتُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، {وَلاَ تَنقُضُواْ الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} لا يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِمَنْ نَقَضَ الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا. وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ

قُوَّةٍ أَنكَاثاً}. قال السدي: هَذِهِ امْرَأَةٌ خَرْقَاءُ كَانَتْ بِمَكَّةَ كُلَمَّا غَزَلَتْ شَيْئًا نَقَضَتْهُ بَعْدَ إِبْرَامِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ هَذَا مَثَلٌ لِمَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ بَعْدَ تَوْكِيدِهِ، وهذا القول أرحج وأظهر، سواء كَانَ بِمَكَّةَ امْرَأَةٌ تَنْقُضُ غَزْلَهَا أَمْ لَا، وقوله: {أَنكَاثاً} أي انقاضاً، {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} أَيْ خَدِيعَةً وَمَكْرًا {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أي تحلفون لِلنَّاسِ إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْكُمْ لِيَطْمَئِنُّوا إِلَيْكُمْ، فَإِذَا أَمْكَنَكُمُ الْغَدْرُ بِهِمْ غَدَرْتُمْ، فَنَهَى اللَّهُ عن ذلك لينبه بالأدنى على الأعلى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}: أَيْ أَكْثَرُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يُحَالِفُونَ الْحُلَفَاءَ فَيَجِدُونَ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَعَزَّ، فَيَنْقُضُونَ حِلْفَ هَؤُلَاءِ وَيُحَالِفُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هُمْ أكثر وأعز فنهوا عن ذلك، وقوله: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ} قال ابن جرير: أي بأمره إياكم بالوفاء بالعهد {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.

- 93 - وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - 94 - وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - 95 - وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إنما عِندَ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - 96 - مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَقُولُ الله تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ} أَيُّهَا النَّاسُ {أُمَّةً وَاحِدَةً} أَيْ لَوَفَّقَ بَيْنَكُمْ وَلَمَا جَعَلَ اخْتِلَافًا وَلَا تباغض ولا شحناء، {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ثُمَّ يَسْأَلُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ جَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا عَلَى الْفَتِيلِ وَالنَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ؛ ثُمَّ حذَّر تَعَالَى عِبَادَهُ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَيْمَانِ دَخَلًا: أَيْ خَدِيعَةً وَمَكْرًا لِئَلَّا تَزِلَّ قَدَمٌ {بَعْدَ ثُبُوتِهَا} مثلٌ لِمَنْ كَانَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ فَحَادَ عَنْهَا، وَزَلَّ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى بِسَبَبِ الْأَيْمَانِ الْحَانِثَةِ، الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا رَأَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ عَاهَدَهُ ثُمَّ غَدَرَ بِهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ وثوق بالدين، فيصد بِسَبَبِهِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} أَيْ لَا تَعْتَاضُوا عَنِ الْإِيْمَانِ بِاللَّهِ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، فَإِنَّهَا قَلِيلَةٌ وَلَوْ حِيزَتْ لِابْنِ آدَمَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لَكَانَ مَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَهُ، أَيْ جَزَاءُ اللَّهِ وَثَوَابُهُ خَيْرٌ لِمَنْ رَجَاهُ وَآمَنَ بِهِ، وَطَلَبَهُ وَحَفِظَ عَهْدَهُ رَجَاءَ مَوْعُودِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ} أَيْ يَفْرَغُ وَيَنْقَضِي فَإِنَّهُ إلى أجل معدود، {وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} أَيْ وَثَوَابُهُ لَكُمْ في الجنة باق لا انقطاع ولا نفاذ لَهُ، فَإِنَّهُ دَائِمٌ لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يعملون} قسم من الرب تعالى مؤكد بِاللَّامِ أَنَّهُ يُجَازِي الصَّابِرِينَ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ أَيْ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئِهَا.

- 97 - مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ عَمِلَ صالحاً، وهو العمل المتابع لكتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ وقلبه مؤمن بالله ورسوله، بِأَنْ يُحْيِيَهُ اللَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَجْزِيَهُ بِأَحْسَنِ مَا عَمِلَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَشْمَلُ وُجُوهَ الرَّاحَةِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ فَسَّرُوهَا بِالرِّزْقِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ. وعن على ابن أبي طالب رضي الله عنه فسرها بالقناعة. وقال ابن عباس: إنها هي السَّعَادَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: لَا يَطِيبُ لِأَحَدٍ حَيَاةٌ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ تَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتاه». وفي رواية: «قد أفلح من هدي للإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به» (أخرجه أحمد والترمذي والنسائي). وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حسنة يعطى بها الدُّنْيَا وَيُثَابُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فيطعم بحسناته فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا خَيْرًا» (أخرجه أحمد ومسلم في صحيحه).

- 98 - فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ - 99 - إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - 100 - إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا أَرَادُوا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَنْ يَسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرجيم، وهذا أَمْرُ نَدْبٍ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، حَكَى الْإِجْمَاعُ عَلَى ذلك أَبُو جَعْفَرٍ بْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مَبْسُوطَةً في أول التفسير ولله الحمد والمنة. وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} قَالَ الثَّوْرِيُّ: لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ أَنْ يُوقِعَهُمْ فِي ذَنْبٍ لَا يَتُوبُونَ مِنْهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ لَا حُجَّةَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ آخَرُونَ كَقَوْلِهِ: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين}، {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ}. قَالَ مُجَاهِدٌ: يُطِيعُونَهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: اتَّخَذُوهُ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ {وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}، أَيْ أَشْرَكُوا في عبادة الله، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً أَيْ صَارُوا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين بالله تعالى.

- 101 - وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ - 102 - قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ضَعْفِ عُقُولِ الْمُشْرِكِينَ وَقِلَّةِ ثَبَاتِهِمْ وَإِيقَانِهِمْ وَأَنَّهُ لَا يَتَصَوَّرُ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ، وَقَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاوَةَ وَذَلِكَ أنهم إذا رأوا تغير الأحكام ناسخها بمنسوخها قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ} أَيْ كَذَّابٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الرَّبُّ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يريد. وقال مجاهد: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آية}: أي ورفعناها وَأَثْبَتْنَا -[347]- غَيْرَهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} الآية، فَقَالَ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} أَيْ جِبْرِيلُ {مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} أَيْ بِالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ} فَيُصَدِّقُوا بِمَا أَنْزَلَ أَوَّلًا وَثَانِيًا وَتُخْبِتُ لَهُ قُلُوبُهُمْ، {وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} أي وجعله هادياً وَبِشَارَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ.

- 103 - وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْبَهْتِ أَنَّ مُحَمَّدًا إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ هَذَا الَّذِي يَتْلُوهُ عَلَيْنَا مِنَ الْقُرْآنِ بَشَرٌّ، وَيُشِيرُونَ إِلَى رَجُلٍ أَعْجَمِيٍّ كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، غُلَامٍ لِبَعْضِ بُطُونِ قريش، وكان بياعاً يبيع عند الصفا، وربما كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ وَيُكَلِّمُهُ بَعْضَ الشَّيْءِ، وَذَاكَ كَانَ أعجمي اللسان لا يعرف العربية، فَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ فِي افْتِرَائِهِمْ ذَلِكَ: {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} أي الْقُرْآنَ، أَيْ فَكَيْفَ يَتَعَلَّمُ مَنْ جَاءَ بِهَذَا الْقُرْآنِ فِي فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَمَعَانِيهِ التَّامَّةِ الشَّامِلَةِ الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ مِنْ مَعَانِي كُلِّ كِتَابٍ نزل على بني إسرائيل، كَيْفَ يَتَعَلَّمُ مِنْ رَجُلٍ أَعْجَمِيٍّ؟ لَا يَقُولُ هَذَا مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنَ الْعَقْلِ. قال محمد بن إسحاق: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - كَثِيرًا مَا يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إلى غُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ يُقَالُ لَهُ (جَبْرٌ) عَبْدٍ لِبَعْضِ بَنِي الْحَضْرَمِيِّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}. وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ كَانَ اسْمُهُ (يَعِيشَ)، وَقَالَ ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ قَيْنًا بِمَكَّةَ، وكان اسمه بلعام، وَكَانَ أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرَوْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ ويخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلمه بلعام، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عربي مبين}.

- 104 - إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 105 - إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لاَ يَهْدِي مَن أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَتَغَافَلَ عَمَّا أَنْزَلَهُ على رسوله صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَصْدٌ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهَذَا الْجِنْسُ مِنَ النَّاسِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِآيَاتِهِ، وَمَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ مُوجِعٌ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِمُفْتَرٍ وَلَا كَذَّابٍ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم شِرَارُ الْخَلْقِ {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} مِنَ الْكَفَرَةِ وَالْمُلْحِدِينَ الْمَعْرُوفِينَ بِالْكَذِبِ عِنْدَ النَّاسِ، وَالرَّسُولُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَصْدَقَ النَّاسِ، وَأَبَرَّهُمْ وَأَكْمَلَهُمْ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَإِيمَانًا وَإِيقَانًا، مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ فِي قَوْمِهِ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، بِحَيْثُ لَا يُدْعَى بينهم إلاّ بالأمين محمد؛ ولهذا قال هرقل ملك الروم، لأبي سفيان: (فَمَا كَانَ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ).

- 106 - مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا

فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - 107 - ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ - 108 - أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ - 109 - لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّنْ كَفَرَ بِهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالتَّبَصُّرِ وَشَرَحَ صَدْرَهُ بِالْكُفْرِ، وَاطْمَأَنَّ بِهِ، أَنَّهُ قَدْ غَضِبَ عَلَيْهِ لِعِلْمِهِمْ بِالْإِيمَانِ ثُمَّ عُدُولِهِمْ عَنْهُ، وَأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا عَظِيمًا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَأَقْدَمُوا عَلَى مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الرِّدَّةِ لِأَجْلِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَهْدِ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَيُثَبِّتْهُمْ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ، فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ بِهَا شَيْئًا يَنْفَعُهُمْ، وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِمْ وأبصارهم فلا ينتفعون بها، فَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ، {لاَ جَرَمَ} أَيْ لَا بُدَّ وَلَا عَجَبَ أَنَّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، {أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وأهليهم يَوْمَ الْقِيَامَةِ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِلاَّ مَن أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِمَّنْ كَفَرَ بِلِسَانِهِ وَوَافَقَ الْمُشْرِكِينَ بِلَفْظِهِ مُكْرَهًا لِمَا نَالَهُ مِنْ ضَرْبٍ وَأَذًى وَقَلْبُهُ يَأْبَى مَا يَقُولُ، وهو مطمئن باللإيمان بالله ورسوله. وقد روى عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت فِي (عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ) حِينَ عَذَّبَهُ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى يَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُكْرَهًا، وَجَاءَ مُعْتَذِرًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الآية. وقال ابن جرير: أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَعَذَّبُوهُ، حَتَّى قَارَبَهُمْ فِي بَعْضِ مَا أَرَادُوا، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟» قَالَ: مُطَمْئِنًا بِالْإِيمَانِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ عادوا فعد»، وَفِيهِ أَنَّهُ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وذكر آلهتهم بخير، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟» قَالَ: مُطَمْئِنًا بِالْإِيمَانِ، فَقَالَ: «إِنْ عَادُوا فَعُدْ»، وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}، وَلِهَذَا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى كَمَا كَانَ بِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَهُمْ يَفْعَلُونَ بِهِ الْأَفَاعِيلَ، حَتَّى أَنَّهُمْ لَيَضَعُونَ الصَّخْرَةَ الْعَظِيمَةَ عَلَى صَدْرِهِ فِي شدة الحر ويأمرونه بالشرك بِاللَّهِ فَيَأْبَى عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ، أَحَدٌ، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ كَلِمَةً هِيَ أَغْيَظُ لَكُمْ مِنْهَا لَقُلْتُهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ. وَكَذَلِكَ حَبِيبُ بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ لَمَّا قَالَ لَهُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَسْمَعُ، فَلَمْ يَزَلْ يُقَطِّعُهُ إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك. وَالْأَفْضَلُ وَالْأَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ الْمُسْلِمُ عَلَى دِينِهِ ولو أفضى إلى قتله؛ كما ذكر الحافظ فِي تَرْجَمَةِ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ) أَحَدِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَسَرَتْهُ الرُّومُ فَجَاءُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ فَقَالَ لَهُ: تَنَصَّرْ وَأَنَا أُشْرِكُكَ فِي مُلْكِي وَأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي، فَقَالَ لَهُ: لَوْ أعطتني جَمِيعَ مَا تَمْلِكُ وَجَمِيعَ مَا تَمْلِكُهُ الْعَرَبُ على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طَرْفَةَ عَيْنٍ مَا فَعَلْتُ، فَقَالَ: إِذًا أَقْتُلُكَ، فقال: أنت وذاك، قال: فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ، وَأَمَرَ الرُّمَاةَ فَرَمَوْهُ قَرِيبًا مِنْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ فَيَأْبَى، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُنْزِلَ، ثُمَّ أمر بقدر مِنْ نُحَاسٍ، فَأُحْمِيَتْ وَجَاءَ بِأَسِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَلْقَاهُ وَهُوَ يَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ عِظَامٌ تَلُوحُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ فَأَبَى، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُلْقَى فِيهَا فَرُفِعَ فِي الْبَكَرَةِ لِيُلْقَى فِيهَا، فَبَكَى، فطمع فيه ودعاه، فقال: إِنِّي إِنَّمَا بَكَيْتُ لِأَنَّ نَفْسِي إِنَّمَا هِيَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ تُلْقَى فِي

هَذِهِ الْقِدْرِ السَّاعَةَ فِي اللَّهِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ لِي بِعَدَدِ كُلِّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِي نَفْسٌ تُعَذَّبُ هَذَا الْعَذَابَ فِي اللَّهِ. وَفِي بعض الروايات: أنه سجنه ومنع منه الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ أَيَّامًا، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِخَمْرٍ وَلَحْمِ خِنْزِيرٍ، فَلَمْ يَقْرَبْهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْكُلَ؟ فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ حَلَّ لِي، وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لِأُشَمِّتَكَ بي، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: فقبّلْ رَأْسِي، وَأَنَا أُطْلِقُكَ، فَقَالَ: وَتُطْلِقُ مَعِي جَمِيعَ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: نَعَمْ، فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، فَأَطْلَقَهُ، وَأَطْلَقَ مَعَهُ جَمِيعَ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ وَأَنَا أَبْدَأُ، فَقَامَ فقبل رأسه رضي الله عنهما.

- 110 - ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ - 111 - يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ هَؤُلَاءِ صِنْفٌ آخَرُ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ مُهَانِينَ فِي قَوْمِهِمْ فوافقوهم على الفتنة، إِنَّهُمْ أَمْكَنَهُمُ الْخَلَاصُ بِالْهِجْرَةِ فَتَرَكُوا بِلَادَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ وَغُفْرَانِهِ، وَانْتَظَمُوا فِي سِلْكِ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَاهَدُوا مَعَهُمُ الْكَافِرِينَ وَصَبَرُوا، فَأَخْبَرَ تَعَالَى إِنَّهُ مِن بَعْدِهَا أَيْ تِلْكَ الْفِعْلَةِ وَهِيَ الْإِجَابَةُ إِلَى الْفِتْنَةِ لَغَفُورٌ لَهُمْ رَحِيمٌ بِهِمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ} أَيْ تُحَاجُّ {عَن نَّفْسِهَا} لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاجُّ عَنْهَا لَا أَبٌ وَلَا ابْنٌ وَلَا أَخٌ وَلَا زَوْجَةٌ {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} أَيْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أَيْ لَا يُنْقَصُ مِنْ ثَوَابِ الْخَيْرِ، وَلَا يُزَادُ عَلَى ثَوَابِ الشَّرِّ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً.

- 112 - وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ - 113 - وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ هَذَا مَثَلٌ أُرِيدَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ؟ فَإِنَّهَا كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً مُسْتَقِرَّةً يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهَا، وَمَنْ دخلها كان آمناً لا يخاف، كما قال تعالى: {أو لم نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كل شيء رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا}، وهكذا قال ههنا: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً}، أَيْ هَنِيئًا سَهْلًا، {مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} أَيْ جَحَدَتْ آلاء الله عليها وأعظمها بِعْثَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وبئس القرار} وَلِهَذَا بَدَّلَهُمُ اللَّهُ بِحَالَيْهِمُ الْأَوَّلَيْنِ خِلَافَهُمَا، فَقَالَ: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} أَيْ أَلْبَسَهَا وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليها ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ وَيَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلِّ مَكَانٍ، وذلك أنهم اسْتَعْصَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَوْا إِلَّا خِلَافَهُ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ أَذْهَبَتْ كُلَّ شَيْءٍ لهم، فأكلوا العلهز، وهو وبر يخلط بدمه إذا نحروه. وقوله: {والخوف} وذلك أنهم بُدِّلُوا بِأَمْنِهِمْ خَوْفًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، حِينَ هَاجَرُوا إِلَى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه، وجعل كل ما لهم في دمار

وسفال، حتى فتحها اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله فيهم منهم وامتن عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية. وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْمَثَلَ ضرب لأهل مكة قاله ابن عباس، وإليه ذهب مجاهد وقتادة والزهري رحمهم الله.

- 114 - فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ - 115 - إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ - 116 - وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ - 117 - مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَكْلِ رِزْقِهِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ وَبِشُكْرِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ به ابتداء، ثم ذكر تعالى مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ مِمَّا فِيهِ مَضَرَّةٌ لَهُمْ في دينهم وديناهم مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أَيْ ذُبِحَ عَلَى غَيْرِ اسم الله ومع هذا، {فَمَنِ اضطر إليه} أي احتاج من غَيْرِ بَغْيٍّ وَلَا عُدْوَانٍ، {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَثَلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ عن إعادته ولله الحمد. ثُمَّ نَهَى تَعَالَى عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِ الْمُشْرِكِينَ الذين حللوا وحرموا، بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه وابتدعوه فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، فَقَالَ: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} وَيَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ من ابتدع بدعة ليس فِيهَا مُسْتَنَدٌ شَرْعِيٌّ، أَوْ حَلَّلَ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ أَوْ حَرَّمَ شَيْئًا مِمَّا أَبَاحَ الله بمجرد رأيه وتشهيه، ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ؛ أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَمَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، كَمَا قَالَ: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}.

- 118 - وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ - 119 - ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الْمَيْتَةَ والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا كَانَ حَرَّمَهُ عَلَى الْيَهُودِ فِي شَرِيعَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَنْسَخَهَا، وَمَا كانوا فيه من الآصار والتضيق والأغلال والحرج فَقَالَ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} أي في سورة الأنعام، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} أَيْ فِيمَا ضَيَّقْنَا عَلَيْهِمْ، {وَلَكِنْ كانوا أَنْفُسَهُمْ يظلمون} أي فاستحقوا ذلك، كقوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا}، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى تَكَرُّمًا وَامْتِنَانًا فِي حَقِّ الْعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ مَنْ تَابَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ فَقَالَ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ {ثُمَّ تَابُواْ مِن

بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ}، أي أقلعوا كما كَانُوا فِيهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَأَقْبَلُوا عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أَيْ تِلْكَ الفعلة والزلة {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

- 120 - إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - 121 - شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - 122 - وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَالِحِينَ - 123 - ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين يمدح تَعَالَى عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ وَخَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ، إِمَامَ الْحُنَفَاءِ وَوَالِدَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيُبَرِّئُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فَقَالَ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً}، فَأَمَّا الْأُمَّةُ: فَهُوَ الْإِمَامُ الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ، وَالْقَانِتُ: هُوَ الْخَاشِعُ الْمُطِيعُ، وَالْحَنِيفُ الْمُنْحَرِفُ قَصْدًا عَنِ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَلِهَذَا قال: {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين}، قال عبد الله بن مسعود: الْأُمَّةُ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ، وَالْقَانِتُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وقال ابْنُ عُمَرَ: الْأُمَّةُ الَّذِي يعلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أُمَّةً} أَيْ أُمَّةً وَحْدَهُ، وَالْقَانِتُ: المطيع. وعنه كان مُؤْمِنًا وَحْدَهُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ إِذْ ذَاكَ كُفَّارٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ إِمَامَ هُدًى، وَالْقَانِتُ: الْمُطِيعُ لِلَّهِ، وَقَوْلُهُ: {شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} أَيْ قَائِمًا بِشُكْرِ نعم الله عليه، كقوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} أَيْ قَامَ بِجَمِيعِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى به. وقوله: {اجتباه} أي اختاره واصطفاه كقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}، ثُمَّ قَالَ: {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ عَلَى شَرْعٍ مَرْضِيٍّ. وَقَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أَيْ جَمَعْنَا لَهُ خَيْرَ الدُّنْيَا مِنْ جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ الْمُؤْمِنُ إِلَيْهِ فِي إِكْمَالِ حَيَاتِهِ الطَّيِّبَةِ، {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أَيْ لِسَانَ صِدْقٍ، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} أَيْ وَمِنْ كَمَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَصِحَّةِ تَوْحِيدِهِ وَطَرِيقِهِ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ يَا خَاتَمَ الرُّسُلِ وَسَيِّدَ الْأَنْبِيَاءِ {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين}، كقوله فِي الْأَنْعَامِ: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْيَهُودِ:

- 124 - إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ لَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ فِي كُلِّ مِلَّةٍ يَوْمًا مِنَ الْأُسْبُوعِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ، فَشَرَعَ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ السَّادِسُ الذي أكمل الله فيه الخليقة واجتمعت فيه وتمت النعمة على عباده، ويقال إن الله تَعَالَى شَرَعَ ذَلِكَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى، فَعَدَلُوا عَنْهُ، وَاخْتَارُوا السَّبْتَ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي لَمْ يَخْلُقْ فِيهِ الرَّبُّ شَيْئًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّذِي كَمَّلَ خَلْقَهَا يَوْمَ الْجُمْعَةِ، فَأَلْزَمَهُمْ تَعَالَى بِهِ فِي شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَوَصَّاهُمْ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَأَنْ يُحَافِظُوا عَلَيْهِ مَعَ أَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِمُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَهُ وَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ وَعُهُودَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ}، قَالَ مُجَاهِدٌ: اتَّبَعُوهُ وَتَرَكُوا الجمعة، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ -[352]- مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غداً والنصارى بعد غد» (هذا لفظ البخاري).

- 125 - ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ الْخَلْقَ إِلَى اللَّهِ بِالْحِكْمَةِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهُوَ مَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، أَيْ بِمَا فِيهِ مِنَ الزَّوَاجِرِ وَالْوَقَائِعِ بِالنَّاسِ ذَكَّرَهُمْ بِهَا لِيَحْذَرُوا بَأْسَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، أَيْ مَنِ احْتَاجَ مِنْهُمْ إِلَى مُنَاظَرَةٍ وَجِدَالٍ، فَلْيَكُنْ بِالْوَجْهِ الْحَسَنِ برفق ولين وحسن خطاب كقوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ منهم} الآية، فأمره تعالى بلين الجانب، كما أمر به مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حِينَ بَعَثَهُمَا إِلَى فرعون في قوله: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى}. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} الآية، أَيْ قَدْ عَلِمَ الشَّقِيَّ مِنْهُمْ وَالسَّعِيدَ، وَكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَفَرَغَ مِنْهُ فَادْعُهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَى مَنْ ضَلَّ مِنْهُمْ حَسَرَاتٍ، فَإِنَّهُ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ، عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ، {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يشاء}.

- 126 - وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ - 127 - وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ - 128 - إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ يَأْمُرُ تعالى بالعدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق، قال ابن سيرين: إن أخذ منكم رجل شيئاً فخذوا مِثْلِهِ، وكذا قال مجاهد والحسن البصري وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانُوا قَدْ أُمِرُوا بِالصَّفْحِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فَأَسْلَمَ رِجَالٌ ذَوُو مَنَعَةٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَذِنَ اللَّهُ لَنَا لَانْتَصَرْنَا مِنْ هَؤُلَاءِ الْكِلَابِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْجِهَادِ، قال عطاء بن يسار: نَزَلَتْ سُورَةُ النَّحْلِ كُلُّهَا بِمَكَّةَ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا، نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، بعد أحد حين قُتِلَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بِثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ قَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يُمَثِّلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ بِأَحَدٍ قَطُّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلى آخر السورة، وقال الحافظ أبو بكر البزار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ اسْتُشْهِدَ، فَنَظَرَ إِلَى مَنْظَرٍ لَمْ ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه، أو قال لقلبه، فَنَظَرَ إِلَيْهِ وَقَدْ مُثّل بِهِ، فَقَالَ: «رَحْمَةُ الله عليك، إن كنت ما علمتك إلى وصولاً لِلرَّحِمِ، فَعُولًا لِلْخَيْرَاتِ، وَاللَّهِ لَوْلَا حُزْنُ مَنْ بَعْدَكَ عَلَيْكَ لَسَرَّنِي أَنْ أَتْرُكَكَ حَتَّى

يَحْشُرَكَ اللَّهُ مِنْ بُطُونِ السِّبَاعِ - أَوْ كَلِمَةً نحوها - أما والله لأمثلن بسبعين كمثلتك»، فنزل جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ السُّورَةِ وَقَرَأَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، فَكَفَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي عَنْ يمينه وأمسك عن ذلك (قال ابن كثير في إسناده ضعف). وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لَهَا أَمْثَالٌ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَدْلِ وَالنَّدْبِ إِلَى الْفَضْلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ على الله}، الآية. وَقَالَ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}، ثُمَّ قَالَ: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كفارة له}، وقال في هذه الآية: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}، ثُمَّ قَالَ: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}، وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بالصبر، وإخبار بأن ذلك لا ينال إلاّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ، وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}، أَيْ عَلَى مَنْ خالفك فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ ذَلِكَ، {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ} أَيْ غَمٍّ، {مِّمَّا يَمْكُرُونَ} أَيْ مِمَّا يُجْهِدُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي عَدَاوَتِكَ وَإِيصَالِ الشَّرِّ إِلَيْكَ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ وَمُؤَيِّدُكَ وَمُظْهِرُكَ وَمُظْفِرُكَ بِهِمْ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}، أَيْ مَعَهُمْ بِتَأْيِيدِهِ وَنَصْرِهِ ومعونته وهديه وسعيه.

17 - سورة الإسراء

- 17 - سورة الإسراء

بسم الله الرحمن الرحيم. - 1 - سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يُمَجد تَعَالَى نَفْسَهُ، وَيُعَظِّمُ شَأْنَهُ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ سِوَاهُ، فَلَا إله غيره ولا رب سواه، {الذي أسرى بِعَبْدِهِ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، {لَيْلاً}: أَيْ فِي جُنْحِ اللَّيْلِ، {مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: وَهُوَ مَسْجِدُ مَكَّةَ {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} (قال الحافظ السهيلي: قوله عزَّ وجلَّ {إلى المسجد الأقصى}: يعني بيت المقدس، وهو إيليا، ومعنى إيليا - بيت الله - {وباركنا حوله} - يعني الشام - والشام بالسريانية: الطيب، فسميت بذلك لطيبها وخصبها، وبيت المقدس بناه سليمان عليه السلام، وكان داود عليه السلام قد ابتدأ مبناه فأكمله ابنه سليمان عليه السلام، واسمه: إيلياء، وتفسيره بالعربية: بيت الله، ذكره البكري، وقال الطبري: كان داود عليه السلام قد همَّ ببنيانه فأوحى الله تعالى إليه «إنما يبنيه ابن لك طاهر اليد من الدماء»، وفي الصحيح أنه وضع للناس بعد البيت الحرام، بأربعين سنة، وهذا يدل على أنه قد كان بني أيضاً في إسحاق ويعقوب عليهما السلام، ولكن بنيانه على التمام وكمال الهيئة كان على عهد سليمان عليه السلام) وهو بيت المقدس الذي بإيلياء معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا جمعوا له هناك كُلُّهُمْ فَأَمَّهُمْ فِي مَحِلَّتِهِمْ وَدَارِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالرَّئِيسُ الْمُقَدَّمُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَقَوْلُهُ تعالى {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}: أَيْ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، {لِنُرِيَهُ}: أَيْ مُحَمَّدًا {مِنْ آيَاتِنَآ}: أَيْ الْعِظَامُ، كما قال تعالى: {ولقد رأى مِنْ آيَاتِ ربه الكبرى}، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أَيْ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عباده البصير بهم، فيعطي كلاً منهم مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. «ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الواردة في الإسراء» قال الإمام البخاري، عن أنَس بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ، إِنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيَهُمُّ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خيرهم، فقال

آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَرَهُمْ، حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخرى فِيمَا يَرَى قلبه وتنام عينه وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ - وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ - فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ، فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ، فَتَوَلَّاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ، فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مَنْ ذهب محشو إيماناً وحمكة فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ - يَعْنِي عُرُوقَ حَلْقِهِ - ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا فَنَادَاهُ أَهْلُ السَّمَاءِ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ، قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ مَعِي مُحَمَّدٌ، قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إليه؟ قال: نعم، قالوا: فمرحباً به وأهلاً، يَسْتَبْشِرُ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ، لَا يَعْلَمُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِمَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ فِي الْأَرْضِ حتى يعلمهم، فوجد فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ آدَمُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِابْنِي، نِعْمَ الِابْنُ أَنْتَ، فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهْرَيْنِ يَطَّرِدَانِ، فَقَالَ: مَا هَذَانِ النَّهْرَانِ يا جبريل؟ " قال: هذان النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا، ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ من لؤلؤ وزبرجد، فضرب بيده فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَّأَ لك ربك، ثم عرج به إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَهُ مِثْلَ ما قالت له الملائكة الْأُولَى مَنْ هَذَا؟ قَالَ جِبْرِيلُ، قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: مرحباً به وأهلاً. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، كُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أنبياء قد سماهم فوعيت مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِي الْخَامِسَةِ لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلَامِ الله تعالى، فقال موسى: رب لم أظن أن ترفع علي أحداً. ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى، حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِيمَا يُوحِي خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ هُبِطَ حتى بلغ موسى، فاحتسبه مُوسَى فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: «عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ». قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَعَلَا بِهِ إِلَى الجبار تعالى وتقدس، فَقَالَ وَهُوَ فِي مَكَانِهِ: «يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا»، فَوَضَعَ عنه عشر صلوات، ثم رجع مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الْخَمْسِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَضَعُفُوا فَتَرَكُوهُ، فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ، كُلَّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ وَلَا يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ، فَرَفَعَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ فَقَالَ: "يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتِي ضُعَفَاءُ، أَجْسَادُهُمْ وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم، فخفف عنه، فقال الجبار تبارك وتعالى: يَا مُحَمَّدُ! قَالَ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ»، قَالَ: إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا فَرَضْتُ عَلَيْكَ في أم الكتاب، فكل حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَهِيَ خُمْسٌ عَلَيْكَ، فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: كَيْفَ فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: «خَفَّفَ عَنَّا أَعْطَانَا بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا»، قَالَ مُوسَى: قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى

أَدْنَى مِن ذَلِكَ فَتَرَكُوهُ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُوسَى قَدْ وَاللَّهِ استحييت من ربي عزَّ وجلَّ مِمَّا أَخْتَلِفُ إِلَيْهِ». قَالَ فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ. قال واستيقظ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، هَكَذَا سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ في كتاب التوحيد. وقد قال الحافظ الْبَيْهَقِيُّ: فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ زِيَادَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم رأى الله عزَّ وجلَّ، يَعْنِي قَوْلَهُ: ثُمَّ دَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. قَالَ: وَقَوْلُ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَمْلِهِمْ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى رُؤْيَتِهِ جِبْرِيلَ أَصَحُّ. وهذا الذي قاله البيهقي رحمه الله في هذه المسألة هو الحق، فَإِنَّ أَبَا ذَرٍّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: «نورٌ أَنَّى أَرَاهُ». وَفِي رِوَايَةٍ: «رَأَيْتُ نُورًا»: أخرجه مسلم، وقوله: {ثُمَّ دَنَا فتدلى} إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي صَحِيحِ مسلم عن أبي هريرة، وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ، أَبْيَضُ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فَرَكِبْتُهُ فَسَارَ بِي حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُ الدَّابَّةَ بالحلقة التي يربط بها الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَأَتَانِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ من لبن، فاخترت اللبن، فقال جِبْرِيلُ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، قَالَ: ثُمَّ عُرِجَ بِي إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل، فقيل له مَنْ أَنْتَ، قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بآدم فرحب بي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ يَحْيَى وَعِيسَى، فَرَحَّبَا بِي وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جبريل، فقيل له: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بيوسف عليه السلام وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ بي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، فقيل له: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَقِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بإدريس، فرحب بي ودعا لي بخير، ثم يقول تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عليا}، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَقِيلَ: قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فإذا أنا بهارون، فرحب بي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السماء السادسة فاستفح جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَقِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فإذا أنا بموسى عليه السلام، فرحب بي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السماء السابعة، فاستفح جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَقِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام، وَإِذَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ.

ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ، فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَهَا تَغَيَّرَتْ فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِفَهَا مِنْ حُسْنِهَا، قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إلى ما أوحى، وقد فرض عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، خَمْسِينَ صَلَاةً، فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى، قَالَ: مَا فرض ربك على أمتك؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، وَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ، قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: أَيْ رَبِّ خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي، فحط عني خمساً، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى، فقال: ما فعلت، فقلت: قد حط عني خمساً، فقال: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ، فَلَمْ أَزَلْ أرجع إلى رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى، وَيَحُطُّ عَنِّي خَمْسًا خَمْسًا حتى قال: يا محمد هن خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَتِلْكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، وَمَنْ هُمْ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عملها كتبت له عشرا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ فإن عملها كتبت له سَيِّئَةً وَاحِدَةً، فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ رُّجِعْتُ إلى ربي حتى استحييت». عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بالبراق فكأنها حركت ذَنَبَهَا، فَقَالَ لَهَا جِبْرِيلُ: مَهْ يَا بُرَاقُ الله فوالله ما رَكِبَكَ مِثْلُهُ، وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ بِعَجُوزٍ عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، فَقَالَ: «مَا هَذِهِ يَا جِبْرِيلُ؟» قَالَ: سِرْ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ، فَسَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسِيرَ فَإِذَا شَيْءٌ يَدْعُوهُ مُتَنَحِّيًا عن الطريق، فقال: هَلُمَّ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: سِرْ يَا مُحَمَّدُ، فَسَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يسير، قال فلقيه خلق من خلق الله، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَوَّلُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا آخِرُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا حَاشِرُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: ارْدُدِ السَّلَامَ يَا مُحَمَّدُ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ لَقِيَهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى، ثُمَّ الثَّالِثَةَ كَذَلِكَ حَتَّى انْتَهَى إلى بيت المقدس، فعرض عليه الخمر والماء وَاللَّبَنَ، فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّبَنَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، وَلَوْ شَرِبْتَ الْمَاءَ لَغَرِقْتَ وَغَرِقَتْ أُمَّتُكَ، وَلَوْ شربت الخمر لغويت ولغويت أُمَّتُكَ، ثُمَّ بُعِثَ لَهُ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَأَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَمَّا الْعَجُوزُ الَّتِي رَأَيْتَ عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إلا كما بَقِيَ مِنْ عُمْرِ تِلْكَ الْعَجُوزِ، وَأَمَّا الَّذِي أَرَادَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ فَذَاكَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ أَرَادَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام (أخرجه ابن جرير ورواه الحافظ البيهقي في دلائل النبوة، وفي بعض ألفاظه غرابة). (يتبع ... )

(تابع ... 1): 1 - سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الحرام إلى المسجد الأقصى ... ... (رواية عن أنَس بْنُ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ) قال الإمام أحمد، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ مَالِكَ بْنَ صَعْصَعَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدثهم عن ليلة أسري بي قَالَ: "بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ - وَرُبَّمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي الْحِجْرِ - مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: الْأَوْسَطِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، قَالَ: فأتاني فشقّ ما بين هذه إلى هذه «، أي من ثغرة نحره إلى شعرته،» فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، قَالَ: فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مملوء إيماناً وحكمة، فغسل قلبي ثم حشا ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وفوق الحمار أبيض". قال، فقال الجارود: هو الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟

قَالَ: نَعَمْ يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، قَالَ: "فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى أَتَى بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا، قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ ولنعم المجيء جاء، قال: ففتح لنا، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قال: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثانية فاستفتح، فقيل: من هذا؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: ففتح لنا، فلما خلصت فإذا عيسى ويحيى وهما ابنا الخالة، قال هذان يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، قَالَ: فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّالِثَةَ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ ولنعم المجيء جاء، قال: ففتح لنا، فلما خلصت إذا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: ففتح لنا، فلما خلصت فإذا إدريس عليه السلام، قال: هذا إدريس، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قال: ففتح لنا، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: هذا هارون فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جاء، قال: ففتح لنا، فلما خلصت فإذا أنا بموسى عليه السلام، قَالَ: هَذَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: فَلَمَّا تَجَاوَزْتُهُ بَكَى، قِيلَ لَهُ، مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي، قَالَ: ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ المجيء جاء، قال: ففتح لنا، فلما خلصت فإذا إبراهيم عليه السلام، قال: هذا إبراهيم فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: ثُمَّ رُفِعْتُ إِلَيَّ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، فَقَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، قَالَ: وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، قَالَ: ثُمَّ رُفِعَ إِلَيَّ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ. قَالَ قتادة: وحدثنا الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، يدخله كل يوم سبعون ألفاً ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أنَس، قَالَ: "ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ قال: فأخذت اللبن، قال: هذه الفطرة أنت عليها وأمتك، قال: ثم فرضت عليّ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ،

قال: فنزلت حتى أتيت موسى، فقال: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ، قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ: فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَ أُمرت؟ قُلْتُ: بِأَرْبَعِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَرْبَعِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ: فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا أُخر، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ، فَقُلْتُ: أُمِرْتُ بِثَلَاثِينَ صَلَاةً، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ثَلَاثِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ: فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا أُخر، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: بِعِشْرِينَ صَلَاةً كُلَّ يوم، فقال: إن أمتك لا تستطيع العشرين صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ: فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا أُخر، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ فَقُلْتُ: أُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كل يوم، فقال: إن أمتك لا تستطيع العشر صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ: فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ فَقُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تستطيع الخمس صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ، قُلْتُ: قد سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم. فنفذت، فنادى مُنَادٍ قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي" (أخرجه أحمد ورواه الشيخان من حديث قتادة بنحوه). (يتبع ... )

(تابع ... 2): 1 - سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الحرام إلى المسجد الأقصى ... ... (رِوَايَةُ أنَس عَنْ أَبِي ذَرٍّ) قَالَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذر يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئت إلى السماء قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قال: نعم معي محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا لسماء الدنيا فإذا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أسودة إذا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصالح، قال: قلت جبريل: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ عَنْ شِمَالِهِ بَكَى، ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ الْأَوَّلُ فَفَتَحَ"، قَالَ أنَس: فَذُكِرَ أَنَّهُ قد وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم ولم يثبت كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السادسة. قال أنَس: فلما مر جبريل والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِدْرِيسَ، قَالَ: مَرْحَبًا بالنبي الصالح

والأخ الصالح، فقلت: من هذا؟ قال: إدريس، ثم مر بِمُوسَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا، قَالَ: هَذَا مُوسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابن عباس وأبا حية الْأَنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولَانِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ». قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وأنَس بْنُ مَالِكٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ على موسى عليه السلام، فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فرض خمسين صلاة، قال موسى: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى قُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا، فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُهُ فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، قُلْتُ قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أدخلت الجنة فإذا فيها حبائل اللُّؤْلُؤِ وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ" (هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ في كتاب الصلاة، ورواه مسلم في كتاب الأيمان بنحوه). عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فجلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عن آياته وأنا أنظر إليه» (رواه أحمد وأخرجه الشيخان). عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْتَهَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَقِيَ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، وَإِنَّهُ أُتِيَ بقدحين قدح من لبن وقدح من خَمْرٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا ثُمَّ أَخَذَ قَدَحَ اللَّبَنِ، فقال جبريل: أصبت هديت للفطرة، لو أخذت الْخَمْرَ لَغَوَتْ أُمَّتُكَ، ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ فَافْتُتِنَ نَاسٌ كَثِيرٌ كَانُوا قد صلوا معه،. وقال ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَتَجَهَّزَ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: هَلْ لَكَ في صاحبك؟ يزعم أنه جاء بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوَ قَالَ ذلك؟ قالوا: نعم، قال: فأنا أشهد لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: فتصدقه في أن يَأْتِيَ الشَّامَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ أنا أُصَدِّقُهُ بِأَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَبِهَا سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَسَمِعْتُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه» (أخرجه البيهقي عن سعيد بن المسيب). (رواية شداد بن أوس) روى الإمام الترمذي، عن جبير بن نفير، عن شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ قَالَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أُسْرِيَ بِكَ؟ قَالَ: "صَلَّيْتُ لِأَصْحَابِي صلاة العتمة بمكة معتماً، فَأَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ - أَوْ قال بيضاء

فوق الحمار ودون البغل، فقال: اركب، فاستصعب عَلَيَّ، فَرَازَهَا بِأُذُنِهَا، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهَا، فَانْطَلَقَتْ تهوي بنا يقع حافرها حيث انتهى طَرْفُهَا حَتَّى بَلَغْنَا أَرْضًا ذَاتَ نَخْلٍ فَأَنْزَلَنِي، فقال: صلِّ، فصليت، ثم ركبت، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: صَلَّيْتَ بِيَثْرِبَ، صَلَّيْتَ بِطِيبَةَ، فَانْطَلَقَتْ تَهْوِي بنا، يقع حافرها عند منتهى طرفها، ثم بلغنا أرضاً، قال: انزل، ثُمَّ قَالَ: صلِّ، فصلَّيت، ثُمَّ رَكِبْنَا، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: صليت بمدين عِنْدَ شَجَرَةِ مُوسَى، ثُمَّ انْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، ثُمَّ بَلَغْنَا أَرْضًا بَدَتْ لَنَا قُصُورٌ، فَقَالَ: انْزِلْ فَنَزَلْتُ، فَقَالَ: صلِّ، فصلَّيت، ثُمَّ رَكِبْنَا، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: صَلَّيْتَ ببيت لحم، حيث ولد عيسى بن مَرْيَمَ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ مِنْ بَابِهَا الْيَمَانِي، فَأَتَى قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ فَرَبَطَ فيه دابته ودخلنا المسجد من باب تميل فيه الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَصَلَّيْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، وَأَخَذَنِي مِنَ الْعَطَشِ أَشَدُّ مَا أَخَذَنِي، فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِي الْآخَرِ عَسَلٌ أُرْسِلَ إِلَيَّ بِهِمَا جَمِيعًا، فَعَدَلْتُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ هَدَانِي اللَّهُ عزَّ وجلَّ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فشربت حتى عرقت بِهِ جَبِينِي، وَبَيْنَ يَدَيَّ شيخُ مُتَّكِئٌ عَلَى مثوات لَهُ، فَقَالَ: أَخَذَ صَاحِبُكَ الْفِطْرَةَ إِنَّهُ لَيُهْدَى، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى أَتَيْنَا الْوَادِيَ الَّذِي فِيهِ الْمَدِينَةُ فَإِذَا جَهَنَّمُ تَنْكَشِفُ عَنْ مِثْلِ الروابي، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ وَجَدْتَهَا؟ قَالَ: وجدتها مثل الحمة السنخة، ثُمَّ انْصَرَفَ بِي فَمَرَرْنَا بِعِيرٍ لِقُرَيْشٍ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا قَدْ أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ قَدْ جَمَعَهُ فُلَانٌ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا صَوْتُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ أَصْحَابِي قَبْلَ الصُّبْحِ بِمَكَّةَ، فَأَتَانِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كُنْتَ اللَّيْلَةَ فقد التمستك في منامك، فقد علمت أنك أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ مَسِيرَةُ شَهْرٍ فَصِفْهُ لِي، قَالَ: فَفُتِحَ لِي صِرَاطٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ لَا يألني عن شيء إلاّ أنبأته، فقال أبو بكر: أشهد إِنَّكَ لَرَسُولُ الله، وقال الْمُشْرِكُونَ: انْظُرُوا إِلَى ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ اللَّيْلَةَ! قَالَ، فَقَالَ: إِنَّ مِنْ آيَةِ مَآ أَقُولُ لَكُمْ أَنِّي مررت بعير لكم في مكان كذا وكذا، وقد أضلوا بعيراً لهم فجمعه لهم فلان، وإن مسيرهم ينزلون بكذا ثم كذا، وَيَأْتُونَكُمْ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، يَقْدُمُهُمْ جَمَلٌ آدَمُ عَلَيْهِ مَسْحٌ أَسْوَدُ وَغِرَارَتَانِ سَوْدَاوَانِ، فَلَمَّا كَانَ ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون حين كان قريباً مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ، حَتَّى أَقْبَلَتِ الْعِيرُ يَقْدُمُهُمْ ذَلِكَ الْجَمَلُ الَّذِي وَصَفَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَوَاهُ الترمذي والبيهقي وقال: إسناده صحيح، قال ابن كثير: وهذا الحديث مشتمل على ما هو صحيح كما قال البيهقي، وعلى ما هو منكر كالصلاة في بيت المقدس، وسؤال الصدّيق عن نعت بيت المقدس). قال البيهقي، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن عمر نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ رَجُلًا طُوَالًا جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مريم عليه السلام مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبْطَ الرَّأْسِ»، وَأَرَى مَالِكًا خَازِنَ جَهَنَّمَ، وَالدَّجَّالَ فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ، قَالَ: {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ}، فَكَانَ قَتَادَةُ يُفَسِّرُهَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لَقِيَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} قَالَ: جَعَلَ مُوسَى هدى لبني إسرائيل (رواه البيهقي ومسلم وأخرجاه عن قتادة مختصراً) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أسري بي فأصحبت بمكة، عرفت أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِي». فَقَعَدَ مُعْتَزِلًا حَزِينًا، فَمَرَّ بِهِ

عَدْوَّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِن شَيْءٍ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ»، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: «إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ»، قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ». قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بين ظهرانينا؟! قال: «نعم»، قال: فلم ير أن يكذبه مخافة أن يجحد الحديث إن دعا قومه إليه، قال: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ أَتُحَدِّثُهُمْ بِمَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعم»، فقال: يا معشر بني كعب بن لؤي، قال، فانفضت إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ وَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ»، فَقَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ»، قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ، فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَمِنْ بَيْنِ واضع يده على رأسه متعجباً للكذب، قالوا: وتستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ وفيهم مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى المسجد، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ، قَالَ: فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ حتى وضع دون دار عقيل، فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، قَالَ: وَكَانَ مَعَ هذا نعت لم أحفظه، قَالَ، فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أصاب فيه" (أخرجه أحمد والبيهقي والنسائي). وقد روى البخاري ومسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام - فنعته فإذا هو رَجُلٌ حَسِبْتُهُ قَالَ: مُضْطَرِبٌ، رجلُ الرَّأْسِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، قَالَ: وَلَقِيتُ عِيسَى - فَنَعَتَهُ النبي صلى الله عليه وسلم قال: رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ - يَعْنِي حمام، قال: ولقيت إبراهيم وأشبه وَلَدِهِ بِهِ، قَالَ: وَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِي الْآخَرِ خَمْرٌ، قِيلَ لِي: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُ، فَقِيلَ لِي: هُدِيتَ الْفِطْرَةَ، - أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ - أَمَا إِنَّكَ لو أخذت الخمر غوت أمتك". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وقريش تسألني مَسْرَايَ، فَسَأَلُونِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قط، فرفعه الله إلي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا سَأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي وَإِذَا هُوَ رجل جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس شبهاً به عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يصلي أقرب الناس شبهاً بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ قَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا مالك خازن جهنم، فالتفت إليه فبدأني بالسلام" (أخرجه مسلم في صحيحه). قال ابن أبي حاتم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أَسْرِيَ بي لما انتهيت إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَنَظَرْتُ فَوْقُ، فَإِذَا رَعْدٌ وَبَرْقٍ وَصَوَاعِقَ، قَالَ: وَأَتَيْتُ عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ آكلوا الرِّبَا، فَلَمَّا نَزَلْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا نَظَرْتُ أَسْفَلَ مِنِّي فَإِذَا أَنَا بِرَهَجٍ وَدُخَانٍ وَأَصْوَاتٍ، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم لا يتفكرون فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَرَأَوُا الْعَجَائِبَ" (وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد وابن ماجه).

(يتبع ... )

(تابع ... 3): 1 - سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الحرام إلى ... ... فَصْلٌ وَإِذَا حَصَلَ الْوُقُوفُ عَلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الأحاديث يَحْصُلُ مَضْمُونُ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ مِنْ مِسْرَى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَنَّهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، قال الزهري: كان الإسراء قبل الهجرة وَالْحَقُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُسْرِيَ بِهِ (يَقَظَةً) لَا (مَنَامًا) مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ راكباً على الْبُرَاقَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ رَبَطَ الدَّابَّةَ عِنْدَ الْبَابِ وَدَخَلَهُ فَصَلَّى فِي قِبْلَتِهِ تحية المسجد ركعتين، ثم أتي بالمعراج وَهُوَ كَالسُّلَّمِ ذُو دَرَجٍ يُرْقَى فِيهَا فَصَعِدَ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِلَى بَقِيَّةِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، فَتَلَقَّاهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا، وسلم على الأنبياء الَّذِينَ فِي السَّمَاوَاتِ بِحَسْبِ مَنَازِلِهِمْ وَدَرَجَاتِهِمْ، حَتَّى مَرَّ بِمُوسَى الْكِلِيمِ فِي السَّادِسَةِ، وَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ في السابعة، ثم جاوز منزلتيهما صلى الله وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمَا وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُسْتَوًى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ، أَيْ أَقْلَامَ الْقَدَرِ، بِمَا هُوَ كَائِنٌ، وَرَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَغَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَظَمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ فَرَاشٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَلْوَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وغشيتها الملائكة، ورأى هناك جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَرَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ. وَرَأَى الْبَيْتَ المعمور وإبراهيم الخليل يأتي الْكَعْبَةِ الْأَرْضِيَّةِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الْكَعْبَةُ السَّمَاوِيَّةُ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَرَأَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَفَرَضَ الله عَلَيْهِ هُنَالِكَ الصَّلَوَاتِ خَمْسِينَ، ثُمَّ خَفَّفَهَا إِلَى خَمْسٍ رَحْمَةً مِنْهُ وَلُطْفًا بِعِبَادِهِ، وَفِي هَذَا اعْتِنَاءٌ عَظِيمٌ بِشَرَفِ الصَّلَاةِ وَعَظَمَتِهَا، ثُمَّ هَبَطَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَبَطَ مَعَهُ الْأَنْبِيَاءُ فَصَلَّى بِهِمْ فِيهِ لَمَّا حَانَتِ الصَّلَاةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا الصبح يومئذٍ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَمَّهُمْ فِي السَّمَاءِ، وَالَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ ببيت الْمَقْدِسِ وَلَكِنْ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ دُخُولِهِ إِلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْهُمْ جِبْرِيلَ وَاحِدًا وَاحِدًا وَهُوَ يُخْبِرُهُ بِهِمْ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ، لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا مَطْلُوبًا إِلَى الْجَنَابِ الْعُلْوِيِّ لِيَفْرِضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ مَا يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ لَمَّا فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوته من النبيين، ثُمَّ أَظْهَرَ شَرَفَهَ وَفَضْلَهُ عَلَيْهِمْ بِتَقْدِيمِهِ فِي الْإِمَامَةِ، وَذَلِكَ عَنْ إِشَارَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَرَكِبَ الْبُرَاقَ وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ بِغَلَسٍ والله سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ كَانَ الْإِسْرَاءُ ببدنه عليه السلام وروحه أم بِرُوحِهِ فَقَطْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً لَا مناما، ولا ينكرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك مناماً ثم رآه بعد ذلك يقظه لأنه كان عليه السلام لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصبح، والدليل على هذا قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}. فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، فلو كَانَ مَنَامًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ شَيْءٍ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعْظَمًا، وَلَمَا بَادَرَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ إلى تكذيبه، ولما ارتدت جماعة مما كَانَ قَدْ أَسْلَمَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَبْدَ عِبَارَةٌ عن مجموع الروح والجسد وقد قال: {أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}. وقال تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} قال ابن عباس: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةُ أسري به، والشجرة الملعونة هي شجرة الزقزم (رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما). وَقَالَ تَعَالَى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}، وَالْبَصَرُ مِنْ آلَاتِ الذَّاتِ لَا الرُّوحِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حُمِلَ عَلَى الْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ بَيْضَاءُ بَرَّاقَةٌ لَهَا لَمَعَانٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا لِلْبَدَنِ لَا لِلرُّوحِ لِأَنَّهَا

لَا تَحْتَاجُ فِي حَرَكَتِهَا إِلَى مَرْكَبٍ تَرْكَبُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرُوحِهِ لا بجسده وقد تعقبه أبو جعفر ابن جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِالرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ وَالتَّشْنِيعِ بِأَنَّ هذا خلاف ظاهر سياق القرآن. فائدة وَقَدْ ذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ، مِنْ طَرِيقِ أنَس، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، عَنْ عمر ابن الخطاب، وعلي، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَمَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَشَدَّادِ بن أوس، وأُبي بن كعب، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وحذيفة، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وصهيب الرومي، وأم هانئ، وعائشة، وأسماء رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، مِنْهُمْ مَنْ سَاقَهُ بِطُولِهِ وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَصَرَهُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الْمَسَانِيدِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رِوَايَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى شَرْطِ الصِّحَّةِ، فَحَدِيثُ الْإِسْرَاءِ أَجْمَعَ عَلَيْهِ المسلمون وأعرض عنه الزَّنَادِقَةُ الْمُلْحِدُونَ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كره الكافرون}.

- 2 - وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً - 3 - ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه أَيْضًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا مَا يُقْرِنُ بَيْنَ ذكر موسى ومحمد عليهما من الله الصلاة والسلام، وَبَيْنَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِسْرَاءِ: {وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ} يَعْنِي التَّوْرَاةَ، {وَجَعَلْنَاهُ} أَيِ الْكِتَابَ، {هُدًى} أَيْ هَادِيًا {لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ تَتَّخِذُواْ} أَيْ لِئَلَّا تَتَّخِذُواْ، {مِن دُونِي وَكِيلاً} أَيْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً وَلَا مَعْبُودًا دُونِي، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ أَنْ يَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} تَقْدِيرُهُ: يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ! فِيهِ تَهْيِيجٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْمِنَّةِ، أَيْ يَا سُلَالَةَ مَنْ نَجَّيْنَا فَحَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ تَشَبَّهُوا بِأَبِيكُمْ {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} فاذكروا نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بِإِرْسَالِي إِلَيْكُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وقد ورد في الأثر: أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَلِبَاسِهِ وَشَأْنِهِ كُلِّهِ، فَلِهَذَا سمي عبداً شكوراً. قال الطبراني، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ نُوحٌ عَبْدًا شَكُورًا لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا أكل أو شرب حمد الله. وفي الحديث: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَ اللَّهَ عَلَيْهَا» (رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي). وفي حديث الشفاعة، عن أبي هريرة مرفوعاً، قال: "فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح إنك أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ سماك الله عبداً شكوراً فاشفع لنا إلى ربك" (أخرجه البخاري في حديث الشفاعة عن أبي هريرة مرفوعاً).

- 4 - وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا - 5 - فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً - 6 - ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ

الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا - 7 - إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً - 8 - عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا يخبر تَعَالَى إِنَّهُ قَضَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ، أَيْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ وَأَخْبَرَهُمْ فِي الْكِتَابِ الذي أنزله عليهم أنهم سيفدون فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَيَعْلُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، أَيْ يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس، كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إليه الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} أَيْ تَقَدَّمْنَا إِلَيْهِ وَأَخْبَرْنَاهُ بِذَلِكَ وَأَعْلَمْنَاهُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} أَيْ أُولَى الْإِفْسَادَتَيْنِ {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أَيْ سَلَّطْنَا عَلَيْكُمْ جُنْدًا مِنْ خَلْقِنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، أي قوة وعدة وسلطنة شَدِيدَةٍ، {فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ} أَيْ تَمَلَّكُوا بِلَادَكُمْ وسلكوا خلال بيوتكم، أي بينها ووسطها ذَاهِبِينَ وَجَائِينَ لَا يَخَافُونَ أَحَدًا، {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً}. وقد اختلف المفسرون فِي هَؤُلَاءِ الْمُسَلَّطِينَ عَلَيْهِمْ مَنْ هُمْ؟ فَعَنِ ابن عباس وقتادة: أنه (جالوت) وَجُنُودُهُ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا ثُمَّ أُدِيلُوا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ، وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} الآية. وعن سعيد بن جبير وَعَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ (بُخْتُنَصَّرُ) مَلِكُ بَابِلَ. وَقَدْ أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُّوَهُمْ فَاسْتَبَاحَ بَيْضَتَهُمْ، وَسَلَكَ خِلَالَ بُيُوتِهِمْ، وَأَذَلَّهُمْ وَقَهَرَهُمْ، جَزَاءً وِفَاقًا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ تَمَرَّدُوا، وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ. وَقَدْ رَوَى ابن جرير، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: ظَهَرَ بُخْتُنَصَّرُ عَلَى الشَّامِ فَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَقَتَلَهُمْ، ثُمَّ أَتَى دِمَشْقَ فَوَجَدَ بِهَا دَمًا يَغْلِي عَلَى كِبًا، فَسَأَلَهُمْ مَا هَذَا الدَّمُ؟ فَقَالُوا: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هذا، قَالَ: فَقَتَلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَسَكَنَ. وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَأَنَّهُ قَتَلَ أَشْرَافَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ من يحفظ التوراة، وأخذ معه منهم خلقاً كثيراً أَسْرَى مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَجَرَتْ أُمُورٌ وَكَوَائِنُ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَلَوْ وَجَدْنَا مَا هُوَ صَحِيحٌ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ لَجَازَ كِتَابَتُهُ وَرِوَايَتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أَيْ فَعَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا}، وقوله: {فَإِذَا جَآءَ وعد الآخرة} (قال مجاهد: بعث عليهم بختنصر في الآخرة، كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم. وقوله: {عبادا لنا} قال ابن عباس وقتادة: بعث الله عليهم جالوت، أخرجه ابن أبي حاتم، وفي العجائب للكرماني: قيل هم (سنحاريب) وجنوده. وقيل: العمالقة، وقيل: قوم مؤمنون) أي الكرة الآخرة، أي إذا أفسدتم الكرة الثَّانِيَةَ وَجَاءَ أَعْدَاؤُكُمْ {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ}: أَيْ يُهِينُوكُمْ وَيَقْهَرُوكُمْ، {وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ} أَيْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ}: أَيْ فِي الَّتِي جَاسُوا فِيهَا خِلَالَ الدِّيَارِ، {وَلِيُتَبِّرُواْ}: أَيْ يُدَمِّرُوا وَيُخَرِّبُوا {مَا عَلَوْاْ} أَيْ مَا ظَهَرُوا عَلَيْهِ {تَتْبِيراً * عسى رَبُّكُمْ أَن يرحمكم}: أي فيصرفكم عَنْكُمْ، {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} أَيْ مَتَى عُدْتُمْ إِلَى الْإِفْسَادِ عُدْنَا إِلَى الْإِدَالَةِ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا نَدَّخِرُهُ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ من العذاب والنكال، ولهذا قال: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} أَيْ مُسْتَقَرًّا وَمَحْصَرًا وسجناً لا محيد عنه. قال ابن عباس {حَصِيراً} أي سجناً. وقال الحسن: فراشاً ومهاداً، وَقَالَ قَتَادَةُ: قَدْ عَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَيَّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَأْخُذُونَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.

- 9 - إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا - 10 - وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً يَمْدَحُ تَعَالَى كِتَابَهُ الْعَزِيزَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْقُرْآنُ، بِأَنَّهُ يَهْدِي لِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَوْضَحِ السُّبُلِ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ عَلَى مُقْتَضَاهُ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ: أَيْ وَيُبَشِّرُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، أَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً، أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.

- 11 - وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَجَلَةِ الْإِنْسَانِ وَدُعَائِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَالِهِ بِالشَّرِّ، أَيْ بِالْمَوْتِ أَوِ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ وَاللَّعْنَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَوِ اسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ لَهَلَكَ بِدُعَائِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله للناس الشر} الآية. وَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا عَلَى أَمْوَالِكُمْ أَنْ تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ ساعة إجابة يستجيب فيها (أخرجه أبو داود عن جابر، بتغيير وزيادة)» وإنما يحمل ابن آدم على ذلك قلقه وعجلته، ولهذا قال تعالى: {وَكَانَ الإنسان عجولا}.

- 12 - وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا يَمْتَنُّ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ بِآيَاتِهِ الْعِظَامِ، فَمِنْهَا مُخَالَفَتُهُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِيَسْكُنُوا في الليل وينتشروا في النهار للمعايش والصنائع وَالْأَعْمَالِ وَالْأَسْفَارِ، وَلِيَعْلَمُوا عَدَدَ الْأَيَّامِ وَالْجُمَعِ وَالشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، وَيَعْرِفُوا مُضِيَّ الْآجَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلدُّيُونِ وَالْعِبَادَاتِ والمعاملات والإجازات وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ}: أَيْ فِي مَعَايِشِكُمْ وَأَسْفَارِكُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ، {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الزَّمَانُ كُلُّهُ نَسَقًا وَاحِدًا وَأُسْلُوبًا مُتَسَاوِيًا لَمَا عُرِفَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ؟ أفلا تسمعون}، وقال تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً}، وَقَالَ تعالى: {وَلَهُ اختلاف الليل والنهار}، وَقَالَ: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الليل} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِلَّيْلِ آيَةً، أَيْ عَلَامَةً يُعْرَفُ بِهَا، وَهِيَ الظَّلَامُ وَظُهُورُ الْقَمَرِ فيه، وللنهار علامة، وهي النور وطلوع

الشمس النيرة فيه، وفاوت بين نور القمر وضياء الشَّمْسِ لِيُعْرَفَ هَذَا مِنْ هَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بالحق}، وقال تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} الآية. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ: {فَمَحَوْنَآ آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} قال" ظلمة الليل وسدف النهار، وعن مُجَاهِدٍ: الشَّمْسُ آيَةُ النَّهَارِ، وَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْقَمَرُ يُضِيءُ كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ، وَالشَّمْسُ آيَةُ النَّهَارِ، فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ السَّوَادَ الَّذِي فِي الْقَمَرِ. وقال قتادة: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ مَحْوَ آيَةِ اللَّيْلِ سَوَادُ الْقَمَرِ الَّذِي فِيهِ، وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً أي منيرة، وخلق الشَّمْسِ أَنْوَرُ مِنَ الْقَمَرِ وَأَعْظَمُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} قَالَ: لَيْلًا وَنَهَارًا، كَذَلِكَ خَلَقَهُمَا اللَّهُ عزَّ وجلَّ.

- 13 - وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُورًا - 14 - اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا يَقُولُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الزَّمَانِ وَذِكْرِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، وَطَائِرُهُ: هُوَ مَا طَارَ عَنْهُ مِنْ عَمَلِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد وغيرهما: من خير وشر، ويلزم بِهِ وَيُجَازَى عَلَيْهِ، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}، وَقَالَ تَعَالَى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ لديه مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، وقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَمَلَ ابْنِ آدَمَ مَحْفُوظٌ عَلَيْهِ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ، وَيُكْتَبُ عَلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، صَبَاحًا ومساء، وقال الإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَطَائِرُ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي عنقه». وقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} أَيْ نَجْمَعُ لَهُ عَمَلَهُ كُلَّهُ فِي كِتَابٍ، يُعْطَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِمَّا بِيَمِينِهِ إِنْ كَانَ سَعِيدًا، أَوْ بِشِمَالِهِ إِنْ كَانَ شَقِيًّا {مَنْشُوراً} أَيْ مَفْتُوحًا يَقْرَؤُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، فِيهِ جَمِيعُ عَمَلِهِ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} أَيْ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّكَ لم تظلم ولم يكتب عليك إلاّ مَا عَمِلْتَ، لِأَنَّكَ ذَكَرْتَ جَمِيعَ مَا كَانَ مِنْكَ، وَلَا يَنْسَى أَحَدٌ شَيْئًا مِمَّا كَانَ مِنْهُ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَقْرَأُ كِتَابَهُ مِنْ كَاتِبٍ وأمي، وقوله: {أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} إِنَّمَا ذَكَرَ الْعُنُقَ لِأَنَّهُ عُضْوٌ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْجَسَدِ، وَمَنْ أُلْزِمَ بِشَيْءٍ فِيهِ فَلَا مَحِيدَ لَهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ مِنْ عَمَلِ يَوْمٍ إِلَّا وَهُوَ يُخْتَمُ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَرِضَ الْمُؤْمِنُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا عَبْدُكَ فُلَانٌ قَدْ حَبَسْتَهُ، فَيَقُولُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ: اخْتِمُوا لَهُ عَلَى مِثْلِ عمله حتى يبرأ أو يموت" (أخرجه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر وإسناده قوي جيد كذا قال ابن كثير)، وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ {أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} قَالَ: عَمَلَهُ، {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قَالَ: نُخْرِجُ ذَلِكَ الْعَمَلَ {كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} قَالَ مَعْمَرٌ: وَتَلَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} يَا ابْنَ آدَمَ بَسَطْتُ لَكَ صَحِيفَتَكَ، وَوَكَلَ بِكَ مَلَكَانِ كَرِيمَانِ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِكَ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِكَ، فَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَمِينِكَ فَيَحْفَظُ حَسَنَاتِكَ، وَأَمَّا الذي عن شمالك فَيَحْفَظُ سَيِّئَاتِكَ، فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ، أَقْلِلْ أَوْ أَكْثِرْ، حَتَّى إِذَا مِتَّ طُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ فَجُعِلَتْ في

عُنُقِكَ مَعَكَ فِي قَبْرِكَ، حَتَّى تَخْرُجَ يَوْمَ القيامة كتاباً تلقاه منشورا {اقرأ كتابك} الآية. فقد عدل والله من جعلك حسيب نفسك، هذا من أحسن كَلَامِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ.

- 15 - مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ مَنِ اهْتَدَى وَاتَّبَعَ الْحَقَّ واقتفى أثر النُّبُوَّةِ، فَإِنَّمَا يُحَصِّلُ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الْحَمِيدَةَ لِنَفْسِهِ، {وَمَن ضَلَّ} أَيْ عَنِ الْحَقِّ وَزَاغَ عَنْ سَبِيلِ الرَّشَادِ، فَإِنَّمَا يَجْنِي عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وزر أخرى} (أخرج ابن عبد البر بسند ضعيف عن عائشة قالت: سألت خديخة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال: هم من آبائهم، ثم سألته بعد ذلك، فقال: الله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ عاملين، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت الآية: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وزر أخرى} وقال: هم على الفطرة - أو قال في الجنة - كما في اللباب) أَيْ لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ ذَنْبَ أَحَدٍ؟ وَلَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ}، ولا منافاة بين هذا وبين قوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مع أثقالهم}، وقوله: {وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ علم} فإن الدعاة عليهم إثم ضلالتهم فِي أَنْفُسِهِمْ، وَإِثْمٌ آخَرُ بِسَبَبِ مَا أَضَلُّوا من أضلوا، وَهَذَا مِنْ عَدْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} إِخْبَارٌ عَنْ عَدْلِهِ تَعَالَى؛ وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، بإرسال الرسول إليه كقوله تَعَالَى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} الآية، وقوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا؟ قَالُواْ: بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ على الكافرين}، وقال تعالى: {أَوَ لم نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نصير} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُدْخِلُ أَحَدًا النَّارَ إلاّ بعد إرسال الرسول إليه. مسْألة بقي ههنا مَسْأَلَةٌ قَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فيها قديماً وحديثاً، هي الْوِلْدَانُ الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ صِغَارٌ وَآبَاؤُهُمْ كُفَّارٌ مَاذَا حُكْمُهُمْ! وَكَذَا الْمَجْنُونُ وَالْأَصَمُّ وَالشَّيْخُ الْخَرِفُ، ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوته. وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا أذكرها لك بعون الله وَتَوْفِيقِهِ، ثُمَّ نَذْكُرُ فَصْلًا مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. (فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ): رواه الإمام أحمد عن الأسود بن سريع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَرْبَعَةٌ يَحْتَجُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رجلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرِمٌ، ورجل مات في فترة. فالأصم فَيَقُولُ رَبِّ قَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ، وَأَمَّا الْهَرِمُ فَيَقُولُ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا، وَأَمَّا الذي مات في الفطرة فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ. فَيَأْخُذُ مواثيقهم ليطيعنه فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ محمد بيده لو دخلوها لكانت برداً وسلاماً".

(الحديث الثاني): عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: «هُمْ مَعَ آبَائِهِمْ»، وَسُئِلَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: «هُمْ مَعَ آبَائِهِمْ»، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يعملون؟ قال: «الله أعلم بهم» (أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي). (الحديث الثالث): عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عظَّم شَأْنَ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: "إِذَا كَانَ يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ تُرْسِلْ إِلَيْنَا رَسُولًا، وَلَمْ يَأْتِنَا لَكَ أَمْرٌ، وَلَوْ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً لَكُنَّا أَطْوَعَ عِبَادِكَ، فَيَقُولُ لَهُمْ رَبُّهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ تُطِيعُونِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَعْمِدُوا إِلَى جَهَنَّمَ فَيَدْخُلُوهَا، فَيَنْطَلِقُونَ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهَا وَجَدُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا، فَرَجَعُوا إِلَى رَبِّهِمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا أَوْ أَجِرْنَا مِنْهَا، فَيَقُولُ لهم: ألم تزعموا أني إذا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ تُطِيعُونِي؟ فَيَأْخُذُ عَلَى ذَلِكَ مَوَاثِيقَهُمْ، فَيَقُولُ: اعْمَدُوا إِلَيْهَا فَادْخُلُوهَا، فَيَنْطَلِقُونَ حَتَّى إِذَا رأوها فرقوا منها ورجعوا، وقالوا: رَبَّنَا فَرِقْنَا مِنْهَا وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَدْخُلَهَا، فَيَقُولُ: ادْخُلُوهَا دَاخِرِينَ"، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ دَخَلُوهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ كانت عليهم برداً وسلاماً» (أخرجه الحافظ البزار في مسنده). (الحديث الرابع): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يمجسانه، كما تنتج البهيمة جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ»، وَفِي رِوَايَةٍ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ صَغِيرًا، قَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ عاملين»:، وروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ذَرَارِيُّ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ يَكْفُلُهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ أَنَّهُ قال: «إني خلقت عبادي حنفاء». (الحديث الخامس): عَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ»، فَنَادَاهُ النَّاسُ: يَا رَسُولَ الله وأولاد المشركين، قال: «وأولاد المشركين» (رواه الحافظ البرقاني في المستخرج على البخاري). وقال الطبراني عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: «هُمْ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ». (الحديث السادس): عن خنساء بِنْتِ مُعَاوِيَةَ، مَنْ بَنِي صَرِيمٍ قَالَتْ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّهِيدُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْمَوْلُودُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْوَئِيدُ فِي الجنة» (أخرجه الإمام أحمد). فمن العلماء من ذهب إلى الوقوف فِيهِمْ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَزَمَ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ لِحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ الْمَنَامِ حِينَ مَرَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْخِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَحَوْلَهُ وِلْدَانٌ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَؤُلَاءِ أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ». وَمِنْهُمْ مَنْ جَزَمَ لَهُمْ بِالنَّارِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هُمْ مَعَ آبَائِهِمْ». وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَرَصَاتِ، فَمَنْ أَطَاعَ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَانْكَشَفَ عَلِمَ اللَّهِ فِيهِمْ بِسَابِقِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ عَصَى دَخَلَ النَّارَ دَاخِرًا وَانْكَشَفَ عِلْمُ اللَّهِ فِيهِ بِسَابِقِ الشَّقَاوَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا. وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْمُتَعَاضِدَةُ الشَّاهِدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ. وهذا القول الذي حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي «كِتَابِ الِاعْتِقَادِ». وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. وقد ذكر الشيخ ابن عبد البر أن أحاديث هَذَا الْبَابِ لَيْسَتْ قَوِيَّةً وَلَا تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ يُنْكِرُونَهَا لِأَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جزاء وليست

بدار عَمَلٍ وَلَا ابْتِلَاءٍ فَكَيْفَ يُكَلَّفُونَ دُخُولَ النَّارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي وُسْعِ الْمَخْلُوقِينَ، وَاللَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا. (وَالْجَوَابُ) عَمَّا قَالَ: أَنَّ أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ مِنْهَا مَا هُوَ صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها مَا هُوَ حَسَنٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيفٌ يتقوى بِالصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ، وَإِذَا كَانَتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ الْوَاحِدِ متصلة مُتَعَاضِدَةً عَلَى هَذَا النَّمَطِ أَفَادَتِ الْحُجَّةَ عِنْدَ الناظر فيها. وأما قوله: إن الدار الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا دَارُ جَزَاءٍ وَلَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ فِي عَرَصَاتِهَا قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجماعة من أمتحان الأطفال. وقد قال تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} الآية. وقد ثبت فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ يوم القيامة، وإن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طَبَقًا وَاحِدًا، كُلَّمَا أَرَادَ السُّجُودَ خَرَّ لِقَفَاهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي يَكُونُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، أَنَّ اللَّهَ يَأْخُذُ عهوده ومواثيقه أن لا يَسْأَلَ غَيْرَ مَا هُوَ فِيهِ، وَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ! ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الجنة، وأما قوله: فكيف يكفلهم الله دُخُولَ النَّارَ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِمْ، فَلَيْسَ هَذَا بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ عَلَى جَهَنَّمَ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِ بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ كَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ، وَالرِّكَابِ، وَمِنْهُمُ السَّاعِي وَمِنْهُمُ الْمَاشِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْبُو حَبْوًا، وَمِنْهُمُ الْمَكْدُوشُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ، وَلَيْسَ مَا وَرَدَ فِي أُولَئِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ هَذَا بَلْ هَذَا أَطَمُّ وَأَعْظَمُ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ الدَّجَّالَ يَكُونُ مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، وَقَدْ أَمَرَ الشَّارِعُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُدْرِكُونَهُ أَنْ يَشْرَبَ أَحَدُهُمْ مِنَ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ نَارٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، فَهَذَا نَظِيرُ ذاك؛ وأيضاً فإن الله تعالى أمر بني إسرئيل أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قَتَلُوا فِيمَا قِيلَ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ أَلْفًا، يَقْتُلُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ وَهُمْ فِي عَمَايَةٍ غَمَامَةٍ أَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، وَهَذَا أَيْضًا شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ جِدًّا لَا يَتَقَاصَرُ عَمَّا وَرَدَ في الحديث المذكور، والله أعلم. فصل إذا تَقَرَّرَ هَذَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وِلْدَانِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَقْوَالٍ، (أَحَدُهَا): أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ سَمُرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى مع إبراهيم عليه السلام أولاد المسلمين وأولاد المشركين، (والقول الثَّانِي): أَنَّهُمْ مَعَ آبَائِهِمْ فِي النَّارِ: وَاسْتَدَلَّ عليه بما روي عن عبد الله بن أبي قيس، أَنَّهُ أَتَى عَائِشَةَ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَرَارِيِّ الْكُفَّارِ فَقَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ تَبَعٌ لِآبَائِهِمْ». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله بلا أعمال؟ فقال: «الله أَعْلَمُ بما كانوا عاملين». (أخرجه الإمام أحمد). (وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ): التَّوَقُّفُ فِيهِمْ، وَاعْتَمَدُوا عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ عاملين». وهو في الصحيحين، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ، وَهَذَا القول يرجع إلى مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ الْأَعْرَافَ لَيْسَ دَارَ قَرَارٍ، وَمَآلَ أَهْلِهَا إِلَى الْجَنَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي سورة الأعراف، والله أعلم، وليعلم أن

هَذَا الْخِلَافَ مَخْصُوصٌ بِأَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا وِلْدَانُ المؤمنين فلا خلاف بين العلماء أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ الَّذِي نَقْطَعُ بِهِ إِنْ شاء الله عزَّ وجلَّ.

- 16 - وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {أَمَرْنَا}، فَالْمَشْهُورُ قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهَا، فَقِيلَ معناه: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا أَمْرًا قَدَرِيًّا، كَقَوْلِهِ تعالى: {أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نهاراً} {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} قَالُوا مَعْنَاهُ أَنَّهُ سَخَّرَهُمْ إِلَى فِعْلِ الْفَوَاحِشِ فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ، وَقِيلَ معناه: أمرهم بالطاعات ففعلوا الفواحش، فاستحقوا العقوبة (روي هذا القول عن سعيد بن جبير وابن عباس وهو قول حسن ورأي سديد). وقال ابن جرير: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ، قُلْتُ: إِنَّمَا يَجِيءُ هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ {أمَّرنا مُتْرَفِيهَا}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} يَقُولُ: سَلَّطْنَا أَشْرَارَهَا فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذلك أهلكهم الله بِالْعَذَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} الآية، وعنه قال: أكثرنا عددهم.

- 17 - وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً يَقُولُ تَعَالَى مُنْذِرًا كُفَّارَ قُرَيْشٍ فِي تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ قَدْ أهلك أمماً من المكذبين للرسل بَعْدِ نُوحٍ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْقُرُونَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَلَى الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ لَسْتُمْ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ، وَقَدْ كَذَّبْتُمْ أَشْرَفَ الرُّسُلِ وَأَكْرَمَ الْخَلَائِقِ فعقوبتكم أولى وأحرى. وقوله: {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً} أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

- 18 - مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً - 19 - وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَا كُلُّ من طلب الدنيا وما فيها من النعم يَحْصُلُ لَهُ، بَلْ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ أَرَادَ الله وما يَشَاءُ، وَهَذِهِ مُقَيَّدَةٌ لِإِطْلَاقِ مَا سِوَاهَا مِنَ الْآيَاتِ، فَإِنَّهُ قَالَ: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ} أي في الدار الْآخِرَةِ {يَصْلاهَا} أَيْ يَدْخُلُهَا حَتَّى تَغْمُرَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، {مَذْمُوماً} أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَذْمُومًا عَلَى سُوءِ تَصَرُّفِهِ وَصَنِيعِهِ، إِذِ اخْتَارَ الْفَانِي عَلَى الْبَاقِي، {مَّدْحُوراً} مُبْعَدًا مُقْصِيًّا حَقِيرًا ذليلاً مهاناً. وفي الحديث: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لا عقل له» (أخرجه أحمد عن عائشة مرفوعاً)، وقوله: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ} -[372]- وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} أَيْ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِهِ، وهو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي قلبه مُؤْمِنٌ، أَيْ مُصَدِّقٌ بِالثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَشْكُورًا}.

- 20 - كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً - 21 - انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً يَقُولُ تَعَالَى {كُلاًّ} أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الَّذِينَ أَرَادُوا الدُّنْيَا وَالَّذِينَ أرادوا الآخرة، نمدهم فيما فيه {مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ} أي هو التصرف الْحَاكِمُ الَّذِي لَا يَجُورُ فَيُعْطِي كُلًّا مَا يستحقه من السعادة والشقاوة، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} أَيْ لَا يَمْنَعُهُ أَحَدٌ وَلَا يَرُدُّهُ رَادٌّ، قال قتادة {مَحْظُوراً}، أي منقوصاً، وقال الحسن وغيره: أي مَمْنُوعًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي فِي الدُّنْيَا، فَمِنْهُمُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْحَسَنُ وَالْقَبِيحُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَمَنْ يَمُوتُ صَغِيرًا، وَمَنْ يُعَمَّرُ حَتَّى يَبْقَى شَيْخًا كَبِيرًا، وَبَيْنَ ذَلِكَ {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}: أَيْ وَلَتَفَاوُتُهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ مِنَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فِي الدَّرَكَاتِ فِي جَهَنَّمَ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فِي الدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَنَعِيمِهَا وَسُرُورِهَا، ثُمَّ أَهْلُ الدَّرَكَاتِ يتفاتون فِيمَا هُمْ فِيهِ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ يَتَفَاوَتُونَ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ مِائَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَوْنَ أَهْلَ عِلِّيِّينَ، كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَابِرَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وأكبر تفضيلا}.

- 22 - لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا يَقُولُ تَعَالَى وَالْمُرَادُ الْمُكَلَّفُونَ مِنَ الْأُمَّةِ، لَا تَجْعَلْ أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ فِي عِبَادَتِكَ ربك له شريكاً {فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً} أي على إشراكك به {مَّخْذُولاً} لِأَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَا يَنْصُرُكَ، بَلْ يَكِلُكَ إِلَى الَّذِي عَبَدْتَ مَعَهُ، وَهُوَ لَا يملك ضراً ولا نفعاً، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، ومن أنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي).

- 23 - وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا - 24 - وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، فإن القضاء ههنا بِمَعْنَى الْأَمْرِ. قَالَ مُجَاهِدٌ {وَقَضَى} يَعْنِي

وصّى، وَلِهَذَا قَرَنَ بِعِبَادَتِهِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أي وأمر بالوالدين إحساناً، كقوله فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير}، وَقَوْلُهُ: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} أَيْ لَا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولا التأفف الذي هُوَ أدنى مراتب القول السيء، {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} أَيْ وَلَا يَصْدُرْ مِنْكَ إِلَيْهِمَا فعل قبيح، كما قال عطاء: {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} أي لا تنفض يدك عليهما، وَلَمَّا نَهَاهُ عَنِ الْقَوْلِ الْقَبِيحِ وَالْفِعْلِ الْقَبِيحِ، أَمَرَهُ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْفِعْلِ الْحَسَنِ، فَقَالَ: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} أَيْ لَيِّنًا طَيِّبًا حَسَنًا بِتَأَدُّبٍ وَتَوْقِيرٍ وَتَعْظِيمٍ، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أَيْ تَوَاضَعَ لَهُمَا بِفِعْلِكَ، {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} أي في كبرهما وعند وفاتهما. وَقَدْ جَاءَ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، (مِنْهَا) الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أنَس وغيره أن النبي صلَّى الله عليه وسلم صعد المنبر ثم قال: «آمين آمين آمين»، قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَامَ أَمَّنْتَ؟ قَالَ: "أَتَانِي جبريل، فقال: يا محمد رَغِمَ أَنْفُ رِجْلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عليك، قُلْ آمِينَ، فَقُلْتُ آمِينَ، ثُمَّ قَالَ رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ ثُمَّ خرج فلم يُغْفَرْ لَهُ، قُلْ آمِينَ، فَقُلْتُ آمِينَ، ثُمَّ قال رغم أنف رجل أدرك والديه أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ، قُلْ آمِينَ، فقلت آمين" (أخرجه الترمذي الحاكم عن أبي هريرة). (حديث آخر): روى الإمام أحمد عن أبي مَالِكٍ الْقُشَيْرِيِّ قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا ثُمَّ دَخَلَ النَّارَ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ» (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ شعبة وفيه زيادات أخر). (حديث آخر): روى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أنف ثم رغم أنف: رجل أدرك أحد أبويه أو كلاهما عنده الكبر ولكم يدخل الجنة". (حديث آخر): عن مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيُّ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هل بقي مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِهِمَا أَبَرُّهُمَا بِهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ خِصَالٌ أَرْبَعٌ: الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا رَحِمَ لَكَ إِلَّا مِنْ قبلهما، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما" (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة). (حديث آخر): عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السَّلَمِيِّ، أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ الْغَزْوَ، وَجِئْتُكَ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: «فَهَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟» قَالَ: نعم، قال: «فالزمها فإن الجنة عند رجليها» (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه). (حديث آخر): قال الحافظ البزار في مسنده عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِي الطَّوَافِ حَامِلًا أُمَّهُ يَطُوفُ بِهَا، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَدَّيْتُ حَقَّهَا؟ قَالَ: «لَا، وَلَا بِزَفْرَةٍ واحدة» (قال ابن كثير: في سنده الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف).

- 25 - رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ مِنْهُ الْبَادِرَةُ إِلَى أَبَوَيْهِ وَفِي نِيَّتِهِ وَقَلْبِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُرِيدُ إِلَّا الْخَيْرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ}، وقوله: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً} -[374]- قَالَ قَتَادَةُ: لِلْمُطِيعِينَ أهل الصلاة، وعن ابن عباس: المطيعين المحسنين. وعن ابن المسيب: الذين يصيبون الذنب ثم يتوبون، وعن عطاء بن يسار، وسعيد بن جبير، ومجاهد: هم الراجعون إلى الخير. وعن عبيد بن عمير قال: كنا نعد الأوَّاب من يَقُولَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَصَبْتُ فِي مَجْلِسِي هَذَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَوْلَى فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ هُوَ التَّائِبُ مِنَ الذنب، الرجّاع من الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، مِمَّا يَكْرَهُ اللَّهُ إِلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّ الْأَوَّابَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَوْبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ، يُقَالُ: آبَ فُلَانٌ إِذَا رَجَعَ، قَالَ تعالى: {إن إلينا إيابهم}. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَجَعَ مِنْ سَفَرٍ قَالَ: «آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ».

- 26 - وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا - 27 - إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا - 28 - وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى بِرَّ الْوَالِدَيْنِ، عَطَفَ بِذِكْرِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْقَرَابَةِ وَصِلَةِ الأرحام، وفي الْحَدِيثِ: «أُمَّكَ وَأَبَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ». وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أحب أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقُهُ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَجَلِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ». وقوله: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} لَمَّا أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ نَهَى عَنِ الْإِسْرَافِ فِيهِ، بَلْ يَكُونُ وَسَطًا كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُوا} الآية، ثُمَّ قَالَ مُنَفِّرًا عَنِ التَّبْذِيرِ وَالسَّرَفِ: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}: أَيْ أَشْبَاهَهُمْ فِي ذلك، قال ابْنُ مَسْعُودٍ: التَّبْذِيرُ الْإِنْفَاقُ فِي غَيْرِ حَقٍّ، وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله فِي الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ مُبَذِّرًا، وَلَوْ أَنْفَقَ مداً في غير حق كان مبذراً. وَقَالَ قَتَادَةُ: التَّبْذِيرُ النَّفَقَةُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تعالى، وفي غير الحق والفساد، وقوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}: أَيْ فِي التَّبْذِيرِ وَالسَّفَهِ، وَتَرْكِ طَاعَةِ اللَّهِ وَارْتِكَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كُفُوراً}: أَيْ جُحُودًا، لِأَنَّهُ أَنْكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِطَاعَتِهِ، بَلْ أَقْبَلَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، وقوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} الآية: أي إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بِإِعْطَائِهِمْ وَلَيْسَ عِنْدَكَ شَيْءٌ وَأَعْرَضْتَ عَنْهُمْ لِفَقْدِ النَّفَقَةِ {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}: أَيْ عِدْهُمْ وَعْدًا بِسُهُولَةٍ وَلِينٍ إِذَا جَاءَ رِزْقُ اللَّهِ فسنصلكم إن شاء الله" (هكذا فسره مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ فسروا القول الميسور بالوعد).

- 29 - وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً - 30 - إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِالِاقْتِصَادِ فِي الْعَيْشِ، ذَامًّا لِلْبُخْلِ، نَاهِيًا عَنِ السَّرَفِ: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} أَيْ لَا تَكُنْ بَخِيلًا مَنُوعًا لَا تُعْطِي أَحَدًا شَيْئًا، كَمَا قَالَتِ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ الله (يَدُ الله مَغْلُولَةٌ) أَيْ نَسَبُوهُ إِلَى الْبُخْلِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ الْكَرِيمُ الْوَهَّابُ، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} أَيْ وَلَا تُسْرِفْ فِي الْإِنْفَاقِ فَتُعْطِيَ فَوْقَ طَاقَتِكَ، وَتُخْرِجَ أَكْثَرَ مِنْ دَخْلِكَ {فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً}، وَهَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، أَيْ فَتَقْعُدَ إن

بخلت ملوماً يلومك الناس ويذمونك، وَمَتَى بَسَطْتَ يَدَكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ قَعَدْتَ بِلَا شيء تنفقه (فسر ابن عباس والحسن وقتادة وابن جريج الآية بأن المراد هنا البخل والسرف) فَتَكُونَ كَالْحَسِيرِ، وَهُوَ الدَّابَّةُ الَّتِي قَدْ عَجَزَتْ عَنِ السَّيْرِ فَوَقَفَتْ ضَعْفًا وَعَجْزًا، فَإِنَّهَا تُسَمَّى الْحَسِيرَ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكَلَالِ، كَمَا قَالَ تعالى: {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} أي كليل عن أن يرى عيباً، وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ من ثديهما إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلَا يُنْفِقُ إِلَّا سَبَغَتْ، أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلَّا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَهُوَ يُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ» (هَذَا لَفْظُ البخاري في الزكاة). وفي الصحيحين عن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَفِقِي هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ، وَلَا تُوكِي فَيُوكِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ»، وَفِي لَفْظٍ: «وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ». وَفِي صَحِيحِ مسلم، قال رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن اللَّهَ قَالَ لِي: أَنفق أُنفق عَلَيْكَ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا وَمَلَكَانِ يَنْزِلَانِ مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أعط ممسكاً تلفاً"، وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَا نَقَصَ مالٌ مِنْ صَدَقَةٍ، وَمَا زَادَ الله عبداً أنفق إلا عزً، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ». وَفِي حَدِيثِ عبد الله بن عمر مَرْفُوعًا: «إِيَّاكُمْ وَالشُّحَ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وأمرهم بالفجور ففجروا» (الحديث أخرجه أبو داود والحاكم عن ابن عمرو). وروى البيهقي عن الأعمش، عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُخْرِجُ رَجُلٌ صَدَقَةً حتى يفك لحي سبعين شيطاناً». وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عال من اقتصد»، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} إِخْبَارٌ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الرَّزَّاقُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ، الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، فَيُغْنِي مَنْ يشاء ويفقر مَنْ يَشَاءُ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي خبيراً بصيراً بمن يستحق الغنى ويستحق الْفَقْرَ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ». وَقَدْ يَكُونُ الْغِنَى فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ اسْتِدْرَاجًا، وَالْفَقْرُ عُقُوبَةً عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ هذا وهذا.

- 31 - وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطأ كَبِيرًا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أرحمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ، لأنه نهى عن قتل الأولاد، كما أوصى الآباء بِالْأَوْلَادِ فِي الْمِيرَاثِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْبَنَاتِ، بَلْ كَانَ أَحَدُهُمْ رُبَّمَا قَتَلَ ابْنَتَهُ لِئَلَّا تَكْثُرَ عَيْلَتُهُ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عن ذلك وقال: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} أَيْ خَوْفَ أَنْ تَفْتَقِرُوا فِي ثَانِي الْحَالِ، وَلِهَذَا قَدَّمَ الِاهْتِمَامَ بِرِزْقِهِمْ فَقَالَ: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم}. وَفِي الْأَنْعَامِ: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ}: أَيْ من فقر {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، وقوله: {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطأ كَبِيراً}: أي ذنباً عظيماً، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -[376]- بْنِ مَسْعُودٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خلقك»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ».

- 32 - وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا يَقُولُ تَعَالَى ناهياً عباده عن الزنا، وعن مقاربته، ومخالطة أسبابه ودواعيه {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} أَيْ ذَنْبًا عَظِيمًا، {وَسَآءَ سَبِيلاً} أي وبئس طريقاً ومسلكاً، روى الإمام أحمد، عن أبي أمامة، إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لي بالزنا، فأقبل عليه القوم فَزَجَرُوهُ، وَقَالُوا: مَهْ مَهْ. فَقَالَ: «ادْنُهْ»، فَدَنَا منه قريباً، فقال: «اجلس» فجلس، فقال: أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ " قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يحبونه لبناتهم»، قال: «أفتحبه لِأُخْتِكَ؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ خالتك؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ»، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وأحصن فَرْجَهُ»، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَى يلتفت إلى شيء (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ بَعْدَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ نُطْفَةٍ وَضَعَهَا رَجُلٌ فِي رَحِمٍ لَا يحل له» (أخرجه ابن أبي الدنيا عن الهيثم بن مالك الطائي مرفوعاً).

- 33 - وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ شَرْعِيٍّ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق لجماعة". وفي السنن: «لزوال الدنيا عند الله أهون مِنْ قَتْلِ مُسْلِمٍ». وَقَوْلُهُ: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً}: أَيْ سُلْطَةً عَلَى الْقَاتِلِ، فَإِنَّهُ بِالْخِيَارِ فِيهِ، إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ قَوْدًا، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ عَلَى الدِّيَةِ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ مَجَّانًا، كَمَا ثَبَتَتِ السنة بذلك، وقوله: {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} أي فَلَا يُسْرِفِ الْوَلِيُّ فِي قَتْلِ الْقَاتِلِ بِأَنْ يُمَثِّلَ بِهِ أَوْ يَقْتَصَّ مِنْ غَيْرِ الْقَاتِلِ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً}: أَيْ أَنَّ الْوَلِيَّ منصور على القاتل شرعاً وقدراً.

- 34 - وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مسؤولا - 35 - وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً

يَقُولُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي لا تتصرفوا في مَالَ اليتيم إِلاَّ بالغبطة، {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ}. وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمرنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ». وقوله: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} أَيِ الَّذِي تُعَاهِدُونَ عَلَيْهِ النَّاسَ، وَالْعُقُودَ الَّتِي تُعَامِلُونَهُمْ بِهَا، فَإِنَّ الْعَهْدَ وَالْعَقْدَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُسْأَلُ صَاحِبُهُ عَنْهُ، {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} أي عنه. وقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ} أَيْ مِنْ غَيْرِ تَطْفِيفٍ، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، {وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ} وهو الميزان، قال مُجَاهِدٌ هُوَ الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: {الْمُسْتَقِيمِ} أَيْ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ، وَلَا اضْطِرَابَ: {ذَلِكَ خَيْرٌ} أَيْ لَكُمْ فِي مَعَاشِكُمْ وَمَعَادِكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أَيْ مَآلًا ومنقلباً في آخرتكم، قال قتادة: أي خير ثواباً وأحسن عاقبة، وكان ابن عباس يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمَوَالِي إِنَّكُمْ وُلِّيتُمْ أَمْرَيْنِ بِهِمَا هَلَكَ النَّاسُ قَبْلَكُمْ: هَذَا الْمِكْيَالَ، وَهَذَا الميزان.

- 36 - وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً قال ابن عباس: لا تقل، وقال العوفي: لَا تَرْمِ أَحَدًا بِمَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا تَقُلْ رَأَيْتُ وَلَمْ تَرَ، وَسَمِعْتُ وَلَمْ تُسْمِعْ، وَعَلِمْتُ وَلَمْ تَعْلَمْ، فَإِنَّ الله تعالى سَائِلُكَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمَضْمُونُ مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنِ الْقَوْلِ بِلَا عِلْمٍ، بَلْ بِالظَّنِّ الَّذِي هُوَ التَّوَهُّمُ وَالْخَيَالُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ». وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا». وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «إِنَّ أَفَرَى الفري أن يُري الرجل عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَيَا». وَفِي الصَّحِيحِ: «مَنْ تَحَلَّمَ حُلْمًا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَعْقِدَ بين شعيرتين وليس بفاعل». وَقَوْلُهُ: {كُلُّ أُولَئِكَ} أَيْ هَذِهِ الصِّفَاتُ مِنَ السمع والبصر والفؤاد {كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} أَيْ سَيُسْأَلُ الْعَبْدُ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتُسْأَلُ عنه.

- 37 - وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا - 38 - كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا عِبَادَهُ عَنِ التَّجَبُّرِ وَالتَّبَخْتُرِ فِي الْمِشْيَةِ: {وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} أَيْ مُتَبَخْتِرًا مُتَمَايِلًا مَشْيَ الْجَبَّارِينَ، {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض} أي لن تقطع الأرض بمشيك، {وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً}: أَيْ بِتَمَايُلِكَ وَفَخْرِكَ وَإِعْجَابِكَ بِنَفْسِكَ، بَلْ قَدْ يُجَازَى فَاعِلُ ذَلِكَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ يَتَبَخْتَرُ فِيهِمَا إِذْ خُسِفَ بِهِ الْأَرْضُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَارُونَ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَسَفَ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ حَقِيرٌ وعند الناس كبير»، وَرَأَى الْبَخْتَرِيُّ الْعَابِدُ رَجُلًا مِنْ آلِ (عَلِيٍّ) يَمْشِي وَهُوَ يَخْطِرُ فِي مِشْيَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا! إِنَّ الَّذِي أَكْرَمَكَ بِهِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ مِشْيَتَهُ، قَالَ: فَتَرَكَهَا الرَّجُلُ بَعْدُ. وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ رَجُلًا يَخْطِرُ فِي مِشْيَتِهِ، فقال: إن للشياطين إخواناً، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا مشت أمتي المطيطاء

وخدمتهم فارس والروم سلط بعضهم على بعض» (أخرجه ابن أبي الدنيا عن سعيد عن محسن). وقوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً}، أي كُلُّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} إلى هنا، (فسيئه) أي فقبيحه مكروه عند الله.

- 39 - ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا يَقُولُ تَعَالَى هَذَا الَّذِي أَمَرْنَاكَ بِهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَنَهَيْنَاكَ عنه من الصفات الرذيلة، مما حينا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ لِتَأْمُرَ بِهِ النَّاسَ، {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً} أَيْ تَلُومُكَ نَفْسُكَ، وَيَلُومُكَ اللَّهُ والخلق {مَّدْحُوراً}: أي مبعداً من كل خير، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مَطْرُودًا، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ الْأُمَّةُ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ معصوم.

- 40 - أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً يَقُولُ تَعَالَى رَادًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْكَاذِبِينَ الزَّاعِمِينَ - عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ - أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً، ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ بنات الله، ثم عبدوهم فأخطأوا فِي كُلٍّ مِنَ الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثِ خَطَأً عَظِيمًا، فقال تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ} أَيْ خَصَّصَكُمْ بِالذُّكُورِ {وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثاً} أَيْ واختار لِنَفْسِهِ عَلَى زَعْمِكُمُ الْبَنَاتِ، ثُمَّ شَدَّدَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} أَيْ في زعمكم أن لِلَّهِ وَلَدًا ثُمَّ جَعْلِكُمْ وَلَدَهُ الْإِنَاثَ الَّتِي تَأْنَفُونَ أَنْ يَكُنَّ لَكُمْ وَرُبَّمَا قَتَلْتُمُوهُنَّ بِالْوَأْدِ، فتلك إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولدا * ما يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فردا}.

- 41 - وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ}: أَيْ صَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ مَا فيه من الحجج والبينات والمواعظ؛ فينزجرون عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْإِفْكِ {وَمَا يَزِيدُهُمْ} أَيْ الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ {إِلاَّ نُفُوراً} أي عن الحق وبعداً عنه.

- 42 - قُل لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا - 43 - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الزَّاعِمِينَ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا مِنْ خَلْقِهِ الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ ليقربهم إليه -[379]- زلفاً: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ وَأَنَّ مَعَهُ آلِهَةً تُعْبَدُ لِتُقَرِّبَ إِلَيْهِ وَتُشَفَّعَ لَدَيْهِ، لَكَانَ أُولَئِكَ الْمَعْبُودُونَ يَعْبُدُونَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ وَيَبْتَغُونَ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَالْقُرْبَةَ، فَاعْبُدُوهُ أَنْتُمْ وَحْدَهُ كَمَا يَعْبُدُهُ مَنْ تَدْعُونَهُ مِنْ دُونِهِ، وَلَا حَاجَةَ لَكُمْ إِلَى مَعْبُودٍ يَكُونُ وَاسِطَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُحِبُّ ذَلِكَ وَلَا يَرْضَاهُ بَلْ يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ. وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ وَقَدَّسَهَا، فَقَالَ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ} أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْمُعْتَدُونَ الظَّالِمُونَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ مَعَهُ آلِهَةً أُخرى {عُلُوًّا كَبِيرًا}: أَيْ تَعَالِيًا كبيراً، بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ.

- 44 - تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً يقول تعالى تقدسه السماوات السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَيْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وتنزهه وتعظمه ووتبجله وَتَكَبِّرُهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، وَتَشْهَدُ لَهُ بالوحدانية في ربويته وَإِلَهِيَّتِهِ: فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةً * تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن ولدا}. وَقَوْلُهُ: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} أَيْ وَمَا مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِ اللَّهِ {وَلَكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي لا تفهمون تسبيحهم لأنها بخلاف لغاتكم، وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ فِي يَدِهِ حَصَيَاتٍ فَسُمِعَ لَهُنَّ تَسْبِيحٌ كَحَنِينِ النَّحْلِ، وكذا في يَدُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (قال ابن كثير: وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فِي الْمَسَانِيدِ). وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه دخل عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَى دَوَابٍّ لَهُمْ وَرَوَاحِلَ، فَقَالَ لَهُمْ: «ارْكَبُوهَا سَالِمَةً وَدَعُوهَا سَالِمَةً، وَلَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ لِأَحَادِيثِكُمْ فِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ، فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا، وَأَكْثَرُ ذِكْرًا مِنْهُ». وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ، وَقَالَ: نقيقها تسبيح. وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ نُوحٌ ابنه؟ إن نوح عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ آمُرُكَ أَنْ تَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ فَإِنَّهَا صَلَاةُ الْخَلْقِ، وَتَسْبِيحُ الْخَلْقِ، وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ"، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (أخرجه ابن جرير، قال ابن كثير: في إسناده ضعف). وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} قَالَ: الْأُسْطُوَانَةُ تُسَبِّحُ، والشجرة تسبح، وقال بعض السلف: صرير الباب تسبيحه، وخرير الماء تسبيحه. وقال آخرون: إنما يسبح من كان فيه روح من حيوان ونبات، قال قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} قال: كل شيء فيه روح يُسَبِّحُ مِنْ شَجَرٍ أَوْ شَيْءٍ فِيهِ، وَقَالَ الحسن والضحاك: كل شيء فيه الروح. وقد يستأنس

لهذا القول بحديث ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يستنزه مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ»، ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً ثُمَّ قَالَ: "لعله يخفف عنهما ما لم يبسا (أخرجه الشيخان عن ابن عباس مرفوعاً)، قال بعض من تكلم عن هذا الحديث من العلماء، إما قَالَ مَا لَمْ يَيْبَسَا: لِأَنَّهُمَا يُسَبِّحَانِ مَا دَامَ فِيهِمَا خُضْرَةٌ فَإِذَا يَبِسَا انْقَطَعَ تَسْبِيحُهُمَا، والله أعلم. وقوله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} أي أنه لَا يُعَاجِلُ مَنْ عَصَاهُ بِالْعُقُوبَةِ، بَلْ يُؤَجِّلُهُ وَيُنْظِرُهُ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَعِنَادِهِ أَخَذَهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الآية. وقال: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ}: الآيتينن وَمَنْ أَقْلَعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ عِصْيَانٍ وَرَجَعَ إِلَى اللَّهِ وَتَابَ إِلَيْهِ، تَابَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} الآية. وقال ههنا: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} كَمَا قَالَ فِي آخِرِ فَاطِرٍ: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولاَ، وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُورًا} إِلَى أَنْ قَالَ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ} إلى آخر السورة.

- 45 - وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً - 46 - وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِذَا قَرَأْتَ يَا محمد على هؤلاء المشركين القرآن (أخرج ابن المنذر عن ابن شِهَابٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إذا تلا القرآن على مشركي قريش ودعاهم إلى الكتاب قالوا - يهزؤن به - قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ، وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حجاب. فأنزل الله في ذلك من قوله: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} الآية)، جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا مَسْتُورًا، قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الْأَكِنَّةُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ}: أَيْ مَانِعٌ حَائِلٌ أَنْ يَصِلَ إِلَيْنَا مِمَّا تقول شيء وقوله: {حِجَاباً مَّسْتُوراً} بمعنى ساتر، وَقِيلَ مَسْتُورًا عَنِ الْأَبْصَارِ فَلَا تَرَاهُ، وَهُوَ مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى. عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنها قالت: لما نزلت {تبت يد أبي لهب} جَاءَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ، وَلَهَا وَلْوَلَةٌ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ، وَهِيَ تَقُولُ: مُذَمَّمًا أبيْنا، وَدِينَهُ قليْنا، وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا. وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وأبي بكر إلى جنبه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لقد أقلبت هَذِهِ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ، فَقَالَ: «إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي»، وَقَرَأَ قُرْآنًا اعْتَصَمَ بِهِ مِنْهَا: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً}، قَالَ: فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَلَمْ تَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ يَا أَبَا بَكْرٍ: بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ، مَا هَجَاكِ، قَالَ فَانْصَرَفَتْ وَهِيَ تَقُولُ: لَقَدْ عَلِمَتْ قريش إني بنت سيدها (أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أسماء بنت أبي بكر). وقوله: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}

وهي جَمْعُ كِنَانٍ: الَّذِي يَغْشَى الْقَلْبَ {أَن يَفْقَهُوهُ}: أَيْ لِئَلَّا يَفْهَمُوا الْقُرْآنَ {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} وَهُوَ الثِّقَلُ الَّذِي يَمْنَعُهُمْ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ سماعاً ينفعهم ويهتدون به. وقوله تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} أَيْ إِذَا وَحَّدْتَ اللَّهَ فِي تِلَاوَتِكَ وَقُلْتَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ {وَلَّوْاْ} أَيْ أَدْبَرُوا رَاجِعِينَ {على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} الآية، قال قتادة: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم فضاقها إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُمْضِيَهَا ويعليها وينصرها وَيُظْهِرَهَا عَلَى مَنْ نَاوَأَهَا، إِنَّهَا كَلِمَةٌ مَنْ خَاصَمَ بِهَا فَلَجَ، وَمَنْ قَاتَلَ بِهَا نُصِرَ، إِنَّمَا يَعْرِفُهَا أَهْلُ هَذِهِ الْجَزِيرَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَقْطَعُهَا الرَّاكِبُ فِي لَيَالٍ قَلَائِلَ، وَيَسِيرُ الدَّهْرَ فِي فِئَامٍ مِنَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَهَا ولا يقرون بها.

- 47 - نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً - 48 - انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً يخبر تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بما يتناجى بِهِ رُؤَسَاءُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، حِينَ جَاءُوا يَسْتَمِعُونَ قراءته سِرًّا مِنْ قَوْمِهِمْ بِمَا قَالُوا: مِنْ أَنَّهُ رجل مَسْحُورٌ لَهُ رِئًى يَأْتِيهِ بِمَا اسْتَمَعُوهُ مِنَ الكلام الذي يتلوه، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} أَيْ فَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى الْحَقِّ وَلَا يَجِدُونَ إِلَيْهِ مَخْلَصًا، قال محمد بن إسحاق في السيرة: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَأَبَا جَهْلِ بن هشام، والأخنس بن شريق خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْتَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا يَسْتَمِعُ فِيهِ، وَكُلٌّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَعُودُوا فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى مَجْلِسِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعتهم الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا حَتَّى إِذَا كَانَتِ الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطَّرِيقُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا نَبْرَحُ حَتَّى نَتَعَاهَدَ لَا نَعُودُ. فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَفَرَّقُوا. فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شُرَيْقٍ أَخَذَ عَصَاهُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، وَسَمِعْتُ أَشْيَاءَ مَا عَرَفْتُ مَعْنَاهَا وَلَا مَا يُرَادُ بِهَا، قَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: مَاذَا سَمِعْتُ؟ قال: تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ: أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَى الرُّكَبِ وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ؟ وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ وَتَرَكَهُ.

- 49 - وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً - 50 - قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا - 51 - أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ ويقولون متى

هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا - 52 - يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ الْمُسْتَبْعَدِينَ وُقُوعَ الْمَعَادِ، الْقَائِلِينَ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ مِنْهُمْ لِذَلِكَ: {أئذا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً} أي تراباً، {أئنا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} أي يوم القيامة بعد ما بلينا وصرنا عدماً لا نذكر، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ: {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً * قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}، وقوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} الآية، فأمر الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يُجِيبَهُمْ، فَقَالَ: {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} إذ هما أَشَدُّ امْتِنَاعًا مِنَ الْعِظَامِ وَالرُّفَاتِ، {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ}، عَنْ مُجَاهِدٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ فقال: هو الموت، وعن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآية لو كنتم موتى لأحييتكم (وكذلك قال سعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحّاك وغيرهم)، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّكُمْ لَوْ فَرَضْتُمْ أَنَّكُمْ لَوْ صرتم إلى الموت الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْحَيَاةِ لَأَحْيَاكُمُ اللَّهُ إِذَا شَاءَ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِذَا أراده. وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ}: يَعْنِي السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَا شِئْتُمْ فَكُونُوا فَسَيُعِيدُكُمُ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا}: أَيْ مَنْ يُعِيدُنَا إِذَا كُنَّا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا آخَرَ شَدِيدًا {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أَيِ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، ثُمَّ صِرْتُمْ بَشَرًا تَنْتَشِرُونَ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِكُمْ وَلَوْ صِرْتُمْ إِلَى أَيِّ حَالٍ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه} الآية، وقوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ}. قال ابن عباس وقتادة: يحركونها استهزاءً، والإنغاض هُوَ التَّحَرُّكُ مِنْ أَسْفَلَ إِلَى أَعْلَى، أَوْ من أعلى إلى أسفل، يقال نَغَضَتْ سِنُّهُ: إِذَا تَحَرَّكَتْ وَارْتَفَعَتْ مِنْ مَنْبَتِهَا. وقال الرَّاجِزُ: وَنَغَضَتْ مِنْ هَرَمٍ أَسْنَانُهَا. وَقَوْلُهُ: {وَيَقُولُونَ متى هُو} إخبار عنهم بِالِاسْتِبْعَادِ مِنْهُمْ لِوُقُوعِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا}، وَقَوْلُهُ: {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً} أَيْ احْذَرُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَرِيبٌ إِلَيْكُمْ سَيَأْتِيكُمْ لَا محالة، فكل ما هو آت قريب، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} أي الرب تبارك وتعالى، {إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ}: أَيْ إِذَا أَمَرَكُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ، بَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}، {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فيكون}، وقوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} أَيْ إِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ بِانْتِهَارٍ، فَإِذَا النَّاسُ قَدْ خَرَجُوا مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ إِلَى ظاهرها، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}: أَيْ تَقُومُونَ كُلُّكُمْ إجابة لأمره وطاعة لإرادته، قال ابن عباس {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}: أي بأمره، وَقَالَ قَتَادَةُ: بِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}: أَيْ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي كُلِّ حَالٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْشَةٌ في قبورهم، كأني بِأَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَقُومُونَ مِنْ قبورهم ينفضون التراب عن رؤوسهم يَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ». وَفِي رِوَايَةٍ يَقُولُونَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ» (الرواية الثانية: أخرجها الطبراني عن ابن عمر)، وقوله تعالى {وَتَظُنُّونَ}: أَيْ يَوْمَ تَقُومُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ، {إِن لَّبِثْتُمْ} أَيْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، {إِلاَّ قَلِيلاً} كقوله تعالى:

{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}. وقال تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يوما}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غير ساعة}.

- 53 - وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عدوا مبينا يأمر تبارك وتعالى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَ عباد الله المؤمنين، أن يقولوا في مخاطبتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن، والكلمة الطيبة، فإنهم إن لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ، وَأَخْرَجَ الْكَلَامَ إِلَى الْفِعَالِ، وَوَقَعَ الشَّرُّ وَالْمُخَاصَمَةُ وَالْمُقَاتَلَةُ، فإنه عَدُوٌّ لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ حِينِ امْتَنَعَ مِنَ السجود لآدم، وعدواته ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ، وَلِهَذَا نَهَى أَنْ يُشِيرَ الرَّجُلُ إِلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ في يده فربما أصابه بها، ففي الحديث: «لَا يُشِيرَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار» (رواه أحمد وأخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الرزاق). وفي الحديث: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ؛ التقوى ههنا»، قال حماد: وقال بيده إلى صدره: «وما تواد رجلان في الله ففرق بيبنهما إلاّ حدثٌ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا، وَالْمُحْدِثُ شَرٌّ، وَالْمُحْدِثُ شَرٌّ، وَالْمُحْدِثُ شر» (أخرجه الإمام أحمد).

- 54 - رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا - 55 - وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زبورا يقول تعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} أيها الناس، أي أعلم بمن يَسْتَحِقُّ مِنْكُمُ الْهِدَايَةَ وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ، {إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} بِأَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِطَاعَتِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، {أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ} يَا مُحَمَّدُ {عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} أَيْ إِنَّمَا أَرْسَلْنَاكَ نَذِيرًا، فَمَنْ أَطَاعَكَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاكَ دَخَلَ النَّارَ. وَقَوْلُهُ: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ بِمَرَاتِبِهِمْ فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ}، كما قال تعالى: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بعض}، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ»، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ التَّفْضِيلُ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالْعَصَبِيَّةِ، لا بمقتضى الدليل، فإن دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى شَيْءٍ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الرُّسُلَ أَفْضَلُ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، وأن أولي العزم منهم أفضل، وَهُمُ الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورُونَ نَصًّا فِي آيَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نوح ومن إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم}. وَفِي الشُّورَى فِي قَوْلِهِ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ}، وَلَا خِلَافَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُهُمْ، ثُمَّ بَعْدَهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ مُوسَى، ثم عيسى عليهم السلام على المشهور، وقد بسطناه بِدَلَائِلِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وقوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} تَنْبِيهٌ عَلَى فَضْلِهِ وَشَرَفِهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خفف على داود القرآن فكان يأمر بدوابه فتسرج فكان يقرؤه قبل أن يفرغ» (رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً) يعني القرآن.

- 56 - قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا - 57 - أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا يَقُولُ تَعَالَى {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ فَارْغُبُوا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ {لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ} أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ، {وَلاَ تَحْوِيلاً} أَيْ بأن يُحَوِّلُوهُ إِلَى غَيْرِكُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له الذي لَهُ الخلق والأمر، قال ابن عباس: كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ يَقُولُونَ: نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا، وَهُمُ الَّذِينَ يَدْعُونَ، يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، وَالْمَسِيحَ وعزيراً، وروى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قَالَ نَاسٌ مِنَ الْجِنِّ كَانُوا يُعْبَدُونَ فَأَسْلَمُوا، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَاسًا مِنَ الْجِنِّ فَأَسْلَمَ الْجِنُّ وَتَمَسَّكَ هؤلاء بدينهم. وقال قتادة، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} الآية قَالَ: نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَعْبُدُونَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ فَأَسْلَمَ الْجِنِّيُّونَ، وَالْإِنْسُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِإِسْلَامِهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: كَانُوا يَعْبُدُونَ صِنْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الجن فذكره، وقال ابن عباس: هُمْ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عِيسَى وَالْعُزَيْرُ وَالْمَلَائِكَةُ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ لِقَوْلِهِ: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} وَهَذَا لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْمَاضِي، فَلَا يدخل فيه عيسى والعزير والملائكة، وقال: وَالْوَسِيلَةُ هِيَ الْقُرْبَةُ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ، وَلِهَذَا قال: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}، وقوله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} لَا تَتَمُّ الْعِبَادَةُ إِلَّا بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَبِالْخَوْفِ يَنْكَفُّ عَنِ الْمَنَاهِي، وبالرجاء يكثر من الطاعات، وقوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} أَيْ يَنْبَغِي أَنْ يُحَذَّرَ مِنْهُ وَيُخَافَ مِنْ وُقُوعِهِ وَحُصُولِهِ عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْهُ.

- 58 - وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ بِأَنَّهُ قَدْ حَتَمَ وَقَضَى بما قد كتب عِنْدَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَنَّهُ مَا مِنْ قرية إلاّ سيهلكها، بأن يبيد أهلها أَوْ يُعَذِّبَهُمْ {عَذَاباً شَدِيداً} إِمَّا بِقَتْلٍ أَوِ ابْتِلَاءٍ بِمَا يَشَاءُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ ذنوبهم وخطاياهم، كما قال تعالى عَنِ الأُمم الْمَاضِينَ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ}، وقال تعالى: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً}، وقال: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} الآيات.

- 59 - وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصفا ذهباً، وأن ينحي لهم الْجِبَالَ عَنْهُمْ فَيَزْرَعُوا، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أن نستأني بهم، وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا، فإن كفروا هلكوا، كما هلكت من كان

قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ. قَالَ: «لَا، بَلِ اسْتَأْنِ بهم»، وأنزل اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} (أخرجه أحمد والنسائي عن ابن عباس) الآية. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، وَنُؤْمِنُ بِكَ قَالَ: «وَتَفْعَلُونَ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ، فَدَعَا فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، فمن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَقَالَ: «بَلْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ». وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} صَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي قَبِيسٍ: «يَا آلَ عَبْدِ مُنَافٍ إِنِّي نَذِيرٌ» فَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ فَحَذَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ، فَقَالُوا: تَزْعُمُ أَنَّكَ نَبِيٌّ يُوحَى إِلَيْكَ وَأَنَّ سُلَيْمَانَ سُخِّرَ لَهُ الرِّيحُ وَالْجِبَالُ، وَأَنَّ مُوسَى سُخِّرَ لَهُ الْبَحْرُ، وَأَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُسَيِّرَ عَنَّا هَذِهِ الْجِبَالَ ويفجر لنا الأرض أنهاراً فنتخذ مَحَارِثَ فَنَزْرَعَ وَنَأْكُلَ، وَإِلَّا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يحيي لنا موتانا لنكلمهم وَيُكَلِّمُونَا، وَإِلَّا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُصَيِّرَ لَنَا هَذِهِ الصَّخْرَةَ الَّتِي تَحْتَكَ ذَهَبًا فَنَنْحَتَ مِنْهَا وَتُغْنِيَنَا عَنْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَإِنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ كَهَيْئَتِهِمْ. قَالَ، فَبَيْنَا نَحْنُ حَوْلَهُ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ أَعْطَانِي مَا سَأَلْتُمْ، وَلَوْ شِئْتُ لَكَانَ، وَلَكِنَّهُ خَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ تَدْخُلُوا بَابَ الرَّحْمَةِ فَيُؤَمَّنَ مُؤْمِنُكُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَكِلَكُمْ إِلَى مَا اخْتَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَتَضِلُّوا عَنْ بَابِ الرَّحْمَةِ فَلَا يُؤَمَّنَ مِنْكُمْ أَحَدٌ. فَاخْتَرْتُ باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم، وأخبرني أنه أَعْطَاكُمْ ذَلِكَ ثُمَّ كَفَرْتُمْ أَنَّهُ يُعَذِّبُكُمْ عَذَابًا لا يعذبه أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ»، وَنَزَلَتْ: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون}، وقرأ ثلاث آيات، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ} أَيْ نَبْعَثُ الْآيَاتِ وَنَأْتِيَ بِهَا عَلَى ما سأل قومك منك، فإنه يَسِيرٌ لَدَيْنَا، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَذَّبَ بِهَا الأولون بعد ما سَأَلُوهَا، وَجَرَتْ سُنَّتُنَا فِيهِمْ وَفِي أَمْثَالِهِمْ أَنَّهُمْ لا يؤخرون إن كذبوا بها بعد نزولها، كما قال تَعَالَى فِي الْمَائِدَةِ: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أحدا من العالمين}، وقال تعالى عن ثمود حين سألوا الناقة: {قال تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}، ولهذا قال تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا}: أَيْ دَالَّةً عَلَى وَحْدَانِيَّةِ مَنْ خَلَقَهَا وَصَدَّقَ رسوله {فَظَلَمُواْ بِهَا} أَيْ كَفَرُوا بِهَا وَمَنَعُوهَا شُرْبَهَا وَقَتَلُوهَا، فَأَبَادَهُمُ اللَّهُ عَنْ آخِرِهِمْ، وَانْتَقَمَ مِنْهُمْ وأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون، ويذكرون ويرجعون، (أخرج أبو يعلى عن أم هانئ: أنه صلى الله عليه وسلم، لما أسري به أصبح يحدث نفراً من قريش يستهزئون به، فطلبوا منه آية فوصف لهم بيت المقدس وذكر لهم قصة العير، فقال الوليد بن المغيرة: هذا ساحر، فأنزل الله: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا} الآية. وأخرج ابن المنذر عن الحسن ونحوه. وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح يوماً مهموماً، فقيل له: ما لك يا رسول الله؟ لا تهتم فإن رؤياك فتنة لهم فأنزل الله: {وجعلنا} الآية. وأخرج ابن جرير من حديث سهل بن سعد نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عمرو بن العاص، ومن حديث يعلى بن قرة، ومن مرسل سعيد بن المسيب نحوها. قال السيوطي: وأسانيدها ضعيفة.)، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْكُوفَةَ رُجِفَتْ عَلَى عَهْدِ ابن مسعود رضي الله عنه، فقال:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ رَبَّكُمْ يَسْتَعْتِبُكُمْ فَأَعْتِبُوهُ، وَهَكَذَا رُوِيَ أَنَّ الْمَدِينَةَ زُلْزِلَتْ عَلَى عَهْدِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مَرَّاتٍ، فَقَالَ عُمَرُ أَحْدَثْتُمْ وَاللَّهِ لَئِنْ عَادَتْ لأفعلن ولأفعلن، وفي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ؛ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ - ثُمَّ قَالَ - يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ مَا أَحَدٌ أغيرَ مِنَ اللَّهِ إِن يَزْنِيَ عَبْدَهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتَهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا».

- 60 - وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَرِّضًا لَهُ عَلَى إِبْلَاغِ رِسَالَتِهِ، وَمُخْبِرًا لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ عَصَمَهُ مِنَ النَّاسِ فَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي قبضته وتحت قهرة وغلبته. قال مجاهد والحسن قتادة في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} أَيْ عَصَمَكَ مِنْهُمْ. قال البخاري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القرآن} شجرة الزقوم (أخرجه البخاري والإمام أحمد)، {إِلاَّ فِتْنَةً}: أَيْ اخْتِبَارًا وَامْتِحَانًا، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الملعونة فهي شجرة الزقوم (أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: لما ذكر الله هذا الزقوم، خوف به هذا الحي من قريش، قال أبو جهل: هل تدرون ما هذا الزقوم الذي خوفكم به محمد؟ قالوا: لا. قال: الثريد بالزبد، أما لئن أمكننا منها لنزقمنها زقماً، فأنزل الله تعالى: {والشجرة الملعونة} الآية، وأنزل: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم})، لما أَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَرَأَى شَجَرَةَ الزَّقُّومِ فكذبوا بذلك، حتى قال أبو جهل عليه لعائن الله: هاتوا لنا تمراً وزبداً، وجعل يأكل من هَذَا بِهَذَا وَيَقُولُ: تَزَقَّمُوا فَلَا نَعْلَمُ الزَّقُّومَ غير هذا (روي ذلك عن ابن عباس ومسروق وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ)، وَكُلُّ مَنْ قَالَ إِنَّهَا لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ فَسَّرَهُ كَذَلِكَ بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ، واختار ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، قَالَ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى ذَلِكَ، أَيْ فِي الرُّؤْيَا وَالشَّجَرَةِ، وَقَوْلُهُ {وَنُخَوِّفُهُمْ}: أَيْ الْكَفَّارَ، بِالْوَعِيدِ وَالْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً}: أَيْ تَمَادِيًا فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَذَلِكَ مِنْ خِذْلَانِ اللَّهِ لهم.

- 61 - وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا - 62 - قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا يذكر تبارك وتعالى عدواة إبليس لعنه الله لآدم وذريته وأنها عدواة قَدِيمَةٌ مُنْذُ خُلِقَ آدَمُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الملائكة بالسجود لآدم فَسَجَدُوا كُلُّهُمْ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَأَبَى أَنْ يَسْجُدَ لَهُ، افْتِخَارًا عَلَيْهِ وَاحْتِقَارًا لَهُ {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً}، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}، وَقَالَ أَيْضًا: أَرَأَيْتَكَ، يَقُولُ لِلرَّبِّ جَرَاءَةً وَكُفْرًا، والرب يحلو وَيَنْظُرُ {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} الآية، قال -[387]- ابن عباس {لأَحْتَنِكَنَّ} يَقُولُ: لَأَسْتَوْلِيَنَّ عَلَى ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَأَحْتَوِيَنَّ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَأُضِلَّنَّهُمْ، وَكُلُّهَا متقاربة، والمعنى: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي شَرَّفْتَهُ وَعَظَّمْتَهُ عَلَيَّ، لَئِنْ أَنْظَرَتْنِي لَأُضِلَّنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ.

- 63 - قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا - 64 - وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً - 65 - إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً لما سأل إبليس النَّظْرَةَ قَالَ اللَّهُ لَهُ {اذْهَبْ} فَقَدْ أَنْظَرْتُكَ، كما قال في الآية الأخرى {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}، ثم أوعده ومن اتبعه من ذرية آدم جهنم {قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ} أَيْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ {جَزَاءً مَّوْفُوراً} قَالَ مجاهد: وافراً، وقال قتادة: موفوراً عليكم لا ينقص لكم منه، وقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} قِيلَ: هُوَ الْغِنَاءُ. قَالَ مُجَاهِدٌ بِاللَّهْوِ وَالْغِنَاءِ، أَيْ اسْتَخِفَّهُمْ بِذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} قَالَ: كُلُّ دَاعٍ دعا إلى معصية الله عزَّ وجلَّ، واختاره ابن جرير، وقوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} يَقُولُ: وَاحْمِلْ عَلَيْهِمْ بِجُنُودِكِ خَيَّالَتِهِمْ وَرَجْلَتِهِمْ، فَإِنَّ الرَّجْلَ جَمْعُ رَاجِلٍ، كما أن الركب جمع راكب، وَمَعْنَاهُ تُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ، وهذا أمر قدري، كقوله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} أَيْ تُزْعِجُهُمْ إِلَى الْمَعَاصِي إِزْعَاجًا وَتَسُوقُهُمْ إِلَيْهَا سوقاً. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ لَهُ خَيْلًا وَرِجَالًا مِنَ الجن والإنس وهم الذين يطيعونه، تقول الْعَرَبُ: أَجْلَبَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ إِذَا صَاحَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ نَهَى فِي الْمُسَابَقَةِ عَنِ الْجَلَبِ وَالْجَنَبِ، وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ الْجَلَبَةِ، وَهِيَ ارْتِفَاعُ الْأَصْوَاتِ، وقوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ إِنْفَاقِ الأموال في معاصي الله تعالى، وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ الرِّبَا، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ جمعها من خبيث وإنفاقها في حرام، والآية تعمُّ ذلك كله، وقوله: {والأولاد} يعني أولاد الزنا (قاله ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ)، وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ مَا كَانُوا قَتَلُوهُ مِنْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ علم، وقال الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: قَدْ وَاللَّهِ شَارَكَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، مجَّسوا وَهَوَّدُوا ونصَّروا وَصَبَغُوا غَيْرَ صِبْغَةِ الإسلام، وجزأوا من أموالهم جزءاً للشيطان، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد فُلَانٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ كُلُّ مَوْلُودٍ وَلَدَتْهُ أُنْثَى عَصَى الله فيه بتسميته بما يَكْرَهُهُ اللَّهُ، أَوْ بِإِدْخَالِهِ فِي غَيْرِ الدِّينِ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ، أَوْ بِالزِّنَا بِأُمِّهِ، أَوْ بقتله أو وأده، أو غير ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَعْصِي اللَّهَ بِفِعْلِهِ به، فقد دخل في مشاركة إبليس فيه لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُخَصِّصْ بِقَوْلِهِ: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ} مَعْنَى الشَّرِكَةِ فِيهِ، بِمَعْنًى دُونَ مَعْنًى، فَكُلُّ مَا عُصِيَ اللَّهُ فِيهِ أَوْ به، أو أطيع الشيطان فيه أَوْ بِهِ فَهُوَ مُشَارَكَةٌ،

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُتَّجَهٌ، وَكُلٌّ مِنَ السَّلَفِ رحمهم الله فسر بعض المشاركة، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أهله قال باسم الله، اللهم جنبا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقَتْنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ الشيطان أبداً»، وقوله تعالى: {وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} كَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ إِبْلِيسَ أَنَّهُ يَقُولُ، إِذَا حَصْحَصَ الْحَقُّ يَوْمَ يُقْضَى بِالْحَقِّ: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} الآية. وقوله تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} إِخْبَارٌ بِتَأْيِيدِهِ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَحِفْظِهِ إِيَّاهُمْ وَحِرَاسَتِهِ لهم من الشيطان الرجيم، ولهذا قال تعالى: {وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} أي حافظاً ومؤيداً ونصيراً. وفي الحديث: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُنْضِي شَيَاطِينَهُ كَمَا يُنْضِي أَحَدُكُمْ بعيره في السفر» (رواه أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً) يُنْضِي أَيْ يَأْخُذُ بِنَاصِيَتِهِ وَيَقْهَرُهُ.

- 66 - رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ لُطْفِهِ بِخَلْقِهِ فِي تَسْخِيرِهِ لعباده الفلك في البحر وتسهيله لِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، لِابْتِغَائِهِمْ مِنْ فَضْلِهِ فِي التِّجَارَةِ مِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} أَيْ إِنَّمَا فَعَلَ هَذَا بِكُمْ مِنْ فَضْلِهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتِهِ بِكُمْ.

- 67 - وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً يخبر تبارك وتعالى إن الناس إذا مسهم ضُرٌّ دَعَوْهُ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، ولهذا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} أَيْ ذَهَبَ عنقلوبكم كل ما تعبدون غير الله تعالى، كَمَا اتُّفِقَ لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ لَمَّا ذَهَبَ فَارًّا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَتَحَ مَكَّةَ، فَذَهَبَ هَارِبًا فَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ لِيَدْخُلَ الْحَبَشَةَ فَجَاءَتْهُمْ رِيحٌ عَاصِفٌ فَقَالَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْكُمْ إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ وَحْدَهُ، فقال عكرمة في نفسه، والله إن كَانَ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَحْرِ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللَّهُمَّ لَكَ علي عهد لئن أخرجتني منه لَأَذْهَبْنَ فَلَأَضَعَنَّ يَدِي فِي يَدِ مُحَمَّدٍ فَلَأَجِدَنَّهُ رؤوفاً رَحِيمًا، فَخَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسلامه رضي الله عنه وأرضاه، وقوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبِرِّ أَعْرَضْتُمْ} أَيْ نَسِيتُمْ مَا عَرَفْتُمْ مِنْ تَوْحِيدِهِ فِي الْبَحْرِ، وَأَعْرَضْتُمْ عَنْ دُعَائِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُوراً} أَيْ سَجِيَّتُهُ هَذَا، يَنْسَى النِّعَمَ وَيَجْحَدُهَا إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ.

- 68 - أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً يقول تعالى أفحسبتم بخروجكم إِلَى الْبَرِّ، أَمِنْتُمْ مِنَ انْتِقَامِهِ وَعَذَابِهِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً، وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي فِيهِ حِجَارَةٌ (قَالَهُ مجاهد وغير واحد من السلف)، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ}، وقال: {وأمطرنا عليهم حجارة من طين}، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً} أَيْ ناصراً يرد ذلك عنكم وينقذكم منه.

- 69 - أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تبيعا يقول تبارك وتعالى: أَمْ أَمِنْتُمْ أَيُّهَا الْمُعْرِضُونَ عَنَّا، بَعْدَمَا اعْتَرَفُوا بِتَوْحِيدِنَا فِي الْبَحْرِ، وَخَرَجُوا إِلَى الْبَرِّ، أَنْ يُعِيدَكُمْ فِي الْبَحْرِ مَرَّةً ثَانِيَةً، {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ} أَيْ يَقْصِفُ الصَّوَارِيَ وَيُغْرِقُ الْمَرَاكِبَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الْقَاصِفُ رِيحُ الْبِحَارِ الَّتِي تَكْسِرُ الْمَرَاكِبَ وَتُغْرِقُهَا، وَقَوْلُهُ {فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ}: أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ وَإِعْرَاضِكُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَصِيرًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَصِيرًا ثَائِرًا، أَيْ يَأْخُذُ بِثَأْرِكُمْ بِعْدَكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلاَ نَخَافُ أَحَدًا يُتْبِعُنَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

- 70 - وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَشْرِيفِهِ لبني آدم وتكريمهم إِيَّاهُمْ فِي خَلْقِهِ لَهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْهَيْئَاتِ وأكملها، كقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تقويم} أَيْ يَمْشِي قَائِمًا مُنْتَصِبًا عَلَى رِجْلَيْهِ، وَيَأْكُلُ بِيَدَيْهِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، وَيَأْكُلُ بِفَمِهِ، وَجَعَلَ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَفُؤَادًا يَفْقَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الأشياء وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية، {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ} أَيْ عَلَى الدَّوَابِّ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ، وَفِي الْبَحْرِ أَيْضًا عَلَى السُّفُنِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} أَيْ مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ وَلُحُومٍ وَأَلْبَانٍ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الطُّعُومِ وَالْأَلْوَانِ الْمُشْتَهَاةِ اللَّذِيذَةِ، وَالْمَنَاظِرِ الْحَسَنَةِ، وَالْمَلَابِسِ الرَّفِيعَةِ مِنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَأَلْوَانِهَا وَأَشْكَالِهَا مِمَّا يَصْنَعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ وَيَجْلِبُهُ إِلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ مِنْ أَقْطَارِ الْأَقَالِيمِ وَالنَّوَاحِي، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} أَيْ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الآية الكريمة عَلَى أَفْضَلِيَّةِ جِنْسِ الْبَشَرِ عَلَى جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبَّنَا! أَعْطَيْتَ بَنِي آدَمَ الدُّنْيَا، يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَيَلْبَسُونَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَلَا نَأْكُلُ وَلَا نَشْرَبُ وَلَا نَلْهُو، فَكَمَا جَعَلْتَ لَهُمُ الدُّنْيَا فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ، قَالَ: لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِي كَمَنْ قلت له كن فكان" (رواه الحافظ الطبراني وأخرجه عبد الرزاق عن زيد بن مسلم موقوفاً وابن عساكر عن أنَس بن مالك مرفوعاً).

- 71 - يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فأولئك يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً - 72 - وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا يُخْبِرُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ يُحَاسِبُ كُلَّ أُمَّةٍ بِإِمَامِهِمْ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَيْ بِنَبِيِّهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط} الآية، وقال بعض

السَّلَفِ: هَذَا أَكْبَرُ شَرَفٍ لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّ إِمَامَهُمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بِكِتَابِهِمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِمْ واختاره ابن جرير، وروى عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: بِكُتُبِهِمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون أراد ما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} أي بكتاب أعمالهم (وهو قول أبي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ)، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَرْجَحُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} الآية، ويحتمل أن المراد {بِإِمَامِهِمْ} أي كل قوم بمن يأتمون به، فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء عليهم السلام، وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم، كما قال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار}. وفي الصحيحين: «لتَّتبعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كان يعبد الطواغيت الطواغيت» الحديث، وقال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تعملون}. وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يُجَاءَ بِالنَّبِيِّ إِذَا حَكَمَ اللَّهُ بَيْنَ أُمَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أن يكون شاهداً على أمته بأعمالها، كقوله تَعَالَى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بالنبيين والشهداء}. وقوله تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شهيدا}، ولكن المراد ههنا بِالْإِمَامِ هُوَ كِتَابُ الْأَعْمَالِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بيمينه فأولئك يقرأون كِتَابَهُمْ} أَيْ مِنْ فَرْحَتِهِ وَسُرُورِهِ بِمَا فِيهِ من العمل الصالح يقرؤه ويحب قراءته، كقوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتبه بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرأوا كتابيه} الآيات، وقوله تعالى: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} الْفَتِيلَ: هُوَ الْخَيْطُ الْمُسْتَطِيلُ فِي شِقِّ النَّوَاةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}، قَالَ: "يُدْعَى أَحَدُهُمْ فَيُعْطَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَيُمَدُّ لَهُ فِي جِسْمِهِ، وَيُبَيَّضُ وَجْهُهُ، وَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ من لؤلؤة يتلألأ، فَيَنْطَلِقُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَيَرَوْنَهُ مِنْ بَعِيدٍ فَيَقُولُونَ: اللهم أتنا بِهَذَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي هَذَا، فَيَأْتِيهِمْ فَيَقُولُ لَهُمْ: أَبْشِرُوا فَإِنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مِثْلَ هذا، وأما الكافرون فَيُسَوَّدُ وَجْهُهُ وَيُمَدُّ لَهُ فِي جِسْمِهِ، وَيَرَاهُ أَصْحَابُهُ فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ هَذَا أَوْ مِنْ شَرِّ هَذَا، اللَّهُمَّ لَا تَأْتِنَا بِهِ، فَيَأْتِيهِمْ فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ أَخْزِهِ، فَيَقُولُ: أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ فإن لكل رجل منكم مثل هذا" (أخرج الحافظ أبو بكر البزار). وقوله تعالى: {ومن كان في هذه أعمى} أي في الحياة الدنيا {أعمى} أي عن حجة الله وآياته وبينانه، {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} أَيْ كَذَلِكَ يَكُونُ {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} أَيْ وَأَضَلُّ مِنْهُ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.

- 73 - وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا - 74 - وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا - 75 - إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا يُخْبِرُ تعالى عن تأييده رسوله صلوات الله وسلامه عليه وَتَثْبِيتِهِ وَعِصْمَتِهِ وَسَلَامَتِهِ مِنْ شَرِّ الْأَشْرَارِ وَكَيْدِ الْفُجَّارِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّي أَمْرَهُ وَنَصْرَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَكِلُهُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، بل هو وليه وحافظه وناصره، وَمُظْهِرُ دِينَهُ عَلَى مَنْ عَادَاهُ وَخَالَفَهُ وَنَاوَأَهُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

- 76 - وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا - 77 - سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ رُّسُلِنَآ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حين أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا أَنَّكَ نَبِيٌّ فَالْحَقْ بِالشَّامِ، فَإِنَّ الشَّامَ أَرْضُ المحشر، وأرض الأنبياء، فَغَزَا غَزْوَةَ تَبُوكَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّامَ، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا} فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ: فِيهَا محياك ومماتك ومنها تبعث (أخرجه البيهقي عن عبد الله بن غنم، قال ابن كثير: وفي إسناده نَظَرٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزا تبوك عن أمر الله لا عن أمر اليهود). وقيل: نزلت في كفار مكة لما هموا بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ فَتَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ أَخْرَجُوهُ لَمَا لَبِثُوا بَعْدَهُ بِمَكَّةَ إِلَّا يَسِيرًا، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ هِجْرَتِهِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ أَذَاهُمْ لَهُ إِلَّا سَنَةٌ وَنِصْفٌ، حَتَّى جَمَعَهُمُ الله وإياه ببدر على مِيعَادٍ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُمْ وَسَلَّطَهُ عَلَيْهِمْ وَأَظْفَرَهُ بِهِمْ، فقتل أشرافهم وسبى ذراريهم، ولهذا قال تعالى: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا} الآية أَيْ هَكَذَا عَادَتُنَا فِي الَّذِينَ كَفَرُوا بِرُسُلِنَا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب، ولولا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رَسُولُ الرَّحْمَةِ لَجَاءَهُمْ مِنَ النِّقَمِ فِي الدُّنْيَا ما لا قبل لأحد به، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} الآية.

- 78 - أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا - 79 - وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً يقول تبارك وتعالى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمِرًا لَهُ بِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} قِيلَ: لِغُرُوبِهَا (قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ومجاهد وابن زيد)، وقال ابن عباس: دلوكها زوالها (رواه نافع عن ابن عمر، وبه قال الحسن والضحاك وقتادة وهو الأظهر)، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ دَخَلَ فِيهَا أوقات الصلوات الخمس، فَمِنْ قَوْلِهِ: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} وهو ظلامه؛ أُخِذَ مِنْهُ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعَشَاءُ، وَقَوْلُهُ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ؛ وَقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَاتُرًا مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ بِتَفَاصِيلَ هَذِهِ الأوقات على ما عليه أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ مِمَّا تَلَقَّوْهُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوَاضِعِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قَالَ: تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النهار، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَضْلُ صَلَاةِ الْجَمِيعِ عَلَى صَلَاةِ الْوَاحِدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً، وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صلاة الفجر». يقول أبي هريرة: اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (أخرجه البخاري في صحيحه). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قَالَ: «تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وملائكة النهار» (أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه).

وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ، مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَفِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَيَعْرُجُ بالذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم - وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ - كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وتركناهم وهم يصلون" (أخرجه البخاري ومسلم). وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَجْتَمِعُ الْحَرَسَانِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَيَصْعَدُ هَؤُلَاءِ وَيُقِيمُ هَؤُلَاءِ. وقوله تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} أَمْرٌ لَهُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ، كَمَا وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ؟ قال: «صلاة الليل» (أخرجه مسلم عن أبي هريرة)، وَلِهَذَا أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَاتِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّ التَّهَجُّدَ مَا كَانَ بَعْدَ نَوْمٍ (قَالَهُ عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ)، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يتهجد بعد نومه، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُوَ مَا كَانَ بَعْدَ العشاء، ويحمل على ما كان بعد النوم، واختلف في معنى قوله تعالى: {نَافِلَةً لَّكَ}، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّكَ مَخْصُوصٌ بِوُجُوبِ ذَلِكَ وَحْدَكَ، فَجَعَلُوا قِيَامَ اللَّيْلِ وَاجِبًا فِي حَقِّهِ دُونَ الْأُمَّةِ، رَوَاهُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: إِنَّمَا جُعِلَ قِيَامُ اللَّيْلَ فِي حَقِّهِ نَافِلَةً عَلَى الْخُصُوصِ، لِأَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَغَيْرُهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِنَّمَا يُكَفِّرُ عن صلواته النوافل الذنوب التي عليه. وقوله تَعَالَى: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} أَيْ افْعَلْ هَذَا الَّذِي أَمَرْتُكَ بِهِ لِنُقِيمَكَ يوم القيامة مقاماً محموداً، يحمدك فِيهِ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ، وَخَالِقُهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، ذَلِكَ هو المقام الذي يقومه مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلشَّفَاعَةِ لِلنَّاسِ، لِيُرِيحَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ عَظِيمِ مَا هُمْ فيه من شدة ذلك اليوم، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: يُجْمَعُ النَّاسُ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، حُفَاةً عُرَاةً كَمَا خُلِقُوا، قِيَامًا لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، يُنَادَى: يَا مُحَمَّدُ، فَيَقُولُ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، وَالْمَهْدِيُّ من هديت، وعبدك بين يديك ومنك وَإِلَيْكَ، لَا مَنْجَى وَلَا مَلْجَأَ مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ سُبْحَانَكَ رَبَّ الْبَيْتِ». فَهَذَا المقام المحمود ذكره الله عزَّ وجلَّ، وقال ابن عباس: المقام المحمود مقام الشفاعة، وكذا قال مجاهد والحسن الْبَصْرِيُّ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عنه الأرض يوم القيامة وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّهُ المقام المحمود. قُلْتُ: لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْرِيفَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، وَتَشْرِيفَاتٌ لَا يُسَاوِيهِ فِيهَا أَحَدٌ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَيُبْعَثُ رَاكِبًا إِلَى الْمَحْشَرِ، وَلَهُ اللِّوَاءُ الَّذِي آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ، وَلَهُ الْحَوْضُ الَّذِي لَيْسَ فِي الْمَوْقِفِ أَكْثَرُ وَارِدًا مِنْهُ، وَلَهُ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى عِنْدَ اللَّهِ لِيَأْتِيَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وذلك بعد ما يَسْأَلُ النَّاسُ آدَمَ ثُمَّ نُوحًا ثُمَّ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ عِيسَى، فَكَلٌّ يَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، حَتَّى يَأْتُوا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: «أَنَا لَهَا، أَنَا لَهَا»، كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إن شاء الله تعالى، ومن ذلك، أن يُشَفَّعُ فِي أَقْوَامٍ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ فَيُرَدُّونَ عَنْهَا، وَهُوَ أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ يُقْضَى بَيْنَ أُمَّتِهِ، وَأَوَّلُهُمْ إِجَازَةً عَلَى الصِّرَاطِ بِأُمَّتِهِ، وهو أول شفيع في الجنة، وَهُوَ أَوَّلُ دَاخِلٍ إِلَيْهَا وَأُمَّتُهُ قَبْلَ الْأُمَمِ كُلِّهِمْ، وَيُشَفَّعُ فِي رَفْعِ دَرَجَاتِ أَقْوَامٍ لَا تَبْلُغُهَا أَعْمَالُهُمْ، وَهُوَ صَاحِبُ الْوَسِيلَةِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى مَنْزِلَةٍ فِي الْجَنَّةِ لَا تَلِيقُ إِلَّا لَهُ، وَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الشَّفَاعَةِ للعصاة

شَفَّعَ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيُشَفَّعُ هُوَ فِي خلائق لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى، وَلَا يُشَفَّعُ أَحَدٌ مِثْلَهُ وَلَا يُسَاوِيهِ فِي ذلك. ولنذكر الآن الأحاديث الواردة في المقام المحود وبالله المستعان. روى البخاري، عن ابن عمر قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثاء، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ، يَا فُلَانُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ الله مقاماً محموداً. وفي رواية: "إِنَّ الشَّمْسَ لَتَدْنُو حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الْأُذُنِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ، فَيَقُولُ: لست بصاحب ذَلِكَ، ثُمَّ بِمُوسَى فَيَقُولُ كَذَلِكَ، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَشْفَعُ بَيْنَ الْخَلْقِ، فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ، فيومئذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا، يحمده أهل الجمع كلهم. وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شفاعتي يوم القيامة" (أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله) وعن أُبي بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَنْتُ إِمَامَ الْأَنْبِيَاءِ وَخَطِيبَهُمْ وَصَاحِبَ شَفَاعَتِهِمْ غَيْرَ فخر» (أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي بن كعب). حديث أنَس بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فيلهمون ذلك، فيقولون: لو شفعنا إِلَى رَبِّنَا فَأَرَاحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وعلَّمك أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا. فَيَقُولُ لَهُمْ آدَمُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ ذَنْبَهُ الَّذِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ عزَّ وجلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: ولكن ائتوا انوحاً فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَةَ سُؤَالَهُ رَبَّهُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، فيستحيي ربه من ذلك، ويقول: ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتوه، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمُ النَّفْسَ الَّتِي قَتَلَ بغير نفس، فيستحيي ربه من ذلك، ويقول: ولكن ائتوا عيسى، عبد الله وَكَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ولكن اتئوا محمداً غفر الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِي - قَالَ الْحَسَنُ هَذَا الْحَرْفُ - فَأَقُومُ فَأَمْشِي بَيْنَ سِمَاطَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ أنَس: حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ - أو خررت - ساجداً لربي، فيدعني مَا يَشَآءُ إِنَّ يَدَعَنِي، قَالَ، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قل تسمع، واشفَع تَشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعْلِمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثانيه، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ - أَوْ خَرَرْتُ - سَاجِدًا لِرَبِّي فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعْلِمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثم أعود الثَّالِثَةِ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ - أَوْ خَرَرْتُ - سَاجِدًا لِرَبِّي، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ، وسل تعطيه، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعْلِمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثم أعود الرابعة فقال: يَا رَبِّ مَا بَقِيَ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ". فَحَدَّثَنَا أنَس بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيْرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إله

إلا الله، وكان في قلبه مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً» (أخرجاه في الصحيحين ورواه أحمد واللفظ له). (الثاني) حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ، وَيَكْسُونِي رَبِّي عزَّ وجلَّ حُلَّةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي، فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أقول، فذلك المقام المحمود» (أخرجه الإمام أحمد عن كعب بن مالك). (الثالث) حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِالسُّجُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، فَأَنْظُرُ إِلَى مَا بَيْنَ يَدِي فَأَعْرِفُ أُمَّتِي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ، وَمِنْ خَلْفِي مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ يَمِينِي مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ شِمَالِي مِثْلَ ذَلِكَ»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَعْرِفُ أُمتك مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ إِلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ: «هُمْ غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، لَيْسَ أَحَدٌ كَذَلِكَ غَيْرُهُمْ، وَأَعْرِفُهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وأعرفهم تسعى من بين أيديهم ذريتهم» (أخرجه أحمد أيضاً عن أبي الدرداء). (الرابع) حديث أبي هريرة رضي الله عنه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلحم فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثُمَّ قَالَ: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ ممَّ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه مما قَدْ بَلَغَكُمْ، أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم عليه السلام، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قد نهاني عن الشجرة فعصيت، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ نُوحٌ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله قط، وإنه قد كان لي دعوة دعوتها عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ؛ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، فَذَكَرَ كَذِبَاتِهِ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى؛ فيأتون موسى عليه السلام فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مثله، وإني قد قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا،

نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى؛ فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ منه، وكلمت الناس فِي المهد صبيا، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إلى محمداً صلى الله عليه وسلم؛ فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ الأنبياء، وقد غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَقُومُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عزَّ وجلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، فَيُقَالُ: يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه، واشفه تشفع، فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، أمتي يا رب؟ فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك مِنَ الْأَبْوَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ المصراعين مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ، أو كما بين مكة وبصرى" (أخرجه البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة مرفوعاً). وفي صحيح مسلم رحمه اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وأول من ينشق عنه القبر يوم القيامة، وأول شافع وأول مشفع». وعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} قَالَ: «هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أَشْفَعُ لِأُمَّتِي فِيهِ». وفي الحديث: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَدَّ اللَّهُ الْأَرْضَ مَدَّ الْأَدِيمِ، حَتَّى لَا يَكُونَ لِبَشَرٍ مِنَ الناس إلاّ موضع قدميه - قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُدْعَى وَجِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ تبارك وتعالى - والله ما رآه قبلها - فأقول: أي رَبِّ إِنَّ هَذَا أَخْبَرَنِي أَنَّكَ أَرْسَلْتَهُ إِلَيَّ، فَيَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ صَدَقَ، ثُمَّ أُشَفَّعُ فَأَقُولُ يَا رَبِّ عِبَادُكَ عَبَدُوكَ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ، قَالَ فَهُوَ الْمَقَامُ المحمود" (أخرجه عبد الرزاق وهو حديث مرسل).

- 80 - وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا - 81 - وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً}، وقال الحسن البصري: إِنَّ كُفَّارَ أَهْلِ مَكَّةَ لَمَّا ائْتَمَرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقْتُلُوهُ أَوْ يطروده أو يوثقوه، فأراد الله قتال أهل مكة، أمره أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} الآية. وقال قتادة: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} يَعْنِي الْمَدِينَةَ {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} يَعْنِي مَكَّةَ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن زيد، وهذا القول هو أشهر الأقوال، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَوْلُهُ: {وَاجْعَلْ لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَعَدَهُ رَبُّهُ لَيَنْزَعَنَّ مُلْكَ فَارِسَ وَعِزَّ فَارِسَ، وَلَيَجْعَلَنَّهُ لَهُ، وَمُلْكَ الرُّومِ وَعِزَّ الرُّومِ وَلَيَجْعَلَنَّهُ له. وقال قتادة: أن نبي

الله صلى الله عليه وسلم علم أن لا طَاقَةَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَّا بِسُلْطَانٍ، فَسَأَلَ سُلْطَانًا نَصِيرًا لِكِتَابِ اللَّهِ، وَلِحُدُودِ اللَّهِ، وَلِفَرَائِضِ اللَّهِ، وَلِإِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ السُّلْطَانَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ، جَعَلَهُ بَيْنَ أَظْهُرِ عِبَادِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَغَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَأَكَلَ شَدِيدُهُمْ ضَعِيفَهُمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: {سُلْطَاناً نَّصِيراً} حُجَّةً بَيِّنَةً، واختار ابن جرير الأول، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ الْحَقِّ مِنْ قَهْرٍ، لمن عاداه ناوأه، ولهذا يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات - إلى قوله - وَأَنزَلْنَا الحديد} الآية. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ». أَيْ لَيَمْنَعُ بِالسُّلْطَانِ عَنِ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْآثَامِ مَا لَا يَمْتَنِعُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الْأَكِيدِ وَالتَّهْدِيدِ الشَّدِيدِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَقَوْلُهُ: {وَقُلْ جَآءَ الحق وزهق الباطل} تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ، وَهُوَ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَزَهَقَ بَاطِلُهُمْ: أَيِ اضْمَحَلَّ وَهَلَكَ، فَإِنَّ الْبَاطِلَ لَا ثَبَاتَ لَهُ مَعَ الْحَقِّ وَلَا بَقَاءَ {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَحَوْلَ البيت ستون وثلثمائة نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: «جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا، جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ» (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي). وقال الحافظ أبو يعلى، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنماً تُعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأكبت على وجوهها، وَقَالَ: «جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زهوقاً».

- 82 - وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّهُ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ يُذْهِبُ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ أَمْرَاضٍ مِنْ شَكٍّ وَنِفَاقٍ، وشرك وزيع وَمَيْلٍ، فَالْقُرْآنُ يَشْفِي مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَهُوَ أَيْضًا رَحْمَةٌ، يَحْصُلُ فِيهَا الْإِيمَانُ وَالْحِكْمَةُ وَطَلَبُ الْخَيْرِ وَالرَّغْبَةُ فِيهِ، وَلَيْسَ هَذَا إِلَّا لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، وَاتَّبَعَهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ شِفَاءً فِي حَقِّهِ وَرَحْمَةً، وَأَمَّا الْكَافِرُ الظَّالِمُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ؛ فَلَا يَزِيدُهُ سَمَاعُهُ الْقُرْآنَ إِلَّا بُعْدًا وَكُفْرًا، وَالْآفَةُ مِنَ الْكَافِرِ لَا مِنَ الْقُرْآنِ، كقوله تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ}. وقال تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ}، قال قتادة: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ورعاه {وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً}: أي لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا يَحْفَظُهُ وَلَا يَعِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ هَذَا الْقُرْآنَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ.

- 83 - وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر كان يؤوسا - 84 - قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نَقْصِ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ الله تعالى في حالتي السراء والضراء، فإنه إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَالٍ وَعَافِيَةٍ وَفَتْحٍ وَرِزْقٍ وَنَصْرٍ، وَنَالَ مَا يُرِيدُ، أَعْرَضَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَنَأَى بِجَانِبِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ:

بَعُد عنا، وهذا كقوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أعرضتم}، وَبِأَنَّهُ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ وَهُوَ الْمَصَائِبُ وَالْحَوَادِثُ والنوائب {كَانَ يؤوسا} أَيْ قَنَطَ أَنْ يَعُودَ، يَحْصُلُ لَهُ بَعْدَ ذلك خير، كقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا منه إنه ليؤس كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ، لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى نَاحِيَتِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى حِدَّتِهِ وَطَبِيعَتِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: عَلَى نِيَّتِهِ، وقال ابن زيد: على دِينِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَهَذِهِ الْآيَةُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَوَعِيدٌ لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} الآية. وَلِهَذَا قَالَ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} أَيْ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَسَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، فَإِنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.

- 85 - وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عنه، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ فِي الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُتَوَكِّئٌ عَلَى عسيب، فمر يقوم مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الروح، وقال بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ، قَالَ: فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا الرُّوحُ؟ فَمَا زَالَ مُتَوَكِّئًا عَلَى الْعَسِيبِ، قَالَ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} قال، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَدْ قُلْنَا لَكُمْ لَا تسألوه (أخرجه البخاري ورواه أحمد واللفظ له عن عبد الله بن مسعود). وهذا السياق يقتضي أن هذه الآية مدنية، وأنها نَزَلَتْ حِينَ سَأَلَهُ الْيَهُودُ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ، مَعَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَقَدْ يُجَابُ عن هذا بأنه قد تكون نَزَلَتْ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً، كَمَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ نَزَلَ عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بِالْآيَةِ الْمُتَقَدَّمِ إِنْزَالُهَا عَلَيْهِ، وَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَكَّةَ، مَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِيَهُودَ: أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ عَنْهُ هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالُوا سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَسَأَلُوهُ فَنَزَلَتْ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} قَالُوا: أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا، أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَمَنْ أُوتِيَ التَّوْرَاةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، قَالَ، وَأَنَزْلَ اللَّهُ: {قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر} الآية. وقد روى ابن جرير عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّوحِ، فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} الآية، فقالوا: تزعم أَنَّا لَمْ نُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وَقَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ وَهِيَ الْحِكْمَةُ {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}. قال: فنزلت: {ولو أن ما فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} الآية. وقال محمد بن إسحاق، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَتَاهُ أَحْبَارُ يَهُودَ، وَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! أَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْكَ أَنَّكَ تَقُولُ {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} أَفَعَنَيْتَنَا أَمْ عنيت قومك؟ فقال: «كلاً قد عنيت»، فقالوا: إِنَّكَ تَتْلُو أَنَّا أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَفِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم». وأنزل الله: {ولو أن ما فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}،

وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح ههنا على أقوال: (أحدها) أن المراد أرواح بني آدم، عن ابن عباس أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرْنَا عَنِ الرُّوحِ وَكَيْفَ تَعَذَّبُ الرُّوحُ التي في الجسد؟ ولم يكن نزل عليه فيه شيء، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. فَأَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك. فقالوا: من جاءك بهذا؟ قال: «جَاءَنِي بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ»، فَقَالُوا له: والله ما قاله لك إلاّ عدونا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قلبك مصدقا بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}، وقيل: المراد بالروم ههنا جبريل، قاله قتادة، وقيل: المراد به ههنا، ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها. وقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}: أَيْ مِنْ شَأْنِهِ، وَمِمَّا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ دُونَكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} أَيْ وَمَا أَطْلَعَكُمْ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ عَلَى الْقَلِيلِ، فَإِنَّهُ لَا يُحِيطَ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ عِلْمَكُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، وَهَذَا الَّذِي تَسْأَلُونَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الرُّوحِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ تَعَالَى وَلَمْ يُطْلِعْكُمْ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُطْلِعْكُمْ إِلَّا عَلَى الْقَلِيلِ مِنْ عِلْمِهِ تَعَالَى. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي قِصَّةِ موسى والخضر، أن الخضر قال: يَا مُوسَى مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ وَعِلْمُ الْخَلَائِقِ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا العصفور من هذا البحر، ولهذا قال تعالى: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ، قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَمْ يُجِبْهُمْ عَمَّا سألوا لأنهم سألوا من وجه التعنت، وقيل أجابهم، ثُمَّ ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ: الْخِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الرُّوحَ هِيَ النَّفْسُ أَوْ غَيْرُهَا، وَقَرَّرَ: أَنَّهَا ذَاتٌ لَطِيفَةٌ كَالْهَوَاءِ سَارِيَةٌ فِي الْجَسَدِ كسريان الماء في عروق الشجر، وحاصل القول: أن الروح هي أَصْلُ النَّفْسِ وَمَادَّتُهَا، وَالنَّفْسُ مُرَكَّبَةٌ مِنْهَا وَمِنَ اتِّصَالِهَا بِالْبَدَنِ، فَهِيَ هِيَ مَنْ وَجْهٍ، لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ، وَاللَّهُ أعلم.

- 86 - وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا - 87 - إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا - 88 - قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا - 89 - وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا يَذْكُرُ تَعَالَى نِعْمَتَهُ وَفَضْلَهُ الْعَظِيمَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ الكريم صلى الله عليه وسلم، فِيمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الَّذِي لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، ثُمَّ نبَّه تَعَالَى عَلَى شَرَفِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ كُلُّهُمْ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ لَمَا أَطَاقُوا ذَلِكَ وَلَمَا اسْتَطَاعُوهُ، وَلَوْ تَعَاوَنُوا وَتَسَاعَدُوا وَتَظَافَرُوا فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُسْتَطَاعُ، وَكَيْفَ يُشْبِهُ كَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ كَلَامَ الْخَالِقِ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا مثال ولا عديل؟ وقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ} الآية، أَيْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْحُجَجَ، وَالْبَرَاهِينَ الْقَاطِعَةَ، ووضَّحنا لَهُمُ الْحَقَّ وَشَرَحْنَاهُ وَبَسَطْنَاهُ، وَمَعَ هَذَا {فَأَبَى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً} أي جحوداً للحق، ورداً للصواب.

- 90 - وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا - 91 - أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا - 92 - أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً - 93 - أَوْ يَكُونَ لَكَ

بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بشرا رسولا قال ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ ربيعة، وأبا سفيان ابن حرب، وأبا البختري، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خلف، والعاص بن وائل، اجتمعوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ابْعَثُوا إِلَى مُحَمَّدٍ فَكَلِّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ حَتَّى تُعْذَرُوا فِيهِ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ أَنَّ أَشْرَافَ قَوْمِكَ قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ لِيُكَلِّمُوكَ، فَجَاءَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُمْ فِي أَمْرِهِ بَدَاءٌ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَرِيصًا يُحِبُّ رُشْدَهُمْ وَيَعِزُّ عَلَيْهِ عَنَتُهُمْ، حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا قَدْ بَعَثْنَا إِلَيْكَ لِنُعْذَرَ فِيكَ، وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ أَدْخَلَ عَلَى قَوْمِهِ مَا أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ، لَقَدْ شَتَمْتَ الْآبَاءَ، وَعِبْتَ الدِّينَ، وَسَفَّهْتَ الْأَحْلَامَ، وَشَتَمْتَ الْآلِهَةَ، وَفَرَّقْتَ الْجَمَاعَةَ، فَمَا بَقِيَ من قَبِيحٍ إِلَّا وَقَدْ جِئْتَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ بِهِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالَنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تَطْلُبُ الشَّرَفَ فِينَا سوَّدناك عَلَيْنَا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ بِمَا يَأْتِيكَ رِئياً تَرَاهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْكَ - وَكَانُوا يُسَمُّونَ التَّابِعَ مِنَ الْجِنِّ الرِّئْيَ - فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ، بَذَلْنَا أَمْوَالَنَا فِي طَلَبِ الطِّبِّ حَتَّى نُبَرِّئَكَ مِنْهُ أَوْ نُعْذَرَ فِيكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بِي مَا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا الشَّرَفَ فِيكُمْ، ولا الملك عليكم، ولكن الله بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يحكم الله بيني وبينكم». فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ فَإِنْ كُنْتَ غَيْرَ قَابِلٍ مِنَّا مَا عَرَضْنَا عَلَيْكَ، فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَضْيَقَ مِنَّا بِلَادًا، وَلَا أَقَلَّ مَالًا، وَلَا أَشَدَّ عَيْشًا مِنَّا، فَاسْأَلْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ بِمَا بَعَثَكَ بِهِ، فَلْيُسَيِّرْ عَنَّا هَذِهِ الْجِبَالَ الَّتِي قَدْ ضَيَّقَتْ عَلَيْنَا، وَلْيَبْسُطْ لَنَا بِلَادَنَا، وَلْيُفَجِّرْ فِيهَا أنهاراً كأنهار الشام والعراق، ويبعث لَنَا مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِنَا، وَلْيَكُنْ فِيمَنْ يبعث لنا، منهم (قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ) فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخًا صَدُوقًا، فَنَسْأَلُهُمْ عَمَّا تَقُولُ حَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ؟ فَإِنْ صَنَعْتَ مَا سَأَلْنَاكَ وَصَدَّقُوكَ صَدَّقْنَاكَ وَعَرَفْنَا به مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ بَعَثَكَ رَسُولًا، كَمَا تَقُولُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بِهَذَا بُعِثْتُ، إِنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ، فَقَدْ بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فَإِنْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ». قَالُوا: فَإِنْ لَمْ تفعل لنا هذا فخذ لنفسك فسل رَبَّكَ أَنْ يَبْعَثَ مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِمَا تَقُولُ ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لك جنات وَكُنُوزًا وَقُصُورًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَيُغْنِيَكَ بِهَا عَمَّا نَرَاكَ تَبْتَغِي، فَإِنَّكَ تَقُومُ بِالْأَسْوَاقِ وَتَلْتَمِسُ المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف مَنْزِلَتِكَ مِنْ رَبِّكَ إِنْ كُنْتَ رَسُولًا كَمَا تَزْعُمُ! فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، مَا أَنَا بِالَّذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ هَذَا، وَمَا بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ بِهَذَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَإِنْ تَقْبَلُوا مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ». قَالُوا: فَأَسْقِطِ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ أَنَّ رَبَّكَ إِنْ شَاءَ فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلَ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إن شاء فعل بك ذَلِكَ»، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! أَمَا عَلِمَ رَبُّكَ أَنَّا سَنَجْلِسُ مَعَكَ،

وَنَسْأَلُكَ عَمَّا سَأَلْنَاكَ عَنْهُ، وَنَطْلُبُ مِنْكَ مَا نَطْلُبُ، فَيُقَدِّمَ إِلَيْكَ وَيُعَلِّمَكَ مَا تُرَاجِعُنَا بِهِ، وَيُخْبِرَكَ مَا هُوَ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ بِنَا إِذَا لَمْ نَقْبَلْ مِنْكَ مَا جِئْتَنَا بِهِ، فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ إِنَّمَا يُعَلِّمُكَ هَذَا رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهُ الرَّحْمَنُ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِالرَّحْمَنِ أَبَدًا، فَقَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، أَمَا وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ وَمَا فَعَلْتَ بنا حتى نهلكك أو تهلكنا. فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ، وَقَامَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمِّيَّةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَهُوَ ابن عمته عاتكة بنة عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عَرَضَ عَلَيْكَ قَوْمُكَ مَا عَرَضُوا فَلَمْ تَقْبَلْهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ لِأَنْفُسِهِمْ أُمُورًا لِيَعْرِفُوا بِهَا مَنْزِلَتَكَ مِنَ اللَّهِ فَلَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أَنْ تُعَجِّلَ لَهُمْ مَا تُخَوِّفُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، فَوَاللَّهِ لَا أُؤْمِنُ بِكَ أَبَدًا حَتَّى تَتَّخِذَ إِلَى السَّمَاءِ سُلَّمًا ثُمَّ تَرْقَى فِيهِ وَأَنَا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بصحيفة منشورة، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أَنَّكَ كَمَا تَقُولُ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَظَنَنْتُ أَنِّي لَا أُصَدِّقُكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِهِ حَزِينًا أَسِفًا، لِمَا فَاتَهُ مِمَّا كَانَ طَمَعَ فِيهِ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ دَعَوْهُ ولما رأى من مباعدتهم إياه (أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما). وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ ذَلِكَ اسْتِرْشَادًا لَأُجِيبُوا إِلَيْهِ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَطْلُبُونَ ذلك كفراً وعناداً، فقيل لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ شِئْتَ أَعْطَيْنَاهُمْ مَا سَأَلُوا، فَإِنْ كَفَرُوا عَذَّبْتُهُمْ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ عَلَيْهِمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَقَالَ: «بل تقتح عليهم باب التوبة والرحمة». وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} الْيَنْبُوعُ: الْعَيْنُ الْجَارِيَةُ، سَأَلُوهُ أَنْ يُجْرِيَ لهم عيناً معيناً في أرض الحجاز ههنا وههنا، وذلك سهل على الله تعالى يسير لَوْ شَاءَ لَفَعَلَهُ وَلَأَجَابَهُمْ إِلَى جَمِيعِ مَا سَأَلُوا وَطَلَبُوا، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم}. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ} أي أنك وعدتنا يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَنْشَقُّ فِيهِ السَّمَاءُ وَتَهِي وَتَدَلَّى أطرافها فعجّلْ ذلك في الدينا، وأسقطها كسفاً أي قطعاً، كذلك سألو قوم شعيب فَقَالُوا: {أَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين}، فعاقبهم الله بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وأما نبي الرحمة المبعوث رحمة للعالمين فسأل إنظارهم وتأجليهم، لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده ولا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ وَقَعَ، فَإِنَّ مَن هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذُكِرُوا مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ حَتَّى (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ) الَّذِي تَبِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ مَا قَالَ، أَسْلَمَ إِسْلَامًا وأناب إلى الله عزَّ وجلَّ، وقوله تعالى: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ}. قَالَ ابن عباس ومجاهد: هو الذهب، أي يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ، {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} أَيْ تَصْعَدُ فِي سُلَّمٍ، وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَيْكَ، {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ}، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ مَكْتُوبٌ فيه، إلى كل وَاحِدٍ صَحِيفَةٌ، هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ تُصْبِحُ مَوْضُوعَةً عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} أَيْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ، أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ سُلْطَانِهِ وَمَلَكُوتِهِ، بَلْ هُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يشاء، وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ رَسُولٌ إِلَيْكُمْ أُبْلِغُكُمْ رِسَالَاتِ ربي، وأنصح لكم، وَأَمْرُكُمْ فِيمَا سَأَلْتُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وعن أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "عرض على رَبِّي عزَّ وجلَّ لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ

ذَهَبًا، فَقُلْتُ: لَا يَا رَبِّ وَلَكِنْ أَشْبَعُ يوماً وأجوع يوماً - أو نحو ذلك - فإن جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وشكرتك" (رواه أحمد والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن).

- 94 - وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً - 95 - قُل لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَآ مَنَعَ النَّاسَ} أَيْ أَكْثَرَهُمْ، {أَن يُؤْمِنُوا} وَيُتَابِعُوا الرُّسُلَ، إِلَّا اسْتِعْجَابُهُمْ من بعثة الْبَشَرَ رُسُلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ}؟ وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أبشرا يهدوننا} الآية. وَقَالَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عابدون}؟ وَكَذَلِكَ قَالَتِ الْأُمَمِ لِرُسُلِهِمْ: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مبين}، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، إِنَّهُ يَبْعَثُ إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ مِنْ جِنْسِهِمْ، لِيَفْقَهُوا عَنْهُ وَيَفْهَمُوا مِنْهُ، لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْ مُخَاطَبَتِهِ وَمُكَالَمَتِهِ، وَلَوْ بَعَثَ إِلَى الْبَشَرِ رَسُولًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمَا اسْتَطَاعُوا مُوَاجَهَتَهُ، وَلَا الْأَخْذَ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تكونوا تعلمون}، ولهذا قال ههنا: {قُل لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} أَيْ كَمَا أَنْتُمْ فِيهَا {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً} أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَلَمَّا كُنْتُمْ أَنْتُمْ بَشَرًا بَعَثْنَا فِيكُمْ رُسُلَنَا مِنْكُمْ لُطْفًا وَرَحْمَةً.

- 96 - قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا يَقُولُ تَعَالَى مُرْشِدًا نبيّه صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحُجَّةِ عَلَى قَوْمِهِ، فِي صِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ أَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ، عَالِمٌ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، فَلَوْ كُنْتُ كَاذِبًا عَلَيْهِ لانتقم مِنِّي أَشَدَّ الِانْتِقَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين}. وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}: أَيْ عليماً بهم، بمن يستحق الإنعام والإحسان والهداية، من يَسْتَحِقُّ الشَّقَاءَ وَالْإِضْلَالَ وَالْإِزَاغَةَ، وَلِهَذَا قَالَ:

- 97 - وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَصَرُّفِهِ فِي خَلْقِهِ وَنُفُوذِ حُكْمِهِ، وَأَنَّهُ لَا مُعَقِّبَ لَهُ بِأَنَّهُ مَنْ يَهْدِهِ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ، أَيْ يَهْدُونَهُمْ، كَمَا قَالَ: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِدًا}، وقوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ}، عن أنَس بن مالك: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ

النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قَالَ: «الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ» (أخرجه الشيخان والإمام أحمد). وعن حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ قَالَ، قَامَ أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ: يَا بَنِي غِفَارٍ قُولُوا وَلَا تَحْلِفُوا فَإِنَّ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ حَدَّثَنِي: أَنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَفْوَاجٍ، فَوْجٍ رَاكِبِينَ طَاعِمِينَ كَاسِينَ، وَفَوْجٍ يَمْشُونَ وَيَسْعَوْنَ، وَفَوْجٍ تَسْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى وجوههم وتحشرهم إلى النار (أخرجه الإمام أحمد). وَقَوْلُهُ {عُمْياً} أَيْ لَا يُبْصِرُونَ {وَبُكْماً} يَعْنِي لَا يَنْطِقُونَ {وَصُمّاً} لَا يَسْمَعُونَ، وَهَذَا يَكُونُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، جَزَاءً لَهُمْ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا، بُكْمًا وَعُمْيًا وَصُمًّا عَنِ الْحَقِّ، فَجُوزُوا فِي مَحْشَرِهِمْ بِذَلِكَ أَحْوَجَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، {مَّأْوَاهُمْ} أَيْ مُنْقَلِبُهُمْ وَمَصِيرُهُمْ {جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَكَنَتْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: طَفِئَتْ {زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} أَيْ لَهَبًا وَوَهَجًا وَجَمْرًا، كَمَا قَالَ: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عذابا}.

- 98 - ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً - 99 - أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا يَقُولُ تَعَالَى هَذَا الَّذِي جَازَيْنَاهُمْ بِهِ مِنَ الْبَعْثِ عَلَى الْعَمَى وَالْبُكْمِ وَالصَّمَمِ جَزَاؤُهُمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ، لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا {بِآيَاتِنَا} أَيْ بأدلتنا وحجتنا، وَاسْتَبْعَدُوا وُقُوعَ الْبَعْثِ، {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً}، أي بَالِيَةً نَخِرَةً {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} أَيْ بَعْدَ مَا صِرْنَا إِلَى مَا صِرْنَا إِلَيْهِ، مِنَ الْبِلَى وَالْهَلَاكِ، وَالتَّفَرُّقِ وَالذَّهَابِ فِي الْأَرْضِ، نُعَادُ مَرَّةً ثَانِيَةً؟ فَاحْتَجَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَقُدْرَتُهُ عَلَى إِعَادَتِهِمْ أَسْهَلُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}، وَقَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يحيي الموتى} الآية، وقال: {أو ليس الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى وَهُوَ الخلاق العليم، وقال ههنا: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعِيدُ أَبْدَانَهُمْ وَيُنَشِّئُهُمْ نَشْأَةً أُخْرَى، كَمَا بَدَأَهُمْ، وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لَا رَيْبَ فِيهِ} أَيْ جَعَلَ لِإِعَادَتِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَجَلًا مَضْرُوبًا وَمُدَّةً مُقَدَّرَةً لَا بُدَّ مِنَ انْقِضَائِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ معدود}، وَقَوْلُهُ: {فَأَبَى الظَّالِمُونَ} أَيْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ {إِلاَّ كُفُوراً}: إِلَّا تَمَادِيًا فِي بَاطِلِهِمْ وضلالهم.

- 100 - قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُوراً يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: لَوْ أَنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِي خَزَائِنِ اللَّهِ، لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق، قال ابن عباس: أَيِ الْفَقْرِ، أَيْ خَشْيَةَ أَنْ تُذْهبوها، مَعَ أَنَّهَا لَا تَفْرَغُ وَلَا تَنْفَدُ أَبَدًا؛ -[403]- لِأَنَّ هَذَا مِنْ طِبَاعِكُمْ وَسَجَايَاكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُوراً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: أَيْ بَخِيلًا مَنُوعًا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} أَيْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ نَصِيبًا فِي مُلْكِ اللَّهِ لَمَا أَعْطَوْا أَحَدًا شَيْئًا، وَلَا مِقْدَارَ نَقِيرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَصِفُ الْإِنْسَانَ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَهَدَاهُ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجَزَعَ وَالْهَلَعَ صِفَةٌ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ} وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، وَيَدُلُّ هَذَا عَلَى كَرَمِهِ وَجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ؟».

- 101 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إني لأظنك يا موسى مَسْحُورًا - 102 - قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا - 103 - فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً - 104 - وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ مُوسَى بِتِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَهِيَ الدَّلَائِلُ الْقَاطِعَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ، فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَهِيَ «الْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالسِّنِينَ، وَالْبَحْرُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، والقُمّل، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ» آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هِيَ الْيَدُ وَالْعَصَا والخمس في الأعراف والطمس والحجر، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد: (هِيَ يَدُهُ، وَعَصَاهُ، وَالسِّنِينَ، وَنَقْصُ الثَّمَرَاتِ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، والقُمّل، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ)، وَهَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ حَسَنٌ قَوِيٌّ، وَجَعَلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: السِّنِينَ وَنَقْصَ الثَّمَرَاتِ وَاحِدَةً؛ وَعِنْدَهُ أَنَّ التَّاسِعَةَ هِيَ تلقف العصا ما يأفكون، {فاسكتبروا وكانوا قوما مجرمين} أَيْ وَمَعَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمُشَاهَدَتِهِمْ لَهَا كَفَرُوا بِهَا وَجَحَدُواْ بِهَا، وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً وَمَا نَجَعَتْ فِيهِمْ؛ فَكَذَلِكَ لَوْ أَجَبْنَا هَؤُلَاءِ الذي سألوا منك ما سَأَلُوا وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض ينبوعاً إِلَى آخِرِهَا، لَمَا اسْتَجَابُوا وَلَا آمَنُوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ، كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى - وَقَدْ شَاهَدَ مِنْهُ مَا شَاهَدَ مِنْ هَذِهِ الآيات - {إني لأظنك يا موسى مَسْحُوراً} قِيلَ: بِمَعْنَى سَاحِرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ التِّسْعُ الَّتِي ذَكَرَهَا هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ هي المرادة ههنا، وَهِيَ الْمَعْنِيَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تخف - إلى قوله فِي تِسْعِ آيَاتٍ - إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ}، فَذَكَرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْعَصَا وَالْيَدَ، وبيَّن الْآيَاتِ الْبَاقِيَاتِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفَصَّلَهَا، وَقَدْ أُوتِيَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ آيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً: مِنْهَا ضربه الحجر بالعصا، وخروج الماء مِنْهُ، وَمِنْهَا تَظْلِيلُهُمْ بِالْغَمَامِ، وَإِنْزَالُ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وغير ذلك مما أوتيه بَنُو إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِمْ بِلَادَ مِصْرَ، وَلَكِنْ ذكر ههنا التِّسْعَ الْآيَاتِ الَّتِي شَاهَدَهَا فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنْ أهل مصر، فكانت حجة عليهم، فخالفوها وعاندوها كفراً وجحوداً. وَلِهَذَا قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَآئِرَ} أَيْ حُجَجًا وَأَدِلَّةً

عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتُكَ بِهِ، {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فرعون مَثْبُوراً} أَيْ هَالِكًا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَقَالَ ابن عباس: ملعوناً، وقال الضحّاك {مَثْبُوراً}: أي مغلوباً (وهو قول لابن عباس أيضاً)، وَالْهَالِكُ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ، يَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ. ويدل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتِّسْعِ الْآيَاتِ إِنَّمَا هِيَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْعَصَا وَالْيَدِ وَالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَالطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ والقُمّل وَالضَّفَادِعِ وَالدَّمِ، الَّتِي فِيهَا حُجَجٌ وَبَرَاهِينُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَخَوَارِقُ وَدَلَائِلُ عَلَى صِدْقِ مُوسَى وَوُجُودِ الفاعل المختار الذي أرسله، وَقَوْلُهُ: {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الْأَرْضِ} أَيْ يُخْلِيَهُمْ مِنْهَا وَيُزِيلَهُمْ عَنْهَا {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ}، وَفِي هَذَا بِشَارَةٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَتْحِ مَكَّةَ مَعَ أَنَّ السُّورَةَ مكية، نَزَلَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَكَذَلِكَ وَقَعَ فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ منها} الآيتين، وَلِهَذَا أَوْرَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مَكَّةَ فَدَخَلَهَا عَنْوَةً وَقَهَرَ أَهْلَهَا ثُمَّ أَطْلَقَهُمْ حِلْمًا وَكَرَمًا، كَمَا أَوْرَثَ اللَّهُ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَأَوْرَثَهُمْ بِلَادَ فِرْعَوْنَ وَأَمْوَالَهُمْ وَزُرُوعَهُمْ وَثِمَارَهُمْ وَكُنُوزَهُمْ، كَمَا قَالَ: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إسرائيل، وقال ههنا: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} أَيْ جَمِيعُكُمْ أَنْتُمْ وَعَدُوُّكُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَفِيفاً} أي جميعاً (وهو قول مجاهد وقتادة والضحّاك).

- 105 - وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - 106 - وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، أَنَّهُ بِالْحَقِّ نَزَلَ، أَيْ مُتَضَمِّنًا لِلْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ} أَيْ مُتَضَمِّنًا عِلْمَ اللَّهِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يطلعكم عليه من أحكامه ونهيه، وقوله تعالى: {وبالحق نَزَلَ} أي ونزل إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مَحْفُوظًا مَحْرُوسًا، لَمْ يُشَبْ بِغَيْرِهِ وَلَا زِيدَ فِيهِ، وَلَا نَقُصَ مِنْهُ، بَلْ وَصَلَ إِلَيْكَ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِهِ شديد الْقَوِيُّ، الْأَمِينُ الْمَكِينُ الْمُطَاعُ فِي الْمَلَإِ الْأَعْلَى، وَقَوْلُهُ: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ} أَيْ يَا مُحَمَّدُ {إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} مُبَشِّرًا لِمَنْ أَطَاعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَذِيرًا لِمَنْ عصاك من الكافرين، وقوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} بالتخفيف، ومعناه فَصَّلْنَاهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا في ثلاث وعشرين سنة، قاله ابن عباس، وعن ابن عباس {فرَّقناه} بِالتَّشْدِيدِ أَيْ أَنْزَلْنَاهُ آيَةً آيَةً مُبَيَّنًا مُفَسَّرًا، وَلِهَذَا قَالَ: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ} أَيْ لِتُبَلِّغَهُ النَّاسَ وَتَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ {عَلَى مُكْثٍ} أَيْ مهل {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ.

- 107 - قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً - 108 - وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا - 109 - وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا

يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ {آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا} أَيْ سَوَاءٌ آمَنْتُمْ بِهِ أَمْ لَا، فَهُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ أنزله الله، ونّوه بذكره فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رُسُلِهِ، وَلِهَذَا قَالَ {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ} أَيْ من صالحي أهل الكتاب الذين تمسكوا بكتابهم وَلَمْ يُبَدِّلُوهُ وَلَا حَرَّفُوهُ {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} هَذَا الْقُرْآنُ {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} جَمْعُ ذَقْنٍ، وَهُوَ أَسْفَلُ الْوَجْهِ {سُجَّداً} أَيْ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، شكراً على ما أنعم به عليهم، وَلِهَذَا يَقُولُونَ {سُبْحَانَ رَبِّنَآ} أَيْ تَعْظِيمًا وَتَوْقِيرًا عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، ولهذا قالوا: {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً}، وَقَوْلُهُ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} أَيْ خُضُوعًا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وإيماناً وتصديقاً بكتابه ورسوله، {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} أَيْ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا، كَمَا قَالَ: {وَالَّذِينَ اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}.

- 110 - قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا - 111 - وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ صِفَةَ الرَّحْمَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، الْمَانِعِينَ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِالرَّحْمَنِ، {ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الحسنى} أي لا فرق بين دعائكم به بِاسْمِ {اللَّهِ} أَوْ بِاسْمِ {الرَّحْمَنِ} فَإِنَّهُ ذُو الأسماء الحسنى، كما قال تعالى: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، يُسَبِّحُ لَّهُ مَا فِي السموات والأرض} الآية. وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: «يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ»، فَقَالَ إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَدْعُو وَاحِدًا وَهُوَ يَدْعُو اثْنَيْنِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ (أخرج البخاري عن ابن عباس قال: نزلت ورسول الله متخف بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه ورفع صوته بالقرآن، فكان المشركون إذا سمعوا القرآن سبوه ومن أنزله ومن جاء به فنزلت. وأخرج البخاري أيضاً عن عائشة: أنها نزلت في الدعاء، وأخرج ابن جرير مثله، ثم رجح الأول لأنها أصح سنداً، وكذا رجحها النووي وغيره، وقال الحافظ ابن حجر: لكن يحتمل الجمع بينهما بأنها نزلت في الدعاء داخل الصلاة. وأخرج ابن جري والحاكم عن عائشة: أنها نزلت في التشهد، وهي مبينة لمرادها في الرواية السابقة)، وقوله: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ}، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ، {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا}: قَالَ كَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَسَبُّوا مَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، قَالَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ}: أَيْ بِقِرَاءَتِكَ فَيَسْمَعَ المشركون فيسبون الْقُرْآنَ، {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعُهُمُ الْقُرْآنَ حَتَّى يَأْخُذُوهُ عَنْكَ، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} (أخرجه البخاري ومسلم وأحمد عن ابن عباس). وقال محمد بن إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَهَرَ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلِّي تَفَرَّقُوا عَنْهُ وَأَبَوْا أَنْ يَسْمَعُوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يسمع مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ مَا يَتْلُو وَهُوَ يُصَلِّي، اسْتَرَقَ

السمع منهم دونهم فرقاً منهم، فإذا رَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ يَسْتَمِعُ ذَهَبَ خشية أذاهم فلم يسمع، فَإِنْ خَفَضَ صَوْتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسمع الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ مِنْ قِرَاءَتِهِ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} فَيَتَفَرَّقُوا عَنْكَ {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} أي فلا يسمع من أراد أن يَسْمَعُ فَيَنْتَفِعَ بِهِ، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}. قال ابن جرير، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إِذَا صَلَّى فَقَرَأَ خَفَضَ صَوْتَهُ، وَأَنَّ عُمَرَ كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ لِمَ تَصْنَعُ هَذَا؟ قَالَ: أُنَاجِي رَبِّي عزَّ وجلَّ وَقَدْ عَلِمَ حَاجَتِي، فَقِيلَ أَحْسَنْتَ، وَقِيلَ لِعُمَرَ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا؟ قَالَ: أَطْرُدُ الشَّيْطَانَ وَأُوقِظُ الْوَسْنَانَ، قِيلَ: أَحْسَنْتَ فَلَمَّا نَزَلَتْ: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} قِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ: ارْفَعْ شَيْئًا، وَقِيلَ لِعُمَرَ: اخْفِضْ شَيْئًا. وَقَالَ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ، وَقَوْلُهُ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} لَمَّا أَثْبَتَ تَعَالَى لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ النَّقَائِصِ، فَقَالَ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ}، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ، {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ} أَيْ لَيْسَ بذليل فيحتاج إلى أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلِيٌّ، أَوْ وَزِيرٌ أَوْ مشير، بل هو تعالى خالق الأشياء وحده لا شريك له، ومدبرها ومقدرها بِمَشِيئَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل}: لم يحالف أحداً، ولم يبتغ نَصْرَ أَحَدٍ، {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} أَيْ عَظِّمْهُ وَأَجِلَّهُ عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

18 - سورة الكهف

- 18 - سورة الكهف

[مقدمة] «ذكر ما ورد في فضلها وأنها عصمة من الدجال» عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ» (رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي)، طريق أخرى: قال الإمام أحمد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ». ورواه مسلم أيضاً والنسائي، وَفِي لَفْظِ النَّسَائِيِّ: «مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ من الكهف» فذكره. حديث آخر: عَنْ ثَوْبَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ فَإِنَّهُ عِصْمَةٌ لَهُ من الدجال» (أخرجه النسائي في سننه).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا - 2 - قَيِّمًا لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا - 3 - مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً - 4 - وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا - 5 - مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ، أَنَّهُ تَعَالَى يَحْمَدُ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ، عِنْدَ فَوَاتِحَ الأمور وخواتمها عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، وَلِهَذَا حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى إِنْزَالِهِ كِتَابَهُ الْعَزِيزَ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ، مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا اللَّهُ على أهل الأرض، إذا أَخْرَجَهُمْ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، حَيْثُ جَعَلَهُ كِتَابًا مُسْتَقِيمًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، واضحاً بيناً جلياً، نذيراً للكافرين بشيراً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} أَيْ لَمْ يَجْعَلْ فِيهِ اعْوِجَاجًا وَلَا زَيْغًا وَلَا مَيْلًا، بَلْ جَعَلَهُ مُعْتَدِلًا مُسْتَقِيمًا، وَلِهَذَا قَالَ: {قَيِّماً} أَيْ مُسْتَقِيمًا، {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} أَيْ لِمَنْ خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، يُنْذِرُهُ بَأْسًا

شَدِيدًا عُقُوبَةً عَاجِلَةً فِي الدُّنْيَا، وَآجِلَةً فِي الأخرى، {من لدنه} أي من عند الله، {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، الَّذِينَ صَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} أَيْ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ جَمِيلَةً، {مَّاكِثِينَ فِيهِ} فِي ثَوَابِهِمْ عِندِ اللَّهِ، وَهُوَ الْجَنَّةُ، خَالِدِينَ فِيهِ {أَبَداً} دَائِمًا، لَا زَوَالَ لَهُ وَلَا انقضاء، وقوله: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، فِي قَوْلِهِمْ نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ {مَا لَهُمْ بِهِ مِّنْ عِلْمٍ}، أَيْ بِهَذَا الْقَوْلِ الذي افتروه وائتفكوه، {ولا لآبائهم} أي لأسلافهم، {كَبُرَتْ كَلِمَةً} كبرت كلمتهم هذه، وفي هَذَا تَبْشِيعٌ لِمَقَالَتِهِمْ وَاسْتِعْظَامٌ لِإِفْكِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أَيْ لَيْسَ لها مستند سوى قولهم ولا دليل عَلَيْهَا إِلَّا كَذِبُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً}. وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق في سبب نزول هذه السورة الكريمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ (النَّضْرَ بن الحارث) و (عتبة بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ) إِلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ:، فَقَالُوا لَهُمْ: سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَصِفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ وَأَخْبِرُوهُمْ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ، فخرجا حتى أتيا الْمَدِينَةَ، فَسَأَلُوا أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصَفُوا لَهُمْ أَمْرَهُ وَبَعْضَ قَوْلِهِ وَقَالَا: إِنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَقَدْ جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال، فقالوا: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بهن فهو نبي مرسل، وإلاّ فرجل متقول فتروا فِيهِ رَأْيَكُمْ، سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ، وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ، بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا مَا كَانَ نَبَؤُهُ؟ وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ مَا هُوَ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِذَلِكَ فَهُوَ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ لم يخبركم فإنه رجل مقتول فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَقْبَلَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ حَتَّى قَدِمَا عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَمَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ أُمُورٍ؛ فَأَخْبَرُوهُمْ بِهَا، فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يا محمد! لأخبرنا، فَسَأَلُوهُ عَمَّا أَمَرُوهُمْ بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُخْبِرُكُمْ غَدًا عما سَأَلْتُمْ عَنْهُ»، وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَ عشرة ليلة لا يحدث الله له فِي ذَلِكَ وَحْيًا، وَلَا يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى أَرْجَفَ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقَالُوا: وَعَدَنَا محمد غداً واليوم خمس عشرة، قد أصحبنا فِيهَا لَا يُخْبِرُنَا بِشَيْءٍ عَمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ، وَحَتَّى أَحْزَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكْثُ الْوَحْيِ عَنْهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا يتكلم به أهل مكة. ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من اللَّهِ عزَّ وجلَّ بِسُورَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إِيَّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ، وَخَبَرُ مَا سألوه عنه من خبر الفتية والرجل والطواف، وقول الله عزَّ وجلَّ {يسألونك عَنِ الروح؟ قُلِ الروح} الآية.

- 6 - فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا - 7 - إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا - 8 - وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِرَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه فِي حُزْنِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِتَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ وَبُعْدِهِمْ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عليهم حسرات}، وقال: {وَلاَ تَحْزَنْ عليهم}، وَقَالَ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}، بَاخِعٌ: أَيْ مَهْلِكٌ نَفْسَكَ بِحُزْنِكَ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قال: {فعلك بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ

إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث} (أخرج ابن مردويه عن ابن عباس، قال: اجتمع عتبة بن ربيعة وأبو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه، وإنكارهم ما جاء به من الفضيلة، فأحزنه حزناً شديداً، فأنزل الله: {فعلك بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثارهم} الآية) يَعْنِي الْقُرْآنَ، {أَسَفاً} يَقُولُ: لَا تُهْلِكْ نَفْسَكَ أَسَفًا، قَالَ قَتَادَةُ: قاتلٌ نَفْسَكَ غَضَبًا وَحُزْنًا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَزَعًا، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ أَيْ: لَا تَأْسَفْ عَلَيْهِمْ بَلْ أَبْلِغْهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ، وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عليها، ولا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارًا فَانِيَةً مُزَيَّنَةً بِزِينَةٍ زائلة، وإنما جعلها دار اختيار لَا دَارَ قَرَارٍ، فَقَالَ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زينة لهم لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً}. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ مَاذَا تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ». ثُمَّ أَخْبَرَ تعالى بزوالها وفنائها وذهابها، وخرابها، فقال تَعَالَى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} أَيْ وَإِنَّا لَمُصَيِّرُوهَا بَعْدَ الزِّينَةِ إِلَى الْخَرَابِ وَالدَّمَارِ، فَنَجْعَلُ كُلَّ شَيْءٍ عَلَيْهَا هَالِكًا {صَعِيداً جُرُزاً} لَا يُنْبَتُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ، كَمَا قال ابن عباس: يَهْلَكُ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْهَا وَيَبِيدُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {صَعِيداً جُرُزاً} بَلْقَعًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الصَّعِيدُ الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ وَلَا نَبَاتٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الصَّعِيدُ الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يبصرون}؟.

- 9 - أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا - 10 - إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا - 11 - فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا - 12 - ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف {أَمْ حَسِبْتَ} يَعْنِي يَا مُحَمَّدُ {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} أَيْ لَيْسَ أَمْرُهُمْ عَجِيبًا فِي قُدْرَتِنَا وَسُلْطَانِنَا فَإِنَّ خلق السماوات والأرض وتسخير الشمس والقمر وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَإِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ، وَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ - أَعْجَبُ مِنْ أَخْبَارِ أصحاب الكهف، كما قال مجاهد: قَدْ كَانَ مِنْ آيَاتِنَا مَا هُوَ أَعْجَبُ من ذلك، وقال ابن عباس: الَّذِي آتَيْتُكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْكِتَابِ أَفْضَلُ مِنْ شَأْنِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَا أَظْهَرْتُ مِنْ حُجَجِي عَلَى الْعِبَادِ أَعْجَبَ مِنْ شَأْنِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ، وَأَمَّا الْكَهْفُ: فَهُوَ الْغَارُ فِي الْجَبَلِ، وَهُوَ الَّذِي لَجَأَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ الْمَذْكُورُونَ، وَأَمَّا الرقيم: فقال ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ وَادٍ قَرِيبٌ مِنْ أَيْلَةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَمَّا الْكَهْفُ فَهُوَ غَارُ الْوَادِي، والرقيم اسم الوادي، وقال مجاهد: الرقيم كتاب بُنْيَانَهُمْ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ هُوَ الْوَادِي الَّذِي فِيهِ كهفهم. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّقِيمُ الْجَبَلُ الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الرَّقِيمُ لَوْحٌ مِنْ حِجَارَةٍ كَتَبُوا فِيهِ قِصَصَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ثُمَّ وَضَعُوهُ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الرَّقِيمُ الْكِتَابُ، ثُمَّ قرأ {كتاب مرقوم} وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابن جرير، قال الرقيم بمعنى مرقوم، كما يقال لِلْمَقْتُولِ قَتِيلٌ وَلِلْمَجْرُوحِ جَرِيحٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وقوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أُولَئِكَ الْفِتْيَةِ الَّذِينَ فَرُّوا بِدِينِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ لِئَلَّا يَفْتِنُوهُمْ عنه فهربوا منهم فلجأوا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ لِيَخْتَفُوا عَنْ قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا حِينَ دَخَلُوا سَائِلِينَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى رَحْمَتَهُ وَلُطْفَهُ بِهِمْ: {رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} أَيْ هَبْ لَنَا مِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً تَرْحَمُنَا بِهَا وَتَسْتُرُنَا عَنْ قَوْمِنَا، {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} أَيْ اجْعَلْ عَاقِبَتَنَا رَشَدًا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَمَا قَضَيْتَ لَنَا مِنْ قَضَاءٍ فاجعل عاقبته رشداً». وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو: «اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ النار وَعَذَابِ الْآخِرَةِ»، وَقَوْلُهُ: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} أَيْ أَلْقَيْنَا عَلَيْهِمُ النَّوْمَ حِينَ دَخَلُوا إِلَى الْكَهْفِ فَنَامُوا سِنِينَ كَثِيرَةً {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} أَيْ مِنْ رَقْدَتِهِمْ تِلْكَ، وَخَرَجَ أَحَدُهُمْ بِدَرَاهِمَ مَعَهُ لِيَشْتَرِيَ لَهُمْ بِهَا طَعَامًا يَأْكُلُونَهُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ} أَيِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِيهِمْ {أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً} قِيلَ: عَدَدًا، وقيل: غاية.

- 13 - نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى - 14 - وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطًا - 15 - هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا - 16 - وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أمركم مرفقا من ههنا شَرَعَ فِي بَسْطِ الْقِصَّةِ وَشَرْحِهَا، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ فِتْيَةٌ وَهُمُ الشَّبَابُ، وَهُمْ أَقْبَلُ لِلْحَقِّ وَأَهْدَى لِلسَّبِيلِ مِنَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ قَدْ عَتَوْا وانغمسوا فِي دِينِ الْبَاطِلِ، وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْمُسْتَجِيبِينَ لله تعالى وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا. وَأَمَّا الْمَشَايِخُ مِنْ قُرَيْشٍ فَعَامَّتُهُمْ بَقُوا عَلَى دِينِهِمْ وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَهَكَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِتْيَةً شباباً. وقال مُجَاهِدٌ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ فِي آذَانِ بَعْضْهِمُ الْقِرَطَةُ، يَعْنِي الْحَلَقَ، فَأَلْهَمَهُمُ اللَّهُ رُشْدَهُمْ، وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ فَآمَنُوا بِرَبِّهِمْ، أَيْ اعْتَرَفُوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَشَهِدُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} استدل بهذه الآية وأمثالها على زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَفَاضُلِهِ، وَأَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}، كَمَا قَالَ: {وَالَّذِينَ اهتدوا زَادَهُمْ هدى تقواهم}، وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عِيسَى ابن مريم، والله أعلم. وقوله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَقُولُ تَعَالَى: وَصَبَّرْنَاهُمْ عَلَى مخالفة قومهم، وَمُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَيْشِ الرَّغِيدِ وَالسَّعَادَةِ وَالنِّعْمَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَبْنَاءِ مُلُوكِ الرُّومِ وَسَادَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ خَرَجُوا يَوْمًا فِي بَعْضِ أَعْيَادِ قَوْمِهِمْ، وَكَانَ لَهُمْ مجتمع في السنة يجتمعون فِي ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالطَّوَاغِيتَ ويذبحون لها، وكان لها مَلِكٌ جَبَّارٌ عَنِيدٌ يُقَالُ لَهُ (دَقْيَانُوسُ) وَكَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ وَيَحُثُّهُمْ عَلَيْهِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ لِمُجْتَمَعِهِمْ

ذَلِكَ وَخَرَجَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ مَعَ آبَائِهِمْ وَقَوْمِهِمْ، وَنَظَرُوا إِلَى مَا يَصْنَعُ قَوْمُهُمْ بِعَيْنِ بَصِيرَتِهِمْ، عَرَفُوا أَنَّ هَذَا الَّذِي يَصْنَعُهُ قَوْمُهُمْ مِنَ السُّجُودِ لِأَصْنَامِهِمْ وَالذَّبْحِ لَهَا لَا يَنْبَغِي إِلَّا للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ؛ فَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَخَلَّصُ مِنْ قومه وينحاز عنهم، واتخذوا لَهُمْ مَعْبَدًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فِيهِ، فَعَرَفَ بِهِمْ قَوْمُهُمْ فَوَشَوْا بِأَمْرِهِمْ إِلَى مَلِكِهِمْ، فَاسْتَحْضَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ أَمْرِهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ بِالْحَقِّ وَدَعَوْهُ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَهًا} وَ «لَنْ» لِنَفْيِ التَّأْبِيدِ: أَيْ لَا يَقَعُ مِنَّا هَذَا أَبَدًا لِأَنَّا لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لَكَانَ بَاطِلًا، وَلِهَذَا قَالَ عَنْهُمْ: {لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} أَيْ بَاطِلًا وَكَذِبًا وَبُهْتَانًا، {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} أَيْ هَلَّا أَقَامُوا عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ دَلِيلًا وَاضِحًا صَحِيحًا، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}، يَقُولُونَ: بَلْ هُمْ ظَالِمُونَ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، فَيُقَالُ إِنَّ مَلِكَهُمْ تهددهم وتوعدهم وأمر بنزع لباسهم عنهم وأجّلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، وكان هذا لطف الله بهم فإنهم تَوَصَّلُوا إِلَى الْهَرَبِ مِنْهُ وَالْفِرَارِ بِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ عِنْدَ وُقُوعِ الْفِتَنِ فِي النَّاسِ أَنْ يَفِرَّ الْعَبْدُ مِنْهُمْ خَوْفًا عَلَى دِينِهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ أَحَدِكُمْ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَغَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرَ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ» (الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود عن أبي سعيد)، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ تُشْرَعُ الْعُزْلَةُ عَنِ النَّاسِ وَلَا تُشْرَعُ فِيمَا عَدَاهَا، لِمَا يَفُوتُ بِهَا من ترك الجماعات والجمع، فلما عَزْمُهُمْ عَلَى الذَّهَابِ وَالْهَرَبِ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَاخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ}: أَيْ وَإِذَا فَارَقْتُمُوهُمْ وَخَالَفْتُمُوهُمْ بِأَدْيَانِكُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، فَفَارِقُوهُمْ أَيْضًا بِأَبْدَانِكُمْ، {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ}: أَيْ يَبْسُطْ عَلَيْكُمْ رَحْمَةً يَسْتُرُكُمْ بِهَا مِنْ قومكم {ويهيىء لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ} الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، {مِّرْفَقاً} أَيْ أَمْرًا تَرْتَفِقُونَ به، فعند ذلك خرجوا هرباً إِلَى الْكَهْفِ، فَأَوَوْا إِلَيْهِ فَفَقَدَهُمْ قَوْمُهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَتَطَلَّبَهُمُ الْمَلِكُ، فَيُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَظْفَرْ بِهِمْ، وَعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِ خَبَرَهُمْ كَمَا فَعَلَ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبِهِ الصِّدِّيقِ حِينَ لَجَأَ إِلَى (غَارِ ثَوْرٍ).

- 17 - وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الله مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً أخبر تعالى أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا دَخَلَتْهُ عِنْدَ طُلُوعِهَا تَزَاوَرُ عنه {ذَاتَ اليمين}، قال ابن عباس {تَّزَاوَرُ}: أَيْ تَمِيلُ، وَذَلِكَ أَنَّهَا كُلَّمَا ارْتَفَعَتْ في الأفق تقلص بِارْتِفَاعِهَا حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَ الزَّوَالِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} أَيْ تَدْخُلُ إِلَى غَارِهِمْ مِنْ شِمَالِ بَابِهِ وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَكَانَ لَهُ عِلْمٌ بِمَعْرِفَةِ الْهَيْئَةِ وَسَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ. وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَابُ الْغَارِ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّرْقِ لَمَا دَخَلَ إِلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ لَمَا دَخَلَ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَلَا عِنْدَ الْغُرُوبِ وَلَا تَزَاوَرَ الْفَيْءُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا؛ وَلَوْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ لَمَا

دَخَلَتْهُ وَقْتَ الطُّلُوعِ، بَلْ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمْ تَزَلْ فِيهِ إِلَى الْغُرُوبِ، فَتَعَيَّنَ مَا ذَكَرْنَاهُ ولله الحمد. وقال ابن عباس ومجاهد: {تَّقْرِضُهُمْ} تَتْرُكُهُمْ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ وَأَرَادَ مِنَّا فَهْمَهُ وَتَدَبُّرَهُ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِمَكَانِ هَذَا الْكَهْفِ فِي أَيِّ الْبِلَادِ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ لَنَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ لَأَرْشَدْنَا الله تعالى ورسوله إليه، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَكْتُ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ أَعْلَمْتُكُمْ بِهِ». فَأَعْلَمَنَا تَعَالَى بِصِفَتِهِ وَلَمْ يُعْلِمْنَا بِمَكَانِهِ فَقَالَ: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ}، قال مالك: تَمِيلُ، {ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} أَيْ فِي متسع منه داخلاً، بحيث لا تصيبهم، إِذْ لَوْ أَصَابَتْهُمْ لَأَحْرَقَتْ أَبْدَانَهُمْ وَثِيَابَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} حَيْثُ أرشدهم إِلَى هَذَا الْغَارِ الَّذِي جَعَلَهُمْ فِيهِ أَحْيَاءً وَالشَّمْسُ وَالرِّيحُ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِيهِ لِتَبْقَى أَبْدَانُهُمْ، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} ثُمَّ قَالَ: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} أَيْ هُوَ الَّذِي أَرْشَدَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ إِلَى الْهِدَايَةِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ اهْتَدَى، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

- 18 - وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ذكر أَنَّهُمْ لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ بِالنَّوْمِ، لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليهم البلى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ}، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يُقَلَّبُونَ فِي الْعَامِ مَرَّتَيْنِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ يُقَلَّبُوا لَأَكْلَتْهُمُ الأرض، وقوله: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} الوصيد الفناء، وقال ابن عباس: بالباب، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَحْرُسُ عَلَيْهِمُ الْبَابَ، وَهَذَا مِنْ سَجِيَّتِهِ وَطَبِيعَتِهِ حَيْثُ يَرْبِضُ بِبَابِهِمْ، كَأَنَّهُ يَحْرُسُهُمْ، وَكَانَ جُلُوسُهُ خَارِجَ الْبَابِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، كَمَا وَرَدَ في الصحيح، ولا صورة ولا جنب، وَشَمَلَتْ كَلْبَهُمْ بَرَكَتُهُمْ فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النوم على تلك الحال، وهذه فَائِدَةُ صُحْبَةِ الْأَخْيَارِ فَإِنَّهُ صَارَ لِهَذَا الْكَلْبِ ذكر وخبر وشأن، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى أَلْقَى عَلَيْهِمُ الْمَهَابَةَ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ نَظَرُ أَحَدٍ عَلَيْهِمْ إِلَّا هَابَهُمْ لِمَا أُلْبِسُوا مِنَ الْمَهَابَةِ وَالذُّعْرِ، لِئَلَّا يَدْنُوَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَا تَمَسَّهُمْ يَدُ لَامِسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالرَّحْمَةِ الواسعة.

- 19 - وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً - 20 - إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أبداً يقول تعالى: كما أَرْقَدْنَاهُمْ بَعَثْنَاهُمْ صَحِيحَةً أَبْدَانُهُمْ، وَأَشْعَارُهُمْ وَأَبْشَارُهُمْ، لَمْ يفقدوا من أحوالهم وهيآتهم شيئاً، وذلك بعد ثلثمائة سَنَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ، وَلِهَذَا تَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ {كَم لَبِثْتُمْ}؟ أَيْ كَمْ رَقَدْتُمْ؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يوم} لأنه كَانَ دُخُولُهُمْ إِلَى الْكَهْفِ فِي أَوَّلِ نَهَارٍ، وَاسْتِيقَاظُهُمْ كَانَ فِي آخِرِ نَهَارٍ، وَلِهَذَا اسْتَدْرَكُوا فقالوا:

{أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} أي أَعْلَمُ بِأَمْرِكُمْ، وَكَأَنَّهُ حَصَلَ لَهُمْ نَوْعُ تَرَدُّدٍ فِي كَثْرَةِ نَوْمِهِمْ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ عَدَلُوا إِلَى الْأَهَمِّ فِي أَمْرِهِمْ إِذْ ذَاكَ، وَهُوَ احْتِيَاجُهُمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَقَالُوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} أَيْ فِضَّتِكُمْ هَذِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدِ اسْتَصْحَبُوا مَعَهُمْ دَرَاهِمَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا، فَتَصَدَّقُوا مِنْهَا وَبَقِيَ مِنْهَا؛ فَلِهَذَا قَالُوا {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} أَيْ مدينتكم التي خرجتم منها {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَاماً} أَيْ أَطْيَبُ طَعَامًا، كقوله: {ما زكى منكم أحد أبداً}، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ من تزكى}، ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره. وقوله {وَلْيَتَلَطَّفْ} أي في خروجه وإيابه، يقولون وليختف كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، {وَلاَ يُشْعِرَنَّ} أَيْ وَلَا يُعْلِمَنَّ {بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} أَيْ إِنْ عَلِمُوا بِمَكَانِكُمْ {يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} يَعْنُونَ أَصْحَابَ دَقْيَانُوسَ، يَخَافُونَ مِنْهُمْ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَكَانِهِمْ، فَلَا يزالون يعذبونكم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوكم فِي مِلَّتِهِمُ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا أَوْ يَمُوتُوا، وإن وافقتموهم عَلَى الْعَوْدِ فِي الدِّينِ فَلَا فَلَاحَ لَكُمْ في الدينا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً}.

- 21 - وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا يَقُولُ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ}: أَيْ أَطْلَعْنَا عَلَيْهِمُ النَّاسَ {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فيها} ذكر واحد من السلف، أنه قد حصل لأهل الزَّمَانِ شَكٌّ فِي الْبَعْثِ وَفِي أَمْرِ الْقِيَامَةِ، فَبَعَثَ اللَّهُ أَهْلَ الْكَهْفِ حُجَّةً وَدَلَالَةً وَآيَةً عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَحَدُهُمُ الْخُرُوجَ لِيَذْهَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ لَهُمْ لِيَأْكُلُوهُ، تَنَكَّرَ وَخَرَجَ يَمْشِي فِي غَيْرِ الجادة حتى انتهى إلى المدينة، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِهَا، وَكَانَ النَّاسُ قَدْ تَبَدَّلُوا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بعد جيل، فجعْل لَا يَرَى شَيْئًا مِنْ مَعَالِمِ الْبَلَدِ الَّتِي يَعْرِفُهَا، وَلَا يَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا لَا خَوَاصِّهَا وَلَا عَوَامِّهَا، فَجَعَلَ يَتَحَيَّرُ فِي نفسه، ويقول إن عَهْدِي بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ عَشِيَّةَ أَمْسٍ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ تَعْجِيلَ الْخُرُوجِ من ههنا لَأَوْلَى لِي، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى رَجُلٍ مِمَّنْ يَبِيعُ الطَّعَامَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ مَا مَعَهُ مِنَ النَّفَقَةِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِهَا طَعَامًا، فَلَمَّا رَآهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ أَنْكَرَهَا وَأَنْكَرَ ضَرْبَهَا، فَدَفَعَهَا إِلَى جَارِهِ، وَجَعَلُوا يَتَدَاوَلُونَهَا بَيْنَهُمْ، وَيَقُولُونَ لَعَلَّ هذا وَجَدَ كَنْزًا، فَسَأَلُوهُ عَنْ أَمْرِهِ وَمِنْ أَيْنَ لَهُ هَذِهِ النَّفَقَةُ، لَعَلَّهُ وَجَدَهَا مِنْ كَنْزٍ، وممن أنت؟ فجعل يقول أنا من هذه البلدة، وَعَهْدِي بِهَا عَشِيَّةَ أَمْسٍ، وَفِيهَا دَقْيَانُوسُ فَنَسَبُوهُ إِلَى الْجُنُونِ، فَحَمَلُوهُ إِلَى وَلِيِّ أَمْرِهِمْ، فَسَأَلَهُ عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره، فَلَمَّا أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ قَامُوا مَعَهُ إِلَى الْكَهْفِ - ملك الْبَلَدِ وَأَهْلُهَا - حَتَّى انْتَهَى بِهِمْ إِلَى الْكَهْفِ، فَقَالَ دَعُونِي حَتَّى أَتَقَدَّمَكُمْ فِي الدُّخُولِ لِأُعْلِمَ أصحابي فدخل، فَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ كَيْفَ ذَهَبَ فِيهِ، وأخفى الله عليهم خبرهم، وَيُقَالُ: بَلْ دَخَلُوا عَلَيْهِمْ وَرَأَوْهُمْ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ الْمَلِكُ وَاعْتَنَقَهُمْ، وَكَانَ مُسْلِمًا فِيمَا قِيلَ، وَاسْمُهُ يندوسيس، ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم دعوه وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَعَادُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَتَوَفَّاهُمُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، فالله أعلم. وَقَوْلُهُ {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ}: أَيْ كَمَا أَرْقَدْنَاهُمْ وأيقظناهم بهيآتهم، أَطْلَعْنَا عَلَيْهِمْ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} أَيْ فِي أمر

الْقِيَامَةِ، فَمِنْ مُثْبِتٍ لَهَا وَمِنْ منكِّر، فَجَعَلَ اللَّهُ ظُهُورَهُمْ عَلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ حُجَّةً لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ {فَقَالُواْ ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} أَيْ سُدُّوا عَلَيْهِمْ بَابَ كَهْفِهِمْ، وَذَرُوهُمْ عَلَى حَالِهِمْ {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً}. حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي الْقَائِلِينَ ذَلِكَ قَوْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا): إِنَّهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ، و (الثاني): أهل الشرك منهم، والله أعلم.

- 22 - سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي عِدَّةِ أَصْحَابِ الكهف، فحكى ثلاثة أقوال، ولما ضعف القولين الأولين (القائلون بالثلاثة: اليهود، والقائلون بالخمسة: النصارى، كما ذكره السُّدي) بِقَوْلِهِ {رَجْماً بِالْغَيْبِ} أَيْ قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ كَمَنْ يَرْمِي إِلَى مَكَانٍ لَا يَعْرِفُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُصِيبُ وَإِنْ أَصَابَ فَبِلَا قَصْدٍ. ثُمَّ حَكَى الثَّالِثَ وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَوْ قَرَّرَهُ بِقَوْلِهِ {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَنَّهُ هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَقَوْلُهُ: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ الْأَحْسَنَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ رَدُّ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَا احْتِيَاجَ إِلَى الْخَوْضِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِلَا عِلْمٍ، لَكِنْ إِذَا أَطْلَعَنَا عَلَى أَمْرٍ قُلْنَا بِهِ وَإِلَّا وَقَفْنَا، وَقَوْلُهُ: {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ}: أَيْ مِنَ الناس. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ الَّذِي اسْتَثْنَى اللَّهُ عزَّ وجلَّ، كَانُوا سَبْعَةً. وَكَذَا روى ابن جرير عن عطاء أنه كان يقول: عدتهم سبعة. فكانوا لَيْلَهُمْ وَنَهَارَهُمْ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، يَبْكُونَ وَيَسْتَغِيثُونَ بالله. قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} أَيْ سَهْلًا هَيِّنًا، فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي معرفة ذلك لا يترتب عليه فائدة كَبِيرُ فَائِدَةٍ، {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً}: أَيْ فَإِنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا مَا يَقُولُونَهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ، أَيْ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى كَلَامٍ مَعْصُومٍ، وَقَدْ جَاءَكَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ بِالْحَقِّ الَّذِي لا شك فيه ولا مرية فيه، فَهُوَ الْمُقَدِّمُ الْحَاكِمُ عَلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمُهُ مِنَ الْكُتُبِ وَالْأَقْوَالِ.

- 23 - وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - 24 - إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً هَذَا إِرْشَادٌ مِنَ اللَّهِ تعالى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْأَدَبِ فِيمَا إِذَا عَزَمَ عَلَى شَيْءٍ ليفعله في المستقبل أن يرد إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَأَطُوفُنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً - وَفِي رِوَايَةٍ مِائَةِ امْرَأَةٍ - تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقِيلَ لَهُ - وفي رواية قال لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ بِهِنَّ فَلَمْ يَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرْكًا لِحَاجَتِهِ". وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ». وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ في قول

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: «غَدًا أُجِيبُكُمْ»، فَتَأَخَّرَ الوحي خمسة عشر يوماً، وَقَوْلُهُ، {وَاذْكُرْ رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}: قِيلَ مَعْنَاهُ إِذَا نَسِيتَ الِاسْتِثْنَاءَ فَاسْتَثْنِ عِنْدَ ذِكْرِكَ لَهُ (قاله أبو العالية والحسن البصري)، وقال ابن عباس في الرجل يحلف، لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ وَلَوْ إِلَى سَنَةٍ، وَكَانَ يقول {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ذلك، وَمَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَسْتَثْنِي وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ أَيْ إِذَا نَسِيَ أَنْ يَقُولَ في حلفه أو في كَلَامِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَذَكَرَ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ فَالسُّنَّةُ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِيَكُونَ آتِيًا بِسُنَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الحنث. قاله ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ، لا أن يكون رَافِعًا لِحِنْثِ الْيَمِينِ وَمُسْقِطًا لِلْكَفَّارَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِحَمْلِ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ {وَاذْكُرْ رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}: إذا غضبت. وقال الطبراني، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {وَاذْكُرْ رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أَنْ تَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وروى الطبراني أيضاً عنه استثن إِذَا ذَكَرْتَ، وَقَالَ هِيَ خَاصَّةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ إِلَّا فِي صِلَةٍ مِنْ يَمِينِهِ، وَيَحْتَمِلُ فِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يكون الله تعالى قَدْ أَرْشَدَ مَنْ نَسِيَ الشَّيْءَ فِي كَلَامِهِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ النِّسْيَانَ مَنْشَؤُهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، كَمَا قَالَ فَتَى مُوسَى: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أذكره} وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، فَإِذَا ذَهَبَ الشيطان ذهب النسيان، فذكرُ الله تعالى سَبَبٌ لِلذِّكْرِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَاذْكُرْ رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}. وقوله: {وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} أَيْ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ شَيْءٍ لا تعلمه فاسأل الله تعالى فِيهِ، وَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ فِي أَنْ يُوَفِّقَكَ لِلصَّوَابِ والرشد في ذلك.

- 25 - وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا - 26 - قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمِقْدَارِ مَا لَبِثَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ فِي كَهْفِهِمْ، مُنْذُ أرقدهم إلى أن بعثهم الله، أعثر عَلَيْهِمْ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَأَنَّهُ كَانَ مِقْدَارُهُ ثلثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية. وهي ثلثمائة سَنَةٍ بِالشَّمْسِيَّةِ، فَإِنَّ تَفَاوُتَ مَا بَيْنِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ بِالْقَمَرِيَّةِ إِلَى الشَّمْسِيَّةِ ثَلَاثُ سِنِينَ، فلهذا قال بعد الثلثمائة وَازْدَادُوا تِسْعًا، وَقَوْلُهُ: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} أَيْ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ لَبْثِهِمْ وَلَيْسَ عندك علي في ذلك وتوقيف من الله تعالى فَلَا تَتَقَدَّمْ فِيهِ بِشَيْءٍ، بَلْ قُلْ فِي مِثْلِ هَذَا {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلا هو، ومن أطلعه عليه من خلقه (هذا قول جمهور المفسرين مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين} أنه قَوْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ رَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بقوله: {الله أعلم بما لبثوا}، والظاهر أنه إخبار من الله لا حكاية عنهم كما قال ابن جرير). وَقَوْلُهُ: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أَيْ إِنَّهُ لَبَصِيرٌ بِهِمْ سَمِيعٌ لَهُمْ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَلِكَ فِي مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَدْحِ كَأَنَّهُ قِيلَ مَا أَبْصَرَهُ وَأَسْمَعَهُ، وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: مَا أَبْصَرَ اللَّهَ لِكُلِّ مَوْجُودٍ وَأَسْمَعَهُ لِكُلِّ مَسْمُوعٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ}: فَلَا أَحَدَ أَبْصَرُ مِنَ اللَّهِ وَلَا أَسْمَعُ. وَقَوْلُهُ {مَا لَهُمْ

مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي لَهُ الخلق والأمر لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَيْسَ لَهُ وَزِيرٌ وَلَا نَصِيرٌ، وَلَا شَرِيكٌ وَلَا مُشِيرٌ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ.

- 27 - وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً - 28 - وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلَاوَةِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَإِبْلَاغِهِ إِلَى النَّاسِ، {لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} أَيْ لَا مُغَيِّرَ لَهَا وَلَا محرف ولا مزيل، وقوله: {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} قال مجاهد: {مُلْتَحَداً} مَلْجَأً، وَعَنْ قَتَادَةَ: وَلِيًّا وَلَا مَوْلًى، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُ إِنْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لَمْ تَتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ، فَإِنَّهُ لَا مَلْجَأَ لَكَ مِنَ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رسالته}، وَقَوْلُهُ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أَيْ اجْلِسْ مَعَ الذين يَذْكُرُونَ الله ويحمدونه وييسبحونه ويكبرونه بِكُرَةً وَعَشِيًّا، مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، سَوَاءً كَانُوا فقراء أو أغنياء، يُقَالُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ حِينَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُمْ وَحْدَهُ، وَلَا يُجَالِسَهُمْ بِضُعَفَاءِ أَصْحَابِهِ، كَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَخَبَّابٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلْيُفْرِدْ أُولَئِكَ بِمَجْلِسٍ عَلَى حِدَةٍ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ والعشي} الْآيَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُصَبِّرَ نَفْسَهُ فِي الْجُلُوسِ مَعَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ والعشي} الآية. عن سعد بن أَبِي وَقَاصٍّ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ نَسِيتُ اسمهما، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فحدث نفسه فأنزل الله عزَّ وجلّ: َ {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (أخرجه مسلم في صحيحه). وعن أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا يُذْكُرُونَ اللَّهَ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَهُ إِلَّا نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ، قَدْ بدلت سيئاتكم حسنات» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقال الطبراني، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَعْضِ أَبْيَاتِهِ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} الآية، فَخَرَجَ يَلْتَمِسُهُمْ فَوَجَدَ قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى، منهم ثائر الرأس وجاف الْجِلْدِ، وَذُو الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَلَمَّا رَآهُمْ جَلَسَ مَعَهُمْ، وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم»، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا تُجَاوِزْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ يَعْنِي تَطْلُبُ بَدَلَهُمْ أَصْحَابَ الشَّرَفِ وَالثَّرْوَةِ، {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} أَيْ شُغِلَ عَنِ الدِّينِ وَعِبَادَةِ

ربه بالدنيا، {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} أَيْ أَعْمَالُهُ وَأَفْعَالُهُ سَفَهٌ وَتَفْرِيطٌ وَضَيَاعٌ، وَلَا تَكُنْ مطيعاًَ لَهُ وَلَا مُحِبًّا لِطَرِيقَتِهِ، وَلَا تَغْبِطْهُ، بِمَا هُوَ فِيهِ، كما قال: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خير وأبقى}.

- 29 - وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ رَبِّكُمْ، هُوَ الْحَقُّ الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ}، هَذَا مِنْ بَابِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} أَيْ أَرْصَدْنَا {لِلظَّالِمِينَ} وَهُمُ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ {نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} أي سورها، وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَسُرَادِقُ النَّارِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ، كَثَافَةُ كُلِّ جِدَارٍ مَسَافَةَ أَرْبَعِينَ سنة» (أخرجه أحمد والترمذي فِي صِفَةِ النَّارِ وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ). وقال ابْنُ عَبَّاسٍ {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} قَالَ: حَائِطٌ من نار، وَقَوْلُهُ: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوجوه} الآية، قال ابن عباس: المهل الماء الغليظ، مِثْلُ دُرْدِيِّ الزَّيْتِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ كَالدَّمِ وَالْقَيْحِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي انْتَهَى حره، وقال الضحّاك: ماء جهنم وَهِيَ سَوْدَاءُ وَأَهْلُهَا سُودٌ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا يَنْفِي الْآخَرَ، فَإِنَّ الْمُهْلَ يَجْمَعُ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الرَّذِيلَةَ كُلَّهَا، فَهُوَ أَسْوَدُ مُنْتِنٌ غَلِيظٌ حَارٌّ، وَلِهَذَا قَالَ: {يَشْوِي الْوُجُوهَ}: أَيْ من حره، إذا الْكَافِرُ أَنْ يَشْرَبَهُ وَقَرَّبَهُ مِنْ وَجْهِهِ شَوَاهُ، حتى تسقط جلده وجهه فيه، كما جاء فِي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَاءٍ كَالْمُهْلِ، قَالَ: كَعَكْرِ الزَّيْتِ فَإِذَا قَرَّبَهُ إِلَيْهِ سَقَطَتْ فَرْوَةُ وجهه فيه" (أخرجه أحمد والترمذي). وعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ {وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} قَالَ: "يُقَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَتَكَرَّهُهُ، فَإِذَا قُرِّبَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، فَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب} " (أخرجه عبد الله بن المبارك عن أبي أمامة مرفوعاً). وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا جَاعَ أَهْلُ النار استغاثوا فأغيثوا بشجرة الزقزم، فيأكلون منها فاجتثت جُلُودَ وُجُوهِهِمْ، فَلَوْ أَنَّ مَارًّا مَرَّ بِهِمْ لَعَرَفَ جُلُودَ وُجُوهِهِمْ فِيهَا، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَيْهِمُ الْعَطَشَ فَيَسْتَغِيثُونَ فَيُغَاثُونَ بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ، وَهُوَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، فَإِذَا أَدْنَوْهُ مِنْ أَفْوَاهِهِمُ اشْتَوَى مِنْ حَرِّهِ لُحُومُ وُجُوهِهِمُ الَّتِي قَدْ سَقَطَتْ عَنْهَا الْجُلُودُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ وَصْفِهِ هَذَا الشَّرَابَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ الْقَبِيحَةِ {بِئْسَ الشَّرَابُ} أَيْ بِئْسَ هَذَا الشَّرَابُ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أمعاءهم}، وقال تعالى: {تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي حازة، كما قال تعالى: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} أَيْ وَسَاءَتِ النَّارُ مَنْزِلًا وَمَقِيلًا وَمُجْتَمَعًا وَمَوْضِعًا لِلِارْتِفَاقِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الأخرى {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً ومقاما}.

- 30 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا - 31 - أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي

مِن تَحْتِهِمْ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ، ثَنى بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ فِيمَا جَاءُوا بِهِ وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَلَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ، وَالْعَدْنُ الْإِقَامَةُ {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ الْأَنْهَارُ} أَيْ من تحت غرفهم ومنازلهم، قال فرعون {وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي} الآية. {يُحَلَّوْنَ} أَيْ مِنَ الْحِلْيَةِ {فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} وَقَالَ فِي الْمَكَانِ الْآخَرِ {وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} وفصّله ههنا فَقَالَ: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} فالسندس ثياب رقاق كَالْقُمْصَانِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا، وَأَمَّا الْإِسْتَبْرَقُ فَغَلِيظُ الدِّيبَاجِ، وَفِيهِ بَرِيقٌ. وَقَوْلُهُ: {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} الِاتِّكَاءُ قِيلَ: الِاضْطِجَاعُ، وَقِيلَ: التَّرَبُّعُ فِي الجلوس، وهو أسبه بالمراد ههنا - ومنه الحديث الصحيح: «أما أنا فلا آكل متكئاً»، وَالْأَرَائِكُ جَمَعَ أَرِيكَةٍ وَهِيَ السَّرِيرُ تَحْتَ الْحَجَلَةِ، عَنْ قَتَادَةَ {عَلَى الْأَرَائِكِ} قَالَ: هِيَ الْحِجَالُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ، وَقَوْلُهُ {نِعْمَ الثواب وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً}: أي الْجَنَّةُ ثَوَابًا عَلَى أَعْمَالِهِمْ، {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} أَيْ حَسُنَتْ مَنْزِلًا وَمَقِيلًا وَمَقَامًا، كَمَا قَالَ فِي النار: {بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مرتفقا}، وَهَكَذَا قَابَلَ بَيْنَهُمَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي قوله: {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً ومقاما}، ثم ذكر صفات المؤمنين فقال: {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً ومقاما}.

- 32 - وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا - 33 - كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً - 34 - وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً - 35 - وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا - 36 - وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَبًا يَقُولُ تعالى بعد ذكره الْمُشْرِكِينَ، الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ مُجَالَسَةِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَافْتَخَرُوا عَلَيْهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَحْسَابِهِمْ، فَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِرَجُلَيْنِ، جَعَلَ اللَّهُ لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ، أَيْ بساتين من أعناب محفوفتين بالنخيل الْمُحْدِقَةِ فِي جَنْبَاتِهِمَا وَفِي خِلَالِهِمَا الزُّرُوعُ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالزُّرُوعِ مُثْمِرٌ مُقْبِلٌ فِي غَايَةِ الجودة (نقل السهيلي: عن محمد ابن الحسن المقري: اسم الخيَّر من الرجلين (تمليخا) واسم الآخر (فوطيس) وأنهما كانا شريكين، ثم اقتسما المال، فصار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فاشترى المؤمن منهما عبيداً بألف وأعتقهم، وبالألف الثانية ثياباً وكسا العراة، وبالألف الثالثة طعاماً وأطعم الجياع، وبني أيضاً مساجد، وفعل خيراً - وأما الآخر: فنكح بماله نساء ذات يسار، واشترى دواب وبقراً فاستنتجها فنمت له نماء مفرطاً، واتجر بباقيها فربح حتى فاق أهل زمانه غنى. وأدركت الأول الحاجة فأراد أن يستأجر نفسه في جنة يخدمها فقال: لو ذهبت إلى شريكي وصاحبي فسألته أن يستخدمني في بعض جناته رجوت أن يكون ذلك أصلح لي، فجاء فلم يكد يصل إليه من غلظ الحجاب فلما دخل عليه وعرفه سأله حاجته، قال: ألم أكن قاسمتك المال شطرين، فما صنعت بمالك؟ قال: اشتريت به من الله، ما هو خير وأبقى. قال: أئنك لمن المصدقين، ما أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً، وما أراك إلا سفيهاً، وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان. أو ما ترى ما صنعت أنا بمالي حتى آل إلى ما تراه من الثروة وحسن المال؟ وذلك أني كسبت وسفهت أنت، أخرج عني. ثُمَّ كَانَ مِنَ قصة هذا الغني ما ذكره الله في القرآن من الإحاطة بثمرها وذهابها أصلاً. وفي عجائب الكرماني، قيل: كانا أخوين في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن اسمه (تمليخا) وقيل: (يهوذا)، والآخر كافر اسمه (نطروس) وهما المذكروان في سورة الصافات {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يقول أئنك لمن المصدقين} الآية). ولهذا قال:

{كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا} أي أخرجت ثمرها {وَلَمْ تَظْلِم مِنْهُ شَيْئاً} أي لم تَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} أَيْ والأنهار متفرقة ههنا وههنا {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} قِيلَ، الْمُرَادُ بِهِ الْمَالُ، وقيل: الثمار، وهو أظهر ههنا، {فَقَالَ} أَيْ صَاحِبُ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ {لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أَيْ يُجَادِلُهُ وَيُخَاصِمُهُ، يَفْتَخِرُ عَلَيْهِ وَيَتَرَأَّسُ {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} أَيْ أَكْثَرُ خَدَمًا وَحَشَمًا وَوَلَدًا، قَالَ قَتَادَةُ: تِلْكَ وَاللَّهِ أُمْنِيَةُ الْفَاجِرِ، كَثْرَةُ الْمَالِ، وَعِزَّةُ النَّفَرِ. وَقَوْلُهُ: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} أَيْ بكفره وتمرده وَتَجَبُّرِهِ وَإِنْكَارِهِ الْمَعَادَ، {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} وَذَلِكَ اغْتِرَارٌ مِنْهُ، لَمَّا رَأَى فِيهَا مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ فِي جَوَانِبِهَا وَأَرْجَائِهَا ظَنَّ أَنَّهَا لَا تَفْنَى وَلَا تَفْرَغُ وَلَا تَهْلَكُ وَلَا تُتْلَفُ، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ عَقْلِهِ وَضَعْفِ يَقِينِهِ بِاللَّهِ وَإِعْجَابِهِ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَكُفْرِهِ بِالْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً} أَيْ كَائِنَةً، {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} أي ولئن كان معاد ورجعة إِلَى اللَّهِ ليكوننَّ لِي هُنَاكَ أَحْسَنَ مِنْ هذا الحظ عِنْدَ رَبِّي، وَلَوْلَا كَرَامَتِي عَلَيْهِ مَا أَعْطَانِي هَذَا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى}، وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مالا وولدا}.

- 37 - قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سواك رجلا - 38 - لكن هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا - 39 - وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا - 40 - فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً - 41 - أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا يقول تعالى مخبراً عما أجابه به صَاحِبُهُ الْمُؤْمِنُ وَاعِظًا لَهُ وَزَاجِرًا عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالِاغْتِرَارِ: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ من تراب}، وَهَذَا إِنْكَارٌ وَتَعْظِيمٌ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ جُحُودِ رَبِّهِ الَّذِي خَلَقَهُ، وَابْتَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مَنْ طِينٍ وَهُوَ آدَمُ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَاءٍ مَهِينٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} الآية، أَيْ كَيْفَ تَجْحَدُونَ رَبَّكُمْ، وَدَلَالَتُهُ عَلَيْكُمْ ظَاهِرَةٌ جلية، ولهذا قال المؤمن {لكنَّ هُوَ الله رَبِّي}: أي لكن لا أقول بمقالتك بل اعترف لله بالواحدنية والربوبية، {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} أَيْ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ

مِنكَ مالا وولدا}، هذا تخضيض وَحَثٌّ عَلَى ذَلِكَ، أَيْ هَلَّا إِذَا أَعْجَبَتْكَ حِينَ دَخَلْتَهَا وَنَظَرْتَ إِلَيْهَا حَمِدْتَ اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكَ، وَأَعْطَاكَ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ مَا لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُكَ، وَقُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضَ السَّلَفِ مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ حاله أو ماله أو ولده فَلْيَقُلْ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وقد روي فيه حديث مرفوع عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عبدٍ نِعْمَةً مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَيَرَى فِيهِ آفة دون الموت (أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي). وَكَانَ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلا بالله}، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بالله».؟ وقال أبو هريرة، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يا أبا هريرة أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ تحت العرش؟» قال، قلت: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، قَالَ: «أَنْ تَقُولَ لَا قوة إلا بالله». قال أبو بلخ وَأَحْسَبُ أَنَّهُ قَالَ: «فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَسْلَمَ عبدي واستسلم» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقوله: {فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا} أَيْ على جنتك في الدينا الَّتِي ظَنَنْتَ أَنَّهَا لَا تَبِيدُ وَلَا تَفْنَى {حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: أَيْ عَذَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَطَرٌ عَظِيمٌ مُزْعِجٌ، يُقْلِعُ زَرْعَهَا وَأَشْجَارَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً}، أَيْ بَلْقَعًا تُرَابًا أَمْلَسَ، لَا يَثْبُتُ فِيهِ قَدَمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالْجُرُزِ الَّذِي لَا يُنْبِتُ شَيْئًا، وَقَوْلُهُ: {أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً} أَيْ غَائِرًا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ ضِدُّ النَّابِعِ الَّذِي يُطْلَبُ وَجْهَ الْأَرْضِ. فَالْغَائِرُ يُطْلَبُ أَسْفَلَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} أي جار وسائح، وقال ههنا: {أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً}، وَالْغَوْرُ مَصْدَرٌ. بِمَعْنَى غَائِرٍ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: تَظَلُّ جِيَادُهُ نَوْحًا عَلَيْهِ * تُقَلِّدُهُ أَعِنَّتَهَا صُفُوفَا بِمَعْنَى نَائِحَاتٍ عَلَيْهِ.

- 42 - وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يا ليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً - 43 - وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً - 44 - هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْبًا يَقُولُ تَعَالَى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} بأمواله وبثماره مَا كَانَ يَحْذَرُ مِمَّا خَوَّفَهُ بِهِ الْمُؤْمِنُ، مِنْ إِرْسَالِ الْحُسْبَانِ عَلَى جَنَّتِهِ الَّتِي اغْتَرَّ بِهَا وَأَلْهَتْهُ عَنِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا}، وَقَالَ قَتَادَةُ: يُصَفِّقُ كَفَّيْهِ مُتَأَسِّفًا مُتَلَهِّفًا عَلَى الْأَمْوَالِ التي أذهبها عليها، {وَيَقُولُ يا ليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ فِئَةٌ} أَيْ عَشِيرَةٌ أَوْ وَلَدٌ كَمَا افْتَخَرَ بِهِمْ وَاسْتَعَزَّ {يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً * هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق} أي المولاة لله، أي هنالك كل أحد مُؤْمِنٍ أَوْ كَافِرٍ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مولاته وَالْخُضُوعِ لَهُ إِذَا وَقَعَ الْعَذَابُ، كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا

رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا به مشركين}. وَكَقَوْلِهِ إِخْبَارًا عَنْ فِرْعَوْنَ {حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين}، وَمِنْهُمْ مَنْ كَسَرَ الْوَاوَ مِنْ {الوِلاية} أَيْ هنالك الحكم لله الحق، كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} الآية. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً}: أَيْ جَزَاءً {وَخَيْرٌ عُقْباً} أَيْ الْأَعْمَالُ الَّتِي تَكُونُ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ ثَوَابُهَا خَيْرٌ، وَعَاقِبَتُهَا حَمِيدَةٌ رَشِيدَةٌ، كُلُّهَا خَيْرٌ.

- 45 - وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا - 46 - الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلًا يَقُولُ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ} يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ {مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فِي زَوَالِهَا وَفَنَائِهَا وَانْقِضَائِهَا، {كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} أَيْ مَا فِيهَا مِنَ الْحَبِّ، فَشَبَّ وَحَسُنَ، وَعَلَاهُ الزَّهْرُ وَالنَّوْرُ، وَالنُّضْرَةُ، ثُمَّ بَعْدَ هذا كله {أصبح هَشِيماً} يَابِسًا {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أَيْ تُفَرِّقُهُ وَتَطْرَحُهُ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً} أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ وَهَذِهِ الْحَالِ، وَكَثِيرًا مَا يَضْرِبُ اللَّهُ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِهَذَا الْمَثَلِ كَمَا قال تعالى فِي سُورَةِ يُونُسَ: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض مما يأكل الناس والأنعام} الآية، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} الآية. وفي الحديث الصحيح: «الدنيا خضرة حلوة». وَقَوْلُهُ: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} كَقَوْلِهِ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ والقناطير المقنطرة من الذهب} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}: أَيْ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ وَالتَّفَرُّغُ لِعِبَادَتِهِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ اشْتِغَالِكُمْ بِهِمْ وَالْجَمْعِ لَهُمْ وَالشَّفَقَةِ الْمُفْرِطَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وسعيد ابن جُبَيْرٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ: الصلوات الخمس. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ}: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَهَكَذَا سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَنْ {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} مَا هِيَ؟ فَقَالَ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لله، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وروي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ (سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بَاللَّهِ) وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ عُمَارَةَ قَالَ: سَأَلَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ الباقيات الصالحات، فقلت: الصلاة والصيام، فقال: لَمْ تُصِبْ، فَقُلْتُ: الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ، فَقَالَ: لَمْ تصب، ولكهن الْكَلِمَاتُ الْخَمْسُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا حَوْلَ ولا قوة إلا بالله. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ هنّ الباقيات الصالحات» (أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة). وفي الحديث: «أَمَّا إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ

يَكْذِبُونَ وَيَظْلِمُونَ فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَمَالَأَهُمْ عَلَى ظلمهم فليس مني ولست مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُمَالِئْهُمْ على ظلمهم فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، أَلَا وَإِنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ والله أكبر من الباقيات الصالحات» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقال ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} قَالَ: هِيَ ذِكْرُ اللَّهِ، قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَتَبَارَكَ الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَالصِّيَامُ وَالصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالصَّدَقَةُ وَالْعِتْقُ وَالْجِهَادُ وَالصِّلَةُ وَجَمِيعُ أَعْمَالِ الْحَسَنَاتِ، وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ الَّتِي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السماوات والأرض، وعنه: هي الْكَلَامُ الطَّيِّبُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ كُلُّهَا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.

- 47 - وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا - 48 - وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً - 49 - وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا ويلتنا ما لهذا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَهْوَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً}: أَيْ تَذْهَبُ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَتَزُولُ كَمَا قَالَ تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال قل يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً}، يذكر تَعَالَى إِنَّهُ تَذْهَبُ الْجِبَالُ وَتَتَسَاوَى الْمِهَادُ، وَتَبْقَى الْأَرْضُ قَاعًا صَفْصَفًا، أَيْ سَطْحًا مُسْتَوِيًا لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا أَمْتًا، أَيْ لَا وَادِيَ وَلَا جَبَلَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} أَيْ بَادِيَةً ظَاهِرَةً، لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ وَلَا مَكَانٌ يُوَارِي أَحَدًا، بَلِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ ضَاحُونَ لِرَبِّهِمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً}: لا حجر فيها ولا غيابة، وقال قَتَادَةُ: لَا بِنَاءَ وَلَا شَجَرَ، وَقَوْلُهُ: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} أَيْ وَجَمَعْنَاهُمْ الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ وَالْآخَرِينَ، فَلَمْ نَتْرُكْ مِنْهُمْ أَحَدًا لَا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا. كَمَا قَالَ: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ}، وَقَالَ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ}، وَقَوْلُهُ: {وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً} يُحْتَمَلُ أَنْ يكون المراد أم جَمِيعَ الْخَلَائِقِ يَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ صَفًّا واحداً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ صُفُوفًا صُفُوفًا، كَمَا قَالَ: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صفا صفا}، وَقَوْلُهُ: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} هَذَا تَقْرِيعٌ لِلْمُنْكِرِينَ لِلْمَعَادِ، وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ عَلَى رؤوس الأشهاد، ولهذا قال تعالى مُخَاطِبًا لَهُمْ: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً} أَيْ مَا كَانَ ظَنُّكُمْ أَنَّ هَذَا وَاقِعٌ بِكُمْ، وَلَا أَنَّ هَذَا كَائِنٌ. وَقَوْلُهُ: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أَيْ كِتَابُ الْأَعْمَالِ، الَّذِي فِيهِ الْجَلِيلُ وَالْحَقِيرُ، وَالْفَتِيلُ وَالْقِطْمِيرُ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} أَيْ مِنْ أَعْمَالِهِمُ السيئة، وأفعالهم القبيحة، {ويقولون يا ويلتنا} أَيْ يَا حَسْرَتَنَا وَوَيْلَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي أعمارنا، {ما لهذا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} أَيْ لَا يَتْرُكُ ذَنْبًا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا وَلَا عَمَلًا

وَإِنْ صَغُرَ، إِلَّا أَحْصَاهَا أَيْ ضَبَطَهَا وَحَفِظَهَا، وَقَوْلُهُ: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} أَيْ مِنْ خير وشر، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} وفي الحديث: «يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بن فلان» (أخرجاه في الصحيحين). وَقَوْلُهُ: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} أَيْ فَيَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي أَعْمَالِهِمْ جَمِيعًا وَلَا يَظْلِمُ أحداً من خلقه، بل يعفو ويصفح ويغفر وَيَرْحَمُ، وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَيَمْلَأُ النَّارَ مِنَ الْكُفَّارِ وَأَصْحَابِ الْمَعَاصِي، ثُمَّ ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين، وَهُوَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} الآية، وَقَالَ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً - إلى قوله - حَاسِبِينَ} والآيات في هذا كثيرة. روى الإمام أحمد، عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: بَلَغَنِي حَدِيثٌ عن رجل سمعه من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا ثُمَّ شددت عليه رحلاً فَسِرْتُ عَلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ، فَإِذَا (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ)، فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ: قُلْ لَهُ جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ، فَقَالَ: ابْنُ عبد الله؟ قلت: نَعَمْ، فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ، فَقُلْتُ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَصَاصِ فَخَشِيتُ أَنْ تَمُوتَ أَوْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ، فَقَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَحْشُرُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَوْ قَالَ الْعِبَادَ - عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا». قُلْتُ: وَمَا بُهْمًا؟ قَالَ: "لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعْدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ من أهل الجنة حق حتى أقضيه مِنْهُ، وَلَا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلَهُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ أهل النار حق حتى أقضيه مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ قَالَ: قُلْنَا، كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عزَّ وجلَّ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا بهماً؟ قال: «بالحسنات والسيئات» (أخرجه الإمام أحمد في المسند).

- 50 - وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً يَقُولُ تَعَالَى منبهاً بني آدم على عدواة إِبْلِيسَ لَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمُقَرِّعًا لِمَنِ اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} أَيْ لِجَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ {اسْجُدُوا لأَدَمََ} أَيْ سُجُودَ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ وَتَعْظِيمٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}، وَقَوْلِهِ: {فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} أَيْ خَانَهُ أَصْلُهُ، فَإِنَّهُ خُلِقَ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَأَصْلُ خَلْقِ الملائكةُ مِنْ نُورٍ، كما ثبت في صحيح مسلم: (خُلِقت الملائكةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكم) (أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً). ونبَّه تعالى ههنا على أنه من الجن،

أي على إِنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ كَمَا قَالَ: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ، وَإِنَّهُ لَأَصْلُ الْجِنِّ. كَمَا أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصْلُ الْبَشَرِ (رواه ابن جرير بإسناد صحيح عنه). وَقَوْلُهُ: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أَيْ فَخَرَجَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّ الْفِسْقَ هُوَ الْخُرُوجُ، يُقَالُ فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ أَكْمَامِهَا، وَفَسَقَتِ الْفَأْرَةُ مِنْ جُحْرِهَا، إِذَا خَرَجَتْ مِنْهُ لِلْعَيْثِ وَالْفَسَادِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُقَرِّعًا وَمُوَبِّخًا لمت اتَّبَعَهُ وَأَطَاعَهُ {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي} أَيْ بَدَلًا عَنِّي، وَلِهَذَا قَالَ: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}، وَهَذَا الْمَقَامُ كَقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا، وَمَصِيرِ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ فِي سُورَةِ يس: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ - إلى قوله - أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ}.

- 51 - مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا يَقُولُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي، عَبِيدٌ أَمْثَالُكُمْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، وَلَا أَشْهَدْتُهُمْ خلق السماوات وَالْأَرْضِ، وَلَا كَانُوا إِذْ ذَاكَ مَوْجُودِينَ، يَقُولُ تَعَالَى: أَنَا الْمُسْتَقِلُّ بِخَلْقِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَمُدَبِّرُهَا ومقدرها وحدي، وليس مَعِي فِي ذَلِكَ شَرِيكٌ وَلَا وَزِيرٌ، وَلَا مشير ولا نظير، كما قال: {قُلْ ادعو الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظهير}، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} قَالَ مَالِكٌ: أَعْوَانًا.

- 52 - وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً - 53 - وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يُخَاطِبُ به المشركين يوم القيامة، على رؤوس الْأَشْهَادِ تَقْرِيعًا لَهُمْ وَتَوْبِيخًا {نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أَيْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، ادْعُوهُمُ الْيَوْمَ يُنْقِذُونَكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا نرى مَعَكُمْ من شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}، وَقَوْلُهُ: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ}، كَمَا قَالَ: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} الآية، وَقَالَ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يستجيب له}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}، وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مهلكاً، وَقَالَ قَتَادَةُ: مَوْبِقًا وَادِيًا فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ ابن جرير، عن أنَس بن مالك في قوله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً} قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: موبقاً: عداوة، والظاهر من السياق ههنا أَنَّهُ الْمَهْلَكُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَادِيًا فِي جهنم أو غيره، والمعنى إن الله تعالى بين أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا وُصُولَ لَهُمْ إِلَى آلِهَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَزْعُمُونَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا فِي الْآخِرَةِ، فَلَا خَلَاصَ لِأَحَدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، بَلْ بَيْنَهُمَا مَهْلَكٌ وَهَوْلٌ عَظِيمٌ وَأَمْرٌ كَبِيرٌ، قال تعالى: {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ

مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ}، وَقَوْلُهُ: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً} أَيْ إِنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا جَهَنَّمَ حِينَ جِيءَ بِهَا تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَإِذَا رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ تَحَقَّقُوا لَا مَحَالَةَ أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعْجِيلِ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ لَهُمْ، فَإِنَّ تَوَقُّعَ الْعَذَابِ والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز، وقوله: {وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ طَرِيقٌ يَعْدِلُ بِهِمْ عَنْهَا، وَلَا بُدَّ لَهُمْ منها. قال ابن جرير، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْكَافِرَ ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة».

- 54 - وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ويقول تَعَالَى: وَلَقَدْ بَيَّنَّا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ وَوَضَّحْنَا لَهُمُ الْأُمُورَ وَفَصَّلْنَاهَا، كَيْلَا يَضِلُّوا عَنِ الْحَقِّ، وَيَخْرُجُوا عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، وَمَعَ هَذَا البيان وهذا الفرقان فإن الْإِنْسَانُ كَثِيرُ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ وَالْمُعَارَضَةِ لِلْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، إِلَّا مَنْ هَدَى اللَّهُ وَبَصَّرَهُ لِطَرِيقِ النَّجَاةِ. قال الإمام أحمد، عن عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً، فَقَالَ: «أَلَا تُصَلِّيَانِ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مولٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَيَقُولُ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جدلا} (أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد).

- 55 - وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا - 56 - وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَمَرُّدِ الْكَفَرَةِ في قديم الزمان وحديثه، وتكذبيهم بِالْحَقِّ الْبَيِّنِ الظَّاهِرِ مَعَ مَا يُشَاهِدُونَ مِنَ الآيات وَالدَّلَالَاتِ الْوَاضِحَاتِ، وَأَنَّهُ مَا مَنَعَهُمْ مِنَ اتِّبَاعِ ذَلِكَ إِلَّا طَلَبُهُمْ أَنْ يُشَاهِدُوا الْعَذَابَ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ عَيَانًا كَمَا قَالَ أُولَئِكَ لِنَبِيِّهِمْ: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين}، وَآخَرُونَ قَالُوا: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين}، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أليم} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: {إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} مِنْ غِشْيَانِهِمْ بِالْعَذَابِ، وَأَخْذِهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} أَيْ يَرَوْنَهُ عَيَانًا مواجهة ومقابلة، ثم قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} أَيْ مبشرين من صدقهم وآمن بهم، ومنذرين لمن كَذَّبَهُمْ وَخَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْكَفَّارِ بِأَنَّهُمْ {يُجَادِلُونَ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ} أَيْ لِيُضْعِفُوا بِهِ الْحَقَّ، الَّذِي جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَاصِلٍ لَهُمْ، {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً} أَيْ اتَّخَذُوا الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ وَخَوَارِقَ الْعَادَاتِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا الرُّسُلُ، وَمَا أَنْذَرُوهُمْ وَخَوَّفُوهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، {هُزُواً}: أَيْ سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَشَدُّ التَّكْذِيبِ.

- 57 - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا - 58 - وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلًا - 59 - وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً يَقُولُ تَعَالَى: وَأَيُّ عِبَادِ اللَّهِ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا، أَيْ تَنَاسَاهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا وَلَمْ يَصْغَ لَهَا، وَلَا أَلْقَى إِلَيْهَا بَالًا {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أَيْ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَالْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أَيْ قُلُوبِ هَؤُلَاءِ {أَكِنَّةً} أَيْ أَغْطِيَةً وَغِشَاوَةً، {أَن يَفْقَهُوهُ} أَيْ لِئَلَّا يَفْهَمُوا هَذَا الْقُرْآنَ وَالْبَيَانَ، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً}: أي صمماً معنوياً عَنِ الرَّشَادِ، {وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً}، وَقَوْلُهُ: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}: أَيْ رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ غَفُورٌ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ، {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ}، كَمَا قَالَ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ}، وَقَالَ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} والآيات في هذا كثيرة شتى، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَحْلُمُ وَيَسْتُرُ وَيَغْفِرُ وَرُبَّمَا هَدَى بَعْضَهُمْ مِنَ الْغَيِّ إِلَى الرَّشَادِ، وَمَنِ اسْتَمَرَّ مِنْهُمْ فَلَهُ يَوْمٌ يَشِيبُ فِيهِ الْوَلِيدُ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً}: أي ليس لهم عنه محيص ولا محيد، وَلَا مَعْدِلٌ، وَقَوْلُهُ: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} أَيْ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ وَالْقُرُونُ الْخَالِيَةُ أَهْلَكْنَاهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً}: أَيْ جعلناه إلى مدة معلومة ووقت مُعَيَّنٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، أَيْ وَكَذَلِكَ أنتم أيها المشركون احذروا أن يصبيكم مَا أَصَابَهُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أَشْرَفَ رَسُولٍ وَأَعْظَمَ نَبِيٍّ، وَلَسْتُمْ بِأَعَزَّ عَلَيْنَا مِنْهُمْ فَخَافُوا عَذَابِي ونذري.

- 60 - وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً - 61 - فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا - 62 - فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً - 63 - قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا - 64 - قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا - 65 - فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً سبب قول موسى لفتاه ووهو (يُوشَعُ بْنُ نُونٍ) هَذَا الْكَلَامَ، أَنَّهُ ذَكَرَ له عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يُحِطْ بِهِ مُوسَى فأحب الرحيل إليه، وقال لفتاه ذلك {لا أَبْرَحُ}: أي لا أزال سائراً {حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} أي هَذَا الْمَكَانَ الَّذِي فِيهِ مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ، قَالَ قتادة وغير واحد: هما (بحر فارس) مما يلي

المشرق و (بحر الرُّومِ) مِمَّا يَلِي الْمَغْرِبَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كعب: مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ عِنْدَ طَنْجَةَ، يَعْنِي فِي أَقْصَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} أَيْ وَلَوْ أَنِّي أَسِيرُ حُقُبًا مِنَ الزمان، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: الْحُقُبُ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَبْعُونَ خَرِيفًا، وقال ابن عباس {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} قال: دهراً، وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أُمِرَ بِحَمْلِ حُوتٍ مَمْلُوحٍ مَعَهُ وَقِيلَ لَهُ مَتَى فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّةَ، فَسَارَا حَتَّى بَلَغَا مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ، وَكَانَ فِي مِكْتَلٍ مَعَ يُوشَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَطَفَرَ مِنَ الْمِكْتَلِ إِلَى الْبَحْرِ، فَاسْتَيْقَظَ يُوشَعُ عليه السلام وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء وَالْمَاءُ لَهُ مِثْلُ الطَّاقِ لَا يَلْتَئِمُ بَعْدَهُ، ولهذا قال تعالى: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً} أَيْ مِثْلَ السرب في الأرض، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَارَ أَثَرُهُ كَأَنَّهُ حَجَرٌ، وقال قتادة: سرب من البحر حَتَّى أَفْضَى إِلَى الْبَحْرِ، ثُمَّ سَلَكَ فِيهِ فجعل لا يسلك فيه طريقاً إلاّ صار مَاءً جَامِدًا، وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا جَاوَزَا}: أَيِ الْمَكَانَ الذي نسيا الحوت فيه، {قَالَ} مُوسَى {لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا} أي المكان الذي جاوزا فيه المكان {نَصَباً} أي تَعَبًا، {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}، وَلِهَذَا قَالَ: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ} أَيْ طَرِيقَهُ {فِي البحر عَجَباً قَالَ ذَلِكَ ما كنا نبغي} أي هذا هو الَّذِي نَطْلُبُ {فَارْتَدَّا} أَيْ رَجَعَا {عَلَى آثَارِهِمَا} أي طريقهما {قَصَصاً} أي يقصان آثار مَشْيِهِمَا، وَيَقْفُوَانِ أَثَرَهُمَا {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً}، وَهَذَا هُوَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا دلت الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. روى البخاري، عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "إن موسى قاك خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، هُوَ أَعْلَمُ منك. قال موسى: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله بِمِكْتَلٍ فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فَأَخَذَ حوتاً فجعله بمكتل وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فَنَامَا، وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ فسقط في البحر، فاتخذ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلَ الطَّاقِ. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً}، وَلَمْ يجد موسى النصب حتى جاوز الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، قَالَ لَهُ فَتَاهُ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً}، قَالَ فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَلِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا، فَقَالَ: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} قَالَ، فَرَجَعَا يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟ فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} يَا مُوسَى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تعلمه أنت، وأنت على علم من اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ. فَقَالَ مُوسَى: {سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}، قَالَ لَهُ الْخَضِرُ: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نوال، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَدْ حَمَلُونَا

بِغَيْرِ نَوْلٍ فَعَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا! لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً؟ قَالَ: لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}. قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله - فكانت الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا، قَالَ، وَجَاءَ عُصْفُورٌ، فوقع عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ، ثُمَّ خرجا من السفينة فبينما هم يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلَامًا يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه، فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}، قَالَ وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى، {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} أي مائلاً فَقَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ {فَأَقَامَهُ} فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْرًا} "، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وودنا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا». قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كان ابن عباس يقرأ: {وكان وراءهم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا}، وَكَانَ يَقْرَأُ: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} (أخرجه البخاري في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنهما). وروى الزهري: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى، الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَهَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "بينما مُوسَى فِي مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: تَعْلَمُ مَكَانَ رَجُلٍ أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ له: إذا فقدت الحوت فَارْجِعْ: فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَكَانَ مُوسَى يَتْبَعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، قَالَ مُوسَى {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} فَوَجَدَا عَبْدَنَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كتابه.

- 66 - قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا - 67 - قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً - 68 - وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا - 69 - قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً - 70 - قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قِيلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِذَلِكَ الرَّجُلِ الْعَالِمِ، وَهُوَ الْخَضِرُ الَّذِي خَصَّهُ اللَّهُ بِعِلْمٍ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ مُوسَى، كَمَّا أَنَّهُ أَعْطَى مُوسَى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يُعْطِهِ الْخَضِرَ. {قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ} سؤال تلطف لَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ وَالْإِجْبَارِ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سُؤَالُ الْمُتَعَلِّمِ مِنَ الْعَالِمِ، وَقَوْلُهُ {أَتَّبِعُكَ} أي أصحبك وأرافقك، {على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} أَيْ مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ شَيْئًا أَسْتَرْشِدُ بِهِ فِي أَمْرِي مِنْ عِلْمٍ نَافِعٍ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ، فَعِنْدَهَا

{قَالَ} الْخَضِرُ لِمُوسَى {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي إنك لا تقدر على مصاحبتي لِمَا تَرَى مِنِّي مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُخَالِفُ شَرِيعَتَكَ، لِأَنِّي عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ مَا عَلَّمَكَهُ اللَّهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ مَا عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ، فَكُلٌّ مِنَّا مُكَلَّفٌ بِأُمُورٍ مِنَ اللَّهِ دُونَ صَاحِبِهِ، وَأَنْتَ لَا تَقْدِرُ عَلَى صُحْبَتِي {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} فَأَنَا أَعْرِفُ أَنَّكَ سَتُنْكِرُ عليَّ مَا أَنْتَ مَعْذُورٌ فِيهِ، وَلَكِنْ مَا اطَّلَعَتْ عَلَى حِكْمَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ الْبَاطِنَةِ، التي اطلعت أنا عليها دونك، {قَالَ} أي مُوسَى {سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً} أَيْ عَلَى مَا أَرَى مِنْ أُمُورِكَ، {وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} أَيْ وَلَا أُخَالِفُكَ فِي شَيْءٍ، فعند ذلك شارطه الخضر عليه السلام {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ} أَيْ ابْتِدَاءً {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} أَيْ حَتَّى أَبْدَأَكَ أَنَا بِهِ، قَبْلَ أَنْ تسألني. عن ابن عباس قَالَ: سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ عزَّ وجلَّ فقال: أي رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي يَذْكُرُنِي وَلَا يَنْسَانِي، قَالَ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَقَضَى؟ قَالَ: الَّذِي يَقْضِي بِالْحَقِّ وَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى، قَالَ: أَيْ رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ عَسَى أَنْ يُصِيبَ كَلِمَةً تَهْدِيهِ إِلَى هُدًى أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى، قَالَ، أَيْ رَبٍّ: هَلْ فِي أَرْضِكَ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قال: فمن هو؟ قال: الخضر، قال: وأين أَطْلُبُهُ؟ قَالَ: عَلَى السَّاحِلِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي يَنْفَلِتُ عِنْدَهَا الْحُوتُ، قَالَ، فَخَرَجَ مُوسَى يَطْلُبُهُ حَتَّى كَانَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ وَانْتَهَى مُوسَى إِلَيْهِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، فَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على صاحبه، فقال له موسى: إني أحب أن أصحبك، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُطِيقَ صُحْبَتِي. قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنْ صَحِبْتَنِي {فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}، قَالَ فَسَارَ بِهِ فِي الْبَحْرِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَجْمَعِ البحرين، وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَكَانٌ أَكْثَرُ مَاءً مِنْهُ، قَالَ، وَبَعَثَ اللَّهُ الْخُطَّافَ، فَجَعَلَ يَسْتَقِي مِنْهُ بِمِنْقَارِهِ، فَقَالَ لِمُوسَى: كَمْ تَرَى هَذَا الْخُطَّافَ رَزَأَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ؟ قَالَ: مَا أَقَلَّ مَا رَزَأَ، قَالَ: يَا مُوسَى فَإِنَّ عِلْمِي وَعِلْمَكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَدْرِ مَا اسْتَقَى هَذَا الْخُطَّافُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ، وَكَانَ مُوسَى قَدْ حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ، فَمِنْ ثَمَّ أُمِرَ أَنْ يَأْتِيَ الْخَضِرَ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِي خَرْقِ السَّفِينَةِ، وَقَتْلِ الْغُلَامِ، وَإِصْلَاحِ الْجِدَارِ، وَتَفْسِيرِهِ له ذلك (أخرجه ابن جرير عن ابن عباس).

- 71 - فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَآ رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا - 72 - قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً - 73 - قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى وَصَاحِبِهِ وَهُوَ الْخَضِرُ، أَنَّهُمَا انطلقا لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه أن لا يَسْأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ أَنْكَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَبْتَدِئُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِشَرْحِهِ وَبَيَانِهِ، فَرَكِبَا فِي السَّفِينَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ كَيْفَ رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ، وَأَنَّهُمْ عَرَفُوا الْخَضِرَ، فحملوهما بغير نول، يعني أُجْرَةٍ تَكْرِمَةً لِلْخَضِرِ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فِي الْبَحْرِ وَلَجَّجَتْ، أَيْ دَخَلَتِ اللُّجَّةَ، قَامَ الْخَضِرُ فَخَرَقَهَا، وَاسْتَخْرَجَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِهَا، ثُمَّ رَقَعَهَا، فَلَمْ يَمْلِكْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِ {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} وَهَذِهِ اللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ. لَا لَامُ التَّعْلِيلِ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ {لَقَدْ جِئْتَ شيئا إمرا} قال مجاهد: منكرا، وَقَالَ قَتَادَةُ: عَجَبًا، فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُ الْخَضِرُ مُذَكِّرًا بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرْطِ

{أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}، يَعْنِي وَهَذَا الصَّنِيعُ فَعَلْتُهُ قَصْدًا، وَهُوَ مِنَ الأمور التي اشترطت معك أن لا تُنْكِرَ عَلَيَّ فِيهَا، لِأَنَّكَ لَمْ تُحِطْ بِهَا خبراً، ولها دخل هُوَ مَصْلَحَةٌ وَلَمْ تَعْلَمْهُ أَنْتَ، {قَالَ} أَيْ مُوسَى {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً}: أَيْ لَا تُضَيِّقُ عَلَيَّ ولا تشدد عَلَيَّ، وَلِهَذَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا».

- 74 - فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَآ لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً - 75 - قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً - 76 - قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا يَقُولُ تَعَالَى {فَانْطَلَقَا} أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ}، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فِي قَرْيَةٍ مِّن الْقُرَى، وَأَنَّهُ عَمَدَ إِلَيْهِ من بينهم، وكان أحسنهم وأجملهم فقتله، وروي أنه اجتز رأسه، وقيل رضخه بحجر، وفي رواية اقتلعه بِيَدِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا شَاهَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا أَنْكَرَهُ أَشَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَبَادَرَ فَقَالَ {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً}: أَيْ صَغِيرَةً، لَمْ تعمل الحنث، ولا عملت إِثْمًا بَعْدُ، فَقَتَلْتَهُ {بِغَيْرِ نَفْسٍ}: أَيْ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ لِقَتْلِهِ {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً}: أَيْ ظَاهِرَ النَّكَارَةِ {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} فَأَكَّدَ أَيْضًا فِي التِّذْكَارِ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ، فَلِهَذَا قَالَ لَهُ مُوسَى {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا}: أَيْ إِنِ اعْتَرَضْتُ عَلَيْكَ بِشَيْءٍ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ {فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَّدُنِّي عُذْراً}: أَيْ قَدْ أَعْذَرْتَ إِلَيَّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، قَالَ ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ، عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا فَدَعَا لَهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: "رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى لَوْ لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لَأَبْصَرَ الْعَجَبَ، لكنه قَالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَّدُنِّي عُذْراً".

- 77 - فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً - 78 - قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْرًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمَا؛ إِنَّهُمَا {انْطَلَقَا} بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ}، روي عن ابن سيرين أنها الإيكة، وَفِي الْحَدِيثِ: «حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ لِئَامًا» أَيْ بُخَلَاءَ؛ {فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} إِسْنَادُ الْإِرَادَةِ ههنا إِلَى الْجِدَارِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ فِي الْمُحْدَثَاتِ بِمَعْنَى الْمَيْلِ؛ وَالِانْقِضَاضُ هُوَ السُّقُوطُ، وَقَوْلُهُ: {فَأَقَامَه} أَيْ فَرَدَّهُ إِلَى حَالَةِ الِاسْتِقَامَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَدَّهُ بِيَدَيْهِ وَدَعَمَهُ حَتَّى رَدَّ مَيْلَهُ، وَهَذَا خَارِقٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى لَهُ {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أَيْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُضَيِّفُونَا كان ينبغي أن لا تَعْمَلَ لَهُمْ مَجَّانًا {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}، أَيْ لِأَنَّكَ شَرَطْتَ عِنْدَ قَتْلِ الْغُلَامِ أَنَّكَ إِنْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي، فَهُوَ فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ} أَيْ بِتَفْسِيرِ {مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْرًا}.

- 79 - أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى عليه السلام وما كان أنكر ظاهره، وقد أظهر الله الخضر عليه السلام على حكمة باطنة، فقال: إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها، لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} صالحة أي جيدة {غَصْباً} فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها، وقد قيل إنهم أيتام، وروى ابن جريج، أن اسم ذلك الملك، (هدد ابن بدد)، وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق.

- 80 - وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْرًا - 81 - فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْغُلَامُ الَّذِي قَتَلَهُ الخضر طبع يوم طبع كافراً» (أخرجه ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ)، وَلِهَذَا قَالَ: {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} أَيْ يَحْمِلُهُمَا حُبُّهُ عَلَى متابعته الْكُفْرِ، قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ فَرِحَ بِهِ أَبَوَاهُ حِينَ وُلِدَ وَحَزِنَا عَلَيْهِ حِينَ قُتِلَ، وَلَوْ بقي لكان فِيهِ هَلَاكُهُمَا، فَلْيَرْضَ امْرُؤٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ فَإِنَّ قَضَاءَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ فِيمَا يَكْرَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ قَضَائِهِ فِيمَا يُحِبُّ، وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ: «لا يقضي الله لمؤمن قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ»، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، وقوله: {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} أَيْ وَلَدًا أَزْكَى مِنْ هَذَا، وهما أرحم به منه، وقال قتادة: أبر بوالديه، وَقِيلَ لَمَّا قَتَلَهُ الْخَضِرُ كَانَتْ أُمُّهُ حَامِلًا بغلام مسلم، قاله ابن جريج.

- 82 - وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِطْلَاقِ الْقَرْيَةِ عَلَى الْمَدِينَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا {حَتَّى إِذَا أتيا أهل قرية}، وقال ههنا: {فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ في المدينة} (قال السيهلي في الغلامين اليتيمين: هما أصرم وصريم ابنا كاشح، والأب الصالح الذي حفظ كنزهما من أجله كان بينهما وبينه سبعة آباء، وقيل عشرة، ولم يكونا ابنيه من صلبه فيما ذكر عن ابن عباس، وذكر السيوطي: أن اسم الملك (هدد بن ندد) واسم أبوي الغلام المقتول (أبرأ) وأمه (سهواً) وقد أبدلهما الله خيراً منه بجارية ولدت نبياً كان بعد موسى اسمه (شمعون))، كما قال تعالى: فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أخرجتك} {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} يَعْنِي مَكَّةَ وَالطَّائِفَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الجدار إنما أصلحته لِأَنَّهُ كَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ تحته كنز لهما. قال عكرمة: كان تحته مال مدفون لهما، وهو

ظَاهِرُ السِّيَاقِ مِنَ الْآيَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنُ جرير رحمة الله، وقال ابن عباس: كان تحته كنز علم، وعن الحسن البصري أنه قَالَ: لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ مَكْتُوبٍ فِيهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يَعْرِفَ الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» (أخرجه ابن جرير في تفسيره عن الحسن البصري، وورد في حديث مرفوع رواه الحافظ البزار عن أبي ذر بمثله)، وَذُكِرَ أَنَّهُمَا حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا، وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْهُمَا صَلَاحٌ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَبِ الَّذِي حُفِظَا بِهِ سَبْعَةُ آبَاءٍ، وَكَانَ نَسَّاجًا، وَهَذَا الذي ذكر - وَإِنْ صَحَّ - لَا يُنَافِي قَوْلَ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَانَ مَالًا، لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ لَوْحًا من ذهب، وفيه مال جزيل أكثر، كَانَ مُودَعًا فِيهِ عِلْمٌ وَهُوَ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ والله أعلم. وقوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ يَحْفَظُ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَتَشْمَلُ بَرَكَةُ عِبَادَتِهِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِشَفَاعَتِهِ فِيهِمْ، وَرَفْعِ دَرَجَتِهِمْ إِلَى أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لِتَقَرَّ عَيْنُهُ بِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، ووردت به السنّة، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاحاً، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ الْأَبُ السَّابِعُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كنزهما} ههنا أَسْنَدَ الْإِرَادَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ بُلُوغَهُمَا الْحُلُمَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ فِي الْغُلَامِ: {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً منه زكاة} وَقَالَ فِي السَّفِينَةِ: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} فَاللَّهُ أعلم. وقوله تعالى: {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أَيْ هَذَا الَّذِي فَعَلْتُهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثلاثة إنما هو رَحْمَةِ اللَّهِ بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ، وَوَالِدَيِ الْغُلَامِ، وَوَلَدَيِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، لَكِنِّي أُمِرْتُ بِهِ وَوُقِفْتُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِمَنْ قَالَ بِنُبُوَّةِ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا علما}، وَذَهَبَ كَثِيرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا بل كان ولياً، فالله أعلم. وحكي فِي كَوْنِهِ بَاقِيًا إِلَى الْآنِ ثُمَّ إِلَى يوم القيامة قولان، ومال النووي وابن الصلاح إلى بقائه، وَرَجَّحَ آخَرُونَ مِنَ الْمُحْدَثِينَ وَغَيْرِهِمْ خِلَافَ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ}، وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «اللَّهُمَّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»، وَبِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا حَضَرَ عِنْدَهُ وَلَا قَاتَلَ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا لَكَانَ مِنْ أَتْبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى جَمِيعِ الثَّقْلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَقَدْ قَالَ: «لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّيْنِ لَمَا وَسِعَهُمَا إِلَّا اتِّبَاعِي»، وَأَخْبَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ أَنَّهُ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِلَى مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ لَيْلَتِهِ تِلْكَ عَيْنٌ تَطْرِفُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ (أخرجه البخاري وأحمد ورواه أيضاً عبد الرزاق). وفي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا سُمِّي الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ من تحته خضراء» (الراجح قول أهل الحديث بموت الخضر للأدلة المذكورة) والمراد بالفروة ههنا الحشيش اليابس، وهو الهشيم من النبات، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ وَجْهُ الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} أَيْ هَذَا تَفْسِيرُ مَا ضِقْتَ بِهِ ذَرْعًا، وَلَمْ تَصْبِرْ حَتَّى أُخْبِرَكَ بِهِ ابْتِدَاءً، وَلَمَّا أَنْ فسره له بينه ووضحه وأزال المشكل قال: {تَسْطِع} وَقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ الْإِشْكَالُ قَوِيًّا ثَقِيلًا، فَقَالَ: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} فَقَابَلَ الْأَثْقَلَ بِالْأَثْقَلِ، وَالْأَخَفَّ بِالْأَخَفِّ، كَمَا قال: {فَمَا

اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} وَهُوَ الصُّعُودُ إِلَى أَعْلَاهُ {وَمَا استطاعوا له نقبا} وَهُوَ أَشَقُّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَابَلَ كُلًّا بِمَا يُنَاسِبُهُ لَفْظًا وَمَعْنَى وَاللَّه أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا بَالُ فَتَى مُوسَى ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسِّيَاقِ إِنَّمَا هُوَ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ، وَذِكْرُ مَا كَانَ بَيْنَهُمَا، وَفَتَى مُوسَى مَعَهُ تَبَعٌ، وَقَدْ صُرِّحَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا، أَنَّهُ (يُوشَعُ بْنُ نُونٍ) وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَلِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بعد موسى عليه السلام.

- 83 - وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا - 84 - إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَيَسْأَلُونَكَ} يَا مُحَمَّدُ {عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} أَيْ عَنْ خَبَرِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ بَعَثَ كُفَّارُ مَكَّةَ إِلَى أهل الكتاب، يسألون منهم ما يمتحون بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ فِي الْأَرْضِ، وَعَنْ فتية ما يُدْرَى مَا صَنَعُوا، وَعَنِ الرُّوحِ، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الكهف. وقد ذكر الْأَزْرَقِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ مَا بَنَاهُ وَآمَنَ به، وتبعه، وكان وزيره الخضر عليه السلام، وقد ذكرنا طرفاً صالحاً مِنْ أَخْبَارِهِ فِي كِتَابِ (الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ) بِمَا فيه كفاية والحمد لله. وقال بعض أهل الكتاب: سمي ذا القرنين لِأَنَّهُ مَلِكَ الرُّومَ وَفَارِسَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ فِي رَأْسِهِ شِبْهُ الْقَرْنَيْنِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عن أبي الطفيل: سُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذِي القرنين فقال: كان عبداً ناصحاً لله فناصحه، دعا قومه لله فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَمَاتَ، فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ، ويقال إنه سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ لِأَنَّهُ بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّمْسِ وَيَغْرُبُ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} أَيْ أَعْطَيْنَاهُ ملكاً عظيماً، ممكناً فيه مِنْ جَمِيعِ مَا يُؤْتَى الْمُلُوكُ مِنَ التَّمْكِينِ والجنود وآلات الحرب والحضارات، وَلِهَذَا مَلِكَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ مِنَ الْأَرْضِ، وَدَانَتْ لَهُ الْبِلَادُ وَخَضَعَتْ لَهُ مَلُّوكُ الْعِبَادِ، وَخَدَمَتْهُ الْأُمَمُ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ إنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قَرْنَيِ الشَّمْسِ مَشْرِقَهَا وَمَغْرِبَهَا، وَقَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}، قال ابن عباس: يعني علماً (وبه قال مجاهد وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ والسُّدي وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وغيرهم)، وقال قتادة: مَنَازِلَ الْأَرْضِ وَأَعْلَامَهَا، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زيد، تعليم الألسنة، قال: كَانَ لَا يَغْزُو قَوْمًا إِلَّا كَلَّمَهُمْ بِلِسَانِهِمْ، وعن حبيب بن حماد قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسَأَلَهُ رجُل عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، كَيْفَ بَلَغَ المشرق والمغرب؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ سَخَّرَ لَهُ السَّحَابَ وَقَدَّرَ له الأسباب وبسط له اليد (ذكره الضياء المقدسي عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ حماد).

- 85 - فَأَتْبَعَ سَبَبًا - 86 - حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قلنا يا ذا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً - 87 - قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ

عَذَاباً نُكْرًا - 88 - وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {فَأَتْبَعَ سَبَباً}: يَعْنِي بِالسَّبَبِ الْمُنَزَّلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ {فَأَتْبَعَ سَبَباً}: مُنَزَّلًا وطريقاً ما بين المشرق والمغرب، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ أَتْبَعَ مَنَازِلَ الْأَرْضِ وَمَعَالِمَهَا. وقال سعيد بن جبير: علماً، وَقَالَ مَطَرٌ: مَعَالِمُ وَآثَارٌ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} أَيْ فَسَلَكَ طَرِيقًا حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَقْصَى مَا يَسْلُكُ فِيهِ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ وَهُوَ مَغْرِبُ الْأَرْضِ، وَأَمَّا الْوُصُولُ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ مِنَ السَّمَاءِ فَمُتَعَذِّرٌ، وَمَا يَذْكُرُهُ أَصْحَابُ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ مِنْ أَنَّهُ سَارَ فِي الْأَرْضِ مُدَّةً وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ مِنْ وَرَائِهِ، فَشَيْءٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ مِنْ خُرَافَاتِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاخْتِلَاقِ زَنَادِقَتِهِمْ وَكَذِبِهِمْ، وَقَوْلُهُ {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}: أَيْ رَأَى الشَّمْسَ فِي مَنْظَرِهِ تَغْرُبُ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنِ انْتَهَى إِلَى سَاحِلِهِ، يَرَاهَا كَأَنَّهَا تغرب فيه، وَالْحَمِئَةُ مُشْتَقَّةٌ عَلَى إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ مِنْ الْحَمْأَةِ وَهُوَ الطِّينُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}: أي من طِينٍ أَمْلَسَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَقَالَ ابْنُ جرير: كان ابن عباس يقول {فِي عَيْنٍ حمأة} ثُمَّ فَسَّرَهَا ذَاتُ حَمْأَةٍ، قَالَ نَافِعٌ: وَسُئِلَ عَنْهَا كَعْبُ الْأَحْبَارِ فَقَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ مني لكني أَجِدُهَا فِي الْكِتَابِ تَغِيبُ فِي طِينَةٍ سَوْدَاءَ. وبه قال مجاهد وغير واحد. وعن أُبي بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ حَمِئَةٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَدَهَا تَغْرُبَ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ يَعْنِي حَارَّةً. وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَأَيَّهُمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ مُصِيبٌ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَعْنَيَيْهِمَا إِذْ قَدْ تَكُونُ حَارَّةً لِمُجَاوَرَتِهَا وَهْجِ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا وَمُلَاقَاتِهَا الشعاع بلا حائل، وحمئة فِي مَاءٍ وَطِينٍ أَسْوَدَ كَمَا قَالَ كَعْبُ الأحبار وغيره. وقوله تعالى: {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً}: أَيْ أُمّة مِنَ الْأُمَمِ، ذَكَرُوا أَنَّهَا كَانَتْ أُمَّةً عَظِيمَةً مِنْ بَنِي آدم (قال السهيلي: هم أهل جابرص، ويقال لها بالسريانية: جرجيا يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح)، وقوله: {قلنا يا ذا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} مَعْنَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مكَّنه مِنْهُمْ، وحكَّمه فِيهِمْ وَأَظْفَرَهُ بِهِمْ، وَخَيَّرَهُ إِنْ شَاءَ قَتَلَ وَسَبَى، وَإِنْ شَاءَ منَّ أَوْ فَدَى، فَعُرِفَ عَدْلُهُ وَإِيمَانُهُ، فِيمَا أَبْدَاهُ عَدْلَهُ وَبَيَانَهُ فِي قَوْلِهِ: {أَمَّا مَن ظَلَمَ} أي اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَشِرْكِهِ بِرَبِّهِ {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ}، قَالَ قَتَادَةُ: بِالْقَتْلِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ يَحْمِي لهم النُّحَاسِ وَيَضَعُهُمْ فِيهَا حَتَّى يَذُوبُوا. وَقَالَ وَهْبُ ابن منبه: كان يسلط الظلمة فتدخل بيوتهم، وَتَغْشَاهُمْ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} أي شديداً بلغياً وجيعاً أليماً، وفي هذا إثبات المعاد والجزاء. وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} أَيْ تَابَعَنَا عَلَى مَا نَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عِندَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} قَالَ مُجَاهِدٌ: معروفاً.

- 89 - ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً - 90 - حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً - 91 - كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً

يقول تعالى: ثُمَّ سَلَكَ طَرِيقًا فَسَارَ مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ إِلَى مَطْلَعِهَا، وَكَانَ كُلَّمَا مَرَّ بأُمّة قَهَرَهُمْ وَغَلَبَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فَإِنْ أَطَاعُوهُ وَإِلَّا أَذَلَّهُمْ وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ وَاسْتَبَاحَ أَمْوَالَهُمْ وأمتعتهم، واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الْإِقْلِيمِ الْمُتَاخِمِ لَهُمْ. وَذُكِرَ فِي أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ عَاشَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةِ سَنَةٍ يَجُوبُ الْأَرْضَ، طُولَهَا وَالْعَرْضَ، حَتَّى بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ، وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مَطْلَعِ الشَّمْسِ مِنَ الْأَرْضِ كما قال تَعَالَى: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ} أَيْ أُمَّةٍ {لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ بِنَاءٌ يُكِنَّهُمْ، وَلَا أَشْجَارٌ تُظِلُّهُمْ وَتَسْتُرُهُمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانُوا حُمْرًا قِصَارًا مَسَاكِنُهُمُ الْغِيرَانُ، أَكْثَرُ معيشتهم من السمك. وقال الحسن في قوله الله تَعَالَى: {لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} قَالَ: إِنَّ أَرْضَهُمْ لَا تَحْمِلُ الْبِنَاءَ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ تَغَوَّرُوا فِي الْمِيَاهِ، فَإِذَا غَرَبَتْ خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم (أخرجه أبو داود الطيالسي عن الحسن البصري)، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ بِأَرْضٍ لَا تُنْبِتُ لَهُمْ شَيْئًا، فَهُمْ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَخَلُوا فِي أَسْرَابٍ، حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم. وقال ابن جرير: لَمْ يَبْنُوا فِيهَا بِنَاءً قَطُّ وَلَمْ يُبْنَ عَلَيْهِمْ فِيهَا بِنَاءٌ قَطُّ، كَانُوا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَخَلُوا أَسْرَابًا لَهُمْ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، أَوْ دَخَلُوا الْبَحْرَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَرْضَهُمْ لَيْسَ فيها جبل. وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: عِلْمًا، أَيْ نَحْنُ مُطَّلِعُونَ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَأَحْوَالِ جَيْشِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنْ تَفَرَّقَتْ أُمَمُهُمْ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}.

- 92 - ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً - 93 - حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا - 94 - قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا - 95 - قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً - 96 - آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} أَيْ ثُمَّ سَلَكَ طَرِيقًا مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَهُمَا جَبَلَانِ مُتَنَاوِحَانِ بَيْنَهُمَا ثَغْرَةٌ، يَخْرُجُ مِنْهَا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ عَلَى بلاد الترك، فيعيثون فيها فَسَادًا وَيُهْلِكُونَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ مِنْ سُلَالَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا آدَمُ، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: ابعث بعث فِي النَّارِ، فَيَقُولُ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فحينئذٍ يَشِيبُ الصَّغِيرُ وَتَضَعُ كل ذات حمل حملها، فقال: إِنَّ فِيكُمْ أُمَّتَيْنِ مَا كَانَتَا فِي شَيْءٍ إلا كثّرتاه، يأجوج ومأجوج" (أخرجه البخاري ومسلم). وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "وَلَدَ نُوحٌ ثَلَاثَةً: سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامٌ أَبُو السُّودَانِ، وَيَافِثُ أَبُو التُّرْكِ"، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَؤُلَاءِ مِنْ نَسْلِ يَافِثَ أَبِي التُّرْكِ، وقال، إنما سمي هَؤُلَاءِ تُرْكًا لِأَنَّهُمْ تُرِكُوا مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَإِلَّا فَهُمْ أَقْرِبَاءُ أُولَئِكَ، وَلَكِنْ كَانَ فِي أُولَئِكَ بَغْيٌ وَفَسَادٌ وَجَرَاءَةٌ، وقد ذكر ابن جرير ههنا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَثَرًا طَوِيلًا عَجِيبًا في

سَيْرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَبِنَائِهِ السَّدَّ وَكَيْفِيَّةِ مَا جَرَى لَهُ، وَفِيهِ طُولٌ وَغَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ فِي أَشْكَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَطُولِهِمْ وَقِصَرِ بَعْضِهِمْ وَآذَانِهِمْ. وَرَوَى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها، والله أعلم. وقوله تعالى {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} أَيْ لِاسْتِعْجَامِ كَلَامِهِمْ، وَبُعْدِهِمْ عَنِ النَّاسِ، {قَالُواْ يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَجْراً عَظِيماً، يَعْنِي أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ مَالًا يُعْطُونَهُ إِيَّاهُ حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ سَدًا، فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ بِعِفَّةٍ وَدِيَانَةٍ وَصَلَاحٍ وَقَصْدٍ لِلْخَيْرِ {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أَيْ إِنَّ الَّذِي أَعْطَانِي اللَّهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالتَّمْكِينِ خيرٌ لِي مِنَ الَّذِي تَجْمَعُونَهُ، كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} الآية. وَهَكَذَا قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ، الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي تَبْذُلُونَهُ، وَلَكِنْ سَاعِدُونِي بِقُوَّةٍ، أَيْ بِعَمَلِكُمْ وَآلَاتِ الْبِنَاءِ {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} وَالزُّبَرُ، جَمْعُ (زُبْرَةٍ) وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْهُ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ) وَهِيَ كَاللَّبِنَةِ يُقَالُ كُلُّ لَبِنَةٍ زِنَةُ قِنْطَارٍ بِالدِّمَشْقِيِّ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهِ {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} أَيْ وَضَعَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْأَسَاسِ، حَتَّى إِذَا حَاذَى بِهِ رؤوس الجبلين طولاً وعرضاً (قال السيوطي عن الضحّاك: هما من قبل أرمينية وآذربيجان أخرجه ابن أبي حاتم) {قَالَ انْفُخُوا} أَيْ أَجَّجَ عَلَيْهِ النَّارَ، حَتَّى إذا صَارَ كُلُّهُ نَارًا {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} قال ابن عباس والسدي: هو النحاس (وهو قول مجاهد وعكرمة والضحّاك وقتادة)، زاد بَعْضُهُمْ الْمُذَابُ، وَيَسْتَشْهِدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر}، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَأَيْتَ سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. قَالَ: «انْعَتْهُ لِي»، قَالَ كَالْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ، طَرِيقَةٌ سَوْدَاءُ، وَطَرِيقَةٌ حَمْرَاءُ، قَالَ: «قَدْ رأيته» (أخرجه ابن جرير وهو حَدِيثٌ مُرْسَلٌ)، وَقَدْ بَعَثَ الْخَلِيفَةُ الْوَاثِقُ فِي دولته بعض امرائه وجهز مَعَهُ جَيْشًا سِرِّيَّةً لِيَنْظُرُوا إِلَى السَّدِّ وَيُعَايِنُوهُ وينعتونه لَهُ إِذَا رَجَعُوا، فَتَوَصَّلُوا مِنْ بِلَادٍ إِلَى بِلَادٍ، وَمِنْ مُلْكٍ إِلَى مُلْكٍ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَيْهِ، وَرَأَوْا بِنَاءَهُ مِنَ الْحَدِيدِ وَمِنَ النُّحَاسِ، وذكروا أنهم رأوا فيه باباً عظيمة، وَعَلَيْهِ أَقْفَالٌ عَظِيمَةٌ، وَرَأَوْا بَقِيَّةَ اللَّبَنِ وَالْعَمَلِ فِي بُرْجٍ هُنَاكَ، وَأَنَّ عِنْدَهُ حَرَسًا مِنَ الملوك المتاخمة له، وأنه عال منيف شَاهِقٌ، لَا يُسْتَطَاعُ، وَلَا مَا حَوْلَهُ مِنَ الْجِبَالِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَكَانَتْ غَيْبَتُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَشَاهَدُوا أَهْوَالًا وَعَجَائِبَ، ثُمَّ قال تعالى:

- 97 - فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا - 98 - قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا - 99 - وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، أَنَّهُمْ مَا قدروا على أن يصعدوا من فَوْقَ هَذَا السَّدِّ، وَلَا قَدَرُوا عَلَى نَقْبِهِ مِنْ أَسْفَلِهِ، وَلَمَّا كَانَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ أَسْهَلَ مِنْ نَقْبِهِ قَابَلَ كُلًّا بِمَا يُنَاسِبُهُ، فَقَالَ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً}، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى نَقْبِهِ وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، فَأُمَّا الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ

أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَيَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ، قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ، ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ كَأَشَدِّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَّغَتْ مُدَّتُهُمْ وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ، حَفَرُوا حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فستثني فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ فَيَحْفِرُونَهُ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ فَيُنَشِّفُونَ الْمِيَاهَ وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، فترجع وعليها كهيئة الدَّمِ فَيَقُولُونَ قَهَرْنَا أَهْلَ الْأَرْضِ وَعَلَوْنَا أَهْلَ السماء، فيبعث الله عليهم نغفاً في رقابهم فَيَقْتُلُهُمْ بِهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفس محمد بِيَدِهِ إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ لَتَسْمَنُ وتَشْكر شُكْرًا من لحومهم ودمائهم» (وأخرجه ابن ماجه أيضاً والترمذي، وقال الترمذي: إسناده جيد قوي، واختار ابن كثير أن يكون موقوفاً)، ففي رَفْعِهِ نَكَارَةٌ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ ارْتِقَائِهِ وَلَا مِنْ نَقْبِهِ لإحكام بنائه وصلابته، وشدته ويؤيد مَا قُلْنَاهُ، مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ نقبه، وَمِنْ نَكَارَةِ هَذَا الْمَرْفُوعِ، قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَوْمِهِ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ وَهُوَ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بأصبعيه السبابة والإبهام»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث». {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} أَيْ لَمَّا بَنَاهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي}، أَيْ بِالنَّاسِ حَيْثُ جَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ حَائِلًا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعَيْثِ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي} أَيْ إِذَا اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ {جَعَلَهُ دَكَّآءَ} أَيْ سَاوَاهُ بِالْأَرْضِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: نَاقَةٌ دَكَّاءُ إِذَا كَانَ ظَهْرُهَا مُسْتَوِيًا لَا سَنَامَ لَهَا، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} أَيْ مُسَاوِيًا لِلْأَرْضِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ} قَالَ: طَرِيقًا كَمَا كَانَ، {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} أَيْ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلُهُ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ} أَيِ النَّاسَ {يَوْمَئِذٍ} أَيْ يَوْمَ يُدَكُّ هَذَا السَّدُّ وَيَخْرُجُ هَؤُلَاءِ فَيَمُوجُونَ فِي النَّاسِ، وَيُفْسِدُونَ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ، وَيُتْلِفُونَ أَشْيَاءَهُمْ، وَهَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ، فِي قَوْلِهِ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قَالَ: ذَاكَ حِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ، وَهَذَا كُلُّهُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَبَعْدَ الدجال، كما سيأتي بيانه عِنْدَ قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} الْآيَةَ. وهكذا قال ههنا، {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قَالَ: هَذَا أَوَّلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً}، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}، قال: إذا ماج الجن والإنس يوم القيامة يختلط الإنس والجن، وَقَوْلُهُ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}، وَالصُّورُ كَمَا جَاءَ في الحديث، قون يُنْفَخُ فِيهِ، وَالَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السلام، وفي الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ، وَاسْتَمَعَ مَتَى يُؤْمَرُ»، قَالُوا: كَيْفَ نَقُولُ؟ قَالَ: «قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا»، وَقَوْلُهُ: {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} أَيْ أَحْضَرْنَا الْجَمِيعَ لِلْحِسَابِ {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ}، {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ منهم أحدا}.

- 100 - وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا - 101 - الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا - 102 - أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَآءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يَفْعَلُهُ بِالْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْهِمْ جَهَنَّمَ، أَيْ يُبْرِزُهَا لَهُمْ وَيُظْهَرُهَا لِيَرَوْا مَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ قَبْلَ دُخُولِهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ أبلغ في تعجيل الهم والجزن لَهُمْ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُقَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ ملك» (أخرجه مسلم عن ابن مسعود)، ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي} أي تغافلوا وتعاموا عَنْ قَبُولِ الْهُدَى وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}، وقال ههنا {وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} أَيْ لَا يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، ثُمَّ قَالَ: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَآءَ} أَيِ اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ يَصِحُّ لَهُمْ ذَلِكَ وينتفعون به {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} ولهذا أخبر الله تعالى أَنَّهُ قَدْ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ منزلاً.

- 103 - قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا - 104 - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا - 105 - أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً - 106 - ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا عَنْ مُصْعَبٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي، يَعْنِي سَعْدَ بن أبي وقاص، عن قول الله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} أَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: لَا، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النصارى فكفروا بِالْجَنَّةِ وَقَالُوا: لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ، وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ، فكان سعد رضي الله عنه يسميهم بالفاسقين (أخرجه البخاري في صحيحه في باب التفسير)، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُمُ الْحَرُورِيَّةُ، وَمَعْنَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ تَشْمَلُ الْحَرُورِيَّةَ كَمَا تَشْمَلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَغَيْرَهُمْ، لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَةٍ مَرْضِيَّةٍ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُصِيبٌ فِيهَا، وَأَنَّ عَمَلَهُ مَقْبُولٌ، وَهُوَ مُخْطِئٌ وعمله مردود، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً}، وقال تعالى: {والذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يجده شيئا}، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم} أَيْ نُخْبِرُكُمْ {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً}، ثُمَّ فَسَّرَهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ عَمِلُوا أَعْمَالًا بَاطِلَةً عَلَى غَيْرِ شَرِيعَةٍ مَشْرُوعَةٍ مَرْضِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} أَيْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَأَنَّهُمْ مَقْبُولُونَ مَحْبُوبُونَ، وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ}:

أي جحدوا آيات الله في الدينا، وَبَرَاهِينَهُ الَّتِي أَقَامَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ وَكَذَّبُوا بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} أَيْ لَا نُثْقِلُ مَوَازِينَهُمْ لِأَنَّهَا خالية عن الخير، روى الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يزن عند الله جناح بعوضة - وقال - اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}»، وقال ابن أبي حاتم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْأَكُولِ الشَّرُوبِ الْعَظِيمِ فَيُوزَنُ بِحَبَّةٍ فلا يزنها»، قال قَرَأَ {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَخْطُرُ فِي حُلَّةٍ لَهُ، فَلَمَّا قَامَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا بُرَيْدَةُ هذا ممن لا يقيم الله لَهُمْ يَوْمَ القيامة وزنا» (أخرجه الحافظ البزار)، وعن كَعْبٍ قَالَ: يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِرَجُلٍ عَظِيمٍ طَوِيلٍ فَلَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، اقرأوا: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} (أخرجه ابن جرير في تفسيره). وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ} أَيْ إنما جازيناهم بهذا الجزاء بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَاتِّخَاذِهِمْ آيَاتِ اللَّهِ وَرُسُلَهُ هُزُوًا استهزأوا بِهِمْ وَكَذَّبُوهُمْ أَشَدَّ التَّكْذِيبِ.

- 107 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا - 108 - خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ السُّعَدَاءِ، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به، أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ الفردوس، قال مجاهد: هو البستان بالرومية، وقال الضحاك: هُوَ الْبُسْتَانُ الَّذِي فِيهِ شَجَرُ الْأَعْنَابِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْفِرْدَوْسُ ربوة الجنة أوسطها وأحسنها» (أخرجه ابن جرير عن سمرة مرفوعاً). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تفجَّر أَنْهَارُ الجنة»، وقوله تعالى: {نُزُلاً} أي ضيافة فإن النزل الضِّيَافَةُ، وَقَوْلُهُ: {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مُقِيمِينَ سَاكِنِينَ فِيهَا، لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا أَبَدًا، {لَا يَبْغُونَ عنها حِوَلاً} اي لا يختارون عنها غَيْرَهَا، وَلَا يُحِبُّونَ سِوَاهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَحَلَّتْ سُوَيْدَا القَلْبِ لَا أنَا بَاغيًا * سِوَاهَا، ولا عن حبها أتحول. وفي قوله تعالى: {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} تَنْبِيهٌ عَلَى رَغْبَتِهِمْ فِيهَا وَحُبِّهِمْ لَهَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ فِيمَنْ هُوَ مُقِيمٌ فِي الْمَكَانِ دَائِمًا أَنَّهُ قد يَسْأَمُهُ أَوْ يَمَلُّهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا الدَّوَامِ وَالْخُلُودِ السَّرْمَدِيِّ لَا يَخْتَارُونَ عَنْ مُقَامِهِمْ ذَلِكَ مُتَحَوَّلًا وَلَا انْتِقَالًا، وَلَا ظَعْنًا وَلَا رِحْلَةً وَلَا بَدَلًا.

- 109 - قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَوْ كَانَ مَاءُ الْبَحْرِ مِدَادًا للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمه وآياته الدالة عليه،

لنفد البحر قبل أن يفرغ كِتَابَةِ ذَلِكَ {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} أَيْ بِمِثْلِ الْبَحْرِ آخَرَ ثُمَّ آخَرَ، وَهَلُمَّ جَرًّا، بُحُورٌ تَمُدُّهُ وَيُكْتَبُ بِهَا لَمَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: إِنَّ مَثَلَ عِلْمِ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَطْرَةٍ مِنْ مَاءِ الْبُحُورِ كُلِّهَا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ: {قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} (أخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال، قالت قريش لليهود: أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ عَنْهُ هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَسَأَلُوهُ فَنَزَلَتْ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح - إلى - وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، وَقَالَ اليهود: أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَمَنْ أُوتِيَ التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، فنزلت: {قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية) يقول: لو كانت تلك البحور مِدَادًا لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وَالشَّجَرُ كُلُّهُ أَقْلَامٌ، لَانْكَسَرَتِ الْأَقْلَامُ وَفَنِيَ مَاءُ الْبَحْرِ، وَبَقِيَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ قَائِمَةً لَا يُفْنِيهَا شَيْءٌ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْدُرَ قَدْرَهُ وَلَا يُثْنِيَ عَلَيْهِ كَمَا يَنْبَغِي، حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ، إِنَّ رَبَّنَا كَمَا يَقُولُ وَفَوْقَ ما نقول، إن مثل نعيم الدينا أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ كَحَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فِي خِلَالِ الْأَرْضِ كُلِّهَا.

- 110 - قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه {قُلْ} لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِرِسَالَتِكَ إِلَيْهِمْ {إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، فَمَنْ زَعَمَ أَنِّي كَاذِبٌ فَلْيَأْتِ بِمِثْلِ مَا جِئْتُ بِهِ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ فِيمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْمَاضِي، عَمَّا سَأَلْتُمْ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَخَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، مِمَّا هُوَ مُطَابِقٌ فِي نَفْسِ الأمر، لولا ما أطلعني الله عليه، وإنما أُخْبِرُكُمْ {أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ} الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ {إِلَهٌ وَاحِدٌ} لاَّ شَرِيكَ لَهُ، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ} أَيْ ثَوَابَهُ وَجَزَاءَهُ الصَّالِحَ {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} مَا كَانَ مُوَافِقًا لِشَرْعِ اللَّهِ، {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذَانَ رُكْنَا الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، لَا بدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ، صَوَابًا عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد روى عن طاووس قَالَ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَقِفُ الْمَوَاقِفَ أُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى مَوْطِنِي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، حَتَّى نَزَلَتْ هذه الآية {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً}، وجاء رَجُلٌ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَقَالَ أَنْبِئْنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا يُصَلِّي يَبْتَغِي وجه الله ويحب أن يحمد، ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويحج يبتغي وَجْهَ اللَّهِ وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ، فَقَالَ عُبَادَةُ: لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَعِي شريك فهو له كله ولا حاجة لي فيه. وروى الإمام أحمد، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَأَبْكَانِي. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله!

أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حجراً ولا وثناً، ولكن يراؤون بِأَعْمَالِهِمْ، وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيَتْرُكُ صَوْمَهُ» (أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه). (حديث آخر): قال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يرويه عن الله عزَّ وجلَّ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا خَيْرُ الشُّرَكَاءِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا بريء منه وهو للذي أشرك». (حديث آخر): قال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عن الشرك" (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه). (حديث آخر): عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تُعْرَضُ أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، في صحف مختمة، فَيَقُولُ اللَّهُ: أَلْقُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُ إِلَّا خَيْرًا، فَيَقُولُ: إِنَّ عَمَلَهُ كَانَ لِغَيْرِ وَجْهِي، وَلَا أَقْبَلُ الْيَوْمَ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا ما أريد به وجهي" (أخرجه الحافظ أبو بكر البزار). وَعَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْسَنَ الصَّلَاةَ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَأَسَاءَهَا حَيْثُ يَخْلُو فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ اسْتَهَانَ بِهَا رَبَّهُ عزَّ وجلَّ» (رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي).

19 - سورة مريم

- 19 - سورة مريم

[مقدمة] وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ مِنْ حَدِيثِ أُم سَلَمَةَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ إِلَى أرض الحشبة مِنْ مَكَّةَ، أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - كهيعص - 2 - ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ - 3 - إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً - 4 - قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا - 5 - وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً - 6 - يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ البقرة. وقوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} أي هذا ذكر رحمة الله عبده زكريا، وزكريا يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَكَانَ نَبِيًّا عَظِيمًا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، أنه كان نجاراً يأكل من عمل يده فِي النِّجَارَةِ، وَقَوْلُهُ: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّمَا أَخْفَى دُعَاءَهُ لِئَلَّا يُنْسَبَ فِي طَلَبِ الْوَلَدِ إِلَى الرُّعُونَةِ لكبره، حكاه الماوردي، وقال الآخرون: إِنَّمَا أَخْفَاهُ لِأَنَّهُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً}: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْقَلْبَ التَّقِيَّ، وَيَسْمَعُ الصَّوْتَ الْخَفِيَّ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: قَامَ مِنَ اللَّيْلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ نَامَ أَصْحَابُهُ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ يَقُولُ خُفْيَةً: يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، فَقَالَ اللَّهُ له: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أَيْ ضَعُفَتْ وَخَارَتِ الْقُوَى {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} أَيِ اضْطَرَمَ الْمَشِيبُ فِي السَّوَادِ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الإخبارُ عَنِ الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ، وَدَلَائِلِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} أَيْ وَلَمْ أَعْهَدْ مِنْكَ إِلَّا الْإِجَابَةَ فِي الدُّعَاءِ، وَلَمْ تَرُدَّنِي قَطُّ فِيمَا سَأَلْتُكَ، وَقَوْلُهُ: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي}، قال مجاهد وقتادة والسدي: أراد بالموالي العصبة، ووجه خَوْفِهِ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَتَصَرَّفُوا مِنْ بَعْدِهِ فِي النَّاسِ تَصَرُّفًا سَيِّئًا، فَسَأَلَ اللَّهَ وَلَدَا يكون نبياً من بعده ليسوسهم بنبوته ما يُوحَى إِلَيْهِ، فَأُجِيبَ فِي ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ خَشِيَ مِنْ وِرَاثَتِهِمْ لَهُ مَالَهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ أَعْظَمُ مَنْزِلَةً وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُشْفِقَ على ماله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من ورائه عَصَبَاتِهِ لَهُ، وَيَسْأَلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ليحوز ميراثه

دُونَهُمْ هَذَا وَجْهٌ. (الثَّانِي) أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ كَانَ ذَا مَالٍ بَلْ كَانَ نَجَّارًا يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدَيْهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يجمع مالاً ولا سيما الأنبياء، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا. (الثَّالِثُ) أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نُورَثُ، مَا تركناه صَدَقَةٌ». وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: «نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ». وَعَلَى هَذَا فَتَعَيَّنَ حَمْلُ قَوْلِهِ: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} عَلَى مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} كقوله: {وَوَرِثَ سليمان داود} أَيْ فِي النُّبُوَّةِ. إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْمَالِ لَمَا خَصَّهُ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِ بِذَلِكَ، وَلَمَا كَانَ فِي الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ الْمُسْتَقِرِّ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ أَنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ أَبَاهُ، فَلَوْلَا أَنَّهَا وِرَاثَةٌ خَاصَّةٌ لَمَا أَخْبَرَ بِهَا، وَكُلُّ هَذَا يُقَرِّرُهُ وَيُثْبِتُهُ مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ: «نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكَنَا فَهُوَ صدقة»، قال مجاهد: كان وراثته علماً وقال الْحَسَنِ: يَرِثُ نُبُوَّتَهُ وَعِلْمَهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَرِثُ نبوتي ونبوة آل يعقوب، وعن أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قَالَ: يَرِثُ مَالِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ في تفسيره. وَقَوْلُهُ: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} أَيْ مَرْضِيًّا عِنْدَكَ وَعِنْدَ خَلْقِكِ، تُحِبُّهُ وَتُحَبِّبُهُ إِلَى خَلْقِكَ فِي دينه وخلقه.

- 7 - يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً هَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ مَحْذُوفًا، وَهُوَ أَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ فِي دُعَائِهِ فَقِيلَ لَهُ: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ}، وَقَوْلُهُ: {لَمْ نَجْعَل لَهُ مِن قَبْلِ سَمِيّاً}. قال قتادة: أَيْ لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ قَبْلَهُ بِهَذَا الِاسْمِ (وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} أَيْ شَبِيهًا، أَخَذَهُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}؟ أي شبيهاً، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ لَمْ تَلِدِ الْعَوَاقِرُ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السلام كان لا يولد له، وكذلك كانت امرأته عَاقِرًا مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهَا، بِخِلَافِ إِبْرَاهِيمَ وَسَارَةَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّهُمَا إِنَّمَا تَعَجَّبَا مِنَ الْبِشَارَةِ بإسحاق لكبرهما، وَلِهَذَا قَالَ: {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تبشرون} مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ وُلِدَ لَهُ قَبْلَهُ إسماعيل بثلاث عشرة سنة.

- 8 - قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا - 9 - قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هو علي هين وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا هَذَا تَعَجُّبٌ مِنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ، وَبُشِّرَ بِالْوَلَدِ فَفَرِحَ فرحاَ شَدِيدًا وَسَأَلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ مَا يُولَدُ لَهُ، وَالْوَجْهُ الَّذِي يَأْتِيهِ مِنْهُ الْوَلَدُ، مَعَ أَنَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ عَاقِرًا لَمْ تَلِدْ مِنْ أول عمرها مع كبرها (ذكر السهيلي: أن امرأته اسمها (إيشاع بنت قافوذ)، وهي أخت حنة بنت قافوذ، قاله الطبري، وحنة هي أم مريم. وقال العتبي: امرأة زكريا هي (إيشاع بنت عمران)، فعلى هذا القول يكون يحيى ابن خالة عيسى على الحقيقة، وعلى القول الأول يكون ابن خالة أمه، وفي حديث الإسراء قال عليه السلام: «فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى»، وهذا شاهد للقول الأول)، ومع أنه

قَدْ كَبُرَ وَعَتَا، أَيْ عَسَا عَظْمُهُ، وَنَحُلَ، ولم يبق فيه لقاح ولا جماع، والعرب تقول للعود إذا يبس: عتا، وقال مجاهد: {عِتِيّاً} يعني قحول الْعَظْمِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، عِتِيًّا يَعْنِي الكبر، والظاهر أنه أخص من الكبر، {قَالَ} أَيِ الْمَلَكُ مُجِيبًا لِزَكَرِيَّا عَمَّا اسْتَعْجَبَ مِنْهُ {كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عليَّ هَيِّنٌ} أَيْ إِيجَادُ الْوَلَدِ مِنْكَ وَمَنْ زَوْجَتِكَ هَذِهِ لَا مِنْ غَيْرِهَا، {هَيِّنٌ} أَيْ يَسِيرٌ سَهْلٌ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ مَا هُوَ أَعْجَبُ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ فَقَالَ: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً}، كَمَا قَالَ تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حيناً مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً}.

- 10 - قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً - 11 - فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِن الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أَيْ عَلَامَةً وَدَلِيلًا عَلَى وُجُودِ مَا وَعَدْتَنِي، لِتَسْتَقِرَّ نَفْسِي وَيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِمَا وَعَدْتَنِي، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى * قال أو لم تُؤْمِن؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، {قَالَ آيَتُكَ} أَيْ عَلَامَتُكَ {أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} أي أن يُحبس لِسَانَكَ عَنِ الْكَلَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَأَنْتَ صَحِيحٌ سَوِيٌّ، مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلَا عِلَّةٍ، قَالَ ابن عباس ومجاهد وَغَيْرُ وَاحِدٍ: اعْتُقِلَ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ ولا علة. قال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانَ يَقْرَأُ وَيُسَبِّحُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَ قَوْمَهُ إِلَّا إِشَارَةً، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} أي متتابعات (القول الأول عن ابن عباس وعن الجمهور أصح كما في آل عمران {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا، وَاذْكُرْ رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ والإبكار}). وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} مِنْ غَيْرِ خَرَسٍ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ وَأَيَّامِهَا {إِلاَّ رَمْزاً} أَيْ إِشَارَةً، وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} أَيِ الَّذِي بُشِّرَ فِيهِ بِالْوَلَدِ {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أَيْ أَشَارَ، إِشَارَةً خَفِيَّةً سَرِيعَةً {أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أَيْ مُوَافَقَةً لَهُ فِيمَا أُمِرَ بِهِ فِي هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله، شكراً لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَاهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أي أشار (وهذا القول أرجح، وبه قال وهب وقتادة). وقال مجاهد: أي كتب لَهُمْ فِي الأرض.

- 12 - يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً - 13 - وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا - 14 - وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً - 15 - وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً وَهَذَا أَيْضًا تَضَمَّنَ مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ وَجَدَ هَذَا الْغُلَامَ الْمُبَشَّرَ بِهِ وَهُوَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ الْكِتَابَ وَهُوَ (التوراة) التي كانوا يتدارسونها بينهم، وَقَدْ كَانَ سِنُّهُ إِذْ ذَاكَ صَغِيرًا، فَلِهَذَا نَوَّهَ بِذِكْرِهِ وَبِمَا أَنْعَمَ

بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ، فَقَالَ {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} أَيْ تَعَلَّمِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ أَيْ بِجِدٍّ وَحِرْصٍ وَاجْتِهَادٍ {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} أَيِ الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَالْجِدَّ وَالْعَزْمَ، وَالْإِقْبَالَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْإِكْبَابَ عَلَيْهِ وَالِاجْتِهَادَ فِيهِ، وَهُوَ صَغِيرٌ حدث. قال عبد الله بن المبارك، قَالَ الصِّبْيَانُ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا: اذْهَبْ بِنَا نلعب، فقال: ما للعب خلقنا. وقوله: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} قال ابن عباس: يقول ورحمة من عندنا. وزاد قتادة: رحم الله بِهَا زَكَرِيَّا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} وتعطفاً من ربه عليه، وقال عكرمة: محبة عليه، وقال عطاء بن أبي رباح: تعظيماً من لدنا، والظاهر من السياق أن قوله: {وَحَنَاناً} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} أَيْ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ وَحَنَانًا، وَزَكَاةً أَيْ وَجَعَلْنَاهُ ذَا حَنَانٍ وَزَكَاةٍ، فَالْحَنَانُ هُوَ الْمَحَبَّةُ فِي شَفَقَةٍ وَمَيْلٍ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: حَنَّتِ النَّاقَةُ عَلَى ولدها، وَحَنَّ الرَّجُلُ إِلَى وَطَنِهِ، وَمِنْهُ التَّعَطُّفُ وَالرَّحْمَةُ، وَفِي الْمُسْنَدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَبْقَى رَجُلٌ فِي النَّارِ يُنَادِي أَلْفَ سَنَةٍ يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ». وقد يثنى كما قال طرفة: أبا مُنْذِرٌ أفنيتَ فَاسْتَبْقِ بعضَنا * حَنَانَيْكَ بعضُ الشَّرِّ أهون من بعض وقوله تعالى: {وَزَكَاةً} مَعْطُوفٌ عَلَى {وَحَنَاناً} فَالزَّكَاةُ الطَّهَارَةُ مِنَ الدَّنَسِ وَالْآثَامِ وَالذُّنُوبِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الزَّكَاةُ الْعَمَلُ الصالح، وقال الضحّاك: العمل الصالح الزكي، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {وَزَكَاةً} قَالَ: بَرَكَةً {وَكَانَ تَقِيّاً} طاهراً فلم يذنب، وَقَوْلُهُ: {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى طَاعَتَهُ لِرَبِّهِ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ ذَا رَحْمَةٍ وَزَكَاةٍ، وَتُقًى، عَطَفَ بِذِكْرِ طَاعَتِهِ لِوَالِدَيْهِ وَبِرِّهِ بِهِمَا، وَمُجَانَبَتِهِ عُقُوقَهُمَا قَوْلًا وَفِعْلًا، أمراً وَنَهْيًا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً}، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ جَزَاءً لَهُ عَلَى ذَلِكَ {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} أَيْ لَهُ الأمان في هذه الثلاثة الأحوال، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ، لَيْسَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، وَمَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى» (أخرجه الإمام أحمد، قال ابن كثير: وفي إسناده ضعف)، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، أن الحسن قَالَ: إِنَّ يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ الْتَقَيَا، فَقَالَ لَهُ عِيسَى اسْتَغْفِرْ لِي أَنْتَ خَيْرٌ مني، فقال له الآخر: أنت خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي سلمتُ عَلَى نَفْسِي وَسَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَعُرِفَ وَاللَّهِ فَضْلُهُمَا.

- 16 - وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا - 17 - فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَابًا فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا - 18 - قالت إني أعوذ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً - 19 - قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً - 20 - قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً - 21 - قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هو علي هين وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ أَوْجَدَ مِنْهُ فِي حَالِ كِبَرِهِ وَعُقْمِ زَوْجَتِهِ وَلَدًا زَكِيًّا طَاهِرًا، مُبَارَكًا،

عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليه السَّلَامُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَإِنَّ بَيْنَ القصتين مناسبة ومشابهة، لِتَقَارُبِ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى، لِيَدُلَّ عِبَادَهُ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَظَمَةِ سُلْطَانِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ، فَقَالَ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} وَهِيَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، مِنْ سُلَالَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتْ مِنْ بَيْتٍ طَاهِرٍ طَيِّبٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قصة ولادة أمها لها في سورة آلِ عِمْرَانَ، وَأَنَّهَا نَذَرَتْهَا مُحَرَّرَةً أَيْ تَخْدُمُ مسجد بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلك (ذكر السهيلي: إن القرآن لم يذكر امرأة باسمها إلا (مريم ابنة عمران) فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعاً، لحكمة ذكرها بعض الأشياخ، وذكر أن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملأ ولا يبتذلون أسماءهن، بل يكنون عن الزوجة بالعرس والأهل والعيال، ولم يصونوا أسماء الإماء عن الذكر، فصرح الله باسم مريم لما قالت النصارى في مريم تأكيداً لعبوديتها، وإجراء الكلام على عادة العرب من ذكر إمائها، وتكرر ذكر عيسى منسوباً إلى أمه لتشعر القلوب بنفي أبوة الله وبنزاهة أمه الطاهرة عن مقالة اليهود) {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} ونشأت في بني إسرئيل نَشْأَةً عَظِيمَةً، فَكَانَتْ إِحْدَى الْعَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ، الْمَشْهُورَاتِ بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب، وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبيّ بني إسرئيل إِذْ ذَاكَ وَعَظِيمِهِمُ الَّذِي يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ، وَرَأَى لَهَا زَكَرِيَّا مِنَ الْكَرَامَاتِ الْهَائِلَةِ مَا بَهَرَهُ {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، فَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا ثَمَرَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَثَمَرَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ كَمَا تقدم بيانه في سورة آلِ عِمْرَانَ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَهُ الحكمة الْبَالِغَةُ - أَنْ يُوجِدَ مِنْهَا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَحَدَ الرُّسُلِ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْعِظَامِ {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} أَيِ اعتزلتهم، وتنحت عنهم وذهبت إلى شرقي المسجد المقدس؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ إِلَى الْبَيْتِ وَالْحَجُّ إِلَيْهِ، وما صرفهم عنه إلاّ قيل ربك {فانتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} قَالَ: خَرَجَتْ مَرْيَمُ مَكَانًا شَرْقِيًّا فَصَلُّوا قِبَلَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ (رَوَاهُ ابن أبي حاتم وابن جرير، وهذه هي العلة في توجه النصارى جهة المشرق). وعنه قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ لِأَيِّ شَيْءٍ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ قِبْلَةً، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فانتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} وَاتَّخَذُوا مِيلَادَ عِيسَى قِبْلَةً، وَقَالَ قَتَادَةُ: {مَكَاناً شَرْقِياً} شَاسِعًا مُتَنَحِّيًا، وَقَوْلُهُ: {فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً} أَيِ اسْتَتَرَتْ مِنْهُمْ وَتَوَارَتْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} أَيْ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ تَامٍّ كَامِلٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ والضحاك {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا}: يعني جبرائيل عليه السلام، وهذا هو ظاهر القرآن، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قلبلك لِتَكُونَ مِنَ المنذرين}، {قالت إني أعوذ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} أَيْ لَمَّا تَبَدَّى لَهَا الْمَلَكُ فِي صُورَةِ بَشَرٍ، وَهِيَ فِي مَكَانٍ مُنْفَرِدٍ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْمِهَا حِجَابٌ خَافَتْهُ وَظَنَّتْ أَنَّهُ يُرِيدُهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} أَيْ إِنْ كُنْتَ تَخَافُ الله تذكيراً له بالله، قال أبو وائل: قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ، حِينَ قالت: {إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ} أَيْ فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حَصَلَ عِنْدَهَا مِنَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهَا، لَسْتُ مِمَّا تَظُنِّينَ، وَلَكِنِّي رَسُولُ رَبِّكِ أَيْ بَعَثَنِي الله إليك {لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً}، {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غلام} أَيْ فَتَعَجَّبَتْ مَرْيَمُ مِنْ هَذَا، وَقَالَتْ كَيْفَ

يَكُونُ لِي غُلاَمٌ، أَيْ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ يُوجَدُ هَذَا الْغُلَامُ مِنِّي وَلَسْتُ بِذَاتِ زَوْجٍ، وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنِّي الْفُجُورُ، وَلِهَذَا قَالَتْ: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أكُ بَغِيّاً} وَالْبَغِيُّ هِيَ الزانية، {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هو علي هَيِّنٌ} أَيْ فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ مُجِيبًا لَهَا عَمَّا سَأَلَتْ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَالَ إِنَّهُ سَيُوجَدُ مِنْكِ غُلَامًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَكِ بَعْلٌ ولا يوجد مِنْكِ فَاحِشَةٌ، فَإِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} أَيْ دَلَالَةً وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم {وَرَحْمَةً مِّنَّا} أَيْ وَنَجْعَلُ هَذَا الْغُلَامَ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ، نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابن مريم وجيها في الدينا والآخرة وَمِنَ المقربين} أي يدعو إلى عبادة رَبِّهِ فِي مَهْدِهِ وَكُهُولَتِهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حاتم، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ، قَالَتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ: كُنْتُ إِذَا خَلَوْتُ حَدَّثَنِي عِيسَى وَكَلَّمَنِي وَهُوَ فِي بَطْنِي وَإِذَا كُنْتُ مَعَ النَّاسِ، سَبَّحَ فِي بَطْنِي وَكَبَّرَ، وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} يحتمل أن هذا من تمام كَلَامِ جِبْرِيلَ لِمَرْيَمَ، يُخْبِرُهَا أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُقَدَّرٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهُ وَمَشِيئَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَبَرِ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ كَنَّى بِهَذَا عَنِ النَّفْخِ فِي فَرْجِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن روحنا}، وَقَالَ: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا}، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً}: أَيْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَزَمَ عَلَى هَذَا فَلَيْسَ مِنْهُ بُدٌّ، وَاخْتَارَ هَذَا أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ، وَاللَّهُ أعلم.

- 22 - فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا - 23 - فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مَرْيَمَ، أَنَّهَا لَمَّا قَالَ لَهَا جبريل ما قال، اسْتَسْلَمَتْ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ من علماء السلف، أن الملك وهو جبرائيل عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ ذَلِكَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ حَتَّى وَلَجَتْ فِي الْفَرْجِ فَحَمَلَتْ بِالْوَلَدِ، بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا حَمَلَتْ به ضاقت ذرعاً، ولم تدر ماذا تقول للناس، فإنها لم تَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ لَا يُصَدِّقُونَهَا فِيمَا تُخْبِرُهُمْ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهَا أَفْشَتْ سِرَّهَا وَذَكَرَتْ أَمْرَهَا لِأُخْتِهَا امْرَأَةِ زَكَرِيَّا، وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ سَأَلَ اللَّهَ الْوَلَدَ فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، فَحَمَلَتِ امْرَأَتُهُ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهَا مَرْيَمُ، فَقَامَتْ إِلَيْهَا فَاعْتَنَقَتْهَا وَقَالَتْ: أَشَعَرْتِ يَا مَرْيَمُ أَنِّي حُبْلَى؟ فَقَالَتْ لَهَا مَرْيَمُ: وَهَلْ عَلِمْتِ أَيْضًا أَنِّي حُبْلَى، وَذَكَرَتْ لَهَا شَأْنَهَا، وَمَا كَانَ مِنْ خَبَرِهَا، وَكَانُوا بَيْتَ إِيمَانٍ وَتَصْدِيقٍ، قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى ابن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابْنَا خَالَةٍ، وَكَانَ حَمْلُهُمَا جَمِيعًا مَعًا، فَبَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ يَحْيَى قَالَتْ لِمَرْيَمَ: إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ، قَالَ مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ لِتَفْضِيلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الأكمة والأبرص (أخرجه ابن أبي حاتم). ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مُدَّةِ حَمْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وقال ابن جريج، عن ابن عباس، وسئل عن حمل مَرْيَمَ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْ حَمَلَتْ فوضعت (قال ابن كثير: هذا القول عن ابن عباس غريب، وكأنه مأخوذ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مكانا قصيا * فأجاءها المخاض} فالفاء للتعقيب ولكن تعقيب كل شيء بسببه).

والمشهور الظَّاهِرُ - وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ كَمَا تَحْمِلُ النِّسَاءُ بِأَوْلَادِهِنَّ، وَلِهَذَا لما ظهرت مخايل الحمل بها، وَكَانَ مَعَهَا فِي الْمَسْجِدِ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ قَرَابَاتِهَا يَخْدِمُ مَعَهَا الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ النَّجَّارُ، فَلَمَّا رَأَى ثِقَلَ بَطْنِهَا وَكِبَرَهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا، ثُمَّ صَرَفَهُ مَا يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَتِهَا وَنَزَاهَتِهَا وَدِينِهَا وَعِبَادَتِهَا، ثُمَّ تَأَمَّلَ مَا هِيَ فِيهِ فَجَعَلَ أَمْرُهَا يَجُوسُ فِي فِكْرِهِ لَا يَسْتَطِيعُ صَرْفَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَحَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ عرَّض لَهَا فِي الْقَوْلِ، فَقَالَ: يَا مَرْيَمُ إِنِّي سائِلك عَنْ أرم فَلَا تَعْجَلِي عليَّ، قَالَتْ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: هَلْ يَكُونُ قَطُّ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ حَبٍّ؟ وَهَلْ يَكُونُ زَرْعٌ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ؟ وَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ أَبٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، وفهمت مَا أَشَارَ إِلَيْهِ، أَمَّا قَوْلُكَ هَلْ يَكُونُ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ حَبٍّ وَزَرْعٌ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ خَلَقَ الشَّجَرَ وَالزَّرْعَ أَوَّلَ مَا خَلَقَهُمَا مِنْ غَيْرِ حَبٍّ وَلَا بَذْرٍ، وَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فإن الله تعالى قَدْ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ فَصَدَّقَهَا، وَسَلَّمَ لَهَا حَالَهَا، وَلَمَّا اسْتَشْعَرَتْ مَرْيَمُ مِنْ قَوْمِهَا اتِّهَامَهَا بِالرِّيبَةِ، انْتَبَذَتْ مِنْهُمْ مَكَانًا قَصِيًّا، أَيْ قَاصِيًا مِنْهُمْ بَعِيدًا عَنْهُمْ لِئَلَّا تَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْهَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا حَمَلَتْ بِهِ وَمَلَأَتْ قُلَّتَهَا وَرَجَعَتْ، اسْتَمْسَكَ عَنْهَا الدَّمُ وَأَصَابَهَا مَا يُصِيبُ الْحَامِلَ على الولد من الوصب والتوحم، وَتَغَيُّرِ اللَّوْنِ، حَتَّى فُطِرَ لِسَانُهَا، فَمَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مَا دَخَلَ عَلَى آلِ زَكَرِيَّا وَشَاعَ الْحَدِيثُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: إِنَّمَا صَاحِبُهَا يُوسُفُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا فِي الكنسية غَيْرُهُ، وَتَوَارَتْ مِنَ النَّاسِ، وَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا، فَلَا يَرَاهَا أَحَدٌ وَلَا تَرَاهُ. وَقَوْلُهُ تعالى: {فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} أَيْ فَاضْطَرَّهَا وألجأها إلى جذع النخلة، فِي الْمَكَانِ الَّذِي تَنَحَّتْ إِلَيْهِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ شَرْقِيَّ مِحْرَابِهَا الَّذِي تُصَلِّي فِيهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ وَهْبُ بن منبه: كَانَ ذَلِكَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنْ بَيْتِ المقدس، في قرية يقال لها بيت لحم، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، الَّذِي تَلَقَّاهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَلَا يَشُكُّ فِيهِ النَّصَارَى أَنَّهُ ببيت لحم، وقوله تعالى إخباراً عنها: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَمَنِّي الْمَوْتِ عِنْدَ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّهَا عَرَفَتْ أَنَّهَا سَتُبْتَلَى وَتُمْتَحَنُ بِهَذَا الْمَوْلُودِ الَّذِي لَا يَحْمِلُ النَّاسُ فيه أمرها على السداد ولا يصدقونها في خبرها، وبعد ما كَانَتْ عِنْدَهُمْ عَابِدَةً نَاسِكَةً تُصْبِحُ عِنْدَهُمْ فِيمَا يظنون عاهرة زانية، فقال {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} أَي قَبْلَ هذا الحمل {وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} أَي لَمْ أُخْلَقْ وَلَمْ أك شيئاَ قاله ابن عباس، وَقَالَ قَتَادَةُ {وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً}: أَيْ شَيْئًا لا يعرف ولا يذكر، ولا يدري الناس من أنا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمْ أَكُنْ شَيْئًا قَطُّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ إِلَّا عِنْدَ الْفِتْنَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وتوفني مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين}.

- 24 - فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً - 25 - وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً - 26 - فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً

اختلف الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ ابن عباس: {فَنَادَاهَا مِن تحتها} جبريل (وهو قول الضحاك والسدي وقتادة وسعيد بن جبير)، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى حَتَّى أَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا، أَيْ نَادَاهَا مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ} قَالَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وقال الحسن: هو ابنها (وهو رواية سعيد بن جبير واختاره ابن جرير). قال أو لم تسمع الله يقول {فأشارت إليه}، وقوله: {أن لا تَحْزَنِي} أَيْ نَادَاهَا قَائِلًا لَا تَحْزَنِي {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}، عن البراء بن عازب، وعن ابن عباس: السري النهر، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْجَدْوَلُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ النَّهْرُ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جرير، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالسَّرِيِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (وبه قال الحسن وَالرَّبِيعُ بْنُ أنَس وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ، وهو ضعيف والقول الأول أظهر كما قال ابن كثير)، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أُظْهَرُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} أَيْ وَخُذِي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ، قِيلَ: كَانَتْ يَابِسَةً قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وقيل: مثمرة، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ شَجَرَةً، وَلَكِنْ لَمْ تَكُنْ فِي إِبَّانِ ثَمَرِهَا، قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: ولهذا امتن عليها بذلك بأن جَعَلَ عِنْدَهَا طَعَامًا وَشَرَابًا فَقَالَ: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} أَيْ طِيبِي نَفْسًا، وَلِهَذَا قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: مَا مِنْ شَيْءٍ خَيْرٌ لِلنُّفَسَاءِ مِنَ التَّمْرِ والرطب، ثم تلا هذه الآية الكريمة. وقوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} أَيْ مَهْمَا رَأَيْتِ مِنْ أَحَدٍ، {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً}، الْمُرَادُ بِهَذَا الْقَوْلِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقَوْلُ اللَّفْظِيُّ، لِئَلَّا يُنَافِيَ {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً}، قَالَ أنَس بْنُ مَالِكٍ فِي قوله: {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} قال: صَمْتًا، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ، وَفِي رواية عن أنَس: صوماً وصمتاً، والمراد أنهم إِذَا صَامُوا فِي شَرِيعَتِهِمْ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الطَّعَامُ والكلام. روى ابن إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَجَاءَ رَجُلَانِ فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُسَلِّمِ الْآخَرُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ أَصْحَابُهُ: حَلَفَ أن لا يُكَلِّمَ النَّاسَ الْيَوْمَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مسعود: كلم الناس وسلم عليهم، فإن تِلْكَ امْرَأَةٌ عَلِمَتْ أَنَّ أَحَدًا لَا يُصَدِّقُهَا، أنهما حَمَلَتْ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، يَعْنِي بِذَلِكَ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، لِيَكُونَ عُذْرًا لَهَا إِذَا سُئِلَتْ (رواه ابن إسحاق وابن أبي حاتم وابن جرير). وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: لَمَّا قَالَ عيسى لمريم {لاَّ تَحْزَنِي} قَالَتْ: وَكَيْفَ لَا أَحْزَنُ وَأَنْتَ مَعِي لَا ذَاتُ زَوْجٍ وَلَا مَمْلُوكَةٌ، أَيُّ شَيْءٍ عُذْرِي عِنْدَ النَّاسِ؟ {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً}.

- 27 - فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا - 28 - يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً - 29 - فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا - 30 - قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا - 31 - وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً - 32 - وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً - 33 - وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مَرْيَمَ حِينَ أُمِرَتْ أن تصوم يومها ذلك، ولا تُكَلِّمَ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ، فَإِنَّهَا سَتُكْفَى أَمْرَهَا وَيُقَامُ بِحُجَّتِهَا، فَسَلَّمَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ واستسلمت لقضائه، فأخذت وَلَدَهَا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ، فَلَمَّا رَأَوْهَا كَذَلِكَ أَعْظَمُوا أَمْرَهَا وَاسْتَنْكَرُوهُ جِدًّا، وَقَالُوا {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيّاً} أَيْ أَمْرًا عَظِيمًا، {يَا أُخْتَ هَارُونَ} أَيْ يَا شَبِيهَةَ هَارُونَ فِي الْعِبَادَةِ، {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} أَيْ أَنْتِ مِنْ بَيْتٍ طَيِّبٍ طَاهِرٍ مَعْرُوفٍ بِالصَّلَاحِ وَالْعِبَادَةِ والزهادة، فكيف صدر هذا منك؟ قال السدي: قِيلَ لَهَا {يَا أُخْتَ هَارُونَ} أَيْ أَخِي مُوسَى وَكَانَتْ مِنْ نَسْلِهِ، كَمَا يُقَالُ لِلتَّمِيمِيِّ: يَا أَخَا تَمِيمٍ، وَلِلْمُضَرِيِّ: يَا أَخَا مُضَرٍ، وَقِيلَ: نُسِبَتْ إِلَى رَجُلٍ صَالِحٍ كَانَ فِيهِمُ اسمه هارون (قال السهيلي: هارون رجل من عباد بني إسرائيل المجتهدين كانت مريم تشبه به في اجتهادها، ليس بهارون أخي موسى بن عمران، فإن بينهما من الدهر الطويل والقرون الماضية والأمم الخالية ما قد عرفه الناس)، فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة. وَقَدْ كَانُوا يُسَمُّوْنَ بِأَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ. كَمَا قال الإمام أحمد، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَجْرَانَ، فقالوا: أرأيت ما تقرأون {يَا أُخْتَ هَارُونَ} وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: فَرَجَعْتُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم» (وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب). وقال ابن جرير، عن قتادة قوله {يا أخت هَارُونَ} الآية قَالَ: كَانَتْ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يُعْرَفُونَ بِالصَّلَاحِ وَلَا يُعْرَفُونَ بِالْفَسَادِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْرَفُونَ بِالصَّلَاحِ وَيَتَوَالَدُونَ بِهِ، وَآخَرُونَ يُعْرَفُونَ بِالْفَسَادِ وَيَتَوَالَدُونَ بِهِ، وَكَانَ هَارُونُ مُصْلِحًا مُحَبَّبًا فِي عَشِيرَتِهِ، وَلَيْسَ بِهَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَلَكِنَّهُ هَارُونُ آخَرُ، قَالَ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ شَيَّعَ جِنَازَتَهُ يَوْمَ مات أربعون ألفاً كلهم يسمون هَارُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَوْلُهُ: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} أَيْ إِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَرَابُوا فِي أَمْرِهَا وَاسْتَنْكَرُوا قَضِيَّتَهَا، وَقَالُوا لَهَا مَا قَالُوا مُعَرِّضِينَ بقذفها ورميها بالفرية، وقد كانت يومها هذا صَائِمَةً صَامِتَةً، فَأَحَالَتِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ، وَأَشَارَتْ لَهُمْ إِلَى خِطَابِهِ وَكَلَامِهِ، فَقَالُوا مُتَهَكِّمِينَ بِهَا ظَانِّينَ أَنَّهَا تَزْدَرِي بِهِمْ وَتَلْعَبُ بِهِمْ {كَيْفَ نُكَلِّمُ من كان في المهد صَبِيّاً}؟ قال السُّدِّيُّ: لَمَّا أَشَارَتْ إِلَيْهِ غَضِبُوا وَقَالُوا لَسُخْرِيَّتُهَا بنا حتى تَأْمُرُنَا أَنَّ نُكَلِّمَ هَذَا الصَّبِيَّ أَشُدُّ عَلَيْنَا مِنْ زِنَاهَا {قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} أَيْ مَنْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي مَهْدِهِ فِي حَالِ صِبَاهُ وَصِغَرِهِ، كَيْفَ يَتَكَلَّمُ؟ {قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ نَزَّهَ جَنَابَ رَبِّهِ تَعَالَى وبرأه عَنِ الْوَلَدِ، وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الْعُبُودِيَّةَ لِرَبِّهِ، وَقَوْلُهُ: {آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} تَبْرِئَةٌ لِأُمِّهِ مِمَّا نُسِبَتْ إِلَيْهِ مِنَ الْفَاحِشَةِ، قَالَ نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ: لَمَّا قَالُوا لِأُمِّهِ مَا قَالُوا كَانَ يَرْتَضِعُ ثَدْيَهُ، فَنَزَعَ الثَّدْيَ مِنْ فَمِهِ، وَاتَّكَأَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ وَقَالَ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً - إِلَى قَوْلِهِ - مَا دُمْتُ حيا}. وقوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ}، قَالَ مُجَاهِدٌ: وجعلني معلماً للخير، وفي رواية عنه: نفاعاً، وَقَوْلُهُ: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {واعبد رَبَّكَ حتى يأتيك اليقين}. وَقَوْلُهُ: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} أَيْ وَأَمَرَنِي بِبِرِّ وَالِدَتِي، ذكره بعد طاعة رَبِّهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَثِيرًا مَا يُقْرِنُ بَيْنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَطَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير}، وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}

أَيْ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَبِرِّ وَالِدَتِي فَأَشْقَى بِذَلِكَ، قَالَ سُفْيَانُ الثوري: الجبار الشقي الذي يقتل عَلَى الْغَضَبِ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا تُجِدُ أَحَدًا عَاقًّا لِوَالِدَيْهِ إِلَّا وَجَدْتَهُ جَبَّارًا شَقِيًّا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}. وَقَوْلُهُ: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} إِثْبَاتٌ مِنْهُ لِعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَحْيَا وَيَمُوتُ وَيُبْعَثُ كَسَائِرِ الْخَلَائِقِ، وَلَكِنْ لَهُ السَّلَامَةَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ أَشَقُّ مَا يَكُونُ عَلَى الْعِبَادِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وسلامه عليه.

- 34 - ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ - 35 - مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ - 36 - وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ - 37 - فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه: ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليه السلام {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ} أَيْ يَخْتَلِفُ المبطلون والمحققون ممن آمن به وكفر به، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَهُ عَبْدًا نَبِيًّا نَزَّهَ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ، فَقَالَ: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} أَيْ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، أَيْ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً فَإِنَّمَا يَأْمُرُ به، فيصير كما يشاء كما قال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أَيْ ومما أمر به عيسى قَوْمَهُ وَهُوَ فِي مَهْدِهِ أَنْ أَخْبَرَهُمْ إِذْ ذاك أن الله ربه وربهم، وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ فَقَالَ {فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أَيْ هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ عَنِ اللَّهِ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ أَيْ قَوِيمٌ مَنِ اتَّبَعَهُ رَشَدَ وَهَدَى وَمَنْ خَالَفَهُ ضَلَّ وَغَوَى، وَقَوْلُهُ: {فَاخْتَلَفَ الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} أي اختلف قول أَهْلِ الْكِتَابِ فِي عِيسَى بَعْدَ بَيَانِ أَمْرِهِ وَوُضُوحِ حَالِهِ، وَأَنَّهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، فصممت طائفة منهم وَهُمْ جُمْهُورُ الْيَهُودِ عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ، عَلَى أَنَّهُ وَلَدُ زِنْيَةٍ، وَقَالُوا: كَلَامُهُ هَذَا سِحْرٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخرى: إِنَّمَا تَكَلَّمَ اللَّهُ، وَقَالَ آخرون: بل هُوَ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَ آخَرُونَ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وهذا هو قَوْلَ الحق الذي أرشد إِلَيْهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابن جُرَيْجٍ وقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ (قُسْطَنْطِينَ) جَمَعَهُمْ فِي مَحْفَلٍ كَبِيرٍ مِنْ مَجَامِعِهِمُ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَهُمْ، فَكَانَ جَمَاعَةُ الْأَسَاقِفَةِ مِنْهُمْ أَلْفَيْنِ وَمِائَةً وسبيعن أُسْقُفًا، فَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السلام اختلافاً متبانياً جداً، فقالت كل شرذمة فيه قولاً، وَلَمْ يَجْتَمِعْ عَلَى مَقَالَةٍ وَاحِدَةٍ أَكْثَرُ مِنْ ثلثمائة وَثَمَانِيَةٍ مِنْهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى قَوْلٍ وَصَمَّمُوا عَلَيْهِ فمال إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ، وَكَانَ فَيْلَسُوفًا، فَقَدَّمَهُمْ وَنَصَرَهُمْ وَطَرَدَ مَنْ عَدَاهُمْ، فَوَضَعُوا لَهُ الْأَمَانَةَ الْكَبِيرَةَ بَلْ هِيَ الْخِيَانَةُ الْعَظِيمَةُ، وَوَضَعُوا لَهُ كُتُبَ الْقَوَانِينِ وَشَرَّعُوا لَهُ أَشْيَاءَ وَابْتَدَعُوا بِدَعًا كَثِيرَةً، وَحَرَّفُوا دين المسيح وغيروه، فابتنى لهم حينئذٍ الْكَنَائِسَ الْكِبَارَ فِي مَمْلَكَتِهِ كُلِّهَا، بِلَادِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالرُّومِ، فَكَانَ مَبْلَغُ الْكَنَائِسِ فِي أَيَّامِهِ ما يقارب اثني عشر ألف كنيسة، وَقَوْلُهُ: {فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} تهديد

وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَافْتَرَى، وَزَعَمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا، وَلَكِنْ أَنْظَرَهُمْ تَعَالَى إلى يوم القيامة، وأجّلهم حلماً فَإِنَّهُ الَّذِي لَا يَعْجَلُ عَلَى مَنْ عَصَاهُ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ» وقد قَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وإليَّ المصير}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار}، ولهذا قال ههنا {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أَيْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حُقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ؛ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ من العمل».

- 38 - أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ - 39 - وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ - 40 - إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الكفار يوم القيامة: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} أَيْ مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {لَكِنِ الظَّالِمُونَ اليوم} أي في الدينا {فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أَيْ: لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ، فَحَيْثُ يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْهُدَى لَا يَهْتَدُونَ، وَيَكُونُونَ مُطِيعِينَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} أَيْ أَنْذِرِ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْحَسْرَةِ {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ}: أَيْ فَصَلَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النار، وصار كُلٌّ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ مُخَلَّدًا فِيهِ، {وَهُمْ} أَيِ الْيَوْمَ {فِي غَفْلَةٍ} عَمَّا أُنْذِرُوا به يوم الحسرة والندامة {وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أَيْ: لَا يُصَدِّقُونَ بِهِ. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، يُجَاءُ بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ قال، فيشرئبون وينظرون وَيَقُولُونَ، نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ، فَيَشْرَئِبُّونَ وينظرون وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قَالَ، وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ وَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ وَلَا موت" ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، وأشار بيده ثم قال: «أهل الدنيا في غفلة الدنيا» (رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري واللفظ له وأخرجه الشيخان عن ابن عمر ولفظهما قريب من ذلك). وقال السُّدي، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، أُتِيَ بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَذَا الْمَوْتُ الَّذِي كَانَ يُمِيتُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي أَهْلِ عِلِّيِّينَ، وَلَا فِي أَسْفَلِ دَرَجَةٍ فِي الجنة إلاّ نظر إليه، ثم ينادي مناد: يَا أَهْلَ النَّارِ هَذَا الْمَوْتُ الَّذِي كَانَ يميت الناس في الدينا فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَا فِي أَسْفَلِ دَرْكٍ مِنْ جَهَنَّمَ إِلَّا نَظَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ يُذْبَحُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُنَادَى: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هُوَ الْخُلُودُ أَبَدَ الْآبِدِينَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ هُوَ الْخُلُودُ أَبَدَ الْآبِدِينَ، فَيَفْرَحُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرْحَةً لَوْ كان أحدا مَيِّتًا مِنْ فَرَحٍ مَاتُوا، وَيَشْهَقُ

أَهْلُ النَّارِ شَهْقَةً لَوْ كَانَ أَحَدٌ مَيِّتًا من شهقة ماتوا، فذلك قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ}: يَقُولُ إِذَا ذُبِحَ الْمَوْتُ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ في تفسيره). وقال ابن عباس: {يَوْمَ الْحَسْرَةِ} مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، عظَّمه اللَّهُ وَحَذَّرَهُ عِبَادَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زيد، فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَرَأَ: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله}، وَقَوْلُهُ: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ، وَأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ يَهْلَكُونَ وَيَبْقَى هُوَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، وَلَا أَحَدَ يَدَّعِي مُلْكًا وَلَا تَصَرُّفًا، بَلْ هُوَ الْوَارِثُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ الْبَاقِي بَعْدَهُمْ، الْحَاكِمُ فِيهِمْ، فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ولا جناح بعوضة ولا مثقال ذرة.

- 41 - وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً - 42 - إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا - 43 - يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً - 44 - يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا - 45 - يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ إِنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاذْكُرْ فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ} أي اتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام، خبر إبراهيم خليل الرحمن، وقد كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً مَعَ أَبِيهِ كَيْفَ نَهَاهُ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَقَالَ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} أَيْ لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَدْفَعُ عَنْكَ ضَرَرًا، {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} يَقُولُ: وإن كنت من صلبك وتراني أَصْغَرُ مِنْكَ، لِأَنِّي وَلَدُكَ، فَاعْلَمْ أَنِّي قَدِ اطَّلَعْتُ مِنَ الْعِلْمِ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَا تَعْلَمْهُ أَنْتَ، وَلَا اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ وَلَا جَاءَكَ {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} أَيْ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا مُوَصِّلًا إِلَى نَيْلِ الْمَطْلُوبِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ الْمَرْهُوبِ، {يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} أَيْ لَا تُطِعْهُ فِي عِبَادَتِكَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ فَإِنَّهُ هُوَ الدَّاعِي إِلَى ذَلِكَ وَالرَّاضِي بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا يني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عدو مبين}، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} أَيْ مُخَالِفًا مُسْتَكْبِرًا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، فَطَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ، فلا تتبعه {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ إِنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ}: أَيْ عَلَى شِرْكِكَ وَعِصْيَانِكَ لِمَا آمُرُكَ بِهِ {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} يَعْنِي فَلَا يَكُونُ لَكَ مَوْلًى وَلَا نَاصِرًا وَلَا مُغِيثًا إِلَّا إِبْلِيسُ، وَلَيْسَ إِلَيْهِ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَلِ اتِّبَاعُكَ لَهُ مُوجِبٌ لإحاطة العذاب بك، كما قال تعالى: {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

- 46 - قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً - 47 - قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا - 48 - وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَوَابِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ لِوَلَدِهِ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ}؟ يَعْنِي إِنْ كُنْتَ لَا تُرِيدُ عِبَادَتَهَا وَلَا تَرْضَاهَا، فاتنه عَنْ سَبِّهَا وَشَتْمِهَا وَعَيْبِهَا، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ اقْتَصَصْتُ مِنْكَ وَشَتَمْتُكَ وَسَبَبْتُكَ، وهو قوله: {لأَرْجُمَنَّكَ}، قاله ابن عباس (وقاله أيضاُ السدي وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ)، وَقَوْلُهُ: {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} قال مجاهد: يَعْنِي دَهْرًا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: زَمَانًا طَوِيلًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} قَالَ: أَبَدًا. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} قَالَ: سَوِيًّا سَالِمًا، قَبْلَ أَنْ تُصِيبَكَ مِنِّي عُقُوبَةٌ (وَكَذَا قَالَ الضحّاك وقتادة وأبو مالك، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ)، فَعِنْدَهَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ {سَلاَمٌ عَلَيْكَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ المؤمنين: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قالوا سلاما}، وقال تعالى: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين}، وَمَعْنَى قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ {سَلاَمٌ عَلَيْكَ} يَعْنِي: أَمَّا أَنَا فَلَا يَنَالُكَ مِنِّي مَكْرُوهٌ وَلَا أَذًى وَذَلِكَ لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي}، ولكن سأسأل الله فِيكَ أَنْ يَهْدِيَكَ وَيَغْفِرَ ذَنْبَكَ، {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَطِيفًا، أي في أن هداني لعبادته. وقال قتادة ومجاهد {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} قالا: عودة الْإِجَابَةَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْحَفِيُّ الَّذِي يَهْتَمُّ بِأَمْرِهِ، وقد استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لِأَبِيهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَبَعْدَ أَنْ هَاجَرَ إِلَى الشَّامِ وَبَنَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَبَعْدَ أَنْ وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب}، وَقَدِ اسْتَغْفَرَ الْمُسْلِمُونَ لِقَرَابَاتِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ في ابتداء الإسلام، حتى أنزل الله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أسوة في إِبْرَاهِيمَ والذين معه إذا قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله - إِلَى قَوْلِهِ - إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِّن شَيْءٍ} الْآيَةَ، يَعْنِي إِلَّا فِي هَذَا الْقَوْلِ فَلَا تَتَأَسَّوْا بِهِ، ثُمَّ بيَّن تَعَالَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَقْلَعَ عن ذلك ورجع عنه، فقال تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}، وَقَوْلُهُ: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} أَيْ أَجْتَنِبُكُمْ وَأَتَبَرَّأُ مِنْكُمْ وَمِنْ آلِهَتِكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، {وَأَدْعُو رَبِّي} أَيْ وَأَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً} وعسى هَذِهِ مُوجِبَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.

- 49 - فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا - 50 - وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً يقول تعالى: فَلَمَّآ اعْتَزَلَ الْخَلِيلُ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ فِي اللَّهِ، أَبْدَلَهُ اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَوَهَبَ لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، يَعْنِي ابْنَهُ وَابْنَ إِسْحَاقَ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً}، وقال: {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يعقوب}، وَلَا خِلَافَ أَنَّ إِسْحَاقَ وَالِدُ يَعْقُوبَ وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي؟ قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ولهذا إنما ذكر ههنا إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، أَيْ جَعَلْنَا لَهُ نَسْلًا وَعَقِبًا أَنْبِيَاءَ، أَقَرَّ اللَّهُ بِهِمْ عَيْنَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَكُلاًّ جَعَلْنَا

نَبِيّاً} فلو لم يكن يعقوب عليه السلام قَدْ نُبِّئَ فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ، لَمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَلَذَكَرَ وَلَدَهُ يُوسُفَ، فَإِنَّهُ نَبِيٌّ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: {وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً}، قال ابن عباس: يعني الثناء الحسن، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّمَا قَالَ {عَلِيّاً} لِأَنَّ جَمِيعَ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ يُثْنُونَ عَلَيْهِمْ وَيَمْدَحُونَهُمْ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

- 51 - وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً - 52 - وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا - 53 - وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، عَطَفَ بِذِكْرِ الْكَلِيمِ فَقَالَ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} بكسر اللام من الإخلاص في العبادة، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مُصْطَفًى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ}، {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} جمع الله لَهُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ الْكِبَارِ، أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ، وَهُمْ (نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ) صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ أَجْمَعِينَ، وَقَوْلُهُ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جانب الطور} أي الجانب {الْأَيْمَنِ} مِنْ مُوسَى حِينَ ذَهَبَ يَبْتَغِي مِنْ تلك النار جذوة، فرآها تَلُوحُ فَقَصَدَهَا فَوَجَدَهَا فِي جَانِبِ الطُّوْرِ الْأَيْمَنِ منه، غربية عند شاطئ الوادي، فكلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه. روى ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} قَالَ: أُدْنِيَ حتى سمع صريف القلم. وَقَالَ السُّدِّيُّ {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} قَالَ: أُدْخِلَ فِي السماء فكلم، وعن مجاهد نحوه، وروى ابن أبي حاتم، عن عمرو بن معد يكرب قَالَ: لَمَّا قَرَّبَ اللَّهُ مُوسَى نَجِيًّا بِطُورِ سَيْنَاءَ قَالَ: يَا مُوسَى إِذَا خَلَقْتُ لَكَ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَةً تُعِينُ عَلَى الْخَيْرِ، فَلَمْ أُخَزِّنْ عَنْكَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، وَمَنْ أُخَزِّنُ عَنْهُ هَذَا فَلَمْ أَفْتَحْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، وَقَوْلُهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} أَيْ وَأَجَبْنَا سُؤَالَهُ وَشَفَاعَتَهُ فِي أَخِيهِ فَجَعَلْنَاهُ نَبِيًّا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ إِنْ يُكَذِّبُونِ}، وقال: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا موسى}، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا شُفِّعَ أَحَدٌ شَفَاعَةً فِي الدُّنْيَا أَعْظَمُ مِنْ شَفَاعَةِ مُوسَى فِي هَارُونَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً}، قال ابن عباس: كَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى، وَلَكِنْ أَرَادَ وهب نبوته له (أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم).

- 54 - وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً - 55 - وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً هَذَا ثَنَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهُوَ وَالِدُ عَرَبِ الْحِجَازِ كُلِّهِمْ بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ لَمْ يَعِدْ رَبَّهُ عِدَةً إِلَّا أنجزها، يعني ما التزم عبادة قط بِنَذْرٍ إِلَّا قَامَ بِهَا، وَوَفَّاهَا حَقَّهَا. وَقَالَ ابن جرير، عن سهل بن عقيل، أَنَّ (إِسْمَاعِيلَ) النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَدَ رَجُلًا مكاناً أن يأتيه فيه،

فَجَاءَ وَنَسِيَ الرَّجُلُ فَظَلَّ بِهِ إِسْمَاعِيلُ، وَبَاتَ حَتَّى جَاءَ الرَّجُلُ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: مَا برحت من ههنا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: إِنِّي نَسِيتُ، قَالَ: لَمْ أَكُنْ لِأَبْرَحَ حَتَّى تَأْتِيَنِي، فَلِذَلِكَ {كَانَ صَادِقَ الوعد}، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَمْسَاءِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ فَبَقِيَتْ لَهُ عليَّ بَقِيَّةٌ، فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ، قَالَ فَنَسِيتُ يَوْمِي وَالْغَدَ، فَأَتَيْتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَهُوَ فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ، فَقَالَ لِي: «يا فتى لقد شققت عليّ أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك»، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا قِيلَ لَهُ {صَادِقَ الْوَعْدِ} لِأَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ {سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصابرين} فَصَدَقَ فِي ذَلِكَ، فصدقُ الْوَعْدِ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ، كَمَا أَنَّ خُلْفَهُ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" (الحديث أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة)، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ، كَانَ التَّلَبُّسُ بِضِدِّهَا مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ إِسْمَاعِيلَ بِصِدْقِ الْوَعْدِ، وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقَ الْوَعْدِ أَيْضًا، لَا يَعِدُ أَحَدًا شَيْئًا إِلَّا وَفَّى لَهُ بِهِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ زَوْجِ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ فقال: «حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي». وقوله تعالى: {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى شَرَفِ إِسْمَاعِيلَ عَلَى أَخِيهِ إِسْحَاقَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وُصِفَ بِالنُّبُوَّةِ فَقَطْ، وَإِسْمَاعِيلُ وُصِفَ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ» وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ، وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}، هَذَا أَيْضًا مِنَ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ وَالصِّفَةِ الْحَمِيدَةِ وَالْخِلَّةِ السَّدِيدَةِ، حَيْثُ كَانَ صابراً على طاعة ربه عز وجل، آمِرًا بِهَا لِأَهْلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عليها} الآية. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ» (أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ). وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ مِنَ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ الله كثيراً والذكرات» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ له).

- 56 - وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نبياً - 57 - وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ذِكْرُ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، بِأَنَّهُ كَانَ صدِّيقاً نَّبِيّاً، وَأَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ مَكَانًا عَلِيًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّ بِهِ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ خَيَّاطًا فَكَانَ لَا يَغْرِزُ إِبْرَةً إِلَّا قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَكَانَ يُمْسِي حِينَ يُمْسِي وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ أحد أفضل عملاً منه، وقال مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قَالَ: إِدْرِيسُ رُفِعَ وَلَمْ يَمُتْ كَمَا رُفِعَ عِيسَى. وقال سفيان، عن مجاهد {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال: السماء الرابعة، وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قَالَ: الْجَنَّةُ.

- 58 - أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا يَقُولُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ النَّبِيُّونَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَطْ، بَلْ جِنْسُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، اسْتَطْرَدَ مِنْ ذِكْرِ الْأَشْخَاصِ إِلَى الْجِنْسِ، {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ} الْآيَةَ. قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ (إِدْرِيسَ)، وَالَّذِي عَنَى بِهِ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ (إِبْرَاهِيمَ)، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ (إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَإِسْمَاعِيلَ)، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ (مُوسَى وَهَارُونَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ)، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلِذَلِكَ فَرَّقَ أَنْسَابَهُمْ، وَإِنْ كَانَ يَجْمَعُ جَمِيعَهُمْ آدَمُ، لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْ وَلَدِ مَنْ كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، وَهُوَ إِدْرِيسُ، فَإِنَّهُ جَدُّ نُوحٍ، (قُلْتُ): هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، أَنَّ إِدْرِيسَ فِي عَمُودِ نَسَبِ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ قِيلَ إنه من أنبياء بني إسرئيل، أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، حَيْثُ قَالَ فِي سَلَامِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، وَلَمْ يَقِلْ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، كَمَا قَالَ آدَمُ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمَا السلام، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ: "أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَفِي {ص} سَجْدَةٌ؟ فقال: نعم، ثم تلا هذه الآية: {أولئك الذي هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} فَنَبِيُّكُمْ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ، قَالَ وَهُوَ مِنْهُمْ يَعْنِي دَاوُدَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} أَيْ إِذَا سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ الْمُتَضَمِّنَ حُجَجَهُ وَدَلَائِلَهُ وَبَرَاهِينَهُ سَجَدُوا لِرَبِّهِمْ خُضُوعًا واستكانة حمداً وَشُكْرًا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَالْبُكِيُّ جَمْعُ بَاكٍ فَلِهَذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ على شرعية السجود ههنا اقْتِدَاءً بِهِمْ وَاتِّبَاعًا لِمِنْوَالِهِمْ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُورَةَ مَرْيَمَ فَسَجَدَ، وَقَالَ هَذَا السُّجُودُ، فَأَيْنَ الْبُكِيُّ؟ يُرِيدُ الْبُكَاءَ" (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وابن جرير).

- 59 - فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا - 60 - إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حِزْبَ السُّعَدَاءِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْقَائِمِيْنَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ الْمُؤَدِّينَ فَرَائِضَ اللَّهِ التَّارِكِينَ لِزَوَاجِرِهِ، ذَكَرَ أَنَّهُ {خَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي قرون أخر، {أَضَاعُواْ الصلاة}، وَأَقْبَلُوا عَلَى شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَمَلَاذِّهَا، وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا، فَهَؤُلَاءِ سَيَلْقَوْنَ غَيًّا، أَيْ خَسَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بإضاعة الصلاة ههنا، فَقَالَ قَائِلُونَ: الْمُرَادُ بِإِضَاعَتِهَا تَرْكُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، قَالَهُ محمد بن كعب القرظي وَالسُّدِّيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَلِهَذَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كَمَا هُوَ مشهور عن الإمام أحمد، إِلَى تَكْفِيرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ لِلْحَدِيثِ: «بَيْنَ الْعَبْدِ وبين الشرك ترك الصلاة» (الحديث: أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي عن جابر بلفظ «بين الرجل وبين الشرك الكفر ... »)، وَالْحَدِيثِ الْآخَرِ: «الْعَهْدُ الَّذِي

بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»، وَلَيْسَ هَذَا مَحَلُّ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ الأوزاعي: إِنَّمَا أَضَاعُوا الْمَوَاقِيتَ وَلَوْ كَانَ تَرْكًا كَانَ كفراً. وقيل لابن مسعود: إِنَّ اللَّهَ يُكْثِرُ ذِكْرَ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ}، وَ {عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ}، و {على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ}، فقال ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَى مَوَاقِيتِهَا، قَالُوا: مَا كُنَّا نرى ذلك إلاّ على الترك، قال: ذلك الْكُفْرُ، وَقَالَ مَسْرُوقٌ: لَا يُحَافِظُ أَحَدٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَيُكْتَبُ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَفِي إِفْرَاطِهِنَّ الْهَلَكَةُ؛ وَإِفْرَاطِهِنَّ إِضَاعَتُهُنَّ عَنْ وَقْتِهِنَّ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: قرأ عمر بن عبد العزيز: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة}، ثُمَّ قَالَ: لَمْ تَكُنْ إِضَاعَتُهُمْ تَرْكَهَا وَلَكِنْ أضاعوا الوقت، وقال مجاهد: ذلك عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَذَهَابِ صَالِحِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزُو بَعْضُهُمْ عَلَى بعض في الأزقة. وقال ابن جرير عَنْ مُجَاهِدٍ {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} قَالَ: هُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَتَرَاكَبُونَ تَرَاكُبَ الْأَنْعَامِ وَالْحُمُرِ فِي الطُّرُقِ، لَا يَخَافُونَ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ، وَلَا يَسْتَحْيُونَ من الناس في الأرض. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَجِدُ صِفَةَ الْمُنَافِقِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: شرَّابين للقهوات، ترَّاكين للصلوات، لعَّابين بالكعبات، رقَّادين على العتمات، مفرطين في الغدوات، تراكين للجماعات، قَالَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً}، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عطَّلوا الْمَسَاجِدَ ولزموا الضعيات. وقال أبو الأشهب: أوحى الله إلى داود عليه السلام: يَا دَاوُدُ حَذِّرْ وَأَنْذِرْ أَصْحَابَكَ أَكْلَ الشَّهَوَاتِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ الْمُعَلَّقَةَ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا عُقُولُهَا عَنِّي مَحْجُوبَةٌ، وَإِنَّ أَهْوَنَ مَا أَصْنَعُ بِالْعَبْدِ مِنْ عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته أن أحرمه طاعتي، وقوله: {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً}، قال ابن عباس: أي خسراناً، وقال قتادة شراً، وقال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} قَالَ: وادٍ فِي جَهَنَّمَ بَعِيدُ الْقَعْرِ خَبِيثُ الطَّعْمِ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيًّا} قَالَ: وادٍ في جهنم من قيح ودم. وقوله {إِلاَّ مَن تَابَ وآمن وَعَمِلَ صَالِحاً} أَيْ إِلَّا مَنْ رَجَعَ عَنْ تَرْكِ الصَّلَوَاتِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ وَيُحْسِنُ عَاقِبَتَهُ وَيَجْعَلُهُ مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} ذلك لأنَّ التَّوْبَةَ تجبُّ مَا قَبْلَهَا. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» (أخرجه ابن ماجه عن ابن مسعود والحكيم الترمذي عن أبي سعيد الخدري) وَلِهَذَا لَا يُنْقَصُ هَؤُلَاءِ التَّائِبُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا شَيْئًا وَلَا قُوبِلُوا بِمَا عَمِلُوهُ قَبْلَهَا فَيُنْقَصُ لَهُمْ مِمَّا عَمِلُوهُ بَعْدَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ ذَهَبَ هَدَرًا وَتُرِكَ نِسْيًا، وَذَهَبَ مَجَّانًا مِنْ كَرَمِ الْكَرِيمِ وَحِلْمِ الْحَلِيمِ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ ههنا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بالحق - إلى قوله - وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً}.

- 61 - جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا - 62 - لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا - 63 - تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا يَقُولُ تَعَالَى: الْجَنَّاتُ الَّتِي يدخلها التائبون هِيَ {جَنَّاتِ عَدْنٍ} أَيْ إِقَامَةٍ {الَّتِي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ} بظهر الْغَيْبِ الَّذِي يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَا رَأَوْهُ، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ إِيقَانِهِمْ وَقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ

وَعْدُهُ مأتيا} تأكيداً لِحُصُولِ ذَلِكَ وَثُبُوتِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَا يُبَدِّلُهُ، كَقَوْلِهِ {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} أي كائناً لا محالة، وقوله ههنا {مَأْتِيّاً} أَيِ الْعِبَادُ صَائِرُونَ إِلَيْهِ وَسَيَأْتُونَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ {مَأْتِيّاً} بِمَعْنَى آتِيًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا أَتَاكَ فَقَدْ أَتَيْتَهُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: أَتَتْ عليَّ خَمْسُونَ سَنَةً وَأَتَيْتُ عَلَى خَمْسِينَ سَنَةً كِلَاهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً}، أَيْ هَذِهِ الْجَنَّاتُ لَيْسَ فِيهَا كَلَامٌ سَاقِطٌ تَافِهٌ لَا مَعْنًى لَهُ، كَمَا قد يوجد في الدينا، وَقَوْلُهُ {إِلاَّ سَلاَماً} اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، كَقَوْلِهِ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلَّا قليلا سلاما سلاما}، وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أَيْ فِي مِثْلِ وَقْتِ البُكُرَاتِ وَوَقْتِ العَشِيَّاتِ، لَا أن هناك ليلاً ونهاراً، وَلَكِنَّهُمْ فِي أَوْقَاتٍ تَتَعَاقَبُ يَعْرِفُونَ مُضِيَّهَا بِأَضْوَاءٍ وأنهار، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُوَرُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلَا يَتَمَخَّطُونَ فِيهَا، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ وَأَمْشَاطُهُمُ الذهب والفضة، ومجامرهم الأَلوَّة ورشهم الْمِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ يَرَى مُخَّ ساقها مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الحُسْنِ، لَا اخْتِلَافَ بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبِّحون الله بكرة وعيشاً» (الحديث أخرجه البخاري ومسلم ورواه أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ، فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رزقهم من الجنة بكرة وعيشاً» (رواه الإمام أحمد في المسند". وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قَالَ: مَقَادِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وقال ابن جرير، عن الوليد بن أسلم قَالَ: سَأَلْتُ زُهَيْرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قَالَ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ لَيْلٌ، هُمْ فِي نور أبداً مِقْدَارُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، يَعْرِفُونَ مِقْدَارَ اللَّيْلِ بِإِرْخَاءِ الْحُجُبِ وَإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ. وَيَعْرِفُونَ مِقْدَارَ النَّهَارِ، بِرَفْعِ الحجب وبفتح الأبواب. وقال قتادة: فِيهَا سَاعَتَانِ بَكَرَةٌ وَعَشِيٌّ، لَيْسَ ثَمَّ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَوْءٌ وَنُورٌ. وَقَالَ مجاهد: ليس بُكْرَةٌ وَلَا عَشِيٌّ، وَلَكِنْ يُؤْتَوْنَ بِهِ عَلَى ما كانوا يشتهون في الدنيا. وقوله: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} أَيْ هَذِهِ الْجَنَّةُ الَّتِي وَصَفْنَا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ هِيَ الَّتِي نُورِثُهَا عِبَادَنَا المتقين، وهم الميطعون لِلَّهِ عزَّ وجلَّ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْكَاظِمُونَ الْغَيْظَ وَالْعَافُونَ عَنِ النَّاسِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى في سورة المؤمنين: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

- 64 - وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً - 65 - رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سميا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لجبرائيل: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزرونا؟» قَالَ، فَنَزَلَتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} (أخرجه البخاري في باب التفسير ورواه الإمام أحمد). وقال العوفي عن ابن عباس: احتبس جبرائيل عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك وحزن، فأتاه جبرائيل وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآية. وَقَوْلُهُ: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا}، قِيلَ: الْمُرَادُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا أَمْرُ الدُّنْيَا، وَمَا خَلْفَنَا أَمْرُ الْآخِرَةِ {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} ما بين النفختين، وهذا قول عكرمة ومجاهد والسدي، وقيل {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا}: ما يستقبل مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، {وَمَا خَلْفَنَا}

أَيْ مَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا، {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} أي ما بين الدنيا والآخرة، واختاره ابن جرير، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}، قَالَ مُجَاهِدٌ والسُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ مَا نَسِيَكَ رَبُّكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَقَوْلِهِ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى}، وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ يَرْفَعُهُ قَالَ: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ في كتابه فهو حلال وما حرمه فَهُوَ حَرَامٌ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا»، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (رواه ابن أبي حاتم)، وَقَوْلُهُ: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيْ خَالِقٌ ذَلِكَ وَمُدَبِّرُهُ، وَالْحَاكِمُ فِيهِ وَالْمُتَصَرِّفُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ تَعْلَمُ لِلرَّبِّ مَثَلًا أَوْ شبيهاً (وهو قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وَغَيْرُهُمْ). وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ أَحَدٌ يُسَمَّى الرَّحْمَنَ غَيْرَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ اسمه.

- 66 - وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً - 67 - أَوَلاَ يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا - 68 - فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا - 69 - ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا - 70 - ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ، أَنَّهُ يَتَعَجَّبُ وَيَسْتَبْعِدُ إِعَادَتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا ترابا أئنا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، وَقَالَ: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وهي رميم}، وقال ههنا: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلاَ يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}، يَسْتَدِلُّ تَعَالَى بِالْبَدَاءَةِ عَلَى الْإِعَادَةِ، يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً، أَفَلَا يُعِيدُهُ؟ وَقَدْ صَارَ شَيْئًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، وَفِي الصَّحِيحِ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، وَآذَانِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤْذِيَنِي، أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عليَّ مِنْ آخِرِهِ، وَأَمَّا أَذَاهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: إِنَّ لِي وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ" (أخرجه البخاري في صحيحه)، وَقَوْلُهُ: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} أَقْسَمَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يحشرهم جميعاً، وشياطينهم الذي كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ، {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي قُعُودًا كَقَوْلِهِ: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جاثية} وقال السدي في قوله {جِثِيّاً} يعني قياماً، وروي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ} يَعْنِي مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} قال الثوري عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَحْبِسُ الْأَوَّلَ عَلَى الْآخِرِ، حَتَّى إِذَا تَكَامَلَتِ الْعِدَّةُ أَتَاهُمْ جَمِيعًا، ثُمَّ بَدَأَ بِالْأَكَابِرِ فَالْأَكَابِرِ جُرْمًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً}، وَقَالَ قَتَادَةُ: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ قَادَتَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ فِي الشَّرِّ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ

رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النار}، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً}، المراد أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنَ الْعِبَادِ أَنْ يَصْلَى بِنَارِ جَهَنَّمَ وَيُخَلَّدَ فِيهَا، وَبِمَنْ يستحق تضيف الْعَذَابِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لاَّ تَعْلَمُونَ}.

- 71 - وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً - 72 - ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّنَذَرُ الظالمين فيها جثيا روى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي سُمَيَّةَ قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ، فَقَالَ بَعْضُنَا: لَا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، فَلَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّا اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ، فَقَالَ: يَرِدُونَهَا جَمِيعًا، وأهوى بأصبعه إِلَى أُذُنَيْهِ، وَقَالَ: صُمَّتَا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا ويذر الظالمين فِيهَا جِثِيّاً». وعن قيس ابن أَبِي حَازِمٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَاضِعًا رَأْسَهُ فِي حِجْرِ امْرَأَتِهِ فَبَكَى، فبكت امرأته، قال: ما يبكيك؟ قالت: رَأَيْتُكَ تَبْكِي فَبَكَيْتُ، قَالَ إِنِّي ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} فلا أدري أنجو منها أم لا؟ وكان مريضاً (أخرجه عبد الرزاق). وقال ابن جرير عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: كَانَ أَبُو مَيْسَرَةَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: يَا لَيْتَ أُمِّي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل له: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا مَيْسَرَةَ؟ فَقَالَ: أُخْبِرْنَا أَنَّا وَارِدُوهَا وَلَمْ نُخْبَرْ أَنَّا صَادِرُونَ عَنْهَا، وعن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَجُلٌ لِأَخِيهِ: هَلْ أَتَاكَ أَنَّكَ وَارِدٌ النَّارَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ أَتَاكَ أَنَّكَ صَادِرٌ عَنْهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَفِيمَ الضَّحِكُ، قَالَ: فَمَا رُئِيَ ضَاحِكًا حتى لحق بالله، وقال عبد الرزاق خاصم ابن عباس نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوُرُودُ الدُّخُولُ، فَقَالَ نَافِعٌ: لَا، فَقَرَأَ ابْنَ عَبَّاسٍ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، أَنتُمْ لها واردون} وَرَدُوا أَمْ لَا؟ وَقَالَ: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} أوردهم أَمْ لَا؟ أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَسَنَدْخُلُهَا، فَانْظُرْ هَلْ نَخْرُجُ مِنْهَا أَمْ لَا؟ وَمَا أَرَى الله مخرجك منها بتكذيبك، فضحك نافع. وقال: عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَتَاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو رَاشِدٍ، وَهُوَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ. فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أرأيتِ قَوْلَ اللَّهِ: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً}، قَالَ: أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ يَا أَبَا رَاشِدٍ فَسَنَرِدُهَا فانظر هل نصدر عنها أم لا؟ وعن عبد الله بن مَسْعُودٍ {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرِدُ النَّاسُ كلهم ثم يصدون عنها بأعمالهم» (رواه أحمد والترمذي). وَقَدْ رَوَاهُ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَرِدُ النَّاسُ جَمِيعًا الصِّرَاطَ، وَوُرُودُهُمْ قِيَامُهُمْ حَوْلَ النَّارِ، ثم يصدون عَنِ الصِّرَاطِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الطَّيْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَأَجْوَدِ الْخَيْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَأَجْوَدِ الْإِبِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَعَدْوِ الرجُل، حَتَّى إِنَّ آخرهم مراً رجل نوره على موضع قدميه يمر فيتكفأ بِهِ الصِّرَاطَ، وَالصِّرَاطُ دَحْضُ مَزَلَّةٍ، عَلَيْهِ حَسَكٌ كَحَسَكِ الْقَتَادِ، حَافَّتَاهُ مَلَائِكَةٌ مَعَهُمْ كَلَالِيبُ مِنْ نار يختطفون بها الناس (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقال ابن جرير، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلُهُ

{وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قَالَ: الصِّرَاطُ عَلَى جَهَنَّمَ مِثْلُ حَدِّ السَّيْفِ، فَتَمُرُّ الطَّبَقَةُ الْأُولَى كَالْبَرْقِ، وَالثَّانِيَةُ كَالرِّيحِ، وَالثَّالِثَةُ كَأَجْوَدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعَةُ كَأَجْوَدِ الْبَهَائِمِ، ثُمَّ يَمُرُّونَ وَالْمَلَائِكَةُ يَقُولُونَ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَلِهَذَا شَوَاهِدُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. عَنْ أُمِّ مُبَشِّرٍ امْرَأَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ فَقَالَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ»، قَالَتْ حَفْصَةُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا} الآية، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ تَمَسُّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ القسم» يعني الورود. وقال قتادة قوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} هُوَ الْمَمَرُّ عَلَيْهَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زيد. ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهرانيها، وورود المشركين أن يدخلوها، والزالون والزالات يومئذٍ كثير، وقد أحاط يومئذٍ سِمَاطَانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ دُعَاؤُهُمْ يَا أَللَّهُ سلم سلم" وقال السدي، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} قَالَ: قَسَمًا وَاجِبًا، وَقَالَ مجاهد: حتماً، قال قضاء، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أَيْ إِذَا مر الخلائق كلهم إلى النار، وسقط من سقط من الكفار، والعصاة، نَجَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ مِنْهَا بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ، فَجَوَازُهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَسُرْعَتُهُمْ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُشَفَّعُونَ فِي أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَشْفَعُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ والمؤمنون، قيخرجون خلقاً كثيراً قد أكلتهم النار إلاّ دارت وجوههم، وهي مواضع السجود، وَلَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}.

- 73 - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً - 74 - وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْيًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ حِينَ تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللَّهِ ظَاهِرَةَ الدَّلَالَةِ بَيِّنَةَ الْحُجَّةِ وَاضِحَةَ الْبُرْهَانِ، أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ ويعرضون عن ذلك، وَيَقُولُونَ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا مُفْتَخِرِينَ عَلَيْهِمْ وَمُحْتَجِّينَ عَلَى صِحَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْبَاطِلِ بِأَنَّهُمْ {خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} أَيْ أَحْسَنُ مَنَازِلَ، وَأَرْفَعُ دُوْرًا، وَأَحْسَنُ نَدِيًّا، وَهُوَ مجتمع الرِّجَالِ لِلْحَدِيثِ، أَيْ نَادِيهِمْ أَعْمَرُ وَأَكْثَرُ وَارِدًا وطارقاً، يعنون فكيف نكون نحن بهذه المثابة على باطل؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ}، وَقَالَ قَوْمُ نُوحٍ، {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ منَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بالشاكرين}؟ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى، رَادًّا عَلَيْهِمْ شُبْهَتَهُمْ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ}: أَيْ وَكَمْ مِنْ أمة وقرن من المكذبين، وقد أَهْلَكْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْيًا} أَيْ كَانُوا أَحْسَنَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَمْوَالًا وَأَمْتِعَةً وَمَنَاظِرَ وأشكالاً. قال ابن عباس {خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} الْمَقَامُ: الْمَنْزِلُ، وَالنَّدِيُّ: الْمَجْلِسُ، وَالْأَثَاثُ: الْمَتَاعُ، وَالرِّئْيُ: المنظر، وهو كما قال الله تَعَالَى: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} فَالْمَقَامُ الْمَسْكَنُ وَالنَّعِيمُ، وَالنَّدِيُّ: الْمَجْلِسُ، وَالْمَجْمَعُ، الَّذِي كانوا يجتمعون فيه، وقال تعالى فِيمَا قَصَّ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْرِ قَوْمِ لوط {وَتَأْتُونَ في ناديكم المنكر} وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَجْلِسَ النَّادِي، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا رَأَوْا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عيشهم خشونة وفيهم

قشافة، فعرض أهل الشرك ما تَسْمَعُونَ {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً}، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْأَثَاثِ هُوَ الْمَالُ، ومنهم من قال الثياب، ومنهم من قال المتاع، والرئي المنظر كما قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَعْنِي الصوَر، وَكَذَا قَالَ مَالِكٌ {أَثَاثًا وَرِئْيًا} أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَحْسَنُ صُوَرًا، وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ صحيح.

- 75 - قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً يَقُولُ تَعَالَى {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمُ، الْمُدَّعِينَ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّكُمْ عَلَى الْبَاطِلِ {مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ} أَيْ مِنَّا وَمِنْكُمْ {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} أي فليمهله الرَّحْمَنُ فِيمَا هُوَ فِيهِ، حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ وينقضي أجله، {إِمَّا العذاب} يصيبه، و {إما السَّاعَةَ} بَغْتَةً تَأْتِيهِ، {فَسَيَعْلَمُونَ} حينئذٍ {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً} فِي مُقَابَلَةِ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ خَيْرِيَّةِ الْمَقَامِ وَحُسْنِ النَّدِيِّ، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} فليدعه في ظيغانه، هَكَذَا قَرَّرَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رحمه الله.

- 76 - وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا لَمَّا ذكر تَعَالَى إِمْدَادَ مَنْ هُوَ فِي الضَّلَالَةِ فِيمَا هُوَ فِيهِ، وَزِيَادَتَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، أخبره بِزِيَادَةِ الْمُهْتَدِينَ هُدًى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إيمانا} الآيتين. وقوله: {والباقيات الصالحات} قد تقدم تفسيرها فِي سُورَةِ الْكَهْفِ {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} أَيْ جَزَاءً {وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} أَيْ عَاقِبَةً وَمَرَدًّا على صاحبها. عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَخَذَ عُودًا يَابِسًا فَحَطَّ وَرَقَهُ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ قَوْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَحُطُّ الْخَطَايَا كَمَا تَحُطُّ وَرَقَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الرِّيحُ، خُذْهُنَّ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنَّ، هُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ وَهُنَّ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ». قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِذَا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ لَأُهَلِّلَنَّ اللَّهَ وَلَأُكَبِّرَنَّ اللَّهَ وَلَأُسَبِّحَنَّ اللَّهَ، حَتَّى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون (رواه عبد الرزاق وظاهره أنه مرسل ولكن وقع في سنن ابن ماجه عن أبي سلمة عن أبي الدرداء فذكره وهو حديث مرفوع).

- 77 - أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا - 78 - أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا - 79 - كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا - 80 - وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فردا روى الإمام أحمد، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَيْنًا، وَكَانَ لِي عَلَى (الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ) دين فأتيته أتقاضاه منه، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ

تُبْعَثَ، قَالَ: فَإِنِّي إِذَا مُتُّ ثُمَّ بُعِثْتُ جئتني ولي ثمَّ مال وولد فأعطيك، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً - إِلَى قَوْلِهِ - وَيَأْتِينَا فَرْدًا} (أخرجه الشيخان والإمام أحمد عن خباب بن الأرت)، وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ: كُنْتُ قَيْنًا بِمَكَّةَ فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ سَيْفًا، فَجِئْتُ أَتَقَاضَاهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قال: موثقاً. وروى عبد الرزاق، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ، قَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ: كُنْتُ قَيْنًا بِمَكَّةَ فَكُنْتُ أَعْمَلُ لِلْعَاصِ بْنِ وائل، فاجتمعت لي عليه دارهم، فجئت لأتقاضاها، فَقَالَ لِي: لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ، قَالَ: فَإِذَا بُعِثْتُ كَانَ لِي مَالٌ وَوَلَدٌ، قَالَ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} الآيات. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَطْلُبُونَ (العاص بن وائل) بِدَيْنٍ، فَأَتَوْهُ يَتَقَاضُونَهُ، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَحَرِيرًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْآخِرَةُ فَوَاللَّهِ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا، وَلَأُوتَيَنَّ مِثْلَ كِتَابِكُمُ الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَهُ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا - إِلَى قوله - وَيَأْتِينَا فَرْداً}، وَقَوْلُهُ: {لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً}، قَرَأَ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الْوَاوِ مِنْ {وَلَداً} وَقَرَأَ آخَرُونَ بِضَمِّهَا وَهُوَ بمعناه، وَقِيلَ: إِنَّ الْوُلْدَ بِالضَّمِّ جَمْعٌ، وَالْوَلَدَ بِالْفَتْحِ مُفْرَدٌ، وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} إِنْكَارٌ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ أَعَلِمَ ماله فِي الْآخِرَةِ، حَتَّى تَأَلَّى وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} أَمْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ سَيُؤْتِيهِ ذَلِكَ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ عند البخاري أنه الموثق، وقال ابن عباس: {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قَالَ: لَا إله إلا الله فيرجو بها، وقال القرظي: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قرأ {ألا من اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}، وَقَوْلُهُ: {كَلاَّ} هِيَ حَرْفُ رَدْعٍ لِمَا قَبْلَهَا، وَتَأْكِيدٌ لِمَا بَعْدَهَا {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} أَيْ مِنْ طَلَبِهِ ذَلِكَ، وحكمه بنفسه، بما يتمناه وَكَفْرِهِ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى قَوْلِهِ ذلك وكفره بالله في الدينا، {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أَيْ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ، نَسْلُبُهُ مِنْهُ عَكْسَ مَا قَالَ إِنَّهُ يُؤْتَى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مَالًا وَوَلَدًا، زِيَادَةً عَلَى الَّذِي لَهُ فِي الدُّنْيَا، بَلْ فِي الْآخِرَةِ يُسْلَبُ مِنَ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، ولهذا قال تعالى: {وَيَأْتِينَا فَرْداً} أَيْ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، قَالَ مجاهد {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ}: ماله وولده، وقال قَتَادَةَ {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} قَالَ: مَا عِنْدَهُ، وهو قوله: {لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} {وَيَأْتِينَا فَرْداً} لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، وقال عبد الرحمن بن زيد {وَنَرِثُهُ مَا يقول} قال: من جمع من الدنيا وما عمل فيها، {وَيَأْتِينَا فَرْداً} قَالَ: فَرْدًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَتْبَعُهُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ.

- 81 - وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً - 82 - كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً - 83 - أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً - 84 - فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمْ، أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لِتَكُونَ لهم تِلْكَ الْآلِهَةُ {عِزّاً} يَعْتَزُّونَ بِهَا وَيَسْتَنْصِرُونَهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا وَلَا يَكُونُ مَا طَمِعُوا، فَقَالَ {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ}: أي

يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} أَيْ بِخِلَافِ ما ظنوا فيهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}، وَقَالَ السُّدِّيُّ {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ}: أَيْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَقَوْلُهُ: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} أَيْ بِخِلَافِ ما رجوا منهم. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} قَالَ: أَعْوَانًا، قَالَ مُجَاهِدٌ: عَوْنًا عَلَيْهِمْ تُخَاصِمُهُمْ وَتُكَذِّبُهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: قُرَنَاءَ فِي النَّارِ، يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ويكفر بعضهم ببعض، وَقَالَ الضَّحَّاكُ {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} قَالَ: أَعْدَاءً. وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: تُغْوِيهِمْ إِغْوَاءً، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ: تُحَرِّضُهُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تُشْلِيهِمْ إِشْلَاءً، وَقَالَ قَتَادَةُ: تُزْعِجُهُمْ إِزْعَاجًا إِلَى مَعَاصِي اللَّهِ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: تُغْرِيهِمْ إِغْرَاءً وَتَسْتَعْجِلُهُمُ استعجالاً، وقال السدي: تطغيهم طيغاناً، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}، وَقَوْلُهُ: {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} أَيْ لَا تَعْجَلْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي وُقُوعِ الْعَذَابِ بِهِمْ، {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} أَيْ إِنَّمَا نُؤَخِّرُهُمْ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ومضبوط، وَهُمْ صَائِرُونَ لَا مَحَالَةَ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ ونكاله، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}، {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لي ليزداوا إثما}، {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}، {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار}، وقال السُّدِّيُّ: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} السِّنِينَ وَالشُّهُورَ والأيام والساعات، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} قَالَ: نعد أنفاسهم في الدينا.

- 85 - يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً - 86 - وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا - 87 - لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ خَافُوهُ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، وَاتَّبَعُوا رُسُلَهُ، وَصَدَّقُوهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ وأطاعوهم فينا أمروهم به، وانتهوا عما زَجَرُوهُمْ أَنَّهُ يَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفْدًا إِلَيْهِ، وَالْوَفْدُ هُمُ الْقَادِمُونَ رُكْبَانًا وَمِنْهُ الْوُفُودُ، وَرُكُوبُهُمْ عَلَى نَجَائِبَ مِنْ نُورٍ مِنْ مَرَاكِبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهُمْ قَادِمُونَ عَلَى خَيْرِ مَوْفُودٍ إِلَيْهِ إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَأَمَّا الْمُجْرِمُونَ الْمُكَذِّبُونَ الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ يُسَاقُونَ عُنْفًا إِلَى النَّارِ {وِرْداً} عطاشاً (قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد)، وقال ابن أبي حاتم، عَنِ ابْنِ مَرْزُوقٍ {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} قَالَ: يَسْتَقْبِلُ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ أَحْسَنُ صُورَةٍ رَآهَا وَأَطْيَبُهَا رِيحًا، فَيَقُولُ: أَمَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ طَيَّبَ رِيحَكَ وَحَسَّنَ وَجْهَكَ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ وَهَكَذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا حَسَنَ الْعَمَلِ طَيِّبَهُ، فَطَالَمَا رَكِبْتُكَ فِي الدُّنْيَا، فَهَلُمَّ ارْكَبْنِي فَيَرْكَبُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً} (أخرجه ابن أبي حاتم)، قال ابن عباس: ركباناً، وقال أبو هُرَيْرَةَ {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} قال: على الإبل. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَلَى الْإِبِلِ النُّوقِ، وَقَالَ قَتَادَةُ {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} قَالَ: إلى الجنة، عن ابن النعمان بن سعيد قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {يَوْمَ

نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يُحْشَرُونَ، وَلَا يُحْشَرُ الْوَفْدُ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَلَكِنْ بِنُوقٍ لَمْ يَرَ الْخَلَائِقُ مِثْلَهَا، عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ فَيَرْكَبُونَ عليها حتى يضربوا أبواب الجنة (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَزَادَ: عليها رحائل من ذهب وأزمتها الزبرجد). وقوله تعالى {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} أَيْ عِطَاشًا، {لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ كَمَا يَشْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ}، وَقَوْلُهُ: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} هذا اسثناء مُنْقَطِعٌ، بِمَعْنَى: لَكِنْ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، والقيام بحقها. قال ابن عباس: الْعَهْدُ (شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، وَيَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَلَا يَرْجُو إِلَّا اللَّهِ عَزَّ وجلَّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قَرَأَ عَبْدُ الله بن مَسْعُودٍ هَذِهِ الْآيَةَ {إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} ثُمَّ قَالَ: اتَّخِذُوا عِندَ اللَّهِ عَهْداً، فإن الله يقول الْقِيَامَةِ: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ فَلْيَقُمْ، قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَعَلِّمْنَا، قَالَ قُولُوا: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَإِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الحياة الدنيا، أنك إن تكلني إلى عملي يقربني من الشر ويباعدني مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُؤَدِّيهِ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. قَالَ الْمَسْعُودِيُّ: وَكَانَ يُلْحِقُ بِهِنَّ: خَائِفًا مُسْتَجِيرًا مُسْتَغْفِرًا رَاهِبًا راغباً إليك.

- 88 - وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً - 89 - لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً - 90 - تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً - 91 - أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً - 92 - وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً - 93 - إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً - 94 - لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا - 95 - وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا لَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الشَّرِيفَةِ عُبُودِيَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَكَرَ خَلْقَهُ مِنْ مَرْيَمَ بِلَا أَبٍ، شَرَعَ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا فَقَالَ: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ} أَيْ فِي قَوْلِكُمْ، هَذَا {شَيْئاً إِدّاً}، قال ابن عباس: أي عظيماً، وَقَوْلُهُ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} أَيْ يَكَادُ يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ سَمَاعِهِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ فجَرَة بَنِي آدَمَ إِعْظَامًا لِلرَّبِّ وَإِجْلَالًا، لِأَنَّهُنَّ مَخْلُوقَاتٌ وَمُؤَسَّسَاتٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَأَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ، قال ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} قَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ فَزِعَتْ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ إلاّ الثقلين، وكادت تَزُولَ مِنْهُ لِعَظَمَةِ اللَّهِ، وَكَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ إِحْسَانُ الْمُشْرِكِ كَذَلِكَ نَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ ذُنُوبَ الْمُوَحِّدِينَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا عند موته وجبت له الجنة»، فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ قَالَهَا فِي صِحَّتِهِ؟ قَالَ: «تِلْكَ أَوْجَبُ وَأَوْجَبُ»، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ جِيءَ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ وَمَا تَحْتَهُنَّ فَوُضِعْنَ فِي كفة الميزان ووضعا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى لَرَجَحَتْ بِهِنَّ» (هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ)، وقال

الضَّحَّاكُ {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} أَيْ يَتَشَقَّقْنَ فَرَقًا مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن زيد {وَتَنشَقُّ الأرض} أي غضباً له عزَّ وجلَّ، {وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَدْمًا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هَدًّا ينكسر بَعْضَهَا على بَعْضٍ متتابعات. عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ إِنَّ الجبل لينادي بِاسْمِهِ: يَا فُلَانُ هَلْ مَرَّ بِكَ الْيَوْمَ ذكر اللَّهَ عزَّ وجلَّ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ وَيَسْتَبْشِرُ، قَالَ عَوْنٌ: لَهِيَ لِلْخَيْرِ أَسْمَعُ، أَفَيَسْمَعْنَ الزُّورَ وَالْبَاطِلَ، إِذَا قِيلَ وَلَا يَسْمَعْنَ غَيْرَهُ؟ ثُمَّ قَرَأَ {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} (أخرجه ابن أبي حاتم) الآية وعن أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ إِن يشرك به ويُجعل له ولد، وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ وَيَرْزُقُهُمْ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي لَفْظٍ: «إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ». وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} أَيْ لَا يَصْلُحُ لَهُ وَلَا يَلِيقُ بِهِ لِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، لِأَنَّهُ لَا كُفْءَ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ عَبِيدٌ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} أَيْ قَدْ عَلِمَ عَدَدَهُمْ، مُنْذُ خَلْقَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ذَكَرَهُمْ وَأُنْثَاهُمْ وَصَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} أي لا ناصر وَلَا مُجِيرَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، فيحكم في خلقه بما يشاء، هو الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَلَا يظلم أحداً.

- 96 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً - 97 - فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا - 98 - وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً يُخْبِرُ تَعَالَى: أَنَّهُ يَغْرِسُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة، وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وجه فروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ - قَالَ - فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، قَالَ: ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يحب فلاناً فأحبوه، قَالَ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِن اللَّهَ إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أَبْغَضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ فَيَبْغَضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ، إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ، فَيَبْغَضُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يوضع له البغضاء في الأرض" (أخرجه البخاري ومسلم وأحمد، واللفظ لأحمد). وعن ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَلْتَمِسُ مرضاة الله عزَّ وجلَّ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لِجِبْرِيلَ إِنَّ فُلَانًا عَبْدِي يَلْتَمِسُ أَنْ يُرْضِيَنِي أَلَا وَإِنَّ رَحْمَتِي عَلَيْهِ، فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ، وَيَقُولُهَا حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَيَقُولُهَا مَنْ حَوْلَهُمْ، حَتَّى يَقُولَهَا أَهْلُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، ثم يهبط إلى الأرض (أخرجه الإمام أحمد) وروى ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ ثُمَّ يُنَزِّلُ لَهُ الْمَحَبَّةَ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ

آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} (ورواه مسلم والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح)، وقال ابن عباس: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} قَالَ: حُبًّا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنْهُ {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} قَالَ: محبة في الناس في الدينا. وقال سعيد بن جبير: يحبهم ويحببهم يعني إلى خلقه المؤمنين، وقال العوفي، عن ابن عباس: الْوُدُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ وَاللِّسَانُ الصَّادِقُ، وَقَالَ قَتَادَةُ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} إِي والله في قلوب أهل الإيمان، وذكر لَنَا أَنَّ هَرَمَ بْنَ حَيَّانَ كَانَ يَقُولُ: مَا أَقْبَلَ عَبْدٌ بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ إِلَّا أَقْبَلَ اللَّهُ بِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ، حَتَّى يَرْزُقَهُ مَوَدَّتَهُمْ وَرَحْمَتَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَعْمَلُ خَيْرًا أَوْ شَرًّا إِلَّا كَسَاهُ الله عزَّ وجلَّ رداء عمله. وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {بِلِسَانِكَ}: أَيْ يَا مُحَمَّدُ وَهُوَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ الْفَصِيحُ الْكَامِلُ، {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} أَيِ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ الْمُصَدِّقِينَ لِرَسُولِهِ، {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً}: أَيْ عُوَّجًا عن الحق مائلين إلى الباطل، وقال مُجَاهِدٍ {قَوْماً لُّدّاً} لَا يَسْتَقِيمُونَ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً}: عوجاً عن الحق. وقال الضحّاك: الألد الخصيم، وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: الْأَلَدُّ الْكَذَّابُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ {قَوْماً لُّدّاً} صُمًّا، وَقَالَ غَيْرُهُ: صُمُّ آذَانِ القلوب، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {قَوْمًا لُدًّا}: فُجَّارًا، وَكَذَا رَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَلَدُّ الظَّلُومُ، وقرأ قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام}، وَقَوْلُهُ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ}: أَيْ مِنْ أُمَّةٍ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً}: أَيْ هَلْ تَرَى مِنْهُمْ أَحَدًا أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وأبو العالية وعكرمة: يَعْنِي صَوْتًا، وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ: هَلْ تَرَى عَيْنًا أَوْ تَسْمَعُ صَوْتًا وَالرِّكْزُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: هُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الْأَنِيسِ فَرَاعَهَا * عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ وَالْأَنِيسُ سقامها.

20 - سورة طه

- 20 - سورة طه

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - طه - 2 - مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى - 3 - إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى - 4 - تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى - 5 - الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى - 6 - لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى - 7 - وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى - 8 - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {طه} يَا رَجُلُ، وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة والضحّاك، وأسند القاضي عياض في كتابه «الشفاء» عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الْأُخْرَى، فأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {طه} يعني طأ الأرض يا محمد (هذا التفسير غريب ولم ينكره ابن كثير رحمه الله ولم يثبت في أحاديث صحيحة عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم على رجل واحدة وإنما ثبت أنه كان يقوم من الليل حتى تفطرت قدماه، فتفسير (طه) بمعنى طأها مستبعد، والله أعلم) {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ثُمَّ قَالَ: وَلاَ يخفى ما فِي هَذَا مِنَ الْإِكْرَامِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَقَوْلُهُ: {مَآ أنزلنا عليك القرآن لتشقى} قال الضَّحَّاكِ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ بِهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا أُنْزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى مُحَمَّدٍ إِلَّا لِيَشْقَى، فأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {طه مَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ الْمُبْطِلُونَ، بَلْ من آتاه الْعِلْمَ فَقَدْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا كَثِيرًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ». وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ الطبراني، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا قَعَدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ لِقَضَاءِ عِبَادِهِ، إِنِّي لَمْ أَجْعَلْ عِلْمِي وَحِكْمَتِي فِيكُمْ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ وَلَا أُبَالِي» (قال ابن كثير: إسناده جيد، وثعلبة بن الحكم هو الليثي، نزل البصرة ثم تحول إلى الكوفة). وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} هي كقوله: {فاقرأوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} وكانوا يعلقون الحبال بصدروهم في الصلاة. وقال قتادة: لا والله ما جعله

شقاء ولكن رَحْمَةً وَنُورًا، وَدَلِيلًا إِلَى الْجَنَّةِ {إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كِتَابَهُ وَبَعَثَ رسوله رحمة رحم بها عباده لِيَتَذَكَّرَ ذَاكِرٌ، وَيَنْتَفِعَ رَجُلٌ بِمَا سَمِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَهُوَ ذِكْرٌ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ، وَقَوْلُهُ: {تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ والسموات العلى} أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ هو تنزيل من رَبِّكَ، الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ بِانْخِفَاضِهَا وَكَثَافَتِهَا، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ العلى فِي ارْتِفَاعِهَا وَلَطَافَتِهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّ سُمْكَ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَبُعْدَ مَا بَيْنَهَا، والتي تليها مسيرة خمسمائة عام. وقوله تعالى: {الرحمن عَلَى العرش استوى} المسلك الأسلم طريقة السلف، وهو إِمْرَارُ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَحْرِيفٍ، وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَقَوْلُهُ: {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وفي قبضته، وتحت تصرفه وَمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَحُكْمِهِ، وَهُوَ خَالِقٌ ذَلِكَ وَمَالِكُهُ، وإلهه لا إله سواه، وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كعب: أي ما تحت الأرض السابعة، {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أَيْ أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ والسماوات العلى الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السموات والأرض، إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ: السِّرُّ ما أسره ابْنُ آدَمَ فِي نَفْسِهِ، {وَأَخْفَى} مَا أَخْفَى عَلَى ابْنِ آدَمَ مِمَّا هُوَ فَاعِلُهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَهُ، فَاللَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَعِلْمُهُ فِيمَا مَضَى مِنْ ذَلِكَ، وَمَا بَقِيَ عِلْمٌ وَاحِدٌ، وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}. وَقَالَ الضَّحَّاكُ {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ: السِّرُّ مَا تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ، وَأَخْفَى مَا لَمْ تحدث نفسك به بَعْدُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنْتَ تَعْلَمُ مَا تُسِرُّ الْيَوْمَ، وَلَا تَعْلَمُ مَا تُسِرُّ غَدًا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّ الْيَوْمَ وَمَا تُسِرُّ غَدًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَأَخْفَى} يَعْنِي الْوَسْوَسَةَ، وقال أيضاً {وَأَخْفَى} أَيْ مَا هُوَ عَامِلُهُ مِمَّا لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}: أَيِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ القرآن هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ذو الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والمنة.

- 9 - وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى - 10 - إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هدى من ههنا شَرَعَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى، وَكَيْفَ كَانَ ابْتِدَاءُ الْوَحْيِ إِلَيْهِ، وَتَكْلِيمُهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صِهْرِهِ فِي رِعَايَةِ الْغَنَمِ، وسار بأهله: قيل قاصداً بلاد مصر بعد ما طَالَتِ الْغَيْبَةُ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ، فَأَضَلَّ الطَّرِيقَ وَكَانَتْ لَيْلَةً شَاتِيَةً، وَنَزَلَ مَنْزِلًا بَيْنَ شِعَابٍ وَجِبَالٍ فِي بَرْدٍ وَشِتَاءٍ، وَسَحَابٍ وَظَلَامٍ وَضَبَابٍ، وَجَعَلَ يَقْدَحُ بِزَنْدٍ مَعَهُ لِيُوَرِّيَ نَارًا كَمَا جَرَتْ لَهُ الْعَادَةُ بِهِ، فَجَعَلَ لَا يَقْدَحُ شَيْئًا وَلَا يَخْرُجُ منه شرر ولا شيء، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطَّوْرِ نَارًا، أَيْ ظَهَرَتْ لَهُ نَارٌ مِنْ جَانِبِ الْجَبَلِ الَّذِي هُنَاكَ عَنْ يَمِينِهِ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ يُبَشِّرُهُمْ {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ} أَيْ شِهَابٍ مِنْ نَارٍ، وَفِي الْآيَةِ الأُخْرى {أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار} وَهِيَ الْجَمْرُ الَّذِي مَعَهُ لَهَبٌ {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} دَلَّ عَلَى وُجُودِ الْبَرْدِ، وَقَوْلُهُ: {بِقَبَسٍ} دَلَّ عَلَى وُجُودِ الظَّلَامِ، وَقَوْلُهُ: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} أَيْ مَنْ يَهْدِينِي الطَّرِيقَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ

تاه عن الطريق كما قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} قَالَ: مَنْ يَهْدِينِي إِلَى الطَّرِيقِ وَكَانُوا شَاتِّينَ وَضَلُّوا الطَّرِيقَ، فَلَمَّا رَأَى النَّارَ، قَالَ: إِنْ لَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَهْدِينِي إِلَى الطريق أتيتكم بِنَارٍ تُوقِدُونَ بِهَا.

- 11 - فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى - 12 - إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى - 13 - وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى - 14 - إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي - 15 - إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى - 16 - فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى يَقُولُ تَعَالَى {فَلَمَّآ أَتَاهَا} أَيِ النَّارَ وَاقْتَرَبَ مِنْهَا {نُودِيَ يَا مُوسَى}، وَفِي الْآيَةِ الأُخْرى: {نودي من شاطئ الوادي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا موسى إني أَنَا الله}، وقال ههنا: {إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ} أَيِ الَّذِي يُكَلِّمُكَ وَيُخَاطِبُكَ {فاخلع نَعْلَيْكَ} قيل: كانتا من جلد حمار غير ذكي (قاله علي بن أبي طالب وغير واحد من السلف)، وَقِيلَ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ تَعْظِيمًا لِلْبُقْعَةِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَمَا يُؤْمَرُ الرَّجُلُ أَنْ يَخْلَعَ نَعْلَيْهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْكَعْبَةَ، وَقِيلَ لِيَطَأَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ بِقَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ مُنْتَعِلٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقوله: {طُوًى} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ اسْمٌ لِلْوَادِي، وَكَذَا قَالَ غير واحد، وقيل: عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه، والأول أصح كقوله {إِذْ ناده ربه بالوادي المقدس طوى}، وَقَوْلُهُ: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ}، كَقَوْلِهِ: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} أَيْ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ مِنَ الْمَوْجُودِينَ فِي زمانه، وقد قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: يَا مُوسَى أتدري لم اختصصتك بِالتَّكْلِيمِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: لأني لم يتواضع إليَّ أَحَدٌ تَوَاضُعَكَ، وَقَوْلُهُ: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} أَيِ واستمع الْآنَ مَا أَقُولُ لَكَ، وَأُوحِيهِ إِلَيْكَ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا}، هَذَا أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَقَوْلُهُ: {فَاعْبُدْنِي} أَيْ وَحِّدْنِي وَقُمْ بِعِبَادَتِي مِنْ غَيْرِ شَرِيكٍ، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} قِيلَ مَعْنَاهُ: صَلِّ لِتَذْكُرَنِي، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ عِنْدَ ذِكْرِكَ لِي، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الثَّانِي مَا روي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ اللَّهَ تعالى قد قال: وأقم الصلاة لذكري" (أخرجه الإمام أحمد عن أنَس بن مالك). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» (أخرجه الشيخان عن أنَسٍ أيضاً). وقوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ}: أَيْ قَائِمَةٌ لَا مَحَالَةَ وَكَائِنَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ {أَكَادُ أُخْفِيهَا} قال ابن عباس: أي لَا أُطْلِعُ عَلَيْهَا أَحَدًا غَيْرِي، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ قد أخفى الله تعالى عَنْهُ عِلْمَ السَّاعَةِ؛ وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنِّي أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي، يَقُولُ: كتمتها من الْخَلَائِقِ، حَتَّى لَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ أَكْتُمَهَا مِنْ نفسي لفعلت. قال قتادة: لَقَدْ أَخْفَاهَا اللَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَمِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، قُلْتُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الغيب إلا الله}، وقال: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ

لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بغتة} أَيْ ثَقُلَ عِلْمُهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} أَيْ أُقِيمُهَا لَا مَحَالَةَ؛ لِأَجْزِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}، {وإنما تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تعملون}، وَقَوْلُهُ: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا} الآية. الْمُرَادُ بِهَذَا الْخِطَابِ آحَادُ الْمُكَلَّفِينَ، أَيْ لَا تَتَّبِعُوا سَبِيلَ مَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَلَاذِّهِ فِي دُنْيَاهُ وَعَصَى مَوْلَاهُ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، فَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ {فَتَرْدَى}: أَيْ تَهْلَكُ وَتَعْطَبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}.

- 17 - وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى - 18 - قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى - 19 - قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى - 20 - فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى - 21 - قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الْأُولَى هَذَا بُرْهَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ وَخَرْقٌ لِلْعَادَةِ بَاهِرٌ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَأَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَقَوْلُهُ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِينَاسِ لَهُ؛ وَقِيلَ وإنما قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ، أَيْ أَمَّا هَذِهِ الَّتِي فِي يَمِينِكَ عَصَاكَ الَّتِي تَعْرِفُهَا؟ فَسَتَرَى مَا نَصْنَعُ بِهَا الْآنَ، {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}؟ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} أَيْ أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا، فِي حَالِ الْمَشْيِ، {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} أي أهز بها الشجرة ليتساقط ورقها لترعاه غنمي، قال الإمام مالك: الهش أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْمِحْجَنَ فِي الْغُصْنِ ثُمَّ يُحَرِّكُهُ حَتَّى يُسْقِطَ وَرَقَهُ وَثَمَرَهُ وَلَا يَكْسِرُ العود، فهذا الهش ولا يخبط، وَقَوْلُهُ: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} أَيْ مَصَالِحُ ومنافع وحاجات أُخر غير ذلك. وقوله تعالى: {أَلْقِهَا يَا مُوسَى} أَيْ هَذِهِ الْعَصَا الَّتِي فِي يَدِكَ يَا مُوسَى أَلْقِهَا، {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} أَيْ صَارَتْ فِي الْحَالِ حَيَّةً عَظِيمَةً، ثُعْبَانًا طَوِيلًا يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً سَرِيعَةً، فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ، وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَيَّاتِ حَرَكَةً، وَلَكِنَّهُ صَغِيرٌ، فَهَذِهِ فِي غَايَةِ الْكُبْرِ، وَفِي غَايَةِ سُرْعَةِ الْحَرَكَةِ، {تَسْعَى} أَيْ تمشي وتضطرب. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}، وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ حَيَّةً، فَمَرَّتْ بِشَجَرَةٍ فَأَكَلَتْهَا، وَمَرَّتْ بِصَخْرَةٍ فَابْتَلَعَتْهَا، فَجَعَلَ مُوسَى يَسْمَعُ وَقْعَ الصَّخْرَةِ فِي جَوْفِهَا، فَوَلَّى مُدْبِرًا، ونودي أن يا موسى خذها، ثُمَّ نُودِيَ الثَّانِيَةَ أَنْ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ، فَقِيلَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ، فأخذها. وقال وهب بن منبه: ألقاها على وجه الارض، ثم حانت منه نَظْرَةٌ فَإِذَا بِأَعْظَمِ ثُعْبَانٍ نَظَرَ إِلَيْهِ النَّاظِرُونَ، يدب يَلْتَمِسُ كَأَنَّهُ يَبْتَغِي شَيْئًا يُرِيدُ أَخْذَهُ، يَمُرُّ بالصخرة فَيَلْتَقِمُهَا، وَيَطْعَنُ بِالنَّابِ مِنْ أَنْيَابِهِ فِي أَصْلِ الشجرة العظيمة فيجتثها، عيناه تتقدان ناراً، وقد عاد المحجن منها عرفاً، فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ مُوسَى ولَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ، فَذَهَبَ حَتَّى أَمْعَنَ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أعجز الحية، ثم ذكر به فَوَقَفَ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، ثُمَّ نُودِيَ يَا مُوسَى أَنِ ارْجِعْ حَيْثُ كُنْتَ، فَرَجَعَ مُوسَى وَهُوَ شَدِيدُ الْخَوْفِ، فَقَالَ {خُذْهَا} بِيَمِينِكَ {وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الْأُولَى}، وَعَلَى مُوسَى حينئذٍ مِدْرَعَةٌ مِنْ صُوفٍ، فَدَخَلَهَا بِخِلَالٍ مِنْ عِيدَانٍ، فَلَمَّا أمره بأخذها لف طرف المدرعة على يَدِهِ، ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى فَمِ الْحَيَّةِ حَتَّى سَمِعَ حِسَّ الْأَضْرَاسِ وَالْأَنْيَابِ، ثُمَّ قَبَضَ

فَإِذَا هِيَ عَصَاهُ الَّتِي عَهِدَهَا وَإِذَا يَدُهُ فِي مَوْضِعِهَا الَّذِي كَانَ يَضَعُهَا، إِذَا تَوَكَّأَ بَيْنَ الشُّعْبَتَيْنِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الْأُولَى} أَيْ إِلَى حَالِهَا الَّتِي تُعْرَفُ قَبْلَ ذلك.

- 22 - وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى - 23 - لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى - 24 - اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى - 25 - قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي - 26 - وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي - 27 - وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي - 28 - يَفْقَهُواْ قَوْلِي - 29 - وَاجْعَلْ لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي - 30 - هَارُونَ أَخِي - 31 - اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي - 32 - وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي - 33 - كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً - 34 - وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا - 35 - إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا وَهَذَا بُرْهَانٌ ثَانٍ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى. وههنا عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ}، وَقَالَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فرعون وملئه}، وقال مجاهد: {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ}: كفك تحت عضدك؛ وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا، تَخْرُجُ تَتَلَأْلَأُ كَأَنَّهَا فَلْقَةُ قَمَرٍ، وَقَوْلُهُ: {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أَيْ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ وَلَا أَذًى، وَمِنْ غَيْرِ شَيْنٍ (قَالَهُ ابْنُ عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحّاك وَغَيْرُهُمْ)، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَخْرَجَهَا وَاللَّهِ كَأَنَّهَا مِصْبَاحٌ، فَعَلِمَ مُوسَى أَنَّهُ قَدْ لَقِيَ رَبَّهُ عزَّ وجلَّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى}، وَقَالَ وَهْبٌ، قَالَ لَهُ رَبُّهُ: أدنه، فلم يزل يدينه حتى أسند ظَهْرَهُ بِجِذْعِ الشَّجَرَةِ فَاسْتَقَرَّ، وَذَهَبَتْ عَنْهُ الرِّعْدَةُ، وَجَمَعَ يَدَهُ فِي الْعَصَا وَخَضَعَ بِرَأْسِهِ وَعُنُقِهِ. وَقَوْلُهُ {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}: أَيِ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ، الَّذِي خَرَجْتَ فَارًّا مِنْهُ وَهَارِبًا، فَادْعُهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمُرْهُ فَلْيُحْسِنْ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ يُعَذِّبْهُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ طَغَى وَبَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَنَسِيَ الرَّبَّ الْأَعْلَى. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى: انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني، وقد أَلْبَسْتُكَ جُنَّةً مِنْ سُلْطَانِي لِتَسْتَكْمِلَ بِهَا الْقُوَّةَ فِي أَمْرِي، فَأَنْتَ جُنْدٌ عَظِيمٌ مِنْ جُنْدِي، بَعَثْتُكَ إِلَى خَلْقٍ ضَعِيفٍ مِنْ خَلْقِي، بَطَرَ نِعْمَتِي وَأَمِنَ مَكْرِي، وَغَرَّتْهُ الدُّنْيَا عَنِّي، حَتَّى جَحَدَ حَقِّي وَأَنْكَرَ رُبُوبِيَّتِي، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُنِي فَإِنِّي أُقْسِمُ بِعِزَّتِي لَوْلَا الْقَدَرُ الَّذِي وَضَعْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي، لَبَطَشْتُ بِهِ بَطْشَةَ جَبَّارٍ، يَغْضَبُ لِغَضَبِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَالْبِحَارُ، فَإِنْ أَمَرْتُ السَّمَاءَ حَصَبَتْهُ، وَإِنْ أَمَرْتُ الْأَرْضَ ابْتَلَعَتْهُ، وَإِنْ أَمَرْتُ الْجِبَالَ دَمَّرَتْهُ، وَإِنْ أَمَرْتُ الْبِحَارَ غَرَّقَتْهُ، وَلَكِنَّهُ هَانَ عَلَيَّ وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِي، وَوَسِعَهُ حِلْمِي وَاسْتَغْنَيْتُ بِمَا عِنْدِي وَحَقِّي، إِنِّي أَنَا الْغَنِيُّ لَا غَنِيَّ غَيْرِي، فَبَلِّغْهُ رِسَالَتِي، وَادْعُهُ إِلَى عِبَادَتِي وَتَوْحِيدِي وَإِخْلَاصِي، وَذَكِّرْهُ أيامي، وحذره من نقمتي وبأسي، وَقُلْ لَهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ قَوْلًا لَيِّنًا لعله يتذكر أو يخشى، وأخبره أَنِّي إِلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ أَسْرَعُ مِنِّي إِلَى الْغَضَبِ وَالْعُقُوبَةِ، وَلَا يُرَوِّعَنَّكَ مَا أَلْبَسْتُهُ مِنْ لباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي، أَفَيَظُنُّ الَّذِي يُحَارِبُنِي أَنْ يَقُومَ لِي، أَمْ يَظُنُّ الَّذِي يُعَادِينِي أَنْ يُعْجِزَنِي، أَمْ يَظُنُّ الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني (أخرجه ابن أبي حاتم من كلام وهب بن منبه، وهو طويل اقتصرنا على بعضه).

{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} هَذَا سُؤَالٌ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ، أَنْ يَشْرَحَ لَهُ صَدْرَهُ فِيمَا بَعَثَهُ بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَهُ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَخَطْبٍ جَسِيمٍ، بَعَثَهُ إِلَى أَعْظَمِ مَلِكٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِذْ ذَاكَ، وَأَجْبَرِهِمْ وَأَشَدِّهِمْ كفراً وأكثرهم جنوداً، وأبلغهم تمرداً، هَذَا وَقَدْ مَكَثَ مُوسَى فِي دَارِهِ مُدَّةً وَلِيدًا عِنْدَهُمْ فِي حَجْرِ فِرْعَوْنَ عَلَى فِرَاشِهِ، ثُمَّ قَتَلَ مِنْهُمْ نَفْسًا فَخَافَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ فَهَرَبَ مِنْهُمْ، هَذِهِ الْمُدَّةَ بِكَمَالِهَا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا بَعَثَهُ رَبُّهُ عزَّ وجلَّ إِلَيْهِمْ نَذِيرًا يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} أَيْ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَنْتَ عَوْنِي وَنَصِيرِي وَعَضُدِي وَظَهِيرِي وَإِلَّا فَلَا طَاقَةَ لِي بِذَلِكَ {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي}. وَمَا سَأَلَ أَنْ يَزُولَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ بِحَيْثُ يَزُولُ الْعَيُّ وَيَحْصُلُ لَهُمْ فَهْمُ مَا يُرِيدُ مِنْهُ، وَهُوَ قَدْرُ الْحَاجَةِ، وَلَوْ سَأَلَ الْجَمِيعَ لَزَالَ وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَسْأَلُونَ إِلَّا بحسب الحاجة، ولهذا بقيت. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} أَيْ يُفْصِحُ بِالْكَلَامِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي} قَالَ: حُلَّ عُقْدَةً وَاحِدَةً، وَلَوْ سَأَلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أُعْطِيَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَكَا مُوسَى إِلَى رَبِّهِ مَا يتخوف من آل فرعون في القتيل، وعقدة لِسَانِهِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةٌ تَمْنَعُهُ من كثير الْكَلَامِ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَخِيهِ هَارُونَ، يَكُونُ لَهُ رِدْءًا وَيَتَكَلَّمُ عَنْهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا يُفْصِحُ بِهِ لِسَانُهُ، فَآتَاهُ سُؤْلَهُ، فَحَلَّ عُقْدَةً من لسانه. وقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي}، وهذا أيضاً سؤال من موسى عليه السلام فِي أَمْرٍ خَارِجِيٍّ عَنْهُ، وَهُوَ مُسَاعَدَةُ أَخِيهِ هارون له، قال ابن عباس: نبئ هارون ساعتئذ وحين نبئ موسى عليهما السلام. روي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا خَرَجَتْ فِيمَا كَانَتْ تَعْتَمِرُ، فنَزَلَتْ بِبَعْضِ الْأَعْرَابِ فَسَمِعَتْ رَجُلًا يَقُولُ: أَيُّ أَخٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَنْفَعَ لِأَخِيهِ؟ قَالُوا: لا ندري، قال أنا والله أَدْرِي! قَالَتْ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي فِي حَلِفِهِ لَا يَسْتَثْنِي، إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَيَّ أَخٍ كَانَ في الدينا أَنْفَعَ لِأَخِيهِ، قَالَ: (مُوسَى) حِينَ سَأَلَ لِأَخِيهِ النبوة، فقلت: صدق والله (أخرجه ابن أبي حاتم). وَقَوْلُهُ: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} قَالَ مُجَاهِدٌ: ظَهْرِي، {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} أَيْ فِي مُشَاوَرَتِي، {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا حَتَّى يذكر الله قائماً ومضظجعاً، وَقَوْلُهُ: {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} أَيْ فِي اصطفائك لنا وإعطائك إيانا النبوة وبعثك لَنَا إِلَى عَدُوِّكَ فِرْعَوْنَ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى ذلك.

- 36 - قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى - 37 - وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى - 38 - إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى - 39 - أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي - 40 - إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا هَذِهِ إِجَابَةٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِيمَا سَأَلَ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَذْكِيرٌ لَهُ بِنِعَمِهِ السَّالِفَةِ عَلَيْهِ، فِيمَا

كان من أمر أُمَّهُ، حِينَ كَانَتْ تُرْضِعُهُ وَتَحْذَرُ عَلَيْهِ، مِنْ فرعون وملئه أن يقتلوه، حيث كانوا يَقْتُلُونَ الْغِلْمَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذَرًا مِنْ وُجُودِ مُوسَى، فَحَكَمَ اللَّهُ - وَلَهُ السُّلْطَانُ الْعَظِيمُ والقدرة التامة - أن لا يُرَبَّى إِلَّا عَلَى فِرَاشِ فِرْعَوْنَ وَيُغَذَّى بِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، مَعَ مَحَبَّتِهِ وَزَوْجَتِهِ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ * وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} أي عدوك جعلته يحبك، قال سلمه بن كهبل {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} قَالَ: حَبَّبْتُكَ إِلَى عبادي، {وَلِتُصْنَعَ على عيني}: تُرَبَّى بِعَيْنِ اللَّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: تُغَذَّى عَلَى عيني، وقال ابن أَسْلَمَ: يَعْنِي أَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَلِكِ يَنْعَمُ ويترف، وغذاؤه عِنْدَهُمْ غِذَاءُ الْمَلِكِ، فَتِلْكَ الصَّنْعَةُ. وَقَوْلُهُ: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها}، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَ آلِ فِرْعَوْنَ، وعرضوا عليه المراضع فأباها، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ}، فَجَاءَتْ أُخْتُهُ، وَقَالَتْ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وهم له ناصحون} تعني هل أدلكم على من يرضعه لَكُمْ بِالْأُجْرَةِ، فَذَهَبَتْ بِهِ وَهُمْ مَعَهَا إِلَى أُمِّهِ، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ ثَدْيَهَا فَقَبِلَهُ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَاسْتَأْجَرُوهَا عَلَى إِرْضَاعِهِ، فَنَالَهَا بِسَبَبِهِ سعادة ورفعة وراحة في الدينا، وفي الآخرة أعظم وَأَجْزَلُ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ الصَّانِعِ الَّذِي يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، كَمَثَلِ أَمِّ مُوسَى تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا»، وَقَالَ تَعَالَى ههنا: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ} أَيْ عَلَيْكَ، {وَقَتَلْتَ نَفْساً} يَعْنِي الْقِبْطِيَّ {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} وَهُوَ مَا حَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ عَزْمِ آلِ فِرْعَوْنَ عَلَى قَتْلِهِ، فَفَرَّ منهم هارباً حتى وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ، وقوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}. (حديث الفتون): روى الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النسائي في سننه، عن سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْفُتُونِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: اسْتَأْنِفِ النَّهَارَ يَا أبا جُبَيْرٍ، فَإِنَّ لَهَا حَدِيثًا طَوِيلًا، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنْتَجِزَ مِنْهُ مَا وَعَدَنِي مِنْ حَدِيثِ الْفُتُونِ، فَقَالَ: تَذَاكَرَ فِرْعَوْنُ وَجُلَسَاؤُهُ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام أن يجعل في ذريته أبناء وَمُلُوكًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَنْتَظِرُونَ ذلك لا يَشُكُّونَ فِيهِ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، فَلَمَّا هَلَكَ قَالُوا: لَيْسَ هَكَذَا كَانَ وعد إبراهيم عليه اسلام، فقال فرعون: كيف تَرَوْنَ؟ فَائْتَمَرُوا وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَن يَبْعَثَ رِجَالًا مَعَهُمُ الشِّفَارُ يَطُوفُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَا يَجِدُونَ مَوْلُودًا ذَكَرًا إِلَّا ذَبَحُوهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ بَنِي إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، قالوا: ليوشكن أَنْ تُفْنُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَصِيرُوا إِلَى أَنْ تباشروا من الأعمال والخدمة التي يكفونكم، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر واتركوا بناتهم، وَدَعُوا عَامًا فَلَا تَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدًا. فَيَشِبُّ الصِّغَارُ مَكَانَ مَنْ يَمُوتُ مِنَ الْكِبَارِ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَكْثُرُوا بِمَنْ تَسْتَحْيُونَ مِنْهُمْ، فَتَخَافُوا مُكَاثَرَتَهُمْ إياكم، ولم يفنوا بمن يقتلون، وَتَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ، فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِهَارُونَ فِي الْعَامِ الَّذِي لَا يُذْبَحُ فِيهِ الْغِلْمَانُ، فَوَلَدَتْهُ عَلَانِيَةً آمِنَةً، فَلَمَّا كَانَ مَنْ قَابِلٍ حَمَلَتْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَقَعَ فِي قَلْبِهَا الْهَمُّ وَالْحُزْنُ، وَذَلِكَ مِنَ الفتون يا ابن جبير، ما دخل عليه وهو فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِمَّا يُرَادُ بِهِ. فَأَوْحَى الله إِلَيْهَا أَنْ لَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين، فَأَمَرَهَا إِذَا وَلَدَتْ أَنْ تَجْعَلَهُ فِي تَابُوتٍ ثُمَّ تُلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلَمَّا وَلَدَتْ فَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمَّا تَوَارَى عَنْهَا ابْنُهَا أَتَاهَا الشَّيْطَانُ، فقالت في نفسها: ما فعلت

يا بني لَوْ ذُبِحَ عِنْدِي فَوَارَيْتُهُ وَكَفَّنْتُهُ كَانَ أَحَبَّ إليَّ مِنْ أَنْ أُلْقِيَهُ إِلَى دَوَابِّ الْبَحْرِ وَحِيتَانِهِ، فَانْتَهَى الْمَاءُ بِهِ حَتَّى أَوْفَى بِهِ عند مرفعة مستقى جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذته فأردن أَنْ يَفْتَحْنَ التَّابُوتَ، فَقَالَ بَعْضُهُنَّ إِنَّ فِي هَذَا مَالًا، وَإِنَّا إِنْ فَتَحْنَاهُ لَمْ تُصَدِّقْنَا امرأة الملك بما وجدنا فِيهِ، فَحَمَلْنَهُ كَهَيْئَتِهِ لَمْ يُخْرِجْنَ مِنْهُ شَيْئًا، حتى دفعنه إِلَيْهَا، فَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتْ فِيهِ غُلَامًا، فَأُلْقِيَ الله عليه منها محبة لم يلق عَلَى أَحَدٍ قَطُّ، وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا مِنْ ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى، فَلَمَّا سَمِعَ الذَّبَّاحُونَ بِأَمْرِهِ أَقْبَلُوا بِشِفَارِهِمْ إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ لِيَذْبَحُوهُ، وَذَلِكَ مِنَ الفتون يا ابن جُبَيْرٍ. فَقَالَتْ لَهُمْ: أَقِرُّوهُ فَإِنَّ هَذَا الْوَاحِدَ لَا يَزِيدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَتَّى آتِيَ فِرْعَوْنَ فَأَسْتَوْهِبَهُ مِنْهُ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِي كُنْتُمْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ، وَإِنْ أَمَرَ بِذَبْحِهِ لَمْ أَلُمْكُمْ، فَأَتَتْ فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: يَكُونُ لَكِ فَأَمَّا لِي فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي يُحلف بِهِ لَوْ أَقَرَّ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُ كَمَا أَقَرَّتِ امْرَأَتُهُ لَهَدَاهُ اللَّهُ كَمَا هَدَاهَا، وَلَكِنْ حَرَمَهُ ذَلِكَ». فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَنْ حَوْلَهَا إلى كل امرأة لها، لأن تختار لَهُ ظِئْرًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا أَخَذَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ لِتُرْضِعَهُ لَمْ يُقْبِلْ عَلَى ثَدْيِهَا حَتَّى أَشْفَقَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ اللَّبَنِ فَيَمُوتَ، فَأَحْزَنَهَا ذَلِكَ فَأَمَرَتْ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى السُّوقِ وَمَجْمَعِ النَّاسِ، تَرْجُو أَنْ تَجِدَ لَهُ ظِئْرًا تَأْخُذُهُ مِنْهَا، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَأَصْبَحَتْ أُمُّ مُوسَى وَالِهًا فَقَالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّي أَثَرَهُ وَاطْلُبِيهِ، هَلْ تسمعين له ذكراً، حي ابْنِي أَمْ قَدْ أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ؟ وَنَسِيَتْ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا فِيهِ، فَبَصُرَتْ بِهِ أُخْتُهُ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَالْجُنُبُ أَنْ يَسْمُوَ بَصَرُ الْإِنْسَانِ إِلَى شَيْءٍ بَعِيدٍ، وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ، فَقَالَتْ مِنَ الْفَرَحِ حِينَ أَعْيَاهُمُ الظُّؤُرَاتِ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصحون، فأخذوها فقالوا: وما يدرك نصحهم له، هل تعرفينه؟ حَتَّى شَكُّوا فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يا ابن جبير. فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه ورغبتهم في صهر الملك، ورجاء منفعة الملك، فتركوها فَانْطَلَقَتْ إِلَى أُمِّهَا فَأَخْبَرَتْهَا الْخَبَرَ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ، فَلَمَّا وَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا نَزَا إِلَى ثَدْيِهَا، فمصه حتى امتلأ جنباه رياً، وانطلق البشير إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يُبَشِّرُونَهَا أَن قَدْ وَجَدْنَا لِابْنِكِ ظِئْرًا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا فَأَتَتْ بِهَا وَبِهِ، فَلَمَّا رَأَتْ مَا يَصْنَعُ بِهَا، قَالَتِ: امْكُثِي تُرْضِعِي ابْنِي هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أُحِبَّ شَيْئًا حُبَّهُ قَطُّ، قَالَتْ أُمُّ مُوسَى: لَا أَسْتَطِيعُ أن أجع بَيْتِي وَوَلَدِي فَيَضِيعَ، فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُكِ أَنْ تُعْطِيَنِيهِ فَأَذْهَبَ بِهِ إِلَى بَيْتِي فَيَكُونَ مَعِي لا آلوه خيراً، فَإِنِّي غَيْرُ تَارِكَةٍ بَيْتِي وَوَلَدِي، وَذَكَرَتْ أُمُّ مُوسَى مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا فِيهِ، فَتَعَاسَرَتْ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَأَيْقَنَتْ أَنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، فَرَجَعَتْ بِهِ إِلَى بَيْتِهَا مِنْ يَوْمِهَا، وَأَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا، وَحَفِظَهُ لِمَا قَدْ قَضَى فِيهِ. فَلَمْ يَزَلْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ فِي نَاحِيَةِ الْقَرْيَةِ مُمْتَنِعِينَ مِنَ السُّخْرَةِ وَالظُّلْمِ وما كَانَ فِيهِمْ. فَلَمَّا تَرَعْرَعَ قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ لأم موسى: أزيريني ابني، فوعدتها يوماً تزيرها إِيَّاهُ فِيهِ، وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ لِخُزَّانِهَا وَظُؤُرِهَا وَقَهَارَمَتِهَا: لَا يَبْقَيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا اسْتَقْبَلَ ابْنِي الْيَوْمَ بِهَدِيَّةٍ وَكَرَامَةٍ، لِأَرَى ذَلِكَ، وَأَنَا بَاعِثَةٌ أَمِينًا يُحْصِي مَا يَصْنَعُ كُلُّ إِنْسَانٍ منكم، فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تَسْتَقْبِلُهُ مِنْ حِينِ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ أُمِّهِ إِلَى أَنْ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا دخل عليها بجلته وَأَكْرَمَتْهُ وَفَرِحَتْ بِهِ، وَنَحَلَتْ أُمَّهُ لِحُسْنِ أَثَرِهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَتْ: لَآتِيَنَّ بِهِ فِرْعَوْنَ فَلَيَنْحَلَنَّهُ وَلَيُكْرِمَنَّهُ، فَلَمَّا دَخَلَتْ بِهِ عَلَيْهِ جَعَلَهُ فِي حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إِلَى الْأَرْضِ، فَقَالَ الْغُوَاةُ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ لِفِرْعَوْنَ: أَلَا تَرَى مَا وَعَدَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ نَبِيَّهُ إِنَّهُ زَعَمَ أَنْ يَرِثَكَ وَيَعْلُوَكَ وَيَصْرَعَكَ، فأرسل إلى

الذباحين ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جُبَيْرٍ. بَعْدَ كَلِّ بَلَاءٍ ابْتُلِيَ بِهِ، وَأُرِيدَ به فتوناً، فَجَاءَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ: مَا بَدَا لَكَ فِي هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي وَهَبْتَهُ لِي؟ فَقَالَ: أَلَا تَرَيِنَهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَصْرَعُنِي وَيَعْلُونِي، فَقَالَتِ: اجعل بيني وبينك أمراً يعرف الحق به، ائت بجمرتين ولؤلؤتين، فقدمهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين عرفت أَنَّهُ يَعْقِلُ، وَإِنْ تَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ وَلَمْ يُرِدِ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ عَلِمْتَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُؤْثِرُ الْجَمْرَتَيْنِ على اللؤلؤتين، وهو يعقل، فقرب إليه الجمرتين واللؤلؤتين فتناول الجمرتين، فاتنزعهما مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَحْرِقَا يَدَهُ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: أَلَا تَرَى؟ فَصَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا كَانَ قَدْ هَمَّ بِهِ، وَكَانَ اللَّهُ بَالِغًا فِيهِ أَمْرَهُ. فَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَكَانَ مِنَ الرِّجَالِ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَخْلُصُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ بِظُلْمٍ وَلَا سُخْرَةٍ حَتَّى امْتَنَعُوا كُلَّ الِامْتِنَاعِ، فبينما كان مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَمْشِي فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ، أَحَدُهُمَا فِرْعَوْنِيٌّ وَالْآخَرُ إِسْرَائِيلِيٌّ، فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ فَغَضِبَ مُوسَى غَضَبًا شَدِيدًا لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْزِلَتَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَحِفْظَهُ لَهُمْ، لَا يَعْلَمُ النَّاسُ إِلَّا أَنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الرَّضَاعِ، إِلَّا أم موسى، إلا أن يكون الله أَطْلَعَ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَوَكَزَ مُوسَى الْفِرْعَوْنِيَّ فَقَتَلَهُ، وَلَيْسَ يَرَاهُمَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ وَالْإِسْرَائِيلِيُّ، فَقَالَ مُوسَى حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُّبِينٌ، ثُمَّ قَالَ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ الْأَخْبَارَ، فَأَتَى فِرْعَوْنَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فَخُذْ لَنَا بِحَقِّنَا وَلَا تُرَخِّصُ لَهُمْ، فَقَالَ: ابْغُونِي قَاتِلَهُ وَمَنْ يشهد عليه، فإن الملك وإن كان صفوة قَوْمِهِ لَا يَسْتَقِيمُ لَهُ أَنْ يُقِيدَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبْتٍ، فَاطْلُبُوا لِي عِلْمَ ذَلِكَ آخذ لكم بحقكم، فبينما هو يَطُوفُونَ وَلَا يَجِدُونَ ثَبْتًا إِذَا بِمُوسَى مِنَ الغد قد رأى الْإِسْرَائِيلِيَّ يُقَاتِلُ رَجُلًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ آخَرَ، فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ فَصَادَفَ مُوسَى قَدْ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَكَرِهَ الَّذِي رَأَى، فَغَضِبَ الْإِسْرَائِيلِيُّ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْطِشَ بِالْفِرْعَوْنِيِّ، فَقَالَ لِلْإِسْرَائِيلِيِّ لِمَا فَعَلَ بِالْأَمْسِ وَالْيَوْمِ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، فَنَظَرَ الْإِسْرَائِيلِيُّ إِلَى مُوسَى بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ مَا قَالَ، فَإِذَا هُوَ غَضْبَانُ كَغَضَبِهِ بِالْأَمْسِ الَّذِي قَتَلَ فِيهِ الْفِرْعَوْنِيَّ، فَخَافَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَا قَالَ إنك لغوي مبين، أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ وَلَمْ يَكُنْ أَرَادَهُ إنما أَرَادَ الْفِرْعَوْنِيَّ، فَخَافَ الْإِسْرَائِيلِيُّ وَقَالَ: يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ، وإنما قال مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ مُوسَى لِيَقْتُلَهُ فَتَتَارَكَا، وَانْطَلَقَ الْفِرْعَوْنِيُّ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا سَمِعَ مِنَ الإسرائيلي من الخبر، حين يقول: يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ. فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ الذَّبَّاحِينَ لِيَقْتُلُوا مُوسَى، فَأَخَذَ رُسُلَ فِرْعَوْنَ فِي الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ يَمْشُونَ على هينتهم، يَطْلُبُونَ مُوسَى وَهُمْ لَا يَخَافُونَ أَنْ يَفُوتَهُمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَةِ مُوسَى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، فَاخْتَصَرَ طَرِيقًا حَتَّى سَبَقَهُمْ إِلَى مُوسَى فأخبره، وذلك من الفتون يا ابن جرير. فَخَرَجَ مُوسَى مُتَوَجِّهًا نَحْوَ مَدْيَنَ لَمْ يَلْقَ بَلَاءً قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ بِالطَّرِيقِ عِلْمٌ إِلَّا حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ، فَإِنَّهُ قَالَ: {عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تذودان} يعني بذلك حابستين غنمها، فَقَالَ لَهُمَا: مَا خَطْبُكُمَا مُعْتَزِلَتَيْنِ لَا تَسْقِيَانِ مَعَ النَّاسِ؟ قَالَتَا: لَيْسَ لَنَا قُوَّةٌ نُزَاحِمُ القوم، وإنما نسقي من فُضُولَ حِيَاضِهِمْ، فَسَقَى لَهُمَا، فَجَعَلَ يَغْتَرِفُ فِي الدَّلْوِ مَاءً كَثِيرًا حَتَّى كَانَ أَوَّلَ الرِّعَاءِ، فانصرفتا بغنمها إِلَى أَبِيهِمَا وَانْصَرَفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاسْتَظَلَّ بِشَجَرَةٍ، وَقَالَ: {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ

إِلَيَّ مِنْ خير فقير}، واستنكر أبوهما سرعة صدورهما، بغنمها حُفَّلًا بِطَانًا، فَقَالَ: إِنَّ لَكُمَا الْيَوْمَ لَشَأْنًا، فَأَخْبَرَتَاهُ بِمَا صَنَعَ مُوسَى، فَأَمَرَ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَدْعُوَهُ، فَأَتَتْ مُوسَى فَدَعَتْهُ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ، قَالَ: لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، لَيْسَ لِفِرْعَوْنَ وَلَا لِقَوْمِهِ عَلَيْنَا سُلْطَانٌ، وَلَسْنَا فِي مَمْلَكَتِهِ، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} فَاحْتَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ عَلَى أَنْ قَالَ لَهَا: مَا يُدْرِيكِ مَا قُوَّتُهُ، وَمَا أَمَانَتُهُ؟ فَقَالَتْ: أَمَّا قُوَّتُهُ فَمَا رَأَيْتُ مِنْهُ فِي الدَّلْوِ حِينَ سَقَى لَنَا، لَمْ أَرَ رَجُلًا قَطُّ أَقْوَى فِي ذَلِكَ السَّقْيِ مِنْهُ، وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَإِنَّهُ نَظَرَ إليَّ حِينَ أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ وَشَخَصْتُ لَهُ، فلم عَلِمَ أَنِّي امْرَأَةٌ صَوَّبَ رَأْسَهُ فَلَمْ يَرْفَعْهُ حَتَّى بَلَّغْتُهُ رِسَالَتَكَ، ثُمَّ قَالَ لِيَ: امْشِي خَلْفِي وَانْعُتِي لِيَ الطَّرِيقَ، فَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا إِلَّا وَهُوَ أَمِينٌ، فَسُرِّيَ عَنْ أَبِيهَا وَصَدَّقَهَا وَظَنَّ بِهِ الَّذِي قَالَتْ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ، وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ الله من الصالحين، ففعل، فكانت على نبي الله موسى ثمان حجج واجبة، وكانت سنتان عدة فَقَضَى اللَّهُ عَنْهُ عِدَتَهُ فَأَتَمَّهَا عَشْرًا. قَالَ سعيد بن جُبَيْرٍ: فَلَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى موسى؟ قلت: لا، وأنا يومئذٍ لا أدرري، فَلَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ ثَمَانِيًا كَانَتْ عَلَى نَبِيِّ الله واجبة لم يكن نبي الله لينقص مِنْهَا شَيْئًا، وَيَعْلَمُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ قَاضِيًا عن موسى عدته التي كان وَعَدَهُ، فَإِنَّهُ قَضَى عَشْرَ سِنِينَ، فَلَقِيتُ النَّصْرَانِيَّ فَأَخْبَرْتُهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: الَّذِي سَأَلْتَهُ فَأَخْبَرَكَ أَعْلَمُ منك بذلك، قلت: أجل وأولى. (يتبع ... )

(تابع ... 1): 36 - قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سؤلك يا موسى ... ... فاما سَارَ مُوسَى بِأَهْلِهِ كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّارِ وَالْعَصَا وَيَدِهِ مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي القرآن، فشكا إلى الله تعالى ما يحذر من آل فرعون في القتل، وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تَمْنَعُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَخِيهِ هَارُونَ يَكُونُ لَهُ رِدْءًا يتكلم عَنْهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا لَا يُفْصِحُ بِهِ لِسَانُهُ، فَآتَاهُ اللَّهُ سُؤْلَهُ وَحَلَّ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَارُونَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْقَاهُ، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليه السَّلَامُ، فَانْطَلَقَا جَمِيعًا إِلَى فِرْعَوْنَ فَأَقَامَا عَلَى بابه حينا لا يؤذن لهما، ثم أذن لَهُمَا بَعْدَ حِجَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَا: {أَنَاْ رَسُولَا ربك}، قال: فمن ربكما؟ فأخبراه بِالَّذِي قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: فَمَا تُرِيدَانِ؟ وَذَكَّرَهُ الْقَتِيلَ فَاعْتَذَرَ بِمَا قَدْ سَمِعْتَ، قَالَ: أُريد أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَتُرْسِلَ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ. فأبى عليه، فقال: ائت بآية إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى عَظِيمَةً فَاغِرَةً فَاهَا مُسْرِعَةً إِلَى فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا رَآهَا فِرْعَوْنُ قَاصِدَةً إِلَيْهِ خَافَهَا فَاقْتَحَمَ عَنْ سَرِيرِهِ، وَاسْتَغَاثَ بِمُوسَى أَنْ يكفلها عَنْهُ، فَفَعَلَ، ثُمَّ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ فَرَآهَا بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، يَعْنِي مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، ثُمَّ رَدَّهَا فَعَادَتْ إِلَى لَوْنِهَا الْأَوَّلِ، فَاسْتَشَارَ الْمَلَأَ حَوْلَهُ فِيمَا رَأَى، فَقَالُوا له: هذان ساحرن يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى، يَعْنِي مُلْكَهُمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالْعَيْشَ، وَأَبَوْا عَلَى مُوسَى أَنْ يُعْطُوهُ شَيْئًا مما طلب، وقالوا له: اجمع لهما السَّحَرَةَ، فَإِنَّهُمْ بِأَرْضِكَ كَثِيرٌ حَتَّى تَغْلِبَ بِسِحْرِكَ سِحْرَهُمَا، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمَدَائِنِ فَحُشِرَ لَهُ كُلُّ سَاحِرٍ مُتَعَالِمٍ، فَلَمَّا أَتَوْا فِرْعَوْنَ قَالُوا: بِمَ يَعْمَلُ هَذَا السَّاحِرُ؟ قَالُوا: يَعْمَلُ بِالْحَيَّاتِ، قَالُوا: فَلَا وَاللَّهِ مَا أَحَدٌ فِي الْأَرْضِ يَعْمَلُ بِالسِّحْرِ بِالْحَيَّاتِ وَالْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ الَّذِي نَعْمَلُ فَمَا أجرنا إن نحن غلبناه؟ قَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ أَقَارِبِي وَخَاصَّتِي وَأَنَا صَانِعٌ إِلَيْكُمْ كُلَّ شَيْءٍ أَحْبَبْتُمْ، فَتَوَاعَدُوا يَوْمَ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضَحًّى. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ يَوْمَ الزِّينَةِ اليوم الَّذِي أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ والسحرة

هُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، قَالَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْطَلِقُوا فَلْنَحْضُرْ لهذا الْأَمْرَ {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الغاليبن} يَعْنُونَ مُوسَى وَهَارُونَ، اسْتِهْزَاءً بِهِمَا {فَقَالُوا يَا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نحن الملقين * قَالَ بَلْ أَلْقُواْ، فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون}، فَرَأَى مُوسَى مِنْ سِحْرِهِمْ مَا أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَلْقِ عصاك، فلما ألقاها صارت ثعباناً عظيماً فاغراً فاه فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جرزاً إِلَى الثُّعْبَانِ تَدْخُلُ فِيهِ، حَتَّى مَا أَبْقَتْ عصا ولا حبلاً إلا ابتعلته، فلما عرف السَّحَرَةُ ذَلِكَ قَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا سِحْرًا لم يبلغ من سحرنا كل هذا، ولكن هذا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ، آمَنَّا بِاللَّهِ وبما جاء به موسى من عند الله وَنَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ، فَكَسَرَ اللَّهُ ظَهْرَ فِرْعَوْنَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ وَأَشْيَاعِهِ، وظهر الحق وبطل ما كانوا يعلمون {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صاغرين}، وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ بَارِزَةٌ مُتَبَذِّلَةٌ تَدْعُو اللَّهَ بِالنَّصْرِ لِمُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ، فَمَنْ رَآهَا مِنْ آل فرعون ظن أنها ابْتُذِلَتْ لِلشَّفَقَةِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ وَإِنَّمَا كَانَ حُزْنُهَا وَهَمُّهَا لِمُوسَى. فَلَمَّا طَالَ مُكْثُ مُوسَى بِمَوَاعِيدِ فِرْعَوْنَ الْكَاذِبَةِ، كُلَّمَا جَاءَ بِآيَةٍ وَعَدَهُ عِنْدَهَا أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا مَضَتْ أَخْلَفَ مَوْعِدَهُ، وَقَالَ: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يَصْنَعَ غَيْرَ هَذَا؟ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى قَوْمِهِ: الطُّوفَانَ، وَالْجَرَادَ، والقُمّل، وَالضَّفَادِعَ، وَالدَّمَ، آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَشْكُو إِلَى مُوسَى وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَكُفَّهَا عَنْهُ وَيُوَاثِقُهُ عَلَى أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا كَفَّ ذَلِكَ عنه أَخْلَفَ مَوْعِدَهُ وَنَكَثَ عَهْدَهُ، حَتَّى أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى بِالْخُرُوجِ بِقَوْمِهِ فَخَرَجَ بِهِمْ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْنُ وَرَأَى أَنَّهُمْ قَدْ مَضَوْا أَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، فَتَبِعَهُ بِجُنُودٍ عَظِيمَةٍ كَثِيرَةٍ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْبَحْرِ إِذَا ضَرَبَكَ عَبْدِي مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَلِقِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً حَتَّى يجوز موسى ومن معه، ثم التقي عَلَى مَنْ بَقِيَ بَعْدُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ، فَنَسِيَ مُوسَى أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِالْعَصَا وَانْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ وَلَهُ قَصِيفٌ، مَخَافَةَ أَنْ يَضْرِبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ وَهُوَ غَافِلٌ فَيَصِيرُ عَاصِيًا لِلَّهِ. فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَتَقَارَبَا، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، افْعَلْ مَا أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ تَكْذِبْ. قَالَ وَعَدَنِي ربي إذا أتيت البحر انفلق اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً، حَتَّى أُجَاوِزَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَصَا، فَضَرَبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ حِينَ دَنَا أَوَائِلُ جُنْدِ فِرْعَوْنَ مِنْ أَوَاخِرِ جُنْدِ مُوسَى، فَانْفَرَقَ الْبَحْرُ كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ وَكَمَا وَعَدَ مُوسَى، فَلَمَّا أَنْ جَازَ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ كُلُّهُمُ الْبَحْرَ وَدَخَلَ فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ، الْتَقَى عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ كَمَا أُمِرَ؛ فَلَمَّا جَاوَزَ مُوسَى الْبَحْرَ قال أصحابه: إنا نخاف أن لا يَكُونَ فِرْعَوْنُ غَرَقَ وَلَا نُؤْمِنُ بِهَلَاكِهِ، فَدَعَا رَبَّهُ فَأَخْرَجَهُ لَهُ بِبَدَنِهِ حَتَّى اسْتَيْقَنُوا بِهَلَاكِهِ. ثُمَّ مَرُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ {قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فيه} الآية: قَدْ رَأَيْتُمْ مِنَ الْعِبَرِ، وَسَمِعْتُمْ مَا يَكْفِيكُمْ، وَمَضَى فَأَنْزَلَهُمْ مُوسَى مَنْزِلًا، وَقَالَ: أَطِيعُوا هَارُونَ فَإِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُهُ عَلَيْكُمْ فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي، وَأَجَّلَهُمْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ فِيهَا، فَلَمَّا أَتَى رَبَّهُ وَأَرَادَ أَنْ يُكَلِّمَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ صَامَهُنَّ لَيْلَهُنَّ وَنَهَارَهُنَّ، وَكَرِهَ أَنْ يُكَلِّمَ رَبَّهُ وَرِيحُ فِيهِ، رِيحُ فَمِ الصَّائِمِ، فَتَنَاوَلَ مُوسَى مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ شَيْئًا فَمَضَغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ حِينَ أَتَاهُ: لِمَ أَفْطَرْتَ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالَّذِي كَانَ! قَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُكَلِّمَكَ إِلَّا وَفَمِي طَيِّبُ الرِّيحِ، قَالَ: أَوَمَا عَلِمْتَ يَا مُوسَى أن ريح فم الصائم أطيب عندي مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، ارْجِعْ فَصُمْ عَشْرًا. ثُمَّ ائْتِنِي. فَفَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أُمِرَ به، فلما رأى قومه أنه لم

يرجع إليهم في الأجل سائهم ذَلِكَ، وَكَانَ هَارُونُ قَدْ خَطَبَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّكُمْ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنْ مِصْرَ وَلِقَوْمِ فِرْعَوْنَ عِنْدَكُمْ عوار وودائع ولكم فيهم مثل ذلك، فإني أَرَى أَنَّكُمْ تَحْتَسِبُونَ مَا لَكَمَ عِنْدَهُمْ، وَلَا أَحِلُّ لَكُمْ وَدِيعَةً اسْتُودِعْتُمُوهَا وَلَا عَارِيَةً، وَلَسْنَا بِرَادِّينَ إِلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا مُمْسِكِيهِ لِأَنْفُسِنَا، فَحَفَرَ حَفِيرًا وَأَمَرَ كُلَّ قَوْمٍ عِنْدَهُمْ من ذلك من متاع أو حلي أَنْ يَقْذِفُوهُ فِي ذَلِكَ الْحَفِيرِ، ثُمَّ أَوْقَدَ عليه النار فأحرقته، فَقَالَ: لَا يَكُونُ لَنَا وَلَا لَهُمْ. وَكَانَ السَّامِرِيُّ مَنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، جِيرَانٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاحْتَمَلَ مَعَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ احْتَمَلُوا. فَقُضِيَ لَهُ أَنْ رَأَى أَثَرًا فَقَبَضَ مِنْهُ قَبْضَةً فَمَرَّ بِهَارُونَ، فَقَالَ لَهُ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا سَامِرِيُّ أَلَا تُلْقِي مَا فِي يَدِكَ وهو قابض عليه لا يراه أحد طول ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذِهِ قَبْضَةٌ مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ الذي جاوز بكم البحر، لا أُلْقِيهَا لِشَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ إِذَا ألقيتها أن يجعلها مَا أُرِيدُ، فَأَلْقَاهَا وَدَعَا لَهُ هَارُونُ، فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عِجْلًا، فَاجْتَمَعَ مَا كَانَ فِي الْحَفِيرَةِ مِنْ مَتَاعٍ أَوْ حِلْيَةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ، فَصَارَ عِجْلًا أَجْوَفَ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ وَلَهُ خُوَارٌ! قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ لَهُ صَوْتٌ قَطُّ إِنَّمَا كَانَتِ الرِّيحُ تَدْخُلُ فِي دُبُرِهِ وَتَخْرُجُ من فيه، وكان ذَلِكَ الصَّوْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَتَفَرَّقَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِرَقًا، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يَا سَامِرِيُّ مَا هَذَا وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ؟ قَالَ هَذَا رَبُّكُمْ، وَلَكِنَّ موسى أضل الطريق، فقالت فِرْقَةٌ: لَا نُكَذِّبُ بِهَذَا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى، فَإِنْ كَانَ رَبَّنَا لَمْ نَكُنْ ضَيَّعْنَاهُ وعجزنا فيه حين رأينا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَبَّنَا، فَإِنَّا نَتَّبِعُ قَوْلَ موسى، وقالت فرقة: هذا من عمل الشيطان، وليس بربنا، ولا نؤمن وَلَا نُصَدِّقُ، وَأُشْرِبَ فِرْقَةٌ فِي قُلُوبِهِمُ الصِّدْقَ بِمَا قَالَ السَّامِرِيُّ فِي الْعَجَلِ، وَأَعْلَنُوا التَّكْذِيبَ بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي}، قَالُوا: فَمَا بَالُ مُوسَى وَعَدَنَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ أَخْلَفَنَا، هَذِهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَدْ مَضَتْ، وقال سفهاؤهم: أخطأ ربه فهو يطلبه يتبعه. فَلَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ مَا قَالَ، أَخْبَرَهُ بِمَا لَقِيَ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ، {فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان أسفا}، فَقَالَ لَهُمْ: مَا سَمِعْتُمْ فِي الْقُرْآنِ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ مِنَ الْغَضَبِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَذَرَ أَخَاهُ بِعُذْرِهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ وَانْصَرَفَ إِلَى السَّامِرِيِّ، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: قَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ وَفَطِنْتُ لَهَا وَعَمِيَتْ عَلَيْكُمْ {فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ، وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ، وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً، لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً}. وَلَوْ كَانَ إِلَهًا لَمْ يَخْلُصْ إِلَى ذَلِكَ مِنْهُ، فَاسْتَيْقَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالْفِتْنَةِ، وَاغْتَبَطَ الَّذِينَ كَانَ رَأْيُهُمْ فِيهِ مِثْلَ رَأْيِ هَارُونَ، فَقَالُوا لجماعتهم: يا موسى سل لنا بك أَنْ يَفْتَحَ لَنَا بَابَ تَوْبَةٍ نَصْنَعُهَا، فَيُكَفِّرَ عَنَّا مَا عَمِلْنَا، فَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِذَلِكَ لَا يَأْلُو الْخَيْرَ، خِيَارُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَنْ لَمْ يُشْرِكْ فِي الْعِجْلِ، فَانْطَلَقَ بِهِمْ يَسْأَلُ لَهُمُ التَّوْبَةَ، فَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ فَاسْتَحْيَا نَبِيُّ اللَّهِ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ وَفْدِهِ حِينَ فُعِلَ بِهِمْ مَا فُعِلَ، فَقَالَ: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ}؟ وفيهم من كان الله اطلع مِنْهُ عَلَى مَا أُشْرِبَ قَلْبُهُ مِنْ حُبِّ الْعِجْلِ وَإِيمَانِهِ بِهِ، فَلِذَلِكَ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَقَالَ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل}، فَقَالَ: يَا رَبِّ سَأَلْتُكَ التَّوْبَةَ لِقَوْمِي فَقُلْتَ إِنَّ رَحْمَتِي كَتَبْتُهَا لِقَوْمٍ غَيْرِ قَوْمِي، هَلَّا أَخَّرْتَنِي حَتَّى تُخْرِجَنِي فِي أُمَّةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمَرْحُومَةِ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ تَوْبَتَهُمْ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَنْ لَقِيَ مِنْ وَالِدٍ وولد، فيقتله

بالسيف ولا يبالي فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ، وَتَابَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ خفي أمرهم عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ، وَاطَّلَعَ اللَّهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ فَاعْتَرَفُوا بِهَا وَفَعَلُوا مَا أُمِرُوا وَغَفَرَ اللَّهُ لِلْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ. ثُمَّ سَارَ بِهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَخَذَ الْأَلْوَاحَ بَعْدَ مَا سَكَتَ عَنْهُ الْغَضَبُ، فَأَمَرَهُمْ بِالَّذِي أمرهم بِهِ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مِنَ الْوَظَائِفِ. فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا بِهَا، فَنَتَقَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ كَأَنَّهُ ظُلَّةً وَدَنَا مِنْهُمْ حَتَّى خَافُوا أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذُوا الْكِتَابَ بِأَيْمَانِهِمْ وَهُمْ مُصْغُونَ، يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَبَلِ وَالْكِتَابُ بِأَيْدِيهِمْ وَهُمْ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ مَضَوْا حَتَّى أَتَوُا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فَوَجَدُوا مَدِينَةً فِيهَا قَوْمٌ جَبَّارُونَ، خَلْقُهُمْ خَلْقٌ مُنْكَرٌ، وَذَكَرُوا مِنْ ثِمَارِهِمْ أَمْرًا عَجِيبًا مِنْ عِظَمِهَا، فَقَالُوا: يَا مُوسَى! إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ وَلَا نَدْخُلُهَا مَا دَامُوا فِيهَا، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ، قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ: قِيلَ ليزيد هكذا قرأت؟ قَالَ: نَعَمْ مِنَ الْجَبَّارِينَ آمَنَا بِمُوسَى، وَخَرَجَا إليه، قالوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِقَوْمِنَا إِنْ كُنْتُمْ إِنَّمَا تَخَافُونَ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ أَجْسَامِهِمْ وَعَدَدِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا قُلُوبَ لَهُمْ وَلَا مَنَعَةَ عِنْدَهُمْ، فَادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ. وَيَقُولُ أُنَاسٌ: إِنَّهُمْ مِنْ قَوْمِ مُوسَى، فَقَالَ الَّذِينَ يَخَافُونَ بني إِسْرَائِيلَ: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا ههنا قاعدون}، فَأَغْضَبُوا مُوسَى فَدَعَا عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُمْ فَاسِقِينَ، وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنْهُمْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَإِسَاءَتِهِمْ، حَتَّى كَانَ يومئذٍ، فَاسْتَجَابَ الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين، وحرمها عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ يُصْبِحُونَ كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار، وظلل عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فِي التِّيهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَجَعَلَ لَهُمْ ثِيَابًا لَا تَبْلَى وَلَا تَتَّسِخُ، وَجَعَلَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ حَجَرًا مُرَبَّعًا وَأَمَرَ مُوسَى فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا في كل ناحية ثلاثة أَعْيُنٍ، وَأَعْلَمَ كُلَّ سِبْطٍ عَيْنَهُمُ الَّتِي يَشْرَبُونَ منها فلا يرتحلون من مكان إلاّ وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس (أخرجه النسائي في سننه وابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما، قال ابن كثير: وَهُوَ مَوْقُوفٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَرْفُوعٌ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُ وَكَأَنَّهُ تَلَقَّاهُ ابن عباس مما أبيح نقله من الإسرائيليات).

فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى - 41 - وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي - 42 - اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي - 43 - اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى - 44 - فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ لَبِثَ مُقِيمًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ فَارًّا مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، يَرْعَى عَلَى صِهْرِهِ حَتَّى انْتَهَتِ الْمُدَّةُ وَانْقَضَى الْأَجَلُ، ثُمَّ جَاءَ مُوَافِقًا لَقَدَرِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهُوَ الْمُسَيَّرُ عِبَادَهُ وَخَلْقَهُ فِيمَا يَشَاءُ، وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ عَلَى مَوْعِدٍ، وقال قتادة: عَلَى قَدَرِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، وَقَوْلُهُ: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} أَيِ اصْطَفَيْتُكَ وَاجْتَبَيْتُكَ رَسُولًا لِنَفْسِي، أَيْ كَمَا

أريد وأشاء، روى البخاري عند تفسيرها عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْتَقَى آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: أَنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ آدَمُ: وَأَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَاصْطَفَاكَ لِنَفْسِهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ؟ قال: نعم، قال: فوجدته مكتوباً عليَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَجَّ آدم موسى" (أخرجه في الصحيحين). وقوله: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} أَيْ بِحُجَجِي وَبَرَاهِينِي ومعجزاتي {وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تُبْطِئَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَضْعُفَا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمَا لَا يَفْتُرَانِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، بَلْ يَذْكُرَانِ اللَّهَ فِي حَالِ مُوَاجَهَةِ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ذِكْرُ اللَّهِ عَوْنًا لَهُمَا عَلَيْهِ، وَقُوَّةً لَهُمَا وَسُلْطَانًا كَاسِرًا لَهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِيَ الَّذِي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مناجزٌ قرنه»، وقوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أَيْ تَمَرَّدَ وعتا، وتجبر عَلَى اللَّهِ وَعَصَاهُ، {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُوَ أَنَّ فِرْعَوْنَ فِي غَايَةِ العتو والاسكتبار، وَمُوسَى صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ إِذْ ذَاكَ، ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلاّ بالملاطفة واللين، وعن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} أَعْذِرَا إِلَيْهِ، قُولَا لَهُ: إِنَّ لَكَ رَبًّا وَلَكَ معاداً، وإن بين يديك جنة وناراً، وَالْحَاصِلُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَنَّ دَعْوَتَهُمَا لَهُ تَكُونُ بكلام رقيق، لين سهل رفيق، لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ وَأَبْلَغَ وَأَنْجَعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وقوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} أَيْ لَعَلَّهُ يَرْجِعُ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْهَلَكَةِ، أَوْ يَخْشَى - أَيْ يُوجِدُ طَاعَةً مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ يَخْشَى} فَالتَّذَكُّرُ الرُّجُوعُ عَنِ الْمَحْذُورِ، وَالْخَشْيَةُ تحصيل الطاعة، وقال الحسن البصري: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} يَقُولُ: لَا تَقُلْ أَنْتَ يَا مُوسَى وَأَخُوكَ هَارُونُ أَهْلِكْهُ قَبْلَ أن أعذر إليه.

- 45 - قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَنْ يَطْغَى - 46 - قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى - 47 - فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى - 48 - إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: أَنَّهُمَا قَالَا مُسْتَجِيرِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى شَاكِيَيْنِ إِلَيْهِ {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى} يَعْنِيَانِ أَنْ يَبْدُرَ إِلَيْهِمَا بِعُقُوبَةٍ، أَوْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِمَا فَيُعَاقِبَهُمَا وَهُمَا لَا يَسْتَحِقَّانِ مِنْهُ ذَلِكَ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ {أَن يَفْرُطَ} يعجل، وقال مجاهد: يسلط علينا، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {أَوْ أَن يَطْغَى} يَعْتَدِيَ {قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى} أَيْ لَا تَخَافَا مِنْهُ فَإِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ كَلَامَكُمَا وَكَلَامَهُ، وَأَرَى مَكَانَكُمَا وَمَكَانَهُ، لَا يَخْفَى عَلَيَّ مِنْ أَمْرِكُمْ شَيْءٌ، وَاعْلَمَا أَنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِي فَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَتَنَفَّسُ وَلَا يَبْطِشُ إِلَّا بإذني، وأنا معكم بحفظي ونصري، وتأييدي. {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} قَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَكَثَا عَلَى بَابِهِ حِينًا لَا يُؤْذَنُ لهما، حتى أذن لهما بعد حجاب شديد. وَقَوْلُهُ: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِن رَّبِّكَ} أَيْ بِدَلَالَةٍ وَمُعْجِزَةٍ مِنْ رَبِّكَ، {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} أَيْ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ إِنِ اتَّبَعْتَ الْهُدَى، وَلِهَذَا لَمَّا كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ كِتَابًا كَانَ أَوَّلُهُ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ

عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين»، وَلِهَذَا قَالَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أَيْ قَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ فِيمَا أَوْحَاهُ إِلَيْنَا مِنَ الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ، أَنَّ الْعَذَابَ مُتَمَحِّضٌ لِمَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَتَوَلَّى عَنْ طَاعَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الْأَشْقَى * الذي كَذَّبَ وتولى}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أَيْ كَذَّبَ بِقَلْبِهِ وَتَوَلَّى بِفِعْلِهِ.

- 49 - قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى - 50 - قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى - 51 - قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى - 52 - قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ، أَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى مُنْكِرًا وُجُودَ الصَّانِعِ الْخَالِقِ {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} أَيِ الَّذِي بَعَثَكَ وَأَرْسَلَكَ مَنْ هُوَ؟ فَإِنِّي لَا أَعْرِفُهُ وَمَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَقُولُ خَلَقَ لِكُلِّ شَيْءٍ زَوْجَةً، وعنه: جَعَلَ الْإِنْسَانَ إِنْسَانًا وَالْحِمَارَ حِمَارًا وَالشَّاةَ شَاةً. وقال مجاهد: أعطى كُلَّ شَيءٍ صورته، وسوّى خَلْقَ كُلِّ دَابَّةٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قَالَ: أَعْطَى كُلَّ ذِي خَلْقٍ مَا يُصْلِحُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْإِنْسَانِ مِنْ خَلْقِ الدَّابَّةِ، وَلَا لِلدَّابَّةِ مِنْ خَلْقِ الْكَلْبِ، وَلَا لِلْكَلْبِ مِنْ خَلْقِ الشَّاةِ، وَأَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ النِّكَاحِ، وَهَيَّأَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى ذَلِكَ، لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِ فِي الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ والنكاح، {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى}؟ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ؛ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا أَخْبَرَهُ مُوسَى بِأَنَّ رَبَّهُ الَّذِي أَرْسَلَهُ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ وَرَزَقَ وَقَدَّرَ فَهَدَى، شَرَعَ يَحْتَجُّ بِالْقُرُونِ الْأُولَى، أَيِ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا اللَّهَ، أَيْ فما بالهم إذا كان الأمر كذلك، لَمْ يَعْبُدُوا رَبَّكَ بَلْ عَبَدُوا غَيْرَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى فِي جَوَابِ ذَلِكَ: هُمْ وَإِنْ لم يعبدوا فَإِنَّ عَمَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَضْبُوطٌ عَلَيْهِمْ، وَسَيَجْزِيهِمْ بِعَمَلِهِمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ وكتاب الأعمار، {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} أَيْ لَا يَشِذُّ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَفُوتُهُ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ وَلَا يَنْسَى شَيْئًا، يَصِفُ عِلْمَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنْسَى شيئاً تبارك وَتَقَدَّسَ، فَإِنَّ عِلْمَ الْمَخْلُوقِ يَعْتَرِيهِ نُقْصَانَانِ "أَحَدُهُمَا عَدَمُ الْإِحَاطَةِ بِالشَّيْءِ، وَالْآخَرُ نِسْيَانُهُ بَعْدَ عِلْمِهِ، فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ.

- 53 - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى - 54 - كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى - 55 - مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى - 56 - وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ مُوسَى فِيمَا وَصَفَ بِهِ رَبَّهُ عزَّ وجلَّ، حِينَ سَأَلَهُ فِرْعَوْنُ عَنْهُ فَقَالَ: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}، ثُمَّ اعْتُرِضَ الْكَلَامُ بَيْنَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} أَيْ قَرَارًا تَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا وَتَقُومُونَ وَتَنَامُونَ عَلَيْهَا، وَتُسَافِرُونَ عَلَى ظَهْرِهَا، {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أَيْ جَعَلَ لَكُمْ طُرُقًا تَمْشُونَ فِي مناكبها

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}، {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شتى} أي من أنواع النَّبَاتَاتِ مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ، وَمِنْ حَامِضٍ وَحُلْوٍ ومر، وَسَائِرِ الْأَنْوَاعِ، {كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} أَيْ شَيْءٌ لطعامكم وفاكهتكم، وشيء لأنعامكم لأقواتها خضراً ويبساً، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} أَيْ لَدَلَالَاتٍ وَحُجَجًا وَبَرَاهِينَ، {لأُوْلِي النُّهَى} أَيْ لِذَوِي الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ المستقيمة، {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} أَيْ مِنَ الْأَرْضِ مَبْدَؤُكُمْ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ، وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ أَيْ وَإِلَيْهَا تَصِيرُونَ إِذَا مُتُّمْ وَبَلِيتُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى، {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فستجيبون بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً}. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضَرَ جِنَازَةً، فَلَمَّا دُفِنَ الْمَيِّتُ أَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فألقاها في القبر، وقال: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ، ثُمَّ أَخَذَ أُخْرَى وَقَالَ: وَفِيهَا نعيدكم، ثم أُخْرَى وَقَالَ: وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى، وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى}، يَعْنِي فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَجُ وَالْآيَاتُ وَالدَّلَالَاتُ، وَعَايَنَ ذَلِكَ وَأَبْصَرَهُ فَكَذَّبَ بِهَا وَأَبَاهَا كُفْرًا وَعِنَادًا وَبَغْيًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} الآية.

- 57 - قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى - 58 - فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَانًا سُوًى - 59 - قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ: أَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى حِينَ أَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى وَهِيَ إِلْقَاءُ عَصَاهُ فَصَارَتْ ثُعْبَانًا عَظِيمًا، وَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ جَنَاحِهِ فَخَرَجَتْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، فَقَالَ: هَذَا سِحْرٌ جِئْتَ بِهِ لِتَسْحَرَنَا وَتَسْتَوْلِيَ بِهِ عَلَى النَّاسِ فَيَتَّبِعُونَكَ وَتُكَاثِرُنَا بِهِمْ، وَلَا يَتِمُّ هَذَا مَعَكَ، فَإِنَّ عِنْدَنَا سِحْرًا مِثْلَ سِحْرِكَ فَلَا يَغُرَّنَّكَ مَا أَنْتَ فِيهِ {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً} أَيْ يَوْمًا نَجْتَمِعُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِيهِ، فَنُعَارِضُ مَا جِئْتَ به بما عندنا مِنَ السِّحْرِ، فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ وَوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ {قَالَ} لَهُمْ مُوسَى {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} (روي عن ابن عباس أنه يوم عاشوراء، أخرجه ابن أبي حاتم}، وهو يوم عيدهم وتفرغهم من أعمالهم، واجتماع جَمِيعِهِمْ، لِيُشَاهِدَ النَّاسُ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَمُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَبُطْلَانَ مُعَارَضَةِ السِّحْرِ لِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ النَّبَوِيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ} أَيْ جَمِيعُهُمْ {ضُحًى} أَيْ ضَحْوَةً مِنَ النَّهَارِ لِيَكُونَ أَظْهَرَ وَأَجْلَى وَأَبْيَنَ وَأَوْضَحَ، وَهَكَذَا شَأْنُ الأنبياء، كل أمرهم بيّن واضح لَيْسَ فِيهِ خَفَاءٌ وَلَا تَرْوِيجٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ: لَيْلًا، وَلَكِنْ نَهَارًا، ضُحًى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ يَوْمُ الزِّينَةِ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَقَالَ السدي: كان يوم عيدهم. قُلْتُ: وَفِي مِثْلِهِ أَهْلَكَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، قَالَ فِرْعَوْنُ: يَا مُوسَى اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا نَنْظُرُ فِيهِ، قَالَ مُوسَى: لَمْ أؤمر بِهَذَا، إِنَّمَا أُمِرْتُ بِمُنَاجَزَتِكَ إِنْ أَنْتَ لَمْ تَخْرُجْ دَخَلْتُ إِلَيْكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: أَنِ اجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَجَلًا، وَقُلْ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ هُوَ، قَالَ فِرْعَوْنُ اجْعَلْهُ إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَفَعَلَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ {مَكَاناً سُوًى} مُنَصَّفًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَدْلًا، وَقَالَ عَبْدُ الرحمن بن زيد: مستوٍ بين الناس، وما فيه لا يكون صوت وَلَا شَيْءَ، يَتَغَيَّبُ بَعْضُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضٍ، مستوٍ حين يرى.

- 60 - فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى - 61 - قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى - 62 - فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى - 63 - قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى - 64 - فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ أتوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ: أَنَّهُ لَمَّا تَوَاعَدَ هو وموسى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى وَقْتٍ وَمَكَانٍ مَعْلُومَيْنِ، تَوَلَّى: أَيْ شَرَعَ فِي جَمْعِ السَّحَرَةِ مِنْ مَدَائِنِ مملكته، كل من ينسب إلى السحر فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَقَدْ كَانَ السِّحْرُ فِيهِمْ كَثِيرًا نَافِقًا جِدًّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عليم}، ثُمَّ أَتَى: أَيِ اجْتَمَعَ النَّاسُ، لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ: وَهُوَ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَجَلَسَ فِرْعَوْنُ عَلَى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهِ، وَاصْطَفَّ لَهُ أَكَابِرُ دَوْلَتِهِ، وَوَقَفَتْ الرعايا يمنة ويسرة، وأقبل موسى عليه الصلاة والسلام متوكئاً على عصاه، ومعه أخوه هارون، ووقفت السَّحَرَةُ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ صُفُوفًا وَهُوَ يُحَرِّضُهُمْ وَيَحُثُّهُمْ وَيُرَغِّبُهُمْ فِي إِجَادَةِ عَمَلِهِمْ فِي ذَلِكَ اليوم، ويتمنون عليه وهو يعدهم ويمنيهم، يقولون {أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لمن المقربين}. {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أَيْ لَا تُخَيِّلُوا لِلنَّاسِ بِأَعْمَالِكُمْ إِيجَادَ أَشْيَاءَ لَا حَقَائِقَ لَهَا، وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وليست مخلوقة، فتكونون قَدْ كَذَبْتُمْ عَلَى اللَّهِ {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} أَيْ يُهْلِكُكُمْ بِعُقُوبَةٍ هَلَاكًا لَا بَقِيَّةَ لَهُ، {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ تَشَاجَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِكَلَامِ سَاحِرٍ، إِنَّمَا هَذَا كَلَامُ نَبِيٍّ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: بَلْ هُوَ سَاحِرٌ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى}: أَيْ تَنَاجَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ، {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} وهذه لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ، جَاءَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى إِعْرَابِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ {إِنْ هَذَيْنَ لَسَاحِرَانِ}، وَالْغَرَضُ أَنَّ السَّحَرَةَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ وَأَخَاهُ - يَعْنُونُ مُوسَى وَهَارُونَ - سَاحِرَانِ عَالِمَانِ خَبِيرَانِ بِصِنَاعَةِ السِّحْرِ، يُرِيدَانِ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَنْ يَغْلِبَاكُمْ وَقَوْمَكُمْ وَيَسْتَوْلِيَا عَلَى الناس، وتتبعهما العامة ويقاتلا فرعون وجنوده فينصرا عَلَيْهِ، وَيُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ، وَقَوْلُهُ: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} أَيْ وَيَسْتَبِدَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَهِيَ السِّحْرُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُعَظَّمِينَ بِسَبَبِهَا، لَهُمْ أَمْوَالٌ وَأَرْزَاقٌ عليها، يقولون: إذا غلب هذان أهلكاهم وأخرجاكم من الأرض وتفردا بذلك وتمحضت لهم الرِّيَاسَةُ بِهَا دُونَكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الفتون أن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} يعني ملهكم الذي هُمْ فِيهِ والعيش، وعن عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} قَالَ: ييصرفا وجوه الناس إليهما (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقال مجاهد {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} قال: أولو الشرف والعقل والأسنان. {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثم أتوا صَفّاً} أَيِ اجْتَمِعُوا كُلُّكُمْ صَفًّا وَاحِدًا، وَأَلْقُوا مَا فِي أَيْدِيكُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِتَبْهَرُوا الْأَبْصَارَ وَتَغْلِبُوا هَذَا وَأَخَاهُ، {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} أَيْ مِنَّا وَمِنْهُ، أَمَّا نَحْنُ فَقَدَ وَعَدَنَا هَذَا الْمَلِكُ، الْعَطَاءَ الْجَزِيلَ، وَأَمَّا هُوَ فَيَنَالُ الرِّيَاسَةَ الْعَظِيمَةَ.

- 65 - قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى - 66 - قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى - 67 - فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى - 68 - قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى - 69 - وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى - 70 - فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ السَّحَرَةِ حِينَ تَوَافَقُوا هُمْ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ}: أَيْ أنت أولاً، {وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُواْ}: أي أنتم أولاً لنرى مَاذَا تَصْنَعُونَ مِنَ السِّحْرِ، وَلِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ جَلِيَّةً أَمْرُهُمْ، {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}، وَفِي الْآيَةِ الأُخْرى أَنَّهُمْ لما ألقوا {قالوا بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لغالبون}، وَقَالَ تَعَالَى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}، وقال ههنا: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَوْدَعُوهَا مِنَ الزِّئْبَقِ مَا كَانَتْ تَتَحَرَّكُ بِسَبَبِهِ، وَتَضْطَرِبُ وَتَمِيدُ بِحَيْثُ يُخَيَّلُ لِلنَّاظِرِ أَنَّهَا تَسْعَى بِاخْتِيَارِهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ حيلة، وكانوا جماً غفيراً وجمعاً كثيراً، فَأَلْقَى كُلٌّ مِنْهُمْ عَصًا وَحَبْلًا حَتَّى صَارَ الْوَادِي مَلْآنَ حَيَّاتٍ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَوْلُهُ: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} أَيْ خَافَ على الناس أن يفتنوا بِسِحْرِهِمْ، وَيَغْتَرُّوا بِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَ مَا في يمنيه، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، أن ألق ما في يمينك يعني عصاك فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا صَنَعُوا، وَذَلِكَ أَنَّهَا صارت تنيناً عظيماً هائلاً ذا قوائم وَعُنُقٍ وَرَأْسٍ وَأَضْرَاسٍ، فَجَعَلَتْ تَتْبَعُ تِلْكَ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ حَتَّى لَمْ تُبْقِ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا تَلَقَّفَتْهُ وَابْتَلَعَتْهُ، وَالسَّحَرَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَى ذَلِكَ عياناً جهرة نهاراً صحوة، فقامت المعجزة واتضح البرهان ووقع الحق وبطل السحر، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أتى}، فَلَمَّا عَايَنَ السَّحَرَةُ ذَلِكَ وَشَاهَدُوهُ، وَلَهُمْ خِبْرَةٌ بِفُنُونِ السِّحْرِ وَطُرُقِهِ وَوُجُوهِهِ، عَلِمُوا عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مُوسَى لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ وَالْحِيَلِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا إِلَّا الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ وَقَعُوا سُجَّدًا لِلَّهِ، وَقَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ، ولهذا قال ابن عباس: كانوا أول النهار سحرة وفي آخره شُهَدَاءَ بَرَرَةً، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: كَانُوا ثمانين أَلْفًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَمَّا خَرَّ السَّحَرَةُ سُجَّدًا رُفِعَتْ لَهُمُ الْجَنَّةُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهَا. قَالَ وَذُكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَوْلَهُ {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً} قال: رأوا منازلهم تبين لهم وهم في سجودهم.

- 71 - قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى - 72 - قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - 73 - إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا

خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفْرِ فِرْعَوْنَ وَعِنَادِهِ وَبَغْيِهِ، وَمُكَابَرَتِهِ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ حِينَ رَأَى مَا رَأَى مِنَ الْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالْآيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَرَأَى الَّذِينَ قَدِ اسْتَنْصَرَ بِهِمْ قَدْ آمَنُوا بِحَضْرَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَغُلِبَ كُلَّ الْغَلَبِ، شَرَعَ فِي الْمُكَابَرَةِ وَالْبَهْتِ، وَعَدَلَ إِلَى اسْتِعْمَالِ جاهه وسلطانه في السحرة فتهددهم وتوعدهم، وَقَالَ {آمَنتُمْ لَهُ} أَيْ صَدَّقْتُمُوهُ {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أي وما أمرتكم بذلك، واتفقتم عَلَيَّ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ قَوْلًا يَعْلَمُ هُوَ وَالسَّحَرَةُ وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ أَنَّهُ بَهْتٌ وَكَذِبٌ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} أَيْ أَنْتُمْ إِنَّمَا أَخَذْتُمُ السِّحْرَ عَنْ مُوسَى، وَاتَّفَقْتُمْ أَنْتُمْ وَإِيَّاهُ عليّ وعلى رعيتي لتظهروه، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، ثُمَّ أَخَذَ يَتَهَدَّدُهُمْ فَقَالَ: {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أَيْ لأجعلنكم مثلة، ولأقتلنكم ولأشهرنكم. {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} أَيْ أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي وَقُومِي عَلَى ضَلَالَةٍ، وَأَنْتُمْ مَعَ مُوسَى وَقَوْمِهِ عَلَى الْهُدَى، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَكُونُ لَهُ الْعَذَابُ وَيَبْقَى فِيهِ، فَلَمَّا صَالَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَتَوَعَّدَهُمْ، هَانَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ فِي الله عزَّ وجلَّ {قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} أَيْ لَنْ نَخْتَارَكَ عَلَى مَا حَصَلَ لنا من الهدى واليقين {والذي فَطَرَنَا} يَعْنُونَ لَا نَخْتَارُكَ عَلَى فَاطِرِنَا وَخَالِقِنَا الَّذِي أَنْشَأْنَا مِنَ الْعَدَمِ، الْمُبْتَدِئِ خَلْقَنَا مِنَ الطِّينِ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَالْخُضُوعِ لَا أَنْتَ {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ} أَيْ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ، وَمَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ يَدُكَ {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أَيْ إِنَّمَا لَكَ تَسَلُّطٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَهِيَ دَارُ الزَّوَالِ، وَنَحْنُ قَدْ رَغِبْنَا فِي دَارِ الْقَرَارِ، {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} أَيْ مَا كَانَ مِنَّا مِنَ الْآثَامِ، خُصُوصًا مَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر، لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيّه. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} قَالَ: أَخَذَ فرعون أربعون غُلَامًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَمَرَ أَنْ يُعَلَّمُوا السحر بالفرماء، وَقَالَ عَلِّمُوهُمْ تَعْلِيمًا لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ فِي الْأَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَهُمْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ بموسى، وهم مِنَ الذين قالوا: {آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عليه من السحر} (رواه ابن أبي حاتم). وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أَيْ خَيْرٌ لَنَا مِنْكَ {وَأَبْقَى} أَيْ أَدْوَمُ ثَوَابًا مِمَّا كُنْتَ وعدتنا ومنيتنا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ {وَاللَّهُ خَيْرٌ}: أَيْ لَنَا مِنْكَ إِنْ أُطِيعَ {وَأَبْقَى}: أَيْ منك عذاباً إن عصي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ صَمَّمَ عَلَى ذلك وفعله بهم رحمة لَهُم مِّنَ اللَّهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة.

- 74 - إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى - 75 - وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدرجات العلى - 76 - جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ مَا وَعَظَ بِهِ السَّحَرَةُ لِفِرْعَوْنَ، يُحَذِّرُونَهُ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ وعذابه الدائم

السَّرْمَدِيِّ، وَيُرَغِّبُونَهُ فِي ثَوَابِهِ الْأَبَدِيِّ الْمُخَلَّدِ، فَقَالُوا {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} أَيْ يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مُجْرِمٌ {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى}، كَقَوْلِهِ: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فيها ولا يحيون، ولكن أناس تُصِيبُهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ، فَتُمِيتُهُمْ إِمَاتَةً، حَتَّى إِذَا صاروا فحماً وأذن فِي الشَّفَاعَةِ جِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ، فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ اقْبِضُوا عَلَيْهِمْ فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِالْبَادِيَةِ (الحديث رواه مسلم والإمام أحمد). وقوله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} أَيْ وَمَنْ لَقِيَ رَبَّهُ يَوْمَ الْمَعَادِ، مُؤْمِنَ الْقَلْبِ قَدْ صَدَقَ ضَمِيرَهُ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدرجات العلى} أَيِ الْجَنَّةُ ذَاتُ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ، وَالْغُرَفِ الْآمِنَاتِ والمساكن الطيبات، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْجَنَّةَ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا دَرَجَةً، وَمِنْهَا تَخْرُجُ الْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ، وَالْعَرْشُ فَوْقَهَا، فَإِذَا سألتم الله فسألوه الفردوس» (الحديث أخرجه الإمام أحمد والترمزي) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "أَنَّ أَهْلَ عِلِّيِّينَ لَيَرَوْنَ مَنْ فَوْقَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَابِرَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وصدَّقوا الْمُرْسَلِينَ" وَفِي السُّنَنِ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمِنْهُمْ وأنعما، وقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي إقامة وهي بَدَلٌ مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مَاكِثِينَ أَبَدًا {وَذَلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى} أَيْ طَهَّرَ نَفْسَهُ مِنَ الدَّنَسِ وَالْخَبَثِ وَالشِّرْكِ وَعَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شريك له، واتبع المرسلين فيما جاؤوا به منخير وطلب.

- 77 - وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى - 78 - فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ - 79 - وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا: أَنَّهُ أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَبَى فِرْعَوْنُ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسْرِيَ بِهِمْ فِي اللَّيْلِ، وَيَذْهَبَ بِهِمْ مِنْ قَبْضَةِ فرعون، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمَّا خَرَجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَصْبَحُوا وَلَيْسَ مِنْهُمْ بِمِصْرَ لَا دَاعٍ وَلَا مجيب، فغضب فرعون غضباً شديداً، وأرسل من يجمعون له الجند من بلدانه، ثُمَّ لَمَّا جَمَعَ جُنْدَهُ وَاسْتَوْثَقَ لَهُ جَيْشُهُ، ساق في طلبهم فاتبعوهم مشرقين، أَيْ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ}: أَيْ نَظَرَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إني مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} ووقف ببني إسرائيل أَمَامَهُمْ، وَفِرْعَوْنُ وَرَاءَهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: {أَنِ اضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً} فضرب البحر بعصاه، فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، أَيِ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ الرِّيحَ عَلَى أَرْضِ الْبَحْرِ، فَلَفَحَتْهُ حَتَّى صَارَ يَابِسًا كَوَجْهِ الْأَرْضِ، فَلِهَذَا قَالَ: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً}: أَيْ مِنْ فِرْعَوْنَ {وَلاَ تَخْشَى} يَعْنِي مِنَ الْبَحْرِ أَنْ يُغْرِقَ قَوْمَكَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ}: أَيِ الْبَحْرِ {مَا غَشِيَهُمْ} وَهَذَا يُقَالُ عِنْدَ الْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى}.

- 80 - يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى - 81 - كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى - 82 - وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى يَذْكُرُ تَعَالَى نِعَمَهُ - عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ - الْعِظَامَ، وَمِنَنَهُ الْجِسَامَ، حَيْثُ أنجاهم من عدوهم فرعون، وأقر عينهم مِنْهُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَإِلَى جُنْدِهِ قَدْ غَرِقُوا فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أحد، كما قال: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تنظرون}. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وجد اليهود تَصُومُ عَاشُورَاءَ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَ: «نحن أولى بموسى فصوموه» (الحديث أخرجه الشيخان عن ابن عباس)، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَاعَدَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ بعد هلاك فرعون، جانب الطور الأيمن، وهو الذي كلمه الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَأَلَ فِيهِ الرُّؤْيَةَ، وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ هنالك، وَفِي غُضُونِ ذَلِكَ عَبَدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْعِجْلَ، كما يقصه الله تَعَالَى قَرِيبًا، وَأَمَّا الْمَنُّ وَالسَّلْوَى فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا، فالمن حلوى كانت تتنزل عليهم مِنَ السَّمَاءِ، وَالسَّلْوَى طَائِرٌ يَسْقُطُ عَلَيْهِمْ، فَيَأْخُذُونَ مِنْ كُلٍّ قَدْرَ الْحَاجَةِ إِلَى الْغَدِ لُطْفًا مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةً بِهِمْ وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أَيْ كُلُوا مِنْ هَذَا الرِّزْقِ الَّذِي رَزَقْتُكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِي رِزْقِي، فَتَأْخُذُوهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وتخالفوا ما أمرتكم بِهِ، {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أَيْ أَغْضَبُ عَلَيْكُمْ، {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى} أي فقد شقي، وَقَوْلُهُ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أَيْ كُلُّ مَنْ تَابَ إليَّ تُبْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ، حَتَّى إِنَّهُ تعاب تعالى عَلَى مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وقوله تعالى: {تَابَ} أَيْ رَجَعَ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ كفر أو شرك أو معصية أو نفاق، قوله: {وَآمَنَ} أَيْ بِقَلْبِهِ، {وَعَمِلَ صَالِحَاً} أَيْ بِجَوَارِحِهِ، وقوله: {ثُمَّ اهتدى} عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ ثُمَّ لَمْ يُشَكِّكْ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ {ثُمَّ اهْتَدَى}: أَيِ اسْتَقَامَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ (وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ)، وَقَالَ قَتَادَةُ {ثُمَّ اهْتَدَى}: أَيْ لَزِمَ الْإِسْلَامَ حَتَّى يموت، و «ثم» ههنا لِتَرْتِيبِ الْخَبَرِ عَلَى الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمنوا وعملوا الصالحات}.

- 83 - وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى - 84 - قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى - 85 - قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ - 86 - فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي - 87 - قَالُوا مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ - 88 - فَأَخْرَجَ

لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ - 89 - أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا لَمَّا سَارَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون، وواعد ربه ثلاثين ليلة ثم أتبعها عشراً فتمت أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، أَيْ يَصُومُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ بَيَانُ ذَلِكَ، فَسَارَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبَادِرًا إِلَى الطُّورِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَاهُ هَارُونَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي} أَيْ قَادِمُونَ يَنْزِلُونَ قَرِيبًا مِنَ الطُّورِ، {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} أَيْ لِتَزْدَادَ عَنِّي رِضًا، {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}، أَخْبَرَ تَعَالَى نَبَيَّهُ مُوسَى بِمَا كَانَ بَعْدَهُ مِنَ الْحَدَثِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعِبَادَتِهِمُ الْعَجَلَ الذي عمله لهم ذلك السامري، وَقَوْلُهُ: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} أي رجع بَعْدَ مَا أَخْبَرَهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي غَايَةِ الغضب والحنق عليهم، وَالْأَسَفُ: شِدَّةُ الْغَضَبِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {غَضْبَانَ أَسِفاً}، أي جزعاً، وقال قتادة والسدي: أسفاً حَزِينًا عَلَى مَا صَنَعَ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ، {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} أَيْ أَمَا وَعَدَكُمْ عَلَى لِسَانِي كُلَّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَحُسْنَ الْعَاقِبَةِ كَمَا شَاهَدْتُمْ مِنْ نُصْرَتِهُ إِيَّاكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ وَإِظْهَارِكُمْ عليه، وغير ذلك من أيادي الله، {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} أَيْ فِي انْتِظَارِ مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ وَنِسْيَانِ مَا سَلَفَ مِنْ نِعَمِهِ {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ} «أم» ههنا بمعنى بل، هي لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَعُدُولٌ إِلَى الثَّانِي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: بَلْ أَرَدْتُمْ بِصَنِيعِكُمْ هَذَا أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي، قَالُوا - أَيْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فِي جَوَابِ مَا أَنَّبَهُمْ مُوسَى وَقَرَّعَهُمْ - {مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} أَيْ عَنْ قُدْرَتِنَا وَاخْتِيَارِنَا، ثُمَّ شَرَعُوا يَعْتَذِرُونَ بِالْعُذْرِ الْبَارِدِ، يُخْبِرُونَهُ عَنْ تَوَرُّعِهِمْ عَمَّا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ حُلِيِّ الْقِبْطِ الَّذِي كَانُوا قَدِ اسْتَعَارُوهُ مِنْهُمْ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ، {فَقَذَفْنَاهَا} أي ألقيناها عنا، ودعا السامري أَنْ يَكُونَ عِجْلًا، فَكَانَ عِجْلًا {لَّهُ خُوَارٌ} أَيْ صَوْتٌ، اسْتِدْرَاجًا وَإِمْهَالًا وَمِحْنَةً وَاخْتِبَارًا وَلِهَذَا قال: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ}. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ هَارُونَ مَرَّ بِالسَّامِرِيِّ وَهُوَ يَنْحِتُ الْعِجْلَ، فَقَالَ لَهُ: مَا تَصْنَعُ؟ فَقَالَ: أَصْنَعُ مَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، فَقَالَ هارون: اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه، ومضى هارون وقال السَّامِرِيُّ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ يَخُورَ، فَخَارَ، فَكَانَ إِذَا خَارَ سَجَدُوا لَهُ، وَإِذَا خَارَ رفعوا رؤوسهم، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ يَخُورُ وَيَمْشِي، فَقَالُوا: أَيِ الضُلاّل مِنْهُمُ الَّذِينَ افْتُتِنُوا بِالْعِجْلِ وَعَبَدُوهُ {هَذَا إلهكم وإله موسى فنسي} أي نسيه ههنا وذهب يتطلبه، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ {فَنَسِيَ} أَيْ نَسِيَ أَنْ يُذَكِّرَكُمْ أن هذا إلهكم، فَعَكَفُوا عَلَيْهِ وَأَحَبُّوهُ حُبًّا لَمْ يُحِبُّوا شَيْئًا قط، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَقْرِيعًا لَهُمْ وبياناً لفضحيتهم وَسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضراً ولا نفعا} أي العجل، فلا يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يُجِيبُهُمْ إِذَا سَأَلُوهُ، وَلَا إِذَا خَاطَبُوهُ، وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نفعا، أي في ديناهم ولا في أخراهم، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ خُوَارُهُ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ الرِّيحُ فِي دُبُرِهِ فيخرج من فمه فيسمع له صوت، وَحَاصِلُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ أَنَّهُمْ تَوَرَّعُوا عَنْ زِينَةِ الْقِبْطِ فَأَلْقَوْهَا عَنْهُمْ، وَعَبَدُوا الْعِجْلَ فَتَوَرَّعُوا عَنِ الْحَقِيرِ وَفَعَلُوا الْأَمْرَ الْكَبِيرَ، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر، أنه

سَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ، يَعْنِي هَلْ يُصَلِّي فِيهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما: انْظُرُوا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ! قَتَلُوا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعني الحسين، وهم يسألون عن دم البعوضة.

- 90 - وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي - 91 - قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا كَانَ مِنْ نَهْيِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لهم عن عبادتهم الْعِجْلِ، وَإِخْبَارِهِ إِيَّاهُمْ إِنَّمَا هَذَا فِتْنَةٌ لَكُمْ، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا. ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ الْفَعَّالُ لِمَا يريد، {فاتبعوني وأطيعوا أَمْرِي}: أَيْ فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ وَاتْرُكُوا مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ، {قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى}: أَيْ لَا نَتْرُكَ عِبَادَتَهُ حَتَّى نَسْمَعَ كَلَامَ مُوسَى فِيهِ وَخَالَفُوا هَارُونَ فِي ذَلِكَ، وَحَارَبُوهُ وَكَادُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ.

- 92 - قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا - 93 - أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي - 94 - قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي يخبر تعالى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَرَأَى مَا قَدْ حَدَثَ فِيهِمْ مِنَ الأمر العظيم، فامتلأ عند ذلك غضباً، وَأَلْقَى مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنَ الْأَلْوَاحِ الإلهية، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يجره إليه، فَقَالَ: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ} أَيْ فَتُخْبِرَنِي بِهَذَا الْأَمْرِ أَوَّلَ مَا وقع {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}: أي فيما كنت قدمت إِلَيْكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين}، قال {يا ابن أم} ترقق لَهُ بِذِكْرِ الْأُمِّ مَعَ أَنَّهُ شَقِيقُهُ لِأَبَوَيْهِ، لأن ذكر الأم ههنا أرق وأبلغ فِي الْحُنُوِّ وَالْعَطْفِ، وَلِهَذَا قَالَ: {يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} الآية. هَذَا اعْتِذَارٌ مِنْ هَارُونَ عِنْدَ مُوسَى فِي سَبَبِ تَأَخُّرِهِ عَنْهُ، حَيْثُ لَمْ يَلْحَقْهُ فَيُخْبِرْهُ بِمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْخَطْبِ الْجَسِيمِ، قَالَ: {إِنِّي خَشِيتُ} أَن أَتْبَعَكَ فَأُخْبِرَكَ بِهَذَا، فَتَقُولَ لي لما تَرَكْتَهُمْ وَحْدَهُمْ وَفَرَّقْتَ بَيْنَهُمْ، {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}: أَيْ وَمَا رَاعَيْتَ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ، حَيْثُ اسْتَخْلَفْتُكَ فِيهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ هَارُونُ هائباً مطيعاً له.

- 95 - قال فما خطبك يا سامري - 96 - قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي - 97 - قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً - 98 - إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً يَقُولُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلسَّامِرِيِّ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ وَمَا الَّذِي عَرَضَ لَكَ حتى فعلت ما فعلت؟

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ السَّامِرِيُّ رَجُلًا من أهل باجر، وَكَانَ مَنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ وَكَانَ حُبُّ عِبَادَةِ الْبَقَرِ فِي نَفْسِهِ، وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ الإسلام مع بني إسرائيل، وكان اسمه (مُوسَى بْنُ ظُفَرٍ)، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ مِنْ كَرْمَانَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كان من قرية سَامَرَّا، {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ}: أَيْ رَأَيْتُ جِبْرِيلَ حِينَ جَاءَ لِهَلَاكِ فِرْعَوْنَ {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} أَيْ مِنْ أثر فرسه، هذا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، أَوْ أكثرهم، وقال مجاهد: مِنْ تَحْتِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ، قَالَ وَالْقَبْضَةُ مِلْءُ الْكَفِّ، وَالْقَبْضَةُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: نبذ السامري، أي ألقى ما فِي يَدِهِ عَلَى حِلْيَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَانْسَبَكَ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، حَفِيفُ الرِّيحِ فِيهِ خواره. وقال ابن أبي حاتم، عن عِكْرِمَةُ: أَنَّ السَّامِرِيَّ رَأَى الرَّسُولَ فَأُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ أَنَّكَ إِنْ أَخَذْتَ مِنْ أَثَرِ هَذَا الْفَرَسِ قَبْضَةً فَأَلْقَيْتَهَا فِي شَيْءٍ فَقُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ، فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَيَبِسَتْ أَصَابِعُهُ عَلَى الْقَبْضَةِ، فَلَمَّا ذَهَبَ مُوسَى للميقات، وكان بنو إسرائيل قد اسْتَعَارُوا حُلِيَّ آلِ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ: أن مَآ أَصَابَكُمْ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحُلِيِّ، فَاجْمَعُوهُ فَجَمَعُوهُ، فَأَوْقَدُوا عَلَيْهِ فَذَابَ، فَرَآهُ السَّامِرِيُّ، فَأُلْقِيَ فِي رُوعِهِ: أَنَّكَ لَوْ قَذَفْتَ هَذِهِ الْقَبْضَةَ فِي هذه، فقلت كن فكان، فقذف القبضة وقال: كن فكان عجلاً جسدا لَهُ خُوَارٌ، فَقَالَ: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}، وَلِهَذَا قَالَ {فَنَبَذْتُهَا} أَيْ أَلْقَيْتُهَا مَعَ مَنْ أَلْقَى، {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}: أَيْ حَسَّنَتْهُ وَأَعْجَبَهَا إِذْ ذَاكَ {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ}: أَيْ كما أحذت ومسست ما لم يكن لك أَخْذُهُ وَمَسُّهُ مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، فَعُقُوبَتُكَ فِي الدُّنْيَا أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ، أَيْ لَا تَمَاسُّ النَّاسَ وَلَا يَمَسُّونَكَ، {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لَّن تُخْلَفَهُ} أَيْ لَا مَحِيدَ لَكَ عَنْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ {أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ} قَالَ: عُقُوبَةٌ لَهُمْ، وَبَقَايَاهُمُ الْيَوْمَ يَقُولُونَ لَا مِسَاسَ وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ} قال الحسن: لَنْ تَغِيبَ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} أَيْ مَعْبُودِكَ {الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} أَيْ أَقَمْتَ عَلَى عِبَادَتِهِ يَعْنِي الْعِجْلَ، {لَّنُحَرِّقَنَّهُ} قَالَ السدي: سَحَلَهُ بِالْمَبَارِدِ وَأَلْقَاهُ عَلَى النَّارِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَحَالَ الْعِجْلُ مِنَ الذَّهَبِ لَحْمًا وَدَمًا، فَحَرَقَهُ بالنار، ثم ألقى رَمَادَهُ فِي الْبَحْرِ، وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً}. وقوله تعالى: {إِنَّمَآ إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} يَقُولُ لَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَيْسَ هَذَا إِلَهَكُمْ إِنَّمَا إلهكم الله الذي لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ عَلَى الْعِبَادِ إِلَّا هُوَ، وَلَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، فَإِنَّ كُلَّ شيء فقير إليه عبد له، وقوله: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، أَحَاطَ بِكُلِّ شيء علماً وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عدداً، فلا يغرب عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مبين} وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.

- 99 - كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَدُنَّا ذِكْرًا - 100 - مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً - 101 - خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ خَبَرَ مُوسَى، وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ عَلَى الْجَلِيَّةِ وَالْأَمْرِ الْوَاقِعِ، كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ الْأَخْبَارَ الْمَاضِيَةَ كَمَا وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، هذا {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِّن لَّدُنَّآ} أي من عِنْدِنَا {ذِكْراً} وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الذِي لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ

حكيم حميد، الذي لم يعط نبي من الأنبياء كِتَابًا مِثْلَهُ، وَلَا أَكْمَلَ مِنْهُ وَلَا أَجْمَعَ لِخَبَرِ مَا سَبَقَ وَخَبَرِ مَا هُوَ كَائِنٌ منه، وقوله تَعَالَى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} أَيْ كَذَّبَ بِهِ وَأَعْرَضَ عَنِ اتِّبَاعِهِ أَمْرًا وَطَلَبًا، وَابْتَغَى الْهُدَى من غَيْرِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ، وَلِهَذَا قَالَ: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} أَيْ إِثْمًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ، كَمَا قال: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بلغ}، فَكُلُّ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَهُوَ نَذِيرٌ لَهُ، وَدَاعٍ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ هُدِيَ، وَمَنْ خَالَفَهُ وَأَعْرَضَ عنه ضل وشقي في الدينا، وَالنَّارُ مَوْعِدُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ} أَيْ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ وَلَا انْفِكَاكَ، {وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} أَيْ بِئْسَ الْحِمْلُ حِمْلُهُمْ.

- 102 - يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقًا - 103 - يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا - 104 - نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الصُّورِ فَقَالَ: «قَرْنٌ يُنْفَخُ فيه». وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ وَانْتَظَرَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَقُولُ؟ قَالَ: «قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا»، وَقَوْلُهُ: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً}، قِيلَ مَعْنَاهُ زُرْقُ الْعُيُونِ، مِنْ شِدَّةِ ما هو فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ، {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَسَارُّونَ بَيْنَهُمْ، أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} أَيْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، لَقَدْ كَانَ لُبْثُكُمْ فِيهَا قَلِيلًا عَشَرَةُ أَيْامٍ أَوْ نَحْوُهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ}: أَيْ فِي حَالِ تَنَاجِيهِمْ بَيْنَهُمْ، {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً}: أَيِ الْعَاقِلُ الْكَامِلُ فِيهِمْ {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً}: أَيْ لِقِصَرِ مُدَّةِ الدُّنْيَا فِي أَنْفُسِهِمْ يَوْمَ الْمَعَادِ، لِأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا وَإِنْ تَكَرَّرَتْ أَوْقَاتُهَا وَتَعَاقَبَتْ لياليها وأيامها وساعاتها كأنها يوم واحد، وكان غرضهم دَرْءَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِقِصَرِ الْمُدَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لبثوا غير ساعة}، وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسأل العادين} ولو كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَآثَرْتُمُ الْبَاقِيَ عَلَى الْفَانِي وَلَكِنْ تصرفتم فأسأتم التصرف.

- 105 - وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً - 106 - فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً - 107 - لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتًا - 108 - يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا يَقُولُ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} أَيْ هَلْ تَبْقَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ تَزُولُ؟ {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} أَيْ يُذْهِبُهَا عَنْ أَمَاكِنِهَا ويمحقها ويسيرها تسييراً (أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قالت قريش: يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة، فنزلت الآية) {فَيَذَرُهَا} أَيِ الْأَرْضَ {قَاعًا صَفْصَفًا} أَيْ بِسَاطًا واحداً، والقاع

هُوَ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ، وَالصَّفْصَفُ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى ذَلِكَ، وَقِيلَ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ مُرَادًا أَيْضًا بِاللَّازِمِ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً} لَا تَرَى فِي الْأَرْضِ يومئذٍ وَادِيًا وَلَا رابية ولا مكاناً منخفضاً ولا مرتفعاً، كذا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ}: أَيْ يَوْمَ يَرَوْنَ هَذِهِ الأحوال، يَسْتَجِيبُونَ مُسَارِعِينَ إِلَى الدَّاعِي حَيْثُمَا أُمِرُوا بَادَرُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الدُّنْيَا لَكَانَ أَنْفَعَ لَهُمْ، وَلَكِنْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا}، وقال: {مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع} وقال محمد الْقُرَظِيُّ: يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظُلْمَةٍ، وَتُطْوَى السَّمَاءُ وَتَتَنَاثَرُ النُّجُومُ وَتَذْهَبُ الشَّمْسُ والقمر، وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ له} (قال السهيلي: الداعي: هو إسرافيل عليه السلام، وهو المنادي المذكور في سورة (ق) في قوله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ})، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا عِوَجَ لَهُ لَا يَمِيلُونَ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: لَا عِوَجَ لَهُ لا عوج عنه، {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَكَنَتْ، وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ، {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يعني وطء الأقدام. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وقال سعيد بن جبير: الْحَدِيثَ وَسِرَّهُ، وَوَطْءَ الْأَقْدَامِ، فَقَدْ جَمَعَ سَعِيدٌ كلا القولين، وهومحتمل، أَمَّا وَطْءُ الْأَقْدَامِ فَالْمُرَادُ سَعْيُ النَّاسِ إِلَى الْمَحْشَرِ وَهُوَ مَشْيُهُمْ فِي سُكُونٍ وَخُضُوعٍ، وَأَمَّا الْكَلَامُ الْخَفِيُّ فَقَدْ يَكُونُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ يكلم نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}.

- 109 - يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا - 110 - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا - 111 - وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً - 112 - وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْمًا يَقُولُ تَعَالَى {يَوْمَئِذٍ}: أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ} أَيْ عِنْدَهُ {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً}، كَقَوْلِهِ: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}. وقوله: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}، وَقَالَ: {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ: "آتِي تَحْتَ الْعَرْشِ وَأَخِرُّ لِلَّهِ سَاجِدًا، وَيَفْتَحُ عليَّ بِمَحَامِدَ لَا أُحْصِيهَا الْآنَ، فيدعني ما شاء أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ واشفَع تُشَفَّعْ، قَالَ: فَيَحِدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ"، فَذَكَرَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَوْلُهُ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أَيْ يُحِيطُ عِلْمًا بِالْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} كَقَوْلِهِ: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شاء}، وَقَوْلُهُ: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: خَضَعَتْ وَذَلَّتْ وَاسْتَسْلَمَتِ الْخَلَائِقُ لِجَبَّارِهَا الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، الْقَيُّومُ الَّذِي لَا يَنَامُ، وَهُوَ قَيِّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، يُدَبِّرُهُ وَيَحْفَظُهُ، فَهُوَ الْكَامِلُ فِي نَفْسِهِ، الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ لَا قِوَامَ لَهُ إِلَّا بِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً}: أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي كُلَّ حَقٍّ إِلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يَقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ

مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ: "يَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا يُجَاوِزُنِي الْيَوْمَ ظُلْمُ ظَالِمٍ". وَقَوْلُهُ: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} لَمَّا ذَكَرَ الظَّالِمِينَ وَوَعِيدَهُمْ ثَّنى بِالْمُتَّقِينَ وَحُكْمِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَلَا يُهْضَمُونَ أَيْ لَا يُزَادُ فِي سَيِّئَاتِهِمْ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ، قَالَهُ ابن عباس ومجاهد وَغَيْرُ وَاحِدٍ، فَالظُّلْمُ الزِّيَادَةُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ ذَنْبُ غَيْرِهِ، وَالْهَضْمُ: النَّقْصُ.

- 113 - وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا - 114 - فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي علما يقول تعالى: ولما كان يوم المعاد والجزاء وَاقِعًا لَا مَحَالَةَ أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بلسان عربي مبين {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أَيْ يَتْرُكُونَ الْمَآثِمَ وَالْمَحَارِمَ وَالْفَوَاحِشَ {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} وَهُوَ إِيجَادُ الطَّاعَةِ وَفِعْلُ الْقُرُبَاتِ، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أَيْ تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ الْمَلِكُ الحق، الذي وعده حق ووعيده حق، وعدله تعالى أن لا يعذب أحداً قبل الإنذار وبعثه الرسل لِئَلَّا يَبْقَى لِأَحَدٍ حُجَّةٌ وَلَا شُبْهَةٌ، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}، كقوله تَعَالَى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم كان يُعَالِجُ مِنَ الْوَحْيِ شِدَّةً، فَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ به لِسَانَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يَعْنِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ، كُلَّمَا قَالَ جِبْرِيلُ آيَةً قَالَهَا مَعَهُ، مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ فَأَرْشَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَا هُوَ الْأَسْهَلُ وَالْأَخَفُّ فِي حَقِّهِ لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أَيْ أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ ثُمَّ تَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أَيْ بَلْ أَنْصِتْ، فَإِذَا فَرَغَ الْمَلَكُ مِنْ قِرَاءَتِهِ عَلَيْكَ فَاقْرَأْهُ بَعْدَهُ، {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} أَيْ زِدْنِي مِنْكَ عِلْمًا، وَلَمْ يَزَلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زيادة حتى توفاه الله عزَّ وجلَّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي وَزِدْنِي عِلْمًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حال» (الحديث أخرجه ابن ماجه والترمذي والبزار عن أبي هريرة وزاد البزار فِي آخِرِهِ: وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النار).

- 115 - وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا - 116 - وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى - 117 - فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى - 118 - إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى - 119 - وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى - 120 - فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى - 121 - فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى - 122 - ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانَ لأنه عهد إليه فنسي (أخرجه ابن أبي حاتم)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: تَرَكَ. وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لأَدَمََ} يَذْكُرُ تَعَالَى تَشْرِيفَ آدَمَ وَتَكْرِيمَهُ وَمَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خلق تفضيلاً، {فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى} أَيِ امْتَنَعَ وَاسْتَكْبَرَ، {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ} يَعْنِي حَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} أي إياك أن تسعى فِي إِخْرَاجِكَ مِنْهَا، فَتَتْعَبَ وَتُعَنَّى وَتَشْقَى فِي طلب رزقك، فإنك ههنا في عيش رغيد هنيء بلا كُلْفَةَ وَلَا مَشَقَّةَ، {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى} إِنَّمَا قَرَنَ بَيْنَ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ لِأَنَّ الْجُوعَ ذُلُّ الْبَاطِنِ وَالْعُرْيَ ذُلُّ الظَّاهِرِ، {وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى} وهذا أَيْضًا مُتَقَابِلَانِ، فَالظَّمَأُ حَرُّ الْبَاطِنِ وَهُوَ الْعَطَشُ، وَالضُّحَى حَرُّ الظَّاهِرِ. وَقَوْلُهُ: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى} قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ دلاَّهما بغرور {وقاسمها إني لكما من الناصحين}، وقد تقدم أن الله تعالى عهد إلى آدم وزوجه أَنَّ يَأْكُلَا مِنْ كُلِّ الثِّمَارِ وَلَا يَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمْ يَزَلْ بهما إبليس حتى أكلا منها. وقوله: {فَأَكَلاَ مِنْهَا فبدت لهما سوآتهما}، روي إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ رَجُلًا طِوَالًا كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ، فَلَمَّا ذَاقَ الشَّجَرَةَ سَقَطَ عَنْهُ لِبَاسُهُ، فَأَوَّلُ مَا بَدَا مِنْهُ عَوْرَتُهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ جَعَلَ يشتد في الجنة، فَنَادَاهُ الرَّحْمَنُ: يَا آدَمُ مِنِّي تَفِرُّ؟ فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الرَّحْمَنِ قَالَ: يَا رَبِّ لَا وَلَكِنِ اسْتِحْيَاءً، أَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ وَرَجَعْتُ أَعَائِدِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} (رواه ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب مرفوعاً، قال ابن كثير: وهو منقطع وفي رفعه نظر). وقوله تعالى: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ}، قَالَ مجاهد: يرقعان كهيئة الثوب، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَنْزِعَانِ وَرَقَ التِّينِ فَيَجْعَلَانِهِ عَلَى سَوْآتِهِمَا، وَقَوْلُهُ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى}، روى البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حاجَّ مُوسَى آدَمَ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي أَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنَ الْجَنَّةِ بِذَنْبِكَ وَأَشْقَيْتَهُمْ؟ قَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ؟ أَتَلُومُنِي عَلَى أمر كَتَبَهُ اللَّهُ عليَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي، أَوْ قَدَّرَهُ اللَّهُ عليَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَجَّ آدم موسى"، وفي رواية لابن أبي حاتم: "احتج آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ رَبِّهِمَا، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. قَالَ مُوسَى: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ فِي جَنَّتِهِ، ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ إِلَى الْأَرْضِ بِخَطِيئَتِكَ! قَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلَامِهِ، وَأَعْطَاكَ الْأَلْوَاحَ فِيهَا تبيان كل شيء، وقربك نجياً، فكم وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا، قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فحجَّ آدم موسى" (الحديث له طرق في الصحيحين والمسانيد، وهذه الرواية لابن أبي حاتم عن أبي هريرة).

- 123 - قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ

وَلاَ يَشْقَى - 124 - وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى - 125 - قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتِنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا - 126 - قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى يَقُولُ تَعَالَى لِآدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً: أَيْ مِنَ الْجَنَّةِ كُلُّكُمْ {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَإِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَقَوْلُهُ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَالْبَيَانُ، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَضِلُّ فِي الدينا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} أَيْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَا أَنْزَلْتُهُ عَلَى رَسُولِي، أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَنَاسَاهُ وَأَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ هداه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} أي ضنكاً فِي الدُّنْيَا فَلَا طُمَأْنِينَةَ لَهُ وَلَا انْشِرَاحَ لِصَدْرِهِ، بَلْ صَدْرُهُ ضَيِّقٌ حَرَجٌ لِضَلَالِهِ وَإِنْ تَنَعَّمَ ظَاهِرُهُ، وَلَبِسَ مَا شَاءَ وَأَكَلَ مَا شَاءَ وَسَكَنَ حَيْثُ شَاءَ، فَإِنَّ قَلْبَهُ مَا لَمْ يَخْلُصْ إِلَى الْيَقِينِ وَالْهُدَى فَهُوَ فِي قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ربية يتردد، فهذا من ضنك المعيشة. قال ابْنِ عَبَّاسٍ {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} قَالَ: الشقاء. وعنه: إِنْ قَوْمًا ضُلَّالًا أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ، وَكَانُوا فِي سَعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا مُتَكَبِّرِينَ، فَكَانَتْ مَعِيشَتُهُمْ ضنكاً، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ يُكَذِّبُ بِاللَّهِ وَيُسِيءُ الظَّنَّ به والثقة به اشتدت عليه معشيته فذلك الضنك. وقال الضحاك: هو العمل السيء والرزق الخبيث. وروى سفيان عن عيينة، عَنِ أَبِي سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ {مَعِيشَةً ضَنكاً} قَالَ: يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ فيه. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ في روضة خضراء ويفسح لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ قَبْرُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَتَدْرُونَ فِيمَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً}؟ أَتَدْرُونَ مَا الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «عَذَابُ الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا، أَتَدْرُونَ مَا التِّنِّينُ؟ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ حَيَّةً، لِكُلِّ حَيَّةٍ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ يَنْفُخُونَ فِي جِسْمِهِ وَيَلْسَعُونَهُ ويخدشونه إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (الحديث رواه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعاً وفي رفعه نظر، قال ابن كثير: رفعه منكر جداً). وروى البزار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} قَالَ: «الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ الذي قال الله أَنَّهُ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ حَيَّةً يَنْهَشُونَ لحمة حتى تقوم الساعة». وَقَوْلُهُ: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: لَا حُجَّةَ لَهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عُمِّيَ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا جَهَنَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون المراد أن يبعث أو يحشر إِلَى النَّارِ أَعْمَى الْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ أَيْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جهنم} الآية، وَلِهَذَا يَقُولُ: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتِنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً}؟ أي في الدينا {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} أَيْ لَمَّا أَعْرَضْتَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وتناسيتها وأعرضت عنها، كذلك اليوم نعاملك مُعَامَلَةَ مَنْ يَنْسَاكَ، {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَأَمَّا نِسْيَانُ لَفْظِ الْقُرْآنِ مَعَ فَهْمِ مَعْنَاهُ وَالْقِيَامِ بِمُقْتَضَاهُ، فَلَيْسَ دَاخِلًا فِي هَذَا الْوَعِيدِ الْخَاصِّ، وَإِنْ كان متوعداً عليه من جهة أخرى، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «مَا مِنْ رَجُلٍ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَنَسِيَهُ إِلَّا لَقِيَ الله يوم يلقاه وهو أجذم» (الحديث أخرجه الإمام أحمد عن سعد بن عبادة).

- 127 - وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى يَقُولُ تَعَالَى: وَهَكَذَا نُجَازِي الْمُسْرِفِينَ، الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ}، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} أَيْ أَشَدُّ أَلَمًا مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَأَدْوَمُ عَلَيْهِمْ فَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتَلَاعِنِينَ: «إِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ».

- 128 - أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى - 129 - وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى - 130 - فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى يَقُولُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَهْدِ} لهؤلاء المكذبين بمل جِئْتَهُمْ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، كَمْ أَهْلَكْنَا مِن الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ قَبْلَهُمْ، فَبَادُوا فَلَيْسَ لَهُمْ بَاقِيَةٌ وَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ، كَمَا يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ مِنْ دِيَارِهِمُ الْخَالِيَةِ، الَّتِي خَلَّفُوهُمْ فِيهَا يَمْشُونَ فِيهَا، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} أَيِ الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَلْبَابِ الْمُسْتَقِيمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}، وقال: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} الآية؛ ثم قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} أَيْ لَوْلَا الْكَلِمَةُ السَّابِقَةُ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَالْأَجَلُ المسمى الذي ضر به اللَّهُ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ بَغْتَةً، وَلِهَذَا قَالَ لِنَبِيِّهِ مُسَلِّيًا لَهُ: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أَيْ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ لَكَ، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} يَعْنِي صلاة العصر، كما جاء في الصحيحين: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقبل غروبها» (رواه مسلم وأخرجه الإمام أحمد). وفي الحديث الصحيح: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفَيْ سَنَةٍ، يَنْظُرُ إِلَى أَقْصَاهُ كَمَا يَنْظُرُ إِلَى أَدْنَاهُ، وَإِنَّ أَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى الله تعالى في اليوم مرتين» (الحديث أخرجه الإمام أحمد ورواه أصحاب السنن عن عبد الله بن عمر). وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ آنَآءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ}: أَيْ مِنْ ساعته فَتَهَجَّدْ بِهِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ، {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} فِي مُقَابَلَةِ آنَاءِ اللَّيْلِ {لَعَلَّكَ تَرْضَى}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى}. وفي الصحيح: "يقول الله تعالى: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا".

- 131 - وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى - 132 - وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم فيه من النعيم، فَإِنَّمَا هُوَ زَهْرَةٌ زَائِلَةٌ وَنِعْمَةٌ حَائِلَةٌ لِنَخْتَبِرَهُمْ بِذَلِكَ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ}: يعني الأغنياء، فقد آتاك خيراً مما آتاهم. ولهذا قال: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى} (أخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه، عن أبي رافع قَالَ: أَضَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضيفاً، فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقاً إلى هلال رجب، فقال: لَا، إِلَّا بِرَهْنٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأمين في السماء أمين في الأرض فلم أخرج من عنده حتى نزلت الآية: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عينيك ... } كما في اللباب}. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ المَشْرُبة الَّتِي كَانَ قَدِ اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن، فَرَآهُ مُتَوَسِّدًا مُضْطَجِعًا عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ، وَلَيْسَ في البيت إلاّ صُبْرة من قَرَظ (صبرة: مجموعة، قرظ: ورق السّلَم، وهو شجر شائك يستعمل ورقه في دبغ الجلود) واهية معلقة، فابتدرت عينا عمر بالبكاء، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما يبكيك يا عمر؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خلقه! فقال: «أو في شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا»، فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْهَدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا إِذَا حَصَلَتْ لَهُ يُنْفِقُهَا هَكَذَا وَهَكَذَا فِي عِبَادِ اللَّهِ، وَلَمْ يَدَّخِرْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا لِغَدٍ. عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَّا يَفْتَحِ الله لكم مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا»، قَالُوا: وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا يا رسول الله؟ قال: «بركات الأرض» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً). وقال قتادة والسدي {زَهْرَةَ الحياة}: يَعْنِي زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: وَقَالَ قَتَادَةُ {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لِنَبْتَلِيَهُمْ، وَقَوْلُهُ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} أَيِ اسْتَنْقِذْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِإِقَامِ الصلاة واصبر أَنْتَ عَلَى فِعْلِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً}. وَقَوْلُهُ: {لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} يَعْنِي إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ أَتَاكَ الرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يحتسب}، وَلِهَذَا قَالَ {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ}، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا: أَيْ لَا نكلفك الطلب. وقال ابن أبي حاتم، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَهُ خَصَاصَةٌ نَادَى أَهْلَهُ يَا أَهْلَاهُ صَلُّوا، صَلُّوا. قَالَ ثَابِتٌ: وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ أَمْرٌ فَزِعُوا إِلَى الصلاة. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ» (الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة). وعن زيد بن ثابت قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وهي راغمة»، وقوله {والعاقبة

لِلتَّقْوَى}: أَيْ وَحُسْنُ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهِيَ الْجَنَّةُ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ: «رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ كَأَنَّا فِي دَارِ (عُقْبَةَ بن نافع) وَأَنَّا أُتِينَا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابَ، فأوَّلت ذَلِكَ أَنَّ الْعَاقِبَةَ لَنَا فِي الدُّنْيَا وَالرِّفْعَةَ وَأَنَّ دِينَنَا قَدْ طَابَ».

- 133 - وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى - 134 - وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى - 135 - قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ {لَوْلاَ} أَيْ هَلَّا يَأْتِيَنَا مُحَمَّدٌ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ؟ أَيْ بِعَلَامَةٍ دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ فِي أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} يَعْنِي الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ اللَّهُ وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَلَمْ يُدَارِسْ أهل الكتاب، وهذه الآية كقوله تعالى: {أو لم يَكْفِهِمْ إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مَثَلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ الله تعالى إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القيامة» (أخرجه البخاري ومسلم)، وإنما ذكر ههنا أَعْظَمَ الْآيَاتِ الَّتِي أُعْطِيَهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ القرآن، وإلاّ فله مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا لَا يُحدُّ وَلَا يُحْصَرُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} أَيْ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَا هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَ أَنْ نُرْسِلَ إِلَيْهِمْ هَذَا الرَّسُولَ الْكَرِيمَ وَنُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْكِتَابَ الْعَظِيمَ لَكَانُوا قَالُوا {رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} قَبْلَ أَنْ تُهْلِكَنَا حَتَّى نُؤْمِنَ بِهِ وَنَتَّبِعَهُ، كَمَا قَالَ: {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى}، يبيّن تعالىأن هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ مُتَعَنِّتُونَ مُعَانِدُونَ لاَ يُؤْمِنُونَ {وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يرواالعذاب الأليم}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وَقَالَ: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بها} الآيتين؛ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ}: أَيْ يَا مُحَمَّدُ لِمَنْ كَذَّبَكَ وَخَالَفَكَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَعِنَادِهِ {كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ} أَيْ مِنَّا وَمِنْكُمْ، {فَتَرَبَّصُواْ}: أَيْ فَانْتَظِرُوا، {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ}: أَيِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، {وَمَنِ اهْتَدَى} إِلَى الْحَقِّ وَسَبِيلِ الرَّشَادِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً}، وقال: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر}.

21 - سورة الأنبياء

- 21 - سورة الأنبياء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ - 2 - مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ - 3 - لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ - 4 - قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - 5 - بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ - 6 - مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ هَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَلَى اقْتِرَابِ السَّاعَةِ وَدُنُوِّهَا، وَأَنَّ النَّاسَ فِي غَفْلَةٍ عَنْهَا، أَيْ لَا يَعْمَلُونَ لَهَا وَلَا يَسْتَعِدُّونَ مِنْ أجلها، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} قال: «في الدنيا» (الحديث أخرجه النسائي عن أبي سعيد الخدري). وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}. وقال أبو العتاهية: الناس في غفلاتهم * ورحا المنية تطحن وروي عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ رجل من العرب، فأكرم مَثْوَاهُ وَكَلَّمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: إِنِّي اسْتَقْطَعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادِيًا فِي الْعَرَبِ، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَقْطَعَ لَكَ مِنْهُ قِطْعَةً تَكُونُ لَكَ وَلِعَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ، فَقَالَ عَامِرٌ: لَا حَاجَةَ لِي فِي قَطِيعَتِكَ نَزَلَتِ الْيَوْمَ سُورَةٌ أَذْهَلَتْنَا عَنِ الدُّنْيَا: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ}؛ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُصْغُونَ إِلَى الْوَحْيِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، والخطابُ مَعَ قُرَيْشٍ وَمَنْ شَابَهَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ فَقَالَ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِنْ رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} أَيْ جَدِيدٌ إِنْزَالُهُ {إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَمَّا بِأَيْدِيهِمْ وَقَدْ حرَّفوه وَبَدَّلُوهُ وَزَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا مِنْهُ، وَكِتَابُكُمْ أَحْدَثُ الْكُتُبِ بالله تقرأونه محضاً لم يُشب (أخرجه البخاري بنحوه، ومعنى لم يُشَب: أي لم يخلط بغيره من الأباطيل والأضاليل). وَقَوْلُهُ: {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أَيْ

قَائِلِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ خُفْيَةً {هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} يَعْنُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَبْعِدُونَ كَوْنَهُ نَبِيًّا لِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ فَكَيْفَ اخْتُصَّ بِالْوَحْيِ دُونَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} أَيْ أَفَتَتْبَعُونَهُ فَتَكُونُونَ كمن يأتي السِّحْرَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سِحْرٌ، فَقَالَ تَعَالَى مجيباً لهم عما اقترفوه وَاخْتَلَقُوهُ مِنَ الْكَذِبِ {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}: أَيِ الَّذِي يَعْلَمُ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى خَبَرِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ إِلَّا الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيِ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِكُمْ الْعَلِيمُ بأحوالكم، وفي هذا تهديد لكم وَوَعِيدٌ، وَقَوْلُهُ: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ}، هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ تَعَنُّتِ الْكُفَّارِ وَإِلْحَادِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِيمَا يَصِفُونَ بِهِ الْقُرْآنَ وَحَيْرَتِهِمْ فِيهِ وَضَلَالِهِمْ عَنْهُ؛ فَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ سِحْرًا، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ شِعْرًا، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ أَضْغَاثَ أَحْلَامٍ، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ مُفْتَرًى، كَمَا قَالَ: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً}، وَقَوْلُهُ: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} يَعْنُونَ كناقة صَالِحٍ وَآيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} الآية. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} (أخرج ابن جرير عن قتادة قال، قال أهل مكة للنبي عليه السلام: إن كان ما تقول حقاً ويسرك أن نؤمن، فحول لنا الصفا ذهباً، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم ينظروا، وإن شئت استأنيت بقومك. فنزلت الآية: {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}) أي ما آتينا قرية من القرى التي بعث فيها الرسل آية على أيدي نَبِيِّهَا فَآمَنُوا بِهَا بَلْ كَذَّبُوا فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذَلِكَ أَفَهَؤُلَاءِ يُؤْمِنُونَ بِالْآيَاتِ لَوْ رَأَوْهَا دُونَ أُولَئِكَ؟ كَلَّا، بَلْ {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ العذاب الأليم} هَذَا كُلُّهُ، وَقَدْ شَاهَدُوا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَاتِ، وَالدَّلَائِلِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا هُوَ أَظْهَرُ وَأَجْلَى وَأَبْهَرُ وَأَقْطَعُ وَأَقْهَرُ مِمَّا شُوهِدَ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليهم أجمعين.

- 7 - وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ - 8 - وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ - 9 - ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ يَقُولُ تَعَالَى رَادًّا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ بِعْثَةَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} أَيْ جَمِيعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا كَانُوا رِجَالًا مِنَ الْبَشَرِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى}، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ}. وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَمَّنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ لأنهم أنكروا ذلك فقالوا: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا}، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ}، أَيِ اسْأَلُوا أَهْلَ الْعِلْمِ مِنَ الْأُمَمِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ الطَّوَائِفِ، هَلْ كَانَ الرُّسُلُ الَّذِينَ أَتَوْهُمْ بَشَرًا أَوْ مَلَائِكَةً؟ وَقَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} أَيْ بَلْ قَدْ كَانُوا أَجْسَادًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسواق}: أي

قَدْ كَانُوا بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ، يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ مثل الناس، ويدخلون في الْأَسْوَاقَ لِلتَّكَسُّبِ وَالتِّجَارَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِضَارٍّ لَهُمْ وَلَا نَاقِصٍ مِنْهُمْ شَيْئًا كَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُشْرِكُونَ في قولهم: {مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نذيراً}. وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ} أَيْ فِي الدُّنْيَا، بَلْ كَانُوا يَعِيشُونَ ثُمَّ يَمُوتُونَ {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد} وَخَاصَّتُهُمْ أَنَّهُمْ يُوحَى إِلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ تَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ عَنِ اللَّهِ بِمَا يحكمه فِي خَلْقِهِ مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} أَيِ الَّذِي وَعَدَهُمْ ربهم ليهلكن الظالمين، صدقهم الله وعده وفعل ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ} أَيْ أَتْبَاعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ}: أَيِ الْمُكَذِّبِينَ بما جاءت به الرسل.

- 10 - لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ - 11 - وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ - 12 - فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ - 13 - لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوا إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ - 14 - قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ - 15 - فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى شَرَفِ الْقُرْآنِ وَمُحَرِّضًا لَهُمْ عَلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَرَفُكُمْ، وقال مجاهد: حديثكم، وقال الحسن: دينكم {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}: أي هذه النعمة وتتلقونها بالقبول، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تسألون}، وَقَوْلُهُ: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} هَذِهِ صِيغَةُ تَكْثِيرٍ، كَمَا قَالَ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن القرون مِن بَعْدِ نوح}، وقال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا ... } الآية، وَقَوْلُهُ: {وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} أَيْ أُمَّةً أُخْرَى بَعْدَهُمْ، {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} أَيْ تَيَقَّنُوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كَمَا وَعَدَهُمْ نَبِيُّهُمْ {إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ} أَيْ يَفِرُّونَ هَارِبِينَ، {لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ} هَذَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ نزراً، أي قيل لهم نزراً لَا تَرْكُضُوا هَارِبِينَ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ وَارْجِعُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ والمعيشة والمساكن الطيبة، قال قتاادة: اسْتِهْزَاءٌ بِهِمْ {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ}: أَيْ عَمَّا كُنْتُمْ فيه من أداء شكر النعم. {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ}: أَيْ مَا زَالَتْ تِلْكَ الْمَقَالَةُ وَهِيَ الِاعْتِرَافُ بِالظُّلْمِ هِجَّيَراهم (دأبهم وعادتهم وشأنهم) حَتَّى حَصَدْنَاهُمْ حَصْدًا، وَخَمَدَتْ حَرَكَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ خُمُودًا.

- 16 - وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ - 17 - لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ - 18 - بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ - 19 - وَلَهُ مَن فِي

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ - 20 - يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَيْ بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بالحسنى، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ ذَلِكَ عَبَثًا وَلَا لَعِبًا، كَمَا قَالَ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذي كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِين}، قَالَ مجاهد: يَعْنِي مِنْ عِنْدِنَا، يَقُولُ: وَمَا خَلَقْنَا جَنَّةً وَلَا نَارًا وَلَا مَوْتًا وَلَا بَعْثًا وَلَا حساباً. وقال الحسن وقتادة {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً} اللَّهْوُ: الْمَرْأَةُ بلسان أهل اليمن، وقال إبراهيم النخعي {لاَّتَّخَذْنَاهُ} مِنَ الْحُورِ الْعِينِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: والمراد باللهو ههنا الولد، وهذا الذي قَبْلَهُ مُتَلَازِمَانِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الواحد القهار} فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقاً ولا سِيَّمَا عَمَّا يَقُولُونَ مِنَ الْإِفْكِ وَالْبَاطِلِ مِنَ اتخاذ عيسى أو الملائكة {سُبْحَانَ الله وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كبيراً}، وَقَوْلُهُ: {إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أَيْ مَا كُنَّا فَاعِلِينَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ «إنْ» فَهُوَ إِنْكَارٌ. وَقَوْلُهُ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} أَيْ نُبَيِّنُ الْحَقَّ فَيَدْحَضُ الْبَاطِلَ وَلِهَذَا قَالَ: {فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أَيْ ذَاهِبٌ مُضْمَحِلٌّ، {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} أَيْ أَيْهَا الْقَائِلُونَ لِلَّهِ وَلَدٌ {مِمَّا تَصِفُونَ} أَيْ تَقُولُونَ وَتَفْتَرُونَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ عُبُودِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَدَأْبِهِمْ فِي طَاعَتِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَقَالَ: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ}: أَيْ لَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْهَا كَمَا قَالَ: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون}، وقوله: {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} أي لا يتبعون وَلَا يَمَلُّونَ، {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} فَهُمْ دَائِبُونَ فِي الْعَمَلِ لَيْلًا وَنَهَارًا مُطِيعُونَ قَصْدًا وَعَمَلًا، قَادِرُونَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يأمرون}. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَأَنَا غُلَامٌ، فَقُلْتُ لَهُ: أرأيتِ قول الله تعالى لِلْمَلَائِكَةِ: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} أَمَا يَشْغَلُهُمْ عَنِ التَّسْبِيحِ الْكَلَامُ وَالرِّسَالَةُ وَالْعَمَلُ؟ فَقَالَ: من هَذَا الْغُلَامُ؟ فَقَالُوا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قال: فقبّل رأسي ثم قال: يَا بُنَيَّ إِنَّهُ جَعَلَ لَهُمُ التَّسْبِيحَ كَمَا جَعَلَ لَكُمُ النَّفَسَ، أَلَيْسَ تَتَكَلَّمُ وَأَنْتَ تَتَنَفَّسُ وَتَمْشِي وَأَنْتَ تَتَنَفَّسُ؟.

- 21 - أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ - 22 - لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ - 23 - لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ يُنْكِرُ تَعَالَى عَلَى مَنِ اتَّخَذَ مِن دُونِهِ آلِهَةً فَقَالَ {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} أي يُحْيُونَ الْمَوْتَى وَيَنْشُرُونَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ؟ أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ جَعَلُوهَا لِلَّهِ نِدًّا وَعَبَدُوهَا مَعَهُ؟ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْوُجُودِ آلِهَةٌ غَيْرُهُ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض، فقال {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله} أي في السماوات

وَالْأَرْضِ {لَفَسَدَتَا}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}، وقال ههنا: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} أَيْ عما يقولون أن له ولدا وشريكاً. وَقَوْلُهُ: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أَيْ هُوَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ أَحَدٌ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وعدله {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أَيْ وَهُوَ سَائِلٌ خَلْقَهُ عَمَّا يَعْمَلُونَ، كَقَوْلِهِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

- 24 - أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ - 25 - وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون يقول تعالى: {أَمْ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ} يَا مُحَمَّدُ {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} أَيْ دَلِيلَكُمْ عَلَى مَا تَقُولُونَ، {هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ} يَعْنِي الْقُرْآنَ، {وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} يَعْنِي الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى خِلَافِ ما تقولونه وَتَزْعُمُونَ، فَكُلُّ كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أُرْسِلَ، نَاطِقٌ بِأَنَّهُ {لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وَلَكِنْ أَنْتُمْ أَيْهَا الْمُشْرِكُونَ لَا تَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ}، كَمَا قَالَ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}؟ فَكُلُّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْفِطْرَةُ شَاهِدَةٌ بذلك أيضاً، والمشركون لا برهان لهم، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ.

- 26 - وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ - 27 - لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ - 28 - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ - 29 - وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ يقول تعالى راداً على من زعم أن له وَلَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ فَقَالَ: {سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} أَيِ الْمَلَائِكَةُ عِبَادُ اللَّهِ مُكْرَمُونَ عِنْدَهُ، فِي مَنَازِلَ عَالِيَةٍ وَمَقَامَاتٍ سَامِيَةٍ، وَهُمْ لَهُ فِي غَايَةِ الطَّاعَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا، {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أَيْ لَا يَتَقَدَّمُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَمْرٍ وَلَا يُخَالِفُونَهُ فيما أمرهم بِهِ بَلْ يُبَادِرُونَ إِلَى فِعْلِهِ، وَهُوَ تَعَالَى عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِهِمْ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}، كَقَوْلِهِ: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي مَعْنَى ذَلِكَ {وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ} أَيْ مِنْ خَوْفِهِ وَرَهْبَتِهِ {مُشْفِقُونَ * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ} أي ادَّعَى مِنْهُمْ أَنَّهُ إِلَهٌ مَنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ مَعَ اللَّهِ، {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أَيْ كُلُّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَهَذَا شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَلْزَمُ وُقُوعُهُ كَقَوْلِهِ: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن ولداً فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين}.

- 30 - أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ - 31 - وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ - 32 - وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ - 33 - وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، فِي خَلْقِهِ الْأَشْيَاءَ وَقَهْرِهِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فَقَالَ: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيِ الجاهدون لِإِلَهِيَّتِهِ الْعَابِدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ الْمُسْتَبِدُّ بِالتَّدْبِيرِ، فَكَيْفَ يليق أن يعبد معه غيره أو يشرك به ما سواه؟ ألو يَرَوْا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ {كَانَتَا رَتْقًا} أَيْ كَانَ الْجَمِيعُ مُتَّصِلًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مُتَلَاصِقٌ مُتَرَاكِمٌ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، فَفَتَقَ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ فَجَعَلَ السَّمَاوَاتِ سَبْعًا وَالْأَرْضَ سبعً، وفصل بين السماء الدُّنْيَا وَالْأَرْضِ بِالْهَوَاءِ، فَأَمْطَرَتِ السَّمَاءُ وَأَنْبَتَتِ الْأَرْضُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} أَيْ وَهُمْ يُشَاهِدُونَ الْمَخْلُوقَاتِ تحدث شيئاً فشيئاً عياناً، وذلك كله دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الْقَادِرِ على ما يشاء: وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةً * تَدُلُّ عَلَى أنه واحد عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ، سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّيْلُ كان قبل أو النهار؟ فقال: أرأيتم السماوت الأرض حِينَ كَانَتَا رَتْقًا هَلْ كَانَ بَيْنَهُمَا إِلَّا ظُلْمَةٌ؟ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّيْلَ قَبْلَ النَّهَارِ. وروى ابن أبي حاتم، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ يَسْأَلُهُ عن السماوات والأرض كانت رقتاً فَفَتَقْنَاهُمَا؟ قَالَ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْخِ، فَاسْأَلْهُ، ثُمَّ تَعَالَ فَأَخْبِرْنِي بِمَا قَالَ لَكَ، قَالَ، فَذَهَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ، كَانَتِ السَّمَاوَاتُ رَتْقًا لَا تُمْطِرُ وَكَانَتْ الْأَرْضُ رَتْقًا لَا تُنْبِتُ، فَلَمَّا خَلَقَ لِلْأَرْضِ أَهْلًا فَتَقَ هَذِهِ بِالْمَطَرِ وَفَتْقَ هَذِهِ بِالنَّبَاتِ، فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فقال ابْنُ عُمَرَ، قَدْ كُنْتُ أَقُولُ: مَا يُعْجِبُنِي جراءة ابن عباس في تفسير القرآن فالآن عَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ أُوتِيَ فِي الْقُرْآنِ عِلْمًا، وقال عطية العوفي: كانت هذه رتقاً تُمْطِرُ فَأَمْطَرَتْ وَكَانَتْ هَذِهِ رَتْقًا لَا تُنْبِتُ فأنبتت، وقال سعيد بن جبير: كَانَتِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ مُلْتَزِقَتَيْنِ فَلَمَّا رَفَعَ السَّمَاءَ وَأَبْرَزَ مِنْهَا الْأَرْضَ كَانَ ذَلِكَ فَتْقَهُمَا الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: كَانَتَا جَمِيعًا فَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الْهَوَاءِ، وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أَيْ أصل كل الأحياء. عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي وَقَرَّتْ عَيْنِي، فَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِن مَّآءٍ» قَالَ، قُلْتُ: أَنْبِئْنِي عَنِ أمرٍ إِذَا عَمِلْتُ بِهِ دَخَلَتُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: «أَفْشِ السَّلَامَ، وَأَطْعِمِ الطَّعَامَ، وَصِلِ الْأَرْحَامَ، وَقُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، ثُمَّ ادْخُلِ الْجَنَّةَ بسلام» (الحديث أخرجه الإمام أحمد وإسناده على شرط الصحيحين، وأخرج ابن أبي حاتم بعضه). وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} أَيْ جِبَالًا أَرْسَى الأرض بها وَثَقَّلَهَا لِئَلَّا تَمِيدَ بِالنَّاسِ أَيْ تَضْطَرِبَ

وتتحرك فلا يحصل لهم قرار عليها لِأَنَّهَا غَامِرَةٌ فِي الْمَاءِ إِلَّا مِقْدَارَ الرُّبْعِ، فَإِنَّهُ بَادٍ لِلْهَوَاءِ وَالشَّمْسِ لِيُشَاهِدَ أَهْلُهَا السَّمَاءَ وَمَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ وَالْحِكَمِ وَالدَّلَالَاتِ، ولهذا قال: {أَن تَمِيدَ بِهِمْ}: وَقَوْلُهُ {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً} أَيْ ثَغْرًا فِي الْجِبَالِ يَسْلُكُونَ فِيهَا طُرُقًا، من قطر إلى قطر ومن إقليم إِلَى إِقْلِيمٍ، كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي الْأَرْضِ يَكُونُ الْجَبَلُ حَائِلًا بَيْنَ هَذِهِ الْبِلَادِ وَهَذِهِ الْبِلَادِ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ فِيهِ فَجْوَةً ثَغْرَةً لِيَسْلُكَ الناس فيها من ههنا إلى ههنا، وَلِهَذَا قَالَ: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}، وَقَوْلُهُ {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً}: أَيْ عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ كَالْقُبَّةِ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}، وقال: {أفلم ينظرون إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فروج}، وَالْبِنَاءُ هُوَ نَصْبُ الْقُبَّةِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ على خمس» أي خمسة دَعَائِمَ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْخِيَامِ كما تَعْهَدُهُ الْعَرَبُ، {مَّحْفُوظاً} أَيْ عَالِيًا مَحْرُوسًا أَنْ ينال، وقال مجاهد مرفوعاً، وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} كَقَوْلِهِ: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ في السموات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} أَيْ لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا من الاتساع العظيم والاتفاع الْبَاهِرِ، وَمَا زُيِّنَتْ بِهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ والسيارات في ليلها ونهارها، مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ الَّتِي تَقْطَعُ الْفَلَكَ بِكَمَالِهِ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَتَسِيرُ غَايَةً لَا يَعْلَمُ قدرها إلاّ الله، الذي قدّرها وسخّرها وسيّرها، ثُمَّ قَالَ مُنَبِّهًا عَلَى بَعْضِ آيَاتِهِ {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أَيْ هَذَا فِي ظَلَامِهِ وَسُكُونِهِ، وَهَذَا بِضِيَائِهِ وَأُنْسِهِ، يَطُولُ هَذَا تَارَةً ثُمَّ يَقْصُرُ أُخْرَى وَعَكْسُهُ الْآخَرُ، {وَالشَّمْسَ والقمر} هذه لها نور يخصها وحركة وسير خاص، وهذا بنور آخَرَ وَفَلَكٍ آخَرَ وَسَيْرٍ آخَرَ وَتَقْدِيرٍ آخَرَ، {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أَيْ يَدُورُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَدُورُونَ كَمَا يدرو المغزل في الفلكة، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَا يَدُورُ الْمِغْزَلُ إِلَّا بِالْفَلْكَةِ وَلَا الْفَلْكَةُ إِلَّا بِالْمِغْزَلِ، كَذَلِكَ النُّجُومُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا يَدُورُونَ إِلَّا بِهِ وَلَا يَدُورُ إِلَّا بِهِنَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ العليم}.

- 34 - وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ - 35 - كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَآ جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ} أَيْ يا محمد {الخلد} أي في الدنيا (أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: نعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فقال: «يا رب، فمن لأمتي»، فنزلت: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ} الآية) بَلْ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام}، وَقَوْلُهُ: {أَفَإِنْ مِّتَّ} أَيْ يَا مُحَمَّدُ {فَهُمُ الْخَالِدُونَ}؟ أَيْ يُؤَمِّلُونَ أَنْ يَعِيشُوا بَعْدَكَ! لَا يكون هذا بل كلٍّ إلى الفناء، ولهذا قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَنْشَدَ وَاسْتَشْهَدَ بِهَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ: تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ * فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلَافَ الَّذِي مَضَى * تهيأْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا فكأن قد وقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} أَيْ نَخْتَبِرُكُمْ بِالْمَصَائِبِ تارة، وبالنعم أخرى، فننظر من يشكر

ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَنَبْلُوكُمْ} يَقُولُ: نَبْتَلِيكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالصِّحَّةِ والسَّقَم، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَقَوْلُهُ: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أَيْ فَنُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ.

- 36 - وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ - 37 - خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَأَبِي جَهْلٍ وَأَشْبَاهِهِ {إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِكَ، وينتقصونك؟؟؟ (أخرج ابن أبي حاتم: عن السدي قَالَ: مرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبي جهل وأبي سفيان وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك، وقال: ما أراك منتهياً حتى يصيبك مَآ أَصَابَ مِن غيَّر عهده، فنزلت: {وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا} الآية)، يَقُولُونَ {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ}؟ يَعْنُونُ أَهَذَا الَّذِي يَسُبُّ آلِهَتَكُمْ وَيُسَفِّهُ أَحْلَامَكُمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} أَيْ وَهُمْ كَافِرُونَ بِاللَّهِ وَمَعَ هَذَا يَسْتَهْزِئُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يتخذوك إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}؟ وقوله: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} كقوله: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} أي في الأمور، والحكمة في ذكر عجلة الإنسان ههنا، أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَقَعَ فِي النُّفُوسِ سُرْعَةُ الِانْتِقَامِ منهم واستعجلت ذلك، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} لِأَنَّهُ تَعَالَى يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، يُؤَجِّلُ ثُمَّ يُعَجِّلُ، وَيُنْظِرُ ثُمَّ لا يؤخر، ولهذا قال: {سأريكم آيَاتِي} أَيْ نَقْمِي وَحُكْمِي وَاقْتِدَارِي عَلَى مَنْ عَصَانِي {فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ}.

- 38 - وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 39 - لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ - 40 - بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ أَيْضًا بِوُقُوعِ الْعَذَابِ بهم، تكذبياً وجحوداً وكفراً وعناداً فَقَالَ: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ} أَيْ لَوْ تَيَقَّنُوا أَنَّهَا واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ حِينَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ}، فَالْعَذَابُ مُحِيطٌ بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} أَيْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ، كَمَا قَالَ: {وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}، وَقَوْلُهُ: {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً} أَيْ تَأْتِيهِمُ النَّارُ بَغْتَةً أَيْ فَجْأَةً، {فَتَبْهَتُهُمْ}

أَيْ تَذْعَرُهُمْ فَيَسْتَسْلِمُونَ لَهَا، حَائِرِينَ لَا يَدْرُونَ مَا يَصْنَعُونَ {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ حِيلَةٌ فِي ذَلِكَ، {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أَيْ وَلَا يُؤَخَّرُ عَنْهُمْ ذَلِكَ سَاعَةً وَاحِدَةً.

- 41 - وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ - 42 - قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ - 43 - أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ يَقُولُ تَعَالَى مسلياً لرسوله عَمَّا آذَاهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يَعْنِي مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وأوذوا حاى أتاهم نصرنا} ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى نِعْمَتَهُ عَلَى عَبِيدِهِ فِي حِفْظِهِ لَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَكِلَاءَتِهِ وَحِرَاسَتِهِ لَهُمْ بِعَيْنِهِ الَّتِي لَا تَنَامُ، فَقَالَ: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} أَيْ بَدَلَ الرحمن يعني غيره، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ} أي لا يعترفون بنعمة الله عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، بَلْ يُعْرِضُونَ عَنِ آيَاتِهِ وَآلَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا} استفهام وَتَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ، أَيْ أَلَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ وَتَكْلَؤُهُمْ غيرنا؟ ليس الأمر كما توهموا، لا، وَلَا كَمَا زَعَمُوا، وَلِهَذَا قَالَ: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} أَيْ هَذِهِ الْآلِهَةُ الَّتِي اسْتَنَدُوا إِلَيْهَا غَيْرَ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ، وقوله: {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} قال ابن عباس: أَيْ يُجَارُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يُصْحَبُونَ مِنَ الله بخير، وقال غيره {يُصْحَبُونَ} يُمنعون.

- 44 - بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ - 45 - قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ - 46 - وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ - 47 - وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا غَرَّهُمْ وَحَمَلَهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ: أَنَّهُمْ مُتِّعُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَنُعِّمُوا، وَطَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فِيمَا هُمْ فِيهِ، فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ؛ ثُمَّ قَالَ وَاعِظًا لَهُمْ: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ، وَقَدْ أَسْلَفْنَاهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ، وَأَحْسَنُ مَا فُسِّرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي بِذَلِكَ ظُهُورَ الْإِسْلَامِ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْمَعْنَى: أَفَلَا يَعْتَبِرُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ لِأَوْلِيَائِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ؟ وَإِهْلَاكِهِ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ وَالْقُرَى الظَّالِمَةَ وَإِنْجَائِهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَلِهَذَا قَالَ: {أَفَهُمُ الغالبون} يعني بل هم المغلبون الْأَخْسَرُونَ الْأَرْذَلُونَ، وَقَوْلُهُ: {قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ} أَيْ إِنَّمَا أَنَا مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ مَا أُنْذِرُكُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، لَيْسَ ذَلِكَ

إِلَّا عَمَّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إليَّ وَلَكِنْ لَا يُجْدِي هَذَا عَمَّنْ أَعْمَى اللَّهُ بَصِيرَتَهُ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ}، وَقَوْلُهُ: {وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}، أَيْ وَلَئِنْ مسَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، لَيَعْتَرِفُنَّ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} أَيْ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْعَدْلَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا جُمِعَ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْأَعْمَالِ الْمَوْزُونَةِ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: {فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}، كَمَا قَالَ تعالى: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}، وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}، وَقَالَ لُقْمَانُ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السموات أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ الله لَطِيفٌ خبير}. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقليتان فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وبحمده سبحان الله العظيم» (الحديث أخرجه الشيخان وختم البخاري رحمه الله صحيحه بهذا الحديث الشريف)، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَسْتَخْلِصُ رَجُلًا مِنْ أمتي على رؤوس الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مَدُّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ، قَالَ: أفلك عذر أو حسنة؟ قال: فبهت الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَاحِدَةً لَا ظُلْمَ عليك اليوم، فَيُخْرِجُ لَهُ بِطَاقَةً فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، فَيَقُولُ: أَحْضِرُوهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، قَالَ: فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ، قال: ولا يثقل شيء مع بسم الله الرحمن الرحيم" (الحديث أخرجه الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ)، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يَكْذِبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، وَأَضْرِبُهُمْ وَأَشْتُمُهُمْ فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا لَا لَكَ وَلَا عليك، وإن كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلًا لك، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ اقْتُصَّ لهم منك الفضل الذي بقي قِبَلَكَ»، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَبْكِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَهْتِفُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما له لا يَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ فِرَاقِ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي عَبِيدَهُ - إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ (أخرجه الإمام أحمد في المسند).

- 48 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ - 49 - الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ - 50 - وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ

قَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كثيراً ما يقرن بيم ذِكْرِ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا وَبَيْنَ كِتَابَيْهِمَا وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ}، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْكِتَابَ، وَقَالَ قتادة: التوراة حلالهما وحرامهما وَمَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي النَّصْرَ، وَجَامِعُ الْقَوْلِ فِي ذلك أن الكتب السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل، والهدى والظلال، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَعَلَى مَا يُحَصِّلُ نُورًا فِي الْقُلُوبِ، وَهِدَايَةً وَخَوْفًا، وَإِنَابَةً وَخَشْيَةً، وَلِهَذَا قَالَ: {الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ} أَيْ تدبيراً لَهُمْ وَعِظَةً، ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ}، كَقَوْلِهِ: {مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ}، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}، {وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} أَيْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} يَعْنِي الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الذِي لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أَيْ أَفَتُنْكِرُونَهُ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْجَلَاءِ وَالظُّهُورِ؟.

- 51 - وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ - 52 - إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ - 53 - قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ - 54 - قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ - 55 - قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ - 56 - قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ آتَاهُ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ، أَيْ مِنْ صِغَرِهِ أَلْهَمَهُ الْحَقَّ وَالْحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ}، والمقصود أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ آتَى إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أَيْ وَكَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} هَذَا هُوَ الرُّشْدُ الَّذِي أُوتِيهِ مِنْ صِغَرِهِ الْإِنْكَارُ عَلَى قَوْمِهِ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ دُونِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فَقَالَ {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}: أَيْ مُعْتَكِفُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: مرَّ علي رضي الله عنه على قوم يلعبون الشطرنج، فَقَالَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟ لَأَنْ يَمَسَّ أَحَدُكُمْ جَمْرًا حَتَّى يُطْفَأَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّهَا، {قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ سِوَى صَنِيعِ آبَائِهِمُ الضُّلَّالِ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أَيِ الْكَلَامُ مَعَ آبَائِكُمُ الَّذِينَ احْتَجَجْتُمْ بِصَنِيعِهِمْ كَالْكَلَامِ مَعَكُمْ، فَأَنْتُمْ وَهُمْ فِي ضَلَالٍ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَلَمَّا سَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ وَضَلَّلَ آبَاءَهُمْ وَاحْتَقَرَ آلِهَتَهُمْ {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ}؟ يَقُولُونَ: هَذَا الْكَلَامُ الصَّادِرُ عَنْكَ تَقُولُهُ لَاعِبًا أَوْ مُحِقًّا فِيهِ فَإِنَّا لَمْ نَسْمَعْ بِهِ قَبْلَكَ، {قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فطَرَهُنَّ} أَيْ رَبُّكُمْ الَّذِي لا إله غيره وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا حَوَتْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، الَّذِي ابْتَدَأَ خَلْقَهُنَّ وَهُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ {وَأَنَاْ عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أَيْ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رب سواه

- 57 - وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ - 58 - فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ

- 59 - قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ - 60 - قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ - 61 - قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ - 62 - قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ - 63 - قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يَنْطِقُونَ ثُمَّ أَقْسَمَ الْخَلِيلُ قَسَمًا أَسْمَعَهُ بَعْضَ قَوْمِهِ لَيَكِيدَنَّ أَصْنَامَهُمْ، أَيْ ليحرضن عَلَى أَذَاهُمْ وَتَكْسِيرِهِمْ بَعْدَ أَنْ يُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أَيْ إِلَى عِيدِهِمْ، وَكَانَ لَهُمْ عِيدٌ يَخْرُجُونَ إِلَيْهِ، قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا اقْتَرَبَ وَقْتُ ذَلِكَ الْعِيدِ قَالَ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ لَوْ خَرَجْتَ مَعَنَا إِلَى عِيدِنَا لَأَعْجَبَكَ دِينُنَا، فَخَرَجَ مَعَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَلْقَى نَفْسَهُ إِلَى الْأَرْضِ وَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ، فَجَعَلُوا يَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَهُوَ صَرِيعٌ فَيَقُولُونَ: مَهْ، فَيَقُولُ: إِنِّي سَقِيمٌ، فَلَمَّا جَازَ عَامَّتُهُمْ وَبَقِيَ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: {تَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}، فسمعه أولئك. وقال ابن إسحاق، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى عِيدِهِمْ مَرُّوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: يَا إِبْرَاهِيمُ أَلَا تَخْرُجُ مَعَنَا؟ قَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ وَقَدْ كَانَ بِالْأَمْسِ قَالَ: {تَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} فَسَمِعَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ، وَقَوْلُهُ: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} أَيْ حُطَامًا كَسَّرَهَا كُلَّهَا {إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ} يَعْنِي إِلَّا الصَّنَمَ الْكَبِيرَ عِنْدَهُمْ، كَمَا قَالَ: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ}، وَقَوْلُهُ: {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} ذَكَرُوا أَنَّهُ وَضَعَ الْقَدُومَ فِي يَدِ كَبِيرِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي غَارَ لِنَفْسِهِ، وَأَنِفَ أَنْ تُعْبَدَ مَعَهُ هَذِهِ الْأَصْنَامُ الصِّغَارُ فَكَسَّرَهَا، {قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَّمِنَ الظَّالِمِينَ}؟ أَيْ حِينَ رَجَعُوا وَشَاهَدُوا مَا فَعَلَهُ الْخَلِيلُ بِأَصْنَامِهِمْ، مِنَ الْإِهَانَةِ وَالْإِذْلَالِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ إِلَهِيَّتِهَا، وَعَلَى سَخَافَةِ عُقُولِ عَابِدِيهَا، {قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} أَيْ فِي صنعيه هَذَا، {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} أَيْ قَالَ مَنْ سَمِعَهُ يَحْلِفُ أَنَّهُ لَيَكِيدَنَّهُمْ {سَمِعْنَا فَتًى} أَيْ شَابًّا يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ له إبراهيم. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا شَابًّا وَلَا أُوتِيَ الْعَلَمَ عَالِمٌ إِلَّا وَهُوَ شَابٌّ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ له إبراهيم} (أخرجه ابن أبي حاتم). وَقَوْلُهُ: {قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} أي على رؤوس الْأَشْهَادِ فِي الْمَلَإِ الْأَكْبَرِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه السلام، إن يبين فِي هَذَا الْمَحْفِلِ الْعَظِيمِ كَثْرَةُ جَهْلِهِمْ وَقِلَّةُ عقلهم، في عبادة الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا ضَرًّا وَلَا تَمْلِكُ لَهَا نَصْرًا، فَكَيْفَ يُطْلَبُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؟ {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} يَعْنِي الَّذِي تَرَكَهُ لَمْ يَكْسِرْهُ، {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ}، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا أَنْ يبادورا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فَيَعْتَرِفُوا أَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ، وأن هَذَا لَا يَصْدُرُ عَنْ هَذَا الصَّنَمِ لِأَنَّهُ جماد. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكْذِبْ غَيْرَ ثَلَاثٍ: ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، قَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}، وَقَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ}. قَالَ: وَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ فِي أَرْضِ جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَمَعَهُ (سَارَةُ) إِذْ نَزَلَ مَنْزِلًا، فَأَتَى الْجَبَّارَ رَجُلٌ فَقَالَ: أنه قد نزل ههنا رجل بأرضك معه امرأة أحسن الناس، فأرسل إليه فجاءه، فقال: ما هذه المرأة منك؟ قال: أُخْتِي، قَالَ: فَاذْهَبْ فَأَرْسِلْ بِهَا إِلَيَّ، فَانْطَلَقَ

إلى سارة فقال: إن هذا الجبار قد سَأَلَنِي عَنْكِ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي عِنْدَهُ، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ، فَانْطَلَقَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَرَآهَا أَهْوَى إِلَيْهَا فَتَنَاوَلَهَا فأُخِذَ أَخْذًا شَدِيدًا، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتْ لَهُ فَأُرْسِلَ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا فَتَنَاوَلَهَا، فَأُخِذَ بِمِثْلِهَا أَوْ أَشَدَّ، فَفَعَلَ ذَلِكَ الثَّالِثَةَ، فَأُخِذَ، فَذَكَرَ مِثْلَ الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ فَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتْ لَهُ فَأُرْسِلَ، ثُمَّ دعا أدنى حجابه فقال: إنك لم تأتيني بإنسان ولكنك أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ أَخْرِجْهَا وَأَعْطِهَا هَاجَرَ، فَأُخْرِجَتْ وَأُعْطِيَتْ هَاجَرَ فَأَقْبَلَتْ، فَلَمَّا أَحَسَّ إِبْرَاهِيمُ بِمَجِيئِهَا انْفَتَلَ من صلاته وقال: مَهْيَم (مَهْيَم: كلمة استفهام معناها: ما الخبر، ماذا حدث لك)، قالت: كفى الله كيد الكافر الفاجر فأخدمني هاجر"، قال محمد بن سيرين: فكان أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: تلك أمكم يا بني ماء السماء (أخرجه الشيخان عن أبي هريرة).

- 64 - فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ - 65 - ثُمَّ نُكِسُواْ على رؤوسهم لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ - 66 - قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ - 67 - أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ قَالَ لَهُمْ مَا قال {فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ} أي بالملامة، فَقَالُوا {إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ}، أَيْ فِي تَرْكِكِمْ لَهَا مُهْمَلَةً لَا حَافِظَ عِنْدَهَا، {ثُمَّ نُكِسُواْ على رؤوسهم} أَيْ ثُمَّ أَطْرَقُوا فِي الْأَرْضِ فَقَالُوا {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ}، قَالَ قَتَادَةُ: أَدْرَكَتِ الْقَوْمَ حَيْرَةُ سُوءٍ فَقَالُوا {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ}، وَقَالَ السُّدِّيُّ {ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رؤوسهم}: أي في الفتنة، وَقَوْلُ قَتَادَةَ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَيْرَةً وَعَجْزًا، وَلِهَذَا قَالُوا لَهُ {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} فَكَيْفَ تَقُولُ لَنَا سَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَنْطِقُ، فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ}؟ أَيْ إذا كانت لا تنطق وهي لا تنفع ولا تضر فَلِمَ تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}؟! أَيْ أَفَلَا تَتَدَبَّرُونَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ الْغَلِيظِ، الَّذِي لَا يُرَوَّجُ إِلَّا عَلَى جَاهِلٍ ظَالِمٍ فَاجِرٍ؟ فَأَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَأَلْزَمَهُمْ بِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ} الآية.

- 68 - قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ - 69 - قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ - 70 - وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ لَمَّا دُحِضَتْ حُجَّتُهُمْ وَبَانَ عَجْزُهُمْ وَظَهَرَ الْحَقُّ وَانْدَفَعَ الْبَاطِلُ، عَدَلُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ جَاهِ مُلْكِهِمْ

فَقَالُوا: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} فَجَمَعُوا حَطَبًا كَثِيرًا جِدًّا، قَالَ السُّدِّيُّ: حَتَّى إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَمْرَضُ فَتَنْذُرُ إِنْ عُوفِيَتْ أَنْ تَحْمِلَ حَطَبًا لِحَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ جَعَلُوهُ في جَوَبة (حفرة من من الأرض) مِنَ الْأَرْضِ وَأَضْرَمُوهَا نَارًا فَكَانَ لَهَا شَرَرٌ عظيم ولهب مرتفع لم توقد نار قط مِثْلُهَا، وَجَعَلُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِفَّةِ الْمَنْجَنِيقِ بِإِشَارَةِ رَجُلٍ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ مِنَ الأكراد، فَلَمَّا أَلْقَوْهُ قَالَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، روى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ {حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ في النار، وقالها محمد عليهما السلام حِينَ قَالُوا: «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوكيل»، وروى الحافظ أبو يعلى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي النَّارِ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ فِي السَّمَاءِ وَاحِدٌ وَأَنَا فِي الْأَرْضِ وَاحِدٌ أَعْبُدُكَ"، وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا جَعَلُوا يُوثِقُونَهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ لَكَ الْحَمْدُ ولك الملك لا شريك لك، وكان عمره إذ ذاك ستة عشرة سنة. وَذَكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّهُ عَرَضَ لَهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ فِي الْهَوَاءِ، فَقَالَ: أَلِكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أما إليك فلا، وأما من الله فلي. ويروى عن ابن عباس قَالَ: لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ جَعَلَ خَازِنُ الْمَطَرِ يَقُولُ: مَتَى أُومَرُ بِالْمَطَرِ فَأَرْسِلُهُ، قَالَ: فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ أَسْرَعَ مِنْ أَمْرِهِ، قَالَ اللَّهُ: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}، قَالَ: لَمْ يَبْقَ نَارٌ فِي الْأَرْضِ إِلَّا طفئت، وقال كعب الأحبار: لم تُحْرِقِ النَّارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ سِوَى وِثَاقِهِ، وَقَالَ ابن عباس: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَالَ: {وَسَلَامًا} لآذى إبراهيم بردها، وقال أبو هريرة: إِنَّ أَحْسَنَ شَيْءٍ قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ لَمَّا رُفِعَ عَنْهُ الطَّبَقُ وَهُوَ فِي النَّارِ وَجَدَهُ يَرْشَحُ جَبِينُهُ قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: نِعْمَ الرَّبُّ ربك يا إبراهيم (رواه أبو زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأخرجه ابن أبي حاتم). وقال قتادة: لم يأت يؤمئذ دَابَّةٌ إِلَّا أَطْفَأَتْ عَنْهُ النَّارَ إِلَّا الوَزَغ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بقتله وسماه فويسقا، وعن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ دَابَّةٌ إِلَّا تُطْفِئُ النَّارَ غَيْرَ الْوَزَغِ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ»، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ (أخرجه ابن أبي حاتم وفي بعض الروايات أن امرأة دخلت على عائشة فوجدت عندها رمحاً فقالت: مَا تَصْنَعِينَ بِهَذَا الرُّمْحِ؟ فَقَالَتْ: نَقْتُلُ بِهِ الأوزاغ، وذكرت الحديث)، وَقَوْلُهُ: {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}، أَيِ الْمَغْلُوبِينَ الْأَسْفَلِينَ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِنَبِيِّ اللَّهِ كَيْدًا، فَكَادَهُمُ اللَّهُ وَنَجَّاهُ مِنَ النَّارِ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ، وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ جَاءَ مَلِكُهُمْ لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ فَطَارَتْ شَرَارَةٌ فَوَقَعَتْ عَلَى إِبْهَامِهِ فَأَحْرَقَتْهُ مِثْلَ الصُّوفَةِ.

- 71 - وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ - 72 - وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ - 73 - وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ - 74 - وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ - 75 - وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّهُ سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ نَارِ قَوْمِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، مُهَاجِرًا إِلَى بلاد الشام

إلى الأرض المقدسة منها، عن أبي كعب قال: هي الشَّامُ، وَمَا مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ إِلَّا يَخْرُجُ من تحت الصخرة، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، فَأَنْجَاهُ اللَّهُ إلى الشام، وكان يقال للشام أعقار دار الهجرة، وما نقص من الأرض يزيد فِي الشَّامِ، وَمَا نَقَصَ مِنَ الشَّامِ زِيدَ فِي فِلَسْطِينَ، وَكَانَ يُقَالُ هِيَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ وَبِهَا يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السلام وبها يهلك المسيح الدجال، وقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} النَّافِلَةُ: وَلَدُ الْوَلَدِ يَعْنِي أَنَّ يَعْقُوبَ وَلَدَ إِسْحَاقَ، كَمَا قَالَ: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}، وقال عبد الرحمن بْنِ أَسْلَمَ: سَأَلَ وَاحِدًا فَقَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي من الصالحين} فَأَعْطَاهُ اللَّهُ إِسْحَاقَ وَزَادَهُ يَعْقُوبَ نَافِلَةً، {وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ} أَيِ الْجَمِيعُ أَهْلُ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} أَيْ يُقْتَدَى بِهِمْ {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أَيْ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، {وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ}: أَيْ فَاعِلِينَ لِمَا يَأْمُرُونَ الناس به، وكان قد آمن إبراهيم عليه السلام وَاتَّبَعَهُ وَهَاجَرَ مَعَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} فَآتَاهُ اللَّهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَأَوْحَى إِلَيْهِ وَجَعَلَهُ نَبِيًّا وَبَعَثَهُ إِلَى (سَدُومَ) وَأَعْمَالِهَا فَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ وَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ كَمَا قَصَّ خَبَرَهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}.

- 76 - وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ - 77 - وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ اسْتِجَابَتِهِ لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ دَعَا عَلَى قَوْمِهِ لَمَّا كَذَّبُوهُ، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مغلوب فانتصر}، وَقَالَ نُوحٌ: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ ديارا}، ولهذا قال ههنا: {إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، كَمَا قَالَ: {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ}، وَقَوْلُهُ: {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أَيْ مِنَ الشِّدَّةِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْأَذَى فَإِنَّهُ لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وكانوا يتصدون لِأَذَاهُ وَيَتَوَاصَوْنَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَوْلُهُ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} أَيْ وَنَجَّيْنَاهُ وَخَلَّصْنَاهُ مُنْتَصِرًا مِنَ الْقَوْمِ {الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}، أَيْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِعَامَّةٍ، وَلَمْ يُبْقِ على وجه الارض منهم أحد كما دَعَا عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ.

- 78 - وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ - 79 - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ - 80 - وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ - 81 - وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ

إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ - 82 - وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ قال ابن عباس: النفش الرعي، وقال قتادة: النفش لا يكون إلا بالليل، والهمل بالنهار، وعن ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} قَالَ: كَرْمٌ قَدْ أَنْبَتَتْ عَنَاقِيدُهُ فَأَفْسَدَتْهُ، قَالَ: فَقَضَى دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: غَيْرُ هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تَدْفَعُ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ، فَيَقُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصب مِنْهَا حَتَّى إِذَا كَانَ الْكَرْمُ كَمَا كَانَ، دَفَعْتَ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِهِ، وَدَفَعْتَ الْغَنَمَ إِلَى صاحبها، فذلك قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سليمان} (أخرجه ابن جرير، وكذا روي عن ابن عباس) وروى ابن أبي حاتم، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: الْحَرْثُ الَّذِي نَفَشَتْ فِيهِ الغنم إنما كان كرماً فَلَمْ تَدَعْ فِيهِ وَرَقَةً وَلَا عُنْقُودًا مِنْ عِنَبٍ إِلَّا أَكَلَتْهُ، فَأَتَوْا دَاوُدَ فَأَعْطَاهُمْ رِقَابَهَا، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: لَا؛ بَلْ تُؤْخَذُ الْغَنَمُ فَيُعْطَاهَا أَهْلُ الْكَرْمِ، فَيَكُونُ لَهُمْ لَبَنُهَا وَنَفْعُهَا، وَيُعْطَى أهل الغنم الكرم فيعمروه ويصلحوه حَتَّى يَعُودَ كَالَّذِي كَانَ لَيْلَةَ نَفَشَتْ فِيهِ الْغَنَمُ، ثُمَّ يُعْطَى أَهْلُ الْغَنَمِ غَنَمَهُمْ وَأَهْلُ الكرم كرمهم. وقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} قَالَ ابن أبي حاتم: أَنَّ (إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ) لَمَّا اسْتَقْضَى أَتَاهُ الحسن فبكى، فقال: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ بَلَغَنِي أَنَّ الْقُضَاةَ: رَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَخَطَأَ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ مَالَ بِهِ الْهَوَى فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ مَنْ نَبَأِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَالْأَنْبِيَاءِ حُكْمًا يَرُدُّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ النَّاسِ عَنْ قَوْلِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَى سُلَيْمَانَ ولم يذم داود، ثم قال الحسن: أَنَّ الله اتخذ على الحكام ثلاثاً: لا يشتروا به ثمناً قليلاً، ولا يتبعوا فيه الهوى ولا يخشوا فِيهِ أَحَدًا ثُمَّ تَلَا: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله}، وقال: {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشوني}، وقال: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وإذا اجتهد فأخطا فله أجر»، وَفِي السُّنَنِ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ وَقَاضِيَانِ فِي النَّارِ: رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ ما رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابنان لهما إذ جَاءَ الذِّئْبُ فَأَخَذَ أَحَدَ الِابْنَيْنِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا، فَدَعَاهُمَا سُلَيْمَانُ، فقال: هاتوا السكين أشقه بينكما، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا لَا تشقه، فقضى به للصغرى" (الحديث أخرجه الإمام أحمد وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وبوَّب له النسائي في كتاب القضاء). وقوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مع داود الجبال يُسَبِّحْنَ والطير} الآية، وذلك لطيب صوته بتلاوة الزبور، وكان

إِذَا تَرَنَّمَ بِهِ تَقِفُ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ فَتُجَاوِبُهُ، وَتَرُدُّ عَلَيْهِ الْجِبَالُ تَأْوِيبًا، وَلِهَذَا لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَتْلُو الْقُرْآنَ مِنَ اللَّيْلِ، وَكَانَ لَهُ صَوْتٌ طَيِّبٌ جَدًا، فَوَقَفَ واستمع لقراءته، وقال: «لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ داود»، وقال: يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحَبَّرْتُه (حسنته وزينته) لك تحبيراً، وَقَوْلُهُ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ} يَعْنِي صَنْعَةَ الدُّرُوعِ، قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا كَانَتِ الدُّرُوعُ قَبْلَهُ صَفَائِحَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا حَلَقًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وألنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي لا توسع الحلقة فتفلق الْمِسْمَارَ وَلَا تُغْلِظِ الْمِسْمَارَ فَتَقُدَّ الْحَلْقَةَ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ} يَعْنِي فِي الْقِتَالِ، {فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} أَيْ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لِمَا أَلْهَمَ بِهِ عَبْدَهُ دَاوُدَ فَعَلَّمَهُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِكُمْ، وَقَوْلُهُ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} أَيْ وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ الْعَاصِفَةَ {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} يَعْنِي أَرْضَ الشَّامِ {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ بِسَاطٌ مِنْ خَشَبٍ يُوضَعُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الْمَمْلَكَةِ وَالْخَيْلِ وَالْجِمَالِ وَالْخِيَامِ وَالْجُنْدِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الرِّيحَ أَنْ تحمله فتدخل تحته ثم تحمله وترفعه وتسير به، وتظله الطير تقيه الْحَرِّ إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ مِنَ الْأَرْضِ، فَيَنْزِلُ وتوضع آلاته وحشمه، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أصاب}، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ يُوضَعُ لِسُلَيْمَانَ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ كُرْسِيٍّ فَيَجْلِسُ مِمَّا يَلِيهِ مُؤْمِنُو الْإِنْسِ، ثُمَّ يَجْلِسُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُؤْمِنُو الْجِنِّ، ثُمَّ يَأْمُرُ الطَّيْرَ فَتُظِلُّهُمْ، ثُمَّ يَأْمُرُ الريح فتحملهم صلى الله عليه وسلم (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ). وَقَوْلُهُ: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ} أَيْ في الماء يستخرجون له اللآلئ والجواهر وَغَيْرَ ذَلِكَ، {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ} أَيْ غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد}، وَقَوْلُهُ: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} أَيْ يَحْرُسُهُ اللَّهُ أَنْ يَنَالَهُ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ بِسُوءٍ، بَلْ كُلٌّ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى الدُّنُوِّ إِلَيْهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، بل هو يحكم فِيهِمْ إِنْ شَاءَ أَطْلَقَ وَإِنْ شَاءَ حَبَسَ مِنْهُمْ مَنْ يَشَاءُ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد}.

- 83 - وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ - 84 - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ يَذْكُرُ تَعَالَى عَنْ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ أَصَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَسَدِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَأَوْلَادٌ كَثِيرَةٌ وَمَنَازِلُ مَرْضِيَّةٌ، فَابْتُلِيَ في ذلك كله وذهب عن آخره. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ مَكَثَ فِي الْبَلَاءِ مُدَّةً طويلة ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ له، كان يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعَلَّمْ وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذَنَبَهُ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّهُ فَيَكْشِفَ مَا بِهِ، فَلَمَّا رَاحَا إِلَيْهِ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ، حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ، فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يذكرا الله إلا في حق (رواه ابن أبي حاتم عن أنَس بن مالك مرفوعاً وفي رفعه نظر، كما قال ابن كثير: رفع هذا غريب جداً)، قال ابن عباس:

ورد عليه ماله عِيَانًا وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أوحى الله إلى أيوب: قد رردت عَلَيْكَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، فَاغْتَسِلْ بِهَذَا الماء، فإن فيه شفاءك، وقرب عن صحابتك قُرْبَانًا وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوْنِي فِيكَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا عَافَى اللَّهُ أَيُّوبَ أَمْطَرَ عليه جراداً من ذهب، فجعل يأخذ منه بِيَدِهِ وَيَجْعَلُهُ فِي ثَوْبِهِ قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ أَمَا تَشْبَعُ؟ قَالَ: يَا رَبِّ ومن يشبع من رحمتك" (أصل هذا الحديث في الصحيحين). وَقَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} قَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: رُدُّوا عَلَيْهِ بأعينهم، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اسْمَ زَوْجَتِهِ (رَحْمَةُ) ويقال (ليا) بنت يعقوب عليه السلام، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ إِنْ أهلك فِي الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ أَتَيْنَاكَ بِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْنَاهُمْ لَكَ فِي الْجَنَّةِ وَعَوَّضْنَاكَ مِثْلَهُمْ، قال: لا بل أتركهم فِي الْجَنَّةِ، فَتُرِكُوا لَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُوِّضَ مثلهم في الدنيا، وَقَوْلُهُ: {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} أَيْ فَعَلْنَا بِهِ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ بِهِ {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} أَيْ وَجَعَلْنَاهُ فِي ذَلِكَ قُدْوَةً لِئَلَّا يَظُنَّ أَهْلُ الْبَلَاءِ أَنَّمَا فَعَلْنَا بِهِمْ ذَلِكَ لِهَوَانِهِمْ عَلَيْنَا، وَلِيَتَأَسَّوْا بِهِ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَقْدُورَاتِ اللَّهِ، وَابْتِلَائِهِ لِعِبَادِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي ذَلِكَ.

- 85 - وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ - 86 - وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين وأما إِسْمَاعِيلُ فَالْمُرَادُ بِهِ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، وكذا إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَمَّا ذُو الْكِفْلِ فَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّهُ مَا قُرِنَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَهُوَ نَبِيٌّ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَكَانَ مَلِكًا عَادِلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا؛ وَتَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قال مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَذَا الْكِفْلِ} قَالَ: رَجُلٌ صالح غير نبي تكفل لبني قَوْمِهِ أَنْ يَكْفِيَهُ أَمْرَ قَوْمِهِ، وَيُقِيمَهُمْ لَهُ، وَيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَسُمِّيَ ذَا الكفل. وقال ابن أبي حاتم، عن كِنَانَةَ بْنِ الْأَخْنَسِ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَشْعَرِيَّ وَهُوَ يَقُولُ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ: مَا كَانَ ذُو الْكِفْلِ بِنَبِيٍّ وَلَكِنْ كَانَ - يَعْنِي فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ - رَجُلٌ صَالِحٌ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ، فَتَكَفَّلَ لَهُ ذُو الْكِفْلِ مِنْ بَعْدِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ فَسُمِّيَ ذا الكفل (أخرجه ابن أبي حاتم).

- 87 - وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ - 88 - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ هذه القصة مذكورة ههنا وفي الصَّافَّاتِ وَفِي سُورَةِ ن، وَذَلِكَ أَنَّ (يُونُسَ بْنَ مَتَّى) عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أهل نِينَوَى، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَدَعَاهُمْ إلى الله تعالى، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، وَتَمَادَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ، فَخَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ مُغَاضِبًا لَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَلَمَّا تَحَقَّقُوا مِنْهُ ذَلِكَ وَعَلِمُوا أَنَّ النَّبِيَّ لَا يَكْذِبُ، خَرَجُوا إِلَى الصَّحْرَاءِ بِأَطْفَالِهِمْ وأنعامهم ومواشيهم، ثُمَّ تَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَأَرُوا إليه فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}.

وَأَمَّا يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ ذَهَبَ فَرَكِبَ مَعَ قَوْمٍ فِي سَفِينَةٍ، فَلَجَّجَتْ بِهِمْ، وَخَافُوا أَنْ يَغْرَقُوا، فَاقْتَرَعُوا عَلَى رَجُلٍ يُلْقُونَهُ مِنْ بينهم يتخففون منه، فوقععت الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ، فَأَبَوْا أَنْ يُلْقُوهُ، ثُمَّ أعادوها فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَأَبَوْا، ثُمَّ أَعَادُوهَا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين}، فَقَامَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ، ثُمَّ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، وَقَدْ أَرْسَلَ الله سبحانه حُوتًا يَشُقُّ الْبِحَارَ، حَتَّى جَاءَ فَالْتَقَمَ (يُونُسَ) حِينَ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ السَّفِينَةِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلى ذلك الحوت أن لا تَأْكُلَ لَهُ لَحْمًا وَلَا تُهَشِّمَ لَهُ عَظْمًا، فَإِنَّ يُونُسَ لَيْسَ لَكَ رِزْقًا، وَإِنَّمَا بَطْنُكَ تكون له سِجْنًا، وَقَوْلُهُ: {وَذَا النُّونِ} يَعْنِي الْحُوتَ صَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ، وَقَوْلُهُ: {إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} قَالَ الضَّحَّاكُ لِقَوْمِهِ: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أي نضيّق (هذا التفسير مروي عن ابن عباس ومجاهد وَغَيْرِهِمْ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله} أي ضيّق عليه في الرزق) عليه في بطن الحوت، وقال عطية العوفي: أي نقضي عليه، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: قَدَرَ وَقَدَّرَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قدر}: أَيْ قُدِّرَ، وَقَوْلُهُ: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ، وَظُلْمَةُ البحر، وظلمة الليل، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَهَبَ بِهِ الْحُوتُ فِي الْبِحَارِ يَشُقُّهَا حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى قَرَارِ الْبَحْرِ، فَسَمِعَ يُونُسُ تَسْبِيحَ الْحَصَى فِي قَرَارِهِ، فَعِنْدَ ذلك قَالَ: {لاَّ إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} وقيل: مكث في بطن الحوت أربعين يوماً، وقوله: {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم} أَخْرَجْنَاهُ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ وَتِلْكَ الظُّلُمَاتِ {وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ إِذَا كَانُوا فِي الشَّدَائِدِ ودعونا منيبين إلينا. وقال صلى الله عليه وسلم: "دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ هُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: {لاَّ إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مسلم ربه في شيء إلا استجاب له" (هذا الحديث جزء من حديث طويل ذكره الإمام أحمد وورواه الترمذي والنسائي). وفي الحديث: «مَنْ دَعَا بِدُعَاءِ يُونُسَ اسْتُجِيبَ لَهُ»، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ يُرِيدُ بِهِ {وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}. وعن سعد بن أبي وقاص، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اسْمُ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، دَعْوَةُ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هِيَ لِيُونُسَ خَاصَّةً أَمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؟ قال: "هي ليونس بن متى خاصة، ولجماعة المؤمنين عَامَّةً إِذَا دَعَوْا بِهَا، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}، فَهُوَ شَرْطٌ مِنَ اللَّهِ لمن دعاه به" (أخرجه ابن جرير عن سعيد بن أبي وقاص مرفوعاً ورواه ابن أبي حاتم بمثله).

- 89 - وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ - 90 - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خَاشِعِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ زَكَرِيَّا حِينَ طَلَبَ أَنْ يَهَبَهُ اللَّهُ وَلَدًا يَكُونُ من بعده نبياً، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أَيْ خُفْيَةً عَنْ قَوْمِهِ {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً} أَيْ لَا وَلَدَ لِي وَلَا وَارِثَ يَقُومُ بَعْدِي فِي النَّاسِ {وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} دُعَاءٌ وَثَنَاءٌ مُنَاسِبٌ لِلْمَسْأَلَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أَيِ امْرَأَتَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ

وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتْ عَاقِرًا لَا تلد فولدت، وقال عطاء: كان في لسانها طول، فأصحلها اللَّهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ فِي خَلْقِهَا شَيْءٌ فأصحلها الله، وَالْأَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ؛ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}: أَيْ فِي عَمَلِ الْقُرُبَاتِ وَفِعْلِ الطَّاعَاتِ {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} قَالَ الثَّوْرِيُّ: رَغَبًا فِيمَا عِنْدَنَا، وَرَهَبًا مِمَّا عِنْدَنَا {وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ مُصَدِّقِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُؤْمِنِينَ حَقًّا، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: خائفين، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ {خاشِعِينَ}: أَيْ مُتَذَلِّلِينَ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ. وروى ابن أبي حاتم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَتُثْنُوا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَتَخْلِطُوا الرَّغْبَةَ بِالرَّهْبَةِ، وَتَجْمَعُوا الْإِلْحَافَ بِالْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ أَثْنَى عَلَى زَكَرِيَّا وَأَهْلِ بَيْتِهِ فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خَاشِعِينَ}.

- 91 - وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُوحِنَا وجعلناها وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام، مقرونة بِقِصَّةِ زَكَرِيَّا وَابْنِهِ يَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَيَذْكُرُ أَوَّلًا قِصَّةَ زَكَرِيَّا، ثُمَّ يُتْبِعُهَا بِقِصَّةِ مَرْيَمَ، لأن تلك مربوطة بهذه، فَإِنَّهَا إِيجَادُ وَلَدٍ مِنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ قَدْ طَعَنَ فِي السِّنِّ، وَمِنَ امْرَأَةٍ عَجُوزٍ عَاقِرٍ، لَمْ تَكُنْ تَلِدُ فِي حَالِ شَبَابِهَا، ثُمَّ يَذْكُرُ قِصَّةَ مَرْيَمَ، وَهِيَ أَعْجَبُ، فَإِنَّهَا إِيجَادُ ولد من أثنى بلا ذكر، قال تعالى: {والتي أَحْصَنَتْ فرجها} (يراد من الفرج: فرج القميص: أي لم يعلق بثوبها ريبة، أي أنها طاهرة الأثواب، قال السهيلي: فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا من لطيف الكناية، لأن القرآن أنزه معنى، وأوزن لفظاً، وألطف إشارة، وأملح عبارة من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهلين، ولا سيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس، فأضعف القدس إلى القدوس ونزه المقدسة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس) يَعْنِي مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، كَمَا قَالَ فِي سورة التحريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا من روحنا}، وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} أَيْ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأنه يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ، وَإِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كن فيكون، وهذا كقوله: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {لِّلْعَالَمِينَ} قَالَ: الْعَالَمِينَ الجن والإنس.

- 92 - إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ - 93 - وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ - 94 - فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ قَالَ ابْنُ عباس {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} يَقُولُ: دِينُكُمْ دين واحد، أَيْ هَذِهِ شَرِيعَتُكُمُ الَّتِي بَيَّنْتُ لَكُمْ وَوَضَّحْتُ لكم. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ»، يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِشَرَائِعَ مُتَنَوِّعَةٍ لِرُسُلِهِ، كَمَا قال تعالى: {لِكُلٍّ جعلنا شرعة ومنهاجا}، وَقَوْلُهُ: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أَيِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ عَلَى رُسُلِهَا فَمِنْ بَيْنِ مُصَدِّقٍ لَهُمْ وَمُكَذِّبٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} أَيْ يَوْمَ -[521]- الْقِيَامَةِ فَيُجَازَى كُلٌّ بِحَسَبِ عَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مؤمن} أي قبله مُصَدِّقٌ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ}، كقوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ من أحس عملا} أَيْ لَا يُكْفَرُ سَعْيُهُ وَهُوَ عَمَلُهُ، بَلْ يُشْكَرُ فَلَا يُظْلَمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنَّآ لَهُ كَاتِبُونَ} أَيْ يُكْتَبُ جَمِيعُ عَمَلِهِ فَلَا يَضِيعُ عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ.

- 95 - وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ - 96 - حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ - 97 - وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ يقول تعالى: {وَحَرَامٌ على القرية} قال ابن عباس: وجب، يعني قد قدر أَنَّ أَهْلَ كُلِّ قَرْيَةٍ أُهْلِكُوا أَنَّهُمْ لَا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ أَيْ لَا يَتُوبُونَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ مِنْ سُلَالَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلْ هُمْ مِنْ نَسْلِ نُوحٍ أيضاً من أولاد (يافث) أي أبي الترك، والترك شرذمة منهم، {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} أَيْ يُسْرِعُونَ فِي الْمَشْيِ إِلَى الْفَسَادِ، وَالْحَدَبُ هُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو صَالِحٍ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ)، وَهَذِهِ صِفَتُهُمْ فِي حَالِ خُرُوجِهِمْ، كَأَنَّ السَّامِعَ مُشَاهِدٌ لِذَلِكَ {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} هذا إخبار الَّذِي يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إلا هو، وقال ابن جرير: رَأَى ابْنُ عَبَّاسٍ صِبْيَانًا يَنْزُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَكَذَا يَخْرُجُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ خُرُوجِهِمْ فِي أحاديث متعددة من السنّة النبوية، فروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "تفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس، كَمَا قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} فَيَغْشَوْنَ النَّاسَ وَيَنْحَازُ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ إِلَى مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ وَيَضُمُّونَ إِلَيْهِمْ مَوَاشِيَهُمْ، وَيَشْرَبُونَ مِيَاهَ الْأَرْضِ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَيَمُرُّ بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابساً، حَتَّى أَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ لَيَمُرُّ بِذَلِكَ النَّهْرِ فيقول: قد كان ههنا مَاءٌ مَرَّةً، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا أَحَدٌ فِي حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ، قَالَ قَائِلُهُمْ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْأَرْضِ قَدْ فَرَغْنَا مِنْهُمْ بَقِيَ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ: ثُمَّ يَهُزُّ أَحَدُهُمْ حَرْبَتَهُ ثُمَّ يَرْمِي بِهَا إِلَى السماء فترجع إليه مخضبة دَمًا لِلْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ دُودًا فِي أَعْنَاقِهِمْ كَنَغَفِ الْجَرَادِ الَّذِي يَخْرُجُ فِي أَعْنَاقِهِ، فَيُصْبِحُونَ مَوْتًى لَا يُسْمَعُ لَهُمْ حِسٌّ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: أَلَا رَجُلٌ يَشْرِي لَنَا نَفْسَهُ فَيَنْظُرُ مَا فعل هذا العدو، قال: فينحدر رَجُلٌ مِنْهُمْ مُحْتَسِبًا نَفْسَهُ قَدْ أَوْطَنَهَا عَلَى أَنَّهُ مَقْتُولٌ فَيَنْزِلُ، فَيَجِدُهُمْ مَوْتًى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيُنَادِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَلَا أَبْشِرُوا إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَدْ كَفَاكُمْ عَدُوَّكُمْ، فَيَخْرُجُونَ مِنْ مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ وَيُسَرِّحُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَمَا يكون لهم رعي إلا لحومهم فتشكر عنهم كَأَحْسَنِ مَا شَكَرَتْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّبَاتِ أصابته قط" (أخرجه الإمام أحمد ورواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري). وفي حديث الدجال: "فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ عزَّ وجلَّ إِلَى عيسى ابن مريم عليه السلام إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ

عِبَادًا مِنْ عِبَادِي لَا يَدَانِ لَكَ بِقِتَالِهِمْ، فحرر عِبَادِي إِلَى الطُّورِ فَيَبْعَثُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ يأجوج ومأجوج، كما قال تعالى: {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} فَيَرْغَبُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إلى الله عزَّ وجلَّ، فيرسل عليهم نغفاً في رقابهم فيصحبون فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَيَهْبِطُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ بَيْتًا إِلَّا قَدْ مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ، فَيَرْغَبُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الله عزَّ وجلَّ، فيرسل الله عَلَيْهِمْ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ البُخْت فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ"، قَالَ ابْنُ جَابِرٍ: فَحَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ السَّكْسَكِيُّ عَنْ كَعْبٍ أَوْ غَيْرِهِ قال: فتطرحهم بالمهيل، قَالَ ابْنُ جَابِرٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا يَزِيدَ وأين المهيل؟ قَالَ: مَطْلَعُ الشَّمْسِ، قَالَ: "وَيُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كالزَّلَقَة، ويقال للأرض انبتي ثمرك ودري بَرَكَتَكِ، قَالَ: فيومئذٍ يَأْكُلُ النَّفَرُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، فيستظلون بِقِحْفِهَا وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ، حَتَّى إِنَّ اللَّقْحَةَ مِنَ الْإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللَّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ تَكْفِي الْفَخِذَ، وَالشَّاةَ مِنَ الْغَنَمِ تَكْفِي أَهْلَ الْبَيْتِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُسْلِمٍ - أَوْ كما قال مؤمن - ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة" (أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح). وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مريم يحج البيت العتيق، وعن أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «ليحجن هذا البيت وليعتمرون بعد خروج يأجوج ومأجوج». وَقَوْلُهُ: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذا حصلت هَذِهِ الْأَهْوَالُ وَالزَّلَازِلُ وَالْبَلَابِلُ أَزِفَتِ السَّاعَةُ وَاقْتَرَبَتْ، فَإِذَا كَانَتْ وَوَقَعَتْ، قَالَ الْكَافِرُونَ: هَذَا يَوْمٌ عسر، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ مِنْ شِدَّةِ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، {يَا وَيْلَنَا} أَيْ يَقُولُونَ يَا وَيْلَنَا {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا} أَيْ فِي الدُّنْيَا، {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} يَعْتَرِفُونَ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ.

- 98 - إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ - 99 - لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ - 100 - لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ - 101 - إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ - 102 - لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ - 103 - لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ يَقُولُ تَعَالَى: مُخَاطِبًا لِأَهْلِ مَكَّةَ مِنْ مُشْرِكِي قريش {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ وَقُودُهَا، يَعْنِي كقوله: {وَقُودُهَا الناس والحجارة}. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} يَعْنِي حَطَبَ جهنم (وهو قول مجاهد وعكرمة وقتادة). وَقَالَ الضَّحَّاكُ {حَصَبُ جَهَنَّمَ}: أَيْ مَا يُرْمَى به فيها، وَالْجَمِيعُ قَرِيبٌ، وَقَوْلُهُ: {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}: أَيْ دَاخِلُونَ، {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا} يعني لو كانت هذه الأصنام والأنداد آلهة صحيحة

لما وردوا النار وما دَخَلُوهَا، {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ}: أَيِ الْعَابِدُونَ وَمَعْبُودَاتُهُمْ كُلُّهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} كَمَا قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وشهيق}، وَالزَّفِيرُ: خُرُوجُ أَنْفَاسِهِمْ، وَالشَّهِيقُ وُلُوجُ أَنْفَاسِهِمْ {وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ}، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عن ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا بَقِيَ مَنْ يَخْلُدُ فِي النَّارِ جُعِلُوا فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ فِيهَا مَسَامِيرُ مِنْ نَارٍ، فَلَا يَرَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ غَيْرُهُ، ثُمَّ تَلَا عَبْدُ اللَّهِ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ}، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} قَالَ عِكْرِمَةُ: الرَّحْمَةُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّعَادَةُ {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَهْلَ النَّارِ وَعَذَابَهُمْ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ، عَطَفَ بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ من المؤمنين بالله ورسوله، وَهُمُ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ وَأَسْلَفُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، وقال: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان}، فَكَمَا أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا أَحْسَنَ اللَّهُ مآبهم وثوابهم ونجاهم مِنَ الْعَذَابِ وَحَصَلَ لَهُمْ جَزِيلُ الثَّوَابِ، فَقَالَ: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أَيْ حريقها في الأجساد، عَنِ أَبِي عُثْمَانَ {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} قَالَ: حَيَّاتٌ عَلَى الصِّرَاطِ تَلْسَعُهُمْ، فَإِذَا لَسَعَتْهُمْ قَالَ حَسَ حَسَ، وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} فَسَلَّمَهُمْ مِنَ الْمَحْذُورِ وَالْمَرْهُوبِ، وَحَصَلَ لهم المطلوب والمحبوب. قال ابن عباس: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} فَأُولَئِكَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ مَرًّا هُوَ أَسْرَعُ مِنَ الْبَرْقِ، وَيَبْقَى الْكُفَّارُ فِيهَا جِثِيًّا، فَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتِ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْمَعْبُودِينَ وَخَرَجَ مِنْهُمْ عُزَيْرٌ وَالْمَسِيحُ كَمَا قَالَ ابن عباس {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لها وَارِدُونَ}، ثُمَّ اسْتَثْنَى، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} فَيُقَالُ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وجل، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} قَالَ: نَزَلَتْ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَعُزَيْرٍ عَلَيْهِمَا السلام. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قَالَ: عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ، وَقَالَ الضحّاك: عيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر. والآية إِنَّمَا نَزَلَتْ خِطَابًا لِأَهْلِ مَكَّةَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ الَّتِي هِيَ جَمَادٌ لَا تَعْقِلُ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا لِعَابِدِيهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} فَكَيْفَ يُورِدُ عَلَى هَذَا الْمَسِيحَ وَالْعُزَيْرَ وَنَحْوَهُمَا مِمَّنْ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ وَلَمْ يَرْضَ بِعِبَادَةِ مَنْ عَبَدَهُ؟ وَعَوَّلَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فِي الْجَوَابِ عَلَى أَنَّ (مَا) لِمَا لَا يعقل عند العرب. وَقَوْلُهُ: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} قِيلَ: الْمُرَادُ بذلك الموت، قاله عَطَاءٍ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْفَزَعِ الْأَكْبَرِ النَّفْخَةُ فِي الصور، قاله ابن عباس وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقِيلَ: حِينَ يُؤْمَرُ بِالْعَبْدِ إِلَى النَّارِ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ؛ وَقِيلَ: حِينَ تُطْبِقُ النَّارُ عَلَى أَهْلِهَا، قَالَهُ سعيد بن جبير وابن جريج، وَقَوْلُهُ: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} يَعْنِي تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ تُبَشِّرُهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ {هَذَا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي فأملوا ما يسركم.

- 104 - يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ يَقُولُ تَعَالَى: هَذَا كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يشركون}.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يوم القيامة الأرضين وتكون السماوات بيمينه» (أخرجه البخاري عن ابن عمر مرفوعاً) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَطْوِي اللَّهُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَلِيقَةِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَلِيقَةِ يَطْوِي ذَلِكَ كُلَّهُ بِيَمِينِهِ يَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ خَرْدَلَةٍ (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس). وَقَوْلُهُ: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} قِيلَ: الْمُرَادُ بِالسِّجِلِّ الكتاب، وقيل: المراد بالسجل ههنا ملك من الملائكة، وَالصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السِّجِلَّ هِيَ الصحيفة، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: يَوْمَ نَطْوِي السمآء كطي السجل للكتاب، أي على الْكِتَابِ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ للجبين} أَيْ عَلَى الْجَبِينِ، وَلَهُ نَظَائِرُ فِي اللُّغَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} يَعْنِي هَذَا كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ يَوْمَ يُعِيدُ اللَّهُ الْخَلَائِقَ خَلْقًا جَدِيدًا كَمَا بَدَأَهُمْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِعَادَتِهِمْ، وَذَلِكَ وَاجِبُ الْوُقُوعِ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ وَعْدِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُخْلَفُ وَلَا يُبَدَّلُ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: «إنكم محشورن إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إنا كنا فاعلين»، وذكر تمام الحديث (الحديث أخرجاه في الصحيحين ورواه الإمام أحمد عن ابن عباس)، قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خلق نعيده} قال: يهلك كُلَّ شَيْءٍ كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ.

- 105 - وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ - 106 - إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ - 107 - وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا حَتَّمَهُ وَقَضَاهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مِنَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَوِرَاثَةِ الْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} وَقَالَ: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدنيا وَيَوْمَ يقوم الأشهاد}، وقال: {وَعَدَ الله الذين آمكنوا مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لهم}، وأخبر تعالى إِنَّ هذا مسطور في الكتب الشرعية والقدرية وهو كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ}. قَالَ مجاهد: الزبور الكتاب، وقال ابن عباس والحسن: {الزبور} الذي أنزل على داود و {الذكر} التوراة، وعن ابن عباس: الذكر الْقُرْآنُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الذِّكْرُ الَّذِي فِي السمآء، وقال مجاهد: الزبور الكتب، وَالذِّكْرُ أُمُّ الْكِتَابِ عِنْدَ اللَّهِ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَذَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ هُوَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الزبور الكتب التي أنزلت عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَالذِّكْرُ أُمُّ الْكِتَابِ الَّذِي يُكْتَبُ فيه الأشياء قبل ذلك، أخبر الله سبحانه وتعالى فِي التَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَسَابِقِ عِلْمِهِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَن يُوَرِّثَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَرْضَ، وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ وهم الصالحون (رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ). وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنَّ

الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} قَالَ: أَرْضُ الْجَنَّةِ، وقال أبو الدرداء: نحن الصالحون، وقال السدي: هم المؤمنون (وقال أبو الدرداء: الأرض هي الشام، والصالحون: الأمة المحمدية). وَقَوْلُهُ {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} أي إن في هذا لقرآن الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَى عَبْدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَبَلاَغاً} لَمَنْفَعَةً وَكِفَايَةً {لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} وهم الذين عبدوا الله فيما شَرَعَهُ وَأَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ وَآثَرُوا طَاعَةَ اللَّهِ عَلَى طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم. وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ أَيْ أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لَهُمْ كُلِّهِمْ، فَمَنْ قَبِلَ هَذِهِ الرَّحْمَةَ وَشَكَرَ هَذِهِ النِّعْمَةَ سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ رَدَّهَا وجحدها خسر الدينا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وبئس القرار}. وقال تَعَالَى فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بعيد}. وقال مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: «إِنِّي لَمْ أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» (أخرجه الحافظ ابن عساكر عن أبي هريرة مرفوعاً، وسئل البخاري عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: كَانَ عِنْدَ حَفْصِ بن غياث مرسلاً، وروي عن ابن عمر مرفوعاً: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً مُهْدَاةً بُعِثْتُ بِرَفْعِ قوم وخفض آخرين»)، وفي الحديث الذي رواه الطبراني: "إِنِّي رَحْمَةٌ بَعَثَنِي اللَّهُ وَلَا يَتَوَفَّانِي حَتَّى يُظْهِرَ اللَّهُ دِينَهُ، لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قدمي، وأنا العاقب". وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد: «إيما رجل سببته فِي غَضَبِي أَوْ لَعَنْتُهُ لَعْنَةً، فَإِنَّمَا أَنَا رجل من ولد آدم، أغضب كما تغضبون وإنما بعثني الله رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَاجْعَلْهَا صَلَاةً عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (أخرجه الإمام أحمد وأبو داود ولفظه عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خطب فقال ... فذكره)، فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ رَحْمَةٍ حَصَلَتْ لِمَنْ كَفَرَ به؟ فالجواب ما رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قَالَ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كُتِبَ لَهُ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ عُوِفِيَ مما أصاب الْأُمَمِ مِنَ الْخَسْفِ وَالْقَذْفِ.

- 108 - قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُسْلِمُونَ - 109 - فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ - 110 - إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ - 111 - وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ - 112 - قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ {إِنَّمَآ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ}؟ أَيْ مُتَّبِعُونَ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَسْلِمُونَ مُنْقَادُونَ لَهُ، {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أَيْ تَرَكُوا مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ {فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ} أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ أني حرب لكم كما أنتم حرب لي، بريء منكم كما أنتم بُرَآءُ مِنِّي، كَقَوْلِهِ: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أنت برئيون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بريء مما تعملون}، وَقَالَ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ

خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سواء}، أي ليكن عملك وعملهم بنذ العهود على السواء وهكذا ههنا {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ} أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ بِبَرَاءَتِي مِنْكُمْ وَبَرَاءَتِكُمْ مِنِّي لِعِلْمِي بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} أَيْ هُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنْ لَا عِلْمَ لِي بِقُرْبِهِ وَلَا بِبُعْدِهِ، {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} أَيْ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ جَمِيعَهُ، وَيَعْلَمُ مَا يُظْهِرُهُ الْعِبَادُ وَمَا يُسِرُّونَ، يَعْلَمُ الظَّوَاهِرَ وَالضَّمَائِرَ، وَيَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَيَعْلَمُ مَا الْعِبَادُ عَامِلُونَ فِي أَجْهَارِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْقَلِيلِ وَالْجَلِيلِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أَيْ وَمَا أَدْرِي لَعَلَّ هَذَا فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَعَلَّ تَأْخِيرَ ذَلِكَ عَنْكُمْ فتنة لكم ومتاع إلى أجل مسمى (وحكي هذا القول عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)، {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أَيِ افْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قومنا المذكبين بالحق، قال قتادة: كانت الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَقُولُونَ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين}، وَأَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ. وَعَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا شهد غزاة قَالَ: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ}، وَقَوْلُهُ: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أَيْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَيَفْتَرُونَ مِنَ الْكَذِبِ، وَيَتَنَوَّعُونَ فِي مَقَامَاتِ التَّكْذِيبِ وَالْإِفْكِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ.

22 - سورة الحج

- 22 - سورة الحج

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - 2 - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ بِتَقْوَاهُ، وَمُخْبِرًا لَهُمْ بِمَا يُسْتَقْبَلُونَ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَحْوَالِهِا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي زَلْزَلَةِ السَّاعَةِ، هَلْ هِيَ بَعْدَ قِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ نَشُورِهِمْ إِلَى عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، أَوْ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ زَلْزَلَةِ الْأَرْضِ قَبْلَ قِيَامِ النَّاسِ مَنْ أَجْدَاثِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة} الآية، فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ كَائِنَةٌ فِي آخِرِ عمر الدنيا وأول أحوال الساعة، عَنْ عَلْقَمَةَ فِي قَوْلِهِ {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} قال: قبل الساعة (ذكره ابن جرير وابن أبي حاتم عن إبراهيم عن علقمة). وعن عامر الشعبي قَالَ: هَذَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وقد أورد الإمام ابن جرير في حادث الصور عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَرَغَ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، خَلَقَ الصُّورَ فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إِلَى الْعَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الصُّورُ؟ قَالَ: «قَرْنٌ»، قَالَ: فَكَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: "قَرْنٌ عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأول نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَالثَّانِيَةُ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَالثَّالِثَةُ نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، فَيَفْزَعُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَأْمُرُهُ فَيَمُدُّهَا وَيُطَوِّلُهَا وَلَا يَفْتُرُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فواق}، فتسير الجبال فتكون تراباً، وَتُرَجُّ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا رَجًّا وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ}، فَتَكُونُ الْأَرْضُ كَالسَّفِينَةِ الْمُوبِقَةِ فِي الْبَحْرِ تَضْرِبُهَا الْأَمْوَاجُ تَكْفَؤُهَا بِأَهْلِهَا، وَكَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ بِالْعَرْشِ تُرَجِّحُهُ الْأَرْوَاحُ، فَيَمْتَدُّ النَّاسُ عَلَى ظَهْرِهَا، فَتَذْهَلُ الْمَرَاضِعُ وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ وَيَشِيبُ الْوِلْدَانُ، وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً حَتَّى تَأْتِيَ الْأَقْطَارَ فَتَلَقَّاهَا الْمَلَائِكَةُ فَتَضْرِبُ وُجُوهَهَا فَتَرْجِعُ وَيُوَلِّي النَّاسُ مُدْبِرِينَ ينادي بعضُهم بعضاًن وهي التي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:

{يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ من هاد}. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذِ انْصَدَعَتِ الْأَرْضُ من قطر إلى قطر ورأوا أَمْرًا عَظِيمًا، فَأَخَذَهُمْ لِذَلِكَ مِنَ الْكَرْبِ مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، ثُمَّ نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا هِيَ كَالْمُهْلِ، ثم خسف شمسها وقمرها وَانْتَثَرَتْ نُجُومُهَا ثُمَّ كُشِطَتْ - عَنْهُمْ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْأَمْوَاتُ لَا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ»، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قمن اسْتَثْنَى اللَّهُ حِينَ يَقُولُ: {فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ} قَالَ: "أُولَئِكَ الشُّهَدَاءُ، وَإِنَّمَا يَصِلُ الْفَزَعُ إِلَى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون ووقاهم اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَآمَنَهُمْ، وَهُوَ عَذَابُ اللَّهِ يَبْعَثُهُ عَلَى شِرَارِ خَلْقِهِ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ولكن عَذَابَ الله شديد} " (الحديث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وغيرهم). وهذا الحديث دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ كَائِنَةٌ قَبْلَ يوم الساعة، أضيفت إِلَى السَّاعَةِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بل ذلك هول وفزع وزلزال كائن قبل يوم القيامة في العرصات بعد القيام مِنَ الْقُبُورِ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَاحْتَجُّوا بأحاديث: (الحديث الأول): عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {يَا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ - إِلَى قَوْلِهِ - وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} قَالَ: نزلت عليه هذه الآية وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ ذلك؟» قالوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "ذَلِكَ يَوْمٌ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ"، فَأَنْشَأَ الْمُسْلِمُونَ يَبْكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلَّا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهَا جَاهِلِيَّةٌ، قَالَ فَيُؤْخَذُ الْعَدَدُ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنْ تَمَّتْ وإلا كملت من المنافقين، وما مثلكم ومثل الأمم إِلَّا كَمَثَلِ الرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ أَوْ كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ»، ثُمَّ قَالَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ»، فَكَبَّرُوا، ثُمَّ قَالَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ»، فَكَبَّرُوا، ثُمَّ قَالَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجنة»، فكبروا، ثم قَالَ: وَلاَ أَدْرِي أَقَالَ الثُّلُثَيْنِ أَمْ لَا؟ (الحديث أخرجه الترمذي والإمام أحمد عن عمران بن حصين، وقال الترمذي: حديث صحيح). (الحديث الثاني): قال البخاري عند تفسير هذه الآية، عن أبي سعيد الخدري قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادَى بِصَوْتٍ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ - أَرَاهُ قَالَ - تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذٍ تَضَعُ الْحَامِلُ حَمْلَهَا وَيَشِيبُ الْوَلِيدُ {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} "، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ ومنكم واحد، أَنْتُمْ فِي النَّاسِ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جَنْبِ الثور الأسود، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: ثُلُثُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا، ثم قال: شطر أهل الجنة"، فكبرنا (أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أبي سعيد الخدري).

(الحديث الثالث): عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إنكم تحشرون إلى الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا»، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ: «يَا عَائِشَةُ إِنَّ الْأَمْرَ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكَ» (أَخْرَجَاهُ فِي الصحيحين ورواه الإمام أحمد، وفي رواية: إن الأمر أعظم من أن ينظر بعضهم إلى بعض). (الحديث الرابع): عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ يَذْكُرُ الْحَبِيبُ حَبِيبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ أَمَّا عِنْدَ ثَلَاثٍ فَلَا، أَمَّا عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يِثْقُلَ أَوْ يَخِفَّ فَلَا، وأما عند تطاير الكتب إما يعطى بيمينه وإما يُعْطَى بِشَمَالِهِ فَلَا، وَحِينَ يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النار فيطوى عَلَيْهِمْ وَيَتَغَيَّظُ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُ ذَلِكَ الْعُنُقُ: وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ، وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ، وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ، وُكِّلْتُ بِمَنِ ادَّعَى مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَوُكِّلْتُ بِمَنْ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، وَوُكِّلْتُ بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ - قَالَ: فَيَنْطَوِي عَلَيْهِمْ وَيَرْمِيهِمْ فِي غَمَرَاتٍ جهنم، ولجهنم جسر أرق مِنَ الشِّعْرِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ عَلَيْهِ كَلَالِيبُ وحسك يأخذان من شآء الله، والناس عليه كالبرق وكالطرف وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، والملائكة يقولون: يا رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، فَنَاجٍ مسلَّم وَمَخْدُوشٌ مسلَّم، ومكور في النار على وجهه" (أخرجه الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا). وَالْأَحَادِيثُ فِي أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْآثَارُ كَثِيرَةٌ جداً لها موضع آخر، ولهذا قال الله تَعَالَى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} أَيْ أمر عظيم وخطب جليل، والزلزال هو ما يحصل للنفوس من الرعب والفزع، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} هَذَا مِنْ بَابِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، وَلِهَذَا قَالَ مُفَسِّرًا لَهُ: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} أي فتشتغل لِهَوْلِ مَا تَرَى عَنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهَا، وَالَّتِي هِيَ أَشْفَقُ النَّاسِ عَلَيْهِ تَدْهَشُ عَنْهُ فِي حَالِ إِرْضَاعِهَا لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {كُلُّ مُرْضِعَةٍ} وَلَمْ يَقِلْ مُرْضِعٍ، وَقَالَ {عَمَّآ أَرْضَعَتْ} أي عن رضعيها وفطامه، وَقَوْلُهُ: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} أَيْ قَبْلَ تَمَامِهِ لِشِدَّةِ الْهَوْلِ {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} أَيْ مِنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ صَارُوا فِيهِ قَدْ دَهِشَتْ عُقُولُهُمْ، وَغَابَتْ أَذْهَانُهُمْ فَمَنْ رَآهُمْ حَسَبَ أَنَّهُمْ سُكَارَى {وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}.

- 3 - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ - 4 - كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ وَأَنْكَرَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أَيْ عِلْمٍ صَحِيحٍ، {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ} قَالَ مُجَاهِدٌ يَعْنِي الشَّيْطَانَ، يَعْنِي كُتِبَ عَلَيْهِ كِتَابَةً قَدَرِيَّةً {أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ} أَيِ اتَّبَعَهُ وَقَلَّدَهُ {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} أَيْ يُضِلُّهُ فِي الدُّنْيَا وَيَقُودُهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، وَهُوَ الحار المؤلم المزعج، قال السدي: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وروى أَبُو كَعْبٍ الْمَكِّيُّ قَالَ: قَالَ خَبِيثٌ مِنْ خُبَثَاءِ قُرَيْشٍ: أَخْبِرْنَا عَنْ رَبِّكُمْ مِنْ ذَهَبٍ هُوَ، أَوْ مِنْ فِضَّةٍ هُوَ، أَوْ مِنْ نحاس هو، فتقعقعت السَّمَاءُ قَعْقَعَةً - وَالْقَعْقَعَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الرَّعْدُ - فإذا قحف رأسه ساقط بين يديه (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب المكي)، -[530]- وقال مجاهد: جَاءَ يَهُودِيٌّ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ: أَخْبِرْنِي عَنْ رَبِّكَ، مَنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ مِنْ دُرٍّ أَمْ مِنْ يَاقُوتٍ؟ قَالَ: فَجَاءَتْ صَاعِقَةٌ فَأَخَذَتْهُ.

- 5 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج - 6 - ذلك بأن اللهو الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 7 - وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَّن فِي الْقُبُورِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمُخَالِفَ لِلْبَعْثِ الْمُنْكِرَ لِلْمَعَادِ، ذَكَرَ تَعَالَى الدَّلِيلَ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى الْمَعَادِ، بِمَا يُشَاهَدُ مِنْ بَدْئِهِ لِلْخَلْقِ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} أَيْ فِي شَكٍّ، {مِّنَ الْبَعْثِ} وَهُوَ الْمَعَادُ، وَقِيَامُ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} أَيْ أَصْلُ بَرْئِهِ لَكُمْ مِنْ تُرَابٍ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} أَيْ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَاءٍ مَهِينٍ، {ثُمَّ من علقة ثم من مضغة}، وذلك أَنَّهُ إِذَا اسْتَقَرَّتِ النُّطْفَةُ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ مَكَثَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَذَلِكَ يُضَافُ إِلَيْهِ مَا يَجْتَمِعُ إِلَيْهَا، ثُمَّ تَنْقَلِبُ عَلَقَةً حَمْرَاءَ بِإِذْنِ اللَّهِ فَتَمْكُثُ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَسْتَحِيلُ فَتَصِيرُ مُضْغَةً قِطْعَةً مِنْ لَحْمٍ لَا شَكْلَ فِيهَا وَلَا تَخْطِيطَ، ثُمَّ يُشْرَعُ فِي التَّشْكِيلِ وَالتَّخْطِيطِ فَيُصَوَّرُ مِنْهَا رَأْسٌ وَيَدَانِ وَصَدْرٌ وَبَطْنٌ وَفَخْذَانِ وَرِجْلَانِ وَسَائِرُ الْأَعْضَاءِ، فَتَارَةً تُسْقِطُهَا الْمَرْأَةُ قَبْلَ التَّشْكِيلِ وَالتَّخْطِيطِ، وَتَارَةً تُلْقِيهَا وَقَدْ صَارَتْ ذَاتَ شَكْلٍ وَتَخْطِيطٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} أَيْ كَمَا تُشَاهِدُونَهَا، {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أَيْ وَتَارَةً تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ لَا تُلْقِيهَا الْمَرْأَةُ وَلَا تُسْقِطُهَا، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} قَالَ: هُوَ السَّقْطُ مَخْلُوقٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَهِيَ مضغة أرسل الله تعالى ملكاً إليها فَنَفَخَ فِيهَا الرَّوْحَ وسوَّاها كَمَا يَشَاءُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، من حسن وقبح وَذَكَرٍ وَأَنْثَى، وَكَتَبَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا، وَشِقِّيٌ أَوْ سعيد، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أربعين ليلة نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلِكَ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وعمله وأجله وَشَقِّيٌ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ». وروى ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن مسعود قال: النطفة إذا استقرت في الرحم جاءها ملك بكفه، فقال: يَا رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قِيلَ: غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ لَمْ تَكُنْ نَسَمَةٌ وَقَذَفَتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا، وَإنْ قِيلَ: مُخَلَّقَةٌ، قَالَ: أَيْ رب ذَكَرٍ أَوْ أنثى، شقي أو سعيد، مَا الْأَجَلُ وَمَا الْأَثَرُ؟ وَبِأَيِّ أَرْضٍ يَمُوتُ؟ قَالَ، فَيُقَالُ لِلنُّطْفَةِ مَنْ رَبُّكِ؟ فَتَقُولُ: اللَّهُ، فَيُقَالُ مَنْ رَازِقُكِ؟ فَتَقُولُ: اللَّهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اذهب إلى الْكِتَابِ فَإِنَّكَ سَتَجِدُ فِيهِ قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ، قَالَ: فَتُخْلَقُ فَتَعِيشُ فِي أَجَلِهَا وَتَأْكُلُ رِزْقَهَا، وَتَطَأُ أَثَرَهَا حَتَّى إِذَا جَآءَ أَجَلُهَا مَاتَتْ فدفنت في ذلك؛ ثُمَّ تَلَا عَامِرٌ

الشَّعْبِيُّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مخلقة} (أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ)، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بأربعين يوماً أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ، وَيَكْتُبَانِ فَيَقُولُ: أَذَكَرٌ أَمْ أَنْثَى؟ فَيَقُولُ اللَّهُ، وَيَكْتُبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَرِزْقُهُ وَأَجَلُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلَا يزاد على ما فيها ولا ينتقص" (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه مسلم بنحو معناه). {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أَيْ ضَعِيفًا فِي بَدَنِهِ وسمعه وبصره وحواسه، ثُمَّ يُعْطِيهِ اللَّهُ الْقُوَّةَ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَيَلْطُفُ به ويحنن عليه والديه، ولهذا قال {ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ} أي بتكامل الْقُوَى، وَيَتَزَايَدُ وَيَصِلُ إِلَى عُنْفُوَانِ الشَّبَابِ وَحُسْنِ الْمَنْظَرِ، {وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى} أَيْ فِي حَالِ شَبَابِهِ وَقَوَاهُ، {وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} وَهُوَ الشَّيْخُوخَةُ وَالْهَرَمُ وَضَعْفُ الْقُوَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَتَنَاقُصُ الْأَحْوَالِ مِنَ الْخَرَفِ وَضَعْفِ الْفِكْرِ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً}. وقوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، كَمَا يُحْيِي الأرض الميتة الهامدة وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شَيْءَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: غَبْرَاءُ مُتَهَشِّمَةٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَيْتَةٌ، {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِ زَوْجٍ بَهِيجٍ}: أَيْ فَإِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْمَطَرَ {اهْتَزَّتْ} أَيْ تَحَرَّكَتْ بالنبات وَحَيِيَتْ بَعْدَ مَوْتِهَا، {وَرَبَتْ} أَيِ ارْتَفَعَتْ لَمَّا سَكَنَ فِيهَا الثَّرَى، ثُمَّ أَنْبَتَتْ مَا فِيهَا من ثمار وزروع، وأشتات النبات فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا وَطَعُومِهَا، وَرَوَائِحِهَا وَأَشْكَالِهَا وَمَنَافِعِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أَيْ حَسَنِ الْمَنْظَرِ طَيِّبِ الرِّيحِ، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أَيِ الْخَالِقُ الْمُدَبِّرُ الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ، {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} أَيْ كَمَا أَحْيَا الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ وَأَنْبَتَ مِنْهَا هَذِهِ الْأَنْوَاعَ {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كل شيء قدير} {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ له كن فيكون}، {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} أَيْ كَائِنَةٌ لَا شَكَّ فِيهَا وَلَا مِرْيَةَ، {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَّن فِي الْقُبُورِ} أَيْ يُعِيدُهُمْ بَعْدَ مَا صَارُوا فِي قُبُورِهِمْ رِمَمًا وَيُوجِدُهُمْ بعد العدم، كما قال تعالى: {قل يحيها الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مرة وهوبكل شيء عليم} والآيات في هذا كثيرة. وقد روى الإمام أحمد، عن لَقِيطُ بْنُ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ عزَّ وجلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَنْظُرُ إِلَى الْقَمَرِ مُخْلِيًا بِهِ؟» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَاللَّهُ أَعْظَمُ، قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: «أَمَا مَرَرْتَ بوادي أهلك ممحلاً؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضِرًا» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «فَكَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الموتى وذلك آيته في خلقه» (أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة). وقال ابن أبي حاتم عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: مِنْ عِلْمٍ إِنْ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَّن فِي القبور؛ دخل الجنة (أخرجه ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل).

- 8 - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ - 9 - ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ - 10 - ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الضلاَّل الجهَّال الْمُقَلِّدِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَن النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} ذَكَرَ فِي هَذِهِ حَالَ الدُّعَاةِ إلى الضلالة من رؤوس الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ، فَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} أَيْ بِلَا عَقْلٍ صَحِيحٍ، وَلَا نقل صَرِيحٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَالْهَوَى، وَقَوْلُهُ: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} قال ابن عباس: مُسْتَكْبِرًا عَنِ الْحَقِّ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهِ، وَقَالَ مجاهد وقتادة: لاوي عطفة وَهِيَ رَقَبَتُهُ يَعْنِي يُعْرِضُ عَمَّا يُدْعَى إِلَيْهِ من الحق، ويثني رَقَبَتَهُ اسْتِكْبَارًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} الآية، وقال تعالى: {رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً}، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لووا رؤوسهم وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مستكبرون}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا} الآية، وَقَوْلُهُ: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُقْصَدُ ذلك، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} وَهُوَ الْإِهَانَةُ وَالذُّلُّ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَكْبَرَ عَنِ آيَاتِ اللَّهِ لَقَّاهُ اللَّهُ الْمَذَلَّةَ فِي الدُّنْيَا وَعَاقَبَهُ فِيهَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهَا أَكْبَرُ هَمِّهِ وَمَبْلَغُ عِلْمِهِ {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أَيْ يُقَالُ لَهُ هَذَا تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}. عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَحَدَهُمْ يُحْرَقُ في اليوم سبعين ألف مرة (أخرجه ابن أبي حاتم).

- 11 - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ - 12 - يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ - 13 - يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ قال مجاهد: {على حَرْفٍ} على شك، وقال غيره: على طرف، ومنه حرف الجبل أي ظرفه، أَيْ دَخَلَ فِي الدِّينِ عَلَى طَرَفٍ، فَإِنْ وجد ما يحبه استقر وإلا انشمر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ سوء (أخرجه البخاري في صحيحه). وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُونَ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، فَإِنْ وَجَدُوا عَامَ غَيْثٍ وَعَامَ خِصْبٍ، وَعَامَ وَلَادٍ حَسَنٍ قَالُوا: إِنَّ دِينَنَا هَذَا لَصَالِحٌ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَإِنْ وَجَدُوا عَامَ جُدُوبَةٍ وَعَامَ وِلَادٍ سُوءٍ وَعَامَ قَحْطٍ قَالُوا: مَا فِي دِينِنَا هَذَا خير، فأنزل

اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} الآية. وَهَكَذَا ذَكَرَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ: هُوَ الْمُنَافِقُ إِنْ صَلُحَتْ لَهُ دُنْيَاهُ أَقَامَ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَإِنْ فَسَدَتْ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَتَغَيَّرَتْ انْقَلَبَ فَلَا يُقِيمُ عَلَى الْعِبَادَةِ إِلَّا لِمَا صَلُحَ مِنْ دُنْيَاهُ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ أَوْ شِدَّةٌ أَوِ اخْتِبَارٌ أَوْ ضِيقٌ تَرَكَ دِينَهُ ورجع إلى الكفر (في اللباب: وكذلك أخرج ابن مردويه: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده، فتشاءم بالإسلام، فقال: لم أصب من ديني هذا خيراً، فنزلت: {ومن الناس} الآية)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} أَيِ ارْتَدَّ كَافِرًا، وَقَوْلُهُ: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} أَيْ فَلَا هُوَ حَصَلَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى شَيْءٍ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ فَهُوَ فِيهَا فِي غَايَةِ الشَّقَاءِ وَالْإِهَانَةِ، وَلِهَذَا قال تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} أي هذه الْخَسَارَةُ الْعَظِيمَةُ وَالصَّفْقَةُ الْخَاسِرَةُ، وَقَوْلُهُ: {يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ} أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ يَسْتَغِيثُ بِهَا وَيَسْتَنْصِرُهَا وَيَسْتَرْزِقُهَا وَهِيَ لَا تَنْفَعُهُ وَلَا تَضُرُّهُ {ذلك هُوَ الضلال البعيد}، وقوله: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} أَيْ ضَرَرُهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فِيهَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَضَرَرُهُ مُحَقَّقٌ مُتَيَقَّنٌ، وَقَوْلُهُ: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْوَثَنَ، يَعْنِي بِئْسَ هَذَا الَّذِي دعاه مِنْ دُونِ اللَّهِ مَوْلًى، يَعْنِي وَلِيًّا وَنَاصِرًا، {وبئس الْعَشِيرُ} وَهُوَ الْمُخَالِطُ وَالْمُعَاشِرُ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ: لَبِئْسَ ابْنُ الْعَمِّ وَالصَّاحِبُ، {مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وجهه} وقوله مُجَاهِدٍ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَثَنُ أَوْلَى وَأَقْرَبُ إِلَى سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

- 14 - إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ لَمَّا ذَكَرَ أَهْلَ الضَّلَالَةِ الْأَشْقِيَاءَ، عَطَفَ بِذِكْرِ الْأَبْرَارِ السُّعَدَاءِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِقُلُوبِهِمْ وَصَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِأَفْعَالِهِمْ، فَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ وَتَرَكُوا الْمُنْكَرَاتِ، فَأَوْرَثَهُمْ ذَلِكَ سُكْنَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، ولما ذكر تعالى أَنَّهُ أَضَلَّ أُولَئِكَ وَهَدَى هَؤُلَاءِ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.

- 15 - مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ - 16 - وَكَذَلِكَ أَنْزَلَنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ أَيْ بِحَبْلٍ {إِلَى السَّمَاءِ} أَيْ سَمَاءِ بَيْتِهِ، {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} يَقُولُ: ثُمَّ لِيَخْتَنِقْ به، وقال عبد الرحمن بن زيد: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ}، أَيْ لِيَتَوَصَّلْ إِلَى بُلُوغِ السَّمَاءِ فَإِنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا يَأْتِي مُحَمَّدًا مِنَ السَّمَاءِ، {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} ذَلِكَ عَنْهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ أَوْلَى وَأَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى وَأَبْلَغُ فِي التَّهَكُّمِ، فإن المعنى: من كان يظن أن الله ليس بناصر محمد وَكِتَابَهُ وَدِينَهُ فَلْيَذْهَبْ فَلْيَقْتُلْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ غَائِظَهُ فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ لَا مَحَالَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدينا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد} الآية، وَلِهَذَا قَالَ: {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي مِنْ شَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يَشْفِي ذَلِكَ مَا يَجِدُ فِي صَدْرِهِ مِنَ الْغَيْظِ، وَقَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ} أَيِ الْقُرْآنَ {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} أَيْ وَاضِحَاتٍ فِي لَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا حُجَّةً مِنَ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ، {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ} أَيْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ وَالْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ فِي ذَلِكَ، {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يفعل وهم يسألون}.

- 17 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ أَهْلِ هَذِهِ الْأَدْيَانِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْيَهُودِ والصابئين (تقدم في سورة البقرة التعريف بهم واختلاف الأقوال فيهم فارجع إليه هناك)، والنصارى والمجوس، والذين أشركوا فعبدوا مع الله غيره فَإِنَّهُ تَعَالَى {يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ، فَيُدْخِلُ مَنْ آمَنَ بِهِ الْجَنَّةَ وَمَنْ كَفَرَ بِهِ النَّارَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى شَهِيدٌ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، حَفِيظٌ لِأَقْوَالِهِمْ، عَلِيمٌ بِسَرَائِرِهِمْ وَمَا تكن ضمائرهم.

- 18 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّهُ يَسْجُدُ لِعَظَمَتِهِ كُلُّ شَيْءٍ طَوْعًا وَكَرْهًا، وَسُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ مما يختص به كما قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وهم داخرون} وقال ههنا {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}، أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ، وَالْحَيَوَانَاتِ فِي جَمِيعِ الْجِهَاتِ، مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ، {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، وَقَوْلُهُ: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ} إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ عَلَى التَّنْصِيصِ لِأَنَّهَا قَدْ عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَبَيَّنَ أَنَّهَا تَسْجُدُ لِخَالِقِهَا وَأَنَّهَا مَرْبُوبَةٌ مُسَخَّرَةٌ، {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ} الآية. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ، ثُمَّ تُسْتَأْمَرُ فَيُوشِكُ أَنْ يُقَالَ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ». وفي حَدِيثِ الْكُسُوفِ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ خَلْقَانِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ إِذَا تجلى لشيء من خلقه خشع له» (أخرجه الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ). وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا فِي السَّمَاءِ نَجْمٌ وَلَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ إِلَّا يَقَعُ لِلَّهِ ساجداً حين يغيب ثم يَنْصَرِفُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ

فَيَأْخُذَ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَطْلَعِهِ، وَأَمَّا الْجِبَالُ وَالشَّجَرُ فَسُجُودُهُمَا بِفَيْءِ ظِلَالِهِمَا عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ وَأَنَا نَائِمٌ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ فسجدتُ، فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَضَعْ عَنِيَ بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ، قال ابن عباس: فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدَةً، ثُمَّ سَجَدَ فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ مِثْلَ مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وابن حبان). وَقَوْلُهُ: {وَالدَّوَابُّ} أَيِ الْحَيَوَانَاتُ، كُلُّهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ اتِّخَاذِ ظُهُورِ الدَّوَابِّ مَنَابِرَ، فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ وأكثر ذكراً لله تعالى مِنْ رَاكِبِهَا. وَقَوْلُهُ: {وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} أَيْ يَسْجُدُ لِلَّهِ طَوْعًا مُخْتَارًا مُتَعَبِّدًا بِذَلِكَ، {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} أَيْ مِمَّنِ امْتَنَعَ وَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ، {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}. وَقَالَ ابن أبي حاتم: قيل لعلي إن ههنا رَجُلًا يَتَكَلَّمُ فِي الْمَشِيئَةِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، خَلَقَكَ اللَّهُ كَمَا يَشَاءُ أَوْ كَمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلْ كَمَا شَاءَ، قَالَ: فَيُمَرِّضُكَ إِذَا شَاءَ أَوْ إِذَا شِئْتَ؟ قال: بل إذا شاء، قال: فشفيك إِذَا شَاءَ أَوْ إِذَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلْ إِذَا شَاءَ، قَالَ: فَيُدْخِلُكَ حَيْثُ شِئْتَ أَوْ حَيْثُ يَشَاءُ، قَالَ: بَلْ حَيْثُ يَشَاءُ. قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ قُلْتَ غَيْرَ ذَلِكَ لَضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ بِالسَّيْفِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد لها اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بالسجود فأبيت فلي النار" (أخرجه مسلم في صحيحه).

- 19 - هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رؤوسهم الْحَمِيمُ - 20 - يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ - 21 - وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ - 22 - كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق ثبت في الصحيحين عَنِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ قَسَمًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَعُتْبَةَ وَصَاحِبَيْهِ يوم برزوا في بدر (هذا لفظ البخاري في كتاب التفسير)، وروى البخاري عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ قَيْسٌ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قَالَ: هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بن عتبة. وقال قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قَالَ: اخْتَصَمَ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ فَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ كُلِّهَا وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ فَأَفْلَجَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ، وَأَنْزَلَ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ}. وقال مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَّثَلُ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ اختصما في البعث، وقال مجاهد وَعَطَاءٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ

وَالْكَافِرُونَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قَالَ: هِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، قَالَتِ النَّارَ: اجْعَلْنِي لِلْعُقُوبَةِ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: اجْعَلْنِي لِلرَّحْمَةِ، وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْكَافِرُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ يَشْمَلُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا، وَيَنْتَظِمُ فِيهِ قِصَّةُ يَوْمِ بَدْرٍ وَغَيْرُهَا، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُونَ نُصْرَةَ دِينِ الله عزَّ وجلَّ، وَالْكَافِرُونَ يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ نُورِ الْإِيمَانِ وَخُذْلَانَ الْحَقِّ وَظُهُورَ الْبَاطِلِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ حَسَنٌ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نار} أي فصللت لهم مقطعات من النار، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مِنْ نُحَاسٍ وَهُوَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ حَرَارَةً إِذَا حَمِيَ {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رؤوسهم الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} أي إذا صب على رؤوسهم الْحَمِيمُ وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ النُّحَاسُ الْمُذَابُ أَذَابَ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنَ الشَّحْمِ وَالْأَمْعَاءِ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وغيرهم)، وكذلك تذوب جلودهم. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنْ الْحَمِيمَ لَيُصَبُّ عَلَى رؤوسهم فينفذ الْجُمْجُمَةَ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ، فَيَسْلِتُ مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ الصِّهْرُ ثم يعاد كما كان» (رواه ابن جرير والترمذي وقال: حسن صحيح وأخرجه ابن أبي حاتم بنحوه). وفي رواية: يَأْتِيهِ الْمَلَكُ يَحْمِلُ الْإِنَاءَ بِكَلْبَتَيْنِ مِنْ حَرَارَتِهِ، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْ وَجْهِهِ تَكَرَّهَهُ، قَالَ: فَيَرْفَعُ مِقْمَعَةً مَعَهُ فَيَضْرِبُ بِهَا رَأْسَهُ، فَيُفْرِغُ دِمَاغَهُ، ثُمَّ يُفْرِغُ الْإِنَاءَ مِنْ دِمَاغِهِ فَيَصِلُ إِلَى جَوْفِهِ مِنْ دِمَاغِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ}. وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ مِقْمَعًا مِنْ حَدِيدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ فَاجْتَمَعَ لَهُ الثَّقَلَانِ مَا أَقَلُّوهُ من الأرض» (أخرجه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري). وروى الإمام أحمد: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ ضُرِبَ الْجَبَلُ بِمِقْمَعٍ مِنْ حَدِيدٍ لَتَفَتَّتَ ثُمَّ عَادَ كَمَا كَانَ، وَلَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غسَّاق يُهْرَاقُ فِي الدُّنْيَا لأنتن أهل الدنيا» (أخرجه الإمام أحمد في المسند)، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} قَالَ: يُضْرَبُونَ بِهَا فَيَقَعُ كُلُّ عُضْوٍ عَلَى حِيَالِهِ فَيَدْعُونَ بِالثُّبُورِ، وَقَوْلُهُ: {كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا}، قال سلمان: النَّارُ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ لَا يُضِيءُ لَهَبُهَا وَلَا جَمْرُهَا، ثُمَّ قَرَأَ: {كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا}، وَقَالَ زَيْدُ بن أسلم في هذه الآية: بَلَغَنِي أَنَّ أَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ لَا يَتَنَفَّسُونَ، وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: وَاللَّهِ مَا طَمِعُوا فِي الْخُرُوجِ، إِنَّ الْأَرْجُلَ لَمُقَيَّدَةٌ وَإِنَّ الْأَيْدِيَ لَمُوثَقَةٌ، وَلَكِنْ يَرْفَعُهُمْ لَهَبُهَا وَتَرُدُّهُمْ مَقَامِعُهَا، وَقَوْلُهُ: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}، كَقَوْلِهِ: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}، وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُمْ يُهَانُونَ بِالْعَذَابِ قَوْلًا وَفِعْلًا.

- 23 - إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ - 24 - وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حال أهل النار، وما هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، وَالْحَرِيقِ وَالْأَغْلَالِ، وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الثِّيَابِ مِنَ النَّارِ، ذكر حال أهل الْجَنَّةَ فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ تَتَخَرَّقُ فِي أَكْنَافِهَا وَأَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَتَحْتَ أَشْجَارِهَا وَقُصُورِهَا يَصْرِفُونَهَا حيث شاءوا وأين أرادوا، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} مِنْ الحلية، {مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} أَيْ فِي أَيْدِيهِمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ». وَقَوْلُهُ: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} فِي مُقَابَلَةِ ثِيَابِ أَهْلِ النَّارِ الَّتِي فُصِّلَتْ لَهُمْ، لِبَاسُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْحَرِيرِ إِسْتَبْرَقِهِ وَسُنْدُسِهِ، كَمَا قَالَ: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ}، وَفِي الصَّحِيحِ: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ»، وَقَالَ عبد الله بن الزبير: من لَمْ يَلْبَسِ الْحَرِيرَ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}، وَقَوْلُهُ: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عليكم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار}، وَقَوْلِهِ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما} فَهُدُوْا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَسْمَعُونَ فِيهِ الْكَلَامَ الطيب، {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وسلاما} لَا كَمَا يُهَانُ أَهْلُ النَّارِ بِالْكَلَامِ الَّذِي يوبخون فيه ويقرعون به، يقال لَهُمْ: {ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}، وَقَوْلُهُ: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أَيْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَحْمَدُونَ فِيهِ رَبَّهُمْ عَلَى مَا أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَأَنْعَمَ بِهِ وَأَسْدَاهُ إليهم، كما جاء في الحديث الصَّحِيحِ: «إِنَّهُمْ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ»، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أَيِ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ: الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ، {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أَيِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ فِي الدُّنْيَا، وَكُلُّ هَذَا لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

- 25 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْكُفَّارِ فِي صَدِّهِمُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ إِتْيَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وقضاء مناسكهم فيه، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ والمسجد الحرام} أي ومن صفتهم أنهم مع كفرهم يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَيْ وَيَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَنْ أَرَادَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ فِي نفس الأمر، وَقَوْلُهُ: {الذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} أي يمنعون عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ جَعَلَهُ الله للناس لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُقِيمِ فِيهِ وَالنَّائِي عَنْهُ الْبَعِيدِ الدَّارِ مِنْهُ، {سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}، وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِوَاءُ النَّاسِ فِي رِبَاعِ مكة وسكناها، كما قال ابن عباس: يَنْزِلُ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ وقال مجاهد: {سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ فيه سواء في المنازل، وقال قَتَادَةَ: سَوَاءٌ فِيهِ أَهْلُهُ وَغَيْرُ أَهْلِهِ؛ وَهَذِهِ المسألة هي التي اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن رَاهْوَيْهِ بِمَسْجِدِ الْخِيفِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَاضِرٌ أيضاً. فذهب رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّ رِبَاعَ مَكَّةَ تُمَلَّكُ وتورث وتؤجر، واحتج بحديث الزهري عَنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنْزِلُ غَدًا فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ» ثُمَّ قَالَ: «لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا المسلم الكافر» (هذا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ)، وَبِمَا ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اشْتَرَى مِنْ (صَفْوَانَ بْنِ أُمية) دَارًا بِمَكَّةَ فَجَعَلَهَا سِجْنًا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ درهم، وذهب

إسحاق بن راهوية إلى أنها لا تُوَرَّثُ وَلَا تُؤَجَّرُ، وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنَ السلف، واحتج إسحاق بن راهوية بما روي عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا تُدْعَى رِبَاعُ مَكَّةَ إِلَّا السَّوَائِبَ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن (رواه ابن ماجه عن علقمة بن نضلة). وقال عبد الله بن عمرو: لَا يَحِلُّ بَيْعُ دَوْرِ مَكَّةَ وَلَا كِرَاؤُهَا، وكان عطاء يهنى عن الكراء في الحرم. وقال عمر بن الخطاب: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَتَّخِذُوا لِدَوْرِكُمْ أَبْوَابًا لينزل البادي حيث يشاء، وروى الدارقطني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا: "مِنْ أَكَلَ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ أَكَلَ نَارًا:، وَتَوَسَّطَ الإمام أحمد فقال: تملك ولا تورث وَلَا تُؤَجَّرُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقوله تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} قال بعض المفسرين: الباء ههنا زائدة، كقوله: {تَنبُتُ بالدهن} أَيْ تُنْبِتُ الدُّهْنَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} تقديره إلحاداً. والأجود أنه ضمن الفعل ههنا بمعنى يَهُمُّ، وَلِهَذَا عَدَّاهُ بِالْبَاءِ فَقَالَ: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} أَيْ يَهُمُّ فِيهِ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ مِنَ الْمَعَاصِي الْكِبَارِ، وَقَوْلُهُ: {بِظُلْمٍ} أَيْ عَامِدًا قَاصِدًا أَنَّهُ ظلم ليس بمتأول، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: بِظُلْمٍ بِشِرْكٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ يُعْبَدَ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِظُلْمٍ هُوَ أَنْ تَسْتَحِلَّ مِنَ الْحَرَمِ مَا حرم الله عليك من إساءة أَوْ قَتْلٍ فَتَظْلِمَ مَنْ لَا يَظْلِمُكَ وَتَقْتُلَ مَنْ لَا يَقْتُلُكَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ لَهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِظُلْمٍ يعلم فِيهِ عَمَلًا سَيِّئًا، وَهَذَا مِنْ خُصُوصِيَّةِ الْحَرَمِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ الْبَادِي فِيهِ الشَّرَّ إِذَا كَانَ عَازِمًا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُوقِعْهُ كَمَا قَالَ ابن مسعود: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ وهو بعدن أبين لأذاقه الله من العذاب الأليم (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً). وقال الثوري عن عبد الله بن مسعود قَالَ: مَا مِنْ رَجُلٍ يَهُمُّ بِسَيِّئَةٍ فَتُكْتَبُ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بِعَدَنِ أَبَيْنَ هَمَّ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا بِهَذَا الْبَيْتِ لَأَذَاقَهُ اللَّهُ من العذاب الأليم؛ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: شَتْمُ الْخَادِمِ ظُلْمٌ فما فوقه؛ وقال ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ مَعَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا مُهَاجِرٌ وَالْآخَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَافْتَخَرُوا فِي الْأَنْسَابِ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فَقَتَلَ الْأَنْصَارِيَّ، ثم ارتد عن الإسلام، ثم هرب إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلَتْ فِيهِ: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} يَعْنِي مَنْ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ بِإِلْحَادٍ يَعْنِي بِمَيْلٍ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَهَذِهِ الْآثَارُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْإِلْحَادِ، وَلَكِنْ هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ فِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهَا؛ وَلِهَذَا لَمَّا هَمَّ أَصْحَابُ الْفِيلِ عَلَى تَخْرِيبِ الْبَيْتِ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ {طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} أَيْ دَمَّرَهُمْ وَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً وَنَكَالًا لِكُلِّ مَنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «يَغْزُو هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ حَتَّى إِذَا كَانُوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم» وعن سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: أَتَى عبدُ اللَّهِ بن عمر عبدَ الله بن الزُّبَيْرِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْحِجْرِ فَقَالَ: يَا ابن الزُّبَيْرِ إِيَّاكَ وَالْإِلْحَادَ فِي الْحَرَمِ، فَإِنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَحِلُّهَا وَيَحِلُّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لو وُزِنَتْ ذُنُوبُهُ بِذُنُوبِ الثَّقَلَيْنِ لَوَزَنَتْهَا» قَالَ: فَانْظُرْ لا تكن هو (أخرجه الإمام أحمد).

- 26 - وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ - 27 - وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فج عميق ذكر تَعَالَى أَنَّهُ بَوَّأَ إِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَيْ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ، وَسَلَّمَهُ لَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي بِنَائِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ قَالَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ بَنَى البيت العتيق وأنه لم يبن قبله، كمت ثبت في الصحيحين عَنِ أَبِي ذَرٍّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «بَيْتُ الْمَقْدِسِ» قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً»، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للَّذي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} الآيتين، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ للطائفي والعاكفين والركع السجود} وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ مَا وَرَدَ فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ مِنَ الصِّحَاحِ وَالْآثَارِ بِمَا أَغْنَى عَنِ إعادته ههنا، وقال تعالى ههنا: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} أَيِ ابْنِهِ عَلَى اسْمِي وَحْدِي {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} قال مجاهد: مِّن الشِّرْكِ {لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أَيِ اجْعَلْهُ خَالِصًا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَالطَّائِفُ بِهِ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَخَصُّ الْعِبَادَاتِ عِنْدَ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ لَا يُفْعَلُ بِبُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ سِوَاهَا {وَالْقَائِمِينَ} أَيْ فِي الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فَقَرَنَ الطَّوَافَ بِالصَّلَاةِ لِأَنَّهُمَا لَا يُشْرَعَانِ إِلَّا مُخْتَصَّيْنِ بِالْبَيْتِ. وقوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أَيْ نَادِ فِي الناس بالحج داعياً لهم لحج هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَمَرْنَاكَ بِبِنَائِهِ فَذُكِرَ أَنَّهُ قال: يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال: نَادِ وَعَلَيْنَا الْبَلَاغُ، فَقَامَ عَلَى مَقَامِهِ، وَقِيلَ عَلَى الْحَجَرِ، وَقِيلَ عَلَى الصَّفَا، وَقِيلَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ رَبَّكُمْ قَدِ اتَّخَذَ بَيْتًا فَحُجُّوهُ، فَيُقَالُ: إِنَّ الْجِبَالَ تَوَاضَعَتْ حَتَّى بَلَغَ الصَّوْتُ أَرْجَاءَ الْأَرْضِ، وَأَسْمَعَ مَنْ فِي الْأَرْحَامِ وَالْأَصْلَابِ، وَأَجَابَهُ كُلُّ شَيْءٍ سَمِعَهُ مِنْ حَجَرٍ وَمَدَرٍ وَشَجَرٍ، وَمَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَحُجُّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لبيك اللهم لبيك؛ هذا مضمون ما ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وأوردها ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مُطَوَّلَةً، وَقَوْلُهُ: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضامر} (الضامر: البعير الذي قد هزل من كثرة المشي) الآية. قَدْ يَسْتِدَلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ رَاكِبًا لِأَنَّهُ قَدَّمَهُمْ فِي الذِّكْرِ، فَدَلَّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِمْ وَقُوَّةِ هممهم وشدة عزمهم، وقال ابن عباس: ما أساء على شَيْءٍ أَلاَ أني وددت أني كنت حججت ماشياً، لأنه الله يقول: {يَأْتُوكَ رِجَالاً}، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْحَجَّ رَاكِبًا أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ حَجَّ رَاكِبًا مَعَ كَمَالِ قُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُ: {يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ} يَعْنِي طَرِيقٍ، كَمَا قَالَ: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً}، وقوله: {عَميِقٍ} أي بعيد، وهذه الآية كقوله تعالى: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ}، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إِلَّا وَهُوَ يحن إلى رؤية الكعبة والطواف، والناس يَقْصِدُونَهَا مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ وَالْأَقْطَارِ.

- 28 - لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ - 29 - ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ}، قَالَ: مَنَافِعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا مَنَافِعُ الْآخِرَةِ فَرِضْوَانُ الله تعالى، وَأَمَّا مَنَافِعُ الدُّنْيَا فَمَا يُصِيبُونَ مِنْ مَنَافِعِ البدن والذبائح وَالتِّجَارَاتِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّهَا مَنَافِعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تتبغوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ}، وَقَوْلُهُ: {وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}، قَالَ ابن عباس: الأيام المعلومات أيام العشر، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ عَنِ أَحْمَدَ بْنِ حنبل، وقال البخاري عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا الْعَمَلُ فِي أَيْامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ» قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ يَخْرُجُ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بشيء»، وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيْامٍ أعظم عند الله ولا أحب إليه العلم فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد»، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيْامِ الْعَشْرِ فَيُكَبِّرَانِ ويكبر الناس بتكبيرهما، وقد روى عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا إِنَّ هَذَا هُوَ الْعَشْرُ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ}؛ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَأَتْمَمْنَاهَا بعشر}. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ هَذَا الْعَشْرَ، وَهَذَا الْعَشْرُ مُشْتَمِلٌ عَلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، وقد سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: أَحْتَسِبْ عَلَى الله أن يكفر السنة الماضية والآتية (أخرجه الإمام مسلم في صحيحه)، وَيَشْتَمِلُ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَيْامِ عِنْدَ اللَّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الْعَشْرُ قَدْ قِيلَ إِنَّهُ أَفْضَلُ أَيْامِ السَّنَةِ كَمَا نطق به الحديث، وفضّله كَثِيرٌ عَلَى عَشْرِ رَمَضَانَ الْأَخِيرِ، لِأَنَّ هَذَا يُشْرَعُ فِيهِ مَا يُشْرَعُ فِي ذَلِكَ مِنْ صلاة وصيام وصدقة وغيرها، وَيَمْتَازُ هَذَا بِاخْتِصَاصِهِ بِأَدَاءِ فَرْضَ الْحَجِّ فِيهِ، وقيل ذلك أَفْضَلُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ؛ وَتَوَسَّطَ آخَرُونَ فَقَالُوا: أَيْامُ هَذَا أَفْضَلُ وَلَيَالِي ذَاكَ أَفْضَلُ؛ وَبِهَذَا يَجْتَمِعُ شَمْلُ الْأَدِلَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (قَوْلٌ ثَانٍ) في الأيام المعلومات: قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَيْامُ الْمَعْلُومَاتُ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أيام بعده؛ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عنه. (قول ثالث): عن نافع عن ابن عمر كان يقول: الأيام المعلومات المعدوات هُنَّ جَمِيعُهُنَّ أَرْبَعَةُ أَيْامٍ، فَالْأَيْامُ الْمَعْلُومَاتُ يَوْمُ النحر ويومان بعده، والأيام المعدوات ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهو مذهب الإمام مالك بن أنَس. (قَوْلٌ رَابِعٌ): إِنَّهَا يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمٌ آخَرُ بَعْدَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلُهُ: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} يَعْنِي الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ كَمَا فَصَّلَهَا تَعَالَى في سورة الْأَنْعَامِ. وَقَوْلُهُ: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْأَكْلِ مِنَ الْأَضَاحِيِّ، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ أَوِ الِاسْتِحْبَابِ، كَمَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَحَرَ هَدْيَهُ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَتُطْبَخُ فَأَكَلَ مِنْ لحمها وحسا من مرقها، وقال مَالِكٌ أُحِبُّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ، لِأَنَّ الله يقول: {فَكُلُواْ مِنْهَا}، وقال سفيان الثوري عن إبراهيم {فَكُلُواْ مِنْهَا} قال: الْمُشْرِكُونَ لَا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، فَرُخِّصَ لِلْمُسْلِمِينَ، فمن شاء أكل ومن لم يشأ لم يأكل. وعن مجاهد في قوله: {فَكُلُواْ مِنْهَا} قال: هي كقوله: {فإذا حللتم فاصطادوا} {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض}، وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره.

وقوله تعالى: {الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} قَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْمُضْطَرُّ الَّذِي يظهر عليه البؤس وهو الفقير الْمُتَعَفِّفُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي لَا يَبْسُطُ يَدَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الزَّمِن. وَقَالَ مُقَاتِلُ: هُوَ الضَّرِيرُ، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ}، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ وَضْعُ الْإِحْرَامِ مِنْ حَلْقِ الرأس، ولبس الثيابن وقص الأظافر ونحو ذلك، وقوله: {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} يَعْنِي نَحْرَ مَا نَذَرَ مِنْ أَمْرِ الْبُدْنِ، وقال مُجَاهِدٍ {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} نَذْرَ الْحَجِّ وَالْهَدْيِ وَمَا نَذَرَ الْإِنْسَانُ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْحَجِّ، وعنه: كل نذر إلى أجل، وَقَوْلُهُ: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الطواف الواجب يوم النحر، وقال أبو حَمْزَةَ قَالَ، قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَقْرَأُ سورة الحج، يقول الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}؟ فَإِنَّ آخِرَ الْمَنَاسِكِ الطَّوَافُ بالبيت العتيق (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس)، قُلْتُ: وَهَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إِلَى مِنى يوم النحر بدأ برمي الْجَمْرَةَ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ نَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَفِي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ الطَّوَافُ إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ، وَقَوْلُهُ: {بِالْبَيْتِ العتيق}، قال الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} قال: لأنه أول بيت وضع للناس، وَقَالَ خَصِيفٌ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ لِأَنَّهُ لم يظهر عليه جبار قط. وعن مجاهد: لم يرده أحد بسوء إلا هلك، وفي الحديث: «إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عليه جبار» (أخرجه الترمذي عن عبد الله بن الزبير مرفوعاً وكذا رواه ابن جرير وقال الترمذي: حديث حسن غريب). روي مرفوعاً ومرسلاً.

- 30 - ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ - 31 - حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ يَقُولُ تَعَالَى هَذَا الَّذِي أَمَرْنَا بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ فِي أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ وما يلقى عليها مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} أي ومن يجتنب معاصيه ومحارمه، {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} أَيْ فَلَهُ عَلَى ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ، فَكَمَا فعل الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل، كذلك على ترك المحرمات واجتناب المحظورات. قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله} قال: الحرمات مَكَّةُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ من معاصيه كلها، وَقَوْلُهُ: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي أحللنا لكم جميع الأنعام، وَقَوْلُهُ: {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أَيْ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لغير الله به والمنخقة الآية، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَحَكَاهُ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَوْلُهُ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}، أَيِ اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ، وَقَرَنَ الشِّرْكَ بِاللَّهِ بِقَوْلِ الزُّورِ، كَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وَمِنْهُ شَهَادَةُ الزُّورِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ - وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ - فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ"؛ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى

قلنا: ليته سكت. وعن خُرَيْمِ بْنِ فَاتَكٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا، فَقَالَ: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ عزَّ وجلَّ»، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ به} (أخرجه الإمام أحمد في المسند)، وَقَوْلُهُ: {حُنَفَآءَ للَّهِ}: أَيْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مُنْحَرِفِينَ عَنِ الْبَاطِلِ قَصْدًا إِلَى الْحَقِّ، وَلِهَذَا قَالَ: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}، ثُمَّ ضَرَبَ لِلْمُشْرِكِ مَثَلًا فِي ضَلَالِهِ وَهَلَاكِهِ وَبُعْدِهِ عَنِ الْهُدَى، فَقَالَ: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} أَيْ سَقَطَ مِنْهَا، {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} أَيْ تَقْطَعُهُ الطُّيُورُ فِي الْهَوَاءِ، {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أَيْ بَعِيدٍ، مُهْلِكٍ لِمَنْ هَوَى فِيهِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا تَوَفَّتْهُ مَلَائِكَةُ الْمَوْتِ وَصَعِدُوا بِرُوحِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَا تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، بَلْ تُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا مِنْ هناك، ثم قرأ هذه الآية: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}.

- 32 - ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ - 33 - لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ يَقُولُ تَعَالَى: هَذَا {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} أَيْ أَوَامِرَهُ، {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}، وَمِنْ ذَلِكَ تعظيم الهدايا والبدن، كما قال ابن عباس: تعظيمها استسمانها واستحسانها. وقال أبو أمامة عن سَهْلٍ: كنَّا نسمِّن الْأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يسمِّنون (رواه البخاري في صحيحه). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَمُ عَفْرَاءَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ»، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، قَالُوا: وَالْعَفْرَاءُ - هِيَ الْبَيْضَاءُ بَيَاضًا لَيْسَ بِنَاصِعٍ، فَالْبَيْضَاءُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا، وَغَيْرُهَا يُجْزِئُ أَيْضًا لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوئين، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن نستشرف العين والأذن، وأن لا نُضَحِّيَ بِمُقَابَلَةٍ وَلَا مُدَابَرَةٍ، وَلَا شَرْقَاءَ وَلَا خرقاء؛ وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الْأَضَاحِي: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، والعرجاء البيّن ضلعها، والكسيرة التي لا تنقي" (رواه أحمد وأصحاب السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ)، وَهَذِهِ الْعُيُوبُ تَنْقُصُ اللَّحْمَ لضعفها وعجزها عن اسكتمال الرَّعْيِ، لِأَنَّ الشَّاءَ يَسْبِقُونَهَا إِلَى الْمَرْعَى، فَلِهَذَا لَا تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ من الأئمة كما هو ظاهر الحديث، ولهذا جاء في الحديث: أمرنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ أَيْ أَنْ تَكُونَ الْهَدْيَةُ أَوِ الْأُضْحِيَّةُ سمينة حسنة ثمينة، كما روى عبد الله بن عمر: أهدي عمر نجيباً فأعطى بها ثلثمائة دِينَارٍ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَهْدَيْتُ نُجَيْبًا فأعطيت بها ثلثمائة دِينَارٍ، أَفَأَبِيعُهَا وَأَشْتَرِي بِثَمَنِهَا بُدْنًا؟ قَالَ: «لَا، إنحرها إياها» (رواه الإمام أحمد وأبو داود). وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْبُدْنُ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُوسَى: الْوُقُوفُ وَمُزْدَلِفَةُ وَالْجِمَارُ والرمي والحلق والبدن مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ؛ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْظَمُ الشعائر البيت.

وقوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أَيْ لَكُمْ فِي الْبُدْنِ مَنَافِعُ مِنْ لَبَنِهَا وَصُوفِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَرُكُوبِهَا إلى أجل مسمى، قال مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} قَالَ: الرُّكُوبُ وَاللَّبَنُ وَالْوَلَدُ، فَإِذَا سُمِّيَتْ بَدَنَةً أَوْ هَدْيًا ذَهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ (كذا قال عطاء والضحاك وقتادة وَغَيْرُهُمْ)، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ هَدْيًا إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً قَالَ: «ارْكَبْهَا» قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: «ارْكَبْهَا وَيْحَكَ» فِي الثَّانيَةِ أو الثالثة، وفي رواية لمسلم: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها». وعن عَلِيٍّ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً وَمَعَهَا وَلَدُهَا، فَقَالَ: لَا تَشْرَبْ مِنْ لَبَنِهَا إِلَّا مَا فَضُلَ عَنْ وَلَدِهَا فَإِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَاذْبَحْهَا وَوَلَدَهَا، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أَيْ مَحِلُّ الْهَدْيِ وَانتِهَاؤُهُ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَهُوَ الْكَعْبَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَدْياً بَالِغَ الكعبة}، وقال: {والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}. وقال عَطَاءٍ، كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كُلُّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.

- 34 - وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ - 35 - الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ ذَبْحُ الْمَنَاسِكِ وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ مَشْرُوعًا فِي جميع الملل، قال ابن عباس {مَنْسكا}: عِيدًا، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ذَبَحًا، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً}: إنها مكة لَّمْ يَجْعَلِ الله لأمة مَنْسَكًا غَيْرَهَا، وَقَوْلُهُ: {لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ فسمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا، وقال الإمام أحمد بن حنبل عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ، قُلْتُ أَوْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ؟ قَالَ: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ»، قَالُوا: مَا لَنَا مِنْهَا؟ قَالَ: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ»، قَالُوا: فَالصُّوفُ؟ قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة» (أخرجه الإمام أحمد في المسند)، وَقَوْلُهُ: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ} أَيْ مَعْبُودُكُمْ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ وَنَسَخَ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَالْجَمِيعُ يَدْعُونَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون}، وَلِهَذَا قَالَ: {فَلَهُ أَسْلِمُواْ} أَيْ أَخْلِصُوا وَاسْتَسْلِمُوا لِحُكْمِهِ وَطَاعَتِهِ، {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُطْمَئِنِّينَ، وقال الضحاك: المتواضعين، وقال السدي: الوجلين، وقال الثوري: الْمُطْمَئِنِّينَ الرَّاضِينَ بِقَضَاءِ اللَّهِ الْمُسْتَسْلِمِينَ لَهُ، وَأَحْسَنُ مَا يُفَسَّرُ بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أَيْ خَافَتْ مِنْهُ قُلُوبُهُمْ، {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ} أَيْ من المصائب، قال الحسن البصري: والله لنصبرن أو لنهلكن، {والمقيمي الصلاة} أَيِ الْمُؤَدِّينَ حَقَّ اللَّهِ فِيمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أَيْ وَيُنْفِقُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ طَيِّبِ الرِّزْقِ على أهليهم وأقاربهم وفقرائهم ومحاويجهم، ويحسنون إلى الخلق مع محافظتهم على حدود الله.

- 36 - وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عَبِيدِهِ فِيمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْبُدْنِ وَجَعَلَهَا مِنْ شَعَائِرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَهَا تُهْدَى إِلَى بَيْتِهِ الحرام بل هي أفضل ما يهدى إليه. قال عطاء {والبدن} الْبَقَرَةُ وَالْبَعِيرُ (وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ). وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إنما البدن من الإبل، وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ إِطْلَاقِ الْبَدَنَةِ عَلَى الْبَقَرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا ذَلِكَ شرعاً كما صح الْحَدِيثِ، ثُمَّ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ تُجْزِئُ الْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، كَمَا ثبت عن جابر بن عبد الله قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْأَضَاحِيِّ: الْبَدَنَةُ عَنْ سبعة، والبقرة عن سبعة (أخرجه الإمام مسلم في صحيحه)، وَقَوْلُهُ: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} أَيْ ثَوَابٌ فِي الدار الآخرة، لما روي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إهراق دم وإنها لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يقع من الْأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ والترمذي وحسنه)، وقال سفيان الثوري: كان أبو حازم يَسْتَدِينُ وَيَسُوقُ الْبُدْنَ، فَقِيلَ لَهُ: تَسْتَدِينُ وَتَسُوقُ الْبُدْنَ؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ {لَكُمْ فيها خَيْرٌ}، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} قَالَ: أَجْرٌ وَمَنَافِعُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يَرْكَبُهَا وَيَحْلِبُهَا إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهَا، وَقَوْلُهُ: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ}، وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيدَ الْأَضْحَى، فَلَمَّا انصَرَفَ أَتَى بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ، فَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهِ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمَّ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وأبو داود والترمذي). وروى محمد بن إسحاق عَنْ جَابِرٍ قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَقَالَ حِينَ وَجَّهَهُمَا: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً، وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ له بذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ عن محمد وأمته»، ثم سمَّى وَكَبَّرَ وَذَبَحَ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا ضَحَّى اشْتَرَى كَبْشَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَإِذَا صَلَّى وَخَطَبَ النَّاسَ أُتِيَ بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ قَائِمٌ فِي مُصَلَّاهُ فَذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ بِالْمُدْيَةِ ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ أمتي جميعاً مَنْ شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ، ثُمَّ يُؤتى بِالْآخَرِ فَيَذْبَحُهُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: «هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» فَيُطْعِمُهَا جَمِيعًا للمساكين وَيَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْهُمَا (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ ماجه). وقال الاعمش عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ} قال: قياماً عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ مَعْقُولَةٌ يَدُهَا الْيُسْرَى يَقُولُ: باسم الله والله أكبر لا إله إلا الله، اللهم منك ولك، وَقَالَ لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِذَا عُقِلَتْ رِجْلُهَا اليسرى قامت عَلَى ثَلَاثٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنه أتى على رجل قد أناخ بدنة وَهُوَ يَنْحَرُهَا فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سنَّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم (أخرجه البخاري ومسلم)، وعن جابر

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: كانوا ينحرون البدون مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قوائمها (رواه أبو داود في سننه). وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يعني نحرت، وقال ابن أَسْلَمَ: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يَعْنِي مَاتَتْ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنَ الْبَدَنَةِ إِذَا نُحِرَتْ حَتَّى تَمُوتَ وَتَبْرُدَ حَرَكَتُهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي حديث مرفوع: «لا تعجلوا النفوس أن تزهق»، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» (أخرجه مسلم في صحيحه). وَقَوْلُهُ: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: قَوْلُهُ: {فَكُلُواْ مِنْهَا} أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ، وَقَالَ غَيْرُهُ يَجِبُ، واختلفوا في المراد بالقانع والمعتر، فقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقَانِعُ الْمُسْتَغْنِي بِمَا أَعْطَيْتَهُ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لَكَ وَيُلِمُّ بِكَ أَنْ تُعْطِيَهُ مِنَ اللَّحْمِ وَلَا يَسْأَلُ، وكذا قال مجاهد، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقَانِعُ الْمُتَعَفِّفُ، وَالْمُعْتَرُّ السَّائِلُ (وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ فِي رِوَايَةٍ عنه)، وقال سعيد ابن جبير: القانع هو السائل، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّمَّاخِ: لمَالُ المرءِ يُصْلِحُهُ فيغني * مفاقَره أعفُّ من القنوع أي: يغني من السؤال، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْقَانِعُ الْمِسْكِينُ الَّذِي يطوف، والمعتر الصديق والضعيف الذي يزور، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَنَّ الْقَانِعَ هُوَ السَّائِلُ لِأَنَّهُ مَنْ أَقْنَعَ بِيَدِهِ إِذَا رَفَعَهَا لِلسُّؤَالِ، والمعتر من الاعتراء وهو الذي يتعرص لأكل اللحم، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلنَّاسِ: «إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَكَلُّوا وَادَّخِرُوا مَا بَدَا لَكُمْ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «فكلوا وادخروا وتصدقوا». مسْألة عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فإنما هو لحم قدمه لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ» (أَخْرَجَاهُ في الصحيحين)، فَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ أول وقت ذبح الأضاحي إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ النَّحْرِ وَمَضَى قَدْرُ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْخُطْبَتَيْنِ، زَادَ أَحْمَدُ: وَأَنْ يَذْبَحَ الْإِمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ، لِمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مسلم: وأن لا تَذْبَحُوا حَتَّى يَذْبَحَ الْإِمَامُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أما أهل السواد من القرى ونحوها فَلَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِذْ لا صلاة عيد تشرع عِنْدَهُ لَهُمْ، وَأَمَّا أَهْلُ الْأَمْصَارِ فَلَا يَذْبَحُوا حَتَّى يُصَلِّيَ الْإِمَامُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قِيلَ: لَا يُشْرَعُ الذَّبْحُ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ وَحْدَهُ، وَقِيلَ: يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمٌ بَعْدَهُ لِلْجَمِيعِ، وَقِيلَ: ويومان بعده، وبه قال الإمام أَحْمَدُ، وَقِيلَ: يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، لِحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أيام التشريق كلها ذبح» (رواه الإمام أحمد وابن حبان)، وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، يَقُولُ تَعَالَى مَّنْ أَجْلِ هَذَا {سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} أَيْ ذللناها لكم وجعلناها مُنْقَادَةً لَكُمْ خَاضِعَةً إِنْ شِئْتُمْ رَكِبْتُمْ وَإِنْ شئتم حلبتم وإن شئتم ذبحتم {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

- 37 - لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ يَقُولُ تعالى إنما شرع لكم نحر هذه الضحايا لتذكروه عند ذبحها، فإنه الخالق الرزاق لا يناله شيء من لحومها ولا دمائها، فهو الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ، وَقَدْ كَانُوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ إِذَا ذَبَحُوهَا لِآلِهَتِهِمْ، وَضَعُوا عَلَيْهَا مِنْ لُحُومٍ قَرَابِينِهِمْ وَنَضَحُوا عَلَيْهَا مِنْ دِمَائِهَا، فَقَالَ تَعَالَى: {لَن يَنَالَ اللهَ لحومُها وَلاَ دِمَآؤُهَا}. عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَنْضَحُونَ الْبَيْتَ بِلُحُومِ الْإِبِلِ وَدِمَائِهَا، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَنْضَحَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى منكم} (أخرجه ابن أبي حاتم) أَيْ يَتَقَبَّلُ ذَلِكَ وَيَجْزِي عَلَيْهِ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قلوبكم وأعمالكم». وجاء في الحديث: «أن الصدقة لتقع فِي يَدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بمكان قبل أن يقع إلى الأرض» (تقدم الحديث عن عائشة مرفوعاً وقد رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه)، وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَّكُمْ} أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سَخَّرَ لَكُمُ الْبُدْنَ {لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى ما هَدَاكُمْ} أي لتعظموه على مَا هَدَاكُمْ لدينه وشرعه وما يحبه ويرضاه، وَنَهَاكُمْ عَنْ فِعْلِ مَا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، وَقَوْلُهُ: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} أَيْ وَبَشِّرْ يَا مُحَمَّدُ الْمُحْسِنِينَ فِي عَمَلِهِمُ، الْقَائِمِينَ بِحُدُودِ اللَّهِ، الْمُتَّبِعِينَ مَا شُرِعَ لَهُمُ، الْمُصَدِّقِينَ الرَّسُولَ فِيمَا أَبْلَغَهُمْ وَجَاءَهُمْ به من عند ربه عزَّ وجلَّ.

- 38 - إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِن اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ يُخْبِرُ تَعَالَى: أَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ تَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَأَنَابُوا إِلَيْهِ، شَرَّ الْأَشْرَارِ وَكَيْدَ الْفُجَّارِ، وَيَحْفَظُهُمْ وَيَكْلَؤُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}؟ وَقَالَ: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} أَيْ لَا يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذَا، وَهُوَ الْخِيَانةُ فِي الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، لا يفي بما قال، والكفر: والجحد لِلنِّعَمِ فَلَا يَعْتَرِفُ بِهَا.

- 39 - أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ - 40 - الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبَّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عزيز قال ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ حِينَ أخرجوا من مكة، وقال مجاهد والضحاك وغير وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ في الجهاد، وقال ابن جرير عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أُخْرِجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ لَيُهْلَكُنَّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ

عزَّ وجلَّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}، قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه: فعرفت أنه سيكون قتال، زاد أحمد: وهي أول آية نزلت في القتال (أخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن). وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى نَصْرِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَلَكِنْ هُوَ يُرِيدُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يبذلوا جهدهم في طاعته كما قال: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ، وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ الله أعمالهم}، وَقَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مؤمنين}، وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين}، وقال: {ولنبلوكم حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وقد فعل، وإنما شرع تَعَالَى الْجِهَادَ فِي الْوَقْتِ الْأَلْيَقِ بِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا بِمَكَّةَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ عَدَدًا، فلو أمر المسلمون وهم أقل بِقِتَالِ الْبَاقِينَ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا لَمَّا بَايَعَ أَهْلُ يَثْرِبَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا نَيِّفًا وَثَمَانِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَمِيلُ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي، يَعْنُونَ أَهْلَ مِنًى لَيَالِيَ مِنًى فَنَقْتُلُهُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني لم أومر بِهَذَا»، فَلَمَّا بَغَى الْمُشْرِكُونَ وَأَخْرَجُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَهَمُّوا بقتله وشردوا أصحابه، فلما استقروا بالمدينة وَصَارَتْ لَهُمْ دَارُ إِسْلَامٍ، وَمَعْقِلًا يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ، شَرَعَ اللَّهُ جِهَادَ الْأَعْدَاءِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أُخْرِجُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ يَعْنِي مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، {إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبَّنَا اللَّهُ} أَيْ مَا كَانَ لَهُمْ إساءة ولا ذنب، إلا أنهم وحدوا الله وعبدوه لا شريك له، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ}، وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الحميد}. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم، ويكف شرور أُنَاسٍ عَنْ غَيْرِهِمْ، بِمَا يَخْلُقُهُ وَيُقَدِّرُهُ مِنَ الأسباب لفسدت الأرض، ولأهلك القوي الضعيف، {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} وهي المعابد للرهبان (قاله ابن عباس ومجاهد وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ)، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَعَابِدُ الصابئين، وفي رواية عنه: صوامع المجوس، {وَبِيَعٌ} وهي أوسع منها وهي للنصارى أيضاً، وَحَكَى ابْنُ جُبَيْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهَا كنائس اليهود، وعن ابن عباس: أنها كنائس اليهود، وقوله: {وَصَلَوَاتٌ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الصَّلَوَاتُ الْكَنَائِسُ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: إِنَّهَا كَنَائِسُ الْيَهُودِ وَهُمْ يُسَمُّونَهَا صلوات، وحكى السدي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا كَنَائِسُ النَّصَارَى، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُ: الصَّلَوَاتُ مَعَابِدُ الصَّابِئِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٍ: الصَّلَوَاتُ مَسَاجِدُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَلِأَهْلِ الْإِسْلَامِ بِالطُّرُقِ، وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ فَهِيَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}، فَقَدْ قِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {يُذْكَرُ فِيهَا} عَائِدٌ إِلَى الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْجَمِيعُ يُذْكَرُ فيها اللَّهِ كَثِيرًا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الصَّوَابُ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ الرُّهْبَانِ وَبِيَعُ النَّصَارَى وَصَلَوَاتُ الْيَهُودِ وَهِيَ كَنَائِسُهُمْ وَمَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله

كَثِيرًا، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَذَا تَرَقٍ من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَهِيَ أَكْثَرُ عُمّاراً وَأَكْثَرُ عبَّاداً، وَهُمْ ذَوُو الْقَصْدِ الصَّحِيحِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}، كقوله تعالى: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ؛ فَبِقُوَّتِهِ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وَبِعِزَّتِهِ لَا يَقْهَرُهُ قَاهِرٌ، وَلَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ ذَلِيلٌ لَدَيْهِ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ نَاصِرَهُ فَهُوَ الْمَنْصُورُ، وَعَدُوُّهُ هُوَ الْمَقْهُورُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون}، وَقَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ لقوي عزيز}.

- 41 - الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ ولله عاقبة الأمور قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: فِينَا نَزَلَتْ {الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ} فَأُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ قُلْنَا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ مُكِّنَّا فِي الْأَرْضِ، فَأَقَمْنَا الصَّلَاةَ وَآتَيْنَا الزَّكَاةَ، وَأَمَرْنَا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْنَا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ، فَهِيَ لِي وَلِأَصْحَابِي (أخرجه ابن أبي حاتم عن عثمان رضي الله عنه). وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض}، وَقَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَاقِبَةُ للمتقين}، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} وَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ مَا صَنَعُوا.

- 42 - وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ - 43 - وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ - 44 - وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ - 45 - فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ - 46 - أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ - إِلَى أَنْ قَالَ - وَكُذِّبَ مُوسَى} أَيْ مَعَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الآيات وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ، {فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} أَيْ أَنْظَرْتُهُمْ وَأَخَّرْتُهُمْ، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} أَيْ فَكَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي عليهم ومعاقبتي لهم؟! وذكر بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ قَوْلِ فِرْعَوْنَ لقومه {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} وَبَيْنَ إِهْلَاكِ اللَّهِ لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَفِي الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، ثُمَّ قرأ {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إذ أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شديد} (أخرجه البخاري ومسلم)، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي كم

مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْتُهَا {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أَيْ مُكَذِّبَةٌ لرسلها، {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}، قَالَ الضَّحَّاكُ: سُقُوفُهَا، أَيْ قَدْ خُرِّبَتْ مَنَازِلُهَا وَتَعَطَّلَتْ حَوَاضِرُهَا، {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} أَيْ لَا يُسْتَقَى مِنْهَا وَلَا يَرِدُهَا أَحَدٌ، بَعْدَ كَثْرَةِ وَارِدِيهَا وَالِازْدِحَامِ عَلَيْهَا، {وَقَصْرٍ مشيد} قال عكرمة: يعني المبيض بالجص، وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ الْمَنِيفُ الْمُرْتَفِعُ، وَقَالَ آخَرُونَ: المشيد الْمَنِيعُ الْحَصِينُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْمِ أهلَه شدةُ بِنَائِهِ وَلَا ارْتِفَاعُهُ وَلَا إِحْكَامُهُ وَلَا حَصَانَتُهُ عَنْ حُلُولِ بَأْسِ اللَّهِ بِهِمْ، كَمَا قَالَ تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يدركم الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}، وَقَوْلُهُ: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ بِأَبْدَانِهِمْ وبفكرهم أيضاً، وذلك للاعتبار، أي انظروا مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ مِنَ النِّقَمِ وَالنَّكَالِ، {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أَيْ فَيَعْتَبِرُونَ بِهَا، {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أَيْ لَيْسَ الْعَمَى عَمَى الْبَصَرِ، وَإِنَّمَا الْعَمَى عَمَى الْبَصِيرَةِ، وَإِنْ كَانتِ الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ سَلِيمَةً فَإِنَّهَا لَا تَنْفُذُ إِلَى الْعِبَرِ وَلَا تدري ما الخبر.

- 47 - وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ - 48 - وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} أَيْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْمُلْحِدُونَ الْمُكَذِّبُونَ بِاللَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ واليوم الآخر، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كان هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أليم}، {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب}، وَقَوْلُهُ: {وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} أَيِ الَّذِي قَدْ وَعَدَ مِنْ إِقَامَةِ السَّاعَةِ، وَالِانتِقَامِ مِنْ أعدائه، والإكرام لأوليائه، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} أَيْ هُوَ تَعَالَى لَا يُعَجِّلُ فَإِنَّ مِقْدَارَ أَلْفِ سَنَةٍ عِنْدَ خَلْقِهِ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حُكْمِهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ عَلَى الِانتِقَامِ قَادِرٌ، وَأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وإن أجّل وأنظر، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وإليَّ المصير}. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ» (أخرجه ابن أبي حاتم والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حسن صحيح) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} قَالَ: مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي خلق فيها السماوات والأرض. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تعدون}.

- 49 - قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ - 50 - فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ - 51 - وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ طَلَبَ مِنْهُ الْكَفَّارُ وُقُوعَ الْعَذَابِ وَاسْتَعْجَلُوهُ بِهِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أَيْ إِنَّمَا أَرْسَلَنِي اللَّهُ إِلَيْكُمْ نَذِيرًا لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، وَلَيْسَ إِلَيَّ مِنْ حِسَابِكُمْ مِنْ شَيْءٍ، أَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَجَّلَ لَكُمُ الْعَذَابَ وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُ عَنْكُمْ، وَإِنْ شَاءَ تَابَ عَلَى مَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ أَضَلَّ مَنْ كَتَبَ

عليه الشقاوة وهو الفعال لما يشاء، {إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أَيْ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَصَدَقُوا إِيمَانَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ، {لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أَيْ مَغْفِرَةٌ لِمَا سَلَفَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَمُجَازَاةٌ حَسَنَةٌ عَلَى القليل من حسناتهم، قال القرظي (هو محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه): إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فَهُوَ الْجَنَّةُ، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْ مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {مُعَاجِزِينَ} مُرَاغِمِينَ {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وَهِيَ النار الحارة الوجعة، الشديد عذابها ونكالها أجارنا الله منها.

- 52 - وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نبيٌّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - 53 - لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ - 54 - وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مستقيم قد ذكر كثير من المفسرين ههنا (قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ) وَمَا كَانَ مِنْ رُجُوعِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ظَنًّا مِنْهُمْ أن مشركي قريش قد أسلموا، وخلاصتها عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ «النَّجْمَ» فَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الْمَوْضِعَ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} قَالَ: فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لسانه: «تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى»، قَالُوا: مَا ذَكَرَ آلِهَتَنَا بِخَيْرٍ قَبْلَ الْيَوْمِ فَسَجَدَ وَسَجَدُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نبيٌّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}؛ وَقَدْ ذَكَرَهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات والله أعلم. وقد ساقها البغوي في تفسيره ثم سأل ههنا سُؤَالًا: كَيْفَ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا مَعَ الْعِصْمَةِ المضمونة من الله تعالى لرسوله صلاة اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؟ ثُمَّ حَكَى أَجْوِبَةً عَنِ النَّاسِ، مِنْ أَلْطَفِهَا: أَنَّ الشَّيْطَانَ أَوْقَعَ فِي مَسَامِعِ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ، فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ صَدَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ من صنيع الشيطان، لا عن رَسُولِ الرَّحْمَنِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ أعلم. وَقَوْلُهُ: {إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلاة الله وسلامه عليه، قَالَ الْبُخَارِيُّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {فِي أُمْنِيَّتِهِ} إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ، فَيُبْطِلُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {إِذَا تَمَنَّى} يَعْنِي إِذَا قَالَ؛ ويقال أمنيته قراءته {إِلاَّ أَمَانِيَّ} يقرؤون وَلَا يَكْتُبُونَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ: {تَمَنَّى} أَيْ تَلَا وَقَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أَيْ فِي تِلَاوَتِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي عُثْمَانَ حِينَ قُتِلَ: تمنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ * وَآخِرَهَا لَاقَى حِمَام الْمَقَادِرِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ {إِذَا تَمَنَّى}: إِذَا تَلَا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بتأويل الكلام. وقوله تعالى: {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} حَقِيقَةُ النَّسْخِ لغة الإزالة والرفع، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ فَيُبْطِلُ

الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان (قال السيوطي بعدما ذكر هذه الروايات في اللباب: وكلها إما ضعيفة وإما منقطعة، قال الحافظ ابن حجر: لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً، وقال ابن العربي: إن هذه الروايات باطلة لا أصل لها)؛ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَسَخَ جِبْرِيلُ بِأَمْرِ اللَّهِ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ اللَّهُ آيَاتِهِ، وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} أي بما يكون من الأمور والحوداث لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ {حَكِيمٌ} أَيْ فِي تَقْدِيرِهِ وَخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، لَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أَيْ شَكٌّ وَشِرْكٌ وَكُفْرٌ وَنِفَاقٌ كَالْمُشْرِكِينَ حِينَ فَرِحُوا بِذَلِكَ واعتقدوا أنه صحيح من عند الله وَإِنَّمَا كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ {لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} هُمُ الْمُنَافِقُونَ، {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} هم المشركون، وقال مقاتل بن حيان: هم الْيَهُودُ، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أَيْ فِي ضَلَالٍ وَمُخَالَفَةٍ وَعِنَادٍ بَعِيدٍ أَيْ مِنَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} أَيْ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ النَّافِعَ الَّذِي يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الحق والباطل، والمؤمنون بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنَّ مَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ، هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الَّذِي أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَحِفْظِهِ، وَحَرَسَهُ أَنْ يَخْتَلِطَ بِهِ غَيْرُهُ، بَلْ هُوَ كتاب عَزِيزٌ {لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، وَقَوْلُهُ: {فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} أَيْ يُصَدِّقُوهُ وَيَنْقَادُوا لَهُ {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي تخضع وتذل لَهُ قُلُوبُهُمْ، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُرْشِدُهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَيُوَفِّقُهُمْ لِمُخَالَفَةِ الْبَاطِلِ وَاجْتِنَابِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَهْدِيهِمْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُوصِلِ إِلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّاتِ، وَيُزَحْزِحُهُمْ عَنِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَالدَّرَكَاتِ.

- 55 - وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ - 56 - الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ - 57 - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ فِي {مِرْيَةٍ} أَيْ فِي شَكٍّ وَرَيْبٍ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ {مِّنْهُ} أَيْ مِمَّا أَلْقَى الشَّيْطَانُ، {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} قَالَ مُجَاهِدٌ: فَجْأَةً، وَقَالَ قَتَادَةُ: {بَغْتَةً} بَغَتَ الْقَوْمَ أَمْرُ اللَّهِ، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ قوماً إِلَّا عِنْدَ سَكْرَتِهِمْ وَغَرَّتِهِمْ وَنِعْمَتِهِمْ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَغْتَرُّ بِاللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ، وَقَوْلُهُ: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} قال ابن أبي كعب: هو يوم بدر؛ وقال عكرمة ومجاهد: هُوَ يَوْمَ القيامة لا ليل له، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنْ كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُوعِدُوا بِهِ لَكِنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَلِهَذَا قَالَ: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}، كَقَوْلِهِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، وَقَوْلُهُ: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عسيرا} {فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أَيْ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَصَدَّقُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَمِلُواْ بِمُقْتَضَى مَا عَلِمُوا مع توافق قلوبهم وأقوالهم {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أَيْ لَهُمُ النَّعِيمُ الْمُقِيمُ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ وَلَا يَبِيدُ، {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا} أَيْ كَفَرَتْ قُلُوبُهُمْ بالحق وجحدته، وَكَذَّبُوا بِهِ وَخَالَفُوا الرُّسُلَ، وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِهِمْ، {فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أَيْ

مقابلة استكبارهم وإبائهم عَنِ الْحَقِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي صاغرين.

- 58 - وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ - 59 - لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ - 60 - ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّنْ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، وَطَلَبًا لِمَا عِنْدَهُ وَتَرَكَ الْأَوْطَانَ وَالْأَهْلِينَ وَالْخِلَّانَ، وَفَارَقَ بِلَادَهُ فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنُصْرَةً لِدِينِ اللَّهِ {ثُمَّ قُتِلُوا} أَيْ فِي الجهاد {أَوْ مَاتُواْ} أي حتف أنفهم مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ عَلَى فُرُشِهِمْ، فَقَدْ حَصَلُوا عَلَى الْأَجْرِ الْجَزِيلِ وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ على الله}، وَقَوْلُهُ: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} أَيْ لَيُجْرِيَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِهِ وَرِزْقِهِ مِنَ الْجَنَّةِ مَا تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} أَيِ الْجَنَّةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وجنة نعيم} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ الرَّاحَةُ وَالرِّزْقُ وَجَنَّةُ النعيم، كما قال ههنا: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً}، ثُمَّ قَالَ: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ} أَيْ بِمَنْ يُهَاجِرُ وَيُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، {حَلِيمٌ} أَيْ يَحْلُمُ وَيَصْفَحُ وَيَغْفِرُ لَهُمُ الذُّنُوبَ، فأما من قتل في سبيل الله فَإِنَّهُ حَيٌّ عِنْدَ رَبِّهِ يُرْزَقُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ؛ وَأَمَّا من توفي في سبيل الله فَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مَعَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ إِجْرَاءَ الرِّزْقِ عَلَيْهِ، وَعَظِيمِ إِحْسَانِ اللَّهِ إليه، قال ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ عُقْبَةَ يَعْنِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ عقبة قال، قال شُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ: طَالَ رِبَاطُنَا وَإِقَامَتُنَا عَلَى حِصْنٍ بِأَرْضِ الرُّومِ، فَمَرَّ بِي سَلْمَانُ يَعْنِي الْفَارِسِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا أَجْرَى اللَّهُ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ الْأَجْرِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ الرِّزْقَ وَأَمِنَ مِنَ الفتَّانين» واقرأوا إِنْ شِئْتُمْ {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} وعن عبد الرحمن بن جحدم الخولاني أَنَّهُ حَضَرَ (فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ) فِي الْبَحْرِ مَعَ جِنَازَتَيْنِ، أَحَدُهُمَا أُصِيبَ بِمَنْجَنِيقٍ وَالْآخَرُ تُوُفِّيَ، فَجَلَسَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ عِنْدَ قَبْرِ الْمُتَوَفَّى، فَقِيلَ لَهُ: تَرَكْتَ الشَّهِيدَ فَلَمْ تَجْلِسْ عِنْدَهُ، فَقَالَ: مَا أُبَالِي مِنْ أَيِّ حُفْرَتَيْهِمَا بُعِثْتُ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} الآيتين، فَمَا تَبْتَغِي أَيُّهَا الْعَبْدُ إِذَا أُدْخِلْتَ مُدْخَلًا تَرْضَاهُ وَرُزِقَتْ رِزْقًا حَسَنًا! وَاللَّهِ مَا أُبَالِي من أي حفرتيهما بعثت (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ بنحوه). وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} الآية، نَزَلَتْ فِي سَرِيَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَقُوا جَمْعًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي شَهْرِ مُحَرَّمٍ، فَنَاشَدَهُمُ الْمُسْلِمُونَ لِئَلَّا يُقَاتِلُوهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ إِلَّا قِتَالَهُمْ وَبَغَوْا عَلَيْهِمْ، فَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَنَصَرَهُمُ الله عليهم {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (ذكره مقاتل بن جيان وابن جرير).

- 61 - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ - 62 - ذلك بأن اللهو الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ الْخَالِقُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، كَمَا قَالَ: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تشاء} الآية، وَمَعْنَى إِيلَاجِهِ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، وَالنَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، إِدْخَالُهُ مِنْ هَذَا فِي هَذَا، وَمِنْ هَذَا فِي هَذَا، فَتَارَةً يُطَوِّلُ اللَّيْلَ وَيُقَصِّرُ النَّهَارَ كَمَا فِي الشِّتَاءِ، وَتَارَةً يُطَوِّلُ النَّهَارَ وَيُقَصِّرُ اللَّيْلَ كَمَا فِي الصَّيْفِ، وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أَيْ سَمِيعٌ بِأَقْوَالِ عِبَادِهِ بَصِيرٌ بِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم، ولما تبين أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْوُجُودِ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ قَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أَيِ الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، لِأَنَّهُ ذُو السُّلْطَانِ الْعَظِيمِ، الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، ذَلِيلٌ لَدَيْهِ {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ، وَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، كَمَا قَالَ: {وَهُوَ العلي العظيم}، وقال: {وهو الكبير المتعال} فَكُلُّ شَيْءٍ تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ وَعَظْمَتِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، لِأَنَّهُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا أَعْظَمَ مِنْهُ، الْعَلِيُّ الَّذِي لَا أَعْلَى مِنْهُ، الْكَبِيرُ الَّذِي لَا أَكْبَرَ منه، تعالى وتقدس وتنزه عزَّ وجلَّ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

- 63 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ - 64 - لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ - 65 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ الله بالناس لرؤوف رَحِيمٌ - 66 - وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه، وأنه يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيُمْطِرُ عَلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ، الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا وَهِيَ هَامِدَةٌ يابسة سوداء ممحلة {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وربت}، وقوله: {فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} أَيْ خَضْرَاءَ بَعْدَ يُبْسِهَا ومحولها، {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أَيْ عَلِيمٌ بِمَا في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها، لا يخفى عليه خافية، كَمَا قَالَ لُقْمَانُ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السموات أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ الله لَطِيفٌ خبير}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}، وَقَوْلُهُ: {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أَيْ مُلْكُهُ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ عَبْدٌ لَدَيْهِ، وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ} أَيْ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ وَزُرُوعٍ وَثِمَارٍ كَمَا قَالَ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ} أَيْ مِنْ إِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} أَيْ بِتَسْخِيرِهِ وَتَسْيِيرِهِ، أَيْ فِي الْبَحْرِ الْعَجَاجِ وَتَلَاطُمِ الْأَمْوَاجِ، تَجْرِي الْفُلْكُ بأهلها بريح طيبة فيحملون فيها ما شاءوا من بضائع وَمَنَافِعَ، مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَقُطْرٍ

إلى قطر {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أَيْ لَوْ شَاءَ لَأَذِنَ لِلسَّمَاءِ فَسَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ فَهَلَكَ مَنْ فِيهَا، وَلَكِنْ مِنْ لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ الله بالناس لرؤوف رَحِيمٌ} أَيْ مَعَ ظُلْمِهِمْ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الأُخرى {وَإِن رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب}، وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ}، كَقَوْلِهِ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، وَقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ}، وَقَوْلِهِ: {قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} ومعنى الكلام كيف تجعلون لله أَنْدَادًا وَتَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَهُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالتَّصَرُّفِ، {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} أَيْ خَلَقَكُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا يُذْكَرُ فَأَوْجَدَكُمْ، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} أي جحود لربه.

- 67 - لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ - 68 - وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ - 69 - اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أنه جعل لكل قوم منسكاً، وَأَصِلُ الْمَنْسَكِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْمَوْضِعُ الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه، ولهذا سميت مناسك الحج بذلك، لتردد الناس إليها وعكوفهم عليها، والمراد لكل أمة نبي جعلنا منسكاً، {فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، {هُمْ نَاسِكُوهُ} أي فاعلوه، فالضمير ههنا عَائِدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَهُمْ مَنَاسِكُ وَطَرَائِقُ، فَلَا تَتَأَثَّرْ بِمُنَازَعَتِهِمْ لَكَ وَلَا يَصْرِفْكَ ذَلِكَ عَمَّا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} أَيْ طَرِيقٍ وَاضِحٍ مُسْتَقِيمٍ مُوصِلٍ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إليك}، وَقَوْلِهِ: {وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ كَقَوْلِهِ: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شيهدا بيني وبينكم}، وَلِهَذَا قَالَ: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}، وهذه كقوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كتاب} الآية.

- 70 - أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كَمَالِ عِلْمِهِ بِخَلْقِهِ، وَأَنَّهُ مُحِيطٌ بِمَا فِي السماوات وما في الأرض، وَأَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ الْكَائِنَاتِ كُلَّهَا قَبْلَ وُجُودِهَا وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قدَّر مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء» (أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو)، وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: "قَالَ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كائن إلى يوم القيامة"، وقال ابن عباس: خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مِائَةِ عَامٍ، وَقَالَ لِلْقَلَمِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: اكْتُبْ فقال الْقَلَمُ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ عِلْمِي فِي خَلْقِي إِلَى يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هو كائن

فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَذَلِكَ قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ عِلْمِهِ تَعَالَى عَلِمَ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ كَوْنِهَا وَقَدَّرَهَا وَكَتَبَهَا أَيْضًا، فَيَعْلَمُ قَبْلَ الْخَلْقِ أَنَّ هَذَا يُطِيعُ بِاخْتِيَارِهِ وَهَذَا يَعْصِي بِاخْتِيَارِهِ وَكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَهُوَ سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لَدَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.

- 71 - وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَّصِيرٍ - 72 - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ المصير يقول مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا جَهِلُوا وَكَفَرُوا، وَعَبَدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، يَعْنِي حُجَّةً وَبُرْهَانًا كَقَوْلِهِ: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون}، ولهذا قال ههنا {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} أَيْ وَلَا عِلْمَ لَهُمْ فِيمَا اخْتَلَقُوهُ وَائْتَفَكُوهُ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ تَلَقَّوْهُ عَنْ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ، وَأَصْلُهُ مِمَّا سوَّل لَهُمُ الشَّيْطَانُ وَزَيَّنَهُ لَهُمْ، وَلِهَذَا تَوَعَّدَهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} أَيْ مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُهُمْ مِنَ اللَّهِ فِيمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ؛ ثُمَّ قَالَ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أَيْ وَإِذَا ذُكِرَتْ لَهُمْ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَالْحُجَجُ وَالدَّلَائِلُ الواضحات على توحيد الله {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أَيْ يَكَادُونَ يُبَادِرُونَ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ بِالدَّلَائِلِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَيَبْسُطُونَ إِلَيْهِمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ {قُلْ} أَيْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ {أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيِ النَّارُ وَعَذَابُهَا وَنَكَالُهَا أَشَدُّ وَأَشَقُّ، وَأَطَمُّ وَأَعْظَمُ مِمَّا تخَّوفون بِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ عَلَى صَنِيعِكُمْ هَذَا أَعْظَمُ مِمَّا تَنَالُونَ مِنْهُمْ إِنْ نِلْتُمْ بِزَعْمِكُمْ وَإِرَادَتِكُمْ، وَقَوْلُهُ: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أَيْ وَبِئْسَ النَّارُ مقيلاً ومنزلاً ومرجعاً ومؤئلاً ومقاماً {إِنَّهَا سَآءَتْ مستقرا ومقاما}.

- 73 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ - 74 - مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى حَقَارَةِ الْأَصْنَامِ وَسَخَافَةِ عُقُولِ عَابِدِيهَا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} أَيْ لِمَا يَعْبُدُهُ الْجَاهِلُونَ بِاللَّهِ الْمُشْرِكُونَ بِهِ {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} أَيْ أَنْصِتُوا وَتَفَهَّمُوا {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} أَيْ لَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ مَا تَعْبُدُونَ مِن الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، عَلَى أَنْ يَقْدِرُوا عَلَى خَلْقِ ذُبَابٍ وَاحِدٍ مَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ؛ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي؟ فَلْيَخْلُقُوا

ذرة، فليخلقوا شعيرة" (أخرجاه في الصحيحين ورواه الإمام أحمد)، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} أَيْ هُمْ عَاجِزُونَ عَنْ خَلْقِ ذُبَابٍ وَاحِدٍ، بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ عَاجِزُونَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ وَالِانتِصَارِ مِنْهُ، لَوْ سَلَبَهَا شَيْئًا مِنَ الَّذِي عَلَيْهَا مِنَ الطِّيبِ، ثم أرادت أن تستنفذه مِنْهُ لَمَا قَدَرَتْ عَلَى ذَلِكَ، هَذَا وَالذُّبَابُ مِنْ أَضْعَفِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَأَحْقَرِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّالِبُ الصنم، والمطلوب الذباب؛ واختاره ابن جرير، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: الطَّالِبُ الْعَابِدُ وَالْمَطْلُوبُ الصَّنَمُ، ثُمَّ قَالَ: {مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أَيْ مَا عَرَفُوا قَدْرَ اللَّهِ وَعَظَمَتَهُ حِينَ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ مِنْ هَذِهِ الَّتِي لَا تُقَاوِمُ الذُّبَابَ لِضَعْفِهَا وَعَجْزِهَا، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أَيْ هُوَ الْقَوِيُّ الَّذِي بِقُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}، وَقَوْلُهُ {عَزِيزٌ} أَيْ قَدْ عزَّ كُلَّ شَيْءٍ وَغَلَبَهُ، فَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ، لِعَظْمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.

- 75 - اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ - 76 - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَخْتَارُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً فِيمَا يَشَاءُ مِنْ شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَمِنَ النَّاسِ لإبلاغ رسالته، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أَيْ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ بَصِيرٌ بِهِمْ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، وَقَوْلُهُ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أَيْ يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُ بِرُسُلِهِ فِيمَا أَرْسَلَهُمْ بِهِ، فَلَا يَخْفَى عليه شيء من أمورهم، فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ شَهِيدٌ عَلَى مَا يُقَالُ لَهُمْ، حَافِظٌ لَهُمْ، نَاصِرٌ لِجَنَابِهِمْ.

- 77 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - 78 - وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ اختلف في هذه السجدة الثانية على قولين وقد قدمنا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا»، وَقَوْلُهُ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} أَيْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، كَمَا قَالَ تعالى: {اتقوا الله حَقَّ تقاته}، وَقَوْلُهُ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} أَيْ يَا هَذِهِ الْأُمَّةُ اللَّهُ اصْطَفَاكُمْ وَاخْتَارَكُمْ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَفَضَّلَكُمْ وَشَرَّفَكُمْ وَخَصَّكُمْ بِأَكْرَمِ رَسُولٍ وَأَكْمَلِ شَرْعٍ، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أَيْ مَا كَلَّفَكُمْ مَا لَا تُطِيقُونَ، وَمَا أَلْزَمَكُمْ بشيء يشق عَلَيْكُمْ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، ولهذا قال عليه السلام: «بعثت بالحنيفة السَّمْحَةِ» وَقَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى حِينَ بَعَثَهُمَا أَمِيرَيْنِ إِلَى الْيَمَنِ: «بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا»، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}

يَعْنِي مِنْ ضِيقٍ، وَقَوْلُهُ: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} قال ابن جرير: نصب على تقدير {ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أَيْ مِنْ ضِيقٍ بَلْ وسَّعه عَلَيْكُمْ كَمِلَّةِ أَبِيكُمْ إبراهيم، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى تَقْدِيرِ الْزَمُوا مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ. (قُلْتُ): وَهَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} الآية، وَقَوْلِهِ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} قال: الله عزَّ وجلَّ. وقال ابن أَسْلَمَ {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلَ وَفِي هَذَا} قَالَ مُجَاهِدٌ: اللَّهُ سماكم المسلمين في قَبْلُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَفِي الذِّكْرِ، {وَفِي هَذَا} يَعْنِي الْقُرْآنَ وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ. (قُلْتُ): وهذه هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ثم حثهم وأغراهم على ماجاء بِهِ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ ملة إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنَّتَهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، بِمَا نَوَّهَ بِهِ مِنْ ذِكْرِهَا وَالثَّنَاءِ عَلَيْهَا، فِي سَالِفِ الدَّهْرِ وَقَدِيمِ الزَّمَانِ، فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ يُتْلَى عَلَى الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، فَقَالَ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ {وَفِي هذا}، روى النسائي عن الْحَارِثُ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جِثِيِّ جَهَنَّمَ»، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟ قَالَ: «نَعَمْ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى» فَادْعُوَا بِدَعْوَةِ اللَّهِ الَّتِي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله" (أخرجه النسائي في سننه)، وَلِهَذَا قَالَ: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} أَيْ إِنَّمَا جَعَلْنَاكُمْ هَكَذَا أُمَّةً وَسَطًا، عُدُولًا خِيَارًا مَشْهُودًا بِعَدَالَتِكُمْ عِنْدَ جَمِيعِ الأُمم لِتَكُونُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ {شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} لِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ مُعْتَرِفَةٌ يومئذٍ بِسِيَادَتِهَا وَفَضْلِهَا عَلَى كُلِّ أُمّة سِوَاهَا، فَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فِي أَنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ، وَالرَّسُولُ يَشْهَدُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ بلَّغها ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسطا}، وقوله: {أقيموا الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} أَيْ قَابِلُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ العظيمة بالقيام بشكرها، فأدوا حَقَّ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ، وَتَرْكِ مَا حَرَّمَ، وَمِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ إِقَامُ الصلاة وإيتاء الزكاة، {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} أَيِ اعْتَضِدُوا بِاللَّهِ وَاسْتَعِينُوا بِهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَتَأَيَّدُوا بِهِ، {هُوَ مَوْلاَكُمْ} أَيْ حَافِظُكُمْ وَنَاصِرُكُمْ وَمُظَفِّرِكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}: يَعْنِي نِعْمَ الْوَلِيُّ، وَنِعْمَ النَّاصِرُ من الأعداء.

23 - سورة المؤمنون

- 23 - سورة المؤمنون

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - 2 - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ - 3 - وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ - 4 - وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ - 5 - وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - 6 - إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ - 7 - فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ - 8 - وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ - 9 - وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ - 10 - أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ - 11 - الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال: كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كدوي النحل، فلبثنا ساعة، فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: "اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وارض علينا وأرضِنا، ثم قال: لقد أنزل عليَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ" ثُمَّ قَرَأَ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حَتَّى خَتَمَ العشر (أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي). وقال النسائي في تفسيره عَنْ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ، قَالَ، قُلْنَا لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: كَيْفَ كَانَ خُلُقِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتِ: كَانَ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَقَرَأَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - حَتَّى انتَهَتْ إِلَى - وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قَالَتْ: هَكَذَا كَانَ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خلق اللَّهُ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ لَبِنَةً مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، وَلَبِنَةً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَلَبِنَةً مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ، مِلَاطُهَا الْمِسْكُ وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ، وَحَشِيشُهَا الزَّعْفَرَانُ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: انطِقِي، قَالَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، فَقَالَ اللَّهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا يُجَاوِرُنِي فِيكِ بَخِيلٌ"؛ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (أخرجه ابن أبي الدنيا ورواه الحافظ البزار والطبراني بنحوه)، وقوله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} أَيْ قَدْ فَازُوا وَسَعِدُوا وَحَصَلُوا عَلَى الْفَلَاحِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} قال ابن عباس: {خَاشِعُونَ}

خائفون ساكنون، وعن علي: الخشوع خشوع القلب، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ خُشُوعُهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ، فَغَضُّوا بِذَلِكَ أَبْصَارَهُمْ، وَخَفَضُوا الْجَنَاحَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم، والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فَرَّغَ قَلْبَهُ لَهَا، وَاشْتَغَلَ بِهَا عَمَّا عَدَاهَا وَآثَرَهَا عَلَى غَيْرِهَا، وحينئذٍ تَكُونُ رَاحَةً لَهُ وَقُرَّةَ عَيْنٍ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبِّبَ إليَّ الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصلاة» (الحديث أخرجه الإمام أحمد والنسائي عن أنس بن مالك مرفوعاً) وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يا بلال، أرحنا بالصلاة» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ} أَيْ عَنِ الْبَاطِلِ وَهُوَ يَشْمَلُ الشِّرْكَ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَالْمَعَاصِي كَمَا قَالَهُ آخَرُونَ، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كراما}، قَالَ قَتَادَةُ: أَتَاهُمْ وَاللَّهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ما وقفهم عَنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَإِنَّمَا فُرِضَتِ الزَّكَاةُ بِالْمَدِينَةِ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ من الهجرة، والظاهر أن أصل الزكاة كان واجباً بمكة، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حصاده}؛ وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة ههنا زَكَاةُ النَّفْسِ مِنَ الشِّرْكِ وَالدَّنَسِ، كَقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُرَادًا، وَهُوَ زَكَاةُ النُّفُوسِ وَزَكَاةُ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّهُ مِنْ جملة زكاة النفوس، المؤمن الكامل هو الذي يفعل هَذَا وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} أَيْ وَالَّذِينَ قَدْ حَفِظُوا فُرُوجَهُمْ مِنَ الْحَرَامِ فَلَا يَقَعُونَ فيما نهاهم الله عنه من زنا ولواط، لا يَقْرَبُونَ سِوَى أَزْوَاجَهُمُ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُمْ، أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ مِنَ السَّرَارِيِّ، وَمَنْ تَعَاطَى مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ وَلَا حَرَجَ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ} أَيْ غَيْرَ الْأَزْوَاجِ وَالْإِمَاءِ {فأولئك هُمُ العادون} أي المعتدون. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قَالَ: فَهَذَا الصَّنِيعُ خَارِجٌ عَنْ هَذَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَقَدْ قَالَ الله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أَيْ إِذَا اؤْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا بَلْ يُؤَدُّونَهَا إِلَى أَهْلِهَا، وَإِذَا عَاهَدُوا أَوْ عَاقَدُوا أَوْفَوْا بِذَلِكَ، لَا كَصِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤتمن خَانَ"، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أَيْ يُوَاظِبُونَ عَلَيْهَا فِي مَوَاقِيتِهَا كَمَا قَالَ ابن مسعود: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ)، وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ قَالَ: «الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا»، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٌ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ

يُحَافِظُونَ} يعني مواقيت الصلاة، وقال قتادة: على مواقيتها وروكوعها وَسُجُودِهَا، وَقَدِ افْتَتَحَ اللَّهُ ذِكْرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ بِالصَّلَاةِ وَاخْتَتَمَهَا بِالصَّلَاةِ، فَدَلَّ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهَا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مؤمن». ولما وصفهم تَعَالَى بِالْقِيَامِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ وَالْأَفْعَالِ الرَّشِيدَةِ قَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وثبت في الصَّحِيحَيْنِ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تفجَّر أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَانِ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَإِنْ مات ودخل النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أولئك هم الوارثون} (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة) ". وقال مجاهد: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَانِ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُبْنَى بَيْتُهُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، وَيُهْدَمُ بَيْتُهُ الَّذِي فِي النَّارِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُهْدَمُ بَيْتُهُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، وَيُبْنَى بَيْتُهُ الَّذِي فِي النار، فالمؤمنون يرثون منازل الكفار لأنهم أَطَاعُوا رَبَّهُمْ عزَّ وجلَّ بَلْ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَيْضًا، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مسلم عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيُقَالُ هَذَا فِكَاكُكَ من النار»، فاستخلف عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبَا بُرْدَةَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، قال: فحلف له (أخرجه مسلم عن أبي بردة عن أبيه مرفوعاً). قُلْتُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا}، وَكَقَوْلِهِ: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقد قال مجاهد: الجنة هِيَ الْفِرْدَوْسُ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا يُسَمَّى البستان الفردوس إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ عِنَبٌ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

- 12 - وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ - 13 - ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ - 14 - ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ - 15 - ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ - 16 - ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِن سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ، وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ صَلْصَالٍ من حمإ مسنون، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} قَالَ: من صَفْوَةُ الْمَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ سُلَالَةٍ أَيْ من مني بني آدم، وقال ابن جرير: إنما سمي طِينًا لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتُلَّ آدَمُ مِنَ الطِّينِ، وَهَذَا أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى وَأَقْرَبُ إِلَى السِّيَاقِ، فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خلق مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ، وهو الصلصال الْحَمَأِ الْمَسْنُونِ، وَذَلِكَ مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، جَاءَ منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب وبين ذلك» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ). {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} هَذَا الضَّمِيرُ عائد

عَلَى جِنْسِ الْإِنْسَانِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} أَيْ ضَعِيفٍ كَمَا قَالَ: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} يَعْنِي الرَّحِمُ مُعَدٌّ لِذَلِكَ مُهَيَّأٌ لَهُ {إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون} أي مدة معلومة وأجل معين، حتى استحكم ونقل مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَصِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، ولهذا قال ههنا {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} أَيْ ثُمَّ صَيَّرْنَا النُّطْفَةَ وَهِيَ الْمَاءُ الدَّافِقُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ وَهُوَ ظَهْرُهُ، وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ عظام صدرها ما بين الترقوة إلى السرة، فَصَارَتْ عَلَقَةً حَمْرَاءَ عَلَى شَكْلِ الْعَلَقَةِ مُسْتَطِيلَةً، قَالَ عِكْرِمَةُ، وَهِيَ دَمٌ {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} وَهِيَ قِطْعَةٌ كَالْبَضْعَةِ مِنَ اللَّحْمِ لَا شَكْلَ فِيهَا وَلَا تَخْطِيطَ {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً} يَعْنِي شَكَّلْنَاهَا ذَاتَ رَأْسٍ وَيَدَيْنِ وَرِجْلَيْنِ بِعِظَامِهَا وَعَصَبِهَا وعروقها. وفي الصحيح: «كُلُّ جَسَدِ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إِلَّا عَجْب (ما استدق في مؤخره) الذَّنَب، منه خلق وفيه يركب». {فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً} أي جعلنا عَلَى ذَلِكَ مَا يَسْتُرُهُ وَيَشُدُّهُ وَيُقَوِّيهِ، {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} أَيْ ثُمَّ نَفَخْنَا فِيهِ الرُّوحَ فَتَحَرَّكَ وَصَارَ خَلْقًا آخَرَ ذَا سَمْعٍ وبصر وإدراك وحركة واصظراب {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين}. عن ابن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِذَا أتت على النطفة أربعة أشهر بعث الله إليهاً ملكاً فنفخ فيها الروح فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} يَعْنِي نفخنا فيه الروح، وقال ابن عباس: يعني فنفخنا فيه الروح (وكذا روي عن أبي سعيد الخدري، ومجاهد، وعكرمة، والشعبي، والضحاك، والحسن البصري)؛ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ}: يَعْنِي نَنْقُلُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، إِلَى أَنْ خَرَجَ طِفْلًا، ثُمَّ نَشَأَ صَغِيرًا، ثُمَّ احْتَلَمَ، ثُمَّ صَارَ شَابًّا، ثُمَّ كَهْلًا، ثُمَّ شَيْخًا، ثُمَّ هرماً، وفي الصحيح: "إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَهَلْ هُوَ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ له بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا" (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ورواه الإمام أحمد). وقال عبد الله بن مَسْعُودٍ: إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ طَارَتْ فِي كُلِّ شَعْرٍ وَظُفْرٍ، فَتَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يوماً، ثم تنحدر في الرحم فتكون علقة (رواه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً)، وفي الصحيح: «يدخل الملك على النطفة بعدما تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَيَقُولُ يَا رب ماذا؟ شقي أَمْ سَعِيدٌ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقُولُ اللَّهُ فَيَكْتُبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَمُصِيبَتُهُ وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصَّحِيفَةُ فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا فِيهَا ولا ينقص» (الحديث رواه مسلم والإمام أحمد عن حذيفة بن أسيد الغفاري مرفوعاً). وروى الحافظ أبو بكر البزار عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ خلقها قَالَ: أَيْ رَبِّ ذَكَرٍ أَوْ أَنْثَى؟ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ وَالْأَجَلُ؟ قَالَ: فَذَلِكَ يكتب في بطن أمه" (الحديث أخرجاه في الصحيحين ورواه الحافظ البزار واللفظ له). وقوله: {فَتَبَارَكَ

اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}: يَعْنِي حِينَ ذَكَرَ قُدْرَتَهُ وَلُطْفَهُ فِي خَلْقِ هَذِهِ النُّطْفَةِ مِنْ حَالٍ إلى حال، ومن شكل إِلَى شَكْلٍ، حَتَّى تَصَوَّرَتْ إِلَى مَا صَارَتْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِنْسَانِ السَّوِيِّ الْكَامِلِ الْخَلْقِ، قَالَ: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين}، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} يَعْنِي بَعْدَ هَذِهِ النَّشْأَةِ الْأُولَى مِنَ الْعَدَمِ تَصِيرُونَ إِلَى الْمَوْتِ {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} يَعْنِي النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخرة} يعني يوم المعاد، وقيام الأرواح إلى الأجساد، فَيُحَاسِبُ الْخَلَائِقَ، وَيُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ عَمَلَهُ إِنْ كان خيرا فخير وإن كان شراً فشر.

- 17 - وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى خَلْقَ الْإِنْسَانِ عَطَفَ بِذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُ تَعَالَى خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَعَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ من خلق الناس}، وقوله: {سَبْعَ طَرَآئِقَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وهذه كقوله تعالى: {تُسَبِّحُ له السموات السبع والأرض وَمَن فيهن}، {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سموات طباقا}، {الله الذي خَلَقَ سبع سموات وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شيء علما}، وهكذا قال ههنا {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ} أي أنه سبحانه لا يحجب عنه سماء ولا أرض، وَلَا جَبَلٌ إِلَّا يَعْلَمُ مَا فِي وَعْرِهِ، وَلَا بَحْرٌ إِلَّا يَعْلَمُ مَا فِي قَعْرِهِ، يَعْلَمُ عَدَدَ مَا فِي الْجِبَالِ وَالتِّلَالِ وَالرِّمَالِ وَالْبِحَارِ وَالْقِفَارِ وَالْأَشْجَارِ، {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مبين}.

- 18 - وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ - 19 - فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ - 20 - وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ - 21 - وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ - 22 - وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ يَذْكُرُ تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى عَبِيدِهِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى فِي إِنْزَالِهِ الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ بِقَدَرٍ، أَيْ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ لَا كَثِيرًا فَيُفْسِدُ الْأَرْضَ وَالْعُمْرَانَ، وَلَا قَلِيلًا فَلَا يَكْفِي الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ، بَلْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ مِنَ السَّقْيِ وَالشُّرْبِ وَالِانتِفَاعِ بِهِ، حَتَّى إِنَّ الْأَرَاضِيَ الَّتِي تَحْتَاجُ مَاءً كَثِيرًا لِزَرْعِهَا وَلَا تَحْتَمِلُ دِمْنَتُهَا إِنْزَالَ الْمَطَرِ عَلَيْهَا يَسُوقُ إِلَيْهَا الْمَاءَ مِنْ بِلَادٍ أُخْرَى، كَمَا فِي أَرْضِ مِصْرَ، وَيُقَالُ لَهَا الْأَرْضُ الْجُرُزُ يَسُوقُ اللَّهُ إِلَيْهَا مَاءَ النِّيلِ مَعَهُ طِينٌ أَحْمَرُ يَجْتَرِفُهُ مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ فِي زَمَانِ أَمْطَارِهَا، فَيَأْتِي الْمَاءُ يَحْمِلُ طِينًا أَحْمَرَ، فَيَسْقِي أَرْضَ مِصْرَ، وَيَقَرُّ الطِّينُ عَلَى أَرْضِهِمْ لِيَزْرَعُوا فِيهِ، لِأَنَّ أَرْضَهُمْ سِبَاخٌ يَغْلِبُ عَلَيْهَا الرِّمَالُ، فَسُبْحَانَ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ الرَّحِيمِ الْغَفُورِ، وَقَوْلُهُ: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} أَيْ جَعَلَنَا الْمَاءَ إِذَا نَزَلَ مِنَ السَّحَابِ يَخْلُدُ فِي الْأَرْضِ، وجعلنا في الأرض قابلية إليه، تَشْرَبُهُ وَيَتَغَذَّى بِهِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} أي لو شئنا أن لا تمطر لفعلنا، ولو شئنا أذى لصرفناه عنكم إلى السباخ والبراري وَالْقِفَارِ لَفَعَلْنَا، وَلَوْ شِئْنَا لَجَعَلْنَاهُ أُجَاجًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِشُرْبٍ وَلَا لِسَقْيٍ لَفَعَلْنَا،

ولو شئنا إِذَا نَزَلَ فِيهَا يَغُورُ إِلَى مَدًى لَا تَصِلُونَ إِلَيْهِ وَلَا تَنْتَفِعُونَ بِهِ لَفَعَلْنَا، وَلَكِنْ بلطفه ورحمته ينزل عليكم المطر مِنَ السَّحَابِ عَذْبًا فُرَاتًا زُلَالًا، فَيُسْكِنُهُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْلُكُهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ، فَيَفْتَحُ الْعُيُونَ والأنهار، ويسقي به الزروع والثمار، تشربون منه ودوابكم وأنعامكم، وتغتسلون منه وتتطهرون منه وتتنظفون، فله الحمد والمنة. وقوله تعالى: {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} يعني فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء جَنَّاتٍ أَيْ بَسَاتِينَ وَحَدَائِقَ {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أَيْ ذَاتَ مَنْظَرٍ حَسَنٍ، وَقَوْلُهُ: {مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أَيْ فِيهَا نَخِيلٌ وَأَعْنَابٌ، وَهَذَا مَا كَانَ يَأْلَفُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّيْءِ وَبَيْنَ نَظِيرِهِ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ أَهْلِ إِقْلِيمٍ عِنْدَهُمْ مِنَ الثِّمَارِ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَا يَعْجِزُونَ عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِهِ، وَقَوْلُهُ: {لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} أَيْ مِنْ جَمِيعِ الثِّمَارِ، كَمَا قَالَ: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ ومن كل الثمرات}، وقوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: تَنْظُرُونَ إِلَى حُسْنِهِ وَنُضْجِهِ وَمِنْهُ تَأْكُلُونَ، وَقَوْلُهُ: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ} يَعْنِي الزَّيْتُونَةَ، وَالطُّورُ هُوَ الْجَبَلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا يُسَمَّى طُورًا إِذَا كان فيه شجر، فإذا عَرِيَ عَنْهَا سُمِّيَ جَبَلًا لَا طُورًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. {وَطُورُ سَيْنَآءَ} هُوَ طُورُ سِينِينَ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَآ حَوْلَهُ مِنَ الْجِبَالِ الَّتِي فِيهَا شَجَرُ الزَّيْتُونِ، وَقَوْلُهُ: {تَنبُتُ بِالدُّهْنِ} أي تَنْبُتُ الدُّهْنَ، كَمَا فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: أَلْقَى فلان بيده أي يده، وَلِهَذَا قَالَ: {وَصِبْغٍ} أَيْ أُدْمٍ قَالَهُ قَتَادَةُ {لِّلآكِلِيِنَ} أَيْ فِيهَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنَ الدهن والاصطباغ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مباركة» (أخرجه الإمام أحمد عن مالك بن ربيعة الساعدي مرفوعاً). وروى عبد بن حميد في مسنده عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ائْتَدِمُوا بِالزَّيْتِ وَادَّهِنُوا بِهِ، فإنه يخرج من شجرة مباركة». وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} يَذْكُرُ تَعَالَى مَا جَعَلَ لِخَلْقِهِ فِي الْأَنْعَامِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْ ألْبَانِهَا الْخَارِجَةِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ وَيَأْكُلُونَ مِنْ حُمْلَانِهَا، وَيَلْبَسُونَ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ، وَيَرْكَبُونَ ظُهُورَهَا، وُيُحَمِّلُونَهَا الْأَحْمَالَ الثِّقَالَ إِلَى الْبِلَادِ النَّائِيَةِ عَنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لرؤوف رحيم}، وقال تَعَالَى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يشكرون}.

- 23 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ - 24 - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَآئِنَا الْأَوَّلِينَ - 25 - إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى قَوْمِهِ، لِيُنْذِرَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ وَبَأْسَهُ الشَّدِيدَ، وَانتِقَامَهُ مِمَّنْ أَشْرَكَ بِهِ وَخَالَفَ أَمْرَهُ وكذَّب رُسُلَهُ {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أَيْ أَلَا تَخَافُونَ مِنَ اللَّهِ فِي إِشْرَاكِكُمْ بِهِ؟ فَقَالَ الْمَلَأُ - وَهُمُ السَّادَةُ وَالْأَكَابِرُ مِنْهُمْ - {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ}

يَعْنُونَ يَتَرَفَّعُ عَلَيْكُمْ وَيَتَعَاظَمُ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ وَهُوَ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فَكَيْفَ أُوحِيَ إِلَيْهِ دُونَكُمْ؟! {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً} أَيْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ نَبِيًّا لَبَعَثَ مَلَكًا مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يَكُنْ بَشَرًا {مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا} أَيْ بِبَعْثَةِ الْبَشَرِ {فِي آبَآئِنَا الْأَوَّلِينَ} يَعْنُونَ بِهَذَا أسلافهم وأجدادهم في الدهور الْمَاضِيَةَ، وَقَوْلُهُ: {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أَيْ مَجْنُونٌ فِيمَا يَزْعُمُهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ، وَاخْتَصَّهُ مِنْ بَيْنِكُمْ بِالْوَحْيِ {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ} أَيِ انتَظِرُوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، وَاصْبِرُوا عَلَيْهِ مُدَّةً حَتَّى تَسْتَرِيحُوا منه.

- 26 - قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ - 27 - فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ - 28 - فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - 29 - وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ - 30 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ يخبر تعالى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ ليستنصره عَلَى قَوْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر}، وقال ههنا: {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ}، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِصَنْعَةِ السَّفِينَةِ وَإِحْكَامِهَا وَإِتْقَانِهَا، وَأَنْ يَحْمِلَ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، أَيْ ذَكَرًا وَأُنْثَى مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْحَيَوَاناتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالثِّمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِن يَحْمِلَ فِيهَا أهله {إِلاَّ مَن سَبَقَ عليه القول مِنْهُمْ} أي مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول بِالْهَلَاكِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ كَابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} أَيْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ الْعَظِيمِ لَا تَأْخُذَنَّكَ رَأْفَةٌ بِقَوْمِكَ وَشَفَقَةٌ عَلَيْهِمْ، وَطَمَعٌ فِي تَأْخِيرِهِمْ لعلَّهم يُؤْمِنُونَ، فَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ أَنَّهُمْ مُغْرَقُونَ على ما هم فيه مِنَ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْقِصَّةُ مَبْسُوطَةً فِي سُورَةِ هُودٍ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ ذلك ههنا، وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، كَمَا قَالَ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لتسووا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ، وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى ربنا لمنقلبون}، وَقَدِ امْتَثَلَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مجريها ومرساها}، فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ ابْتِدَاءِ سَيْرِهِ وَعِنْدَ انتهائه. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} أَيْ إِنَّ فِي هَذَا الصَّنِيعِ - وَهُوَ إِنْجَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِهْلَاكُ الْكَافِرِينَ - لِآيَاتٍ أَيْ لَحُجَجًا وَدَلَالَاتٍ وَاضِحَاتٍ عَلَى صِدْقِ الأنبياء بما جَاءُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ تَعَالَى فاعل لما يشاء قادر عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَقَوْلُهُ: {وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أَيْ لَمُخْتَبِرِينَ لِلْعِبَادِ بِإِرْسَالِ المرسلين.

- 31 - ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ - 32 - فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ - 33 - وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ - 34 - وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ

- 35 - أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ - 36 - هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ - 37 - إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ - 38 - إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ - 39 - قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ - 40 - قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ - 41 - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْشَأَ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ قَرْنًا آخَرِينَ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ عَادٌ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَخْلَفِينَ بَعْدَهُمْ، وقيل: المراد بهؤلاء ثمود، لقوله: {فأخذتهم الصحية بِالْحَقِّ}، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فكذبوه وخالفوه وأبوا اتباعه لكونه بشراً مثلهم، وكذبوا بلقاء الله، وَقَالُوا: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} أي بعد ذَلِكَ، {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أَيْ فِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنَ الرسالة وَالْإِخْبَارِ بِالْمَعَادِ، وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} أَيِ اسْتَفْتَحَ عَلَيْهِمُ الرَّسُولُ وَاسْتَنْصَرَ رَبَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَجَابَ دُعَاءَهُ، {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} أَيْ بِمُخَالَفَتِكَ وَعِنَادِكَ فيما جئتهم به، {فأخذتهم الصحيه بِالْحَقِّ} أَيْ وَكَانُوا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ بكفرهم وطيغانهم، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ صَيْحَةٌ مَعَ الرِّيحِ الصَّرْصَرِ الْعَاصِفِ الْقَوِيِّ الْبَارِدَةِ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بأمر بها، {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إلاّ مساكنهم}، وَقَوْلُهُ: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً} أَيْ صَرْعَى هَلْكَى كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَهُوَ الشَّيْءُ الْحَقِيرُ التَّافِهُ الْهَالِكُ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، {فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، كَقَوْلِهِ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ} أَيْ بِكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَمُخَالَفَةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَلْيَحْذَرِ السَّامِعُونَ أَنْ يُكَذِّبُوا رَسُولَهُمْ.

- 42 - ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ - 43 - مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ - 44 - ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تترا كلما جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ} أَيْ أَمَّمَا وَخَلَائِقَ {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} يعني بل يؤخذون على حَسْبَ مَا قَدَّرَ لَهُمْ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْمَحْفُوظِ وَعَلِمَهُ، قَبْلَ كَوْنِهِمْ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ، وجيلاً بعد جيل، {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى}؟؟؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يعني يتبع بعضهم بعضاً، وهذا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ}، وقوله: {كلما جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ} يَعْنِي جُمْهُورَهُمْ وَأَكْثَرَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يِا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يأيتهم من رسول إلا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، وَقَوْلُهُ: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ، كَقَوْلِهِ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن الْقُرُونِ مَنْ بَعْدِ نُوحٍ}، وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أَيْ أَخْبَارًا وَأَحَادِيثَ لِلنَّاسِ، كَقَوْلِهِ: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ ممزق}.

- 45 - ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ - 46 - إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ -[566]- - 47 - فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ - 48 - فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ - 49 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ رَسُولَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَخَاهُ هَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، بِالْآيَاتِ وَالْحُجَجِ الدَّامِغَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَاتِ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِهِمَا وَالِانقِيَادِ لِأَمْرِهِمَا، لِكَوْنِهِمَا بَشَرَيْنِ كَمَا أَنْكَرَتِ الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ بِعْثَةَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ، تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، فأهللك اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ وَأَغْرَقَهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَجْمَعِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَى مُوسَى الْكِتَابَ - وَهُوَ التَّوْرَاةُ - فيها أحكامه وأوامره ونواهيه، وذلك بعد أن قَصَمَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَالْقِبْطَ، وَأَخْذَهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَبَعْدَ أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ لَمْ يُهْلِكْ أُمَّةً بِعَامَّةٍ، بَلْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِقِتَالِ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لعلهم يتذكرون}.

- 50 - وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّهُ جَعَلَهُمَا آيَةً لِلنَّاسِ، أَيْ حُجَّةً قَاطِعَةً عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، فَإِنَّهُ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، وَخَلَقَ بَقِيَّةَ النَّاسِ مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى. وَقَوْلُهُ: {وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَى ربوة ذات قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّبْوَةُ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ، وهو أحسن ما يكون فيه النيات، {ذَاتِ قَرَارٍ} يَقُولُ ذَاتُ خِصْبٍ {وَمَعِينٍ} يَعْنِي ماء ظاهراً (وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وقتادة)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رَبْوَةٌ مُسْتَوِيَةٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} اسْتَوَى الْمَاءُ فِيهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ: {وَمَعِينٍ} الْمَاءُ الْجَارِي، ثُمَّ اختلف المفسرون في مكان هذه الربوة؟ فقال سعيد بن المسيب: هي دمشق، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قَالَ: أَنْهَارُ دمشق، وقال مجاهد {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ} قَالَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَأُمُّهُ حِينَ أَوَيَا إِلَى غَوْطَةِ دِمَشْقَ وَمَا حَوْلَهَا، وَقَالَ عَبْدُ الرزاق عن أبي هريرة قال: هي الرملة من فلسطين، وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَعِينُ الْمَاءُ الْجَارِي وَهُوَ النَّهْرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سريا}، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وقَتَادَةُ: إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ، هُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، فَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الأخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وهذا أَوْلَى مَا يُفَسَّرُ بِهِ، ثُمَّ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، ثم الآثار.

- 51 - يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ - 52 - وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ - 53 - فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ - 54 - فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ - 55 - أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ - 56 - نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمَعِينَ بِالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَالْقِيَامِ بِالصَّالِحِ مِنَ الْأَعْمَالِ،

فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَلَالَ عَوْنٌ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَقَامَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذَا أَتَمَّ الْقِيَامِ، وَجَمَعُوا بَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ قَوْلًا وَعَمَلًا وَدَلَالَةً وَنُصْحًا، فَجَزَاهُمُ اللَّهُ عَنِ الْعِبَادِ خَيْرًا، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} قَالَ: أمَا والله ما أمركم بِأَصْفَرِكُمْ وَلَا أَحْمَرِكُمْ وَلَا حُلْوِكُمْ وَلَا حَامِضِكُمْ، وَلَكِنْ قَالَ: انتَهُوا إِلَى الْحَلَالِ مِنْهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ {كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}: يعني الحلال، وكان عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ، وفي الصحيح: «وما مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ» قَالُوا: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ وأنا كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ»، وَفِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ منكسب يده»، وقد ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طيِّب لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيَّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وَقَالَ: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، ومطعَمُه حرامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بالحرام فأنى يستجابه لذلك" (رواه مسلم والترمذي والإمام أحمد واللفظ له)؟! وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أَيْ دِينُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينٌ وَاحِدٌ، وَمِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فاتقون}، وَقَوْلُهُ: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} أَيِ الْأُمَمُ التي بعثت إِلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءُ {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أَيْ يَفْرَحُونَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، وَلِهَذَا قَالَ مُتَهَدِّدًا لهم ومتوعداً {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} أَيْ فِي غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ {حتى حِينٍ} أي إلى حين هلاكهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}، وَقَالَ تَعَالَى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}. وقوله تَعَالَى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} يَعْنِي أَيُظَنُّ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورُونَ أَنَّ مَا نُعْطِيهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْنَا وَمَعَزَّتِهِمْ عِنْدَنَا، كَلَّا لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ فِي قَوْلِهِمْ {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} لقد أخطأوا فِي ذَلِكَ وَخَابَ رَجَاؤُهُمْ، بَلْ إِنَّمَا نَفْعَلُ بهم ذلك استدرجاً وَإِنْظَارًا وَإِمْلَاءً، وَلِهَذَا قَالَ: {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا لزلفى إلا من آمن وعمل صالحا} الآية، والآيات في هذا كثيرة. قال قتادة: مُكِرَ وَاللَّهِ بِالْقَوْمِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، يَا ابْنَ آدَمَ فَلَا تَعْتَبِرِ النَّاسَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدين فقد أحبه، والذي نفس محمد بِيَدِهِ لَا يُسْلم عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قلبُه وَلِسَانُهُ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» قالوا: وما بوائقه يا رسول اللَّهِ؟ قَالَ: «غِشُّهُ وَظُلْمُهُ، وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مالاً حَرَامٍ فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ، وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، وإن الخبيث لا يمحو الخبيث» (أخرجه الإمام أحمد في المسند عن ابن مسعود مرفوعاً).

- 57 - إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ - 58 - وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ - 59 - وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ - 60 - وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ - 61 - أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ} أَيْ هُمْ مَعَ إِحْسَانِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ، مُشْفِقُونَ مِنَ اللَّهِ خَائِفُونَ مِنْهُ، وَجِلُونَ مِنْ مَكْرِهِ بِهِمْ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَشَفَقَةً، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا، {وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ} أَيْ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وكتبه} أي أيقنت أن ما كان إنما هُوَ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ، وَمَا شَرَعَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِنْ كَانَ أَمْرًا فَمِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَإِنْ كَانَ نَهْيًا فَهُوَ مِمَّا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، وَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَهُوَ حَقٌّ، كَمَا قال الله: {وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} أَيْ لَا يعبدون معه غيره بل يوحدنه ويعلمون أنه لا إله إلا الله، وأنه لا نظير له ولا كفء. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أَيْ يُعْطُونَ الْعَطَاءَ وهم خائفون وجلون إِنَّ لا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ، لِخَوْفِهِمْ أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَصَّرُوا فِي الْقِيَامِ بِشُرُوطِ الْإِعَطَاءِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الإشفاق والاحتياط، كما قال الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ؟ قال: "لا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُ الَّذِي يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ (ورواه الترمذي وابن أبي حاتم بنحوه وقال: لا يا ابنة الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يخافون ألا يتقبل منهم). {أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} "، وَقَدْ قَرَأَ آخَرُونَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَالَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}: أَيْ يَفْعَلُونَ مَا يفعلون وهو خَائِفُونَ، وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قرأها كذلك، وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ قَالَ: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} فَجَعَلَهُمْ مِنَ السَّابِقِينَ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى لأوشك أن لا يَكُونُوا مِنَ السَّابِقِينَ بَلْ مِنَ الْمُقْتَصِدِينَ أَوِ المقصرين، والله أعلم.

- 62 - وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ - 63 - بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ - 64 - حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب إِذَا هم يجأرون - 65 - لاَ تَجْأَرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنْصَرُونَ - 66 - قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ - 67 - مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ فِي شَرْعِهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا، أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا: أَيْ إِلَّا مَا تُطِيقُ حَمْلَهُ وَالْقِيَامَ بِهِ، وَأَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ، الَّتِي كَتَبَهَا عَلَيْهِمْ فِي كِتَابٍ مَسْطُورٍ لَا يَضِيعُ مِنْهُ شيء، ولهذا

قَالَ: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ} يَعْنِي كِتَابَ الْأَعْمَالِ، {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أَيْ لَا يُبْخَسُونَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، وَأَمَّا السَّيِّئَاتُ فَيَعْفُو وَيَصْفَحُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهَا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} أي في غَفْلَةٍ وَضَلَالَةٍ مِنْ هَذَا، أَيِ الْقُرْآنُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} أَيْ سَيِّئَةٌ مِن دُونِ ذَلِكَ يَعْنِي الشِّرْكَ {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}، قال: لا بد أن يعملوها، وَقَالَ آخَرُونَ {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}: أي قد كتبت عَلَيْهِمْ أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلُوهَا قَبْلَ مَوْتِهِمْ لَا مَحَالَةَ لِتَحِقَّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ العذاب (وروي نحو هذا عن مقاتل والسدي وابن أَسْلَمَ)؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ حَسَنٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا»، وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} يعني حتى إِذَا جَآءَ مترفيهم - وهم الْمُنَعَّمُونَ فِي الدُّنْيَا - عذابُ اللَّهِ وبأسُه ونقمتُه بهم {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} أي يصرخون ويستغيثون، كما قال تعالى: {ذرني والمكذبين أُوْلِي النعمة ومهلهم قليلاً}، وقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قلبهم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مناص}، وقوله: {لاَ تَجْأَرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} أَيْ لَا يجيركم أحد مِمَّا حَلَّ بِكُمْ سَوَاءٌ جَأَرْتُمْ أَوْ سَكَتُّمْ لَا مَحِيدَ وَلَا مَنَاصَ وَلَا وَزَرَ، لَزِمَ الْأَمْرُ وَوَجَبَ الْعَذَابُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَكْبَرَ ذُنُوبِهِمْ فَقَالَ: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ}: أَيْ إِذَا دُعِيتُمْ أَبَيْتُمْ وَإِنْ طُلِبْتُمُ امْتَنَعْتُمْ، {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِيِّ الكبير}، وقوله: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} الضمير للقرآن كَانُوا يَسْمُرُونَ وَيَذْكُرُونَ الْقُرْآنَ بِالْهَجْرِ مِنَ الْكَلَامِ: إِنَّهُ سِحْرٌ، إِنَّهُ شِعْرٌ، إِنَّهُ كَهَانَةٌ إِلَى غير ذلك من الأقوال الباطلة. وقيل: أَنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا يَذْكُرُونَهُ فِي سَمَرِهِمْ بِالْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ وَيَضْرِبُونَ لَهُ الْأَمْثَالَ الْبَاطِلَةَ، مِنْ أَنَّهُ شَاعِرٌ، أَوْ كَاهِنٌ، أو ساحر، أو كذاب، أو مجنون. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلُهُ: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أَيْ بِالْبَيْتِ يفتخرون به وتعتقدون أنهم أولياءه وليسوا به، كما قال ابن عباس: إنما كره السمر حين نزلت الْآيَةُ {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} فَقَالَ: مُسْتَكْبِرِينَ بالبيت، يقولون: نحن أهله {سَامِراً} قال: كانوا يتكبرون ويسمرون فيه ولا يعمرونه ويهجرونه (أخرجه النسائي في التفسير عن ابن عباس).

- 68 - أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ - 69 - أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ - 70 - أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ - 71 - وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ - 72 - أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ - 73 - وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ - 74 - وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ - 75 - وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ

يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فِي عَدَمِ تفهمهم للقرآن العظيم وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ خُصُّوا بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ عَلَى رَسُولٍ أكمل منه ولا أشرف، فَكَانَ اللَّائِقُ بِهَؤُلَاءِ أَنْ يُقَابِلُوا النِّعْمَةَ الَّتِي أسداها الله لهم بِقَبُولِهَا وَالْقِيَامِ بِشُكْرِهَا وَتَفَهُّمِهَا وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا آنَاءَ الليل وأطراف النهار، ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَى الْكَافِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي أنهم لَا يَعْرِفُونَ مُحَمَّدًا وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَصِيَانَتَهُ الَّتِي نشأ بها فيهم، وَلِهَذَا قَالَ (جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلنَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إن الله بعث فينا رَسُولًا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، وَهَكَذَا قَالَ (الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) لِنَائِبِ كِسْرَى حِينَ بَارَزَهُمْ، وكذلك قال (أبو سفيان) لِمَلِكِ الرُّومِ هِرَقْلَ حِينَ سَأَلَهُ وَأَصْحَابَهُ عَنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَسَبِهِ وَصِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَكَانُوا بَعْدُ كَفَّارًا لَمْ يُسْلِمُوا، ومع هذا لم يمكنهم إِلَّا الصِّدْقُ فَاعْتَرَفُوا بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} يَحْكِي قَوْلَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ تقوَّل الْقُرْآنَ أي افتراه من عنده، وأن بِهِ جُنُونًا لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَا تُؤْمِنُ بِهِ، وَهُمْ يعلمون بطلان ما يقولون في القرآن، وَقَدْ تَحَدَّاهُمْ وَجَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْتُوا بمثله إن اسْتَطَاعُوا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَبَدَ الْآبِدِينَ، وَلِهَذَا قَالَ: {بَلْ جَآءَهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}، قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ رَجُلًا فَقَالَ: «أَسْلِمْ» فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّكَ لَتَدْعُونِي إِلَى أَمْرٍ أَنَا لَهُ كَارِهٌ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ كُنْتَ كَارِهًا». وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ» فَتَصَعَّدَهُ ذَلِكَ وَكَبُرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ كُنْتَ فِي طَرِيقٍ وَعِرٍ وَعِثٍ، فَلَقِيتَ رَجُلًا تَعْرِفُ وَجْهَهُ وَتَعْرِفُ نَسَبَهُ، فَدَعَاكَ إلى طريق واسع سهل أكنت تتبعه؟» قال: نعم، قال: «فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّكَ لَفِي أَوْعَرِ مِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ لَوْ قَدْ كُنْتَ عَلَيْهِ، وإني لأدعوك لأسهل من ذلك لو دعيت إليه». وَقَوْلُهُ: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} قال مجاهد وَالسُّدِّيُّ: الْحَقُّ هُوَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَالْمُرَادُ لَوْ أَجَابَهُمُ اللَّهُ إِلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمْ من شرع الْهَوَى وَشَرَعَ الْأُمُورَ عَلَى وِفْقِ ذَلِكَ، لَفَسَدَتِ السموات والأرض ومن فيهن أي لفساد أهوائهم واختلافهم، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق} الآية. فَفِي هَذَا كُلِّهِ تَبْيِينُ عَجْزِ الْعِبَادِ وَاخْتِلَافِ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْكَامِلُ فِي جميع صفاته وأقواله وأفعاله وتدبيره لخلقه تعالى وتقدس، ولهذا قال: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} أي الْقُرْآنَ {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ}، وَقَوْلُهُ: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً} قَالَ الْحَسَنُ: أَجْرًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: جُعْلاً {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} أَيْ أَنْتَ لَا تَسْأَلُهُمْ أُجْرَةً وَلَا جَعْلًا وَلَا شَيْئًا عَلَى دَعْوَتِكَ إِيَّاهُمْ إِلَى الْهُدَى، بَلْ أَنْتَ فِي ذَلِكَ تَحْتَسِبُ عِنْدَ اللَّهِ جَزِيلَ ثَوَابِهِ، كَمَا قَالَ: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله}، وَقَالَ: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين}، وقال: {اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً}، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ}، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ مَلَكَانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَالْآخِرُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيْهِ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِهِ: اضْرِبْ مَثَل هَذَا وَمَثَلَ أُمَّتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ مثل هذا وَمَثَلَ أُمَّتِهِ كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفَرٍ انْتَهَوْا إِلَى رَأْسِ مَفَازَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِنَ الزَّادِ مَا يَقْطَعُونَ بِهِ الْمَفَازَةَ وَلَا مَا يَرْجِعُونَ بِهِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمْ رَجُلٌ فِي حُلَّةٍ حبرة، فقال: أرأيتم إن أوردتكم رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا

رواء تتبعوني؟ فقالوا: نعم، قال: فانطلق بهم وأوردهم رياضاً معشبة رُوَاءً، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَسَمِنُوا، فَقَالَ لَهُمْ: أَلَمْ ألفَكم عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَجَعَلْتُمْ لِي إِنْ وَرَدْتُ بكم رياضاً معشبة رِوَاءً أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ رِيَاضًا أَعْشَبُ مِنْ هَذِهِ، وَحِيَاضًا هِيَ أَرَوَى مِنْ هَذِهِ، فَاتَّبِعُونِي، قَالَ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: صَدَقَ وَاللَّهِ لنتبعنَّه، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: قَدْ رَضِينَا بِهَذَا نُقِيمُ عَلَيْهِ (أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس مرفوعاً). وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي مُمْسِكٌ بِحَجْزِكُمْ هلَّم عَنِ النَّارِ، هلَّم عن النار وتغلبونني، تتقاحمون فِيهَا تَقَاحُمَ الْفَرَاشَ وَالْجَنَادِبِ، فَأُوشِكُ أَنْ أُرْسِلَ حَجْزَكُمْ وَأَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فترِدون عَلَيَّ مَعًا وَأَشْتَاتًا، أَعْرِفُكُمْ بِسِيمَاكُمْ وَأَسْمَائِكُمْ كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ الْغَرِيبَ مِنَ الْإِبِلِ فِي إِبِلِهِ، فَيُذْهَبُ بِكُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، فَأُنَاشِدُ فِيكُمْ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَيْ رَبِّ قَوْمِي، أَيْ رَبِّ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي ما أحدثوا بعدك، إنهم كانوا بعدك يمشون القهقرى على أعقابهم" (أخرجه الحافظ الموصلي وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنُ الإسناد). وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} أَيْ لَعَادِلُونَ جَائِرُونَ مُنْحَرِفُونَ، تَقُولُ الْعَرَبُ: نَكَبَ فَلَانٌ عَنِ الطَّرِيقِ إِذَا زَاغَ عَنْهَا، وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ غِلَظِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ، بِأَنَّهُ لَوْ أزاح عنهم الضر وَأَفْهَمَهُمُ الْقُرْآنَ لَمَا انْقَادُوا لَهُ، وَلَاسْتَمَرُّوا عَلَى كفرهم وعنادهم وطيغانهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فَهَذَا مِنْ بَابِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا لَا يكون لو كان كيف يكون، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَا فِيهِ (لَوْ) فَهُوَ مِمَّا لَا يَكُونُ أَبَدًا.

- 76 - وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ وما يَتَضَرَّعُونَ - 77 - حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ - 78 - وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ - 79 - وَهُوَ الذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ - 80 - وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ - 81 - بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ - 82 - قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ - 83 - لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} أَيِ ابْتَلَيْنَاهُمْ بِالْمَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ، {فَمَا اسْتَكَانوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أَيْ فَمَا رَدَّهُمْ ذَلِكَ عَمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُخَالَفَةِ بَلِ استمروا على غيهم وضلالهم، ما اسْتَكَانُوا أَيْ مَا خَشَعُوا {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أَيْ مَا دَعَوْا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ فَقَدْ أَكَلْنَا الْعِلْهِزَ يَعْنِي الْوَبَرَ وَالدَّمَ - فَأَنْزَلَ الله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب فَمَا استكانوا} (أخرجه ابن أبي حاتم والنسائي، وأصله في الصحيحين)، وأصله فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ اسْتَعْصَوْا فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ». وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا

فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}، أَيْ حَتَّى إِذَا جَاءَهُمْ أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة، فأخذهم من عذاب اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أُبْلِسُوا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَأَيِسُوا مِنْ كُلِّ رَاحَةٍ وَانقَطَعَتْ آمَالُهُمْ وَرَجَاؤُهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى نعمه على عباده بأن جَعَلَ لَهُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ وَهِيَ الْعُقُولُ التي يذكرون بِهَا الْأَشْيَاءَ، وَيَعْتَبِرُونَ بِمَا فِي الْكَوْنِ مِنَ الآيات الدالة على وحدانية الله، وَأَنَّهُ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ لِمَا يَشَاءُ، وَقَوْلُهُ: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي ما أَقَلَّ شُكْرِكُمْ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عليكم، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ وَسُلْطَانِهِ الْقَاهِرِ، فِي بَرْئَةِ الْخَلِيقَةِ وَذَرْئِهِ لَهُمْ فِي سَائِرِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ والآخرين لميقات يوم معلوم، وَلِهَذَا قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أَيْ يُحْيِي الرِّمَمَ وَيُمِيتُ الْأُمَمَ، {وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أَيْ وَعَنْ أَمْرِهِ تَسْخِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْآخَرَ طَلَبًا حَثِيثًا، يَتَعَاقَبَانِ لَا يَفْتُرَانِ وَلَا يَفْتَرِقَانِ بِزَمَانِ غَيْرِهِمَا كَقَوْلِهِ: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ ولا الليل سابق النهار} الآية، وَقَوْلُهُ: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أَيْ أَفَلَيِسَ لَكُمْ عُقُولٌ تَدُلُّكُمْ عَلَى الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الَّذِي قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَخَضَعَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ؟ ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ مُنْكِرِي الْبَعْثِ الَّذِينَ أَشْبَهُوا مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ {بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} يَعْنِي يَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَ ذَلِكَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِمْ إِلَى الْبِلَى، {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} يعنون الْإِعَادَةَ مُحَالٌ إِنَّمَا يُخْبِرُ بِهَا مَنْ تَلَقَّاهَا عن كتب الأولين واختلافهم، وهذا الإنكار والتكذيب منهم كقوله إِخْبَارًا عَنْهُمْ {أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كرة خاسرة}، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} الآيات.

- 84 - قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - 85 - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ - 86 - قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - 87 - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ - 88 - قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - 89 - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ - 90 - بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ يُقَرِّرُ تَعَالَى وَحْدَانِيَّتَهُ وَاسْتِقْلَالَهُ بِالْخَلْقِ وَالتَّصَرُّفِ والملك {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَآ؟} أَيْ مَنْ مَالِكُهَا الَّذِي خَلَقَهَا وَمَنْ فِيهَا مِنَ الْحَيَوَاناتِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَالثَّمَرَاتِ وَسَائِرِ صُنُوفِ الْمَخْلُوقَاتِ؟ {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أَيْ فَيَعْتَرِفُونَ لَكَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِذَا كان ذلك {قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أَنَّهُ لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلْخَالِقِ الرزاق لَا لِغَيْرِهِ، {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ؟} أَيْ مَنْ هُوَ خَالِقُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ بِمَا فِيهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَاتِ، وَالْمَلَائِكَةِ الْخَاضِعِينَ لَهُ فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ مِنْهَا وَالْجِهَاتِ؟ وَمَنْ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ يَعْنِي الَّذِي هُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ؟ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَاوَاتِهِ هَكَذَا» وَأَشَارَ بيده مثل القبة (أخرجه أبو داود في سننه). وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ

السبع وما بينهنَّ وما فيهن فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، وَإِنَّ الْكُرْسِيَّ بِمَا فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرْشِ كتلك الحلقة في تلك الفلاة»، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ عَرْشًا لِارْتِفَاعِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي الْعَرْشِ إلا كحلقة في أرض فلاة، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْعَرْشُ لَا يَقْدِرُ قدره أحد إلا الله عزَّ وجلَّ. ولهذا قال ههنا: {ورب العرش العظيم} أي الكبير، وقال آخِرِ السُّورَةِ {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} أَيِ الْحَسَنِ الْبَهِيِّ فَقَدْ جَمَعَ الْعَرْشُ بَيْنَ الْعَظَمَةِ فِي الاتساع، والعلو والحسن الباهر، قال ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نُورُ الْعَرْشِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ، وَقَوْلُهُ: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أَيْ إِذَا كُنْتُمْ تَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أَفَلَا تَخَافُونَ عِقَابَهُ وَتَحْذَرُونَ عَذَابَهُ في عبادتكم معه غيره وإشراككم به؟ قوله: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ بِيَدِهِ الْمُلْكُ {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ} أَيْ مُتَصَرِّفٌ فِيهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا وَالَّذِي نَفْسِي بيده»، وكان إذا اجتهد باليمين قَالَ: «لَا وَمُقَلِّبَ الْقُلُوبِ»، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ، {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} كَانتِ الْعَرَبُ إِذَا كَانَ السيد فيهم أجار أَحَدًا لَا يُخْفَرُ فِي جِوَارِهِ، وَلَيْسَ لِمَنْ دُونَهُ أَنْ يُجِيرَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَفْتَاتَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} أَيْ وَهُوَ السَّيِّدُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا أَعْظَمَ مِنْهُ، الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَلَا معقب لحكمه، {لاَ يُسْأَلُ عما يفعل وهم يسألون}، {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أَيْ سَيَعْتَرِفُونَ أَنَّ السَّيِّدَ الْعَظِيمَ الَّذِي يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أَيْ فَكَيْفَ تَذْهَبُ عُقُولُكُمْ فِي عِبَادَتِكُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ مَعَ اعْتِرَافِكُمْ وَعِلْمِكُمْ بِذَلِكَ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَقَمْنَا الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ الْوَاضِحَةَ الْقَاطِعَةَ عَلَى ذَلِكَ، {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أَيْ فِي عِبَادَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} فالمشركون إنما يَفْعَلُونَ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِآبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمُ الْحَيَارَى الْجُهَّالِ كما قال الله عنهم {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}.

- 91 - مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ - 92 - عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ والتصرف والعبادة، فقال تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أَيْ لَوْ قُدِّرَ تَعَدُّدُ الْآلِهَةِ، لَانفَرَدَ كُلٌّ منهم بما خلق، فَمَا كَانَ يَنْتَظِمُ الْوُجُودُ، وَالْمُشَاهَدُ أَنَّ الْوُجُودَ منتظم متسق، غَايَةِ الْكَمَالِ {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ}، ثُمَّ لَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَطْلُبُ قَهْرَ الْآخَرِ وخلافه، فيعلو بعضهم على بعض، والمتكلمون عبروا عَنْهُ بِدَلِيلِ (التَّمَانُعِ) وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ صانعان فصاعداً فأراد واحد تحرريك جسم والآخر أراد سُكُونَهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ منهما كانا عاجزين، وَيَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ مُرَادَيْهِمَا لِلتَّضَادِّ، وَمَا جَاءَ هَذَا الْمُحَالُ إِلَّا مِنْ فَرْضِ التَّعَدُّدِ فَيَكُونُ مُحَالًا؛ فَأَمَّا إِنْ حَصَلَ مُرَادُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْوَاجِبُ، وَالْآخِرُ الْمَغْلُوبُ مُمْكِنًا، لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِصِفَةِ الْوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ مقهوراً؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} أَيْ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ فِي دَعْوَاهُمُ الْوَلَدَ أَوِ الشَّرِيكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أَيْ يَعْلَمُ مَا يَغِيبُ

عَنِ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا يُشَاهِدُونَهُ، {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أَيْ تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ وَتَعَالَى وعزَّ وجلَّ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ.

- 93 - قُلْ رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ - 94 - رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - 95 - وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ - 96 - ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ - 97 - وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ - 98 - وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يدعو بهذا الدُّعَاءَ عِنْدَ حُلُولِ النِّقَمِ {رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} أي إن عاقبتهم وأنا أشاهد ذَلِكَ فَلَا تَجْعَلُنِي فِيهِمْ؛ كَمَا جَاءَ فِي الحديث: «وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مفتون» (أخرجه أحمد والترمذي وصححه). وقوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} أَيْ لَوْ شِئْنَا لَأَرَيْنَاكَ مَا نُحِلُّ بِهِمْ من النقم والبلاء والمحن، ثم قال تعالى مُرْشِدًا لَهُ إِلَى التِّرْيَاقِ النَّافِعِ فِي مُخَالَطَةِ الناس وهو الإحسان إلى من يسيء إليه لِيَسْتَجْلِبَ خَاطِرَهُ، فَتَعُودُ عَدَاوَتُهُ صَدَاقَةً وَبُغْضُهُ مَحَبَّةً، فقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}، وَهَذَا كَمَا قال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وبينه عدوة كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، وقوله تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} أمره الله أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنَ الشَّيَاطِينِ لِأَنَّهُمْ لَا تَنْفَعُ معهم الحيل، ولا ينقادون بالمعروف، وفي الصحيح: «أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ من همزة ونفخه ونفثه». وقوله تعالى: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} أَيْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِي، وَلِهَذَا أَمَرَ بِذِكْرِ اللَّهِ في ابتداء الأمور، وذلك لطرد الشيطان عِنْدَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ وَالذَّبْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأمور، ولهذا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَدْمِ، وَمِنَ الْغَرَقِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِيَ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ» (أخرجه أبو داود في سننه). وروى الإمام أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا كَلِمَاتٍ يَقُولُهُنَّ عِنْدَ النَّوْمِ من الفزع: «باسم اللَّهِ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَمِنْ شَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ» قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يُعَلِّمُهَا مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدِهِ أَنْ يَقُولَهَا عِنْدَ نَوْمِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ أَنْ يَحْفَظَهَا كَتَبَهَا لَهُ فَعَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ. (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ).

- 99 - حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ - 100 - لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ المحتضر عند الموت من الكافرين، وَسُؤَالِهِمُ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِيُصْلِحَ مَا كَانَ أَفْسَدَهُ فِي مُدَّةِ حَيَّاتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} كقوله: {وَلَوْ ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا موقنون}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ

يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نعمل} الآية، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ فَلَا يُجَابُونَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ، وَيَوْمَ النُّشُورِ وَوَقْتَ الْعَرْضِ عَلَى الجبار، وهم في غمرات عذاب الجحيم، وقوله ههنا: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} كَلَّا حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ أَيْ لَا نُجِيبُهُ إِلَى مَا طلب ولا نقبل منه. وقوله تعالى: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} قال ابن أَسْلَمَ: أَيْ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَهَا لَا مَحَالَةَ كُلُّ مُحْتَضِرٍ ظَالِمٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذلك علة لقوله {كَلاَّ} أَيْ سُؤَالُهُ الرُّجُوعَ لِيَعْمَلَ صَالِحًا هُوَ كَلَامٌ مِنْهُ وَقَوْلٌ لَا عَمَلَ مَعَهُ، وَلَوْ رُدَّ لَمَا عَمِلَ صَالِحًا وَلَكَانَ يَكْذِبُ فِي مَقَالَتِهِ هَذِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وإنهم لكاذبون}. قال قَتَادَةُ: وَاللَّهِ مَا تَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أهل ولا إلى عشيرة، ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات، وَلَكِنْ تَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فرحم الله امرأ عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب إلى النار. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى غُفْرَةَ: إذا قال الكافر رَبِّ ارجعون لعلي أعمل صالحاً يقول الله تعالى: كلا كذبت، وكان العلاء بن زياد يقول: لينزلن أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنَّهُ قَدْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَاسْتَقَالَ ربه فأقاله فليعمل بطاعة الله تعالى. وقال قتادة: والله ما تمنى إلا أَنْ يَرْجِعَ فَيَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، فَانظُرُوا أُمْنِيَّةَ الْكَافِرِ الْمُفَرِّطِ، فَاعْمَلُوا بِهَا وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بالله. وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِذَا وُضِعَ - يَعْنِي الْكَافِرَ - فِي قَبْرِهِ فَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَيَقُولُ رَبِّ ارْجِعُونِ أَتُوبُ وَأَعْمَلُ صَالِحًا، قَالَ: فَيُقَالُ: قَدْ عُمِّرْتَ مَا كُنْتَ مُعَمَّرًا، قَالَ: فيضيّق عليه قبره ويلتئم فَهُوَ كَالْمَنْهُوشِ يَنَامُ وَيَفْزَعُ تَهْوِي إِلَيْهِ هَوَامُّ الأرض وحيَّاتها وعقاربها (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة موقوفاً). وعن عائشة رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: وَيْلٌ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ، تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِي قُبُورِهِمْ حَيَّاتٌ سُودٌ، أَوْ دُهْم. حَيَّةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَحَيَّةٌ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، يَقْرُصَانِهِ حَتَّى يَلْتَقِيَا فِي وَسَطِهِ، فَذَلِكَ الْعَذَابُ فِي الْبَرْزَخِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (أخرجه ابن أبي حاتم عن عائشة موقوفاً). قال مُجَاهِدٌ: الْبَرْزَخُ الْحَاجِزُ مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الْبَرْزَخُ مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَيْسُوا مَعَ أَهْلِ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَلَا مَعَ أَهْلِ الْآخِرَةِ يُجَازَوْنَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَقَالَ أَبُو صَخْرٍ: الْبَرْزَخُ الْمَقَابِرُ لَا هُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا هُمْ فِي الْآخِرَةِ فَهُمْ مقيمون إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، في قوله تعالى: {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ} تَهْدِيدٌ لِهَؤُلَاءِ الْمُحْتَضَرِينَ مِنَ الظلمة بعذاب البرزخ، كما قال تعالى: {وَمِن وَرَآئِهِمْ جهنم}، وقال تعالى: {وَمَن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}، وقوله تعالى: {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أَيْ يَسْتَمِرُّ بِهِ الْعَذَابُ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «فَلَا يَزَالُ مُعَذَّبًا فِيهَا» أَيْ فِي الْأَرْضِ.

- 101 - فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ - 102 - فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - 103 - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ - 104 - تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةُ النُّشُورِ، وَقَامَ الناس من القبور {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ}

أي لا تنفع الإنسان يومئذٍ قرابة وَلَا يَرْثِي وَالِدٌ لِوَلَدِهِ وَلَا يَلْوِي عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ} أَيْ لَا يَسْأَلُ الْقَرِيبُ قَرِيبَهُ وَهُوَ يُبْصِرُهُ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْزَارِ مَا قَدْ أثقل ظهره، ولو كان أعز الناس عليه فِي الدُّنْيَا مَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ وَلَا حَمَلَ عَنْهُ وَزْنَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ} الآية. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ثُمَّ نَادَى مُنَادٍ: إلا من كان له مظلمة فليجيء فَلْيَأْخُذْ حَقَّهُ، قَالَ: فَيَفْرَحُ الْمَرْءُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى وَالِدِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كتاب الله، قال الله تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يتساءلون} (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود). وروى الإمام أحمد عن المسور بن مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مني يغيظني ما يغيظها وينشطني ما ينشطها، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة ألا نسبي وسبي وصهري»؛ وهذا الحديث له أصل في الصحيحين: «فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها ويؤذيني ما آذاها». وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مُسْنَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَ (أُمَّ كُلْثُومٍ) بِنْتَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا بِي إِلَّا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ فَإِنَّهُ مُنْقَطِعٌ يوم القيامة ألا سبي ونسبي» (رواه الطبراني والبزار والبيهقي والحافظ الضياء في المختارة وذكر أنه أصدقها أربعين ألفاً إعظاماً وإكراماً)، وروى الحافظ ابن عساكر عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ نَسَبٍ وَصِهْرٍ ينقطع يوم القيامة ألا نسبي وصهري». وقوله تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيْ مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ وَلَوْ بِوَاحِدَةٍ، قال ابْنُ عَبَّاسٍ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيِ الَّذِينَ فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة، {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}: أَيْ ثَقُلَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} أَيْ خَابُوا وهلكوا وباءوا بالصفقة الخاسرة. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَرْفَعُهُ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِالْمِيزَانِ فَيُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ فَيُوقَفُ بَيْنَ كِفَّتَيِ الْمِيزَانِ، فَإِنْ ثَقُلَ مِيزَانُهُ نادى ملك بصوت يسمعه الْخَلَائِقَ: سَعِدَ فُلَانٌ سَعَادَةً لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا، وَإِنْ خَفَّ مِيزَانُهُ نَادَى مَلَكٌ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: شَقِيَ فَلَانٌ شَقَاوَةً لَا يَسْعَدُ بعدها أبداً (رواه الحافظ البزار وفي إسناده ضعف). وقال تعالى: {في جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} أي ماكثون فيها دائمون مقيمون فلا يَظْعَنُونَ {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وتغشى وُجُوهَهُمُ النار}، وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ} الآية. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «إن جهنم لما سيق لها أهلها، تلقَّاهم لهبها ثم تلفحهم لفحة فلم يبق لهم لحم إلا سقط على العرقوب» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة). وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} قَالَ: تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم (أخرجه ابن مردويه عن أبي الدرداء). وقوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قال ابن عباس: يعني عابسون، وقال ابن مَسْعُودٍ {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الرَّأْسِ الْمَشِيطِ الَّذِي قَدْ بَدَا أَسْنَانُهُ وقلصت شفتاه، وعن أبي سعيد

الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «{وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قَالَ تَشْوِيهِ النَّارُ، فَتُقَلِّصُ شَفَتَهُ الْعُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته» (أخرجه أحمد والترمذي، وقال الترمذي: حسن غريب).

- 105 - أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تَكْذِبُونَ - 106 - قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ - 107 - رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ هذا تقريع من الله وتوبيخ لأهل النار على ما ارتكبوه مِنَ الْكَفْرِ وَالْمَآثِمِ، وَالْمَحَارِمِ وَالْعَظَائِمِ الَّتِي أَوْبَقَتْهُمْ في ذلك فقال تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} أَيْ قَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمُ الرُّسُلَ وَأَنْزَلْتُ إليكم الْكُتُبَ وَأَزَلْتُ شُبَهَكُمْ وَلَمْ يَبْقَ لَكُمْ حُجَّةٌ، كما قال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل}، وَقَالَ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، ولهذا قال: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ} أَيْ قَدْ قَامَتْ عَلَيْنَا الْحُجَّةُ وَلَكِنْ كُنَّا أَشْقَى مِنْ أَنْ نَنْقَادَ لَهَا وَنَتَّبِعَهَا فَضَلَلْنَا عَنْهَا وَلَمْ نُرْزَقْهَا، ثُمَّ قَالُوا: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} أي أرددنا إلى الدُّنْيَا فَإِنْ عُدْنَا إِلَى مَا سَلَفَ مِنَّا فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة، كما قال: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ}؟ أَيْ لَا سَبِيلَ إِلَى الْخُرُوجِ لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ تشركون بالله إذا وحده المؤمنون.

- 108 - قال اخسؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ - 109 - إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ - 110 - فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ - 111 - إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ هَذَا جَوَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ إِذَا سَأَلُوا الْخُرُوجَ مِنَ النَّارِ، وَالرَّجْعَةَ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ. يَقُولُ: {اخسؤوا فِيهَا} أَيِ امْكُثُوا فِيهَا صَاغِرِينَ مُهَانِينَ أَذِلَّاءَ {وَلاَ تُكَلِّمُونِ} أَيْ لَا تَعُودُوا إِلَى سُؤَالِكُمْ هَذَا فَإِنَّهُ لَا جَوَابَ لَكُمْ عِنْدِي، قَالَ ابن عباس {اخسؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} قَالَ: هَذَا قَوْلُ الرَّحْمَنِ حين انقطع كلامهم منه. وروى ابن أبي حاتم: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ أَهَّلَ جَهَنَّمَ يَدْعُونَ مَالِكًا فَلَا يُجِيبُهُمْ أَرْبَعِينَ عَامًا، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ، قَالَ: هَانَتْ دَعْوَتُهُمْ وَاللَّهِ عَلَى (مَالِكٍ) وَرَبِّ مَالِكٍ؛ ثُمَّ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فَيَقُولُونَ: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ * رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} قَالَ: فَيَسْكُتُ عَنْهُمْ قدر الدنيا مرتين، ثم يرد عليهم: {اخسؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} قال: فوالله مَا نَبَسَ الْقَوْمُ بَعْدَهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا هُوَ إِلاَّ الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، قَالَ: فَشُبِّهَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِأَصْوَاتِ الْحَمِيرِ أَوَّلُهَا زَفِيرٌ وآخرها شهيق، وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تعالى أن لا يُخْرِجَ مِنْهُمْ أَحَدًا يَعْنِي مِنْ جَهَنَّمَ غيَّر وُجُوهَهُمْ وَأَلْوَانَهُمْ، فَيَجِيءُ الرَّجُلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَشْفَعُ، فيقول: يا رب، فيقول الله من عرف أحداً فليخرجه، فيجيء الرجل من المؤمنين فينظر، فلا يعرف أحداً فيناديه الرجل: يا فلان أَنَا فُلَانٌ، فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ، قَالَ: فَعِنْدَ ذلك يَقُولُونَ: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فعند ذلك يقول الله تعالى: {اخسؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} فإذا قال ذلك أطبقت عليهم النار فلا يخرج منهم أحد (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً)؛ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى

مُذَكِّرًا لَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا كَانُوا يستهزئون بعباده المؤمنين وأوليائه، فقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} أَيْ فَسَخِرْتُمْ مِنْهُمْ فِي دُعَائِهِمْ إِيَّايَ وَتَضَرُّعِهِمْ إِلَيَّ {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} أَيْ حملكم بغضهم على أن أنسيتم مُعَامَلَتِي {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} أَيْ مِنْ صَنِيعِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} أي يلمزونهم استهزاء؛ ثم أخبر تعالى عَمَّا جَازَى بِهِ أَوْلِيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الصَّالِحِينَ، فَقَالَ تعالى: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ} أَيْ عَلَى أذاكم واستهزائكم بهم {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} أَيْ جَعَلْتُهُمْ هُمُ الْفَائِزِينَ بالسعادة والسلامة والجنة والنجاة من النار.

- 112 - قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ - 113 - قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ - 114 - قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - 115 - أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ - 116 - فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى مَا أَضَاعُوهُ فِي عُمْرِهِمُ الْقَصِيرِ فِي الدُّنْيَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَلَوْ صَبَرُوا فِي مُدَّةِ الدُّنْيَا الْقَصِيرَةِ لَفَازُوا كَمَا فَازَ أولياءه الْمُتَّقُونَ، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} أَيْ كَمْ كَانَتْ إِقَامَتُكُمْ فِي الدُّنْيَا؟ {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} أَيِ الْحَاسِبِينَ، {قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} أَيْ مُدَّةً يَسِيرَةً عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ {لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ لَمَا آثَرْتُمُ الْفَانِيَ عَلَى الْبَاقِي، وَلَمَا تَصَرَّفْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ هَذَا التصرف السيء، ولا استحقتتم مِنَ اللَّهِ سُخْطَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، فلو أَنَّكُمْ صَبَرْتُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ كَمَا فعل المؤمنون لفزتم كما فازوا، وفي الحديث: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أُدخِلَ أهلُ الجنةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ قَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قَالُوا: لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قَالَ: لَنِعْمَ مَا اتَّجَرْتُمْ فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، رَحْمَتِي وَرِضْوَانِي وَجْنَّتِي امْكُثُوا فِيهَا خَالِدِينَ مُخَلَّدِينَ. ثم قال: يَا أَهْلَ النَّارِ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قَالُوا: لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَيَقُولُ بِئْسَ مَا اتَّجَرْتُمْ فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، نَارِي وَسُخْطِي امْكُثُوا فِيهَا خالدين مخلدين" (أخرجه ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي مرفوعاً). وقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} أَيْ أَفَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ مَخْلُوقُونَ عَبَثًا بِلَا قَصْدٍ وَلَا إِرَادَةٍ مِنْكُمْ ولا حكمة لنا؟ وقيل: للعبث لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب، وإنما خلقناكم للعبادة وإقامة أوامر الله عزَّ وجلَّ {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} أي لا تعوذون في الدار الآخرة، كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يترك سدى} يَعْنِي هَمَلًا، وَقَوْلُهُ: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أَيْ تَقَدَّسَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا عَبَثًا فَإِنَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ، {لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فَذَكَرَ الْعَرْشَ لِأَنَّهُ سَقْفُ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ أَيْ حَسَنُ الْمَنْظَرِ بَهِيُّ الشَّكْلِ، كَمَا قَالَ تعالى: {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زوج كريم}. وكان آخر خطبة خطبها (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) أَنْ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا الناس إنكم لَمْ تُخْلَقُوا عَبَثًا، وَلَنْ تُتْرَكُوا سُدًى، وَإِنَّ لَكُمْ مَعَادًا يَنْزِلُ اللَّهُ فِيهِ لِلْحُكْمِ بَيْنَكُمْ والفصل بينكم، فخاب وخسر وشقي

عبد أخرجه الله من رحمته، وَحُرِمَ جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، أَلَمْ تَعْلَمُوا أنه لا يؤمن عذاب الله غَدًا إِلَّا مَنْ حَذِرَ هَذَا الْيَوْمَ وَخَافَهُ، وباع نافذاً بِبَاقٍ، وَقَلِيلًا بِكَثِيرٍ، وَخَوْفًا بِأَمَانٍ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مِنْ أَصْلَابِ الْهَالِكِينَ وَسَيَكُونُ مِنْ بَعْدِكُمُ الْبَاقِينَ، حَتَّى تُرَدُّونَ إِلَى خَيْرِ الْوَارِثِينَ؟ ثُمَّ إِنَّكُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ تُشَيِّعُونَ غَادِيًا وَرَائِحًا إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ قَدْ قَضَى نَحْبَهُ، وَانقَضَى أَجْلُهُ، حَتَّى تُغَيِّبُوهُ فِي صَدْعٍ مِنَ الْأَرْضِ، فِي بَطْنِ صَدْعٍ غَيْرِ مُمَهَّدٍ وَلَا مُوَسَّدٍ، قَدْ فَارَقَ الْأَحْبَابَ وَبَاشَرَ التُّرَابَ، وَوَاجَهَ الْحِسَابَ، مُرْتَهَنٌ بِعَمَلِهِ، غَنِيٌّ عَمَّا تَرَكَ، فَقِيرٌ إِلَى مَا قَدَّمَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ قَبْلَ انقِضَاءِ مَوَاثِيقِهِ وَنُزُولِ الْمَوْتِ بِكُمْ؛ ثُمَّ جَعَلَ طَرَفَ رِدَائِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَبَكَى وَأَبْكَى من حوله (أخرجه ابن أبي حاتم عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ). وروى أبو نعيم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في سرية، وأمرنا أم نَقُولَ إِذَا نَحْنُ أَمْسَيْنَا وَأَصْبَحْنَا {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}؟ قَالَ: فقرأناها فغنمنا وسلمنا، وروى ابن أبي حاتم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَانٌ أمتي من الغرق إذا ركبوا السفينة: باسم اللَّهِ الْمَلِكِ الْحَقِّ، وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يشركون، بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رحيم".

- 117 - وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ - 118 - وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا مَنْ أَشْرَكَ بِهِ غَيْرَهُ وَعَبَدَ مَعَهُ سِوَاهُ، وَمُخْبِرًا أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ لَا بُرْهَانَ لَهُ، أَيْ لَا دَلِيلَ لَهُ عَلَى قَوْلِهِ، فقال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ} أَيِ اللَّهُ يُحَاسِبُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ ثُمَّ أَخْبَرَ {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}: أَيْ لَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا فَلَاحَ لَهُمْ وَلَا نَجَاةَ. قَالَ قَتَادَةَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: «مَا تَعْبُدُ؟» قَالَ: أَعْبُدُ اللَّهَ وَكَذَا وَكَذَا حَتَّى عَدَّ أَصْنَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فأيهم إذا أصابك ضر كَشْفَهُ عَنْكَ؟» قَالَ: اللَّهُ عزَّ وجلَّ، قَالَ: «فَأَيُّهُمْ إِذَا كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ فَدَعَوْتَهُ أَعْطَاكَهَا؟» قَالَ: اللَّهُ عزَّ وجلَّ، قَالَ: «فَمَا يَحْمِلُكَ على أن تعبد هؤلاء معه أم حسبت أن تغلب عليه» قال: أردت شكره بعبادة هؤلاء معه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تعلمون ولا يعلمون»، فقال الرجل بعدما أسلم: لقيت رجلاً خصمني (قال ابن كثير: هذا مرسل من هذا الوجه وقد رواه الترمذي مسنداً). وقوله تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} هذا إرشاد من الله تعالى إِلَى هَذَا الدُّعَاءِ، فَالْغَفْرُ إِذَا أُطْلِقَ، مَعْنَاهُ مَحْوُ الذَّنْبِ وَسَتْرُهُ عَنِ النَّاسِ، وَالرَّحْمَةُ مَعْنَاهَا أن يسدده ويوفقه في الأقوال والأفعال.

24 - سورة النور

- 24 - سورة النور

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ - 2 - الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ تَعَالَى هَذِهِ السورة أَنْزلْنَاهَا، فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِهَا وَلَا ينفي ما عداها {وَفَرَضْنَاهَا} قال مجاهد: أَيْ بَيَّنَّا الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَالْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْحُدُودَ، وقال البخاري: ومن قرأ {فرضناها} يقول: فرضناها عَلَيْكُمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَكُمْ، {وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} أَيْ مُفَسَّرَاتٍ وَاضِحَاتٍ {لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مائة جَلْدَةٍ} يعني هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا حُكْمُ الزَّانِي فِي الحد وللعلماء فيه تفصيل، فَإِنَّ الزَّانِيَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِكْرًا وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَتَزَوَّجْ، أَوْ مُحْصَنًا وهو الذي وَطِئَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهُوَ حُرٌّ بَالِغٌ عَاقِلٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ بِكْرًا لَمْ يَتَزَوَّجْ فَإِنَّ حَدَّهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ كَمَا فِي الْآيَةِ، ويزاد على ذلك إما أَنْ يُغَرَّبَ عَامًا عَنْ بَلَدِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّ التَّغْرِيبَ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ إِنْ شَاءَ غَرَّبَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُغَرِّبْ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ فِي ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الْأَعْرَابِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ الله أن ابن هذا كَانَ عَسِيفًا - يَعْنِي أَجِيرًا - عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ ابْنِي مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بكتاب الله تعالى: الوليدة والغنم ردٌّ عليك، وعلى ابنك مائة جلدة وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ - لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ - إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا" فغدا عليها فاعترفت فرجمها (أخرجاه في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ). وفي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى تَغْرِيبِ الزَّانِي مَعَ جِلْدِ مائة إذا كان بكراً؛ فأما إذا كان محصناً فإنه يرجم، كما روى الإمام مالك.

عن ابن عباس أن عمر قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بعد أيها الناس فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى أَنْ يُطَولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ الله، فيضنوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ قَدْ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، فَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أحصن من الرجال ومن النساء إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوِ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ" (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ مُطَوَّلًا). وفي رواية عنه: «ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم أَنَّ عُمَرَ زَادَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا ليس منه لأثبتها كما نزلت» (أخرجه الإمام أحمد والنسائي). وقال ابن عمر: نُبِّئْتُ عَنْ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ قَالَ: كُنَّا عند مروان وفينا زيد فقال زيد بن ثابت: كنا نقرأ: الشيخ والشيخة إذا زنَيا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ، قَالَ مَرْوَانُ: أَلَا كَتَبْتَهَا فِي الْمُصْحَفِ؟ قَالَ: ذَكَرْنَا ذَلِكَ وَفِينَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: أَنَا أَشْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ، قُلْنَا: فَكَيْفَ؟ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَذَكَرَ كَذَا وكذا الرجم، فقال: يا رسول الله اكتب لي آيَةَ الرَّجْمِ، قَالَ: «لَا أَسْتَطِيعُ الْآنَ»، هَذَا أو نحو ذلك (أخرجه الحافظ الموصلي عن محمد بن سيرين). وهذه طرق كلها متعددة متعاضدة، وَدَالَّةٌ عَلَى أَنَّ آيَةَ الرَّجْمِ كَانَتْ مَكْتُوبَةً فنسخ تلاوتها وبقي حكمها معمولاً به والله أعلم. وَقَدْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برجم هذه المرأة لما زنت مع الأجير، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ماعزاً) و (الغامدية) ولم يُنْقَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه جلدهم قبل الرجم، وَلِهَذَا كَانَ هَذَا مَذْهَبَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ؛ وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُجْمَعَ عَلَى الزَّانِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الْجَلْدِ لِلْآيَةِ وَالرَّجْمِ لِلسُّنَّةِ، كَمَا روى الإمام أحمد وأهل السنن عن عبادة ابن الصَّامِتِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ والرجم». وقوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} أي في حكم الله أي لا ترأفوا بِهِمَا فِي شَرْعِ اللَّهِ، وَلَيْسَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الرأفة الطبيعية عَلَى تَرْكِ الْحَدِّ، وَإِنَّمَا هِيَ الرَّأْفَةُ الَّتِي تَحْمِلُ الْحَاكِمَ عَلَى تَرْكِ الْحَدِّ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، قَالَ مُجَاهِدٌ {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} قَالَ: إِقَامَةُ الْحُدُودِ إِذَا رفعت إلى السلطان فتقام ولا تعطل، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «تَعَافَوُا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «لَحَدٌّ يُقَامُ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لِأَهْلِهَا مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا»، وَقِيلَ: الْمُرَادُ {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} فَلَا تُقِيمُوا الْحَدَّ كَمَا يَنْبَغِي مِنْ شِدَّةِ الضَّرْبِ الزَّاجِرِ عَنِ الْمَأْثَمِ، وَلَيْسَ المراد الضرب المبرح، قال عامر الشعبي: رَحْمَةٌ فِي شِدَّةِ الضَّرْبِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: ضَرْبٌ ليس بالمبرح، وقال: هَذَا فِي الْحُكْمِ وَالْجَلْدِ يَعْنِي فِي إِقَامَةِ الحد وفي شدة الضرب، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ جَارِيَةً لِابْنِ عُمَرَ زَنَتْ فَضَرَبَ رِجْلَيْهَا، قَالَ نَافِعٌ: أَرَاهُ قَالَ: وَظَهْرَهَا، قَالَ، قُلْتُ: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} قَالَ: يَا بُنَيَّ وَرَأَيْتَنِي أَخَذَتْنِي بِهَا رَأْفَةٌ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنِي أَنْ أَقْتُلَهَا، وَلَا أَنْ أَجْعَلَ جَلْدَهَا فِي رَأْسِهَا، وَقَدْ أوجعت حين ضربتها، وقوله تَعَالَى: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أَيْ فافعلوا ذلك وأقيموا الْحُدُودَ عَلَى مَنْ زَنَى وَشَدِّدُوا عَلَيْهِ الضَّرْبَ، ولكن ليس مبرحاً،

ليرتدع هو من يَصْنَعُ مِثْلَهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ وَأَنَا أَرْحَمُهَا، فَقَالَ: «ولك في ذلك أجر»، وقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} هَذَا فِيهِ تَنْكِيلٌ لِلزَّانِيَيْنِ إِذَا جُلِدَا بِحَضْرَةِ النَّاسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَبْلَغَ فِي زَجْرِهِمَا، وَأَنْجَعَ فِي رَدْعِهِمَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا وَفَضِيحَةً إِذَا كَانَ النَّاسُ حُضُورًا، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: يعني علانية، والطائفة الرجل فما فوقه، وقال مجاهد: الطائفة الرجل الواحد إِلَى الْأَلْفِ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ: إِنَّ الطَّائِفَةَ تَصْدُقُ عَلَى وَاحِدٍ، وَقَالَ عطاء بن أبي رباح: اثنان، وقال الزهري ثلاثة نفر فصاعداً، وقال الإمام مالك: الطائفة أربعة نفر فصاعداً، لأنه لا يكفي شهادة في الزنا إلا أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَصَاعِدًا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَشَرَةٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يَشْهَدَ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ: أَيْ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَكُونَ ذَلِكَ مَوْعِظَةً وَعِبْرَةً ونكالاً.

- 3 - الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ الزَّانِيَ لَا يَطَأُ إِلَّا زانية أومشركة، أي لا يطاوعه على مراده من الزنا إِلَّا زَانِيَةٌ عَاصِيَةٌ أَوْ مُشْرِكَةٌ لَا تَرَى حُرْمَةَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ {الزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ} أَيْ عَاصٍ بِزِنَاهُ {أَوْ مُشْرِكٌ} لَا يعتقد تحريمه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ليس هذا بالكناح إِنَّمَا هُوَ الْجِمَاعُ لَا يَزْنِي بِهَا إِلَّا زان أو مشرك (هذا إسناد صحيح عن ابن عباس وقد روي نحو ذلك عن مجاهد وعكرمة والضحاك ومقاتل وسعيد بن جبير)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ تعاطيه والتزوج بالبغايا أو تزويج العفائف بالرجال الفجار، وقال أبو داود الطيالسي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} قال: حرم الله الزنا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: حرم الله عَلَى المؤمنين نكاح البغايا، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أخدان}، وَقَوْلُهُ: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} ألآية، ومن ههنا ذهب الإمام أحمد إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مِنَ الرَّجُلِ الْعَفِيفِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْبَغِيِّ مَا دَامَتْ كَذَلِكَ حَتَّى تُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَتْ صَحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْعَفِيفَةِ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ الْمُسَافِحِ حَتَّى يَتُوبَ تَوْبَةً صَحِيحَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المؤمنين}. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا أُم مَهْزُولٍ وَكَانَتْ تُسَافِحُ، فَأَرَادَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} (رواه النسائي والإمام أحمد). وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ (مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ) وَكَانَ رَجُلًا يَحْمِلُ الْأُسَارَى مِنْ مَكَّةَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمُ الْمَدِينَةَ، قَالَ: وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهَا (عَنَاقُ) وَكَانَتْ صَدِيقَةً لَهُ، وَأَنَّهُ وَاعَدَ رَجُلًا مَنْ أُسَارَى مَكَّةَ يَحْمِلُهُ، قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى ظِلِّ حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، قَالَ: فَجَاءَتْ عَنَاقُ فَأَبْصَرَتْ سَوَادَ ظل تحت الحائط، فلما انتهت إليَّ عرفتني، فَقُلْتُ: مَرْثَدٌ، فَقَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، هَلُمَّ فَبِتْ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ، قَالَ، فَقُلْتُ: يَا عَنَاقُ حَرَّمَ الله الزنا، فَقَالَتْ: يَا أَهْلَ الْخِيَامِ هَذَا الرَّجُلُ يَحْمِلُ أسراكم، قال: فتبعني ثمانية ودخلت الحديقة، فَانْتَهَيْتُ إِلَى غَارٍ أَوْ كَهْفٍ، فَدَخَلْتُ فِيهِ فَجَاءُوا حَتَّى قَامُوا عَلَى رَأْسِي، فَبَالُوا، فَظَلَّ بَوْلُهُمْ عَلَى رَأْسِي، فَأَعْمَاهُمُ

اللَّهُ عَنِّي، قَالَ: ثُمَّ رَجَعُوا فَرَجَعْتُ إِلَى صاحبي فحملته، وكان ثَقِيلًا حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْإِذْخَرِ، فَفَكَكْتُ عَنْهُ أحبله، فَجَعَلْتُ أَحْمِلُهُ وَيُعِينُنِي حَتَّى أَتَيْتُ بِهِ الْمَدِينَةَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْكِحُ عَنَاقًا أَنْكِحُ عَنَاقًا - مَرَّتَيْنِ؟ - فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَرُدَّ عليَّ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَرْثَدُ الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً فلا تنكحها». (رواه الترمذي والنسائي وأبو داود واللفظ للترمذي). وقال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ سَالِمًا يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث» وفي رواية: "ثَلَاثَةٌ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، والعاق لوالديه، والذي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ". وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطيالسي في مسنده عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الجنة ديوث» (في الصحاح للجوهري الديوث: القنزع وهو الذي لا غيرة له على أهله). وفي الحديث: «من أراد أن يلقى الله وهو طاهر متطهر فليتزوج الحرائر» (أخرجه ابن ماجه وفي إسناه ضعف). فَأَمَّا إِذَا حَصَلَتْ تَوْبَةٌ فَإِنَّهُ يَحِلُّ التَّزْوِيجُ، لما روي عن ابن عباس وسأله رجل فقال: إِنِّي كُنْتُ أُلِمُّ بِامْرَأَةٍ آتِي مِنْهَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَلَيَّ فَرَزَقَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ مِنْ ذَلِكَ تَوْبَةً، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَهَا، فَقَالَ أُنَاسٌ: إِنَّ الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ هَذَا فِي هَذَا، انكحها فما كان من إثم فعلي (أخرجه ابن أبي حاتم عن شعبة مولى ابن عباس رضي الله عنهما)، وقد ادعى طائفة مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ. قَالَ ابن أبي حاتم عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَهُ {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} قال: نسختها التي بعدها: {وأنكحوا الأيامى منكم} قال: كان يقال الأيامى من المسلمين (أخرجه ابن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ ونص عليه الإمام الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ).

- 4 - وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - 5 - إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا بَيَانُ جَلْدِ الْقَاذِفِ لِلْمُحَصَنَةِ وَهِيَ الْحُرَّةُ الْبَالِغَةُ الْعَفِيفَةُ، فَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ رَجُلًا فَكَذَلِكَ يُجْلَدُ قَاذِفُهُ أيضاً، وليس فيه نزاع بين العلماء، فإن أَقَامَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ درأ عَنْهُ الْحَدُّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فأوجب على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ: (أَحَدُهَا) أَنْ يُجْلَدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، (الثاني) أن ترد شهادته أبداً، (الثَّالِثُ) أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا لَيْسَ بِعَدْلٍ لَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَا عِنْدَ النَّاسِ؛ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأصلحوا} الآية. واختلف الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ؛ هَلْ يَعُودُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، فَتَرْفَعُ التَّوْبَةُ

الْفِسْقَ فَقَطْ، وَيَبْقَى مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ دَائِمًا وَإِنْ تَابَ، أَوْ يَعُودُ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ؟ وَأَمَّا الْجَلْدُ فَقَدْ ذَهَبَ وَانْقَضَى سَوَاءٌ تَابَ أَوْ أَصَرَّ، وَلَا حُكْمَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، بلا خلاف. فذهب (مالك وأحمد والشافعي) إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَارْتَفَعَ عنه حكم الفسق (نقل هذا عن سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ سَيِّدُ التَّابِعِينَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ أَيْضًا)، وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّمَا يَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ فَيَرْتَفِعُ الفسق بالتوبة ويبقى مردود الشهادة أبداً (وبه قال شُرَيحٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَكْحُولٌ وغيرهم رَّضِيَ الله عَنْهُمْ)، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تاب إلاّ أن يتعرف على نفسه أنه قَدْ قَالَ الْبُهْتَانَ، فحينئذٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَاللَّهُ أعلم.

- 6 - وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إنه لمن الصادقين - 7 - والخامسة أَن لَّعْنَةُ الله عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ - 8 - وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكاذبين - 9 - والخامسة أن غضب الله عليها إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ - 10 - وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا فَرَجٌ لِلْأَزْوَاجِ وَزِيَادَةُ مَخْرَجٍ إِذَا قَذَفَ أَحَدُهُمْ زَوْجَتَهُ، وَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ أَنْ يُلَاعِنَهَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَهُوَ أَنْ يُحْضِرَهَا إِلَى الْإِمَامِ فَيَدَّعِيَ عَلَيْهَا بِمَا رَمَاهَا بِهِ، فَيُحَلِّفُهُ الْحَاكِمُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ فِي مُقَابَلَةِ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ: أَيْ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزنا {وَالْخَامِسَةُ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ بَانَتْ مِنْهُ وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ أَبَدًا، وَيُعْطِيهَا مَهْرَهَا وَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا حد الزنا، وَلَا يَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ إِلَّا أَنْ تُلَاعِنَ، فَتَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لِمَنَ الْكَاذِبِينَ: أَيْ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ، {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، وَلِهَذَا قَالَ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} يَعْنِي الْحَدَّ، {أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ من الصادقين} فخصها بالعضب، كَمَا أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَتَجَشَّمُ فضحية أهله ورميها بالزنا إِلَّا وَهُوَ صَادِقٌ مَعْذُورٌ وَهِيَ تَعْلَمُ صِدْقَهُ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْخَامِسَةُ فِي حَقِّهَا أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ الْحَقَّ ثُمَّ يَحِيدُ عَنْهُ؛ ثم ذكر تعالى رأفته بخلقه ولطفه بهم فيما شرع لهم من الفرج والمخرج من شدة ما يكون بهم من الضيق، فقال تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أَيْ لَحَرِجْتُمْ وَلَشَقَّ عَلَيْكُمْ كَثِيرٌ مِنْ أُمُورِكُمْ {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} أَيْ عَلَى عِبَادِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْحَلِفِ وَالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ {حَكِيمٌ} فِيمَا يَشْرَعُهُ ويأمر به وفيما ينهى عنه. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً}، قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الأنصار رضي الله عنه: أهكذا أُنْزِلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟» فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَلُمْهُ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً قَطُّ إِلَّا بكراً، وما طلق امرأة قَطُّ فَاجْتَرَأَ رَجُلٌ مِنَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ شِدَّةِ غَيْرَتِهِ، فَقَالَ

سَعْدٌ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ إنها لحق وَأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنِّي قَدْ تَعَجَّبْتُ أَنِّي لَوْ وَجَدْتُ لَكَاعًا قَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أَهِيجَهُ وَلَا أُحَرِّكَهُ، حَتَّى آتي بأربعة شهداء، فوالله إني لَا آتِي بِهِمْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ، قَالَ: فَمَا لَبِثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ (هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ) وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ مِنْ أَرْضِهِ عِشَاءً فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا، فَرَأَى بِعَيْنَيْهِ وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ، فَلَمْ يهيجه حَتَّى أَصْبَحَ فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جِئْتُ أَهْلِي عِشَاءً فَوَجَدْتُ عِنْدَهَا رَجُلًا فَرَأَيْتُ بِعَيْنِي وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِهِ واشتد عليه واجتمعت عليه الأنصار، وقالوا: قَدِ ابْتُلِينَا بِمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، الْآنَ يَضْرِبُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ وَيُبْطِلُ شَهَادَتَهُ فِي الناس، فَقَالَ هِلَالُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِي مِنْهَا مَخْرَجًا؛ وَقَالَ هِلَالُ: يَا رسول الله فإني قَدْ أَرَى مَا اشْتَدَّ عَلَيْكَ مِمَّا جِئْتُ بِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَصَادِقٌ، فَوَاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أن يأمر بضربه إذا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحي، وكان إذا أنزل عَلَيْهِ الْوَحْيُ عَرَفُوا ذَلِكَ فِي تَرَبُّدِ وَجْهِهِ، يَعْنِي فَأَمْسَكُوا عَنْهُ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْوَحْيِ، فَنَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله} الْآيَةَ، فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «أبشر يا هلال فقد جَعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا»، فَقَالَ هِلَالٌ: قَدْ كُنْتُ أَرْجُو ذَلِكَ مِنْ رَبِّي عزَّ وجلَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فأرسولا إليها»، فأرسولا إِلَيْهَا فَجَاءَتْ فَتَلَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم عليهما فذكرهما، وَأَخْبَرَهُمَا أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، فَقَالَ هِلَالٌ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لقد صدقت عليها، فقال: كَذَبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَاعِنُوا بَيْنَهُمَا»، فَقِيلَ لِهِلَالٍ، اشْهَدْ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لِمَنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا كانت الْخَامِسَةِ قِيلَ لَهُ يَا هِلَالُ اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي عَلَيْهَا، فَشَهِدَ فِي الْخَامِسَةِ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، ثم قيل للمرأة: اشْهَدِي أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لِمَنَ الْكَاذِبِينَ، وقيل لها عند الخامسة اتَّقِي اللَّهَ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عليك العذاب، فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف، ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي فَشَهِدَتْ فِي الْخَامِسَةِ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ؛ فَفَرَّقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، وقضى أن لا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ، وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَضَى أن لا بَيْتَ لَهَا عَلَيْهِ وَلَا قُوتَ لَهَا مِنْ أجل أنهما يفترقان مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفَّى عَنْهَا، وَقَالَ: «إن جاءت به أصهيب أريشح حَمْشَ السَّاقِينَ فَهُوَ لِهِلَالٍ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جَمَالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ فهو للذي رُمِيَتْ بِهِ»، فَجَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جَمَالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ»، قَالَ عِكْرِمَةُ: فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ، وَكَانَ يُدْعَى لِأُمِّهِ ولا يدعى لأب (أخرجه الإمام أحمد وأبو داود بنحوه مُخْتَصَرًا). وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ فِي الصِّحَاحِ وغيرها من وجوه كثيرو؛ فمنها ما رواه البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البينة أو الحد فِي ظَهْرِكَ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ»، فَقَالَ هِلَالٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لِصَادِقٌ وَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ، فَنَزَلَ جبريل

وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} - فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليهما فشهد هلال والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يعلم أن أحدكم كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ» ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ، فلما كان في الْخَامِسَةِ وَقَفُوهَا، وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجِبَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ فَمَضَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ» فجاءت به كذلك، فقا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» (انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ). وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: إِنَّ أَحَدَنَا إِذَا رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا إن قتله قَتَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ على غيظ؟! والله لئن أصبحت صحيحاً لَأَسْأَلَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلاً إن قتله قَتَلْتُمُوهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ على غيظ، اللهم احكم، قال: فنزلت آيَةُ اللِّعَانِ، فَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوَّلَ مَنِ ابتلي به. (وأخرجه مسلم من طرق عن سليمان بن مهراش الأعمش). وعن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ عُوَيْمِرٌ إِلَى (عاصم بن عدي) فقال له: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِهِ فَقَتَلَهُ أَيُقَتَلُ بِهِ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ، قَالَ: فَلَقِيَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: مَا صَنَعْتُ إِنَّكَ لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَابَ الْمَسَائِلَ، فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْأَسْأَلَنَّهُ؛ فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ قد أُنْزِل عليه فيها، قال: فدعا بهما ولاعن بينهما، قال عويمر: إن انْطَلَقْتُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ كَذَبْتُ عَلَيْهَا، قَالَ فَفَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَتْ سُنَّةَ المتلاعنين، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ فَلَا أَرَاهُ إِلَّا قَدْ صَدَقَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ، فَلَا أَرَاهُ إِلَّا كَاذِبًا»، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَبَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا الترمذي). وروى الحافظ أبو يعلى عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَأَوَّلُ لِعَانٍ كَانَ فِي الإِسلام أَنَّ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ قَذَفَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ بِامْرَأَتِهِ، فَرَفَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعَةَ شُهُودٍ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ إِنِّي لَصَادِقٌ، وَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ مَا يُبَرِّئُ بِهِ ظَهْرِي مِنَ الْجَلْدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آية اللعان: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، قَالَ: فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم: «اشْهَدْ بِاللَّهِ إِنَّكَ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتَهَا به من الزنا» فَشَهِدَ بِذَلِكَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ الْخَامِسَةِ: «وَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ إِن كُنتَ مِنَ الكاذبين فيما رميتها به من الزنا» فَفَعَلَ، ثُمَّ دَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «قُومِي فَاشْهَدِي بِاللَّهِ إِنَّهُ لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنا» فَشَهِدَتْ بِذَلِكَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، ثُمَّ قَالَ لَهَا فِي الْخَامِسَةِ: «وَغَضَبُ اللَّهِ عَلَيْكِ إِنْ كَانَ من الصادقين فيما رماك به من الزنا» قال: فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ أَوِ الْخَامِسَةُ سَكَتَتْ سَكْتَةً حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهَا سَتَعْتَرِفُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ فَمَضَتْ عَلَى الْقَوْلِ، فَفَرَّقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وقال: «انظروا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقِينَ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سبطاً قصير الْعَيْنَيْنِ فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ»

فجاءت به جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا مَا نَزَلَ فِيهِمَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» (ذكر السيوطي الروايات في ذلك وقال، قال ابن حجر: اختلف الأئمة فمنهم من رجح أنها نزلت في هلال، ومنهم من رجح أنها في عويمر، ومنهم جمع بينهما، ويحتمل أن النزول سيق بسبب هلال ثم صادف مجيء عويمر ولم يكن له علم بما وقع لهلال، وجنح القرطبي إلى تجويز نزول الآية مرتين، قال ابن حجر: ولا مانع من تعدد الأسباب).

- 11 - إن الذين جاؤوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ هَذِهِ الْعَشْرُ الْآيَاتِ كُلُّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، حِينَ رَمَاهَا أَهْلُ الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِمَا قَالُوهُ مِنَ الْكَذِبِ البحت، والفرية التي غار الله عزَّ وجلَّ لَهَا وَلِنَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ الله تعالى براءتها صيانة لعرض الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} أَيْ جَمَاعَةٌ مِنْكُمْ يَعْنِي مَا هُوَ وَاحِدٌ وَلَا اثْنَانِ بَلْ جَمَاعَةٌ؛ فَكَانَ الْمُقَدَّمُ فِي هَذِهِ اللَّعْنَةِ (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبي بْنِ سَلُولٍ) رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَجْمَعُهُ وَيَسْتَوْشِيهِ حَتَّى دَخَلَ ذَلِكَ فِي أَذْهَانِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، فَتَكَلَّمُوا بِهِ، وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ مِنْهُمْ، وَبَقِيَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ؛ وبيان ذلك في الأحاديث الصحيحة. عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن يخرج لسفر أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معه، قالت عائشة رضي الله عنها: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي، وَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك بعدما نزل الْحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ، فسرنا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم من غزوته وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فقمت حين آذن بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقد لي مِنْ جَزْعِ ظَفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يرحلونني، فاحتملوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ، قَالَتْ: وَكَانَ النِّسَاءُ إذ ذاك خفافاً لم يثقلن وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطعام؛ فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا، وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدونني فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غلبتني عيناي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذكواني قد عرس من الْجَيْشِ، فَادَّلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كان رآني قبل الْحِجَابُ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي وَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً وَلَا سَمِعْتُ منه كلمة غير استرجاعه حين أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوْطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ (عبد الله بن أُبي بن سلول). فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمناها شهراً والناس يفيضون في قول الْإِفْكِ، وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ،

وهو يريبني في وجعي أني لا أرى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللطف الذي أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يقول: «كيف تيكم؟» فذلك الذي يَرِيبُنِي وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ، حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا نَقَهْتُ، وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسطْحٍ قِبَل الْمَنَاصِعِ وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا وَلَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى ليل؛ وذلك قبل أن نتخذ الكنف القريب مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي التنزه في البرية، وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا فِي بُيُوتِنَا، فانطلقت أنا وأم مسطح وهي بنت أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا ابْنَةُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بكر الصديق، وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ عبد المطلب بن عبد مناف، فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم مسطح قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحُ، فقلت لها: بئسما قلت، تسبين رجلاً شهد بدراً؟ فقالت: أَيْ هَنْتَاهْ أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وماذا قال؟ قالت: فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ، ثم قال: «كيف تيكم؟» فقلت له: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ، قَالَتْ: وَأَنَا حينئذٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فأذن لي رسول الله فجئت أبوي، فقلت لأمي: يا أمتاه لماذا يتحدث الناس به؟ فَقَالَتْ أَيْ بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا، قَالَتْ، فَقُلْتُ: سبحان الله وقد تحدث الناس بها؟ فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أبكي. قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (علي بن أبي طالب) و (أسامة بن زيد) حين استلبث الوحي، يسألهما ويستشيرهما فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، قَالَتْ: فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال أسامة: يا رسول الله أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيُّ بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ الْخَبَرَ، قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ فَقَالَ: «أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ مِنْ عَائِشَةَ؟» فَقَالَتْ لَهُ بِرَيْرَةُ: وَالَّذِي بعثك بالحق إن رأيت منها أمراً أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنَ فَتَأْكُلُهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبي سلول، قالت: فقال رسول الله وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أهلي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا معي»، فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فَقَالَ: أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ، قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سيد الخزرج وكان رجلاً صالحاً ولكن احتمله الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل، فَقَامَ أُسَيدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عن المنافق، فَتَثَاوَرَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا، وَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتِ: وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقُ كَبِدِي، قَالَتْ: فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وأنا أبكي إذا اسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ: وَلَمْ يجلس

عندي منذ قيل مَا قِيلَ، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْءٌ. قَالَتْ: فَتَشْهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِن كُنتُ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لأبي: أجب عني رسول الله، فقال: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ، فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أقرأ كثيراً من القرآن: والله لقد علمت، لقد سمعتم بهذا الحديث حتى اسستقر في أنفسكم وصدقتم به، فإن قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ - وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بريئة - لا تصدقونني، ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتُصَدِّقُني، فوالله مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ على مَا تصفون}، قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، قَالَتْ: وأنا الله أعلم حينئذٍ أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي، ولكن مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنَيْ وحيٌ يُتْلَى، ولَشأني كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، ولكن كنت أرجو من أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم مَجْلِسِهِ، وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ، حتى أنزل الله تعالى عَلَى نبيَّه، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البرحاء عند الوحي، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ قَالَتْ: فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يضحك، فكان أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: «أَبْشِرِي يا عائشة، أما الله عزَّ وجلَّ فقد برأك». قالت: فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ عزَّ وجلَّ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي، وَأَنْزَلَ الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الذين جاؤوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ يُنْفِقُ على مسطح بن أثاثة لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ: وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يؤتوا أُوْلِي القربى - إِلَى قَوْلِهِ - إِلاَّ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، فقال أبو بكر: بلى وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فرجَّع إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عليه، وقال: والله لَا أَنْزَعُهَا مِنْهُ أَبَدًا، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل (زينب بنت جحش) زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أمري، فقال: «يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟» فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعصمها الله بِالْوَرَعِ؛ وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا (حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ) تُحَارِبُ لَهَا فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَهَذَا مَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ (أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حديث الزهري عن عائشة رضي الله عنها). وروى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذَلِكَ وَتَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وامرأة فضربوا حدَّهم (رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وقال الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ تَسْمِيَتُهُمْ وهم (حسان بن ثابت) و (مسطح بن أثاثة) و (حمنة بنت جحش))، وروى الإمام أحمد أيضاً عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ أُمِّ رُومَانَ قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ عَائِشَةَ

إِذْ دَخَلَتْ عَلَيْهَا امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَتْ: فَعَلَ اللَّهُ بِابْنِهَا وَفَعَلَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَلِمَ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ كَانَ فِيمَنْ حدَّث الْحَدِيثَ، قَالَتْ: وأي الحديث؟ قالت: كذا وكذا، قالت: وقد بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: نعم، قالت: وَبَلَغَ أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَخَرَّتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، فَمَا أَفَاقَتْ إِلَّا وَعَلَيْهَا حُمَّى بِنَافِضٍ، قَالَتْ: فَقُمْتُ فَدَثَّرْتُهَا، قالت: فجاء النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَمَا شأن هذه؟» فقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَتْهَا حُمَّى بِنَافِضٍ، قَالَ: «فَلَعَلَّهُ فِي حَدِيثٍ تُحُدِّثَ بِهِ» قَالَتْ: فَاسْتَوَتْ عَائِشَةُ قَاعِدَةً، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَئِنْ حَلَفْتُ لَكُمْ لَا تُصَدِّقُونِي، وَلَئِنِ اعْتَذَرْتُ إِلَيْكُمْ لَا تَعْذِرُونِي، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبينه حِينَ قَالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} قالت: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنزل اللَّهُ عُذْرَهَا، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه أَبُو بَكْرٍ فَدَخَلَ، فَقَالَ يَا عَائِشَةُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ عُذْرَكِ»، فَقَالَتْ: بِحَمْدِ اللَّهِ لَا بِحَمْدِكَ، فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: تَقُولِينَ هَذَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قالت: وكان فِيمَنْ حَدَّثَ هَذَا الْحَدِيثَ رَجُلٌ كَانَ يَعُولُهُ أبو بكر، فحلف أن لا يَصِلَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ والسعة} إلى آخر الآية، فقال أبو بكر بلى فوصله. فقوله تعالى: {إِنَّ الذين جاؤوا بالإفك} أي الكذب وَالْبَهْتِ وَالِافْتِرَاءِ {عُصْبَةٌ} أَيْ جَمَاعَةٌ مِنْكُمْ {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ} أَيْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِسَانُ صِدْقٍ فِي الدُّنْيَا وَرِفْعَةُ مَنَازِلَ فِي الْآخِرَةِ، وَإِظْهَارُ شَرَفٍ لَهُمْ بِاعْتِنَاءِ الله تعالى بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم، وَلِهَذَا لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنه وعنها وَهِيَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ، قَالَ لَهَا أَبْشِرِي فَإِنَّكِ زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يُحِبُّكِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَكِ، ونزلت براءتك من السماء، وقوله تعالى: {لِكُلٍّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} أَيْ لِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَرَمَى أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْفَاحِشَةِ نَصِيبٌ عَظِيمٌ مِنَ الْعَذَابِ، {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} قِيلَ: ابْتَدَأَ بِهِ، وَقِيلَ: الَّذِي كَانَ يَجْمَعُهُ وَيُذِيعُهُ وَيُشِيعُهُ {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أَيْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي بْنِ سلول) قبحه الله تعالى وَلَعْنَهُ، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ النَّصُّ عَلَيْهِ فِي الحديث؛ وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وهو قول غريب، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآُثر، وأحسن مآثره أن كَانَ يَذُبُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِعْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ». وقال مسروق كُنْتُ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَدَخَلَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، فَأَمَرَتْ فَأُلْقِيَ لَهُ وِسَادَةٌ، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا تَصْنَعِينَ بِهَذَا؟ يَعْنِي يَدْخُلُ عَلَيْكِ، وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ لَهَا: أَتَأْذَنِينَ لِهَذَا يَدْخُلُ عَلَيْكِ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، قَالَتْ: وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَى، وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ هُوَ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ، ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ أَنْشَدَهَا عِنْدَمَا دَخَلَ عَلَيْهَا شِعْرًا يَمْتَدِحُهَا بِهِ فَقَالَ: حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ * وتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لحوم الغوافل. فقالت: لكنك لست كذلك.

- 12 - لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هذا إفك مبين - 13 - لولا جاؤوا عليه

بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُولَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ هَذَا تَأْدِيبٌ مِنَ الله تعالى للمؤمنين في قصة عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ أَفَاضَ بَعْضُهُمْ في ذلك الكلام السوء وما ذكر من شأن الإفك، فقال تعالى: {لولا} يعني هلا {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أي ذلك الكلام الذي رميت به أم المؤمنين رضي الله عنها {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} أَيْ قَاسُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لَا يَلِيقُ بِهِمْ فَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ بطريق الأولى والأحرى، روي أن أبا أيوب (خالد بن زيد الأنصاري) قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ أَيُّوبَ: يَا أَبَا أيوب أتسمع مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ الْكَذِبُ، أَكُنْتِ فَاعِلَةً ذَلِكَ يَا أُمَّ أَيُّوبَ؟ قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَهُ، قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْكِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَذَكَرَ أَهْلَ الْإِفْكِ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} يَعْنِي أَبَا أَيُّوبَ حِينَ قَالَ لأم أيوب ما قال (ذكره محمد بن إسحاق بن يسار ومحمد بن عمر الواقدي). وقوله تعالى: {ظَنَّ المؤمنون} الخ: أَيْ هَلَّا ظَنُّوا الْخَيْرَ، فَإِنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَهْلُهُ وَأَوْلَى بِهِ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَاطِنِ، وقوله: {وَقَالُواْ}: أَيْ بِأَلْسِنَتِهِمْ {هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} أَيْ كذب ظاهر على أم المؤمنين رضي الله عنها، فَإِنَّ الَّذِي وَقَعَ لَمْ يَكُنْ رِيبَةً، وَذَلِكَ أَنَّ مَجِيءَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَاكِبَةً جَهْرَةً عَلَى رَاحِلَةِ (صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ) فِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ وَالْجَيْشُ بِكَمَالِهِ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهُمْ، ولو كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِيهِ رِيبَةٌ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا جَهْرَةً، وَلَا كَانَا يُقَدِمَانِ عَلَى مِثْلِ ذلك على رؤوس الأشهاد، بل كان هذا يكون لَوْ قُدِّرَ خُفْيَةً مَسْتُورًا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ أَهْلُ الْإِفْكِ مِمَّا رَمَوْا بِهِ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْكَذِبُ الْبَحْتُ، وَالْقَوْلُ الزُّورُ والرعونة الفاحشة الفاجرة قال الله تعالى {لَّوْلاَ} أي هلا {جاؤوا عَلَيْهِ} أَيْ عَلَى مَا قَالُوهُ {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} يَشْهَدُونَ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءُوا بِهِ {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فأولئك عند اللهم الكاذبون} أي في حكم الله كاذبون فاجرون.

- 14 - وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا والآخرة لمسكم فيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ - 15 - إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ يَقُولُ تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أَيُّهَا الْخَائِضُونَ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ، بِأَنْ قَبِلَ تَوْبَتَكُمْ وَإِنَابَتَكُمْ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَعَفَا عَنْكُمْ لِإِيمَانِكُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ {لَمَسَّكُمْ فيما أَفَضْتُمْ فِيهِ} مِنْ قَضِيَّةِ الْإِفْكِ {عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهذا فيمن عند إيمان يقبل الله بسببه التوبة، كمسطح و (حسان) و (حمة بِنْتِ جَحْشٍ) فَأَمَّا مَنْ خَاضَ فِيهِ مِنَ المافقين كعبد الله بن أبي ابن سَلُولٍ وَأَضْرَابِهِ، فَلَيْسَ أُولَئِكَ مُرَادِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ الإيمانُ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَا يُعَادِلُ هَذَا وَلَا مَا يُعَارِضُهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} قَالَ مجاهد: أي يروي بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ، يَقُولُ: هَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ فُلَانٍ، وَقَالَ فَلَانٌ كَذَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ كَذَا، وقوله تعالى: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أَيْ تَقُولُونَ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} أَيْ تَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ فِي شَأْنِ أُمَّ المؤمنين وتحسبون ذلك يسيراً وسهلاً، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةَ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا كَانَ هيناً، فكيف وهي زوجة خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، فَعَظِيمٌ عِندَ اللَّهِ أَن يقال في زوجة نبيه ورسوله ما قيل، فإن الله سبحانه وتعالى يغار لهذا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يَدْرِي مَا تبلغ (وفي رواية لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا) يَهْوِي بِهَا فِي النار أبعد مما بين السماء والأرض».

- 16 - وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ - 17 - يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ - 18 - وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ هَذَا تَأْدِيبٌ آخَرُ بَعْدَ الْأَوَّلِ، يقول اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا} أَيْ مَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَفَوَّهَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَلَا نَذْكُرَهُ لِأَحَدٍ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أَيْ سُبْحَانَ اللَّهِ أَنْ يُقَالَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى زوجة رسوله، وجليلة خَلِيلِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً} أَيْ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ مُتَوَعِّدًا أَنْ يَقَعَ مِنْكُمْ مَا يُشْبِهُ هَذَا أَبَدًا، أي فيما يستقبل، ولهذا قال: {إِنْ كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي إن كنت تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَشَرْعِهِ وَتُعَظِّمُونَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} أَيْ يُوَضِّحُ لَكُمُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَالْحِكَمَ الْقَدَرِيَّةَ، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ عَلِيمٌ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ، حَكِيمٌ فِي شرعه وقدره.

- 19 - إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا والآخرة والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تعلمون هذا تَأْدِيبٌ ثَالِثٌ لِمَنْ سَمِعَ شَيْئًا مِنَ الْكَلَامِ السيء فقام بذهنه شيء منه وتكلم به، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ} أَيْ يَخْتَارُونَ ظُهُورَ الْكَلَامِ عَنْهُمْ بِالْقَبِيحِ {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} أَيْ بِالْحَدِّ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أَيْ فَرُدُّوا الأمر إليه ترشدوا، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَطْلُبُوا عَوَرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ طَلَبَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ طَلَبَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ فِي بيته» (أخرجه الإمام أحمد عن ثوبان مرفوعاً).

- 20 - وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رؤوف رَحِيمٌ - 21 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يقول الله تَعَالَى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رؤوف رَّحِيمٌ} أَيْ لَوْلَا هَذَا لَكَانَ أَمْرٌ آخَرُ، ولكنه

تَعَالَى رُؤُوفٌ بِعِبَادِهِ رَحِيمٌ بِهِمْ، فَتَابَ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَطَهَّرَ من طهر منهم بالحد الذي أقيم عليهم، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يَعْنِي طَرَائِقَهُ وَمَسَالِكَهُ وَمَا يَأْمُرُ بِهِ، {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، هَذَا تَنْفِيرٌ وَتَحْذِيرٌ مِنْ ذلك بأفصح عبارة وأبلغها وأوجزها وأحسنها. قال ابْنِ عَبَّاسٍ {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}: عَمَلَهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَغَاتِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ فَهِيَ مِنْ خطوات الشيطان، وسأل رَجُلٌ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنِّي حَرَّمْتُ أَنْ آكل طعاماً وسماه، فقال: هذا من نزغات الشَّيْطَانِ، كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَكُلْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ فِي رَجُلٍ نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ: هَذَا مِنْ نزغات الشيطان وأفتاه أن يذبح كبشاً. وعن أَبِي رَافِعٍ قَالَ: غَضِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي فَقَالَتْ: هِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّةٌ وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّةٌ وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ إِنْ لَمْ تُطْلِّقِ امْرَأَتَكَ، فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّمَا هَذِهِ من نزغات الشيطان (ذكره ابن أبي حاتم). ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} أي لولا أن الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ التَّوْبَةَ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ وَيُزَكِّي النفوس من شركها وفجورها ودنسها، وَمَا فِيهَا مِنْ أَخْلَاقٍ رَدِيئَةٍ كُلٌّ بِحَسَبِهِ، لَمَا حَصَّلَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ زَكَاةً وَلَا خَيْرًا، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ} أَيْ مَنْ خَلْقِهِ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُرْدِيهِ فِي مَهَالِكِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ، وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} أَيْ سَمِيعٌ لأقوال عباده، {عليم} بمن يستحق منهم الهدى والضلال.

- 22 - وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتَلِ} مِنَ الألية وهي الحلف أي لا يحلف {أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ} أَيِ الطَّوْلِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ. {وَالسَّعَةِ} أَيِ الْجِدَةِ {أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ لَا تَحْلِفُوا أن لا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين، وهذا فِي غَايَةِ التَّرَفُّقِ وَالْعَطْفِ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ، ولهذا قال تعالى: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوا} أَيْ عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْهُمْ مِنَ الْإِسَاءَةِ وَالْأَذَى، وَهَذَا مِنْ حِلْمِهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم، وهذه الآيات نزلت في (الصدّيق) رضي الله عنه، حين حلف أن لا ينفع (مسطح بن أثاثة) بنافعة أبداً، بَعْدَمَا قَالَ فِي عَائِشَةَ مَا قَالَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، وَطَابَتِ النُّفُوسُ الْمُؤْمِنَةُ وَاسْتَقَرَّتْ، وتاب الله عليّ من تَكَلَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ، وَأُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ، شَرَعَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَلَهُ الْفَضْلُ وَالْمِنَّةُ - يُعْطِّفُ الصِّدِّيقَ عَلَى قَرِيبِهِ وَنَسِيبِهِ، وَهُوَ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ ابْنَ خَالَةِ الصَّدِيقِ، وَكَانَ مِسْكِينًا لَا مَالَ لَهُ إِلَّا مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي سبيل الله وقد زلق زلقة تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَضُرِبَ الْحَدَّ عَلَيْهَا، وَكَانَ الصَّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعْرُوفًا بِالْمَعْرُوفِ، لَهُ الْفَضْلُ وَالْأَيَادِي عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، فَلَمَّا نزلت هذه الآية، قال الصديق: بلى والله إنا نحب ان تغفر لنا يا ربنا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ مَا كَانَ يَصِلُهُ مِنَ النَّفَقَةِ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْزَعُهَا مِنْهُ أَبَدًا، فَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ هُوَ الصَّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ بِنْتِهِ.

- 23 - إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُواْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ

- 24 - يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ - 25 - يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ هَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ، خُرِّجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ {الْمُؤْمِنَاتِ} فَأُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالدُّخُولِ فِي هَذَا مِنْ كُلِّ مُحَصَّنَةٍ، وَلَا سِيَّمَا الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ النُّزُولِ وَهِيَ عَائِشَةُ بِنْتُ الصَّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّهَا بَعْدَ هَذَا، وَرَمَاهَا بِمَا رَمَاهَا بِهِ بَعْدَ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذِهِ الآية، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن، وقوله تعالى: {لُعِنُواْ في الدنيا والآخرة}، كقوله: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} الآية، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِعَائِشَةَ رضي الله عنها، قال ابن عباس: نزلت في عائشة خاصة، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: رُمِيتُ بِمَا رُمِيتُ بِهِ وَأَنَا غَافِلَةٌ فَبَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَتْ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عِنْدِي، إِذْ أُوحِيَ إليه، قالت: إِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَخَذَهُ كَهَيْئَةِ السُّبَاتِ، وَإِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدِي ثُمَّ اسْتَوَى جَالِسًا يَمْسَحُ عَلَى وَجْهِهِ وَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ أبشري» قالت، فقلت: بِحَمْدِ اللَّهِ لَا بِحَمْدِكَ، فَقَرَأَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات - حتى بلغ - أولئك مبرؤون مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (أخرجه ابن جرير)، وقال الضحاك: الْمُرَادُ بِهَا أَزْوَاجُ النَّبِيِّ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في الْآيَةِ {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الْآيَةَ: يَعْنِي أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَاهُنَّ أَهْلُ النِّفَاقِ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ لَهُمُ اللَّعْنَةَ وَالْغَضَبَ وَبَاؤُوا بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ - إِلَى قَوْلِهِ - فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْجَلْدَ وَالتَّوْبَةَ، فَالتَّوْبَةُ تُقْبَلُ وَالشَّهَادَةُ تُرَدُّ. وَقَالَ ابن جرير: فسّر ابن عباس سُورَةَ النُّورِ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الْآيَةَ قَالَ: فِي شَأْنِ عَائِشَةَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم، وهي مبهمة (قوله وَهِيَ مُبْهَمَةٌ: أَيْ عَامَّةٌ فِي تَحْرِيمِ قَذْفِ كل محصنة) وَلَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ - إِلَى قَوْلِهِ - إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ} الآية، قَالَ: فَجَعَلَ لِهَؤُلَاءِ تَوْبَةً، وَلَمْ يَجْعَلْ لِمَنْ قَذَفَ أُولَئِكَ تَوْبَةً، قَالَ فهَّم بَعْضُ الْقَوْمِ أَنْ يَقُومَ إِلَيْهِ فَيُقَبِّلَ رَأْسَهُ مِنْ حُسْنِ ما فسر به سورة النور، وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ عُمُومَهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَيُعَضِّدُ الْعُمُومَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ» قيل: وما هن يا رسول الله؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الغافلات المؤمنات» (أخرجاه في الصحيحين). وقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّهُمْ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ إِذَا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا أَهْلُ الصَّلَاةِ، قَالُوا: تَعَالَوْا حَتَّى نَجْحَدَ فَيَجْحَدُونَ فيختم عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَتَشْهَدُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حديثاً.

وروى ابن أبي حاتم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ: «أَتُدْرُونَ ممَّ أَضْحَكُ؟» قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "مِنْ مُجَادَلَةِ العبد ربه، يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: لَا أُجِيزُ عليَّ شَاهِدًا إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ عَلَيْكَ شُهُودًا، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ بِعَمَلِهِ، ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ، فَيَقُولُ: بُعْدًا لكنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ" (ورواه مسلم والنسائي). وَقَالَ قَتَادَةُ: ابْنَ آدَمَ، وَاللَّهِ إِنَّ عَلَيْكَ لَشُهُودًا غَيْرَ مُتَّهَمَةٍ مِنْ بَدَنِكَ فَرَاقِبْهُمْ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي سِرِّكَ وَعَلَانِيَتِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عليه خافية، الظُلمة عِنْدَهُ ضَوْءٌ، وَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ بِاللَّهِ حَسَنُ الظَّنِّ فَلْيَفْعَلْ ولا قوة إلا بالله. وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ}، قَالَ ابْنُ عباس {دِينَهُمُ}: أَيْ حِسَابَهُمْ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} أَيْ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ وَحِسَابُهُ هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي لَا جَوْرَ فِيهِ.

- 26 - الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ للطيبات أولئك مبرؤون مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْخَبِيثَاتُ مِنَ الْقَوْلِ لِلْخَبِيثِينِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْخَبِيثُونَ مِنَ الرِّجَالِ لِلْخَبِيثَاتِ مِنَ الْقَوْلِ، وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ الْقَوْلِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالطَّيِّبُونَ مِنَ الرِّجَالِ لِلطَّيِّبَاتِ مِنَ الْقَوْلِ، قَالَ: وَنَزَلَتْ في عائشة وأهل الإفك (وبه قال مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ البصري)، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ الْكَلَامَ الْقَبِيحَ أَوْلَى بِأَهْلِ الْقُبْحِ مِنَ النَّاسِ، وَالْكَلَامَ الطَّيِّبَ أَوْلَى بِالطَّيِّبِينَ مِنَ النَّاسِ، فَمَا نَسَبَهُ أَهْلُ النفاق إلى عائشة من كلام هُمْ أَوْلَى بِهِ، وَهِيَ أَوْلَى بِالْبَرَاءَةِ وَالنَّزَاهَةِ منهم! ولهذا قال تعالى: {أولئك مبرؤون مِمَّا يَقُولُونَ}. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الْخَبِيثَاتُ مِنَ النِّسَاءِ لِلْخَبِيثِينِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْخِبِيثُونَ مِنَ الرِّجَالِ لِلْخَبِيثَاتِ مِنَ النِّسَاءِ؛ وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ النِّسَاءِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالطَّيِّبُونَ من الرجال للطيبات من النساء؛ أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَائِشَةَ زَوْجَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَهِيَ طَيِّبَةٌ لِأَنَّهُ أَطْيَبُ مِنْ كُلِّ طَيِّبٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَوْ كَانَتْ خَبِيثَةً لَمَا صَلَحَتْ لَهُ لَا شَرْعًا وَلَا قَدَرًا؛ وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {أولئك مبرؤون مِمَّا يَقُولُونَ} أَيْ هُمْ بُعَدَاءُ عَمَّا يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِفْكِ وَالْعُدْوَانِ {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} أَيْ بِسَبَبِ مَا قِيلَ فِيهِمْ مِنَ الْكَذِبِ {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أَيْ عِنْدَ اللَّهِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَفِيهِ وعد بأن تكون زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنة.

- 27 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ - 28 - فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ - 29 - لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وما تكتمون

هَذِهِ آدَابٌ شَرْعِيَّةٌ أَدَّبَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ المؤمنين، أمرهم أن لا يَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِهِمْ حَتَّى (يَسْتَأْنِسُوا) أَيْ يَسْتَأْذِنُوا قَبْلَ الدُّخُولِ وَيُسَلِّمُوا بَعْدَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يستأذن ثلاث مرات، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ وَإِلَّا انْصَرَفَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا مُوسَى حِينَ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ انْصَرَفَ، ثم قال عمر: ألم تسمع صَوْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ يَسْتَأْذِنُ؟ ائْذَنُوا لَهُ، فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ قَدْ ذَهَبَ، فَلَمَّا جَاءَ بعد ذلك قال: ما أرجعك؟ قَالَ: إِنِّي اسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وإني سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فلينصرف»، فقال عمر: لتأتيني عَلَى هَذَا بِبَيِّنَةٍ وَإِلَّا أَوْجَعْتُكَ ضَرْبًا، فَذَهَبَ إِلَى مَلَأٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَذَكَرَ لَهُمْ مَا قَالَ عُمَرُ، فَقَالُوا: لَا يَشْهَدُ لَكَ إِلَّا أَصْغَرُنَا، فَقَامَ مَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَأَخْبَرَ عُمَرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَلْهَانِي عَنْهُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ. وعن أنَس أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَأْذَنَ عَلَى (سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» فَقَالَ سَعْدٌ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَلَمْ يَسْمَعِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَلَّمَ ثَلَاثًا، وَرَدَّ عَلَيْهِ سَعْدٌ ثَلَاثًا، وَلَمْ يُسْمِعْهُ، فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم، فاتبعه سَعْدٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا سَلَّمْتَ تَسْلِيمَةً إِلَّا وَهِيَ بِأُذُنِي، وَلَقَدْ رَدَدْتُ عَلَيْكَ وَلَمْ أُسْمِعْكَ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَسْتَكْثِرَ مِنْ سَلَامِكِ وَمِنَ الْبَرَكَةِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْبَيْتَ فَقَرَّبَ إِلَيْهِ زَبِيبًا، فَأَكَلَ نَبِيُّ اللَّهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: «أَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون» (أخرجه أحمد واللفظ له ورواه أبو داود والنسائي بنحوه). ثُمَّ لِيُعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْتَأْذِنِ عَلَى أَهْلِ المنزل أن لا يَقِفَ تِلْقَاءَ الْبَابِ بِوَجْهِهِ، وَلَكِنْ لِيَكُنِ الْبَابُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بشر قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ، وَيَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ»، وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يومئذ ستور. وجاء رجل فَوَقَفَ عَلَى بَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يستأذن، فقام على الباب - يعني: مُسْتَقْبَلَ الْبَابِ - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَكَذَا عَنْكَ - أَوْ هَكَذَا - فَإِنَّمَا الاستئذان من النظر» (أخرجه أبو داود وقد جاء في بعض الروايات أن الرجل سعد رضي الله عنه). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ امْرَأً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جناح»، وعن جَابِرٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ الباب، فقال: «من ذا؟» فقلت: أنا، قال: «أنا أنا»، كأنه كرهه (أخرجه الجماعة من حديث شعبة عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنه)، وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهَا حَتَّى يُفْصِحَ بِاسْمِهِ أَوْ كُنْيَتِهِ الَّتِي هُوَ مَشْهُورٌ بِهَا، وَإِلَّا فَكُلُّ أَحَدٍ يعبر عن نفسه بأنا، فلا يحصل بها المقصود من الاستئذان المأمور به في الآية، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الِاسْتِئْنَاسُ الِاسْتِئْذَانُ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ واحد. وعن عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الثَّقَفِيِّ أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَأَلِجُ أَوْ أَنَلِجُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَمَةٍ لَهُ يُقَالُ لَهَا رَوْضَةُ: «قَوْمِي إِلَى هَذَا فَعَلِّمِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْسِنُ يَسْتَأْذِنُ، فَقُولِي لَهُ يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟»، فسمعها الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال: «ادخل» (أخرجه أبو داود). وقال مُجَاهِدٌ: جَاءَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ حَاجَةٍ وَقَدْ آذاه الرمضاء، فأتى فسطاط امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ، قَالَتِ: ادْخُلْ بِسَلَامٍ، فَأَعَادَ، فَأَعَادَتْ وَهُوَ يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ قَالَ: قُولِي

ادخل، قالت ادخل، فدخل. وروى هيثم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَأْذِنُوا على أمهاتكم وأخواتكم، وقال أَشْعَثُ عَنْ (عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ) إِنَّ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَكُونُ فِي مَنْزِلِي عَلَى الْحَالِ الَّتِي لَا أحب أن يراني عليها أحد، لا وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ، وَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي وَأَنَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، قَالَ: فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بيوتا} الآية (أخرجه ابن أبي حاتم). وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يُخْبِرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ثلاث آيات جحد من الناس، قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} قَالَ: وَيَقُولُونَ: إِنَّ أَكْرَمَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُهُمْ بيتاً، قال: والأدب كُلُّهُ قَدْ جَحَدَهُ النَّاسُ، قَالَ، قُلْتُ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أَخَوَاتِي أَيْتَامٍ فِي حِجْرِي مَعِي فِي بيت واحد؟ قال: نعم، فرددت عليه ليرخص لي فأبى، فقال: تُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ، قَالَ: فَرَاجَعْتُهُ أيضاًَ فَقَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تطيع الله؟ قال، قلت: نعم، قال: فاستأذن، وقال طاووس: مَا مِنِ امْرَأَةٍ أَكْرَهُ إليَّ أَنْ أَرَى عورتها مِنْ ذَاتِ مَحْرَمٍ قَالَ: وَكَانَ يُشَدِّدُ فِي ذلك. وقال ابن مسعود: عَلَيْكُمُ الْإِذْنُ عَلَى أُمَّهَاتِكُمْ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ أَيَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ؟ قَالَ: لَا، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَإِلَّا فَالْأَوْلَى أَنْ يُعْلِمَهَا بِدُخُولِهِ وَلَا يُفَاجِئَهَا بِهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ عَلَى هَيْئَةٍ لَا تُحِبُّ أن يراها عليها. وروى ابن جرير عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا جَاءَ مِنْ حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق، كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه (أخرجه ابن جرير وقال ابن كثير: إسناده صحيح). وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ الدَّارَ استأنس تكلم ورفع صوته، وقال مُجَاهِدٌ: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ} قَالَ: تَنَحْنَحُوا أَوْ تَنَخَّمُوا، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَتَنَحْنَحَ أَوْ يُحَرِّكَ نَعْلَيْهِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل على أهله طروقاً - وفي رواية - لئلا يتخوفهم، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَهَارًا فَأَنَاخَ بظاهرها وقال: «انتظروا حتى ندخل عَشَاءٌ - يَعْنِي آخِرَ النَّهَارِ - حَتَّى تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وتستحد المغيبة». وقال قتادة في قوله: {حتى تَسْتَأْنِسُواْ}: هو الاستئذان ثلاثاً، فمن لم يؤذن له منهم فَلْيَرْجِعْ، أَمَّا الْأُولَى فَلْيُسْمِعِ الْحَيَّ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَإِنْ شَاءُوا أَذِنُوا وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوا؛ وَلَا تقفنَّ عَلَى بَابِ قَوْمٍ رَدُّوكَ عَنْ بَابِهِمْ، فَإِنَّ لِلنَّاسِ حَاجَاتٍ وَلَهُمْ أَشْغَالٌ وَاللَّهُ أَوْلَى بِالْعُذْرِ. وَقَالَ مُقَاتِلُ ابن حيان في الآية: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا لَقِيَ صَاحِبَهُ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: حُيِّيتَ صَبَاحًا وَحُيِّيتَ مساء، وكان ذَلِكَ تَحِيَّةَ الْقَوْمِ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَنْطَلِقُ إِلَى صَاحِبِهِ فَلَا يَسْتَأْذِنُ حَتَّى يَقْتَحِمَ وَيَقُولَ: قد دخلت ونحو ذلك، فَيَشُقُّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ مَعَ أَهْلِهِ، فَغَيَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي سَتْرٍ وَعِفَّةِ، وَجَعَلَهُ نَقْيًّا نَزِهًا مِنَ الدَّنَسِ وَالْقَذِرِ والدرن. فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا} الآية، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُقَاتِلٌ حَسَنٌ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} يَعْنِي الِاسْتِئْذَانُ، خَيْرٌ لَكُمْ بمعنى هو خير من الطرفين للمستأذن ولأهل البيت {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، وقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ}، وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ شَاءَ أَذِنَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْذَنْ، {وَإِن

قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أَيْ إِذَا رَدُّوكُمْ مِنَ الْبَابِ قَبْلَ الْإِذْنِ أَوْ بَعْدَهُ {فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أَيْ رُجُوعُكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ: لَقَدْ طَلَبْتُ عُمْرِي كُلَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَمَا أَدْرَكْتُهَا أَنْ أَسْتَأْذِنَ عَلَى بَعْضِ إِخْوَانِي، فَيَقُولُ لِي: ارجع فأرجع وأنا مغتبط، لقوله تعالى: {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَقَالَ سَعِيدُ بن جبير في الآية: أَيْ لَا تَقِفُوا عَلَى أَبْوَابِ النَّاسِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} الآية، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَخَصُّ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا وَذَلِكَ أَنَّهَا تَقْتَضِي جَوَازَ الدُّخُولِ إِلَى الْبُيُوتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ إِذَا كَانَ لَهُ متاع فيها بِغَيْرِ إِذْنٍ كَالْبَيْتِ الْمُعَدِّ لِلضَّيْفِ إِذَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ كَفَى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ}، ثُمَّ نسخ واستثنى، فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} (في اللباب: أخرج ابن أبي حاتم: لما نزلت آية الاستئذان قال أبو بكر: يا رسول الله، فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام، ولهم بيوت معلومة على الطريق، وليس فيها سلطان، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ .. } الآية)، وقال آخرون: هي بيوت التجار كالخانات ومنزل الأسفار وبيوت مكة وغير ذلك.

- 30 - قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ عَمَّا حَرَّمَ عليهم، فلا ينظروا إلاّ لما أباح لهم النظر إليه، وأن يغمضوا أَبْصَارَهُمْ عَنِ الْمَحَارِمِ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ وَقَعَ الْبَصَرُ عَلَى مَحْرَمٍ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلْيَصْرِفْ بصره عنه سريعاً، كما روي عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أصرف بصري (أخرجه مسلم ورواه أبو داود والترمذي والنسائي أيضاً). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِيٍّ: «يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة» (أخرجه أبو داود الترمذي) وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا بُدَّ لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ والنهي عن المنكر»، وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ دَاعِيَةً إِلَى فَسَادِ الْقَلْبِ، لذلك أَمَرَ اللَّهُ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ، كَمَا أَمَرَ بِحِفْظِ الأبصار التي هي بواعث لذلك، فقال تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} الآية، وَتَارَةً يَكُونُ بِحِفْظِهِ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ كَمَا جاء في الحديث: «احفظ عورتك إلا عن زوجتك أَوْ مَا مَلَكَتْ يمينك» (أخرجه أحمد وأصحاب السنن) {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} أَيْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِهِمْ وَأَنْقَى لِدِينِهِمْ، كَمَا قِيلَ: مَنْ حَفِظَ بَصَرَهُ أَوْرَثَهُ الله نوراً في بصيرته. وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ عبادة يجد حلاوتها». وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ النَّظَرَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ مَنْ تَرَكَهُ مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حلاوته في قلبه» (أخرجه الطبراني عن ابن مسعود مرفوعاً). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الْأَعْيُنِ

وَمَا تُخْفِي الصدور}. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنَ الزِّنَا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، وزنا الأذنين الاستماع، وزنا اليدين البطش، وزنا الرِّجْلَيْنِ الْخَطْيُ، والنَّفْس تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يكذبه»، وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّهُمْ كَانُوا ينهون أن تحدّ الرجل نظره إِلَى الْأَمْرَدِ، وَقَدْ شَدَّدَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَحَرَّمَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الِافْتِتَانِ، وَشَدَّدَ آخَرُونَ في ذلك كثيراً جداً. وفي الحديث: «كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا عَيْنًا غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَعَيْنًا سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَيْنًا يَخْرُجُ مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذباب من خشية الله عزَّ وجلَّ» (أخرجه ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة مرفوعاً).

- 31 - وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلنِّسَاءِ المؤمنات وغيرة منه لأزواجهن الْمُؤْمِنِينَ، وَتَمْيِيزٌ لَهُنَّ عَنْ صِفَةِ نِسَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ وفعال المشركات؛ وكان سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ (مُقَاتِلُ بن حيان) قال: بلغنا أن أسماء بنت مرثد كَانَتْ فِي مَحِلٍّ لَهَا فِي بَنِي حَارِثَةَ، فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات، فيبدو ما بأرجلهن مِنَ الْخَلَاخِلِ، وَتَبْدُو صُدُورُهُنَّ وَذَوَائِبُهُنَّ، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: ما أقبح هذا، فأنزل الله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الْآيَةَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} أَيْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ مِنَ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ؛ وَلِهَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ النظر إلى الرجال الْأَجَانِبِ بِشَهْوَةٍ وَلَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ أَصْلًا، وَاحْتَجَّ كثير منهم بما روي عن أم سلمة أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَيْمُونَةُ، قَالَتْ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَهُ أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا أُمِرْنَا بِالْحِجَابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْتَجِبَا مِنْهُ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ هُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا وَلَا يَعْرِفُنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ عَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا؟ أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ» (أخرجه أبو داود والترمذي وقال الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ). وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ نَظَرِهِنَّ إِلَى الْأَجَانِبِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الحبشة وهو يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ يَوْمَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ، وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ مِنْ وَرَائِهِ وَهُوَ يَسْتُرُهَا مِنْهُمْ حَتَّى مَلَّتْ وَرَجَعَتْ، وَقَوْلُهُ: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: عَنِ الْفَوَاحِشِ؛ وقال قتادة: عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُنَّ؛ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَنِ الزنا؛ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كُلُّ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقُرْآنِ يُذْكَرُ فِيهَا حِفْظُ الْفُرُوجِ فَهُوَ مِنَ الزنا،

إلاّ هذه الآية: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} أن لا يراها أحد، وقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أَيْ لَا يُظْهِرْنَ شَيْئًا مِنَ الزِّينَةِ لِلْأَجَانِبِ إلا ما لا يمكن إخفاؤه، قال ابْنُ مَسْعُودٍ: كَالرِّدَاءِ وَالثِّيَابِ، يَعْنِي عَلَى مَا كان يتعاطاه نِسَاءُ الْعَرَبِ مِنَ الْمِقْنَعَةِ الَّتِي تُجَلِّلُ ثِيَابَهَا وَمَا يَبْدُو مِنْ أَسَافِلِ الثِّيَابِ، فَلَا حَرَجَ عليها فيه، لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه، وقال ابن عباس: وجهها وكفيها والخاتم، وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلزِّينَةِ الَّتِي نهين عن إبدائها، كما قال عبد الله بن مسعود: الزِّينَةُ زِينَتَانِ، فَزِينَةٌ لَا يَرَاهَا إِلَّا الزَّوْجُ: الْخَاتَمُ وَالسُّوَارُ، وَزِينَةٌ يَرَاهَا الْأَجَانِبُ، وَهِيَ الظَّاهِرُ من الثياب، وقال مالك {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: الْخَاتَمُ وَالْخَلْخَالُ، وَيُحْتَمَلُ أن يكون ابْنَ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ أَرَادُوا تَفْسِيرَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ (أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ) دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَقَالَ: «يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إلاّ هذا، وأشار إلى وجهه وكفيه» (رواه أبو داود وهو حديث مرسل لأن خَالِدُ بْنُ دُرَيْكٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ). وقوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} يَعْنِي الْمَقَانِعَ يُعْمَلُ لها صفات ضاربات على صدورهن لِتُوَارِيَ مَا تَحْتَهَا مِنْ صَدْرِهَا وَتَرَائِبِهَا، لِيُخَالِفْنَ شِعَارَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُنَّ لَمْ يَكُنَّ يفعلن ذلك، بل كانت المرأة منهن تَمُرُّ بَيْنَ الرِّجَالِ مُسَفِّحَةً بِصَدْرِهَا لَا يُوَارِيهِ شَيْءٌ وَرُبَّمَا أَظْهَرَتْ عُنُقَهَا وَذَوَائِبَ شَعْرِهَا وَأَقْرِطَةَ آذَانِهَا، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنَاتِ أَنْ يَسْتَتِرْنَ فِي هيئاتهن وأحوالهن، كما قال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ}، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} وَالْخُمُرُ جَمْعُ خِمَارٍ: وَهُوَ مَا يُخَمَّرُ بِهِ أَيْ يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّاسُ الْمَقَانِعَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ {وَلْيَضْرِبْنَ} وَلِيَشْدُدْنَ {بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} يَعْنِي على النرح والصدر فلا يرى منه شيء، وروى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بها. وروى ابن أبي حاتم عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَذَكَرْنَا نِسَاءَ قُرَيْشٍ وَفَضْلَهُنَّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ لِنِسَاءِ قريش لفضلاً وإني والله ما رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ أَشَدَّ تَصْدِيقًا لكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل، ولقد أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} انقلب رجالهن إليهن يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِيهَا، وَيَتْلُو الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَعَلَى كل ذي قرابته، فَمَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا قَامَتْ إِلَى مِرْطِهَا الْمُرَحَّلِ، فَاعْتَجَرَتْ بِهِ تَصْدِيقًا وَإِيمَانًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابِهِ، فَأَصْبَحْنَ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم معتجرات كأنهن على رؤوسهن الغربان (أخرجه ابن أبي حاتم وأبو داود). وقال ابن جرير عن عائشة قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ النِّسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شَقَقْنَ أكتف مروطهن فاختمرن بها، وقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا بعولتهن} أي أَزْوَاجَهُنَّ {أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} كُلُّ هَؤُلَاءِ محارم للمرأة يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَظْهَرَ عَلَيْهِمْ بِزِينَتِهَا، وَلَكِنْ من غير تبرج. فَأَمَّا الزَّوْجُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ أَجْلِهِ، فتتصنع له بما لَا يَكُونُ بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} يعني تظهر بزينتها أَيْضًا لِلنِّسَاءِ الْمُسَلِمَاتِ، دُونَ نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، لئلا تصفهن لرجالهن، فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع؛ فأما

الْمُسْلِمَةُ فَإِنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ فَتَنْزَجِرُ عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ تَنْعَتُهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا» (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عن ابن مسعود مرفوعاً). وروي أن عمر بن الخطاب كتب إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَ نِسَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَإِنَّهُ مِنْ قِبَلِكَ فَلَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَوْرَتِهَا إِلَّا أَهْلُ مِلَّتِهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} قَالَ: نِسَاؤُهُنَّ الْمُسْلِمَاتُ، لَيْسَ الْمُشْرِكَاتُ مِنْ نِسَائِهِنَّ، وَلَيْسَ للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة، وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} قَالَ: هَنُ الْمُسْلِمَاتُ لَا تُبْدِيهِ لِيَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، وَهُوَ النَّحْرُ وَالْقُرْطُ والْوِشَاحُ وَمَا لَا يَحِلُّ أَنْ يراه إلاّ محرم، وروى سعيد عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا تَضَعُ الْمُسْلِمَةُ خِمَارَهَا عِنْدَ مُشْرِكَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} فَلَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِنَّ، وَعَنْ مَكْحُولٍ وَعُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ: أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنْ تُقَبِّلَ النَّصْرَانِيَّةُ واليهودية والمجوسية المسلمة. وقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} قال ابن جرير: يَعْنِي مِنْ نِسَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تُظْهِرَ زَينَتَهَا لَهَا وَإِنْ كَانَتْ مُشْرِكَةً لِأَنَّهَا أَمَتُهَا؛ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: بَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَظْهَرَ عَلَى رَقِيقِهَا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي رواه أبو داود عَنْ أنَس أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فَاطِمَةَ بِعَبْدٍ قَدْ وَهَبَهُ لَهَا، قَالَ: وَعَلَى فَاطِمَةَ ثَوْبٌ إِذَا قَنَّعَتْ بِهِ رَأْسَهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا، وَإِذَا غَطَّتْ بِهِ رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَلْقَى قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وغلامك». وروى الإمام أحمد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ وَكَانَ لَهُ مَا يُؤَدِّي فَلْتَحْتَجِبْ منه»، وقوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} يَعْنِي كَالْأُجَرَاءِ وَالْأَتْبَاعِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَكْفَاءَ، وَهُمْ مع ذلك في عقولهم وله ولا همة لَهُمْ إِلَى النِّسَاءِ وَلَا يَشْتَهُونَهُنَّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْمُغَفَّلُ الَّذِي لَا شَهْوَةَ لَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْأَبْلَهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ المخنث الذي لا يقوم ذكره وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَفِي الصحيح عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ مُخَنَّثًا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَنَعَتُ امْرَأَةً يَقُولُ: إِنَّهَا إِذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعٍ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أَرَى هَذَا يعلم ما ههنا لا يدخلن عليكم» فأخرجه، وروى الإمام أحمد عن أم سلمة أنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعندها مخنث، وعندها (عبد الله بن أبي أمية) يعني أخاها والمخنث يقول: يا عبد الله إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَدًا فَعَلَيْكَ بِابْنَةِ غَيْلَانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرْ بِثَمَانٍ، قَالَ: فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: «لَا يَدْخُلَنَّ هَذَا عليك» (وأخرجاه فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ). وقوله تعالى: {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النساء} يعين لِصِغَرِهِمْ لَا يَفْهَمُونَ أَحْوَالَ النِّسَاءِ وَعَوْرَاتِهِنَّ مِنْ كلامهن الرخيم، وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن، فَإِذَا كَانَ الطِّفْلُ صَغِيرًا لَا يَفْهَمُ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِدُخُولِهِ عَلَى النِّسَاءِ، فَأَمَّآ إِن كَانَ مُرَاهِقًا أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ بِحَيْثُ يَعْرِفُ ذَلِكَ وَيَدْرِيهِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّوْهَاءِ وَالْحَسْنَاءِ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى

النساء» قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: «الْحَمْوُ الموت». وقوله تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} الآية، كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَتْ تَمْشِي فِي الطَّرِيقِ وَفِي رَجْلِهَا خَلْخَالٌ صَامِتٌ لَا يعلم صوتها ضربت برجلها الأرض، فيسمع الرِّجَالُ طَنِينَهُ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنَاتِ عَنْ مَثَلِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ زِينَتِهَا مَسْتُورًا فَتَحَرَّكَتْ بِحَرَكَةٍ لِتُظْهِرَ مَا هُوَ خَفِيٌّ دَخَلَ فِي هَذَا النَّهْيِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} إلى آخره، ومن ذلك أَنَّهَا تُنْهَى عَنِ التَّعَطُّرِ وَالتَّطَيُّبِ عِنْدَ خُرُوجِهَا من بيتها، فيشم الرجال طيبها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ، وَالْمَرْأَةُ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ بالمجلس فهي كذا وكذا» يعني زانية. (أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه أيضاً ابو داود والنسائي). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لقي امرأة شم مِنْهَا رِيحَ الطِيبِ وَلِذَيْلِهَا إِعْصَارٌ، فَقَالَ: يَا أَمَةَ الْجَبَّارِ جِئْتِ مِنَ الْمَسْجِدِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قال لها: تَطَيَّبْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ حِبِّي أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لا يقبل الله صلاة امرأة طيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغسل غسلها من الجنابة» (أخرجه أبو داود وابن ماجه)، وفي الحديث: «الرَّافِلَةُ فِي الزِّينَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا كَمَثَلِ ظلمة يوم القيامة لا نور لها» (أخرجه الترمذي عن ميمونة بنت سعد مرفوعاً)، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُنَّ يُنهَيْنَ عَنِ الْمَشْيِ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّبَرُّجِ، فقد روي عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أبيه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقَدِ اخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ: «اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ ليس لكن أن تحتضن الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ»، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُلْصَقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لِيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لصوقها به (أخرجه الترمذي في السنن)، وقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أَيْ افْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَلِيلَةِ، وَاتْرُكُوا مَا كَانَ عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الزديلة، فَإِنَّ الْفَلَاحَ كُلَّ الْفَلَاحِ فِي فِعْلِ مَا أمر الله ورسوله، وترك ما نهى عنه والله تعالى المستعان.

- 32 - وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ - 33 - وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ - 34 - وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم وَمَوْعِظَةً للمتقين اشتملت هذه الآيات الكريمات، على جمل من الأحكام المحكمة، فقوله تعالى: {وأنحكوا الأيامى مِنْكُمْ} أَمْرٌ بِالتَّزْوِيجِ، وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى وُجُوبِهِ عَلَى كُلِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، واحتجوا بظاهر قوله عليه السلام: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» (أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود)، وقد جاء في السنن: «تزوجوا الولود، تَنَاسَلُوا فَإِنِّي مُبَاهٍ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، الْأَيَامَى جَمْعُ أَيِّمٍ، وَيُقَالُ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، وَلِلرَّجُلِ الَّذِي لَا زَوْجَةَ له، يقال: رجل أيم وامرأة أيم، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَغَّبَهُمُ اللَّهُ فِي التَّزْوِيجِ وَأَمَرَ بِهِ الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ، وَوَعَدَهُمْ عَلَيْهِ الْغِنَى، فَقَالَ: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أَطِيعُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ النِّكَاحِ، يُنْجِزْ لَكُمْ مَا وَعَدَكُمْ مِنَ الْغِنَى، قَالَ تَعَالَى: {إِنْ يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْتَمِسُوا الْغِنَى فِي النِّكَاحِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ}، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: النَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ، وَالْمُكَاتَبُ يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالْغَازِي فِي سَبِيلِ الله" (رواه أحمد والترمذي والنسائي)، وقد زوّج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي لا يجد عليه إِلَّا إِزَارَهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى خَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَمَعَ هَذَا فَزَوَّجَهُ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ، وَجَعَلَ صداقها عليه أن يعلمها ما معه مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْمَعْهُودُ مِنْ كَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ لَا يَجِدُ تَزْوِيجًا بالتعفف عن الحرام، كما قال صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ

فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» وَهَذِهِ الْآيَةُ مُطْلَقَةٌ وَالَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَخَصُّ مِنْهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات}، إلى قوله: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي صبركم عن تزوج الإماء خير لكم لِأَنَّ الْوَلَدَ يَجِيءُ رَقِيقًا {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، قَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَرَى الْمَرْأَةَ فَكَأَنَّهُ يَشْتَهِي، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ فَلْيَذْهَبْ إِلَيْهَا وَلْيَقْضِ حَاجَتَهُ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ فَلْيَنْظُرْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حتى يغنيه الله. وقوله تعالى: {والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مما ملكت أيمانهم فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فيهم خيرا} (في اللباب: أخرج ابن السكن: عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال: كنت مملوكاً لحويطب بن عبد العزى فسألته الكتابة، فنزلت {والذين يبتغون ... } الآية) هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلسَّادَةِ إِذَا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن يكاتبوهم، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ حِيلَةٌ وَكَسْبٌ، يُؤَدِّي إِلَى سَيِّدِهِ الْمَالَ الَّذِي شَارَطَهُ عَلَى أَدَائِهِ، وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرُ إِرْشَادٍ وَاسْتِحْبَابٍ، لَا أَمْرَ تحتم وإيجاب، قال الشَّعْبِيِّ: إِنْ شَاءَ كَاتَبَهُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يكاتبه (وكذا قال عطاء ومقاتل وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ)، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ عَبْدُهُ ذَلِكَ أَنْ يُجِيبَهُ إِلَى مَا طَلَبَ أَخْذًا بِظَاهِرِ هذا الأمر، وقال البخاري عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَوَاجِبٌ عَلَيَّ إِذَا عَلِمْتُ لَهُ مَالًا أَنْ أُكَاتِبَهُ؟ قَالَ: مَا أَرَاهُ إِلَّا وَاجِبًا، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَتَأْثِرُهُ عَنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: لا، ثم أخبرني أَنَّ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسًا الْمُكَاتَبَةَ، وَكَانَ كَثِيرَ المال، فأبى، فانطلق إلى عمر رضي الله عنه، فَقَالَ: كَاتِبْهُ، فَأَبَى، فَضَرَبَهُ بِالدُّرَّةِ وَيَتْلُو عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} فكاتبه (ذكره البخاري معلقاً)،

وذهب الشافعي فِي الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِقَوْلِهِ عليه السلام: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبٍ نفس»، وقال مالك: الأمر عندنا أنه لَيْسَ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ أَنْ يُكَاتِبَهُ إِذَا سَأَلَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنَ الْأَئِمَّةِ أكره أحداً على أن يكاتب عبده، وكذا قال الثوري وأبو حنيفة، وقوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَانَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صِدْقًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَالًا، وَقَالَ بعضهم: حيلة وكسباً، وقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} اخْتَلَفَ المفسرون فيه، فقال بعضهم: معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها، وقال آخرون: بل المراد هُوَ النَّصِيبُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ أموال الزكاة (وهذا قول الحسن ومقاتل وعبد الرحمن بن زيد ابن أسلم واختاره ابن جرير)، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يعينوا في الرقاب، وقد تقدم الحديث: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ» فَذَكَرَ مِنْهُمُ المكاتب يريد الأداء، والقول الأول أشهر. وعن ابن عباس في الآية {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قَالَ: ضعوا عنهم من مكاتبتهم، وقال محمد بن سيرين في الآية: كَانَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يَدَعَ الرَّجُلُ لِمُكَاتَبِهِ طَائِفَةً من مكاتبته، وقوله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء} الْآيَةَ، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَمَةٌ أَرْسَلَهَا تَزْنِي وَجَعَلَ عَلَيْهَا ضَرِيبَةً يَأْخُذُهَا مِنْهَا كُلَّ وَقْتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ نَهَى الله المؤمنين عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الكريمة فِي شَأْنِ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي بْنِ سلول) فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ إِمَاءٌ فَكَانَ يُكْرِهْهُنَّ عَلَى البغاء طلباً لخراجهن، ورغبة في أولادهن، ورياسة منه فيما يزعم. (ذِكْرُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ) قَالَ الْحَافِظُ البزار في مسنده: كَانَتْ جَارِيَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي بْنِ سلول يقال لها (معاذة) يكرهها على الزنا فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ نَزَلَتْ: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء} الآية، وقال الأعمش: نَزَلَتْ فِي أَمَةٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابن سَلُولٍ يُقَالُ لَهَا (مُسَيْكَةُ) كَانَ يُكْرِهُهَا عَلَى الْفُجُورِ وَكَانَتْ لَا بَأْسَ بِهَا فَتَأْبَى، فَأَنْزَلَ الله هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} الآية، وروى النسائي عن جابر نحوه. وعن الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا مَنْ قُرَيْشٍ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ عِنْدَ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ) أَسِيرًا وَكَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا (مُعَاذَةُ) وَكَانَ الْقُرَشِيُّ الْأَسِيرُ يُرِيدُهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً، وَكَانَتْ تَمْتَنِعُ مِنْهُ لِإِسْلَامِهَا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يُكْرِهُهَا على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل من القرشي فَيَطْلُبَ فِدَاءَ وَلَدِهِ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أُنْزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي بْنِ سَلُولٍ) رأس الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ تُدْعَى (مُعَاذَةُ) وَكَانَ إِذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ أَرْسَلَهَا إِلَيْهِ لِيُوَاقِعَهَا إِرَادَةَ الثَّوَابِ مِنْهُ وَالْكَرَامَةِ لَهُ، فَأَقْبَلَتِ الْجَارِيَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَشَكَتْ إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُ بِقَبْضِهَا، فَصَاحَ عَبْدُ الله بن أبي من يعذرنا مِنْ مُحَمَّدٍ يَغْلِبُنَا عَلَى مَمْلُوكَتِنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ فيهم هذا، وقول تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، وقوله تعالى: {لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ مِنْ خَرَاجِهِنَّ وَمُهُورِهِنَّ وَأَوْلَادِهِنَّ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَفِي رِوَايَةٍ: «مَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ»، وقوله تعالى: {وَمَنْ يكرههنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ

غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أَيْ لَهُنَّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الحديث عن جابر. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُنَّ غفور رحيم، وإثمهن على من أكرههن؛ وقال أبو عبيد عَنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إكرههن غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قَالَ: لَهُنَّ وَاللَّهِ، لَهُنَّ وَاللَّهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». وَلَمَّا فصل تبارك وتعالى هذه الأحكام وبينها قال تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إليكم آيات بينات} يَعْنِي الْقُرْآنَ فِيهِ آيَاتٌ وَاضِحَاتٌ مُفَسِّرَاتٌ {وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} أَيْ خَبَرًا عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ فِي مُخَالَفَتِهِمْ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً للآخرين} أي زاجراً عن ارتكاب المآثم والمحارم {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} أَيْ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَخَافَهُ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ: فِيهِ حَكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَخَبَرُ مَا قَبْلَكُمْ، وَنَبَأُ مَا بَعْدَكُمْ، وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ فقصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.

- 35 - اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَقُولُ: هادي أهل السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يُدْبِّرُ الْأَمْرَ فِيهِمَا نُجُومِهِمَا وَشَمْسِهِمَا وقمرهما. وقال ابن جرير عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يقول نوري هدى، واختار هذا القول ابن جرير، وقال أبي بن كعب: هُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ فِي صَدْرِهِ فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَهُ فَقَالَ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَبَدَأَ بِنُورِ نَفْسِهِ، ثُمَّ ذكر نور المؤمن، فقتل: مَثَلُ نُورِ مَنْ آمَنَ بِهِ، فَهُوَ الْمُؤْمِنُ جعل الإيمان والقرآن في صدره، وعن ابن عباس أنه قرأها {مثل نُورِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ {اللَّهُ منّور السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَبِنُورِهِ أَضَاءَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وفي الحديث: «أُعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ» (ذكره ابن إسحاق في السيرة من دعائه صلى الله عليه وسلم يوم آذاه أهل الطائف). وفي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَن فِيهِنَّ، ولك الحمد أنت قيوم السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَن فِيهِنَّ» الْحَدِيثَ. وَعَنِ ابْنِ مسعود قَالَ: إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نُورُ الْعَرْشِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {مَّثَلُ نُورِهِ} فِي هَذَا الضَّمِيرِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ أَيْ مَثَلُ هُدَاهُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ {كَمِشْكَاةٍ}. (وَالثَّانِي): أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْمُؤْمِنِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، تَقْدِيرُهُ: مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ كَمِشْكَاةٍ، فَشَبَّهَ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ وَمَا هُوَ مَفْطُورٌ عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى وَمَا يَتَلَقَّاهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُطَابِقِ لِمَا هُوَ مَفْطُورٌ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} فَشَبَّهَ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ فِي صَفَائِهِ فِي نَفْسِهِ بِالْقِنْدِيلِ مِنَ الزُّجَاجِ الشَّفَّافِ الْجَوْهَرِيِّ، وَمَا يَسْتَهْدِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالشَّرْعِ بِالزَّيْتِ الْجَيِّدِ الصَّافِي الْمُشْرِقِ الْمُعْتَدِلِ الَّذِي لَا كَدَرَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ؛ فقوله {كَمِشْكَاةٍ} قال ابن عباس

ومجاهد: هُوَ مَوْضِعُ الْفَتِيلَةِ مِنَ الْقِنْدِيلِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ {فِيهَا مِصْبَاحٌ} وَهُوَ الزبالة (الزِبالة: يقال للفتيلة التي يُصبَحُ بها السراج زبالة وزبّالة، وجمعها زُبال وزُبَّال) التي تضيء. وقال مجاهد: هي الكوة بلغة الحبشة، وزاد بعضهم فَقَالَ: الْمِشْكَاةُ الْكُوَّةُ الَّتِي لَا مَنْفَذَ لَهَا، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْمِشْكَاةُ الْحَدَائِدُ الَّتِي يُعَلَّقُ بِهَا الْقِنْدِيلُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ أَنَّ الْمِشْكَاةَ هو مَوْضِعُ الْفَتِيلَةِ مِنَ الْقِنْدِيلِ، وَلِهَذَا قَالَ: {فِيهَا مِصْبَاحٌ} وهو النور الذي في الزبالة، قَالَ أُبي بْنُ كَعْبٍ: الْمِصْبَاحُ النُّورُ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْإِيمَانُ الَّذِي فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ هُوَ السِّرَاجُ {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} أَيْ هَذَا الضوء مشرق في زجاجة صافية، وَهِيَ نَظِيرُ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي كأنها كوكب من ذر، قَالَ أُبي بْنُ كَعْبٍ: كَوْكَبٌ مُضِيءٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مُضِيءٌ مُبِينٌ ضَخْمٌ {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} أَيْ يَسْتَمِدُّ مِنْ زَيْتِ زَيْتُونِ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ {زَيْتُونَةٍ} بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} أَيْ لَيْسَتْ فِي شَرْقِيِّ بُقْعَتِهَا فَلَا تَصِلُ إِلَيْهَا الشَّمْسُ مِنْ أَوَّلِ النهار، ولا في غربيها فيقلص عَنْهَا الْفَيْءُ قَبْلَ الْغُرُوبِ، بَلْ هِيَ فِي مكان وسط تعصرها الشَّمْسُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى آخِرِهِ، فَيَجِيءُ زيتها صافياً معتدلاً مشرقاً، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} قال: هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر ولا جبل وَلَا كَهْفٌ، وَلَا يُوَارِيهَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَجْوَدُ لزيتها، وقال عكرمة: تِلْكَ زَيْتُونَةٌ بِأَرْضِ فَلَاةٍ إِذَا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ أشرقت عليها، فإذا غربت غربت عليها فذلك أصفى ما يكون من الزيت، وعن سعيد بن جبير في قوله: {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} قَالَ: هُوَ أَجْوَدُ الزَّيْتِ، قَالَ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ أَصَابَتْهَا مِنْ صَوْبِ الْمَشْرِقِ، فَإِذَا أَخَذَتْ فِي الْغُرُوبِ أَصَابَتْهَا الشَّمْسُ، فَالشَّمْسُ تُصِيبُهَا بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ فتلك تعد لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غربية. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الشَّجَرَةُ فِي الْأَرْضِ لَكَانَتْ شَرْقِيَّةً أَوْ غَرْبِيَّةً، وَلَكِنَّهُ مثل ضربه الله تعالى لِنُورِهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} قَالَ: رَجُلٌ صَالِحٌ {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} قَالَ: لَا يَهُودِيٍّ ولا نصراني، وأولى هذه الأقوال: أَنَّهَا فِي مُسْتَوًى مِنَ الْأَرْضِ فِي مَكَانٍ فسيح باد ظاهر ضاح للشمس، تقرعه مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى آخِرِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أصفى لزيتها وألطف، ولهذا قال تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} يعني لضوء إشراق الزيت، وقوله تعالى: {نُّورٌ على نُورٍ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ إِيمَانَ الْعَبْدِ وَعَمَلَهُ، وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} المؤمن يتقلب في خمسة من النور، فكلامه من نُورٌ، وَعَمَلُهُ نُورٌ، وَمَدْخَلُهُ نُورٌ، وَمَخْرَجُهُ نُورٌ، ومصيره إلى نور يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ شِمْرُ بْنُ عَطِيَّةَ: جَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ فَقَالَ: حَدِّثْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} قَالَ: يَكَادُ محمد صلى الله عليه وسلم يبين للناس ولو لَمْ يَتَكَلَّمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ، كَمَا يَكَادُ ذَلِكَ الزَّيْتُ أَنْ يُضِيءَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ تعالى: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} قَالَ: نُورُ النَّارِ وَنُورُ الزَّيْتِ حِينَ اجْتَمَعَا أَضَاءَا وَلَا يُضِيءُ وَاحِدٌ بِغَيْرِ صَاحِبِهِ، كَذَلِكَ نُورُ الْقُرْآنِ وَنُورُ الْإِيمَانِ حِينَ اجْتَمَعَا فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَّا بصاحبه، وقوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} أَيْ يُرْشِدُ اللَّهُ إِلَى هِدَايَتِهِ مَنْ يَخْتَارُهُ، كَمَا جَاءَ في الحديث: "إن الله تعالى خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ من نوره يومئذ، فمن أصاب من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأ ضَلَّ، فَلِذَلِكَ أَقُولُ: جفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ الله عزَّ وجلَّ" (أخرجه الإمام أحمد والبزار عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ). وقوله

تَعَالَى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ} لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذَا مَثَلًا لِنُورِ هُدَاهُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ مِمَّنْ يستحق الإضلال، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ يُزْهِرُ، وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَرْبُوطٌ عَلَى غِلَافِهِ، وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ، وَقَلْبٌ مُصَفَّحٌ. فَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَجْرَدُ فَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ سِرَاجُهُ فِيهِ نُورُهُ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَغْلَفُ فَقَلْبُ الْكَافِرِ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمَنْكُوسُ فَقَلْبُ الْمُنَافِقِ عَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمُصَفَّحُ فَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، وَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ الْبَقْلَةِ يَمُدُّهَا الْمَاءُ الطَّيِّبُ، وَمَثَلُ النِّفَاقِ فِيهِ كَمَثَلِ الْقُرْحَةِ يمدها الدم والقيح، فَأَيُّ الْمَدَّتَيْنِ غَلَبَتْ عَلَى الْأُخْرَى غَلَبَتْ عَلَيْهِ" (أخرجه أحمد قال ابن كثير: إسناده جيد ولم يخرجاه).

- 36 - فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ - 37 - رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ - 38 - لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى مَثَلَ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، بِالْمِصْبَاحِ فِي الزُّجَاجَةِ الصَّافِيَةِ المتوقد من زيت طيب وذلك كالقنديل مثلاً، ذَكَرَ مَحِلَّهَا وَهِيَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَرْضِ، وَهِيَ بيوته التي يعبد فيها ويوحد، فقال تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} أي أمر الله تعالى بتعاهدها وتطهيرها من الدنس واللغو، والأقوال والأفعال التي لا تليق فيها، كما قال ابن عباس: نهى الله سبحانه عن اللغو فيها، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ هَذِهِ الْمَسَاجِدُ أَمَرَ اللَّهُ سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وَتَطْهِيرِهَا، وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ كَعْبًا كَانَ يقول: مكتوب في التوراة إِنَّ بُيُوتِي فِي الْأَرْضِ الْمَسَاجِدُ، وَإِنَّهُ مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وَضَوْءَهُ، ثُمَّ زَارَنِي فِي بَيْتِي أكرمته، وحقٌ على المزور كرامة الزائر (أخرجه ابن أبي حاتم). وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ واحترامها وتوقيرها وتطييبها وتبخيرها، فَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مثله في الجنة» (أخرجاه في الصحيحين)، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يُذْكَرُ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ بنى الله له بيتا في الجنة» (رواه ابن ماجة)، وعن عائشة رضي الله عنها: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ (رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي). وعن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يتباهى الناس في المساجد». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ؛ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لا ردها الله عليك".

وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا قَالَ: خِصَالٌ لَا تَنْبَغِي فِي الْمَسْجِدِ: لَا يُتَّخَذُ طَرِيقًا، وَلَا يُشْهَرُ فِيهِ سِلَاحٌ، وَلَا يُنْبَضُ فِيهِ بِقَوْسٍ، وَلَا يُنْثَرُ فِيهِ نَبْلٌ، وَلَا يُمَرُّ فِيهِ بِلَحْمٍ نِيءٍ، وَلَا يُضْرَبُ فِيهِ حَدٌّ، وَلَا يُقْتَصُّ فيه أَحَدٍ، وَلَا يُتَّخَذُ سُوقًا. وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَنِّبُوا الْمَسَاجِدَ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ، وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ، وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ، وَاتَّخِذُوا على أبوابها المطاهر، وجمروها في الجمع» (أخرجه ابن ماجه وفي إسناده ضَعُفٌ). أَمَّا أَنَّهُ لَا يُتَّخَذُ طَرِيقًا فَقَدْ كره بعض العلماء فِيهِ إِلَّا لِحَاجَةٍ إِذَا وَجَدَ مَنْدُوحَةً عَنْهُ؛ وَفِي الْأَثَرِ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَتَعَجَّبُ مِنَ الرَّجُلِ يَمُرُّ بِالْمَسْجِدِ لَا يُصَلِّي فِيهِ؛ وَأَمَّا أَنَّهُ لا يشهر فيه السلاح وَلَا يُنْبَضُ فِيهِ بِقَوْسٍ وَلَا يُنْثَرُ فِيهِ نَبْلٌ، فَلِمَا يُخْشَى مِنْ إِصَابَةِ بَعْضِ النَّاسِ به، وَأَمَا النَّهْيُ عَنِ الْمُرُورِ بِاللَّحْمِ النَّيِّءِ فِيهِ فلما يخشى من تقاطر الدم منه، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يُضْرَبُ فِيهِ حَدٌّ وَلَا يقتص منه فلما يخشى من إيجاد النجاسة فِيهِ مِنَ الْمَضْرُوبِ أَوِ الْمَقْطُوعِ؛ وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يُتَّخَذُ سُوقًا فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا بُنِيَ لذكر الله والصلاة فيه، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ: «إِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا إِنَّمَا بُنِيَتْ لذكر الله والصلاة فيها»، وَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ» وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَلْعَبُونَ فِيهِ وَلَا يُنَاسِبُهُمْ؛ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا رَأَى صِبْيَانًا يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ ضَرَبَهُمْ بِالْمِخْفَقَةِ وهي الدرة، وكان يفتش الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْعَشَاءِ فَلَا يَتْرُكُ فِيهِ أَحَدًا، و «مجانينكم» يَعْنِي لِأَجْلِ ضَعْفِ عُقُولِهِمْ، وَسَخَرِ النَّاسِ بِهِمْ، فَيُؤَدِّي إِلَى اللَّعِبِ فِيهَا وَلِمَا يَخْشَى مِنْ تَقْذِيرِهِمُ الْمَسْجِدَ وَنَحْوِ ذَلِكَ «وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ» كَمَا تَقَدَّمَ، «وَخُصُومَاتِكُمْ» يَعْنِي التَّحَاكُمَ وَالْحُكْمَ فِيهِ؛ وَلِهَذَا نَصَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَنْتَصِبُ لِفَصْلِ الْأَقْضِيَةِ فِي الْمَسْجِدِ، بَلْ يَكُونُ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ كثرة الحكومات والتشاجر والألفاظ التي لا تناسبه؛ ولهذا قال بعده: «ورفع أصواتكم». وروى البخاري عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ الْكِنْدِيِّ قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما فقال: من أنتما؟ ومن أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وقال النسائي: سَمِعَ عُمَرُ صَوْتَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: أتدري أين أنت؟ وَقَوْلُهُ: «وَاتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ» يَعْنِي الْمَرَاحِيضَ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى الْوُضُوءِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَقَدْ كَانَتْ قَرِيبًا مِنْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آبَارٌ يَسْتَقُونَ مِنْهَا فيشربون ويتطهرون ويتوضأون وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: «وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ» يَعْنِي بَخِّرُوهَا فِي أَيَّامِ الْجُمَعِ لِكَثْرَةِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ يومئذ، وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُجَمِّرُ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل جمعة، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صِلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلَّا رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ" وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مَرْفُوعًا: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ»، وَفِي السُّنَنِ: «بَشِّرِ المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور يوم القيامة». ويستحب لِمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ يَبْدَأَ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى، وَأَنْ يَقُولَ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ (هو في أَبِي دَاوُدَ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ المسجد يقول: «أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، من الشيطان الرجيم» قَالَ: فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ حُفِظَ مني سائر اليوم، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك" (أخرجه مسلم والنسائي)، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيَقُلِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم (أخرجه ابن ماجه وابن حبان)، وعن فاطمة بنت الحسين عَنْ جَدَّتِهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ»، وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ» (أخرجه الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وإسناده ليس بمتصل لأن فاطمة الصُّغْرَى لَمْ تُدْرِكْ فَاطِمَةَ الْكُبْرَى)، فَهَذَا الَّذِي ذكرناه داخلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} وَقَوْلُهُ: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أي اسم الله، كقوله: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدين}، وقوله: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} الآية، وقوله تعالى: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} قال ابن عباس: يعني يتلى كتابه، وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} أَيْ فِي الْبُكَرَاتِ والْعَشِيَّاتِ، وَالْآصَالُ جَمْعُ أَصِيلٍ وَهُوَ آخِرُ النهار، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ تَسْبِيحٍ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الصلاة، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِالْغُدُوِّ صَلَاةَ الْغَدَاةِ، وَيَعْنِي بِالْآصَالِ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَهُمَا أَوَّلُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ مِنَ الصَّلَاةِ، فَأَحَبَّ أَنْ يَذْكُرَهُمَا وَأَنْ يذكر بهما عباده، وعن الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}: يعني الصلاة. وقوله تعالى: {رِجَالٌ} فِيهِ إِشْعَارٌ بِهِمَمِهِمُ السَّامِيَةِ، وَنِيَّاتِهِمْ وَعَزَائِمِهِمُ الْعَالِيَةِ، الَّتِي بِهَا صَارُوا عُمَّارًا لِلْمَسَاجِدِ، الَّتِي هِيَ بُيُوتُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَمَوَاطِنُ عِبَادَتِهِ وشكره، وتوحيد وَتَنْزِيهِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية. وأما النِّسَاءُ فَصَلَاتُهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَلُ لَهُنَّ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا»، وعن أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن» (أخرجه الإمام أحمد). وروى الإمام أحمد عن أُمِّ حُمَيْدٍ امْرَأَةِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ مَعَكَ، قَالَ: «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ تُحِبِّينَ الصَّلَاةَ مَعِي، وَصَلَاتُكِ فِي بَيْتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي حُجْرَتِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي حُجْرَتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي دَارِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي دَارِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِي» قَالَ: فَأَمَرَتْ فَبُنِيَ لَهَا مَسْجِدٌ فِي أَقْصَى بَيْتٍ من بيوتها، فكانت والله تصلي فيه حتى لقيت الله تعالى. ويجوز للمرأة شُهُودُ جَمَاعَةِ الرِّجَالِ بِشَرْطِ أَنْ لَا تُؤْذِيَ أَحَدًا مِنَ الرِّجَالِ بِظُهُورِ زِينَةٍ وَلَا رِيحِ طيب، كما ثبت في الصحيح: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» (أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر مرفوعاً)، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلِيَخْرُجْنَ وهنَّ

تفِلات» أَيْ لَا رِيحَ لَهُنَّ، وَقَدْ ثَبَتَ في صحيح مسلم عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيبًا». وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ يَشْهَدْنَ الْفَجْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يعرفن من الغلس، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ من الْمَسَاجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَوْلُهُ تعالى: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذكر الله}، كقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله} الآية، يَقُولُ تَعَالَى: لَا تَشْغَلُهُمُ الدُّنْيَا وَزُخْرُفُهَا وَزِينَتُهَا وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم، لأن الذي عنده خير لهم وأنفع مما بأيديهم، ولهذا قال تعالى: {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} أَيْ يُقَدِّمُونَ طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم، روى عمرو بن دينار: أن ابن عمر رضي الله عنهما كَانَ فِي السُّوقِ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَأَغْلَقُوا حَوَانِيتَهُمْ وَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فِيهِمْ نَزَلَتْ: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي قُمْتُ عَلَى هَذَا الدَّرَجِ أُبَايِعُ عَلَيْهِ، أَرْبَحُ كل يوم ثلثمائة دِينَارٍ، أَشْهَدُ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي الْمَسْجِدِ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَلَالٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مِنَ الذين قال الله فيهم: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ الْأَعْوَرُ: كُنْتُ مَعَ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَنَحْنُ نُرِيدُ الْمَسْجِدَ فَمَرَرْنَا بِسُوقِ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ وخَمَّرُوا مَتَاعَهُمْ، فَنَظَرَ سَالِمٌ إِلَى أمتعتهم ليس فيها أَحَدٌ، فَتَلَا سَالِمٌ هَذِهِ الْآيَةَ: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} ثم قال: هم هؤلاء؛ وقال الضحاك: لَا تُلْهِيهِمُ التِّجَارَةُ وَالْبَيْعُ أَنْ يَأْتُوا الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا، وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ: كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ وَلَكِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ وميزانه بيده فِي يَدِهِ خَفَضَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} يَقُولُ: عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ؛ وقال السدي عن الصلاة في جماعة، وقال مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ: لَا يُلْهِيهِمْ ذَلِكَ عَنْ حُضُورِ الصَّلَاةِ وَأَنْ يُقِيمُوهَا كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، وَأَنْ يُحَافِظُوا عَلَى مَوَاقِيتِهَا وَمَا اسْتَحْفَظَهُمُ اللَّهُ فيها. وقوله تَعَالَى: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِي تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ: أَيْ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ وَعَظَمَةِ الْأَهْوَالِ، كقوله: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار}، وقال تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}، وقوله تعالى ههنا: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} أَيْ هَؤُلَاءِ من الذين يتقبل حسناتهم وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} أَيْ يَتَقَبَّلُ مِنْهُمُ الْحَسَنَ وَيُضَاعِفُهُ لَهُمْ كَمَا قال تَعَالَى: {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الآية، وَقَالَ: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} الآية، وقال: {والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ}، وقال ههنا: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ جِيءَ بِلَبَنٍ فَعَرَضَهُ عَلَى جُلَسَائِهِ وَاحِدًا وَاحِدًا فَكُلُّهُمْ لَمْ يَشْرَبْهُ لِأَنَّهُ كان صائماً؛ فتناوله ابن مسعود فشربه لأنه كان مفطراً، ثم تلا قوله: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فيه القلوب والأبصار}، وفي الحديث: "إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، جَاءَ مُنَادٍ فَنَادَى بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: سَيَعْلَمُ أَهْلُ الْجَمْعِ مَنْ أَوْلَى بِالْكَرَمِ، لِيَقُمِ الَّذِينَ لا تلهيهم

تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَيَقُومُونَ وهم قليل، ثم يحاسب سائر الخلائق" (أخرجه ابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد بن السكن مرفوعاً). وروى الطبراني عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {ليوفهم أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فضله} قَالَ: أُجُورَهُمْ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ الشَّفَاعَةُ لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ لِمَنْ صَنَعَ لَهُمُ الْمَعْرُوفَ فِي الدُّنْيَا.

- 39 - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ - 40 - أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ هَذَانِ مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار، فَأَمَّا الْأَوَّلُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ فَهُوَ لِلْكُفَّارِ الدُّعَاةِ إِلَى كُفْرِهِمُ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ، وَلَيْسُوا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى شَيْءٍ، فَمَثَلُهُمْ فِي ذَلِكَ كَالسَّرَابِ الذي يرى فيه القيعان من الأرض من بُعْدٍ كَأَنَّهُ بَحْرٌ طَامٌّ، وَالْقِيعَةُ جَمْعُ قَاعٍ كجار وجيرة، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْمُتَّسِعَةُ الْمُنْبَسِطَةُ وَفِيهِ يَكُونُ السراب، يُرَى كَأَنَّهُ مَاءٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا رَأَى السَّرَابَ مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْمَاءِ يحسبه ماء قصده لِيَشْرَبَ مِنْهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً}، فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ، يَحْسَبُ أَنَّهُ قَدْ عَمِلَ عَمَلًا وَأَنَّهُ قَدْ حَصَّلَ شَيْئًا، فَإِذَا وَافَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحَاسَبَهُ عَلَيْهَا وَنُوقِشَ عَلَى أفعاله لم يجد له شيئاً بالكلية، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً}، وقال ههنا: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الحساب}، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "أَنَّهُ يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْيَهُودِ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ من ولد ماذا تبغون؟ فيقولون: يا رب عَطِشْنَا فَاسْقِنَا، فَيُقَالُ: أَلَا تَرَوْنَ؟ فَتُمَثَّلُ لَهُمُ النَّارُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يُحَطِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَنْطَلِقُونَ فيتهافتون فيها" (أخرجه الشيخان) وَهَذَا الْمِثَالُ مِثَالٌ لِذَوِي الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ. فَأَمَّا أصحاب الجهل البسيط، وهم الْأَغْشَامُ الْمُقَلِّدُونَ لِأَئِمَّةِ الْكُفْرِ الصُّمِّ الْبُكْمِ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ فَمَثَلُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} قال قتادة: {لُّجِّيٍّ} هو الْعَمِيقُ، {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ، مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} أَيْ لَمْ يُقَارِبْ رُؤْيَتَهَا مِنْ شِدَّةِ الظَّلَامِ، فَهَذَا مِثْلُ قَلْبِ الْكَافِرِ الْجَاهِلِ الْبَسِيطِ الْمُقَلِّدِ الَّذِي لَا يعرف حال من يقوده، ولا يدري أين يذهب، بَلْ كَمَا يُقَالُ فِي الْمَثَلِ لِلْجَاهِلِ: أَيْنَ تَذْهَبُ؟ قَالَ: مَعَهُمْ، قِيلَ: فَإِلَى أَيْنَ يَذْهَبُونَ؟ قال: لا أدري. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} يَعْنِي بِذَلِكَ الْغَشَاوَةَ الَّتِي عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ، وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} الآية. وكقوله: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غشاوة} الآية. فالكافر يتقلب في خمسة من الظلم: فكلامه ظُلْمَةٌ، وَعَمَلُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَدْخَلُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَخْرَجُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَصِيرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الظُّلُمَاتِ إِلَى النَّارِ، وقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُور} أَيْ مَنْ لَمْ يَهْدِهِ الله فهو هالك جاهل بائر كافر، كَقَوْلِهِ: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ} وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا قَالَ فِي مِثْلِ الْمُؤْمِنِينَ {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ}، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَ فِي قُلُوبِنَا نُورًا، وَعَنْ أَيْمَانِنَا نُورًا، وَعَنْ شَمَائِلِنَا نُورًا، وَأَنْ يُعْظِمَ لَنَا نُورًا.

- 41 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ - 42 - وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ يخبر تعالى أنه يسبح لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنَاسِيِّ وَالْجَانِّ وَالْحَيَوَانِ حَتَّى الْجَمَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} الآية. وقوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ} أَيْ فِي حَالِ طَيَرَانِهَا، تُسَبِّحُ رَبَّهَا وَتَعْبُدُهُ بِتَسْبِيحٍ أَلْهَمَهَا وَأَرْشَدَهَا إِلَيْهِ وَهُوَ يعلم ما هي فاعلة، ولهذا قال تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أَيْ كُلٌّ قَدْ أَرْشَدَهُ إِلَى طَرِيقَتِهِ وَمَسْلَكِهِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شيء، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ لَهُ مُلْكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ الْحَاكِمُ المتصرف الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا له ولا معقب لحكمه، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}: أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَحْكُمُ فِيهِ بِمَا يَشَاءُ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عملوا} الآية، فهوالخالق المالك، له الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ.

- 43 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ - 44 - يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الْأَبْصَارِ يَذْكُرُ تعالى أنه يسوق السحاب بقدرته أَوَّلَ مَا يُنْشِئُهَا وَهِيَ ضَعِيفَةٌ وَهُوَ الْإِزْجَاءُ، {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أَيْ يَجْمَعُهُ بَعْدَ تَفَرُّقِهِ، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} أَيْ مُتَرَاكِمًا أَيْ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، {فَتَرَى الْوَدْقَ} أَيِ الْمَطَرَ، {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} أي من خلله، وَقَوْلُهُ: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} قَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: {مِنَ} الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، وَالثَّالِثَةُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ فِي السَّمَاءِ جِبَالَ بَرَدٍ يُنَزِّلُ اللَّهُ مِنْهَا الْبَرْدَ، وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْجِبَالَ ههنا كناية عن السحاب فإن «من» الثانية عنده لابتداء الغاية لَكِنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ تعالى: {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {فَيُصِيبُ بِهِ}: أَيْ بِمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن نوعي المطر والبرد، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ} رَحْمَةً لَهُمْ {وَيَصْرِفُهُ عَن مَن يَشَآءُ} أَيْ يُؤَخِّرُ عَنْهُمُ الْغَيْثَ؛ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {فَيُصِيبُ بِهِ} أَيْ بِالْبَرَدِ نِقْمَةً عَلَى مَنْ يشآء لما فيه من إتلاف زروعهم وأشجارهم، {وَيَصْرِفُهُ عَن من يشآء} رَحْمَةً بِهِمْ، وَقَوْلُهُ: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} أَيْ يَكَادُ ضَوْءُ بِرِقِهِ مِنْ شِدَّتِهِ يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته، وقوله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أَيْ يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا فَيَأْخُذُ مِنْ طُولِ هَذَا فِي قِصَرِ هَذَا، حتى يعتدلا، فهو الْمُتَصَرِّفُ فِي ذَلِكَ بِأَمْرِهِ وَقَهْرِهِ وَعِزَّتِهِ وَعِلْمِهِ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الْأَبْصَارِ} أَيْ لدليلاً على عظمته تعالى.

- 45 - وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى -[613]- أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَذْكُرُ تَعَالَى قُدْرَتَهُ التَّامَّةَ وَسُلْطَانَهُ الْعَظِيمَ فِي خَلْقِهِ أَنْوَاعَ الْمَخْلُوقَاتِ، عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا وَحَرَكَاتِهَا وَسُكَنَاتِهَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} كَالْحَيَّةِ وَمَا شَاكَلَهَا، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} كَالْإِنْسَانِ وَالطَّيْرِ، {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كَالْأَنْعَامِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ} أَيْ بِقُدْرَتِهِ، لِأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

- 46 - لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يُقَرِّرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَنَزَلَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ الْبَيِّنَةِ الْمُحْكَمَةِ كَثِيرًا جَدًّا، وَأَنَّهُ يُرْشِدُ إِلَى تفهمهما وَتَعَقُّلِهَا أُولِي الْأَلْبَابِ وَالْبَصَائِرِ وَالنُّهَى، وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

- 47 - وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَآ أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ - 48 - وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُعْرِضُونَ - 49 - وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ - 50 - أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - 51 - إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - 52 - وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ خِلَافَ مَا يُبَطِنُونَ، يَقُولُونَ قَوْلًا بِأَلْسِنَتِهِمْ {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} أَيْ يُخَالِفُونَ أَقْوَالَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ فَيَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أولئك بالمؤمنين}، وقوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية، أَيْ إِذَا طُلِبُوا إِلَى اتِّبَاعِ الْهُدَى فِيمَا أنزل الله على رسوله أعرضوا استكبروا في أَنفُسِهِمْ عن اتباعه، وهذه كقوله تعالى: {رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً}، وفي الطبراني عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ دُعِيَ إِلَى سُلْطَانٍ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لَا حَقَّ لَهُ». وقوله تعالى: {وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أَيْ وَإِذَا كَانَتِ الْحُكُومَةُ لَهُمْ لَا عَلَيْهِمْ جاءوا سَامِعِينَ مُطِيعِينَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ {مُذْعِنِينَ}، وَإِذَا كَانَتِ الْحُكُومَةُ عَلَيْهِ أَعْرَضَ وَدَعَا إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وَأَحَبَّ أَنْ يَتَحَاكَمَ إِلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ليروج باطله، فَإِذْعَانُهُ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ عَنِ اعْتِقَادٍ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ، بَلْ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِهَوَاهُ، وَلِهَذَا لَمَّا خَالَفَ الْحَقُّ قَصْدَهُ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} الآية، يَعْنِي لَا يَخْرُجُ أَمْرُهُمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُلُوبِ مَرَضٌ لَازِمٌ لَهَا، أَوْ قَدْ عَرَضَ لَهَا شَكٌّ فِي الدِّينِ، أَوْ يَخَافُونَ أَنْ يَجُورَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِمْ فِي الْحُكْمِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ كُفْرٌ مَحْضٌ وَاللَّهُ عليم بكل منهم، وما هو منطو عليه من هذه الصفات، وقوله تعالى: {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أَيْ بَلْ هُمُ الظَّالِمُونَ الْفَاجِرُونَ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ مُبَرَّآنِ مِمَّا يَظُنُّونَ وَيَتَوَهَّمُونَ مِنَ الْحَيْفِ وَالْجَوْرِ، تَعَالَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عن ذلك.

قال الحسن: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّجُلِ مُنَازَعَةٌ، فَدُعِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحِقٌّ أَذْعَنَ، وَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَقْضِي لَهُ بِالْحَقِّ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَظْلِمَ فَدُعِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَضَ، وَقَالَ: أَنْطَلِقُ إلى فلان، فأنزل الله هذه الآية، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الَّذِينَ لَا يَبْغُونَ دِينًا سِوَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَقَالَ: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أَيْ سمعاً وطاعة، ولهذا وصفهم تعالى بالفلاح وَهُوَ نَيْلُ الْمَطْلُوبِ وَالسَّلَامَةُ مِنَ الْمَرْهُوبِ، فَقَالَ تعالى: {وأولئك هُمُ المفلحون}، وقال قتادة: ذكر لَنَا أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ قَالَ: لَا إِسْلَامَ إِلَّا بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَلَا خَيْرَ إِلَّا فِي جَمَاعَةٍ، وَالنَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْخَلِيفَةِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً، قَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: عُرْوَةُ الْإِسْلَامِ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَالطَّاعَةُ لِمَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ). وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي وُجُوبِ الطَّاعَةِ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَلِلْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ إِذَا أَمَرُوا بطاعة الله أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ فِي هَذَا الْمَكَانِ. وقوله: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} قال قتادة: فِيمَا أَمَرَاهُ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَيَاهُ عَنْهُ {وَيَخْشَ اللَّهَ} فِيمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ {وَيَتَّقْهِ} فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، وَقَوْلُهُ: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} يَعْنِي الَّذِينَ فَازُوا بِكُلِّ خَيْرٍ وَأَمِنُوا مَنْ كُلِّ شَرٍّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

- 53 - وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ - 54 - قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَهْلِ النِّفَاقِ الَّذِينَ كَانُوا يَحْلِفُونَ للرسول صلى الله عليه وسلم لئن أمرتهم بالخروج في الغزو ليخرجن، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُل لاَّ تُقْسِمُواْ} أَيْ لَا تَحْلِفُوا، وَقَوْلُهُ: {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} قِيلَ: مَعْنَاهُ طاعتكم طاعة معروفة، أي قد علم طَاعَتُكُمْ إِنَّمَا هِيَ قَوْلٌ لَا فِعْلَ مَعَهُ، وَكُلَّمَا حَلَفْتُمْ كَذَبْتُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عنهم} الآية. وقال تعالى: {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} الآية، فَهُمْ مِنْ سَجِيَّتِهِمُ الْكَذِبُ حَتَّى فِيمَا يَخْتَارُونَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قوتلتم لننصركم والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون}، وقيل المعنى {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} أَيْ لِيَكُنْ أَمْرُكُمْ طَاعَةً مَعْرُوفَةً، أَيْ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ حَلِفٍ وَلَا إِقْسَامٍ، كَمَا يُطِيعُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْمُؤْمِنُونَ بِغَيْرِ حَلِفٍ، فَكُونُوا أَنْتُمْ مِثْلَهُمْ {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أَيْ هُوَ خَبِيرٌ بِكُمْ وَبِمَنْ يُطِيعُ ممن يعصي، فالحلف وإظهار الطاعة وَإِنْ رَاجَ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ تَعَالَى يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، لَا يَرُوجُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ التَّدْلِيسِ، بَلْ هُوَ خَبِيرٌ بِضَمَائِرِ عِبَادِهِ وَإِنْ أَظْهَرُوا خِلَافَهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} أَيْ اتَّبِعُوا كِتَابَ اللَّهِ وسنة رسوله، وقوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أَيْ تَتَوَلَّوْا عَنْهُ وَتَتْرُكُوا مَا جَاءَكُمْ بِهِ {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} أَيْ إِبْلَاغُ الرِّسَالَةِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ} أي بقبول ذَلِكَ وَتَعْظِيمِهِ وَالْقِيَامِ بِمُقْتَضَاهُ، {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

{صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأرض} الآية، وقوله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}.

- 55 - وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بِأَنَّهُ سَيَجْعَلُ أُمَّتَهُ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ، أَيْ أَئِمَّةَ النَّاسِ وَالْوُلَاةَ عَلَيْهِمْ، وَبِهِمْ تَصْلُحُ الْبِلَادُ، وَتَخْضَعُ لهم العباد، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ مِنَ النَّاسِ أَمْنًا وَحُكْمًا فِيهِمْ، وقد فعله تبارك وتعالى وله الحمد والمنة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ وَخَيْبَرَ وَالْبَحْرَيْنِ وَسَائِرَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَرْضَ الْيَمَنِ بِكَمَالِهَا، وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وَمِنْ بَعْضِ أَطْرَافِ الشَّامِ، وَهَادَاهُ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ وَصَاحِبُ مِصْرَ المقوقس، وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة، ثم قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ خَلِيفَتُهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِّيقُ، فبعث جيوش الإسلام إِلَى بِلَادِ فَارِسَ صُحْبَةَ (خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَفَتَحُوا طَرَفًا مِنْهَا، وَقَتَلُوا خلقاً من أهلها، وجيشاً آخر صحبه (أبو عبيدة) رضي الله عنه إِلَى أَرْضِ الشَّامِ، وَثَالِثًا صُحْبَةَ (عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى بِلَادِ مِصْرَ، فَفَتَحَ اللَّهُ لِلْجَيْشِ الشَّامِيِّ فِي أَيَّامِهِ بُصْرَى ودمشق، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ وَاخْتَارَ لَهُ مَا عنده من الكرامة، ومنَّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق، فقام بالأمر بعدهه قِيَامًا تَامًّا لَمْ يَدُرِ الْفُلْكُ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى مِثْلِهِ فِي قُوَّةِ سِيرَتِهِ وَكَمَالِ عَدْلِهِ؛ وَتَمَّ فِي أَيَّامِهِ فَتْحُ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ بِكَمَالِهَا وَدِيَارِ مِصْرَ إِلَى آخِرِهَا وَأَكْثَرِ إِقْلِيمِ فَارِسَ، وكسر كسرى، وأهانه غاية الهوان، وكسر قيصر وانتزع يده عن بلاد الشام وانحدر إلى القسطنطينية، وَأَنْفَقَ أَمْوَالَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَوَعَدَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَتَمُّ سَلَامٍ وَأَزْكَى صَلَاةٍ. ثُمَّ لَمَّا كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الْإِسْلَامِيَّةُ إِلَى أَقْصَى مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، فَفُتِحَتْ بِلَادُ الْمَغْرِبِ إِلَى أَقْصَى مَا هُنَالِكَ الْأَنْدَلُسُ وقبرص، وبلاد القيروان ويلاد سَبْتَةَ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ الْمُحِيطَ، وَمِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ الصِّينِ، وَقُتِلَ كِسْرَى، وَبَادَ مُلْكُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفُتِحَتْ مَدَائِنُ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانُ وَالْأَهْوَازُ، وَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ التُّرْكِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَخَذَلَ اللَّهُ مَلِكَهُمُ الْأَعْظَمَ خَاقَانَ، وَجُبِيَ الْخَرَاجُ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِلَى حَضْرَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ تِلَاوَتِهِ وَدِرَاسَتِهِ وَجَمْعِهِ الْأُمَّةَ عَلَى حفظ القرآن؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِيَ مِنْهَا» فَهَا نَحْنُ نَتَقَلَّبُ فِيمَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْإِيمَانَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَالْقِيَامَ بِشُكْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الذي يرضيه عنا. روى الإمام مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِيًا مَا وَلِيَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا» ثُمَّ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلِمَةٍ خَفِيَتْ عَنِّي، فَسَأَلْتُ أَبِي مَاذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال، قال: «كلهم من قريش»، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً عَادِلًا،

وَلَيْسُوا هُمْ بِأَئِمَّةِ الشِّيعَةِ الِاثْنَيْ عَشْرَ، فَإِنَّ كثيراً من أولئك لم يكن لهم مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ؛ فَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ مِنْ قُرَيْشٍ يَلُونَ فَيَعْدِلُونَ، وَقَدْ وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِمْ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ أن يكونوا مُتَتَابِعِينَ، بَلْ يَكُونُ وُجُودُهُمْ فِي الْأُمَّةِ مُتَتَابِعًا وَمُتَفَرِّقًا؛ وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ عَلَى الْوَلَاءِ وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ كَانَتْ بعدهم فترة؛ ثم وجد منهم من شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَدْ يُوجَدُ مِنْهُمْ مَنْ بقي في الوقت الذي يعلمه الله تعالى؛ ومنهم المهدي الذي اسمه يطابق اسْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتَهُ، يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا وَقِسْطًا، كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، وقد روى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً عضوضاً» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي). وقال أبو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بِمَكَّةَ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ سرًّا، وَهُمْ خَائِفُونَ لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة فقدموها، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْقِتَالِ، فَكَانُوا بِهَا خَائِفِينَ يُمْسُونَ في السلاح ويصبحون في السلاح، فصبروا عَلَى ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنْ رَجُلًا مِنْ الصحابة قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبَدَ الدَّهْرِ نَحْنُ خَائِفُونَ هَكَذَا؟ أَمَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فيه ونضع عنا السِّلَاحَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لن تصبروا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الملأ العظيم محتبياً ليست فيه حَدِيدَةٌ» وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَأَمِنُوا وَوَضَعُوا السِّلَاحَ، ثم إن الله تعالى قَبَضَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا كَذَلِكَ آمِنِينَ فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وعثمان، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه، فأدخل عَلَيْهِمُ الْخَوْفَ، فَاتَّخَذُوا الْحَجَزَةَ وَالشُّرَطَ وغيَّروا فغيَّرَ بهم، وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَحْنُ فِي خَوْفٍ شَدِيدٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض} الآية، وقوله تعالى: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرض} الآيتين. وقوله تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ} الآية، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدَيِّ بْنِ حَاتِمٍ حِينَ وَفَدَ عَلَيْهِ: «أَتَعْرِفُ الْحِيرَةَ؟» قَالَ: لَمْ أَعْرِفْهَا، وَلَكِنْ قَدْ سَمِعْتُ بِهَا، قَالَ: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَتَفْتَحُنَّ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ» قُلْتُ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟ قَالَ: «نَعَمْ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وَلَيُبْذَلَنَّ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ» قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: فَهَذِهِ الظَّعِينَةُ تَخْرُجُ مِنْ الْحِيرَةِ، فَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَقَدْ كُنْتُ فِيمَنْ فَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَهَا، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بشِّرْ هَذِهِ الأمة بالسنا وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمِنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخرة نصيب»، وقوله تعالى: {يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}، وفي الحديث: «يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أعلم، قال: «حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يشركوا به شيئاً» (الحديث من رواية الشيخين عن معاذ بن جبل)، وقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ

هُمُ الْفَاسِقُونَ} أَيْ فَمَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِي بعد ذلك، فلما خرج عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَكَفَى بِذَلِكَ ذَنْبًا عَظِيمًا، فَالصَّحَابَةُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا كَانُوا أَقْوَمَ الناس بِأَوَامِرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَأَطْوَعَهُمْ لِلَّهِ كَانَ نصرهم بحسبهم، أظهروا كَلِمَةَ اللَّهِ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَأَيَّدَهُمْ تَأْيِيدًا عظيماً، وحكموا سَائِرِ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ، وَلَمَّا قَصَّرَ النَّاسُ بَعْدَهُمْ في بعض الأوامر نقص ظهروهم بِحَسَبِهِمْ، وَلَكِنْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» (وَفِي رِوَايَةٍ «حَتَّى يُقَاتِلُوا الدَّجَّالَ» وَفِي رِوَايَةٍ «حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» وكلها صَحِيحَةٌ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا).

- 56 - وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ - 57 - لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَقُولُ تَعَالَى آمراً عباده المؤمنين بإقامة الصَّلَاةِ، وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَهِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ ضعفائهم وفقرائهم، وأن يكونوا بذلك مطيعين لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أمرهم به، وترك مَا عَنْهُ زَجَرَهُمْ، لَعَلَّ اللَّهَ يَرْحَمُهُمْ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أُولَئِكَ سيرحمهم الله}، وقوله تعالى: {ولا تَحْسَبَنَّ} أي لا تظن يا محمد إن {الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ خَالَفُوكَ وَكَذَّبُوكَ {مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} أَيْ لَا يُعْجِزُونَ اللَّهَ بَلِ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ، وَسَيُعَذِّبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ولهذا قال تعالى: {وَمَأْوَاهُمُ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ {النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أَيْ بِئْسَ الْمَآلُ مَآلُ الْكَافِرِينَ، وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ.

- 58 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - 59 - وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - 60 - وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ اشْتَمَلَتْ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَهُوَ اسْتِئْذَانُ الْأَجَانِبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَأْذِنَهُمْ خَدَمُهُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ وَأَطْفَالُهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْهُمْ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: (الْأَوَّلُ) مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْغَدَاةِ لِأَنَّ النَّاسَ إِذْ ذَاكَ يَكُونُونَ نِيَامًا فِي فُرُشِهِمْ، {وَحِينَ

تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ} أَيْ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَضَعُ ثِيَابَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ مَعَ أَهْلِهِ، {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ}، لِأَنَّهُ وَقْتُ النَّوْمِ فَيُؤْمَرُ الْخَدَمُ وَالْأَطْفَالُ أن لا يَهْجُمُوا عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، لِمَا يُخْشَى مِنْ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ عَلَى أهله أو نحو ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَلِهَذَا قَالَ: {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أَيْ إِذَا دَخَلُوا فِي حَالٍ غَيْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي تَمْكِينِكُمْ إِيَّاهُمْ، وَلَا عَلَيْهِمْ إِنْ رَأَوْا شَيْئًا فِي غَيْرِ تلك الأحوال، وَلِأَنَّهُمْ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أَيْ فِي الْخِدْمَةِ وَغَيْرِ ذلك، ولهذا روى أهل السنن أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في الهرة: «إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم - أو الطوفات -». عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ سَأَلَاهُ عَنِ الاستئذان في ثلاث عَوْرَاتٍ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ سِتِّيرٌ يُحِبُّ السَّتْرَ، كَانَ النَّاسُ لَيْسَ لَهُمْ سُتُورٌ عَلَى أَبْوَابِهِمْ، وَلَا حِجَالٌ فِي بُيُوتِهِمْ، فَرُبَّمَا فَاجَأَ الرَّجُلَ خَادِمُهُ أَوْ وَلَدُهُ أَوْ يَتِيمُهُ فِي حِجْرِهِ وَهُوَ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ؛ ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ بَعْدُ بِالسُّتُورِ، فَبَسَطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ فَاتَّخَذُوا السُّتُورَ وَاتَّخَذُوا الْحِجَالَ، فَرَأَى النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَفَاهُمْ مِنَ الِاسْتِئْذَانِ الذي أمروا به (أخرجه ابن أبي حاتم وإسناده صحيح إلى ابن عباس كما قال ابن كثير) وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ أُنَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُحِبُّونَ أَنَّ يُوَاقِعُوا نِسَاءَهُمْ فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ لِيَغْتَسِلُوا ثُمَّ يَخْرُجُوا إِلَى الصَّلَاةِ، فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: بَلَغَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ رجُلاً مِنَ الْأَنْصَارِ وَامْرَأَتَهُ أَسْمَاءَ بِنْتَ مرثد صَنَعَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ بِغَيْرِ إِذَنٍ، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَقْبَحَ هَذَا، إِنَّهُ لَيَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَزَوجِهَا وَهُمَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ غُلَامُهُمَا بِغَيْرِ إِذَنٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أيمانكم} إلى آخرها؛ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ قَوْلُهُ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَعْنِي إِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ الَّذِينَ إِنَّمَا كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ إِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا عَلَى كل حال، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ. قَالَ الأوزاعي: إِذَا كَانَ الْغُلَامُ رَبَاعِيًّا فَإِنَّهُ يَسْتَأْذِنُ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى أَبَوَيْهِ، فَإِذَا بَلَغَ الْحُلُمَ فليستأذن على كل حال، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَعْنِي كَمَا اسْتَأْذَنَ الْكِبَارُ مِنْ وَلَدِ الرجل وأقاربه، وقوله: {والقواعد مِنَ النسآء} هُنَّ اللَّوَاتِي انْقَطَعَ عَنْهُنَّ الْحَيْضُ وَيَئِسْنَ مِنَ الْوَلَدِ {اللَّاتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} أَيْ لَمْ يبق لهن تشوف إلى التزوج، {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي ليس عليهن من الحجر في التستر كما على غيرهن مِنَ النساء، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قَالَ: الْجِلْبَابُ أَوِ الرداء، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: تَضَعُ الْجِلْبَابَ وَتَقُومُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّجُلِ فِي الدِّرْعِ وَالْخِمَارِ، وَقَالَ سَعِيدُ بن جبير في الآية {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} يَقُولُ: لَا يَتَبَرَّجْنَ بِوَضْعِ الجلباب ليرى ما عليهن من الزينة. عَنْ أُمِّ الضِّيَاءِ أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ عائشة رضي الله عنها فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَقُولِينَ فِي الْخِضَابِ وَالنِّفَاضِ وَالصِّبَاغِ وَالْقُرْطَيْنِ وَالْخَلْخَالِ وَخَاتَمِ الذَّهَبِ وَثِيَابِ الرِّقَاقِ؟ فَقَالَتْ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ قِصَّتُكُنَّ كُلُّهُا وَاحِدَةٌ، أَحَلَّ اللَّهُ لَكُنَّ الزِّينَةَ غَيْرَ متبرجات (أخرجه ابن أبي حاتم) أَيْ لَا يَحِلُّ لَكُنَّ أَنْ يَرَوْا مِنْكُنَّ محرماً. وَقَوْلُهُ: {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} أَيْ وَتَرْكُ وَضْعِهِنَّ لِثِيَابِهِنَّ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، خَيْرٌ وَأَفْضَلُ لَهُنَّ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.

- 61 - لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي رَفَعَ لأجله الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض ههنا، فقال عطاء بن أسلم: يقال أنها نزلت في الجهاد، وجعلوا هذه الآية ههنا كَالَّتِي فِي سُورَةِ الْفَتْحِ وَتِلْكَ فِي الْجِهَادِ لَا مَحَالَةَ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ لِضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمْ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقيل: المراد ههنا أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الْأَكْلِ مَعَ الْأَعْمَى لِأَنَّهُ لَا يَرَى الطَّعَامَ وَمَا فِيهِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَرُبَّمَا سَبَقَهُ غَيْرُهُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا مَعَ الْأَعْرَجِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْجُلُوسِ فَيَفْتَاتُ عَلَيْهِ جَلِيسُهُ، وَالْمَرِيضُ لَا يَسْتَوْفِي مِنَ الطَّعَامِ كَغَيْرِهِ، فَكَرِهُوا أَنْ يُؤَاكِلُوهُمْ لِئَلَّا يَظْلِمُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ رُخْصَةً فِي ذَلِكَ (وهذا قول سعيد بن جبير وغيره)؛ وقال الضحاك: كانوا قبل البعثة يتحرجون من الأكل مع هؤلاء تقذراً وتعززاً وَلِئَلَّا يَتَفَضَّلُوا عَلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ السُّدَّيُّ: كَانَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ بَيْتَ أَبِيهِ أو أخيه أو ابنه فتتحفه المرأة بشيء مِنَ الطَّعَامِ، فَلَا يَأْكُلُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَبَّ الْبَيْتِ لَيْسَ ثَمَّ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} الآية. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} إنما ذكر هذا وهذا معلوم ليعطف عليه غيره في اللفظ، وليساوي به مَا بَعْدَهُ فِي الْحُكْمِ، وَتَضَمَّنَ هَذَا بُيُوتَ الْأَبْنَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِهَذَا مِنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَالَ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ مَالِ أَبِيهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَنْتَ ومالك لأبيك» (هذا جزء من حديث أخرجه أحمد وأصحاب السنن). وقوله تعالى: {أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ - إِلَى قَوْلِهِ - أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} هَذَا ظَاهِرٌ، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُوجِبُ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ بعضهم على بعض، كما هو مذهب أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا، وَأَمَا قَوْلُهُ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيٍر والسُّدِّيُّ: هُوَ خَادِمُ الرَّجُلِ مِنْ عَبْدٍ وَقَهْرَمَانٍ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا اسْتَوْدَعَهُ مِنَ الطَّعَامِ بِالْمَعْرُوفِ. وقال الزهري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ المسلمون يذهبون مع النَّفِيرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْفَعُونَ مُفَاتِحَهُمْ إِلَى ضُمَنَائِهِمْ، وَيَقُولُونَ: قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَأْكُلَ، إِنَّهُمْ أَذِنُوا لَنَا عَنْ غَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا نَحْنُ أُمَنَاءُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَوَ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ}، وَقَوْلُهُ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} أَيْ بُيُوتِ أَصْدِقَائِكُمْ وَأَصْحَابِكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي الْأَكْلِ مِنْهَا إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَلَا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا دَخَلْتَ بَيْتَ صَدِيقِكَ فَلَا بَأْسَ

أَنْ تَأْكُلَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً}، قَالَ ابن عباس: وَذَلِكَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَالطَّعَامُ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ، فَكَفَّ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ - إلى قوله - أَوْ صَدِيقِكُمْ}، وكانوا أيضاً يتأنفون وَيَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ الطَّعَامَ وَحْدَهُ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَرَخَّصَ اللَّهُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً}، وقال قتادة: كان هَذَا الْحَيُّ مِنْ (بَنِي كِنَانَةَ) يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّ مَخْزَاةً عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ فِي الجاهلية، حتى إن الرَّجُلُ لَيَسُوقُ الذُّودَ الْحُفَّلَ وَهُوَ جَائِعٌ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُؤَاكِلُهُ وَيُشَارِبُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} فَهَذِهِ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ وَمَعَ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ الأكل مع الجماعة أبرك وأفضل، كما روي أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: إنا نأكل ولا نشبع، قال: «لعلكم تَأْكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ، اجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ الله يبارك لكم فيه» (أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه). وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «كُلُوا جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ مع الجماعة» (أخرجه ابن ماجه عن عمر مرفوعاً). وقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} يعني فليسلم بعضكم على بعض، وقال جابر بن عبد الله إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ تَحِيَّةً من عند الله طيبة مبارمة، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَوَاجِبٌ إِذَا خَرَجْتُ ثُمَّ دَخَلْتُ أَنْ أُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: لا، ولا أوثر وُجُوبَهُ عَنْ أَحَدٍ، وَلَكِنْ هُوَ أَحَبُّ إليَّ، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُؤْمَرُ بِذَلِكَ، وحُدِّثْنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ ترد عليه، وقال أنس بن مالك: أَوْصَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ خِصَالٍ، قَالَ: «يَا أَنَسُ أَسْبِغِ الْوُضُوءَ يُزَدْ فِي عُمْرِكَ، وَسَلِّمْ عَلَى مَنْ لَقِيَكَ مِنْ أُمَّتِي تَكْثُرْ حَسَنَاتُكَ، وَإِذَا دَخَلْتَ - يَعْنِي بَيْتَكَ - فسلم على أهلك يَكْثُرْ خَيْرُ بَيْتِكَ، وَصَلِّ صَلَاةَ الضُّحَى فَإِنَّهَا صَلَاةُ الأوَّابين قَبْلَكَ، يَا أَنَسُ ارْحَمِ الصَّغِيرَ، وَوُقِّرِ الْكَبِيرَ تَكُنْ مِنْ رُفَقَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (أخرجه الحافظ البزار عن أنس مرفوعاً). وَقَوْلُهُ: {تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً}. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أَخَذْتُ التَّشَهُّدَ إِلَّا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} فَالتَّشَهُّدُ فِي الصَّلَاةِ: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لله، وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لما ذكر تعالى ما في هذه السور الْكَرِيمَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُحْكَمَةِ وَالشَّرَائِعِ الْمُتْقَنَةِ الْمُبْرَمَةِ؛ نبه تعالى عباده عَلَى أَنَّهُ يُبَيِّنُ لِعِبَادِهِ الْآيَاتِ بَيَانًا شَافِيًا ليتدبروها ويتعقلوها لعلهم يعقلون.

- 62 - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ -[621]- وَهَذَا أَيْضًا أَدَبٌ أرشده الله عباده المؤمنين، فَكَمَا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ الدُّخُولِ، كَذَلِكَ أَمْرَهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ الِانْصِرَافِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا فِي أَمْرٍ جَامِعٍ مَعَ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، مِنْ صَلَاةِ جُمُعَةٍ أَوْ عِيدٍ أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك، أمرهم الله تعالى أن لا يتفرقوا عَنْهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ وَمُشَاوَرَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِذَا اسْتَأْذَنَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ أَنْ يأذن له إن شاء الله، وَلِهَذَا قَالَ: {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ} الآية، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة» (أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن).

- 63 - لاَ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَنْ ذلك إعظاماً لنبيه صلى الله عليه وسلم، قال: فَقُولُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُهَابَ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يُبَجَّلَ وَأَنْ يعظم وأن يسود، وقال مقاتل فِي قَوْلِهِ: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} يَقُولُ: لَا تُسَمُّوهُ إِذَا دعوتموه يا محمد، ولا تقولوا: يا ابن عَبْدِ اللَّهِ، وَلَكِنْ شرِّفوه فَقُولُوا: يَا نَبِيَّ الله، يا رسول الله؛ وهذا كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تشعرون}، فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ فِي مُخَاطَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكَلَامِ مَعَهُ وَعِنْدَهُ، كَمَا أُمِرُوا بِتَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ مُنَاجَاتِهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} أَيْ لَا تَعْتَقِدُوا أَنَّ دُعَاءَهُ عَلَى غيره كدعاء غيره، فإن دعاه مستجاب، فاحذورا أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ فَتَهْلَكُوا، حَكَاهُ ابْنُ أَبِي حاتم عن ابن عباس والحسن البصري، والأول أظهر، والله أعلم. وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} قال مقاتل: هُمُ الْمُنَافِقُونَ كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِمُ الْحَدِيثُ فِي يوم الجمعة، فيلوذون ببعض أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى يخرجوا من المسجد، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمُ الْخُرُوجَ أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَأْذَنُ له من غير أن يتكلم الرجل، وقال السُّدِّيُّ: كَانُوا إِذَا كَانُوا مَعَهُ فِي جَمَاعَةٍ لَاذَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ حَتَّى يَتَغَيَّبُوا عَنْهُ فَلَا يَرَاهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ يَعْلَمِ الله الذين يتسللون لِوَاذاً} يَعْنِي لِوَاذًا عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ وَعَنْ كِتَابِهِ، وَقَالَ سُفْيَانُ {قَدْ يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ لِوَاذاً} قَالَ: مِنَ الصَّفِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي الآية: {لِوَاذاً} خِلَافًا، وَقَوْلُهُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو سبيله ومنهجه وطريقته وشريعته، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»، أَيْ فَلْيَحْذَرْ وَلْيَخْشَ مَنْ خَالَفَ شَرِيعَةَ الرسول باطناً وظاهراً {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أَيْ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ كُفْرٍ أَوْ نِفَاقٍ أَوْ بِدْعَةٍ {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي في الدينا بِقَتْلٍ أَوْ حَدٍّ أَوْ حَبْسٍ أَوْ نَحْوِ ذلك؛ كما روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا

أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ اللائي يعقن فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجِزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فيقتحمن فِيهَا، قَالَ: فَذَلِكَ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، فَتَغْلِبُونِي وتتقحمون فيها" (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ).

- 64 - أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ عالم الغيب والشهادة وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا الْعِبَادُ عَامِلُونَ فِي سِرِّهِمْ وَجَهْرِهِمْ فَقَالَ: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ}، وقد لِلتَّحْقِيقِ، كَمَا قَالَ قَبْلَهَا {قَدْ يَعْلَمِ اللَّهُ الذين يتسللو مِنْكُمْ لِوَاذًا}، وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المعوقين منكم} الآية، فكل هذه الآيات فيها تحقيق الفعل بقد، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} أي هوعالم بِهِ مُشَاهِدٌ لَهُ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذرة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}، وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أَيْ هُوَ شَهِيدٌ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا هُمْ فاعلون من خير وشر، وَقَالَ تَعَالَى: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} الآية. وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَوْلُهُ: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} أي ويوم يرجع الْخَلَائِقُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} أَيْ يُخْبِّرُهُمْ بِمَا فَعَلُوا فِي الدُّنْيَا مِنْ جَلِيلٍ وَحَقِيرٍ وَصَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}، وَقَالَ: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}، ولهذا قال ههنا: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ} وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

25 - سورة الفرقان

- 25 - سورة الفرقان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً - 2 - الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا يَقُولُ تَعَالَى حَامِدًا لنفسه الْكَرِيمَةَ عَلَى مَا نَزَّلَهُ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكتاب}، وقال ههنا: {تَبَارَكَ} وهو تفاعل من البركة المستقرة الثابتة الدائمة، {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} نَزَّلَ فَعَّلَ مِنَ التَّكَرُّرِ والتكثر، كقوله: {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ من قبل} لِأَنَّ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَانَتْ تَنْزِلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقاً مُفَصَّلًا آيَاتٍ بَعْدَ آيَاتٍ، وَأَحْكَامًا بَعْدَ أَحْكَامٍ، وَسُورًا بَعْدَ سُوَرٍ، وَهَذَا أَشَدُّ وَأَبْلَغُ وَأَشَدُّ اعْتِنَاءً بِمَنْ أُنْزِلَ عليه، كما قال في هَذِهِ السُّورَةِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ ترتيلا} ولهذا سماه ههنا الْفُرْقَانَ لِأَنَّهُ يَفْرِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقَوْلُهُ: {عَلَى عَبْدِهِ} هَذِهِ صِفَةُ مَدْحٍ وَثَنَاءٍ، لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى عُبُودِيَّتِهِ، كَمَا وَصَفَهُ بِهَا فِي أَشْرَفِ أَحْوَالِهِ وَهِيَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ فَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بعبده ليلا}، وَكَمَا وَصَفَهُ بِذَلِكَ فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لبدا}، وَقَوْلُهُ: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} أَيْ إِنَّمَا خَصَّهُ بهذا الكتاب المفصل العظيم المبين المحكم الذي {لاَّ يأيته الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حكيم حميد} الذي جعله فرقاناً عظيماً لِيَخُصَّهُ بِالرِّسَالَةِ إِلَى مَنْ يَسْتَظِلُّ بِالْخَضْرَاءِ وَيَسْتَقِلُّ على الغبراء، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «بعثت إلى الأحمر والأسود»، وقال: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وإلى الناس عامة»، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إليكم جميعا} الآية، وهكذا قال ههنا: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ} ونزه نَفْسَهُ عَنِ الْوَلَدِ وَعَنِ الشَّرِيكِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أنه {خلق كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} أَيْ كُلُّ شَيْءٍ مِمَّا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ، وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ، وَمَلِيكُهُ وَإِلَهُهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ تَحْتَ قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره.

- 3 - وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ

حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَهْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، الْخَالِقِ لِكُلِّ شَيْءٍ الْمَالِكِ لِأَزِمَّةِ الْأُمُورِ الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَمَعَ هَذَا عَبَدُوا مَعَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ، بل هم مخلوقون لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَكَيْفَ يَمْلِكُونَ لِعَابِدِيهِمْ؟ {وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ بل ذلك كله مرجعه إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ الَّذِي هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ الَّذِي يُعِيدُ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ، {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}، كقوله: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر}، وقوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}، {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا محضرون} فَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ وَلَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، وَهُوَ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، ولا عديل ولا بديل وَلَا وَزِيرَ وَلَا نَظِيرَ بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ.

- 4 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخرون فقد جاؤوا ظُلْمًا وَزُورًا - 5 - وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً - 6 - قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ سَخَافَةِ عُقُولِ الْجَهَلَةِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ {إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ} أَيْ كَذِبٌ {افْتَرَاهُ} يَعْنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} أَيْ وَاسْتَعَانَ عَلَى جمعه بقوم آخرين (يعنون: جبراً مولى الحضرمي، وعداساً غلام عتبة، والقائل: أبو جهل لعنه الله)، فقال الله تعالى: {فقد جاؤوا ظُلْماً وَزُوراً} أَيْ فَقَدِ افْتَرَوْا هُمْ قَوْلًا باطلاً وهم يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَيَعْرِفُونَ كَذِبَ أَنْفُسِهِمْ فِيمَا زعموه، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} يَعْنُونَ كُتُبَ الْأَوَائِلِ أي اسْتَنْسَخَهَا {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} أَيْ تُقْرَأُ عَلَيْهِ {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي أول النهار وآخره، وهذا الكرم لسخافته وكذبه كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بُطْلَانَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بالتواتر أن محمداً صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يُعَانِي شَيْئًا مِنَ الْكِتَابَةِ، لَا فِي أَوَّلِ عُمُرِهِ وَلَا فِي آخِرِهِ، وَقَدْ نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِنْ أَوَّلِ مَوْلِدِهِ إِلَى أَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وهم يعرفون مدخله، ومخرجه، وصدقته ونزاهته وبره وأمانته، حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره، وإلى أن بعث: (الْأَمِينَ) لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ صِدْقِهِ وَبِرِّهِ، فَلَمَّا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ، نَصَبُوا لَهُ العدواة، وَرَمَوْهُ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ براءته منها، وحاروا فيما يَقْذِفُونَهُ بِهِ، فَتَارَةً مِنْ إِفْكِهِمْ يَقُولُونَ سَاحِرٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ شَاعِرٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ مَجْنُونٌ، وَتَارَةً يقولون كذاب، وقال اللَّهُ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً}. وقال تعالى في جواب ما عاندوا ههنا وَافْتَرَوْا: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض} الآية: أَيْ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى أَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ والآخرين {الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ}، أَيِ اللَّهُ الَّذِي يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيَعْلَمُ السَّرَائِرَ كَعِلْمِهِ بِالظَّوَاهِرِ، وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}، دُعَاءٌ لَهُمْ إِلَى التوبة والإنابة، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة وأن حلمه عظيم، مع أن مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ، فَهَؤُلَاءِ مَعَ كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم، يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ إلى الإسلام والهدى، كما قال

تعالى: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رحيم}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْكَرَمِ وَالْجُودِ، قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ والرحمة.

- 7 - وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا - 8 - أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا - 9 - انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً - 10 - تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَكَ قُصُورًا - 11 - بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً - 12 - إِذَا رَأَتْهُمْ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا - 13 - وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً - 14 - لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَعَنُّتِ الْكَفَّارِ وَعِنَادِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ لِلْحَقِّ بِلَا حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ منهم، وإنما تعللوا بقولهم: {ما لهذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} يَعْنُونَ كَمَا نَأْكُلُهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَمَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ {وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} أَيْ يَتَرَدَّدُ فِيهَا وَإِلَيْهَا طَلَبًا لِلتَّكَسُّبِ وَالتِّجَارَةِ {لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} يَقُولُونَ: هَلَّا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَكُونَ لَهُ شَاهِدًا عَلَى صِدْقِ مَا يَدَّعِيهِ؟ وَهَذَا كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ: {فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مقترنين} وَكَذَلِكَ قَالَ هَؤُلَاءِ عَلَى السَّوَاءِ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، ولهذا قالوا {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} أَيْ عِلْمُ كَنْزٍ يُنْفِقُ مِنْهُ {أَوْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} أَيْ تَسِيرُ مَعَهُ حَيْثُ سَارَ، وَهَذَا كُلُّهُ سَهْلٌ يَسِيرٌ عَلَى اللَّهِ وَلَكِنَّ لَهُ الْحِكْمَةَ فِي تَرْكِ ذَلِكَ، وَلَهُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّواْ} أَيْ جَاءُوا بِمَا يَقْذِفُونَكَ بِهِ وَيَكْذِبُونَ بِهِ عليك، من قولهم ساحر، مَجْنُونٌ، كَذَّابٌ، شَاعِرٌ؛ وَكُلُّهَا أَقْوَالٌ بَاطِلَةٌ، كُلُّ أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٍ وَعَقْلٍ يَعْرِفُ كَذِبَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَضَلُّواْ} عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً}، وَذَلِكَ أن كل من خرج عن الحق وطريق الهدى فَإِنَّهُ ضَالٌّ حَيْثُمَا تَوَجَّهَ، لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ ومنهجه مُتَّحِدٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا؛ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مخبراً نبيه أنه إن شَاءَ لَآتَاهُ خَيْرًا مِمَّا يَقُولُونَ فِي الدُّنْيَا وأفضل وأحسن، فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك} الآية. قال مجاهد: يعني في الدينا، قَالَ: وَقُرَيْشٌ يُسَمُّونَ كُلَّ بَيْتٍ مِنْ حِجَارَةٍ قصراً، كبيراً كان أو صغيراً. قال سفيان الثوري عَنْ خَيْثَمَةَ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ نُعْطِيَكَ خَزَائِنَ الْأَرْضِ ومفاتيحها لم نعطه نبياً قبلك، ولا نعطي أحداً مِنْ بَعْدِكَ، وَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِمَّا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ: «اجْمَعُوهَا لِي فِي الْآخِرَةِ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فِي ذَلِكَ: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك} الآية. وقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ} أَيْ إِنَّمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ هَكَذَا تَكْذِيبًا وَعِنَادًا، لَا أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ ذَلِكَ تبصراً

وَاسْتِرْشَادًا، بَلْ تَكْذِيبُهُمْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُمْ عَلَى قَوْلِ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، {وَأَعْتَدْنَا} أي أرصدنا {لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} أَيْ عَذَابًا أَلِيمًا حاراً لا يطاق في نار جَهَنَّمَ، وَقَوْلُهُ: {إِذَا رَأَتْهُمْ} أَيْ جَهَنَّمُ {مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} يَعْنِي فِي مَقَامِ الْمَحْشَرِ، قَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} أَيْ حَنَقًا عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} أَيْ يَكَادُ يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ مِنْ شدة غيظها على من كفر بالله. عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ الله بن مسعود ومعنا الربيع بن خيثم، فَمَرُّوا عَلَى حَدَّادٍ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَنْظُرُ إلى حديدة في النار، وينظر الربيع بن خيثم إليها، فتمايل الربيع لِيَسْقُطَ، فَمَرَّ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى أَتُونٍ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، فِلَمَّا رَآهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالنَّارُ تَلْتَهِبُ فِي جَوْفِهِ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} فصعق، يعني الربيع، وحملوه إلى أهل بيته، فرابطة عَبْدُ اللَّهِ إِلَى الظُّهْرِ، فَلَمْ يَفِقْ رَضِيَ الله عنه. وعن مجاهد بإسناده إلى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ فَتَنْزَوِي وَتَنْقَبِضُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَيَقُولُ لَهَا الرَّحْمَنُ: مَا لَكِ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ يَسْتَجِيرُ مِنِّي، فَيَقُولُ أَرْسِلُوا عَبْدِي؛ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا كَانَ هَذَا الظَّنُّ بِكَ، فَيَقُولُ: فَمَا كَانَ ظَنُّكَ؟ فَيَقُولُ: أَنْ تَسَعَنِي رَحْمَتُكَ، فَيَقُولُ: أَرْسِلُوا عَبْدِي؛ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُجْرُّ إِلَى النَّارِ فَتَشْهَقُ إِلَيْهِ النار شهقة الْبَغْلَةِ إِلَى الشَّعِيرِ، وَتَزْفَرُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى أحد إلا خاف (ذكره ابن جرير رحمه الله في تفسيره وقال ابن كثير: إسناده صحيح). وقال عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} قال: إن جهنم لتزفر زَفْرَةً لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مرسل إلاّ خرَّ لوجهه، ترتعد فرائضه، حَتَّى إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَجْثُو عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَقُولَ: رَبِّ لَا أَسْأَلُكَ الْيَوْمَ إِلَّا نفسي (أخرجه عبد الرزاق عن مجاهد عن عبيد بن عمير)، وقوله: {وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ} قَالَ قتادة: مِثْلَ الزُّجِّ فِي الرُّمْحِ أَيْ مِنْ ضِيقِهِ، وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قَوْلِ اللَّهِ: {وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ} قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ لَيُسْتَكْرَهُونَ فِي النَّارِ كَمَا يُسْتَكْرَهُ الْوَتِدُ فِي الْحَائِطِ». وقوله: {مُّقَرَّنِينَ} يَعْنِي مُكَتَّفِينَ {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} أَيْ بِالْوَيْلِ وَالْحَسْرَةِ وَالْخَيْبَةِ، {لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً} الآية. روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى حُلَّةً مِنَ النَّارِ إِبْلِيسُ، فَيَضَعُهَا عَلَى حاجبيه ويسحبها من خلقه، وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ يُنَادِي: يَا ثُبُورَاهُ، وَيُنَادُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ، حَتَّى يَقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا ثُبُورَاهُ، وَيَقُولُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: {لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوَا ثُبُوراً كَثِيراً}. عن ابن عباس: أَيْ لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ وَيْلًا واحِداً وَادْعُوَا وَيْلًا كَثِيرًا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الثُّبُورُ الْهَلَاكُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الثُّبُورَ يَجْمَعُ الْهَلَاكَ وَالْوَيْلَ وَالْخَسَارَ وَالدَّمَارَ، كما قال موسى لفرعون: {وإني لأظنك يا فرعون مَثْبُوراً} أي هالكاً.

- 15 - قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا - 16 - لَهُمْ فيها ما يشاؤون خالدين كَانَ على رَبِّكَ وعدا مسؤولا يَقُولُ تَعَالَى: يَا مُحَمَّدُ هَذَا الَّذِي وَصَفْنَاهُ لك من حال الْأَشْقِيَاءِ، الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ، فتلقاهم بوجه عبوس وتغيظ وَزَفِيرٍ، وَيُلْقَونَ فِي أَمَاكِنِهَا الضَّيِّقَةِ مُقَرَّنِينَ، لَا يستطيعون حراكاً ولا استنصاراً ولا فكاكاً

مِمَّا هُمْ فِيهِ، أَهَذَا خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وَعَدَهَا اللَّهُ الْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ، التي أعدها لهم جزاء ومصيراً عَلَى مَا أَطَاعُوهُ فِي الدُّنْيَا وَجَعَلَ مَآلَهُمْ إليها؟! {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ} مِنَ الْمَلَاذِّ مِنْ مَآكِلَ وَمَشَارِبَ، وَمَلَابِسَ وَمَسَاكِنَ، وَمَرَاكِبَ وَمَنَاظِرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أذن سمعت ولا خطر على قَلْبِ أَحَدٍ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ خَالِدُونَ أَبَدًا دَائِمًا سَرْمَدًا، بِلَا انْقِطَاعٍ وَلَا زَوَالٍ وَلَا انقضاء، ولا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، وَهَذَا مِنْ وَعْدِ اللَّهِ الَّذِي تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ وَأَحْسَنَ بِهِ إِلَيْهِمْ، ولهذا قال: {كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مسؤولا} أَيْ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ وَأَنْ يَكُونَ أي وعداً واجباً، وقال محمد بن كعب القرظي: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْأَلُ لَهُمْ ذَلِكَ {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ}، وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: رَبَّنَا عَمِلْنَا لَكَ بِالَّذِي أَمَرْتَنَا فَأَنْجِزْ لَنَا مَا وَعَدْتَنَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَعْداً مسؤولا} وهذا المقام في هذه السورة كَمَا ذَكَرَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ حَالَ أهل الجنة وما فيها منن النَّضْرَةِ وَالْحُبُورِ، ثُمَّ قَالَ: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقزم * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً للظالمين} الآيات.

- 17 - وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ - 18 - قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَكِنْ مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً - 19 - فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلَا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ تَقْرِيعِ الْكُفَّارِ فِي عِبَادَتِهِمْ مَنْ عَبَدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الملائكة وغيرهم فقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، قال مجاهد: هو عِيسَى وَالْعُزَيْرُ وَالْمَلَائِكَةُ، {فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ} الآية، أي فيقول تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْمَعْبُودِينَ: أَأَنْتُمْ دَعَوْتُمْ هَؤُلَاءِ إِلَى عِبَادَتِكُمْ مِنْ دُونِي، أَمْ هُمْ عَبَدُوكُمْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ مِنْكُمْ لَهُمْ؟ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذِ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بحق} الآية. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يُجيِبُ بِهِ الْمَعْبُودُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ ينبغي لنا أن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ}، أَيْ لَيْسَ لِلْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ أَنْ يَعْبُدُوا أَحَدًا سِوَاكَ لَا نَحْنُ وَلَا هُمْ، فَنَحْنُ ما دعوناهم إلى ذلك بل هم فعلوا ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَمْرِنَا وَلَا رِضَانَا، وَنَحْنُ بُرَآءُ مِنْهُمْ وَمِنْ عِبَادَتِهِمْ، {وَلَكِنْ مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ} أَيْ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ، أَيْ نَسُوا مَا أَنْزَلْتَهُ إِلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى عِبَادَتِكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، {وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ هَلْكَى، وَقَالَ الحسن البصري: أي لا خير فيهم. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} أي فقد كذبكم الذين عبدتم من دون الله، فيما زعمتم أنهم لكم أولياء وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى، كقوله تَعَالَى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بعبادتهم كافرين}. وقوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً} أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى صَرْفِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ وَلَا الِانْتِصَارِ لِأَنْفُسِهِمْ، {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ} أَيْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ {نُذِقْهُ عَذَاباً كبيرا}.

- 20 - وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَمِيعِ مَنْ بَعَثَهُ مِنَ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسواق لِلتَّكَسُّبِ وَالتِّجَارَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنَافٍ لِحَالِهِمْ وَمَنْصِبِهِمْ، فإن الله تعالى جَعَلَ لَهُمْ مِنَ السِّمَاتِ الْحَسَنَةِ، وَالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، والأقوال الفاضلة، والأعمال الكاملة، والخوارق الباهرة، مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ كُلُّ ذِي لُبٍّ سَلِيمٍ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ اللَّهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} الآية، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}؟ أَيْ اخْتَبَرْنَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ، وَبَلَوْنَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ لِنَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُ مِمَّنْ يَعْصِي، وَلِهَذَا قَالَ {أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أَيْ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالته} ومن يستحق أن يهديه الله وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}؟ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَجْعَلَ الدُّنْيَا مَعَ رُسُلِي فَلَا يُخَالَفُونَ لَفَعَلْتُ، وَلَكِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَلِيَ الْعِبَادَ بِهِمْ وأبتليكم بهم، وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِنِّي مُبْتَلِيكَ ومبتل بك» (أخرجه مسلم عن عياض بن حماد مرفوعاً)، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ خيَّر بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ عَبْدًا رَسُولًا، فَاخْتَارَ أَن يَكُونَ عَبْداً رَسُولًا.

- 21 - وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيرًا - 22 - يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا - 23 - وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً - 24 - أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَعَنُّتِ الْكَفَّارِ فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} أَيْ بِالرِّسَالَةِ كَمَا تنزل على الأنبياء، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله}، ويحتمل أن يكون مرادهم ههنا {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} فَنَرَاهُمْ عَيَانًا فَيُخْبِرُونَا أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، كَقَوْلِهِمْ: {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قبيلا}، ولهذا قالوا: {أَوْ نَرَى رَبَّنَا}، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً}، وقوله تَعَالَى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ويقولون حجرا مَّحْجُوراً} أي هم يوم يرونهم لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لَهُمْ، وَذَلِكَ يَصْدُقُ عَلَى وقت الاحتضار، حين تبشرهم الملائكة بالنار، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِلْكَافِرِ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، اخْرُجِي إِلَى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ، فَتَأْبَى الْخُرُوجَ وَتَتَفَرَّقُ فِي الْبَدَنِ فَيَضْرِبُونَهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} الآية. وقال تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ والملائكة باسطو أَيْدِيهِمْ} أي بالضرب، وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} وَهَذَا بخلاف حال المؤمنين حال احْتِضَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُبَشَّرُونَ بِالْخَيْرَاتِ، وَحُصُولِ الْمَسَرَّاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أن لا تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ توعدون}، وفي الصَّحِيحِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ لِرُوحِ الْمُؤْمِنِ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ في الجسد الطيب إن كنت تعمرينه،

اخْرُجِي إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ (تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الآية)، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمَا؛ ولا منافاة بين هذا وما تَقَدَّمَ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي هَذَيْنَ الْيَوْمَيْنِ - يَوْمِ الممات ويوم المعاد - تتجلى للمؤمنين والكافرين، فَتُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَتُخْبِرُ الْكَافِرِينَ بِالْخَيْبَةِ وَالْخُسْرَانِ، فَلَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} أَيْ وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِلْكَافِرِينَ: حَرَامٌ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمُ الْفَلَّاحُ الْيَوْمَ، وَأَصْلُ الْحِجْرِ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: حَجَرَ الْقَاضِي عَلَى فُلَانٍ إِذَا مَنَعَهُ التصرف، إما لسفهٍ أو صغرٍ أو نحو ذلك؛ وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْعَقْلِ (حِجْر) لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ عَنْ تَعَاطِي مَا لَا يَلِيقُ، وَالْغَرَضُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {وَيَقُولُونَ} عَائِدٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، هذا قول مجاهد وعكرمة والضحاك واختاره ابن جرير. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} الآية، هذا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُحَاسِبُ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَى ما عملوه من الخير والشر، فأخبر أنه لا يحصل لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا مَنْجَاةٌ لَهُمْ شَيْءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا فَقَدَتِ الشَّرْطَ الشَّرْعِيَّ إِمَّا الْإِخْلَاصُ فِيهَا، وَإِمَّا الْمُتَابَعَةُ لِشَرْعِ اللَّهِ، فَكُلُّ عَمَلٍ لَا يَكُونُ خَالِصًا وَعَلَى الشريعة المرضية فهو باطل، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً}، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: {هَبَآءً مَّنثُوراً} قَالَ: شُعَاعُ الشَّمْسِ إِذَا دَخَلَ الكوة. وكذا قال الحسن البصري: هو شعاع في كوة أحدكم وَلَوْ ذَهَبَ يَقْبِضُ عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَطِعْ، وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {هَبَآءً مَّنثُوراً} قَالَ: هُوَ الْمَاءُ المهراق، وقال قتادة: أما رأيت يبس الشَّجَرِ إِذَا ذَرَتْهُ الرِّيحُ؟ فَهُوَ ذَلِكَ الْوَرَقُ. وروى عبد الله بن وهب عن عبيد بن يعلى قال: إن الهباء الرماد إذا ذرته الريح، وَحَاصِلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَضْمُونِ الْآيَةِ، وذلك أنهم عملوا أعمالاً اعتقدوا أنها على شيء، فلما عرضت على الملك الحكم الْعَدْلِ الَّذِي لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا إذا بها لَا شَيْءَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَشُبِّهَتْ فِي ذَلِكَ بِالشَّيْءِ التافه الحقير المتفرق، الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية، كما قال تَعَالَى: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يجده شيئاً}. وقوله تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ} وذلك أن أَهْلَ الْجَنَّةِ يَصِيرُونَ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ، وَالْغُرُفَاتِ الْآمِنَاتِ، فَهُمْ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ حَسَنِ الْمَنْظَرِ طَيِّبِ الْمَقَامِ {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات، وَأَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْعُقُوبَاتِ {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أَيْ بِئْسَ الْمَنْزِلُ مَنْظَرًا وَبِئْسَ الْمَقِيلُ مَقَامًا، ولهذا قال تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} أَيْ بِمَا عَمِلُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُتَقَبَّلَةِ نَالُوا مَا نَالُوا وَصَارُوا إِلَى مَا صَارُوا إليه بخلاف أهل النار، فإنهم ليس لهم عمل واحد يقتضي دخول الجنة لهم وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ، فَنَبَّهَ تَعَالَى بِحَالِ السُّعَدَاءِ عَلَى حَالِ الْأَشْقِيَاءِ وَأَنَّهُ لَا خَيْرَ عِنْدَهُمْ بالكلية، فقال تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}، قال ابن عباس، إنما هي ساعة فيقبل أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى الْأَسِرَّةِ مَعَ الْحَورِ الْعَيْنِ، ويقبل أَعْدَاءُ اللَّهِ مَعَ الشَّيَاطِينِ مُقْرَّنِينَ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَفْرَغُ اللَّهُ مِنَ الْحِسَابِ نِصْفَ النهار فيقيل

أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}، قال قتادة: أي مأوى ومنزلاً. وقال ابن جرير عن سعيد الصواف: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقْصُرُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ كَمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى غروب الشمس، وإنهم يتقلبون فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يُفْرَغَ مِنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}.

- 25 - وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا - 26 - الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً - 27 - وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا - 28 - يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا - 29 - لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، فَمِنْهَا انْشِقَاقُ السَّمَاءِ وَتَفَطُّرُهَا، وَانْفِرَاجُهَا بِالْغَمَامِ وَهُوَ ظُلَلُ النُّورِ الْعَظِيمِ الَّذِي يُبْهِرُ الأبصار، ونزول ملائكة السموات يومئذٍ، فَيُحِيطُونَ بِالْخَلَائِقِ فِي مَقَامِ الْمَحْشَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أن يأيتهم الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة} الآية. قَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثَمَانِيَةٌ، أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حلمك بعد علمك، وأربعة مِنْهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عفوك بعد قدرتك. وقوله تعالى: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} الآية، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ. لِلَّهِ الواحد القهار} وفي الصحيح: أن الله تعالى يَطْوِي السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ، وَيَأْخُذُ الْأَرَضِينَ بِيَدِهِ الْأُخْرَى ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟. وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} أَيْ شَدِيدًا صَعْبًا لِأَنَّهُ يَوْمُ عَدْلٍ وَقَضَاءِ فَصْلٍ، كَمَا قال تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يسير} فَهَذَا حَالُ الْكَافِرِينَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكبر} الآية، وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} مَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لِيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا». وَقَوْلُهُ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} الآية، يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نَدَمِ الظَّالِمِ الَّذِي فَارَقَ طريق الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْحَقِّ الْمُبِينِ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَسَلَكَ طَرِيقًا أُخْرَى غَيْرَ سَبِيلِ الرَّسُولِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَدَمَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَدَمُ، وَعَضَّ عَلَى يَدَيْهِ حَسْرَةً وَأَسَفًا، وَسَوَاءً كَانَ سبب نزولها في عقبة بن معيط (أخرج ابن جرير: كان أبي بن خلف يحضر النبي صلى الله عليه وسلم، فيزجره عقبة بن أبي معيط، فنزلت هذه الآية، كما في اللباب)، أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ، فَإِنَّهَا عَامَّةٌ فِي كل ظالم كما قال الله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار} الآيتين، فَكُلُّ ظَالِمٍ يَنْدَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، غَايَةَ النَّدَمِ، وَيَعَضُّ عَلَى يَدَيْهِ قَائِلًا {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} يَعْنِي مَنْ صرَفه عَنِ الهدى وعدَل به إلى طريق الضلال مِنْ دُعَاةِ الضَّلَالَةِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ (أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ) أَوْ أَخُوهُ (أُبي بْنُ خَلَفٍ) أَوْ غَيْرُهُمَا {لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} وَهُوَ الْقُرْآنُ {بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي}

أَيْ بَعْدَ بُلُوغِهِ إليَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} أَيْ يَخْذُلُهُ عَنِ الْحَقِّ وَيَصْرِفُهُ عَنْهُ وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي الْبَاطِلِ وَيَدْعُوهُ إليه.

- 30 - وقال الرسول يا رب إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا - 31 - وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيرًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ رسوله ونبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُصْغُونَ لِلْقُرْآنِ وَلَا يستمعونه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ والغوا فِيهِ} الآية، فكانوا إِذَا تُلِيَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ، أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالْكَلَامَ حتى لا يسمعونه؛ فهذا من هجرانه، وترك الإيمان به مِنْ هُجْرَانِهِ، وَتَرْكُ تَدَبُّرِهِ وَتَفْهُّمِهِ مِنْ هُجْرَانِهِ، وترك العمل به مِنْ هُجْرَانِهِ، وَالْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مَنْ شِعْرٍ أَوْ قَوْلٍ، أَوْ غناءٍ أَوْ لهوٍ من هجرانه. وقوله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} أَيْ كَمَا حَصَلَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ فِي قَوْمِكَ مِنَ الَّذِينَ هَجَرُوا الْقُرْآنَ، كَذَلِكَ كَانَ في الأمم الماضيين، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ، يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن} الآية، ولهذا قال تعالى ههنا: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} أَيْ لِمَنِ اتَّبَعَ رَسُولَهُ وَآمَنَ بِكِتَابِهِ وَصَدَّقَهُ وَاتَّبَعَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ هاديه وناصره في الدنيا والآخرة.

- 32 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً - 33 - وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا - 34 - الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كَثْرَةِ اعْتِرَاضِ الْكُفَّارِ وَتَعَنُّتِهِمْ وَكَلَامِهِمْ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ حَيْثُ قَالُوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أَيْ هَلَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ جملة واحدة، كما نزلت الكتب قبله جملة واحدة كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ؟ فأجابهم الله تعالى عن ذلك بأنه إنما نزل مُنَجَّمًا فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ والحوادث وما يحتاج إليه من الأحكام ليثبت قلوب المؤمنين به كقوله: {وَقُرْآناً فرقناه} الآية، وَلِهَذَا قَالَ: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}، قال قتادة: بيناه تبييناً، وقال ابن زيد: وَفَسَّرْنَاهُ تَفْسِيرًا {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} أَيْ بِحُجَّةٍ وَشُبْهَةٍ {إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} أَيْ وَلَا يَقُولُونَ قَوْلًا يُعَارِضُونَ بِهِ الْحَقَّ إِلَّا أَجَبْنَاهُمْ بِمَا هُوَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} أَيْ بِمَا يَلْتَمِسُونَ بِهِ عَيْبَ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ {إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق} أي: إلاّ نزل جبريل من الله تعالى بجوابهم، وما هذا إلاّ اعتناء وكبير شرف للرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان يأتيه الوحي من الله عزَّ وجلَّ بالقرآن صباحاً ومساء، سفراً وحضراً، لا كإنزال ما قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَهَذَا الْمَقَامُ أَعْلَى وأجل وأعظم مكانة من سائر إخوانه الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ؛ فَالْقُرْآنُ أشرف كتاب أنزله الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم نبي أرسله الله تعالى،

وقد جمع الله لِلْقُرْآنِ الصِّفَتَيْنِ مَعًا: فَفِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى أُنْزِلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السماء الدنيا، ثم أنزل بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْأَرْضِ مُنَجَّمًا بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ والحوادث. روي عن ابن عباس أنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً، قَالَ الله تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}، وقال تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تنزيلا} (أخرجه النسائي بإسناده عن ابن عباس). ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ سُوءِ حَالِ الْكُفَّارِ فِي مَعَادِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَحَشْرِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ فِي أَسْوَأِ الْحَالَاتِ وَأَقْبَحِ الصِّفَاتِ، {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً}، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ قَادِرٌ أَنْ يمشيه على وجهه يوم القيامة».

- 35 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا - 36 - فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا - 37 - وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا - 38 - وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا - 39 - وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً - 40 - وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُورًا يَقُولُ تعالى متوعداً من كذب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من مشركي قومه وَمُحَذِّرَهُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَأَلِيمِ عَذَابِهِ، مِمَّا أَحَلَّهُ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِ؛ فَبَدَأَ بِذِكْرِ مُوسَى وأنه بعث وَجَعَلَ مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا أَيْ نَبِيًّا مُوَازِرًا وَمُؤَيِّدًا وَنَاصِرًا، فَكَذَّبَهُمَا فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فَـ {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِقَوْمِ نُوحٍ حِينَ كَذَّبُوا رَسُولَهُ نوحاً عليه السلام، ولهذا قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ} وَلَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ إِلَّا نُوحٌ فَقَطْ، وَقَدْ لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ إِلَى الله عزَّ وجلَّ وَيُحَذِّرُهُمْ نَقَمَهُ {فَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ}، وَلِهَذَا أَغْرَقَهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أحداً، ولم يترك من بني آدم على وجه الارض سِوَى أَصْحَابِ السَّفِينَةِ فَقَطْ، {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} أَيْ عِبْرَةٌ يَعْتَبِرُونَ بِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أَيْ وَأَبْقَيْنَا لَكُمْ مِنَ السُّفُنِ مَا تَرْكَبُونَ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، لِتَذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ من إنجائكم من الغرق، وقوله تعالى: {وَعَاداً وثمود وَأَصْحَابَ الرس} قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قِصَّتَيْهِمَا فِي غَيْرِ ما سورة كسورة الْأَعْرَافِ بِمَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الرس فقال ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمْ أَهْلُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى ثمود، وقال عِكْرِمَةُ: أَصْحَابُ الرَّسِّ بِفَلْجٍ وَهُمْ أَصْحَابُ يس، وقال قتادة: فلج من قرى اليمامة، وعن عِكْرِمَةَ: الرَّسُّ بِئْرٌ رَسَوْا فِيهَا نَبِيَّهَمْ، أَيْ دفنوه فيها.

وقوله تعالى: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} أي وأمماً - أَضْعَافِ مَنْ ذُكِرَ أَهْلَكْنَاهُمْ - كَثِيرَةً، وَلِهَذَا قَالَ: {وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} أَيْ بَيَّنَّا لَهُمُ الحجج، ووضحنا لهم الأدلة، وأزحنا الأعذار عنهم، {وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} أَيْ أَهْلَكْنَا إِهْلَاكًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نوح}، وَالْقَرْنُ هُوَ الْأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ، كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ}، وحَدَّه بعضُهم بمائة، وقيل بثمانين، والأظهر أن القرن هو الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد، وإذا ذهبوا وخلفهم جيل فهو قرن آخر، كما ثبت في الصحيحين: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الذين يلونهم» الحديث. {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء} يعني قرية قوم لوط وهي (سدوم) التي أهلكها الله بالقلب والمطر من الحجارة التي مِنْ سِجِّيلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَسَآءَ مطر المنذرين}، وَقَالَ: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تعقلون}، وقال تعالى: {وَإِنَّهَا لبسبيل مقيم}، وقال: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مبين}، وَلِهَذَا قَالَ: {أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا}؟ أَيْ فَيَعْتَبِرُوا بِمَا حَلَّ بِأَهْلِهَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ بِسَبَبِ تكذيبهم بالرسول وبمخالفتهم أوامر الله، {بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً} يَعْنِي الْمَارِّينَ بِهَا مِنَ الْكُفَّارِ لَا يَعْتَبِرُونَ، لِأَنَّهُمْ {لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً} أَيْ مَعَادًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

- 41 - وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا - 42 - إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا - 43 - أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا - 44 - أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ اسْتِهْزَاءِ المشركين بالرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأوه، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هزوا} الآية، يعنونه بالعيب والنقص، وقال ههنا: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً}؟ أَيْ عَلَى سَبِيلِ التنقص والإزدراء، وقوله تعالى: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} يعنون أنه كاد يثنيهم عن عبادة الأصنام، لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا عليها، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لَهُمْ وَمُتَهَدِّدًا: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب} الآية، ثم قال تعالى لنبيه منبهاً: أنَّ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةَ وَالضَّلَالَ فإنه لا يهديه أحد إلا الله عزَّ وجلَّ، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أَيْ مَهْمَا اسْتَحْسَنَ مِنْ شَيْءٍ وَرَآهُ حَسَنًا فِي هَوَى نَفْسِهِ كَانَ دِينَهُ وَمَذْهَبَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ} الآية، ولهذا قال ههنا: {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً}؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُ الْحَجَرَ الْأَبْيَضَ زَمَانًا فَإِذَا رَأَى غَيْرَهُ أَحْسَنَ مِنْهُ عَبَدَ الثاني وترك الأول، ثم قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ}؟ الآية، أي هم أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْأَنْعَامِ السَّارِحَةِ، فَإِنَّ تِلْكَ تفعل مَا خُلِقَتْ لَهُ، وَهَؤُلَاءِ خُلِقُوا لِعِبَادَةِ اللَّهِ وحده، وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ وَيُشْرِكُونَ بِهِ، مَعَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ.

- 45 - أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا - 46 - ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا - 47 - وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سباتا وَجَعَلَ النهار نُشُوراً

شرع سبحانه وتعالى فيَّ بيانه الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ، وَقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ عَلَى خلق الأشياء المختلفة والمتضادة، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}؟ قال ابن عباس ومجاهد: هُوَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} أَيْ دَائِمًا لا يزول، وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} أَيْ لَوْلَا أن الشمس تطلع عليه لما عرف، وقال قتادة والسدي: دليلاً تتلوه وتتبعه حتى تأتي عليه كله، وقوله تعالى: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} أَيِ الظِّلَّ، وَقِيلَ الشَّمْسَ، {يَسِيراً} أَيْ سَهْلًا، قَالَ ابْنُ عباس: سريعاً، وقال مجاهد خَفِيًّا حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ ظِلٌّ إلاّ تحت سقف أو تحت شجرة. وقال أيوب بن موسى {قَبْضاً يَسِيراً}: قَلِيلًا قَلِيلًا. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً} أي يلبس الوجود ويغشاه، كما قال تعالى: {والليل إِذَا يغشى}، {والنوم سُبَاتاً} أي قاطعاً لِلْحَرَكَةِ لِرَاحَةِ الْأَبْدَانِ، فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ وَالْجَوَارِحَ تَكِلُّ من كثرة الحركة، فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ وَسَكَنَ سَكَنَتِ الْحَرَكَاتُ فَاسْتَرَاحَتْ، فَحَصَلَ النَّوْمُ الَّذِي فِيهِ رَاحَةُ الْبَدَنِ وَالرُّوحِ مَعًا، {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} أَيْ يَنْتَشِرُ النَّاسُ فيه لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم.

- 48 - وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا - 49 - لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً - 50 - وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً وَهَذَا أَيْضًا مِنْ قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ، أَيْ بِمَجِيءِ السَّحَابِ بَعْدَهَا. والرياح أنواع، فَمِنْهَا مَا يُثِيرُ السَّحَابَ، وَمِنْهَا مَا يَحْمِلُهُ، وَمِنْهَا مَا يَسُوقُهُ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ يدي السحاب مبشراً، وَمِنْهَا مَا يَلْقَحُ السَّحَابَ لِيُمْطِرَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} أَيْ آلَةً يتطهر بها كالسحور. فهذا أصح ما يقال في ذلك، وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن خالد بن يزيد قال: كنا عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَذَكَرُوا الْمَاءَ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ: مِنْهُ مِنَ السَّمَاءِ، ومنه ما يسوقه الغيم من البحر فيذبه الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ؛ فَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْبَحْرِ فلا يكون منه نَبَاتٌ، فَأَمَّا النَّبَاتُ فَمِمَّا كَانَ مِنَ السَّمَاءِ؛ وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ قَطْرَةً إِلَّا أَنْبَتَ بِهَا فِي الْأَرْضِ عُشْبَةً أَوْ فِي الْبَحْرِ لُؤْلُؤَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي البَرّ بُرٌّ، وَفِي الْبَحْرِ دُرٌّ. وقوله تعالى: {لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} أَيْ أَرْضًا قَدْ طَالَ انْتِظَارُهَا لِلْغَيْثِ فَهِيَ هَامِدَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا شَيْءَ، فَلَمَّا جاءها الحياء عَاشَتْ وَاكْتَسَتْ رُبَاهَا أَنْوَاعُ الْأَزَاهِيرِ وَالْأَلْوَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وربت} الآية، {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} أَيْ وَلِيَشْرَبَ مِنْهُ الْحَيَوَانُ مِنْ أَنْعَامٍ وَأَنَاسِيِّ مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ غَايَةَ الْحَاجَةِ لِشُرْبِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ، كَمَا قال تَعَالَى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} الآية. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ} أَيْ أَمْطَرْنَا هَذِهِ الأرض دون هذه، وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى، فيمطرها ويكفيها ويجعلها غَدَقًا وَالَّتِي وَرَاءَهَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهَا قَطْرَةٌ مِنْ مَاءٍ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ والحكمة القاطعة. قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: لَيْسَ عَامٌ بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً}: أَيْ لِيَذَّكَّرُوا بِإِحْيَاءِ اللَّهِ الْأَرْضَ الْمَيِّتَةَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ والعظام الرفات، أو ليذكر من منع المطر أَنَّمَا أَصَابَهُ ذَلِكَ بِذَنْبٍ أَصَابَهُ فَيُقْلِعُ عَمَّا هو فيه. وَقَوْلُهُ: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} قَالَ

عِكْرِمَةُ: يَعْنِي الَّذِينَ يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وكذا، وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يوماً عَلَى أَثَرِ سَمَاءٍ أَصَابَتْهُمْ مِنَ اللَّيْلِ: "أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَاكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَاكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ".

- 51 - وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا - 52 - فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا - 53 - وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً - 54 - وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَلَكِنَّا خَصَصْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْبِعْثَةِ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الأرض، وأمرناك أن تبلغهم هذا القرآن {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ}، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إليكم جميعا}، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ»، وَفِيهِمَا «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلى الناس عامة»، ولهذا قال تعالى: {فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} يَعْنِي بِالْقُرْآنِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ {جِهَاداً كَبيراً}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} الآية، وقوله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أَيْ خَلَقَ الْمَاءَيْنِ الْحُلْوَ والملح، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار. قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهَذَا المعنى لَا شَكَّ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ بَحْرٌ سَاكِنٌ وَهُوَ عَذْبٌ فُرَاتٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى إِنَّمَا أَخْبَرَ بِالْوَاقِعِ لِيُنَبِّهَ الْعِبَادَ عَلَى نِعَمِهِ عليهم ليشكروه، فالبحر العذب فرقه الله تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهاراً أو عيوناً فِي كُلِّ أَرْضٍ، بِحَسَبِ حَاجَتِهِمْ وَكِفَايَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وأراضيهم، وقوله تعالى: {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أَيْ مَالِحٌ، مرٌّ، زُعاق لَا يُسْتَسَاغُ، وَذَلِكَ كَالْبِحَارِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْمَشَارِقِ والمغارب، البحر المحيط وَبَحْرِ فَارِسَ وَبَحْرِ الصِّينِ وَالْهِنْدِ وَبَحْرِ الرُّومِ وبحر الخزر، وما شاكلها وما شابهها مِنَ الْبِحَارِ السَّاكِنَةِ الَّتِي لَا تَجْرِي، وَلَكِنْ تموج وتضطرب وتلتطم فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ وَشِدَّةِ الرِّيَاحِ، وَمِنْهَا مَا فِيهِ مَدٌّ وَجَزْرٌ، فَفِي أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ يَحْصُلُ مِنْهَا مَدٌّ وَفَيْضٌ، فَإِذَا شَرَعَ الشَّهْرُ فِي النُّقْصَانِ جَزَرَتْ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى غَايَتِهَا الأولى، فأجرى الله سبحانه وتعالى - وهو ذو الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ - الْعَادَةَ بِذَلِكَ؛ فَكُلُّ هَذِهِ الْبِحَارِ الساكنة خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة، لِئَلَّا يَحْصُلَ بِسَبَبِهَا نَتَنُ الْهَوَاءِ، فَيَفْسَدُ الْوُجُودُ بِذَلِكَ، وَلِئَلَّا تَجْوَى الْأَرْضُ بِمَا يَمُوتُ فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَلَمَّا كَانَ مَاؤُهَا مِلْحًا كَانَ هَوَاؤُهَا صَحِيحًا وَمَيْتَتُهَا طَيِّبَةً؛ وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ: أَنَتَوَضَّأُ بِهِ؟ فَقَالَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» (رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ). وَقَوْلُهُ تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً} أَيْ بَيْنَ الْعَذْبِ وَالْمَالِحِ {بَرْزَخاً} أَيْ حَاجِزًا وَهُوَ الْيَبَسُ مِنَ الأرض {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} أي مانعاً من أن يصل أحدهما إلى الآخر، كقوله تعالى: {مَرَجَ البحرين يلتقان بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يبغيان}، وقوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، وقوله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً} الآية، أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ ضَعِيفَةٍ

فسوَّاه وعدّله، وجعله كامل الخلقة ذكراً وأنثى كَمَا يَشَاءُ، {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} فَهُوَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَلَدٌ نَسِيبٌ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُ فَيَصِيرُ صِهْرًا، ثُمَّ يَصِيرُ لَهُ أَصْهَارٌ وَأُخْتَانٌ وَقَرَابَاتٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}.

- 55 - وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا - 56 - وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مبشرا ونذيرا - 57 - قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً - 58 - وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا - 59 - الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا - 60 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَهْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ، الَّتِي لَا تملك لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نفعا بِلَا دَلِيلٍ قَادَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَلَا حُجَّةٍ أدتهم إليه بل بمجرد الآراء وَالْأَهْوَاءِ، فَهُمْ يُوَالُونَهُمْ وَيُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِمْ وَيُعَادُونَ الله ورسوله والمؤمنين فيهم، ولهذا قال تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} أَيْ عَوْنًا فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ عَلَى حِزْبِ اللَّهِ، وَحِزْبُ الله هُمُ الغالبون، قَالَ مُجَاهِدٌ {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} قال: يظاهر الشيطان على معصية الله ويعينه، وقال سعيد بن جبير: عوناً للشيطان على ربه بالعدواة والشرك، وقال زيد بن أسلم: مُوَالِيًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} أَيْ بَشِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَنَذِيرًا لِلْكَافِرِينَ، مُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ لمن أطاع الله، ونذيراً بيد يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ، {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أَيْ عَلَى هَذَا الْبَلَاغِ وَهَذَا الْإِنْذَارِ مِنْ أُجْرَةٍ أَطْلُبُهَا مِنْ أَمْوَالِكُمْ، وَإِنَّمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله تعالى، {إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أَيْ طَرِيقًا وَمَسْلَكًا وَمَنْهَجًا يَقْتَدِي فِيهَا بما جئت به، ثم قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لا يموت} (روى ابن أبي حاتم عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: لَقِيَ سَلْمَانُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ فِجَاجِ الْمَدِينَةِ فَسَجَدَ لَهُ، فَقَالَ: «لَا تَسْجُدْ لِي يَا سَلْمَانُ وَاسْجُدْ لِلْحَيِّ الَّذِي لَا يموت» قال ابن كثير: وهو مرسل حسن) أَيْ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا، كُنْ مُتَوَكِّلًا عَلَى الله الحي الذي لا يموت أبداً، الدَّائِمُ الْبَاقِي السَّرْمَدِيُّ، الْأَبَدِيُّ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، رَبُّ كل شيء وملكيه، اجعله ذخرك وملجأك، فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك، كما قال تعالى: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس}. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أَيْ اقْرِنْ بَيْنَ حَمْدِهِ وَتَسْبِيحِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ»، أَيْ أَخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَةَ وَالتَّوَكُّلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً}، وقال تعالى: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا}، وقوله تعالى: {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} أي بعلمه التام لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، وقوله تعالى: {الذي خَلَقَ السماوات والأرض} الآية، أي هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، الَّذِي خَلَقَ بقدرته

وَسُلْطَانِهِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا، وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي سُفُولِهَا وَكَثَافَتِهَا {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ وَيَقْضِي الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ، وقوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} أَيِ اسْتَعْلِمْ عَنْهُ مَنْ هُوَ خَبِيرٌ بِهِ عَالِمٌ بِهِ، فَاتَّبِعْهُ وَاقْتَدِ بِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَلَا أَخْبَرُ بِهِ، مِنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ سَيِّدِ وَلَدِ آدم على الإطلاق، الذِي لَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى، فما قاله فهو الحق، ما أخبره به فهو الصدق، ولهذا قال تعالى: {فاسأل بِهِ خَبِيراً}، قال مجاهد: مَا أَخْبَرْتُكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ كَمَا أَخْبَرْتُكَ، وقال شمر بن عطية: هَذَا الْقُرْآنُ خَبِيرٌ بِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ}؟ أَيْ لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، وَكَانُوا يُنْكِرُونَ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ بِاسْمِهِ الرَّحْمَنِ، كَمَا أَنْكَرُوا ذَلِكَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْكَاتِبِ: «اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، فَقَالُوا: لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ وَلَا الرَّحِيمَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ؛ وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أَيْ هُوَ اللَّهُ وَهُوَ الرَّحْمَنُ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ} أَيْ لَا نِعْرِفُهُ وَلَا نقرُّ بِهِ، {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا}؟ أَيْ لِمُجَرَّدِ قَوْلِكَ، {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} فأما الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ الَّذِي هُوَ الرَّحْمَنُ الرحيم ويفردونه بالإلهية ويسجدون له.

- 61 - تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَرًا مُنِيرًا - 62 - وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً يَقُولُ تَعَالَى مُمَجِّدًا نَفْسَهُ ومعظماً على جميل ما خلق في السماوات من البروج، وهي الكواكب العظام (وهو قول مجاهد والحسن وقتادة وسعيد بن جبير)، وقيل: هي قصور في السماء للحرس (وهو مروي عن علي وابن عباس وإبراهيم النخعي)، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ هِيَ قُصُورٌ لِلْحَرَسِ فَيَجْتَمِعُ الْقَوْلَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بمصابيح} الآية، ولهذا قَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} وَهِيَ الشَّمْسُ الْمُنِيرَةُ الَّتِي هي كالسراج في الوجود، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً}، {وَقَمَراً مُّنِيراً} أي مشرقاً مضيئاً بنور آخر من غير نور الشمس، كما قال تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً}، وقال: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}، ثم قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أَيْ يَخْلُفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ يَتَعَاقَبَانِ لَا يَفْتُرَانِ، إِذَا ذَهَبَ هَذَا جَاءَ هَذَا، وَإِذَا جَاءَ هذا ذهب ذاك، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائبين} الآية، وقال: {يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} الآية، وَقَالَ: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ} الآية. وقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} أي جعلهما يتعاقبان توقيتاً لعبادة عباده، فَمَنْ فَاتَهُ عَمَلٌ فِي اللَّيْلِ اسْتَدْرَكَهُ فِي النَّهَارِ، وَمَنْ فَاتَهُ عَمَلٌ فِي النَّهَارِ اسْتَدْرَكَهُ فِي اللَّيْلِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أن الله عزَّ وجلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يده بالنهار ليتوب مسيء الليل». قال ابن عباس في الآية: مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ

أَنْ يَعْمَلَهُ أَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ، أَوْ مِنَ النَّهَارِ أدركه بالليل، وقال مجاهد وقتادة: خلفه أي مختلفين، أي هَذَا بِسَوَادِهِ وَهَذَا بِضِيَائِهِ.

- 63 - وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا - 64 - وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا - 65 - وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا - 66 - إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَامًا - 67 - وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا هَذِهِ صِفَاتُ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} أَيْ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ من غير تجبر ولا استكبار، كقوله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مرحا} الآية. وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تَصَنُّعًا وَرِيَاءً، فَقَدْ كَانَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَشَى كَأَنَّمَا ينحطُّ مِنْ صَبَب وَكَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ الْمَشْيَ بِتَضَعُّفٍ وَتَصَنُّعٍ، حَتَّى رَوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى شَابًّا يمشي رويداً قال: مَا بَالَكَ! أَأَنْتَ مَرِيضٌ؟ قَالَ: لَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَمْشِيَ بقوة، وإنما المراد بالهون هنا السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السِّكِينَةُ فَمَا أدركتم منها فصلوا وما فاتكم فأتموا»، وقوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} أَيْ إِذَا سفه عليهم الجهال بالقول السيء لَمْ يُقَابِلُوهُمْ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ، بَلْ يَعْفُونَ وَيَصْفَحُونَ وَلَا يَقُولُونَ إِلَّا خَيْرًا، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا تَزِيدُهُ شدة الجاهل عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} الآية، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {قَالُواْ سَلاَماً}: يَعْنِي قَالُوا سَدَادًا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: رَدُّوا مَعْرُوفًا مِنَ القول، وقال الحسن البصري: قالوا سلام عليكم، إن جُهِلَ عَلَيْهِمْ حَلُمُوا، يُصَاحِبُونَ عِبَادَ اللَّهِ نَهَارَهُمْ بما يسمعون، ثم ذكر أن ليلهم خير ليل؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} أَيْ فِي طاعته وعبادته، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، وقوله: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} الآية، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة ويرجو رحمة ربه} الآية، ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} أَيْ مُلَازِمًا دَائِمًا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إنْ يُعذّبْ يكنْ غَرَامًا وَإِنْ يُعْـ * طِ جَزِيلَا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً}: كُلُّ شَيْءٍ يُصِيبُ ابْنَ آدَمَ وَيَزُولُ عَنْهُ فَلَيْسَ بِغَرَامٍ، وَإِنَّمَا الْغَرَامُ اللَّازِمُ ما دامت الأرض والسماوات. {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أَيْ بِئْسَ الْمَنْزِلُ منزلاً وبئس المقيل مقاماً، وروى ابن أبي حاتم عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: إِنَّ فِي النَّارِ لَجُبَابًا فِيهَا حَيَّاتٌ أَمْثَالُ البُخْت، وعقارب أمثال البغال الدُّهْم، فَإِذَا قُذِفَ بِهِمْ فِي النَّارِ خَرَجَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ أَوْطَانِهَا، فَأَخَذَتْ بِشِفَاهِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ، فَكَشَطَتْ لُحُومَهُمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ، فَإِذَا وَجَدَتْ حَرَّ النَّارِ رجعت. وروى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ عَبْدًا فِي جَهَنَّمَ لِيُنَادِي أَلْفَ سَنَةٍ: يا حنان يا منان، فيقول الله عزَّ وجلَّ لِجِبْرِيلَ اذْهَبْ فَآتِنِي بِعَبْدِي هَذَا، فَيَنْطَلِقُ جِبْرِيلُ، فيجد أهل النار مكبين يَبْكُونَ، فَيَرْجِعُ إِلَى رَبِّهِ عزَّ وجلَّ فَيُخْبِرُهُ، فيقول

الله عزَّ وجلَّ: ائتني بِهِ فَإِنَّهُ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَيَجِيءُ بِهِ، فَيُوقِفُهُ عَلَى رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، فَيَقُولُ لَهُ: يَا عَبْدِي كَيْفَ وَجَدْتَ مَكَانَكَ وَمَقِيلَكَ؟ فيقول: يا رب شر مكان وشر مقيل، فيقول الله عزَّ وجلَّ: رُدُّوا عَبْدِي، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا كُنْتُ أَرْجُو إِذْ أَخْرَجَتْنِي مِنْهَا أَنْ تَرُدَّنِي فِيهَا، فيقول الله عزَّ وجلَّ: دعوا عبدي" (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} الآية، أَيْ لَيْسُوا بِمُبَذِّرِينَ فِي إِنْفَاقِهِمْ فَيَصْرِفُونَ فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَلَا بُخَلَاءَ عَلَى أَهْلِيهِمْ، فَيُقَصِّرُونَ فِي حَقِّهِمْ فَلَا يَكْفُونَهُمْ، بَلْ عَدْلًا خِيَارًا، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا لَا هَذَا وَلَا هَذَا {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}، كما قال تَعَالَى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} الآية. وفي الحديث: «من فقه الرجل قصده في معيشته» (أخرجه الإمام أحمد أيضاً) وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا عَالَ من اقتصد»، وقال الحسن البصري: ليس في النفقة في سبيل الله سرف، وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: مَا جَاوَزْتَ بِهِ أمر الله تعالى فَهُوَ سَرَفٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّرَفُ النَّفَقَةُ فِي معصية الله عزَّ وجلَّ.

- 68 - وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا - 69 - يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً - 70 - إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً - 71 - وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً عن عبد الله بن مَسْعُودٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ؟ قَالَ: «أَنْ تجعل لله أنداداً وَهُوَ خَلَقَكَ»، قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ»، قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية (أخرجه النسائي والإمام أحمد ورواه البخاري ومسلم وَلَفْظُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذنب أعظم عند الله؟ الحديث) وعن سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَا إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعٌ» فَمَا أَنَا بِأَشَحَّ عليهن مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَلاَ تَزْنُوا، وَلَا تسرقوا». وروى الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «مَا تَقُولُونَ في الزنا؟» قَالُوا: حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جاره» قال: «فما تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ؟» قَالُوا: حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهِيَ حَرَامٌ، قَالَ: «لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ من بيت جاره». وعن الهيثم بن مالك الطائي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ بَعْدَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ نُطْفَةٍ وَضَعَهَا رَجُلٌ فِي رَحِمٍ لَا يَحِلُّ لَهُ» (أخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا عن الهيثم بن مالك مرفوعاً)، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةٌ، فَنَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية، ونزلت: {قُلْ

يا عبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسَهُمْ} الآية. وقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}، رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: أَثَامًا: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ {يَلْقَ أَثَاماً} أودية في جهنم يعذب فيها الزناة، وَقَالَ قَتادَةُ {يَلْقَ أَثَاماً}: نَكَالًا، كُنَّا نُحَدِّثُ أنه واد في جهنم، وَقَالَ السُّدِّيُّ {يَلْقَ أَثَاماً} جَزَاءً، وَهَذَا أَشْبَهُ بظاهر الآية وبهذا فَسَّرَهُ بِمَا بَعْدَهُ مُبَدَّلًا مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: {يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يوم القيامة} أي يقرر عَلَيْهِ وَيُغْلَّظُ {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} أَيْ حَقِيرًا ذليلاً، وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} أَيْ جَزَاؤُهُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ مَا ذُكِرَ {إِلاَّ مَن تَابَ} أي في الدنيا إلى الله عزَّ وجلَّ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ آيَةِ النِّسَاءِ {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً متعمدا} الآية، فإن هذه وإن كانت مدينة، إِلَّا أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ، فَتُحْمَلُ عَلَى مَنْ لَمْ يتب. وقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}. فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ بُدِّلُوا مَكَانَ عمل السيئات بعمل الحسنات، قال ابن عباس: هم المؤمنون كانوا قَبْلِ إِيمَانِهِمْ عَلَى السَّيِّئَاتِ فَرَغِبَ اللَّهُ بِهِمْ عن السيئات فَحَوَّلَهُمْ إِلَى الْحَسَنَاتِ فَأَبْدَلَهُمْ مَكَانَ السَّيِّئَاتِ الْحَسَنَاتِ. وقال سعيد بن جبير: أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين، وَأَبْدَلَهُمْ بِنِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ نِكَاحَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَقَالَ الْحَسَنُ البصري: أبدلهم الله بالعمل السيء الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَأَبْدَلَهُمْ بِالشِّرْكِ إِخْلَاصًا، وَأَبْدَلَهُمْ بِالْفُجُورِ إحصاناً، وبالكفر إسلاماً، (وَالْقَوْلُ الثَّانِي): أَنَّ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ الْمَاضِيَةَ تَنْقَلِبُ بنفس التوبة النصوح حسنات، كَمَا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ بِذَلِكَ وَصَحَّتْ بِهِ الْآثَارُ المروية عن السلف رَّضِيَ الله عَنْهُمْ. فعن أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَأَعْرِفُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا إِلَى الْجَنَّةِ، يُؤْتَى برجل فيقول: نحوّا عنه كِبَارَ ذُنُوبِهِ وَسَلُوهُ عَنْ صِغَارِهَا، قَالَ فَيُقَالُ له: عملت يوم كذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا، كذا وكذا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَيُقَالُ: فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أراها ههنا" قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه" (أخرجه مسلم في صحيحه). وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَيَأْتِينَّ اللَّهُ عزَّ وجلَّ بِأُنَاسٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَكْثَرُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ، قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة موقوفاً)، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قَالَ: فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ مكحول: يغفرها لهم فيجعلها حسنات، قال ابن أبي حاتم حَدَّثَنَا أَبُو جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ مَكْحُولًا يُحَدِّثُ قَالَ: جَاءَ شَيْخٌ كَبِيرٌ هَرِمٌ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ غَدَرَ وَفَجَرَ وَلَمْ يَدَعْ حَاجَةً وَلَا داجة إلاّ اقتطفها بِيَمِينِهِ، لَوْ قُسِّمَتْ خَطِيئَتُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ لأوبقتهم فهل له من توبة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أأسلمت؟» قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شريكك لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ اللَّهَ غَافِرٌ لَكَ مَا كُنْتَ كَذَلِكَ وَمُبْدِّلٌ سَيِّئَاتِكَ حَسَنَاتٍ»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَغَدَرَاتِي وفَجَرَاتِي؟ فَقَالَ: «وغدراتك وفجراتك»، فولى الرجل يكبر ويهلل (رواه ابن أبي حاتم وأخرجه الطبراني بنحوه). ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عُمُومِ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ وَأَنَّهُ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ تَابَ عليه من أي ذنب كان جليلاً أوحقيراً كبيراً أو صغيراً، فقال تعالى: {وَمَن تَابَ

وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً} أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية: أي لمن تاب عليه.

- 72 - وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا - 73 - وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَانًا - 74 - وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً وَهَذِهِ أَيْضًا مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ، قِيلَ: هُوَ الشِّرْكُ وَعِبَادَةُ الْأَصْنَامِ، وَقِيلَ الْكَذِبُ وَالْفِسْقُ وَاللَّغْوُ وَالْبَاطِلُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: هو اللغو والغناء، وقال عمرو بن قيس: هي المجالس السوء والخنا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أَيْ شَهَادَةُ الزُّورِ، وَهِيَ الْكَذِبُ مُتَعَمَّدًا عَلَى غيره كما في الصحيحين: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ»؟ ثَلَاثًا، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الوالدين»، وكان متكئاً فجاس، فَقَالَ: «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ (أخرجه الشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه مرفوعاً)، وَالْأَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ الْمُرَادَ لَا يَشْهَدُونَ الزور أي لا يحضرونه، ولهذا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} أَيْ لَا يَحْضُرُونَ الزُّورَ، وَإِذَا اتَّفَقَ مُرُورُهُمْ بِهِ مَرُّوا وَلَمْ يَتَدَنَّسُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَلِهَذَا قال: {مَرُّوا كِراماً}، وروى ابن أبي حاتم عن مَيْسَرَةَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ مَرَّ بِلَهْوٍ مُعْرِضًا فَلَمْ يَقِفْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أَصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَمْسَى كَرِيمًا» ثُمَّ تَلَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} وهذه أيضاً مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} بِخِلَافِ الْكَافِرِ، فَإِنَّهُ إِذَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ لا يؤثر فيه، ولا يتغير عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، بَلْ يَبْقَى مُسْتَمِرًّا عَلَى كفره وطيغانه، وجهله وضلاله، كما قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ}، فَقَوْلُهُ: {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} أَيْ بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه فيستمر عَلَى حَالِهِ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا أَصَمَّ أَعْمَى، قَالَ مُجَاهِدٌ قَوْلُهُ: {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} قال: لَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُبْصِرُوا وَلَمْ يَفْقَهُوا شَيْئًا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَمْ مِنْ رَجُلٍ يَقْرَؤُهَا ويخر عليها أصم أعمى، وقال قتادة: لَمْ يَصِمُّوا عَنِ الْحَقِّ وَلَمْ يَعْمَوا فِيهِ، فهم والله قوم عقلوا عن الحق وانتفعوا بما سمعوا من كتابه. وقوله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} يَعْنِي الَّذِينَ يَسْأَلُونَ الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم مَنْ يُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، قال ابن عباس: يعنون من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة، قال عِكْرِمَةُ: لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ صَبَاحَةً وَلَا جَمَالًا، ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين. وسئل الحسن البصري عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: أَنْ يُرِيَ اللَّهُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مِنْ زَوجَتِهِ وَمِنْ أَخِيهِ وَمِنْ حميمه طاعة الله، لا والله لا شَيْءٌ أَقَرَّ لِعَيْنِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَنْ يَرَى وَلَدًا، أَوْ وَلَدَ وَلَدٍ، أَوْ أَخَا أَوْ حَمِيمًا مُطِيعًا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ. وَقَالَ ابْنُ

أسلم: يعني يسألون الله تعالى لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام، وقوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ والسدي: أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِنَا فِي الْخَيْرِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هداة مهتدين دعاة إلى الخير، ولهذا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: ولدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ، أَوْ عَلَمٍ يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ، أَوْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ".

- 75 - أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا - 76 - خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا - 77 - قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مِنْ أَوْصَافِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَا ذَكَرَ من الصفات الجميلة، والأقوال والأفعال الْجَلِيلَةِ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: {أُولَئِكَ} أَيْ المتصفون بهذه {يُجْزَوْنَ} يوم القيامة {الغرفة} وهي الجنة سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِارْتِفَاعِهَا، {بِمَا صَبَرُواْ} أَيْ عَلَى الْقِيَامِ بِذَلِكَ، {ويُلقّون فِيهَا} أَيْ فِي الْجَنَّةِ {تَحِيَّةً وَسَلاَماً} أَيْ يُبْتَدَرُونَ فِيهَا بِالتَّحِيَّةِ وَالْإِكْرَامِ، ويلقون التَّوْقِيرَ وَالِاحْتِرَامَ، فَلَهُمُ السَّلَامُ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}، وَقَوْلُهُ تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مُقِيمِينَ لَا يَظْعَنُونَ وَلَا يحولون ولا يموتون، ولا يزلون عَنْهَا وَلَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ ما دامت السماوات والأرض} الآية. وقوله تعالى: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أَيْ حَسُنَتْ مَنْظَرًا وَطَابَتْ مَقِيلًا وَمَنْزِلًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} أَيْ لَا يُبَالِي وَلَا يَكْتَرِثُ بِكُمْ إِذَا لَمْ تَعْبُدُوهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا خلق الخلق ليعبدوه ويوحده ويسبحوه بكرة وأصيلاً. قال ابن عباس: لولا دعائكم: أي لولا إيمانكم، وأخبر تعالى الْكَفَّارَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِمْ إِذْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ بِهِمْ حَاجَةٌ لَحَبَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ كَمَا حَبَّبَهُ إِلَى المؤمنين. وقوله تعالى: {فَقَدِ كَذَّبْتُمْ} أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} أَيْ فَسَوْفَ يكون تكذيبكم لزاما لكم، يعني مقتضياً لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والآخرة.

26 - سورة الشعراء، ووقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتها سورة (الجامعة).

- 26 - سورة الشعراء، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ تَسْمِيَتُهَا سورة (الجامعة).

بسم الله الرحمن الرحيم. - 1 - طسم - 2 - تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ - 3 - لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ - 4 - إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ - 5 - وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ - 6 - فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ - 7 - أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ - 8 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ - 9 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ فَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي أول تفسير سورة البقرة، وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أَيْ هَذِهِ آيَاتُ القرآن المبين، أي البيِّن الواضح الجلي، الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ} أَيْ مُهْلِكٌ {نَفْسَكَ} أَيْ مِمَّا تحرص وَتَحْزَنُ عَلَيْهِمْ {أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}، وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَدَمِ إِيمَانِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنَ الْكُفَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عليهم حسرات}، كقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ} الآية. قال مجاهد وعكرمة {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ}: أي قاتل نفسك، ثم قَالَ تَعَالَى: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} أَيْ لَوْ نشاء لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهراً، ولكن لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّا لَا نُرِيدُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا الْإِيمَانَ الِاخْتِيَارِيَّ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جميعا}، وقال تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية، فَنَفَذَ قَدَرُهُ وَمَضَتْ حِكْمَتُهُ، وَقَامَتْ حُجَّتُهُ الْبَالِغَةُ عَلَى خَلْقِهِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ عليهم، ثم قال تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ} أَيْ كُلَّمَا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ السَّمَاءِ أَعْرَضَ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، وقال تعالى: {كُلَّمَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كذبوه} الآية. ولهذا قال تعالى ههنا: {فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ فَقَدْ كَذَّبُوا بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ، فَسَيَعْلَمُونَ نَبَأَ هَذَا التَّكْذِيبِ بَعْدَ حِينٍ، ثم نبَّه تعالى على عظمة سلطانه وجلالة قدره، وَهُوَ الْقَاهِرُ الْعَظِيمُ الْقَادِرُ

الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ وَأَنْبَتَ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ وَحَيَوَانٍ، قَالَ الشَّعْبِيِّ: النَّاسُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَهُوَ كَرِيمٌ، وَمَنْ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ لَئِيمٌ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أَيْ دَلَالَةً عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ لِلْأَشْيَاءِ، الَّذِي بَسَطَ الْأَرْضَ، وَرَفَعَ بِنَاءَ السَّمَاءِ وَمَعَ هَذَا مَا آمَنَ أكثر الناس، بل كذبوا به وبرسله، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} أَيِ الَّذِي عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ وَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ، {الرَّحِيمُ} أَيْ بِخَلْقِهِ فَلَا يُعَجِّلُ عَلَى مَنْ عَصَاهُ بَلْ يؤجله وينظره ثُمَّ يَأْخُذُهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، قَالَ أَبُو العالية: الْعَزِيزُ فِي نِقْمَتِهِ وَانْتِصَارِهِ مِمَّنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وعبد غيره الرَّحِيمُ بِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ.

- 10 - وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - 11 - قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ - 12 - قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ - 13 - وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ - 14 - وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ - 15 - قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ - 16 - فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ - 17 - أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ - 18 - قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ - 19 - وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ - 20 - قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ - 21 - فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ - 22 - وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بني إسرائيل يخبر تعالى عَمَّا أَمَرَ بِهِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ (مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ) عَلَيْهِ السلام حِينَ نَادَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، وَكَلَّمَهُ وَنَاجَاهُ، وَأَرْسَلَهُ وَاصْطَفَاهُ، وَأَمَرَهُ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ وملئه، ولهذا قال تعالى: {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} هَذِهِ أَعْذَارٌ سَأَلَ مِنَ اللَّهِ إِزَاحَتَهَا عَنْهُ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طَهَ {قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لي أمري - إلى قوله - قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا موسى}، وقوله تعالى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} أَيْ بسبب قتل الْقِبْطِيِّ الَّذِي كَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ، {قَالَ كَلاَّ} أَيْ قَالَ اللَّهُ لَهُ: لا تخف من شيء من ذلك، كقوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لكما سطانا}، {فاذهبا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ}، كقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} أَيْ إِنَّنِي مَعَكُمَا بِحِفْظِي وَكِلَاءَتِي وَنَصْرِي وَتَأْيِيدِي، {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، كقوله في الآية الأخرى: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} أي كل منا أرسل إِلَيْكَ، {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ أَطْلِقْهُمْ مِنْ إِسَارِكَ وَقَبْضَتِكَ وَقَهْرِكَ وَتَعْذِيبِكَ، فَإِنَّهُمْ عباد الله المؤمنون وحزبه المخلصون، فَلَمَّا قَالَ لَهُ مُوسَى ذَلِكَ أَعْرَضَ فِرْعَوْنُ هنالك بالكلية، ونظر إليه بعين الازدارء والغَمْص فقال: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} الآية، أَيْ أَمَا أَنْتَ الَّذِي رَبَّيْنَاهُ فِينَا وَفِي بيتنا وعلى فراشنا، وَأَنْعَمْنَا عَلَيْهِ مُدَّةً مِنَ السِّنِينِ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا قَابَلْتَ ذَلِكَ الْإِحْسَانَ بِتِلْكَ الْفَعْلَةِ أَنْ قَتَلْتَ مِنَّا رَجُلًا وَجَحَدْتَ نِعْمَتَنَا عَلَيْكَ، وَلِهَذَا قال: {وَأَنتَ مِنَ الكافرين} أي الجاحدين

{قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً} أَيْ فِي تِلْكَ الْحَالِ {وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ} أَيْ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيَّ وَيُنْعِمَ اللَّهُ عَلَيَّ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، قَالَ ابن عباس {وَأَنَاْ مِنَ الضالين} أي الجاهلين، {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} الآية، أي انفصل الحال الأول وَجَاءَ أَمْرٌ آخَرُ، فَقَدْ أَرْسَلَنِي اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ أَطَعْتَهُ سَلِمْتَ، وَإِنْ خَالَفْتَهُ عَطِبْتَ، ثُمَّ قَالَ مُوسَى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عبَّدت بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ وَمَا أَحْسَنْتَ إِلَيَّ وَرَبَّيْتَنِي مُقَابِلَ مَا أَسَأْتَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَجَعَلْتَهُمْ عَبِيدًا وَخَدَمًا، تُصَرِّفُهُمْ فِي أَعْمَالِكَ وَمَشَاقِّ رَعِيَّتِكَ، أَفَيفي إِحْسَانُكَ إِلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا أَسَأْتَ إِلَى مَجْمُوعِهِمْ؟ أَيْ لَيْسَ مَا ذَكَرْتَهُ شَيْئًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَعَلْتَ بِهِمْ.

- 23 - قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ - 24 - قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ - 25 - قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ - 26 - قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الْأَوَّلِينَ - 27 - قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ - 28 - قَالَ رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفْرِ فِرْعَوْنَ وَتَمَرُّدِهِ وَطُغْيَانِهِ وَجُحُودِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَآ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} {فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} وكانوا يجحدون الصانع جلَّ وعلا، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا رَبَّ لَهُمْ سِوَى فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ مُوسَى: إِنِّي رَسُولُ رَبُّ العالمين، قَالَ له فرعون: وَمَنْ هَذَا الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ غَيْرِي؟ هَكَذَا فَسَّرَهُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةُ الْخَلَفِ، حَتَّى قَالَ السُّدِّيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قال فمن ربكما يا موسى} فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ رَبُّ الْعَالَمِينَ: {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيْ خَالِقُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَمَالِكُهُ، وَالْمُتَصَرِّفُ فيه، وإلهه لا شريك له، هُوَ الذي خَلَقَ الأشياء كلها من بحار وقفار، وجبال وأشجار، وَنَبَاتٍ وَثِمَارٍ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْهَوَاءِ والطير، وَمَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ الْجَوُّ، الْجَمِيعُ عَبِيدٌ لَهُ خَاضِعُونَ ذَلِيلُونَ {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} أَيْ إِن كَانَتْ لَكُمُ قُلُوبٌ مُوقِنَةٌ وَأَبْصَارٌ نَافِذَةٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ الْتَفَتَ فِرْعَوْنُ إِلَى مَنْ حَوْلَهُ مِنْ ملئه ورؤساء دولته قائلاً عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ لِمُوسَى فِيمَا قاله: {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ}؟ أي ألا تعجبون من هَذَا فِي زَعْمِهِ أَنَّ لَكُمْ إِلَهًا غَيْرِي؟ فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الْأَوَّلِينَ} أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الذين كَانُوا قَبْلَ فِرْعَوْنَ وَزَمَانِهِ، {قَالَ} أَيْ فِرْعَوْنُ لِقَوْمِهِ {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} أَيْ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ فِي دَعْوَاهُ أنَّ ثَمَّ رِبًّا غَيْرِي، {قَالَ} أَيْ مُوسَى لِأُولَئِكَ الَّذِينَ أَوْعَزَ إِلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ مَا أَوْعَزَ مِنَ الشُّبْهَةِ، فَأَجَابَ مُوسَى بِقَوْلِهِ: {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} أَيْ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمَشْرِقَ مَشْرِقًا تَطَلُعُ مِنْهُ الْكَوَاكِبُ، والمغرب مغرباً تغرب فيه الكواكب، فَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ رَبُّكُمْ وَإِلَهُكُمْ صَادِقًا فَلْيَعْكِسِ الْأَمْرَ، وَلِيَجْعَلِ الْمَشْرِقَ مَغْرِبًا والمغرب مشرقاً، كما قال تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المشرق فائت بِهَا مِنَ المغرب} الآية، وَلِهَذَا لَمَّا غُلِبَ فِرْعَوْنُ وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ عَدَلَ إِلَى اسْتِعْمَالِ جَاهِهِ وَقُوَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ نَافِعٌ لَهُ وَنَافِذٌ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ:

- 29 - قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ - 30 - قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُبِينٍ - 31 - قَالَ

فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ - 32 - فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ - 33 - وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ - 34 - قَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ - 35 - يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ - 36 - قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ - 37 - يَأْتُوكَ بِكُلِّ سحار عليم لما قامت الحجة على فرعون بِالْبَيَانِ وَالْعَقْلِ، عَدَلَ إِلَى أَنْ يَقْهَرَ مُوسَى بيده وسلطانه، فظن أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ هَذَا الْمَقَامِ مَقَالٌ فَقَالَ: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ}؟ أَيْ بِبُرْهَانٍ قَاطِعٍ وَاضِحٍ، {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} أَيْ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ في غاية الجلاء والوضوح، ذَاتُ قَوَائِمَ وَفَمٍ كَبِيرٍ وَشَكْلٍ هَائِلٍ مُزْعِجٍ، {وَنَزَعَ يَدَهُ} أَيْ مِنْ جَيْبِهِ {فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} أَيْ تَتَلَأْلَأُ كَقِطْعَةٍ مِنَ الْقَمَرِ، فبادر فرعون بشقاوته إِلَى التَّكْذِيبِ وَالْعِنَادِ، فَقَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ: {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} أي بارع في السحر، فروّج عليهم أَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ، ثُمَّ هَيَّجَهُمْ وَحَرَّضَهُمْ عَلَى مُخَالَفَتِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، فَقَالَ: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} الآية، أَيْ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ بِقُلُوبِ النَّاسِ مَعَهُ بِسَبَبِ هَذَا، فَيُكْثِرَ أَعْوَانَهُ وَأَنْصَارَهُ وَأَتْبَاعَهُ وَيَغْلِبَكُمْ على دولكتم، فَيَأْخُذَ الْبِلَادَ مِنْكُمْ، فَأَشِيرُوا عليَّ فِيهِ مَاذَا أَصْنَعُ بِهِ؟ {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيم} أَيْ أَخِّرْهُ وَأَخَاهُ حَتَّى تَجَمَعَ لَهُ مِنْ مَدَائِنِ مَمْلَكَتِكَ، وَأَقَالِيمِ دَوْلَتِكَ كُلَّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ يُقَابِلُونَهُ، وَيَأْتُونَ بِنَظِيرِ مَا جَاءَ بِهِ، فَتَغْلِبُهُ أَنْتَ وَتَكُونُ لَكَ النُّصْرَةُ وَالتَّأْيِيدُ فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وكان هذا من تسخير الله تعالى، ليجتمع الناس في صعيد واحد، وتظهر آيَاتُ اللَّهِ وَحُجَجُهُ وَبَرَاهِينُهُ عَلَى النَّاسِ فِي النهار جهرة.

- 38 - فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ - 39 - وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ - 40 - لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ - 41 - فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ - 42 - قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين - 43 - قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ - 44 - فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ - 45 - فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ - 46 - فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ - 47 - قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ - 48 - رَبِّ موسى وهارون لَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ وَقَدْ جَمَعُوهُمْ مِنْ أَقَالِيمِ بِلَادِ مِصْرَ، وَكَانُوا إِذْ ذَاكَ أَسْحَرَ النَّاسِ وأصنعهم، وَكَانَ السَّحَرَةُ جَمْعًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا، قِيلَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ. وَاجْتَهَدَ النَّاسُ فِي الِاجْتِمَاعِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَقَالَ قَائِلُهُمْ: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين}، وَلَمْ يَقُولُوا نَتَّبِعُ الْحَقَّ سَوَاءً كَانَ مِنَ السَّحَرَةِ أَوْ مِنْ مُوسَى، بَلِ الرَّعِيَّةُ عَلَى دِينِ مَلِكِهِمْ {فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ} أَيْ إِلَى مجلس فرعون، وقد جمع خدمه وحشمه، وَوُزَرَاءَهُ وَرُؤَسَاءَ دَوْلَتِهِ، وَجُنُودَ مَمْلَكَتِهِ، فَقَامَ السَّحَرَةُ بَيْنَ يَدِي فِرْعَوْنَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ إن غلبوا فَقَالُوا: {أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين} أَيْ وَأَخَصُّ مِمَّا

تَطْلُبُونَ أَجْعَلُكُمْ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدِي وَجُلَسَائِي، فَعَادُوا إلى مقام المناظرة {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا} وقد اختصر هذا ههنا فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: {أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ * فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} وهذا كما تقول الْجَهَلَةُ مِنَ الْعَوَامِّ إِذَا فَعَلُوا شَيْئًا هَذَا بثواب فلان، {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} أي تخطفه وتجمعه من كل بقعة وتتبلعه فلم تدع منه شيئاً. قال الله تَعَالَى {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فكان هذا أمراً عظيماً، وَبُرْهَانًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، وَحُجَّةً دَامِغَةً، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَنْصَرَ بِهِمْ وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَغْلِبُوا غُلبوا، وَخَضَعُوا وَآمَنُوا بِمُوسَى فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، وَسَجَدُوا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي أَرْسَلَ مُوسَى وَهَارُونَ بِالْحَقِّ وَبِالْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ، فَغُلِبَ فِرْعَوْنُ غَلَبًا لَمْ يُشَاهِدِ الْعَالَمُ مِثْلَهُ، وَكَانَ وَقِحًا جَرِيئًا عليه لعنة الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ، فَعَدَلَ إِلَى الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ وَدَعْوَى الْبَاطِلِ، فَشَرَعَ يَتَهَدَّدُهُمْ وَيَتَوَعَّدُهُمْ، وَيَقُولُ: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السحر}، وَقَالَ: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} الآية.

- 49 - قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ - 50 - قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ - 51 - إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّآ أَوَّلَ المؤمنين تهددهم فلم ينفع ذَلِكَ فِيهِمْ، وَتَوَعَّدَهُمْ فَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيمًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ كُشِفَ عَنْ قُلُوبِهِمْ حجاب الكفر، وظهر لَهُمُ الحق مِنْ أَنَّ هَذَا الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى لَا يَصْدُرُ عَنْ بَشَرٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَيَّدَهُ بِهِ وَجَعَلَهُ لَهُ حُجَّةً، وَدَلَالَةً عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}؟ أَيْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَأْذِنُونِي فِيمَا فَعَلْتُمْ وَلَا تُفْتَاتُوا عليَّ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ أَذِنْتُ لَكُمْ فَعَلْتُمْ وَإِنْ مَنَعْتُكُمُ امْتَنَعْتُمْ، فَإِنِّي أَنَا الْحَاكِمُ الْمُطَاعُ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}. وَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ بُطْلَانَهَا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا بِمُوسَى قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَكَيْفَ يَكُونُ كَبِيرَهُمُ الَّذِي أَفَادَهُمْ صِنَاعَةَ السِّحْرِ؟ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ فِرْعَوْنُ بِقَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَالصَّلْبِ، فَقَالُوا {لاَ ضَيْرَ} أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ وَلَا نُبَالِي بِهِ، {إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} أَيِ الْمَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَهُوَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا فَعَلْتَ بِنَا وَسَيَجْزِينَا عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الْجَزَاءَ، وَلِهَذَا قَالُوا: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} أَيْ ما فارقنا مِنَ الذُّنُوبِ وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، {أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ بِسَبَبِ أَنَّا بَادَرْنَا قَوْمَنَا مِنَ الْقِبْطِ إِلَى الْإِيمَانِ، فَقَتَلَهُمْ كلهم.

- 52 - وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكَمْ مُتَّبَعُونَ - 53 - فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ - 54 - إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ - 55 - وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ - 56 - وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ - 57 - فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - 58 - وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ - 59 - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا طَالَ مُقَامُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبِلَادِ مِصْرَ، وَأَقَامَ بِهَا حُجَجَ اللَّهِ وَبَرَاهِينَهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ

يُكَابِرُونَ وَيُعَانِدُونَ، لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِلَّا الْعَذَابُ والنكال، فأمر الله تعالى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا مِنْ مِصْرَ، وَأَنْ يَمْضِيَ بِهِمْ حَيْثُ يؤُمَر، فَفَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ عزَّ وجلَّ. خَرَجَ بِهِمْ بَعْدَمَا اسْتَعَارُوا مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ حُلِيًّا كَثِيرًا، وَكَانَ خروجه بهم فيما ذكره غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ المفسِّرين وَقْتَ طُلُوعِ الْقَمَرِ، وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ عَنْ قَبْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَلَّتْهُ امْرَأَةٌ عَجُوزٌ مِنْ بني إسرائيل عليه، فاحتمل تابوته معهم، وكان يوسف عليه السلام قَدْ أَوْصَى بِذَلِكَ إِذَا خَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أن يحتملوه معهم، فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَلَيْسَ فِي نَادِيهِمْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، غَاظَ ذَلِكَ فِرْعَوْنَ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَى بني إسرئيل لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الدَّمَارِ، فَأَرْسَلَ سَرِيعًا فِي بِلَادِهِ حَاشِرِينَ، أَيْ مَنْ يَحْشُرُ الْجُنْدَ وَيَجْمَعُهُ كَالنُّقَبَاءِ وَالْحُجَّابِ وَنَادَى فِيهِمْ: {إِنَّ هَؤُلَاءِ} يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} أَيْ لِطَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ، {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ} أَيْ كُلَّ وقت يصل منهم إلينا مَا يَغِيظُنَا، {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} أَيْ نَحْنُ كُلَّ وَقْتٍ نَحْذَرُ مِنْ غَائِلَتِهِمْ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهُمْ وَأُبِيدَ خَضْرَاءَهُمْ، فَجُوزِيَ فِي نَفْسِهِ وَجُنْدِهِ بِمَا أَرَادَ لَهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} أَيْ فَخَرَجُوا مِنْ هَذَا النَّعِيمِ إِلَى الْجَحِيمِ، وَتَرَكُوا تِلْكَ الْمَنَازِلَ الْعَالِيَةَ وَالْبَسَاتِينَ وَالْأَنْهَارَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَرْزَاقَ وَالْمُلْكَ وَالْجَاهَ الْوَافِرَ فِي الدُّنْيَا، {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا} الآية.

- 60 - فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ - 61 - فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ - 62 - قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ - 63 - فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ - 64 - وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ - 65 - وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ - 66 - ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ - 67 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ - 68 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ من المفسرين: أن فرعون خرج إليهم في محفل عظيم وجمع كبير، من الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود، {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} أَيْ وَصَلُوا إِلَيْهِمْ عِنْدَ شُرُوقِ الشمس وهو طلوعها، {لما تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أَيْ رَأَى كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ صَاحِبَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لمدركون}، وذلك أنهم انْتَهَى بِهِمُ السَّيْرُ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ، وَهُوَ بحر القلزم فصار أمامهم البحر، وقد أدركهم فرعون بِجُنُودِهِ، فَلِهَذَا قَالُوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} أَيْ لَا يَصِلُ إِلَيْكُمْ شَيْءٌ مِمَّا تَحْذَرُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هو الذي أمرني أن أسير ههنا بكم، وهو سبحانه وتعالى لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَكَانَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَمَعَهُ (يُوشَعُ بْنُ نُونٍ) وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّاقَةِ، فعند ذَلِكَ أَمْرُ الله نبيه موسى عليه السلام أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْبَحْرَ فَضَرَبَهُ، وَقَالَ: انْفَلِقْ بإذن الله. وروى ابن أبي حاتم عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ قَالَ: يَا مَنْ كَانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمُكَوِّنُ لِكُلِّ شيء، والكائن بعد كُلِّ شَيْءٍ، اجْعَلْ لَنَا مَخْرَجًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إليه: {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر}. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَوْحَى اللَّهُ -فِيمَا ذُكِرَ لِي- إِلَى الْبَحْرِ أَنْ إِذَا ضَرَبَكَ مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَلِقْ لَهُ، قَالَ: فَبَاتَ الْبَحْرُ يضطرب ويضرب بَعْضُهُ بَعْضًا فَرَقًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَانْتِظَارًا

لما أمره الله، وأوحى الله إلى إِلَى مُوسَى {أَنْ اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ} فَضَرَبَهُ بها، ففيها سلطان الله الذي أعطاه فانفلق، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} أَيْ كَالْجَبَلِ الْكَبِيرِ (قَالَهُ ابْنُ عباس وابن مسعود والضحاك وقتادة وغيرهم)، قاله ابن عباس، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هُوَ الْفَجُّ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَارَ الْبَحْرُ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ؛ وَزَادَ السُّدِّيُّ: وَصَارَ فِيهِ طَاقَاتٌ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَامَ الْمَاءُ عَلَى حَيْلِهِ كَالْحِيطَانِ، وَبَعَثَ اللَّهُ الرِّيحَ إِلَى قَعْرِ الْبَحْرِ فَلَفْحَتْهُ فَصَارَ يَبَسًا كَوَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً * لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى}، وقال في هذه القصة {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين} أي هنالك. قال ابن عباس {وَأَزْلَفْنَا} أي قربنا من البحر فرعون وجنوده وَأَدْنَيْنَاهُمْ إِلَيْهِ، {وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} أَيْ أَنْجَيْنَا مُوسَى وَبَنِي إسرائيل ومن اتبعهم عَلَى دِينِهِمْ فَلَمْ يَهْلَكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَأُغْرِقَ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا هلك. عن عبد الله بن مسعود قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ آخِرُ أَصْحَابِ مُوسَى وَتَكَامَلَ أصحاب فرعون انطم عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ، فَمَا رُئِيَ سَوَادٌ أَكْثَرُ مِنْ يومئذٍ، وَغَرَقَ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أَيْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ لِعِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ لَدَلَالَةٌ وَحُجَّةٌ قَاطِعَةٌ وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ.

- 69 - وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ - 70 - إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ - 71 - قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ - 72 - قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ - 73 - أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ - 74 - قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ - 75 - قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ - 76 - أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ - 77 - فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء، أمر الله تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْلُوَهُ عَلَى أُمَّتِهِ لِيَقْتَدُوا بِهِ فِي الْإِخْلَاصِ وَالتَّوَكُّلِ، وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له والتبري مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَى إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن صغره، فَإِنَّهُ مِنْ وَقْتِ نَشَأَ وَشَبَّ أَنْكَرَ عَلَى قَوْمِهِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مَعَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، {فَقَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}؟ أَيْ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟ {قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} أَيْ مُقِيمِينَ عَلَى عِبَادَتِهَا وَدُعَائِهَا، {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} يَعْنِي اعْتَرَفُوا بِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا رَأَوْا آبَاءَهُمْ كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يهرعون، فعند ذلك قال لهم إبراهيم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} أَيْ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ شَيْئًا وَلَهَا تَأْثِيرٌ، فَلْتَخْلُصْ إِلَيَّ بِالْمَسَاءَةِ، فَإِنِّي عَدُوٌّ لَهَا لَا أبالي بها وَلَا أُفَكِّرُ فِيهَا، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} الآية. وقال هود عليه السلام {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تنظرون}، وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم، قال تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}.

- 78 - الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ - 79 - وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ - 80 - وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ - 81 - وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ - 82 - وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ يَعْنِي لَا أَعْبُدُ إِلَّا الَّذِي يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}: أَيْ هُوَ الْخَالِقُ الَّذِي قَدَّرَ قَدَرًا، وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ فَكُلٌّ يَجْرِي عَلَى مَا قدر له، وَهُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أَيْ هُوَ خَالِقِي وَرَازِقِي بِمَا سَخَّرَ وَيَسَّرَ مِنَ الْأَسْبَابِ السماوية والأرضية، {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} أَسْنَدَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَخَلْقِهِ، وَلَكِنْ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ أَدَبًا، كَمَا قال الْجِنُّ: {وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}، وكذا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} أَيْ إِذَا وَقَعْتُ فِي مَرَضٍ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شِفَائِي أَحَدٌ غَيْرُهُ بِمَا يُقَدِّرُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} أَيْ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُبْدِئُ وَيُعِيدُ {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} أي لا يقدر على غفران الذُّنُوبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا هُوَ، وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ؟ وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يشاء.

- 83 - رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ - 84 - وَاجْعَلْ لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ - 85 - وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ - 86 - وَاغْفِرْ لِأَبِي أَنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ - 87 - وَلاَ تُخزني يَوْمَ يُبْعَثُونَ - 88 - يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ - 89 - إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَهَذَا سُؤَالٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُؤْتِيَهُ رَبُّهُ حُكْمًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ الْعِلْمُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ اللُّبُّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ النُّبُوَّةُ، وَقَوْلُهُ: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} أَيْ اجْعَلْنِي مَعَ الصَّالِحِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الاحتضار: «اللهم في الرفيق الأعلى»، قالها ثلاثاً. وفي الحديث: «اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَمِتْنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحَقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مُبْدِّلَيْنِ»، وَقَوْلُهُ: {وَاجْعَلْ لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} أَيْ وَاجْعَلْ لِي ذِكْرًا جَمِيلًا بَعْدِي أُذْكَرُ بِهِ وَيُقْتَدَى بِي فِي الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين}. قال مجاهد وقتادة: يعني الثناء الحسن، قَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ: كُلُّ مِلَّةٍ تحبه وتتولاه، وقوله تعالى: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} أَيْ أَنْعِمْ عَلَيَّ فِي الدُّنْيَا بِبَقَاءِ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ بَعْدِي، وَفِي الْآخِرَةِ بِأَنْ تَجْعَلَنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم، وقوله: {واغفر لأبي} الآية، كقوله: {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ} وَهَذَا مِمَّا رَجَعَ عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إياه - إلى قوله - إِن إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تُخزني يَوْمَ يُبْعَثُونَ} أَيْ أَجِرْنِي من الخزي يوم القيامة، ويوم يبعث الخلائق أولهم وآخرهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم يوم القيامة أباه عليه الغبرة والقترة». وفي رواية أخرى: "يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: ألم أقل

لَكَ لَا تَعْصِنِي، فَيَقُولُ أَبُوهُ فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أن لا تُخزني يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ على الكافرين؛ ثم يقول: يا إبراهيم انظر تحت رجلك فينظر فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى في النار" (أخرجه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً ورواه النسائي في التفسير، قال ابن كثير: والذيخ هو الذكر من الضباع). وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ} أَيْ لَا يَقِي الْمَرْءَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَالُهُ وَلَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا {وَلاَ بَنُونَ} أي ولو افتدى بمن على الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلَا يَنْفَعُ يومئذٍ إِلَّا الْإِيمَانُ بالله، وإخلاص الدين له، وَلِهَذَا قَالَ: {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أَيْ سَالِمٍ مِنَ الدَّنَسِ وَالشَّرْكِ، قَالَ ابن سِيرِينَ: الْقَلْبُ السَّلِيمُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَّن فِي الْقُبُورِ، وَقَالَ ابن عباس: القلب السليم أن يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ مجاهد والحسن: {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} يَعْنِي مِنَ الشِّرْكِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْقَلْبُ السَّلِيمُ هُوَ الْقَلْبُ الصَّحِيحُ، وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قال الله تعالى: {في قلوبهم مرض} قال أبو عثمان النيسابوري: هو القلب السالم مِنَ الْبِدْعَةِ الْمُطْمَئِنُّ إِلَى السُّنَةِ.

- 90 - وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ - 91 - وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ - 92 - وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ - 93 - مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ - 94 - فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ - 95 - وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ - 96 - قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ - 97 - تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ - 98 - إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ - 99 - وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلَّا الْمُجْرِمُونَ - 100 - فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ - 101 - وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ - 102 - فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - 103 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ - 104 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرحيم {وَأُزْلِفَتِ الجنة} أي قربت وأدنيت من أهلها مُزَخْرَفَةً مُزَيَّنَةً لِنَاظِرِيهَا، وَهُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ رَغِبُوا فيها وعملوا لها فِي الدُّنْيَا، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} أَيْ أُظْهِرَتْ وَكُشِفَ عَنْهَا، وَبَدَتْ مِنْهَا عُنُقٌ فَزَفَرَتْ زَفْرَةً بلغت منها القلوب الْحَنَاجِرِ، وَقِيلَ لِأَهْلِهَا تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا: {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هل ينصروكم أَوْ يَنتَصِرُونَ}؟ أَيْ لَيْسَتِ الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدْتُمُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ تُغْنِي عَنْكُمُ الْيَوْمَ شَيْئًا، وَلَا تَدْفَعُ عَنْ أنفسها، فإنكم وإياها حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ، وَقَوْلُهُ: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي فَدُهْوِرُوا فيها، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أُلْقِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْكُفَّارِ وَقَادَتِهِمُ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى الشِّرْكِ، {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} أَيْ أُلْقُوا فِيهَا عَنْ آخِرِهِمْ، {قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي يقول الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا وَقَدْ عَادُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ نَجْعَلُ أَمْرَكُمْ مُطَاعًا كَمَا يُطَاعُ أَمْرُ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَعَبَدْنَاكُمْ مَعَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، {وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ} أَيْ مَا دَعَانَا إِلَى ذَلِكَ إِلَّا الْمُجْرِمُونَ، {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ} قَالَ بَعْضُهُمْ يَعْنِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا يقولون {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فيشعفوا لنا}؟ وَكَذَا قَالُوا: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} أَيْ قَرِيبٍ، قَالَ قَتَادَةُ:

يَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنَّ الصَّدِيقَ إِذَا كَانَ صَالِحًا نَفَعَ، وَأَنَّ الْحَمِيمَ إِذَا كَانَ صَالِحًا شَفَعَ {لو أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وَذَلِكَ أنهم يتمنون أنهم يردون إلى دار الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون، والله تعالى يعلم أنهم لو ردوا إلى دار الدُّنْيَا لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، وقد أخبر الله تعالى عن تخاصم أهل النار، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} أَيْ إِنَّ فِي محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد {لآيَةً} أي لدلالة واضحة جلية على أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.

- 105 - كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ - 106 - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ - 107 - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - 108 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ - 109 - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ - 110 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ نُوحٍ عليه السلام، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعدما عبدت الأصنام والأنداد، فبعثه اللَّهُ نَاهِيًا عَنْ ذَلِكَ وَمُحَذِّرًا مِنْ وَبِيلِ عقابه، فكذبه قومه فاستمروا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْفِعَالِ الْخَبِيثَةِ في عبادتهم أصنامهم مَّعَ الله تَعَالَى، ونّزل الله تعالى تكذيبهم له منزلة تكذيبهم جميع الرسل، فلهذا قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} أَيْ أَلَا تَخَافُونَ اللَّهَ فِي عِبَادَتِكُمْ غَيْرَهُ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أَيْ إِنِّي رَسُولٌ مِّن اللَّهِ إِلَيْكُمْ، أمين فيما بعثني الله به، أبلغكم رسالات ربي ولا أَزِيدُ فِيهَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} الآية، أَيْ لَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ جَزَاءً عَلَى نُصْحِي لَكُمْ بَلْ أَدَّخِرُ ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} فَقَدْ وَضَحَ لَكُمْ وَبَانَ صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني الله به وائتمني عليه.

- 111 - قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ - 112 - قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ - 113 - إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ - 114 - وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ - 115 - إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ يَقُولُونَ: لا نؤمن لك ولا نتبعك ونتأسى في ذلك بهؤلاء الأرذلين، الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ وَصَدَّقُوكَ وَهُمْ أَرَاذِلُنَا، وَلِهَذَا {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أَيْ وَأَيُّ شَيْءٍ يَلْزَمُنِي مِنَ اتِّبَاعِ هَؤُلَاءِ لِي وَلَوْ كَانُوا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانُوا عَلَيْهِ، لَا يَلْزَمُنِي التَّنْقِيبُ عنهم وَالْبَحْثُ وَالْفَحْصُ، إِنَّمَا عَلَيَّ أَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ تَصْدِيقَهُمْ إِيَّايَ، وأَكِلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، {أن حسابهم إلى عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا مِنْهُ أَنْ يُبْعِدَهُمْ عَنْهُ ويتابعوه فَأَبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَقَالَ {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أَيْ إِنَّمَا بُعِثْتُ نَذِيرًا، فَمَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَنِي وَصَدَّقَنِي كان مني وأنا منه، سواء كان شريفاً أو وضعياً، أَوْ جَلِيلًا أَوْ حَقِيرًا.

- 116 - قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ - 117 - قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ - 118 - فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - 119 - فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ - 120 - ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ - 121 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ - 122 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ

لَمَّا طَالَ مُقَامُ نَبِيِّ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يدعوهم إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وَكُلَّمَا كَرَّرَ عَلَيْهِمُ الدَّعْوَةَ صَمَّمُوا عَلَى الْكُفْرِ الْغَلِيظِ وَالِامْتِنَاعِ الشَّدِيدِ، وَقَالُوا فِي الْآخِرِ: {لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} أي إن لم تنته عن دعوتك إيانا على دينك {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} أَيْ لَنَرْجُمَنَّكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهِمْ دَعْوَةً اسْتَجَابَ اللَّهُ مِنْهُ فَقَالَ: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} الآية، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر} إلى آخر الآية، وقال ههنا {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين} والمشحون هو الملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فِيهَا مِن كُلِّ زوجين اثنين، أي أنجيا نوحاً ومن اتبعه كلهم وأغرقنا من كفر به وخالف أمره كلهم أجمعين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.

- 123 - كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ - 124 - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ - 125 - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - 126 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ - 127 - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ - 128 - أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ - 129 - وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ - 130 - وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ - 131 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ - 132 - وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ - 133 - أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ - 134 - وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - 135 - إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (هُودٍ) عَلَيْهِ السلام أنه دعا قومه عاداً، وكان قومه يَسْكُنُونَ الْأَحْقَافَ، وَهِيَ جِبَالُ الرَّمَلِ قَرِيبًا مِنْ حضرموت متاخمة بلاد الْيَمَنِ، وَكَانَ زَمَانُهُمْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بسطة}، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةٍ مِنْ قُوَّةِ التركيب والقوة والبطش الشديد، والأموال والجنات والأنهار، وَالْأَبْنَاءِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَ غير الله معه، فبعث الله هوداً إِلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ رَسُولَا وَبَشِيرًا وَنَذِيرًا فَدَعَاهُمْ إلى الله وحده وحذرهم نقمته وعذابه، فقال لهم {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}؟ الريع: المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة، يبنون هناك بيناناً محكماً هائلاً باهراً، وَلِهَذَا قَالَ: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً} أَيْ معلماً بناء مشهوراً، {تَعْبَثُونَ} أي وَإِنَّمَا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَبَثًا لَا لِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، بَلْ لِمُجَرَّدِ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَإِظْهَارِ الْقُوَّةِ، وَلِهَذَا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام، لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلزَّمَانِ وَإِتْعَابٌ لِلْأَبْدَانِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَاشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُجْدِي فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}. قَالَ مُجَاهِدٌ: والمصانع الْبُرُوجُ الْمُشَيَّدَةُ وَالْبُنْيَانُ الْمُخَلَّدُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: بُرُوجُ الْحَمَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَأْخَذُ الْمَاءِ، {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أَيْ لِكَيْ تُقِيمُوا فِيهَا أَبَدًا، وذلك ليس بِحَاصِلٍ لَكُمْ بَلْ زَائِلٌ عَنْكُمْ، كَمَا زَالَ عمن كان قبلكم، روي أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا رَأَى مَا أَحْدَثَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْغُوطَةِ مِنَ البنيان ونصب الحجر، قَامَ فِي مَسْجِدِهِمْ فَنَادَى يَا أَهْلَ دِمَشْقَ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَلَا تَسْتَحْيُونَ، أَلَا تَسْتَحْيُونَ، تَجْمَعُونَ مَا لَا تَأْكُلُونَ، وَتَبْنُونَ مَا لَا تَسْكُنُونَ، وَتَأْمُلُونَ ما لا تدركون، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون

فَيُوثِقُونَ، وَيَأْمُلُونَ فَيُطِيلُونَ، فَأَصْبَحَ أَمَلُهُمْ غُرُورًا، وَأَصْبَحَ جَمْعُهُمْ بُورًا، وَأَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ قُبُورًا، أَلَا إِنَّ عَادًا مَلَكَتْ مَا بَيْنَ عَدَنَ وَعُمَانَ خَيْلًا، وَرِكَابًا فَمَنْ يَشْتَرِي مِنِّي مِيرَاثَ عَادٍ بِدِرْهَمَيْنِ (أخرجه ابن أبي حاتم)؟ وقوله: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} أي يصفهم بِالْقُوَّةِ وَالْغِلْظَةِ وَالْجَبَرُوتِ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أَيِ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَأَطِيعُوا رَسُولَكُمْ، ثُمَّ شَرَعَ يُذَكِّرُهُمْ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أَيْ إِنْ كَذَّبْتُمْ وَخَالَفْتُمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فَمَا نَفَعَ فِيهِمْ

- 136 - قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ - 137 - إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ - 138 - وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ - 139 - فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ - 140 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَوَابِ قَوْمِ هُودٍ لَهُ، بَعْدَمَا حَذَّرَهُمْ وأنذرهم وبيَّن لَهُمُ الْحَقَّ وَوَضَّحَهُ {قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ} أَيْ لا نرجع عما نحن عليه، {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ، وَمَا نَحْنُ لَكَ بمؤمنين} وَهَكَذَا الْأَمْرُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} الآية، وقولهم {إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين}، كما قال المشركون، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}، وقال: {وقيل للذين كفروا مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين} {خُلُق الْأَوَّلِينَ} بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ، يَعْنُونَ دِينَهُمْ وما هم عليه من الأمر دين الأولين مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَنَحْنُ تَابِعُونَ لَهُمْ سَالِكُونَ وَرَاءَهُمْ نَعِيشُ كَمَا عَاشُوا وَنَمُوتُ كَمَا مَاتُوا وَلَا بَعْثَ وَلَا مَعَادَ، وَلِهَذَا قَالُوا: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} يقول: دين الأولين (وهو قول عكرمة وقتادة وعبد الرحمن بن أسلم واختاره ابن جرير)، وقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} أي استمروا عَلَى تَكْذِيبِ نَبِيِّ اللَّهِ هُودٍ وَمُخَالَفَتِهِ وَعِنَادِهِ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ بيَّن سَبَبَ إِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ، بِأَنَّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَرًا عَاتِيَةً، أَيْ رِيحًا شَدِيدَةَ الهبوب ذات برد شديد جداً، فكان سبب إِهْلَاكُهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْتَى شَيْءٍ وَأَجْبَرَهُ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَعْتَى منهم وأشد قوة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟} فسلكت الريح فحصبت بِلَادَهُمْ، فَحَصَبَتْ كُلَّ شَيْءٍ لَهُمْ كَمَا قَالَ تعالى: {تُدَمِّرُ كل شيء بأمر ربها} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} إلى قوله: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خاوية} أَيْ بَقُوا أَبْدَانًا بِلَا رُؤُوسٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَأْتِي الرَّجُلَ مِنْهُمْ فَتَقْتَلِعُهُ وَتَرْفَعُهُ فِي الْهَوَاءِ، ثُمَّ تُنَكِّسُهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَتَشْدَخُ دِمَاغَهُ، وَتَكْسِرُ رَأْسَهُ، وَتُلْقِيهِ، كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ، وَقَدْ كَانُوا تَحَصَّنُوا فِي الْجِبَالِ وَالْكُهُوفِ وَالْمَغَارَاتِ، وَحَفَرُوا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ إِلَى أَنْصَافِهِمْ، فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ شَيْئًا، {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ}، ولهذا قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} الآية.

- 141 - كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ - 142 - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ - 143 - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - 144 - فَاتَّقُوا اللَّهَ -[655]- وَأَطِيعُونِ - 145 - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (صَالِحٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ بَعَثَهُ إلى قومه ثَمُودَ، وَكَانُوا عَرَبًا يَسْكُنُونَ مَدِينَةَ الْحِجْرِ الَّتِي بَيْنَ وَادِي الْقُرَى وَبِلَادِ الشَّامِ، وَمَسَاكِنُهُمْ مَعْرُوفَةٌ مشهورة، وكانوا بَعْدَ عَادٍ وَقَبْلَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَعَاهُمْ نَبِيُّهُمْ صَالِحٌ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يُطِيعُوهُ فِيمَا بَلَّغَهُمْ مِنَ الرِّسَالَةِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَكَذَّبُوهُ وخالفوه، وأخبرهم أَنَّهُ لَا يَبْتَغِي بِدَعْوَتِهِمْ أَجْرًا مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَطْلَبُ ثَوَابَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ آلَاءَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ:

- 146 - أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ - 147 - فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - 148 - وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ - 149 - وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ - 150 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ - 151 - وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ - 152 - الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ولا يصلحون يقول لهم واعظاً لهم ومحذرهم نِقَمَ اللَّهِ أَنْ تَحِلَّ بِهِمْ، وَمُذَكِّرًا بِأَنْعُمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا رَزَقَهُمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ الدَّارَّةِ، وأنبت لهم من الجنات، وفجر لَهُمْ مِنَ الْعُيُونِ الْجَارِيَاتِ، وَأَخْرَجَ لَهُمْ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثَّمَرَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} قال ابن عباس: أينع وبلغ فهو هضيم، وعنه يقول: معشبة، وقال مجاهد: هو الذي إذا يبس تهشم وتفتت وتناثر، وقال ابن جريج عن مجاهد {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} قَالَ: حِينَ يَطْلُعُ تَقْبِضُ عَلَيْهِ فَتَهْضِمُهُ، فَهُوَ مِنَ الرُّطَبِ الْهَضِيمِ، وَمِنَ الْيَابِسِ الْهَشِيمِ، تَقْبِضُ عَلَيْهِ فَتُهَشِّمُهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وقَتَادَةُ: الْهَضِيمُ الرَّطْبُ اللَّيِّنُ، وَقَالَ الضَّحَاكُ: إِذَا كثر حمل الثمرة وركب بعضها بعضاً فهو هضيم، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا نَوَى لَهُ، وَقَالَ أَبُو صَخْرٍ: مَا رَأَيْتُ الطَّلْعَ حين ينشق عَنْهُ الْكُمُّ فَتَرَى الطَّلْعَ قَدْ لَصِقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَهُوَ الْهَضِيمُ. وَقَوْلُهُ: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِين} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي حَاذِقِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: شَرِهِينَ أَشِرِينَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مُجَاهِدٍ وَجَمَاعَةٍ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ تِلْكَ الْبُيُوتَ الْمَنْحُوتَةَ فِي الْجِبَالِ أَشَرًا وَبَطَرًا وَعَبَثًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلى سكناها، وكانوا حاذقين متقين لِنَحْتِهَا وَنَقْشِهَا، كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ مِنْ حَالِهِمْ لِمَنْ رَأَى مَنَازِلَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي أقبلوا على مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم، لتعبدوه وتوحده وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا {وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} يَعْنِي رُؤَسَاءَهُمْ وَكُبَرَاءَهُمْ الدُّعَاةَ لَهُمْ إِلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ ومخالفة الحق.

- 153 - قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ - 154 - مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ - 155 - قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ - 156 - وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ - 157 - فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ - 158 - فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ - 159 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرحيم

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ثَمُودَ فِي جَوَابِهِمْ لِنَبِيِّهِمْ (صَالِحٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى عبادة ربهم عزَّ وجلَّ أنهم {قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ وقتادة: يعنون من المسحورين، يَقُولُونَ: إِنَّمَا أَنْتَ فِي قَوْلِكَ هَذَا مَسْحُورٌ لَا عَقْلَ لَكَ، ثُمَّ قَالُوا {مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} يَعْنِي فَكَيْفَ أُوحِيَ إِلَيْكَ دوننا، كما قالوا في الآية الأخرى {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} ثُمَّ إِنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ آيَةً يَأْتِيهِمْ بِهَا لِيَعْلَمُوا صِدْقَهُ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ، وقد اجتمع ملؤهم وطلبوا منه أَنْ يُخْرِجَ لَهُمُ الْآنَ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ ناقة عشراء، وأشاروا إلى صخرة عندهم، مِنْ صِفَتِهَا كَذَا وَكَذَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ عَلَيْهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَالِحٌ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ لَئِنْ أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه، فأعطوه ذلك، فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَصَلَّى ثُمَّ دَعَا اللَّهَ عزَّ وجلَّ أَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَى سُؤَالِهِمْ، فَانْفَطَرَتْ تِلْكَ الصَّخْرَةُ الَّتِي أَشَارُوا إِلَيْهَا عَنْ نَاقَةٍ عُشَرَاءَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفُوهَا، فَآمَنَ بَعْضُهُمْ وَكَفَرَ أَكْثَرُهُمْ {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} يَعْنِي تَرِدُ مَاءَكُمْ يَوْمًا وَيَوْمًا تَرِدُونَهُ أَنْتُمْ، {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فَحَذَّرَهُمْ نِقْمَةَ اللَّهِ إِنْ أَصَابُوهَا بِسُوءٍ، فَمَكَثَتِ النَّاقَةُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ تَرِدُ الماء، وتأكل الورق والمرعى وينتفعون بلبنها يحلبون مِنْهَا مَا يَكْفِيهِمْ شُرْبًا وَرِيًّا؛ فَلَمَّا طَالَ عليهم الأمد وحضر أشقاهم تمالأوا عَلَى قَتْلِهَا وَعَقْرِهَا {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} وَهُوَ أَنَّ أَرْضَهُمْ زُلْزِلَتْ زِلْزَالًا شَدِيدًا، وجاءتهم صحية عظيمة اقتلعت القلوب من مَحَالِّهَا، وَأَتَاهُمْ مِنَ الْأَمْرِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يحتسبون، وأصبحوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.

- 160 - كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ - 161 - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ - 162 - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - 163 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ - 164 - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ لوط عليه السلام، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَعَثَهُ إِلَى أُمَّةٍ عظيمة في حياة إبراهيم عليهما السلام، وكانوا يسكنون (سدوم) وأعمالها التي أهلكهم اللَّهُ بِهَا، وَجَعَلَ مَكَانَهَا بُحَيْرَةً مُنْتِنَةً خَبِيثَةً، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ بِبِلَادِ الْغَوْرِ مُتَاخِمَةٌ لِجِبَالِ الْبَيْتِ المقدس، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يُطِيعُوا رَسُولَهُمُ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ الله، وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه مما لم يسبقهم أحد من الخلائق إلى فعله من إتيان الذكور دُونَ الْإِنَاثِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:

- 165 - أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ - 166 - وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ - 167 - قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ - 168 - قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ - 169 - رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ - 170 - فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ - 171 - إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ - 172 - ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ - 173 - وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ - 174 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ - 175 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ لما نهاهم نبي الله عن ارتكاب الْفَوَاحِشَ وَغَشَيَانِهِمُ الذُّكُورَ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى إِتْيَانِ نِسَائِهِمُ اللاتي خلقهن الله

لهم ما كان جوابهم إِلَّا أَنْ قَالُوا {لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يَا لوط} أي عَمَّا جِئْتَنَا بِهِ {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} أَيْ نَنْفِيكَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لَا يَرْتَدِعُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ وَأَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ تَبَرَّأَ مِنْهُمْ، وقال: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ} أَيِ الْمُبْغِضِينَ لَا أحبه ولا أرضى به وإني بريء منكم، ثم دعا الله عليهم، فقال: {رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} أَيْ كُلَّهُمْ، {إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} وَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَكَانَتْ عَجُوزَ سُوءٍ، بَقِيَتْ فَهَلَكَتْ مَعَ مَنْ بَقِيَ مِنْ قومها، حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْرِيَ بِأَهْلِهِ إِلَّا امْرَأَتَهُ، وَأَنَّهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ إِذَا سَمِعُوا الصَّيْحَةَ حِينَ تَنْزِلُ عَلَى قَوْمِهِ، فَصَبَرُوا لِأَمْرِ اللَّهِ وَاسْتَمَرُّوا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أُولَئِكَ الْعَذَابَ الَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ منضود، ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً - إلى قوله - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.

- 176 - كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ - 177 - إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ - 178 - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - 179 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ - 180 - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ هؤلاء - يعني أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ - هُمْ «أَهْلُ مَدْيَنَ» عَلَى الصَّحِيحِ، وكان نبي الله من أنفسهم، وإنما لم يقل ههنا أَخُوهُمْ شُعَيْبٌ، لِأَنَّهُمْ نُسِبُوا إِلَى عِبَادَةِ الْأَيْكَةِ، وَهِيَ شَجَرَةٌ، وَقِيلَ: شَجَرٌ مُلْتَفٌّ كَالْغَيْضَةِ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، فَلِهَذَا لَمَّا قَالَ: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ لَمْ يَقِلْ: إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ شُعَيْبٌ وَإِنَّمَا قَالَ: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} فقطع نسب الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمْ لِلْمَعْنَى الَّذِي نُسِبُوا إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُمْ نَسَبًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يفطن لِهَذِهِ النُّكْتَةِ، فَظَنَّ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ غَيْرُ أهل مدين، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ وُصِفُوا فِي كُلِّ مَقَامٍ بِشَيْءٍ، وَلِهَذَا وَعَظَ هَؤُلَاءِ، وَأَمْرَهُمْ بِوَفَاءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ كَمَا فِي قِصَّةِ مَدْيَنَ سَوَاءً بسواء، فدل ذلك على أنهما أمة واحدة.

- 181 - أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ - 182 - وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ - 183 - وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ - 184 - وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين يأمرهم عليه السلام بِإِيفَاءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّطْفِيفِ فِيهِمَا فَقَالَ: {أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ} أي إذا دفعتم للناس فكملوا الكيل لهم، ولا تبخسوا الْكَيْلَ فَتُعْطُوهُ نَاقِصًا وَتَأْخُذُوهُ إِذَا كَانَ لَكُمْ تَامًّا وَافِيًا، وَلَكِنْ خُذُوا كَمَا تُعْطُونَ، وَأَعْطُوا كَمَا تَأْخُذُونَ {وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} وَالْقِسْطَاسُ هُوَ الميزان، قال مجاهد: {القسطاس المستقيم} هو الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْقِسْطَاسُ الْعَدْلُ، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تبخسوا الناس أشياءهم} أي لا تُنْقِصُوهُمْ أَمْوَالَهُمْ {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} يعني قطع الطريق كما قال فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ توعدون}، وَقَوْلُهُ: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} يُخَوِّفُهُمْ بَأْسَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ آبَاءَهُمُ الْأَوَائِلَ، كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبآئكم الأولين} قال ابن عباس ومجاهد: {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} يَقُولُ: خَلَقَ الْأَوَّلِينَ، وَقَرَأَ ابْنُ زيد {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جبلا كثيرا}.

- 185 - قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ - 186 - وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ - 187 - فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ - 188 - قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ - 189 - فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ - 190 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ - 191 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَوَابِ قَوْمِهِ لَهُ بِمِثْلِ مَا أَجَابَتْ بِهِ ثَمُودُ لِرَسُولِهَا تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ حَيْثُ قَالُوا: {إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} يَعْنُونَ مِنَ الْمَسْحُورِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، {وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} أَيْ تَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِيمَا تَقُولُهُ لَا أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا، {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء} قال قَتَادَةُ: قِطَعًا مِنَ السَّمَاءِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَذَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً}. وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} الآية. وهكذا قال هؤلاء الكفار الجهلة {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء} الآية، {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} يَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ جَازَاكُمْ به وهو غير ظالم لكم، وهكذا وَقَعَ بِهِمْ كَمَا سَأَلُوا جَزَاءً وِفَاقًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وَهَذَا مِنْ جنس ما سألوه مِنْ إِسْقَاطِ الْكِسَفِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وتعالى جعل عقوبتهم أن أصابهم حر عظيم مُدَّةَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ لَا يُكِنُّهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ إِلَيْهِمْ سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ فَجَعَلُوا يَنْطَلِقُونَ إِلَيْهَا يَسْتَظِلُّونَ بِظِلِّهَا مِنَ الْحَرِّ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ تَحْتَهَا أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنْهَا شَرَرًا مِنْ نَارٍ وَلَهَبًا وَوَهَجًا عَظِيمًا، وَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، وَجَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ أَزْهَقَتْ أَرْوَاحَهُمْ، ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. قَالَ قَتَادَةُ: قال عبيد اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْحَرَّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ حَتَّى مَا يُظِلُّهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تعالى أنشأ لهم سحابة، فانطلق إليها أحدهم فاستظل بِهَا، فَأَصَابَ تَحْتَهَا بَرْدًا وَرَاحَةً، فَأَعْلَمَ بِذَلِكَ قَوْمَهُ، فَأَتَوْهَا جَمِيعًا، فَاسْتَظَلُّوا تَحْتَهَا، فَأَجَّجَتْ عَلَيْهِمْ ناراً، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الظُّلَّةَ، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الظُّلَّةَ وَأَحْمَى عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ، فَاحْتَرَقُوا كَمَا يَحْتَرِقُ الْجَرَادُ فِي الْمَقْلَى، وقال محمد بن جرير عن يَزِيدُ الْبَاهِلِيُّ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الآية {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة} الآية، قال: بعث الله عليهم رعدة وحراً شديداً، فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية، فبعث الله عليهم سَحَابَةً فَأَظَلَّتْهُمْ مِنَ الشَّمْسِ، فَوَجَدُوا لَهَا بَرْدًا وَلَذَّةً، فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا تحتها أرسل اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَذَلِكَ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أَيِ الْعَزِيزُ فِي انْتِقَامِهِ مِنَ الْكَافِرِينَ، الرَّحِيمُ بعباده المؤمنين.

- 192 - وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ - 193 - نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ - 194 - عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ - 195 - بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٌ

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِنَّهُ} أَيِ الْقُرْآنُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَآ يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} الْآيَةَ. {لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ وَأَوْحَاهُ إِلَيْكَ {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} وهو جبريل (تفسسير الروح الأمين بجبريل قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: ابْنُ عَبَّاسٍ وقتادة والسدي والضحاك وغيرهم) عليه السلام، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} أَيْ نَزَلَ بِهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ أَمِينٌ ذُو مَكَانَةٍ عِنْدَ اللَّهِ مُطَاعٌ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى {عَلَى قَلْبِكَ} يَا مُحَمَّدُ سَالِمًا مِنَ الدَّنَسِ وَالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} أَيْ لِتُنْذِرَ بِهِ بَأْسَ اللَّهِ وَنِقْمَتِهِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ، وَتُبَشِّرَ به المؤمنين المتبعين له، وقوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أنزلناه إليك باللسان الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ الْكَامِلِ الشَّامِلِ، لِيَكُونَ بَيِّنًا وَاضِحًا ظَاهِرًا، قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، مُقِيمًا لِلْحُجَّةِ، دَلِيلًا إِلَى المحجة، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَمْ يَنْزِلْ وَحْيٌ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ تَرْجَمَ كُلُّ نَبِيٍّ لِقَوْمِهِ، وَاللِّسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ تَكَلَّمَ العربية.

- 196 - وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ - 197 - أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ - 198 - وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ - 199 - فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُّؤُمِنِينَ يَقُولُ تَعَالَى: وَإِن ذِكْرَ هَذَا الْقُرْآنِ وَالتَّنْوِيهَ بِهِ لَمَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ الْمَأْثُورَةِ عَنْ أَنْبِيَائِهِمُ، الَّذِينَ بَشَّرُوا بِهِ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ، كَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بِذَلِكَ حَتَّى قَامَ آخِرُهُمْ خَطِيبًا في ملئه بالبشارة بأحمد {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ من بعدي يأتي اسمه أحمد} والزبر ههنا هِيَ الْكُتُبُ، وَهِيَ جَمْعُ زَبُورٍ، وَكَذَلِكَ الزَّبُورُ وهو كتاب داود، قال الله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} أَيْ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمْ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ أَوَلَيْسَ يَكْفِيهِمْ مِنَ الشَّاهِدِ الصَّادِقِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَجِدُونَ ذِكْرَ هَذَا الْقُرْآنِ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي يَدْرُسُونَهَا، وَالْمُرَادُ الْعُدُولُ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَعْتَرِفُونَ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَبْعَثِهِ وَأُمَّتِهِ، كَمَا أَخْبَرَ بذلك مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كـ (عبد الله بن سلام) و (سلمان الفارسي) ومن شاكلهم، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} الآية؛ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ شِدَّةِ كُفْرِ قريش وعنادهم لهذا القرآن: إنه لو نزل عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَعَاجِمِ مِمَّنْ لَا يَدْرِي مِنَ الْعَرَبِيَّةِ كَلِمَةً وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكِتَابُ بِبَيَانِهِ وَفَصَاحَتِهِ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} الآية؛ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} الآية.

- 200 - كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ - 201 - لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ - 202 - فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ - 203 - فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ - 204 - أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ - 205 - أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ

- 206 - ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ - 207 - مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ - 208 - وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ - 209 - ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ يَقُولُ تَعَالَى: كَذَلِكَ سَلَكْنَا التَّكْذِيبَ وَالْكُفْرَ وَالْجُحُودَ وَالْعِنَادَ، أَيْ أَدْخَلْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} أَيْ بِالْحَقِّ {حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} أَيْ حَيْثُ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، {فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً} أي عذاب الله فجأة {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} أَيْ يَتَمَنَّوْنَ حِينَ يُشَاهِدُونَ الْعَذَابَ أَنْ لَوْ أنظروا قليلاً ليعملوا في زعمهم بطاعة الله، فَكُلُّ ظَالِمٍ وَفَاجِرٍ وَكَافِرٍ إِذَا شَاهَدَ عُقُوبَتَهُ نَدِمَ نَدَمًا شَدِيدًا؛ هَذَا فِرْعَوْنُ لَمَّا دَعَا عَلَيْهِ الْكِلِيمُ بِقَوْلِهِ: {رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا} فَأَثَّرَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ فِي فِرْعَوْنَ فَمَا آمَنَ حَتَّى رَأَى الْعَذَابَ الْأَلِيمَ {حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله الذي آمَنَتْ بِهِ بنو إسرائيل} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ وَتَهْدِيدٌ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ تَكْذِيبًا واستبعاداً: ائتنا بِعَذَابِ الله، كما قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} الآيات، ثُمَّ قَالَ: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} أَيْ لَوْ أَخَّرْنَاهُمْ وَأَنْظَرْنَاهُمْ وأمليناهم برهة من الدهر وحيناً من الزمان وَإِنْ طَالَ، ثُمَّ جَاءَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ، أَيُّ شَيْءٍ يُجْدِي عَنْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النعيم {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عيشة أو ضحاها}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}، ولهذا قال تعالى: {مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ}. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "يُؤْتَى بِالْكَافِرِ فَيُغْمَسُ فِي النَّارِ غَمْسَةً ثُمَّ يُقَالُ لَهُ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ رَأَيْتَ نَعِيمًا قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا كَانَ فِي الدُّنْيَا، فَيُصْبَغُ فِي الْجَنَّةِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ فيقول: لا والله يا رب". ثم قال تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ فِي خُلُقِهِ أَنَّهُ مَا أَهْلَكَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ وَالْإِنْذَارِ لَهُمْ وَبِعْثَةِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وقيام الحجة عليهم، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا نعذبين حتى نَبْعَثَ رَسُولاً}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا - إلى قوله - وَأَهْلُهَا ظالمون}.

- 210 - وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ - 211 - وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ - 212 - إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ: أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ الْمُؤَيَّدُ مِنَ اللَّهِ {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عليهم ذلك مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ مَا يَنْبَغِي لهم لأن سجاياهم الفساد، وإضلال العباد، وهذا فيه نور وَهُدًى وَبُرْهَانٌ عَظِيمٌ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيَاطِينِ مُنَافَاةٌ عَظِيمَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ}، وقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أَيْ وَلَوِ انْبَغَى لَهُمْ لَمَا استطاعوا ذلك، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَوِ انْبَغَى لَهُمْ وَاسْتَطَاعُوا حمله وتأدييه لَمَا وَصَلُوا إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنِ استماع القرآن حال نزوله، لأن السماء مائت حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً فِي مُدَّةِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ على رسول الله، فَلَمْ يَخْلُصْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ إِلَى اسْتِمَاعِ حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُ لِئَلَّا يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ، وَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ، وَحِفْظِهِ لِشَرْعِهِ، وَتَأْيِيدِهِ لكتابه

ولرسوله، ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى مخبراًعن الجن {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شهابا رصدا}.

- 213 - فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ - 214 - وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ - 215 - وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - 216 - فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ - 217 - وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ - 218 - الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ - 219 - وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ - 220 - إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ ولا مخبرأً أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ عَذَّبَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ أَيِ الْأَدْنَيْنَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يُخَلِّصُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا إِيمَانُهُ بِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُلِينَ جَانِبَهُ لِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ عَصَاهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ فليتبرأ منه، ولهذا قال تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ}، وَهَذِهِ النِّذَارَةُ الْخَاصَّةُ لَا تُنَافِي الْعَامَّةَ بَلْ هي فرد من أجزائها، كما قال تَعَالَى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غافلون}، وقال تعالى: {لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حولها}، وقال تعالى: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا دَخَلَ النَّارَ». وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَلْنَذْكُرْهَا، الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفَا فَصَعِدَ عَلَيْهِ ثُمَّ نَادَى: «يَا صَبَاحَاهُ»، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ بَيْنَ رَجُلٍ يَجِيءُ إِلَيْهِ، وَبَيْنَ رَجُلٍ يَبْعَثُ رَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي لُؤَيٍّ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ صَدَّقْتُمُونِي؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَمَا دَعَوْتَنَا إِلَّا لِهَذَا؟ وَأَنْزَلَ الله: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (أخرجه الإمام أحمد ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق بمثله)، الحديث الثاني: روى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا فَاطِمَةُ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ ابْنَةَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا سلوني من مالي ما شئتم» (أخرجه أحمد ومسلم عن عائشة رضي الله عنها). الحديث الثالث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فعمَّ وخصَّ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ أَنْقِذِي نَفْسَكِ من النار، فإني والله لا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا أَنَّ لكم رحماً سأبلها ببلاها» (رواه مسلم والترمذي). وقال الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ اشْتَرِيَا أَنْفُسَكُمَا

من الله، فإني لَا أُغْنِي عَنْكُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، سَلَانِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمَا» (تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هذا الوجه الإمام أحمد) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بَنِي قُصَيٍّ، يَا بَنِي هَاشِمٍ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَنَا النَّذِيرُ، وَالْمَوْتُ المغير، والساعة الموعد» (أخرجه الحافظ أبو يعلى)، الحديث الرابع: قال الإمام أحمد عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ وَزُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَا: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضْمَةً مِنْ جَبَلٍ عَلَى أَعْلَاهَا حَجَرٌ فَجَعَلَ يُنَادِي: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَرَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ فَذَهَبَ يربأ أهله رجاء أَنْ يَسْبِقُوهُ فَجَعَلَ يُنَادِي وَيَهْتِفُ يَا صَبَاحَاهُ» (أخرجه مسلم والنسائي والإمام أحمد)؟. وقوله تعالى: {وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أَيْ فِي جَمِيعِ أمورك فإنه مؤيدك وحافظك وناصرك ومظفرك ومعلي كلمتك، وقوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أَيْ هُوَ مُعْتَنٍ بك، كما قال تعالى: {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بأعيننا}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}: يَعْنِي إِلَى الصَّلَاةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَرَى قِيَامَهُ وركوعه وسجوده، وقال الحسن: إذا صليت وحدك، وقال الضحاك: أَيْ مِنْ فِرَاشِكَ أَوْ مَجْلِسِكَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {الَّذِي يَرَاكَ} قَائِمًا وَجَالِسًا وَعَلَى حَالَاتِكَ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}، قَالَ قَتَادَةُ: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} قَالَ: فِي الصلاة يراك وحدك ويراك في الجمع. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَعْنِي تَقَلُّبَهُ مِنْ صُلْبِ نَبِيٍّ إِلَى صُلْبِ نبي، حتى أخرجه نبياً، وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيِ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ، الْعَلِيمُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} الْآيَةَ.

- 221 - هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ - 222 - تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ - 223 - يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ - 224 - وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ - 225 - أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ - 226 - وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ - 227 - إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِمَنْ زَعَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أن مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بحق، وَأَنَّهُ شَيْءٌ افْتَعَلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، أَوْ أنه أتاه به رِئي الجان، فنزه الله سبحانه وتعالى جَنَابَ رَسُولِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ، وَنَبَّهَ أَنَّ ما جاء به إنما هو مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ تَنْزِيلُهُ وَوَحْيُهُ نَزَلَ بِهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ أَمِينٌ عَظِيمٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ من قبل الشَّيَاطِينِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ رَغْبَةٌ فِي مِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَإِنَّمَا يَنْزِلُونَ عَلَى مَنْ يُشَاكِلُهُمْ وَيُشَابِهُهُمْ مِنَ الْكُهَّانِ الْكَذَبَةِ. وَلِهَذَا قَالَ الله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} أَيْ أُخْبِرُكُمْ {عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} أَيْ كذوب في قوله وهو الأفاك {أَثِيمٍ} وهو الْفَاجِرُ فِي أَفْعَالِهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي تَنَزَّلُ عليه الشياطين من الكهان وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمْ مِنَ الْكَذَبَةِ الْفَسَقَةِ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ أَيْضًا كَذَبَةٌ فَسَقَةٌ {يُلْقُونَ السَّمْعَ} أَيْ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنَ السَّمَاءِ فَيَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، فَيَزِيدُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ ثُمَّ يلقونها إلى أوليائهم من الإنس، فيحدثون بِهَا فَيُصَدِّقُهُمُ النَّاسُ فِي كُلِّ مَا قَالُوهُ بسبب

صِدْقِهِمْ فِي تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السماء، كما روى البخاري عن عروة بن الزبير قال، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: سَأَلَ نَاسٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله فإنه يحدثون بالشيء يكون، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطِفُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أذن وليه كقرقرة الدجاج فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة». وروى البخاري أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كأنها سسلسلة على صفوان، فإذا فرغ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُواْ: الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ، ومسترقو السمع هكذا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ - وصفه سُفْيَانُ بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ - فَيَسْمَعُ لكلمة فيلقها إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فكيذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء" (تفرد به البخاري ورواه مسلم قريباً منه). وقوله تعالى: {والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْكُفَّارَ يَتْبَعُهُمْ ضُلَّالُ الْإِنْسِ والجن؛ وكذا قال مجاهد رحمة الله، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ الشَّاعِرَانِ يَتَهَاجَيَانِ فَيَنْتَصِرُ لِهَذَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ،، فأنزل الله تعالى: {والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون}. وقال الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَرْجِ إِذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يُنْشِدُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا الشَّيْطَانَ - أَوْ أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ -، لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خير له من أن يمتلئ شعراً» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي كُلِّ فَنٍّ مِنَ الْكَلَامِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْنَا أَوْدِيَتَهُمُ الَّتِي يخضون فيها مرة في شتيمة فلان ومرة في مديحة فُلَانٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الشَّاعِرُ يَمْدَحُ قَوْمًا بِبَاطِلٍ ويذم قوماً بباطل، وقوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَحَدُهُمَا مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْآخَرُ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَإِنَّهُمَا تَهَاجَيَا فَكَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غُوَاةٌ مِنْ قَوْمِهِ وَهُمُ السُّفَهَاءُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ}، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَكْثَرُ قَوْلِهِمْ يَكْذِبُونَ فِيهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَبَجَّحُونَ بِأَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُمْ وَلَا عَنْهُمْ فَيَتَكَثَّرُونَ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا يَرِيهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا»، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه هذا القرآن ليس بكاهن ولا شاعر، لِأَنَّ حَالَهُ مُنَافٍ لِحَالِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ ظَاهِرَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهكذا قال ههنا: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، إِلَى أَنْ قَالَ: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لمعزلون}، إِلَى أَنْ قَالَ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ؟ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ *

وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ؟ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}. وَقَوْلُهُ: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً} الآية. قال محمد بن إسحاق: لَمَّا نَزَلَتْ {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} جَاءَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وهم يبكون قالوا: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ حِينَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ أَنَّا شُعَرَاءُ، فَتَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} قَالَ: «أَنْتُمْ» {وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً} قَالَ: «أَنْتُمْ» {وَانْتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} قَالَ: «أَنْتُمْ» (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ رِوَايَةِ ابن إسحاق). وروي أيضاً عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغاوون}، إلى قوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمَ الله أني منهم، فأنزل الله تعالى: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية، وهكذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً} قِيلَ: مَعْنَاهُ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ، وَقِيلَ: فِي شِعْرِهِمْ، وكلاهما صحيح مكفر لما سبق، وقوله تعالى: {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَرُدُّونَ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَهْجُونَ به المؤمنين؛ وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَسَّانَ: «اهْجُهُمْ - أَوْ قَالَ - هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ». وَقَالَ الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَدْ أنزل في الشعراء ما أنزل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنَّ مَا تَرْمُونَهُمْ بِهِ نَضْحُ النَّبْلِ» (أخرجه الإمام أحمد في المسند)، وقوله تعالى: {وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ أي مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}، كقوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ} الآية، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، قال قتادة: يعني من الشعراء وغيرهم وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقِيلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ ظَالِمٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ حاتم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَتَبَ أبي في وَصِيَّتَهُ سَطْرَيْنِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا وصى بِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الدُّنْيَا حِينَ يُؤْمِنُ الْكَافِرُ، وَيَنْتَهِي الْفَاجِرُ، وَيَصْدُقُ الْكَاذِبُ، إِنِّي اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَإِنْ يَعْدِلْ فَذَاكَ ظَنِّي بِهِ ورجائي فيه، وإن يجر ويبذل فَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ {وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ ينقلبون}.

27 - سورة النمل

- 27 - سورة النمل

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ - 2 - هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ - 3 - الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ - 4 - إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ - 5 - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ - 6 - وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ} أَيْ هَذِهِ آيَاتُ {الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٌ} أَيْ بيَّن وَاضِحٍ، {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ إِنَّمَا تَحْصُلُ الْهِدَايَةُ وَالْبِشَارَةُ مِنَ الْقُرْآنِ، لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَآتَى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وأيقن بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} الآية، وقال تعالى: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا}، ولهذا قال تعالى ههنا: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أَيْ يُكَذِّبُونَ بِهَا وَيَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهَا، {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} أَيْ حَسَّنَّا لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ، وَمَدَدْنَا لَهُمْ فِي غَيِّهِمْ، فَهُمْ يَتِيهُونَ فِي ضلالهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} أي ليس يخسر سواهم من أهل المحشر، وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} أي {وَإِنَّكَ} يا محمد {لَتُلَقَّى} أَيْ لَتَأْخُذُ {الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٌ} أَيْ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٌ عَلِيمٌ أَيْ حكيم في أمره ونهيه، عَلِيمٌ بِالْأُمُورِ جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، فَخَبَرُهُ هُوَ الصِّدْقُ الْمَحْضُ، وَحُكْمُهُ هُوَ الْعَدْلُ التَّامُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً}.

- 7 - إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ

تَصْطَلُونَ - 8 - فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - 9 - يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - 10 - وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ - 11 - إِلاَّ مَن ظُلِمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ - 12 - وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ - 13 - فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ - 14 - وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُذَكِّرًا لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ مُوسَى عليه السلام، كَيْفَ اصْطَفَاهُ اللَّهُ وَكَلَّمَهُ وَنَاجَاهُ، وَأَعْطَاهُ مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الْبَاهِرَةِ وَالْأَدِلَّةِ الْقَاهِرَةِ، وَابْتَعَثَهُ إِلَى فرعون وملئه فجحدوا بها وكفروا، فَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ} أَيِ اذْكُرْ حِينَ سَارَ مُوسَى بِأَهْلِهِ فَأَضَلَّ الطَّرِيقَ وَذَلِكَ فِي لَيْلٍ وَظَلَامٍ، فَآنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا، أَيْ رَأَى نَارًا تَأَجَّجُ وَتَضْطَرِمُ، فَقَالَ: {لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} أي عن الطريق، {أَوْ آتيكم منها بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي تستدفئون بِهِ وَكَانَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ رَجَعَ مِنْهَا بِخَبَرٍ عَظِيمٍ، وَاقْتَبَسَ مِنْهَا نُورًا عَظِيمًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} أَيْ فَلَمَّا أتاها ورأى مَنْظَرًا هَائِلًا عَظِيمًا، حَيْثُ انْتَهَى إِلَيْهَا وَالنَّارُ تَضْطَرِمُ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، لَا تَزْدَادُ النَّارُ إِلَّا تَوَقُّدًا، وَلَا تَزْدَادُ الشَّجَرَةُ إِلَّا خُضْرَةً وَنَضْرَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا نُورُهَا مُتَّصِلٌ بِعَنَانِ السَّمَاءِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَمْ تكن ناراً وإنما كانت نوراً يتوهج، وفي رواية عنه نُورُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَوَقَفَ مُوسَى مُتَعَجِّبًا مِمَّا رَأَى {فَنُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} قال ابن عباس: تقدس {وَمَنْ حَوْلَهَا} أي من الملائكة، روى ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يُخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ»، زَادَ الْمَسْعُودِيُّ: «وَحِجَابُهُ النُّورُ أَوِ النَّارُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وجهه كل شيء أدرك بَصَرُهُ» ثُمَّ قَرَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ {أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا} (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري وأصل الحديث في صحيح مسلم)، وقوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيِ الَّذِي يَفْعَلُ ما يشاء ولا يشبهه شيء مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مَصْنُوعَاتِهِ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الْمُبَايِنُ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، ولا يكتنفه الأرض والسماوات، بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الْمُنَزَّهُ عَنْ مُمَاثَلَةِ المحدثات. وقوله تعالى: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أَعْلَمَهُ أَنَّ الَّذِي يُخَاطِبُهُ وَيُنَاجِيهِ هُوَ رَبُّهُ، الْعَزِيزُ الَّذِي عزَّ كُلَّ شَيْءٍ وَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ، الحكيم في أقواله وأفعاله، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُلْقِيَ عَصَاهُ مِنْ يَدِهِ، لِيُظْهِرَ لَهُ دَلِيلًا وَاضِحًا عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا أَلْقَى مُوسَى تِلْكَ الْعَصَا مِنْ يَدِهِ انْقَلَبَتْ فِي الْحَالِ حَيَّةً عَظِيمَةً هَائِلَةً فِي غَايَةِ الْكِبَرِ وسرعة الحركة مع ذلك، ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} وَالْجَانُّ ضَرْبٌ

من الحيات أسرعه حركة وأكثره اضطراباً، فَلَمَّا عَايَنَ مُوسَى ذَلِكَ {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} أَيْ لَمْ يَلْتَفِتْ مِنْ شِدَّةِ فَرَقِهِ {يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} أَيْ لَا تَخَفْ مِمَّا تَرَى فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَصْطَفِيَكَ رَسُولًا، وَأَجْعَلَكَ نَبِيًّا وجيهاً، وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَفِيهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْبَشَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ كان على عمل سيء، ثم أقلع عنه ورجع وتاب وَأَنَابَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى}، وقوله تَعَالَى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} هَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى وَدَلِيلٌ بَاهِرٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وَصِدْقِ مَنْ جَعَلَ لَهُ مُعْجِزَةً، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ دِرْعِهِ، فَإِذَا أَدْخَلَهَا وَأَخْرَجَهَا خَرَجَتْ بَيْضَاءَ سَاطِعَةً كَأَنَّهَا قطعة قمر، لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف، وقوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} أَيْ هَاتَانِ ثِنْتَانِ مِنْ تِسْعِ آيَاتٍ، أُؤَيِّدُكَ بِهِنَّ وَأَجْعَلُهُنَّ بُرْهَانًا لَكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} وهذه هي الآيات التسع التي قال تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} كما تقدم تقرير ذلك هنالك، وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} أَيْ بَيِّنَةً وَاضِحَةً ظاهرة {قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أَيْ عَلِمُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهَا حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَكِنْ جَحَدُوهَا وَعَانَدُوهَا وَكَابَرُوهَا {ظُلْماً وَعُلُوّاً}، أي ظلماً من أنفسهم {وَعُلُوّاً} أَيِ اسْتِكْبَارًا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا قال تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أَيِ انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ أمرهم في إهلاك الله إياهم، وفحوى الخطاب، يقول: احذروا أيها المكذبون لمحمد الْجَاحِدُونَ لِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، فَإِنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ مِنْ مُوسَى، وَبُرْهَانُهُ أَدَلُّ وَأَقْوَى من برهان موسى، عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ.

- 15 - وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ - 16 - وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ - 17 - وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ - 18 - حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ - 19 - فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عَبْدَيْهِ وَنَبِيَّيْهِ (دَاوُدَ) وَابْنِهِ (سليمان) عليهما السَّلَامُ، مِن النِّعَمِ الْجَزِيلَةِ وَالْمَوَاهِبِ الْجَلِيلَةِ، وَالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، وَمَا جَمَعَ لَهُمَا بَيْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا والآخرة، والملك والنبوة، ولهذا قال تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عباده المؤمنين}، وقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} أَيْ فِي الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ وِرَاثَةَ الْمَالِ إِذْ لَوْ كَانَ كذلك لم يخص سليمان وحده بين سائر أولاد داود، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ وِرَاثَةُ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تُوَرَّثُ أَمْوَالُهُمْ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

في قوله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة،» {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ أَخْبَرَ سُلَيْمَانُ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيمَا وَهَبَهُ لَهُ مِنَ الْمُلْكِ التَّامِّ وَالتَّمْكِينِ الْعَظِيمِ، حَتَّى إِنَّهُ سَخَّرَ لَهُ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالطَّيْرَ؛ وَكَانَ يَعْرِفُ لُغَةَ الطير والحيوان أيضاً على اختلاف أصنافها، ولهذا قال تعالى: {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} أي ما يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَلِكُ، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ المبين} أي الظاهر البين لله علينا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} أَيْ وَجُمِعَ لِسُلَيْمَانَ وجنوده مِنَ الْجِنِّ، وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ، يَعْنِي رَكِبَ فِيهِمْ فِي أُبَّهَةٍ وَعَظَمَةٍ كَبِيرَةٍ، فِي الْإِنْسِ وَكَانُوا هم الذين يلونه، والجن وهم بعدهم فِي الْمَنْزِلَةِ، وَالطَّيْرُ وَمَنْزِلَتُهَا فَوْقَ رَأْسِهِ، فَإِنْ كَانَ حَرٌّ أَظَلَّتْهُ مِنْهُ بِأَجْنِحَتِهَا، وَقَوْلُهُ {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أَيْ يَكُفُّ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ لِئَلَّا يتقدم أحد عن منزلته، قَالَ مُجَاهِدٌ: جَعَلَ عَلَى كُلِّ صِنْفٍ وَزَعَةً لئلا يتقدموا في السير كما يفعل الملوك اليوم. وقوله تعالى: {حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النَّمْلِ} أَيْ حَتَّى إِذَا مَرَّ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ وَالْجُنُودِ عَلَى وَادِي النَّمْلِ {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أَيْ خَافَتْ عَلَى النَّمْلِ أَنْ تَحْطِمَهَا الْخُيُولُ بحوافرها فأمرتهم بالدخول إلى مساكنهم، فَفَهِمَ ذَلِكَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهَا، {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ}، أَيْ أَلْهِمْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي مَنَنْتَ بِهَا عَلَيَّ مِنْ تَعْلِيمِي مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَالْحَيَوَانِ، وَعَلَى وَالِدَيَّ بِالْإِسْلَامِ لَكَ، وَالْإِيمَانِ بِكَ {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} أَيْ عَمَلًا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ، {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} أَيْ إِذَا تَوَفَّيْتَنِي فَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من عبادك، والرفيق الأعلى من أوليائك. وَالْغَرَضُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهِمَ قَوْلَهَا وَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ جداً، وقد روى ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي الصَّدِيقِ النَّاجِيِّ قَالَ: خَرَجَ سُلَيْمَانُ بن داود عليهما السَّلَامُ يَسْتَسْقِي، فَإِذَا هُوَ بِنَمْلَةٍ مُسْتَلْقِيَةٍ عَلَى ظهرها رفعة قَوَائِمِهَا إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ، وَلَا غِنَى بِنَا عَنْ سقياك، وإلاّ تسقنا تهلكنا، فقال سليمان: ارْجِعُوا فَقَدْ سُقِيتُمْ بِدَعْوَةِ غَيْرِكُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَرَصَتْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَمْلَةٌ فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، أَفِي أَنْ قَرْصَتْكَ نَمْلَةٌ أَهْلَكْتَ أُمَّةً من الأمم تسبّح؟ فهلا نملة واحدة؟» (أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً).

- 20 - وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ - 21 - لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٌ قال ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: كَانَ الْهُدْهُدُ مُهَنْدِسًا يَدُلُّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَاءِ، إِذَا كَانَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ طَلَبَهُ فَنَظَرَ لَهُ الْمَاءَ فِي تخوم الْأَرْضِ، فَإِذَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ أَمَرَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْجَانَّ فَحَفَرُوا لَهُ ذَلِكَ الْمَكَانَ، حَتَّى يَسْتَنْبِطَ الْمَاءَ مِنْ قَرَارِهِ، فَنَزَلَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمًا بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ لِيَرَى الْهُدْهُدَ فَلَمْ يَرَهُ {فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} حدث يوماً ابن عَبَّاسٍ بِنَحْوِ هَذَا وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ يُقَالُ لَهُ (نَافِعُ

بْنُ الْأَزْرَقِ) وَكَانَ كَثِيرَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: قِفْ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ غُلِبْتَ الْيَوْمَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: إِنَّكَ تُخْبِرُ أن الهدهد يَرَى الْمَاءَ فِي تُخُومِ الْأَرْضِ، وَإِنَّ الصَّبِيَّ لَيَضَعُ لَهُ الْحَبَّةَ فِي الْفَخِّ، وَيَحْثُو عَلَى الْفَخِّ تُرَابًا فَيَجِيءُ الْهُدْهُدُ لِيَأْخُذَهَا فَيَقَعُ فِي الْفَخِّ فَيَصِيدُهُ الصَّبِيُّ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْلَا أَنْ يَذْهَبَ هَذَا فَيَقُولُ رَدَدْتُ عَلَى ابْنِ عباس لما أجبته، ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ إِنَّهُ إِذَا نَزَلَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ وَذَهَبَ الْحَذَرُ، فَقَالَ لَهُ نَافِعٌ: وَاللَّهِ لَا أُجَادِلُكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَبَدًا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا غَدَا إِلَى مَجْلِسِهِ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ فِيهِ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ، وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ يَأْتِيهِ نُوَبٌ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الطَّيْرِ كُلَّ يَوْمٍ طَائِرٌ، فَنَظَرَ فَرَأَى مِنْ أَصْنَافِ الطَّيْرِ كُلِّهَا مَنْ حَضَرَهُ إِلَّا الْهُدْهُدَ {فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} أَخْطَأَهُ بَصَرِي مِنَ الطَّيْرِ أَمْ غَابَ فَلَمْ يَحْضُرْ؟ وَقَوْلُهُ: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} قال ابن عباس يعني نتف ريشه، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ إِنَّهُ نَتْفُ رِيشِهِ وَتَرْكُهُ مُلْقًى يَأْكُلُهُ الذَّرُّ وَالنَّمْلُ، وَقَوْلُهُ: {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} يَعْنِي قَتْلَهُ {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بعذر بين واضح، وقال سفيان بن عيينه: لما أقدم الهدهد قالت لَهُ الطَّيْرُ: مَا خَلَّفَكَ فَقَدْ نَذَرَ سُلَيْمَانُ دمك، فقال: هل استثنى؟ قالوا: نَعَمْ، قَالَ: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} قال: نجوت إذاً.

- 22 - فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ - 23 - إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ - 24 - وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ - 25 - أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ - 26 - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ يَقُولُ تَعَالَى: {فَمَكَثَ} الْهُدْهُدُ {غَيْرَ بَعِيدٍ} أَيْ غَابَ زَمَانًا يَسِيرًا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ لِسُلَيْمَانَ: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أَيْ اطَّلَعْتُ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَنْتَ وَلَا جُنُودُكَ {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} أَيْ بخبر صدق حق يقين، وسبأ هم مُلُوكُ الْيَمَنِ، ثُمَّ قَالَ: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} قال الحسن البصري: وهي بلقيس نبت شراحيل ملكة سبأ، وعن قتادة في قوله تعالى: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} كَانَتْ مِنْ بَيْتِ مملكة وكان أولو مشورتها ثلثمائة وَاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَكَانَتْ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا (مأرب) على ثلاثة أميال من صنعاء، وَقَوْلُهُ: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ مِنْ متاع الدنيا مما يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَلِكُ الْمُتَمَكِّنُ {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} يَعْنِي سَرِيرٌ تَجْلِسُ عَلَيْهِ عَظِيمٌ هَائِلٌ، مُزَخْرَفٌ بالذهب وأنواع الجواهر واللآلئ، قَالَ عُلَمَاءُ التَّارِيخِ: وَكَانَ هَذَا السَّرِيرُ فِي قصر عظيم مشيد رفيع البناء محكم، وكان فيه ثلثمائة وستون طاقة من مشرقه، ومثلها من مغربه، وقد وُضِعَ بِنَاؤُهُ عَلَى أَنْ تَدْخُلَ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ طَاقَةٍ وَتَغْرُبَ مِنْ مُقَابَلَتِهَا فَيَسْجُدُونَ لَهَا صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَلِهَذَا قَالَ: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} أَيْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ {فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ}، وَقَوْلُهُ: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ} أَيْ لَا يَعْرِفُونَ سَبِيلَ الْحَقِّ الَّتِي هِيَ إِخْلَاصُ السُّجُودِ لِلَّهِ وَحْدَهُ دُونَ ما خلق مِنَ الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تعبدون}.

وقوله تعالى: {الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْلَمُ كُلَّ خَبِيئَةٍ فِي السَّمَاءِ والأرض، وقال سعيد بن المسيب: الخبء الماء، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: خبء السماوات والأرض ما جعل فيهما مِنَ الْأَرْزَاقِ، الْمَطَرُ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّبَاتُ مِنَ الْأَرْضِ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْخَاصِّيَّةِ مَا ذَكَرَهُ ابن عباس وغيره أَنَّهُ يَرَى الْمَاءَ يَجْرِي فِي تُخُومِ الْأَرْضِ وداخلها، وَقَوْلُهُ: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أَيْ يَعْلَمُ مَا يُخْفِيهِ الْعِبَادُ وَمَا يُعْلِنُونَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}، وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الَّذِي لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَلَمَّا كَانَ الْهُدْهُدُ دَاعِيًا إِلَى الْخَيْرِ، وعبادة الله وحده، نهي عن قتله، كما رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ والهدهد والصرد (أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه قال ابن كثير: وإسناده صحيح).

- 27 - قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ - 28 - اذْهَبْ بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ - 29 - قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ - 30 - إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - 31 - أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مسلمين يقول تعالى مخبراً عن قيل سليمان للهدهد، حين أخبره عن أهل سبأ وملكهم {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أَيْ أَصْدَقْتَ فِي إِخْبَارِكَ هَذَا {أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} في مقالتك لتتخلص مِنَ الْوَعِيدِ الَّذِي أَوْعَدْتُكَ؟ {اذْهَبْ بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}، وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ كتاباً إلى بلقيس وقومها، وأعطاه ذلك الهدهد فحمله وَذَهَبَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَجَاءَ إِلَى قَصْرِ بِلْقِيسَ فَأَلْقَاهُ إِلَيْهَا مِنْ كُوَّةٍ هُنَالِكَ بَيْنَ يَدَيْهَا، ثُمَّ تَوَلَّى نَاحِيَةً أَدَبًا وَرِيَاسَةً فَتَحَيَّرَتْ مِمَّا رَأَتْ وَهَالَهَا ذَلِكَ ثُمَّ عَمَدَتْ إِلَى الْكِتَابِ فأخذته ففتحت ختمه وقرأنه، فَإِذَا فِيهِ: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فَجَمَعَتْ عِنْدَ ذَلِكَ أُمَرَاءَهَا وَوُزَرَاءَهَا وَكُبَرَاءَ دولتها ثُمَّ قَالَتْ لَهُمْ: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} تَعْنِي بِكَرَمِهِ مَا رأته من عجيب أمره، كون طائر ذهب بِهِ فَأَلْقَاهُ إِلَيْهَا ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهَا أَدَبًا وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُلُوكِ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ قَرَأَتْهُ عَلَيْهِمْ {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فَعَرَفُوا أَنَّهُ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عليه السلام، وَأَنَّهُ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ وَهَذَا الْكِتَابُ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَالْوَجَازَةِ وَالْفَصَاحَةِ فَإِنَّهُ حَصَّلَ المعنى بأيسر عبارة وأحسنها. قال العلماء: لم يَكْتُبْ أَحَدٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَبْلَ سليمان عليه السلام. وقوله: {أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ} قال قتادة يقول: لا تتجبروا علي {وأتوني مسلمين}، وقال ابن أَسْلَمَ: لَا تَمْتَنِعُوا وَلَا تَتَكَبَّرُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُوَحِّدِينَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مُخْلِصِينَ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: طَائِعِينَ.

- 32 - قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ - 33 - قَالُوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس

شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ - 34 - قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ - 35 - وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ لَمَّا قَرَأَتْ عَلَيْهِمْ كِتَابَ سُلَيْمَانَ اسْتِشَارَتْهُمْ فِي أَمْرِهَا وَمَا قَدْ نَزَلَ بِهَا، وَلِهَذَا قَالَتْ: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} أَيْ حَتَّى تَحْضُرُونَ وتشيرون {قَالُواْ نحن أولوا قوة وأولوا بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي منّوا عليها بِعَدَدِهِمْ وَعَدَدِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، ثُمَّ فَوَّضُوا إِلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْأَمْرَ فَقَالُوا: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}؟ أي نحن أشداء إن شئت أن تقصديه أو تحاربيه فَمَا لَنَا عَاقَةٌ عَنْهُ، وَبَعْدَ هَذَا فَالْأَمْرُ إليك، مري فينا رأيك نمتثله ونطيعه، قال الحسن البصري: فَوَّضُوا أَمْرَهُمْ إِلَى عِلْجَةٍ تَضْطَرِبُ ثَدْيَاهَا، فَلَمَّا قَالُوا لَهَا مَا قَالُوا كَانَتْ هِيَ أَحْزَمَ رَأْيًا مِنْهُمْ وَأَعْلَمَ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ، وَأَنَّهُ لَا قِبَلَ لَهَا بِجُنُودِهِ وَجُيُوشِهِ وَمَا سُخِّرَ لَهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ، وَقَدْ شَاهَدَتْ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ مَعَ الْهُدْهُدِ أَمْرًا عَجِيبًا بَدِيعًا فَقَالَتْ لَهُمْ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ نُحَارِبَهُ وَنَمْتَنِعَ عَلَيْهِ، فَيَقْصِدَنَا بِجُنُودِهِ وَيُهْلِكَنَا بِمَنْ مَعَهُ، وَيَخْلُصَ إِلَيَّ وَإِلَيْكُمُ الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ دُونَ غَيْرِنَا؛ وَلِهَذَا قَالَتْ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ إِذَا دَخَلُوا بَلَدًا عُنْوَةً أَفْسَدُوهُ أَيْ خَرَّبُوهُ، {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} أَيْ وَقَصَدُوا مَنْ فِيهَا مِنَ الْوُلَاةِ وَالْجُنُودِ فَأَهَانُوهُمْ غَايَةَ الْهَوَانِ إِمَّا بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْأَسْرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَتْ بِلْقِيسُ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً}، قَالَ الرَّبَّ عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، ثم عدلت إلى المصالحة والمهادنة والمسالمة فَقَالَتْ: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} أَيْ سَأَبْعَثُ إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ تَلِيقُ بمثله، وَأَنْظُرُ مَاذَا يَكُونُ جَوَابُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ يقبل ذلك منا وَيَكُفُّ عَنَّا، أَوْ يَضْرِبُ عَلَيْنَا خَرَاجًا نَحْمِلُهُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ، وَنَلْتَزِمُ لَهُ بِذَلِكَ ويترك قتالنا ومحاربتنا، قال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها، عَلِمَتْ أَنَّ الْهَدِيَّةَ تَقَعُ مَوْقِعًا مِنَ النَّاسِ، وقال ابن عباس: قَالَتْ لِقَوْمِهَا: إِنْ قَبِلَ الْهَدِيَّةَ فَهُوَ مَلِكٌ فَقَاتِلُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا فَهُوَ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ.

- 36 - فلما جاء سليمان قال أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ - 37 - ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ المفسرين أَنَّهَا بَعَثَتْ إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ عَظِيمَةٍ، مِنْ ذَهَبٍ وجواهر ولآلئ وغير ذلك، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِآنِيَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فلم ينظر سليمان إِلَى مَا جَاءُوا بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا اعْتَنَى بِهِ بَلْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَقَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ؟} أَيْ أَتُصَانِعُونَنِي بِمَالٍ لِأَتْرُكَكُمْ عَلَى شركم وَمُلْكِكُمْ؟ {فَمَآ آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} أَيِ الَّذِي أَعْطَانِي اللَّهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالْمَالِ وَالْجُنُودِ، خَيْرٌ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ {بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} أي أنتم الذي تَنْقَادُونَ لِلْهَدَايَا وَالتُّحَفِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَقْبَلُ منكم إلاّ الإسلام أو السيف، قال ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَرَ سُلَيْمَانُ الشَّيَاطِينَ فَمَوَّهُوا لَهُ أَلْفَ قَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، فَلَمَّا رَأَتْ رُسُلُهَا ذَلِكَ قَالُوا: مَا يصنع هذا بهديتنا؟ وفي هذا جَوَازِ تَهَيُّؤِ الْمُلُوكِ وَإِظْهَارِهِمُ الزِّينَةَ لِلرُّسُلِ وَالْقُصَّادِ {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} أَيْ بِهَدِيَّتِهِمْ، {فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أَيْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بقتالهم {وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أذلة} أي ولنخرجهم من بلدتهم أَذِلَّةً، {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أَيْ مُهَانُونَ مَدْحُورُونَ، فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهَا رُسُلُهَا بِهَدِيَّتِهَا وَبِمَا قَالَ سُلَيْمَانُ سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ هِيَ وَقَوْمُهَا، وَأَقْبَلَتْ تَسِيرُ إِلَيْهِ فِي جُنُودِهَا خَاضِعَةً

ذَلِيلَةً مُعَظِّمَةً لِسُلَيْمَانَ نَاوِيَةً مُتَابَعَتَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا تَحَقَّقَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُدُومَهُمْ عَلَيْهِ وَوُفُودَهُمْ إِلَيْهِ فَرِحَ بِذَلِكَ وَسَرَّهُ.

- 38 - قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ - 39 - قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ - 40 - قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قال محمد بن إسحاق: فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهَا الرُّسُلُ بِمَا قَالَ سُلَيْمَانُ قَالَتْ: قَدْ وَاللَّهِ عَرَفْتُ مَا هَذَا بِمَلِكٍ وَمَا لَنَا بِهِ مِنْ طَاقَةٍ، وَمَا نَصْنَعُ بمكابرته شَيْئًا، وَبَعَثَتْ إِلَيْهِ إِنِّي قَادِمَةٌ عَلَيْكَ بِمُلُوكِ قَوْمِي لِأَنْظُرَ مَا أَمْرُكَ وَمَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِنْ دِينِكَ، ثُمَّ أَمَرَتْ بِسَرِيرِ مُلْكِهَا الَّذِي كَانَتْ تَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَكَانَ مِنْ ذَهَبٍ مُفَصَّصٍ بِالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَاللُّؤْلُؤِ فَجُعِلَ فِي سَبْعَةِ أَبْيَاتٍ، ثُمَّ أَقْفَلَتْ عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ، ثُمَّ قَالَتْ: لِمَنْ خلفت على سطلنها احْتَفِظْ بِمَا قِبَلَكَ وَسَرِيرِ مُلْكِي، فَلَا يَخْلُصُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَلَا يَرَيَنَّهُ أَحَدٌ حَتَّى آتِيَكَ، ثُمَّ شَخَصَتْ إِلَى سُلَيْمَانَ في اثني عشر ألف فَجَعَلَ سُلَيْمَانُ يَبْعَثُ الْجِنَّ يَأْتُونَهُ بِمَسِيرِهَا وَمُنْتَهَاهَا كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، حَتَّى إِذَا دَنَتْ جَمَعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مِمَّنْ تَحْتَ يده، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا بَلَغَ سُلَيْمَانَ أَنَّهَا جَائِيَةٌ وَكَانَ قَدْ ذُكِرَ لَهُ عَرْشُهَا فَأَعْجَبَهُ، وَكَانَ مَنْ ذَهَبٍ وَقَوَائِمُهُ لُؤْلُؤٌ وَجَوْهَرٌ، وَكَانَ مُسَتَّرًا بِالدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ تِسْعَةُ مَغَالِيقَ فَكَرِهَ أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَقَدْ عَلِمَ نَبِيُّ اللَّهِ أَنَّهُمْ مَتَى أسلموا تحرم أموالهم ودمائهم، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}، وَهَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ الخُراساني والسدي {قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فَتَحْرُمُ عَلَيَّ أَمْوَالُهُمْ بإسلامهم، {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن} أي مارد مِنَ الْجِنِّ، {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَّقَامِكَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَجْلِسِكَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَقْعَدِكَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ يَجْلِسُ لِلنَّاسِ للقضاء والحكومات مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ، {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أي قوي على حمله {أمين} على مافيه مِنَ الْجَوْهَرِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أُرِيدُ أعجل من ذلك، وَمَن ههنا يظهر أن سُلَيْمَانَ أَرَادَ بِإِحْضَارِ هَذَا السَّرِيرِ إِظْهَارَ عَظَمَةِ ما وهب الله له من الملك، وما سخر لَهُ مِنَ الْجُنُودِ الَّذِي لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ، وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِيَتَّخِذَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى نُبُوَّتِهِ عِنْدَ بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا، لِأَنَّ هَذَا خَارِقٌ عَظِيمٌ، أَنْ يَأْتِيَ بِعَرْشِهَا كَمَا هُوَ مِنْ بِلَادِهَا قَبْلَ أَنْ يَقْدَمُوا عَلَيْهِ، هَذَا وَقَدْ حَجَبَتْهُ بِالْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ وَالْحَفَظَةِ، فَلَمَّا قَالَ سُلَيْمَانُ أُرِيدُ أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ، {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} قَالَ ابن عباس: وهو (آصف) كاتب سليمان عليه السلام. وكذا روي عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ أَنَّهُ (آصِفُ بْنُ بَرْخِيَاءَ) وَكَانَ صِدِّيقًا يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ مُؤْمِنًا مِنَ الْإِنْسِ وَاسْمُهُ آصِفُ (وكذا قال أبو صالح والضحاك وزاد قتادة: كان مؤمناً من بني إسرائيل) من بني إسرائيل، وَقَوْلُهُ: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} أي ارفع

بصرك وانظر فإنه لَا يَكِلُّ بَصَرُكَ إِلَّا وَهُوَ حَاضِرٌ عِنْدَكَ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: امْدُدْ بَصَرَكَ فَلَا يبلغ مداه حتى آتيك به، ثم قام فتوضأ ودعا الله تعالى، قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ قَالَ: يَا إِلَهَنَا وَإِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ائتني بعرشها، قال: فمثل بين يديه، فَلَمَّا عَايَنَ سُلَيْمَانُ وَمَلَؤُهُ ذَلِكَ وَرَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ {قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي} أَيْ هذا من نعم الله علي {ليبلوني} لِيَخْتَبِرَنِي {أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}، كَقَوْلِهِ: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا}، وكقوله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}، وَقَوْلُهُ: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} أَيْ هُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْعِبَادِ وَعِبَادَتِهِمْ، كَرِيمٌ: أَيْ كَرِيمٌ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْبُدْهُ أَحَدٌ، فَإِنَّ عَظَمَتَهُ لَيْسَتْ مُفْتَقِرَةً إِلَى أَحَدٍ، وَهَذَا كَمَا قَالَ مُوسَى: {إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمِنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومُنَّ إِلَّا نَفْسَهُ".

- 41 - قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ - 42 - فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ - 43 - وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ - 44 - قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَمَّا جِيءَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَرْشِ بِلْقِيسَ قَبْلَ قُدُومِهَا، أَمَرَ بِهِ أَنْ يُغَيَّرَ بَعْضُ صِفَاتِهِ لِيَخْتَبِرَ مَعْرِفَتَهَا وَثَبَاتَهَا عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، هَلْ تُقْدِمُ عَلَى أَنَّهُ عَرْشُهَا أو أنه ليس بعرشها، فَقَالَ: {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ} قال مجاهد: أمر به فغير ما كان فيه أَحْمَرَ جُعِلَ أَصْفَرَ، وَمَا كَانَ أَصْفَرَ جُعِلَ أحمر، وما كان أخضر جعل أحمر، وغير كُلُّ شَيْءٍ عَنْ حَالِهِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: زَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا {فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ} أَيْ عُرِضَ عَلَيْهَا عَرْشُهَا وَقَدْ غُيِّرَ وَنُكِّرَ فِيهِ وَنُقِصَ مِنْهُ فَكَانَ فِيهَا ثَبَاتٌ وَعَقْلٌ، وَلَهَا لُبٌّ وَدَهَاءٌ وَحَزْمٌ، فَلَمْ تُقْدِمْ عَلَى أَنَّهُ هُوَ لِبُعْدِ مَسَافَتِهِ عَنْهَا وَلَا أَنَّهُ غَيْرُهُ لِمَا رَأَتْ مِنْ آثَارِهِ وَصِفَاتِهِ وَإِنْ غُيِّرَ وَبُدِّلَ وَنُكِّرَ، فَقَالَتْ: {كَأَنَّهُ هُوَ} أَيْ يشبهه ويقاربه، وهذا في غاية الذَّكَاءِ وَالْحَزْمِ. وَقَوْلُهُ: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} قال مجاهد: يقوله سليمان، وقوله تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ}، هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِ مجاهد أي قال لسليمان {أوتينا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}، وَهِيَ كَانَتْ قَدْ صَدَّهَا أَيْ مَنَعَهَا مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ {مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قوم كافرين} (هذا الذي قاله مجاهد هو قول سعيد بن جبير وقد اختاره ابن جرير وابن كثير). قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا إِنَّمَا أَظْهَرَتِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ دُخُولِهَا إِلَى الصَّرْحِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَوْلُهُ: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي

الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا}، وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ الشَّيَاطِينَ فَبَنَوْا لَهَا قَصْرًا عَظِيمًا مِنْ قَوَارِيرَ أَيْ مِنْ زُجَاجٍ، وَأَجْرَى تَحْتَهُ الْمَاءَ، فَالَّذِي لَا يَعْرِفُ أَمْرَهُ يَحْسَبُ أَنَّهُ مَاءٌ، وَلَكِنَّ الزجاج يحول بين الماشي وبينه، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ: ثُمَّ قَالَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ لِيُرِيَهَا مُلْكًا هُوَ أَعَزُّ مِنْ مُلْكِهَا، وَسُلْطَانًا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ سُلْطَانِهَا، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً، وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا لَا تَشُكُّ أَنَّهُ مَاءٌ تَخُوضُهُ، فَقِيلَ لَهَا {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ} فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَى سُلَيْمَانَ، دَعَاهَا إِلَى عبادة الله وحده وعاتبها في عبادة الشمس من دون الله، قَالَتْ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَأَسْلَمَتْ وَحَسُنَ إِسْلَامُهَا (روى ابن أبي شيبة أثراً غريباً عن ابن عباس ثم قال: مَا أحسنه من حديث، وقد ضربنا صفحاً عنه لغرابته ونكارته ولأنه من الإسرائيليات، وهو كما قال ابن كثير: منكر جداً من أوهام عطاء بن السائب عن ابن عباس). وأصل الصَّرْحِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْقَصْرُ وَكُلُّ بِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِخْبَارًا عن فرعون لعنه الله {ابن لي صرحا لعلي أَبْلُغُ الأسباب} الآية، وَالصَّرْحُ قَصْرٌ فِي الْيَمَنِ عَالِي الْبَنَّاءِ، وَالْمُمَرَّدُ الْمَبْنِيُّ بَنَّاءً مُحْكَمًا أَمْلَسَ {مِنْ قَوَارِيرَ} أَيْ زجاج، وَالْغَرَضُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اتَّخَذَ قَصْرًا عَظِيمًا مَنِيفًا مِنْ زُجَاجٍ، لِهَذِهِ الْمَلِكَةِ لِيُرِيَهَا عَظَمَةَ سُلْطَانِهِ، وَتَمَكُّنِهِ، فَلَمَّا رَأَتْ مَا آتَاهُ الله وَجَلَالَةَ مَا هُوَ فِيهِ، وَتَبَصَّرَتْ فِي أَمْرِهِ انقادت لأمر الله تعالى وعرفت أنه نبي كريم، وملك عظيم، وأسلمت لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وَقَالَتْ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} أَيْ بِمَا سَلَفَ مِنْ كُفْرِهَا وَشِرْكِهَا وعبادتها وقومها لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ مُتَابَعَةً لِدِينِ سُلَيْمَانَ فِي عِبَادَتِهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا.

- 45 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ - 46 - قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ - 47 - قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ثَمُودَ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا مَعَ نَبِيِّهَا (صَالِحٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: مؤمن وكافر. {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} أَيْ لِمَ تَدْعُونَ بِحُضُورِ الْعَذَابِ وَلَا تَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ رَحْمَتَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} أَيْ مَا رَأَيْنَا عَلَى وَجْهِكَ وَوُجُوهِ مَنِ اتَّبَعَكَ خَيْرًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لِشَقَائِهِمْ كَانَ لَا يُصِيبُ أَحَدًا مِنْهُمْ سُوءٌ إِلَّا قَالَ هَذَا مِنْ قِبَلِ صَالِحٍ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ مجاهد: تشاءموا بهم، وهذا كما قال الله تعالى إخباراً عن قوم فرعون {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ * قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندَ الله} أي بقضائه وقدره، وقال تعالى: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ طَائِرُكُم معكم} الآية، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ} أَيِ اللَّهُ يُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} قَالَ قَتَادَةُ: تُبْتَلُونَ بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ {تُفْتَنُونَ} أَيْ: تُسْتَدْرَجُونَ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضلال.

- 48 - وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ - 49 - قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ - 50 - وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ - 51 - فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ - 52 - فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - 53 - وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ يخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم، الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر، وعقروا النَّاقَةَ وَهَمُّوا بِقَتْلِ صَالِحٍ أَيْضًا، بِأَنْ يُبَيِّتُوهُ فِي أَهْلِهِ لَيْلًا فَيَقْتُلُوهُ غِيلَةً، ثُمَّ يَقُولُوا لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ أَقْرَبِيهِ إِنَّهُمْ مَا عَلِمُوا بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَإِنَّهُمْ لَصَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا ذَلِكَ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ فِي المدينة} أي مدنية ثَمُودَ {تِسْعَةُ رَهْطٍ} أَيْ تِسْعَةُ نَفَرٍ {يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ} وَإِنَّمَا غَلَبَ هَؤُلَاءِ على أمر ثمود لأنهم كانوا كبراءهم ورؤساءهم، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ أي الذين صدر ذلك عن رأيهم ومشورتهم قبحهم الله ولعنهم (قال السهيلي: ذكر النقاش التسعة الذين كانوا يُفْسِدُونَ فِي الأرض ولا يصلحون، وسماهم بأسمائهم، وذلك لا ينضبط برواية، ولا فيه كبير فائدة، غير أني أذكرهم على وجه الاجتهاد والتخمين، وهم: مصدع بن دهر، ويقال دهم، وقدار بن سالف، وهريم، وصواب، ورياب، وراب، ودعمي، وهي، ورعين بن عمرو)، وَالْغَرَضُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةَ الْفَسَقَةَ كَانَ مِنْ صِفَاتِهِمُ الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ بِكُلِّ طَرِيقٍ يَقْدِرُونَ عليها. وقوله تعالى: {قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} أَيْ تَحَالَفُوا وَتَبَايَعُوا عَلَى قَتْلِ نَبِيِّ اللَّهِ (صَالِحٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ لَقِيَهُ لَيْلًا غِيلَةً، فَكَادَهُمُ اللَّهُ وَجَعَلَ الدَّائِرَةَ عَلَيْهِمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: تَقَاسَمُوا وَتَحَالَفُوا عَلَى هَلَاكِهِ فَلَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ حَتَّى هَلَكُوا وقومهم أَجْمَعِينَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ هَؤُلَاءِ التِّسْعَةُ، بَعْدَمَا عَقَرُوا النَّاقَةَ هَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ صَالِحًا، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا عَجَّلْنَاهُ قَبْلَنَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كُنَّا قَدْ أَلْحَقْنَاهُ بِنَاقَتِهِ، فَأَتَوْهُ لَيْلًا لِيُبَيِّتُوهُ فِي أَهْلِهِ فَدَمْغَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْحِجَارَةِ، فَلَمَّا أبطأوا عَلَى أَصْحَابِهِمْ أَتَوْا مَنْزِلَ صَالِحٍ فَوَجَدُوهُمْ مُنْشَدِخِينَ وقد رُضِخُوا بِالْحِجَارَةِ، فَقَالُوا لِصَالِحٍ أَنْتَ قَتَلْتَهُمْ ثُمَّ هَمُّوا بِهِ، فَقَامَتْ عَشِيرَتُهُ دُونَهُ وَلَبِسُوا السِّلَاحَ، وَقَالُوا لَهُمْ: وَاللَّهِ لَا تَقْتُلُونَهُ أَبَدًا وَقَدْ وَعَدَكُمْ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِكُمْ فِي ثَلَاثٍ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا تَزِيدُوا رَبَّكُمْ عَلَيْكُمْ غَضَبًا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَنْتُمْ مِنْ وَرَاءِ مَا تُرِيدُونَ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُمْ لَيْلَتَهُمْ تِلْكَ. وَقَالَ ابن أبي حاتم: لما عقروا الناقة قال لَهُمْ صَالِحٌ: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مكذوب} قَالُوا: زَعَمَ صَالِحٌ أَنَّهُ يُفْرُغُ مِنَّا إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَنَحْنُ نَفْرُغُ مِنْهُ وَأَهْلِهِ قَبْلَ ثَلَاثٍ، وَكَانَ لِصَالِحٍ مَسْجِدٌ فِي الْحِجْرِ عِنْدَ شِعْبٍ هُنَاكَ يُصَلِّي فِيهِ، فَخَرَجُوا إِلَى كَهْفٍ أَيْ غَارٍ هُنَاكَ لَيْلًا فَقَالُوا: إِذَا جَاءَ يُصَلِّي قَتَلْنَاهُ ثُمَّ رَجَعْنَا إِذَا فَرَغْنَا مِنْهُ إلى أهله، ففرغنا منهم، فبعث الله عليهم صَخْرَةً مِنَ الْهَضَبِ حِيَالَهُمْ، فَخَشُوا أَنْ تَشْدَخَهُمْ فَتَبَادَرُوا فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمُ الصَّخْرَةُ وَهُمْ فِي ذَلِكَ الْغَارِ، فَلَا يَدْرِي قَوْمُهُمْ أَيْنَ هُمْ، وَلَا يَدْرُونَ مَا فُعِلَ بِقَوْمِهِمْ: فَعَذَّبَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ ههنا وهؤلاء ههنا وَأَنْجَى اللَّهُ صَالِحًا وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} أَيْ فَارِغَةً لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ {بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ وكانوا يتقون}.

- 54 - وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ - 55 - أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ - 56 - فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ - 57 - فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ - 58 - وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (لُوطٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَنْذَرَ قَوْمَهُ نِقْمَةَ اللَّهِ بِهِمْ فِي فِعْلِهِمُ الْفَاحِشَةَ، الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُمْ إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهِيَ (إِتْيَانُ الذُّكُورِ) دُونَ الْإِنَاثِ، وَذَلِكَ فَاحِشَةٌ عَظِيمَةٌ اسْتَغْنَى الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بالنساء، فقال: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} أَيْ يَرَى بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أَيْ لَا تَعْرِفُونَ شَيْئًا لَا طَبْعًا وَلَا شَرْعًا كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عادون} {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أخرجوا آلَ داود مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أَيْ يَتَحَرَّجُونَ من فعل ما تفعلون ومن إقراركم على صنيعكم، فأخروهم مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَصْلُحُونَ لِمُجَاوَرَتِكُمْ فِي بِلَادِكُمْ، فَعَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ فَدَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} أَيْ مِنَ الْهَالِكِينَ مَعَ قَوْمِهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ رِدْءًا لَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَعَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي رِضَاهَا بِأَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، فَكَانَتْ تَدُلُّ قَوْمَهَا عَلَى ضِيفَانِ لوط ليأتوا إليهم، وقوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً} أَيْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ منضود، وَلِهَذَا قَالَ: {فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} أَيِ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَوَصَلَ إِلَيْهِمُ الْإِنْذَارُ، فَخَالَفُوا الرَّسُولَ وَكَذَّبُوهُ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ.

- 59 - قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصطفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يشركون - 60 - أَمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أَيْ عَلَى نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى وَعَلَى مَا اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْعُلَى وَالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمْ وَاخْتَارَهُمْ وَهُمْ رُسُلُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ الْكِرَامُ، عَلَيْهِمْ من الله أفضل الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، هَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أسلم هم الأنبياء، قال: وهو كقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالسُّدِّيُّ: هُمْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عنهم أجمعين (وروي نحو هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)، وَلَا مُنَافَاةَ فَإِنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ اصْطَفَى فَالْأَنْبِيَاءُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَالْقَصْدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ وَمَنِ اتبعه أَنْ يَحْمَدُوهُ عَلَى جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَأَنْ يُسَلِّمُوا

على عباده المصطفين الأخيار، وقد روى أبو بكر البزار عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}؟ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى. ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى يُبَيِّنُ أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالتَّدْبِيرِ دُونَ غيره، فقال تعالى: {أَمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات} أي خلق تلك السماوات في ارتفاعها وَصَفَائِهَا، وَمَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ، والنجوم الزاهرة، والأفلاك الدائرة، وخلق الأرض وما فيها من الجبال والأطواد والسهول والأوعار، والفيافي والقفار، والزروع والأشجار، والثمار والبحار، وَالْحَيَوَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْنَافِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ وَغَيْرِ ذلك، وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ مَآءً} أَيْ جَعَلَهُ رِزْقًا لِلْعِبَادِ {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ} أَيْ بَسَاتِينَ {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أَيْ مَنْظَرٍ حَسَنٍ وَشَكْلٍ بَهِيٍّ {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} أَيْ لم تكونوا تقدرون على إنبات أشجارها، وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، كَمَا يعترف به المشركون {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله} أَيْ هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ الْفَاعِلُ لِجَمِيعِ ذَلِكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ هُمْ يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ مِمَّا يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ ولا يرزق، ولهذا قال تعالى: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ؟} أَيْ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ يُعْبَدُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ وَلِكُلِّ ذِي لُبٍّ مما يعترفون بِهِ أَيْضًا أَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} فَعَلَ هَذَا؟ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْجَوَابِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَ ثَمّ أَحَدٌ فَعَلَ هَذَا مَعَهُ بَلْ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِهِ فَيُقَالُ: فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَهُوَ المستقل المتفرد بالخلق والرزق والتدبير؟ كما قال تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يخلق} الآية، وقوله تعالى ههنا: {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ} {أَمَّنْ} فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا تَقْدِيرُهُ أَمَّنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا؟ هَذَا مَعْنَى السِّيَاقِ وَإِنْ لم يذكر الآخر، ثم قال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أَيْ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ عدلاً ونظيراً، وهكذا قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة ويرجو رَحْمَةَ رَبِّهِ} أَيْ أَمَّنْ هُوَ هَكَذَا كَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ؟ ولهذا قال تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إنما يتذكر أولو الألباب}.

- 61 - أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ يقول تعالى: {أم من جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً} أَيْ قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً لَا تَمِيدُ وَلَا تَتَحَرَّكُ بِأَهْلِهَا وَلَا تَرْجُفُ بِهِمْ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا طَابَ عَلَيْهَا الْعَيْشُ وَالْحَيَاةُ، بَلْ جَعَلَهَا مِنْ فَضْلِهِ ورحمته مهاداً، ثَابِتَةً لَا تَتَزَلْزَلُ وَلَا تَتَحَرَّكُ، كَمَا قَالَ تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بناء}، {وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً} أَيْ جَعَلَ فِيهَا الْأَنْهَارَ العذبة الطيبة، شقها فِي خِلَالِهَا وَصَرَّفَهَا فِيهَا مَا بَيْنَ أَنْهَارٍ كِبَارٍ وَصِغَارٍ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَسَيَّرَهَا شَرْقًا وَغَرْبًا وَجَنُوبًا وَشَمَالًا، بِحَسَبِ مَصَالِحِ عِبَادِهِ فِي أَقَالِيمِهِمْ وأقطاهرم، حيث ذرأهم في أرجاء الأرض، وسير لَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ بِحَسَبِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} أَيْ جِبَالًا شَامِخَةً تُرْسِي الْأَرْضَ وَتُثَبِّتُهَا لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} أَيْ جَعَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الْعَذْبَةِ وَالْمَالِحَةِ {حَاجِزاً} أَيْ مَانِعًا يَمْنَعُهَا مِنَ الِاخْتِلَاطِ،

لِئَلَّا يَفْسُدَ هَذَا بِهَذَا وَهَذَا بِهَذَا، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي بِقَاءَ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى صِفَتِهِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، فَإِنَّ الْبَحْرَ الْحُلْوَ هُوَ هَذِهِ الْأَنْهَارُ السَّارِحَةُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْمَقْصُودُ منها أن تكون عذبة زلالاً يسقى منها الحيوان والنبات والثمار، وَالْبِحَارُ الْمَالِحَةُ هِيَ الْمُحِيطَةُ بِالْأَرْجَاءِ وَالْأَقْطَارِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَاؤُهَا مِلْحًا أُجَاجًا لِئَلَّا يَفْسُدَ الْهَوَاءُ بِرِيحِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً}، ولهذا قال تعالى: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ}؟ أَيْ فَعَلَ هَذَا أَوْ يُعْبَدُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَالْآخَرِ؟ وَكِلَاهُمَا مُتَلَازِمٌ صَحِيحٌ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ فِي عبادتهم غيره.

- 62 - أم من يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ يُنَبِّهُ تَعَالَى إِنَّهُ هُوَ الْمَدْعُوُّ عِنْدَ الشدائد، المرجو عند النوازل، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إياه}، وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تجأرون}، وهكذا قال ههنا: {أم من يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} أَيْ مَنْ هُوَ الَّذِي لَا يَلْجَأُ الْمُضْطَرُّ إِلَّا إِلَيْهِ، وَالَّذِي لَا يَكْشِفُ ضُرَّ الْمَضْرُورِينَ سِوَاهُ؟ قَالَ الْإِمَامُ أحمد عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ هجيم (قوله عن رجل من هجيم ورد اسم الرجل في رواية أخرى ذكرها الإمام أحمد وهو جابر بن سليم الهجيمي) قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إلامَ تَدْعُو؟ قَالَ: «أَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، الَّذِي إِنْ مَسَّكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَ عَنْكَ، وَالَّذِي إِنْ أَضْلَلْتَ بِأَرْضٍ قَفْرٍ فَدَعَوْتَهُ رَدَّ عَلَيْكَ، وَالَّذِي إن صابتك سَنَةٌ فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَ لَكَ» قَالَ: قُلْتُ أَوْصِنِي، قَالَ: «لَا تَسُبَّنَّ أَحَدًا وَلَا تَزْهَدَنَّ فِي الْمَعْرُوفِ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهَكَ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَقِي، وَاتَّزِرْ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّ إِسْبَالَ الْإِزَارِ مِنَ الْمَخِيلَةِ وَإِنَّ اللَّهَ لا يحب المخيلة»، وفي رواية أخرى لأحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ الْهُجَيْمِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وهو مُحْتَبٍ بِشَمْلَةٍ وَقَدْ وَقَعَ هُدْبُهَا عَلَى قَدَمَيْهِ، فقلت: إيكم محمد رَسُولُ اللَّهِ؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى نَفْسِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وفيَّ حفاؤهم فأوصني، قال: «لَا تحقرنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَقِي، وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلَا تَشْتِمْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَكَ أَجْرُهُ وَعَلَيْهِ وِزْرُهُ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّ إِسْبَالَ الْإِزَارِ مِنَ الْمَخِيلَةِ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ، وَلَا تَسُبَّنَّ أَحَدًا» قَالَ: فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ أحداً ولا شاة ولا بعيراً. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَرَأْتُ فِي الْكِتَابِ الأول: إن الله تعالى يَقُولُ: بِعِزَّتِي إِنَّهُ مَنِ اعْتَصَمَ بِي فَإِنْ كادته السماوات بمن فِيهِنَّ، وَالْأَرْضُ بِمَنْ فِيهَا، فَإِنِّي أَجْعَلُ لَهُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ مَخْرَجًا، وَمَنْ لَمْ يَعْتَصِمْ بِي، فَإِنِّي أَخْسِفُ بِهِ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ الْأَرْضَ، فَأَجْعَلُهُ فِي الْهَوَاءِ فَأَكِلُهُ إِلَى نَفْسِهِ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ رَجُلٍ حَكَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ (مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الدِّينَوَرِيُّ) الْمَعْرُوفُ بالدُّقِّيِّ الصُّوفِيُّ، قَالَ هَذَا الرَّجُلُ: كُنْتُ أُكَارِي عَلَى بَغْلٍ لِي مِنْ دِمَشْقَ إِلَى بَلَدِ الزَّبَدَانِيِّ، فَرَكِبَ مَعِي ذَاتَ مَرَّةٍ رَجُلٌ، فَمَرَرْنَا عَلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكَةٍ، فَقَالَ لِي: خُذْ فِي هَذِهِ فَإِنَّهَا أَقْرَبُ، فَقُلْتُ: لَا خِبْرَةَ لِي فِيهَا، فقال: بل هي أقرب فسلكناها فانتهيا إِلَى مَكَانٍ وَعْرٍ وَوَادٍ عَمِيقٍ وَفِيهِ قَتْلَى كثيرة، فَقَالَ لِي: أَمْسِكْ رَأْسَ الْبَغْلِ حَتَّى أَنْزِلَ، فَنَزَلَ وَتَشَمَّرَ وَجَمَعَ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ وَسَلَّ سِكِّينًا معه وقصدني ففرت مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَتَبِعَنِي، فَنَاشَدْتُهُ اللَّهَ،

وَقُلْتُ: خُذِ الْبَغْلَ بِمَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: هُوَ لِي، وَإِنَّمَا أُرِيدُ قَتْلَكَ، فَخَوَّفْتُهُ اللَّهَ وَالْعُقُوبَةَ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَاسْتَسْلَمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقُلْتُ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَتْرُكَنِي حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ: عجل فَقُمْتُ أُصَلِّي، فَأُرْتِجَ عَلَيَّ الْقُرْآنُ، فَلَمْ يَحْضُرْنِي مِنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ فَبَقِيتُ وَاقِفًا مُتَحَيِّرًا، وَهُوَ يَقُولُ: هِيهِ افْرُغْ، فَأَجْرَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِي قوله تعالى: {أَمْ من يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} فَإِذَا أَنَا بِفَارِسٍ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ فَمِ الْوَادِي وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ، فَرَمَى بِهَا الرَّجُلَ، فَمَا أَخْطَأَتْ فُؤَادَهُ فَخَرَّ صَرِيعًا، فَتَعَلَّقْتُ بِالْفَارِسِ، وَقُلْتُ: بِاللَّهِ من أنت؟ فقال: أنا رسول الَّذِي يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ، قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت سالماً (أخرج القصة ابن عساكر وذكر قصة أخرى مشابهة تدل على إكرام الله لأوليائه وعباده الصالحين قال صاحب الجوهرة: واثبتن للأولياء الكرامة * ومن نفاها فانبذن كلامه). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الْأَرْضِ} أَيْ يُخْلِفُ قَرْنًا لِقَرْنٍ قَبْلَهُمْ وَخَلَفًا لِسَلَفٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بعض درجات}، وَهَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الْأَرْضِ} أَيْ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ، وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَقَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ، وَلَوْ شَاءَ لَأَوْجَدَهُمْ كُلَّهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ بَعْضَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ بَعْضٍ، بَلْ لَوْ شَاءَ لَخَلَقَهُمْ كُلَّهُمْ أَجْمَعِينَ، كَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ بَعْضَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ بَعْضٍ، وَلَكِنْ لَا يُمِيتُ أَحَدًا حَتَّى تَكُونَ وَفَاةُ الْجَمِيعِ في وقت واحد لكانت تضيق عنهم الْأَرْضُ وَتَضِيقُ عَلَيْهِمْ مَعَايِشُهُمْ وَأَكْسَابُهُمْ وَيَتَضَرَّرُ بَعْضُهُمْ ببعض، ولكت اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ وَقُدْرَتُهُ أَنْ يَخْلُقَهُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثم يكثرهم غاية الكثرة ويجعلهم أمماً بَعْدَ أُمَمٍ، حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ وَتَفْرُغَ الْبَرِيَّةُ كما قدر تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَكَمَا أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، ثُمَّ يُقِيمُ الْقِيَامَةَ وَيُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ عَمَلَهُ إِذَا بلغ الكتاب أجله، ولهذا قال تعالى: {أَمْ من يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} أَيْ يَقْدِرُ على ذلك، أو أإله مَّعَ الله بعد هذا! وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِفِعْلِ ذلك وحده لا شريك له؟ {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} أَيْ مَا أَقَلَّ تَذَكُّرَهُمْ فِيمَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ المستقيم.

- 63 - أم من يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ يقول تَعَالَى: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أَيْ بِمَا خَلَقَ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، كَمَا قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وبالنجم هم يهتدون}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الْآيَةَ، {وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أَيْ بَيْنَ يَدَيِ السَّحَابِ الَّذِي فِيهِ مَطَرٌ يغيث الله به عباده المجدبين الْقَنِطِينَ {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ؟ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

- 64 - أم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ

أَيْ هُوَ الَّذِي بِقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الأخرى: {إنه هو يبدئ ويعيد}، وقال تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه}، {وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أَيْ بِمَا يُنْزِلُ مِنْ مَطَرِ السَّمَاءِ وَيُنْبِتُ مِنْ بَرَكَاتِ الأرض، كما قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا}، فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مباركاً، فيسلكه يَنَابِيعَ فِي الأرض، ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ أَنْوَاعَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْأَزَاهِيرِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَلْوَانٍ شَتَّى {كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى}، ولهذا لما قال تعالى: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} أَيْ فَعَلَ هَذَا وَعَلَى القول الآخر بعد هذا {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} عَلَى صِحَّةِ مَا تَدَّعُونَهُ مِنْ عِبَادَةِ آلِهَةٍ أُخْرَى {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فِي ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لهم ولا برهان كما قال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون}.

- 65 - قُل لاَّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ - 66 - بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ مُعَلِّمًا لِجَمِيعِ الْخَلْقِ أنه لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الغيب إلا الله. وقوله تعالى: {إِلاَّ اللَّهُ} اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَا يَعْلَمُ أحد ذلك إلاّ الله عزَّ وجلَّ، كما قال تَعَالَى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلَّا هُوَ} الآية، وقال تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} إلى آخر السورة، والآيات في هذا كثيرة. وقوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أَيْ وَمَا يَشْعُرُ الخلائق الساكنون في السماوات والأرض بوقت الساعة، كما قال تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بغتة} أَيْ ثَقُلَ عِلْمُهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وقالت عائشة رضي الله عنها: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ تعالى يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الغيب إلا الله} (أخرجه ابن أبي حاتم)، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ النُّجُومَ لثلاث خصال: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَجَعَلَهَا يُهْتَدَى بِهَا، وَجَعَلَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، فَمَنْ تَعَاطَى فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ بِرَأْيِهِ وَأَخْطَأَ حَظَّهُ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَإِنَّ أناساً جَهَلَةً بِأَمْرِ اللَّهِ قَدْ أَحْدَثُوا مِنْ هَذِهِ النُّجُومِ كِهَانَةً: مَنْ أَعْرَسَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ سَافَرَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ وُلِدَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَعَمْرِي مَا مِنْ نَجْمٍ إِلَّا يُولَدُ بِهِ الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَالْقَصِيرُ وَالطَّوِيلُ وَالْحَسَنُ وَالدَّمِيمُ، وَمَا عِلْمُ هَذَا النَّجْمِ وَهَذِهِ الدَّابَّةِ وَهَذَا الطَّيْرِ بِشَيْءٍ مِنَ الغيب، وقضى الله تعالى أنه {لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يبعثون} (أخرجه ابن أبي حاتم أيضاً قال ابن كثير: وهو كلام جليل متين صحيح). وقوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} أَيِ انْتَهَى عِلْمُهُمْ وَعَجَزَ عن معرفة وقتها. قال ابن عباس {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ} أَيْ غَابَ، وَقَالَ قَتَادَةُ {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} يعني بجهلهم بربهم، يقول: لم ينفذ لهم علم في الآخرة، هذا قول، وقال ابن جريج عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} حين

لم ينفع العلم، وبه قال عطاء وَالسُّدِّيُّ: أَنَّ عِلْمَهُمْ إِنَّمَا يُدْرِكُ وَيَكْمُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، وكان الحسن يَقْرَأُ {بَلْ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ}: قَالَ اضْمَحَلَّ عِلْمُهُمْ في الدنيا حين عاينوا الآخرة، وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} عَائِدٌ عَلَى الجنس والمراد الكافرون، كما قال تعالى: {بل زعمتم أن لن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً} أي الكافرون منكم، وهكذا قال ههنا: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} أَيْ شَاكُّونَ فِي وُجُودِهَا وَوُقُوعِهَا، {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} أَيْ فِي عَمَايَةٍ وَجَهْلٍ كَبِيرٍ فِي أَمْرِهَا وشأنها.

- 67 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ - 68 - لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ - 69 - قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين - 70 - ولا تحزن عليهم وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُنْكِرِي الْبَعْثِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، أَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا إِعَادَةَ الْأَجْسَادِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا عِظَامًا وَرُفَاتًا وَتُرَابًا، ثُمَّ قَالَ: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ} أَيْ مَا زِلْنَا نَسْمَعُ بِهَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا وَلَا نَرَى لَهُ حَقِيقَةً وَلَا وُقُوعًا، وَقَوْلُهُمْ: {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} يَعْنُونَ مَا هَذَا الْوَعْدُ بِإِعَادَةِ الْأَبْدَانِ {إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أَيْ أَخَذَهُ قَوْمٌ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ من كتب، يَتَلَقَّاهُ بَعْضٌ عَنْ بَعْضٍ وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ عَمَّا ظَنُّوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَعَدَمِ الْمَعَادِ {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ {سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين} أي المكذبين بالرسل وبما جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَغَيْرِهِ، كَيْفَ حلت بهم نقمة اللَّهِ وَعَذَابُهُ وَنَكَالُهُ، وَنَجَّى اللَّهُ مِنْ بَيْنِهِمْ رُسُلَهُ الْكِرَامَ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وصحته، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أَيِ الْمُكَذِّبِينَ بِمَا جِئْتَ بِهِ وَلَا تَأْسَفْ عَلَيْهِمْ وَتَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، {وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} أَيْ فِي كَيْدِكَ وَرَدِّ مَا جِئْتَ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُكَ وَنَاصِرُكَ، وَمُظْهِرٌ دِينَكَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَعَانَدَهُ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ.

- 71 - وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 72 - قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ - 73 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ - 74 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ - 75 - وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٌ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي سُؤَالِهِمْ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاسْتِبْعَادِهِمْ وُقُوعَ ذَلِكَ، {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}؟ قال الله تعالى مُجِيبًا لَهُمْ: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ {عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْ يَكُونَ قَرُبَ أَوْ أَنْ يقرب لَكُم بَعْضَ الذي تستعجلون، كقوله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ؟ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قريبا}، وقال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين}، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: {رَدِفَ لَكُم} لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى عَجِلَ لَكُمْ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ {عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ

لَكُم} عُجّل لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أَيْ فِي إِسْبَاغِهِ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ مَعَ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَشْكُرُونَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي يعلم الضمائر والسرائر كَمَا يَعْلَمُ الظَّوَاهِرَ، {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ به}، {يعلم السر وأخفى}، ثم أخبر تعالى بأنه عالم غيب السماوات وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَا غاب عن العباد وما شاهدوه، فقال تعالى: {وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي وَمَا مِن شَيْءٍ {فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}، وهذه كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يسير}.

- 76 - إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ - 77 - وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ - 78 - إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ - 79 - فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ - 80 - إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ - 81 - وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَمَا اشتمل عليه من الهدى والبيان وَالْفُرْقَانِ، إِنَّهُ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ حَمَلَةُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} كَاخْتِلَافِهِمْ فِي عِيسَى وَتَبَايُنِهِمْ فِيهِ، فَالْيَهُودُ افتروا والنصارى غلوا، فجاء الْقُرْآنُ بِالْقَوْلِ الْوَسَطِ الْحَقِّ الْعَدْلِ أَنَّهُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ الْكِرَامِ، عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ عيسى بن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ}، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ هُدًى لقلوب المؤمنين به ورحمة لهم، ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {بِحُكْمِهِ وَهُوَ العزيز} أي فِي انْتِقَامِهِ {الْعَلِيمُ} بِأَفْعَالِ عِبَادِهِ وَأَقْوَالِهِمْ {فَتَوَكَّلْ على الله} أي في جميع أُمُورِكَ وَبَلِّغْ رِسَالَةَ رَبِّكَ، {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} أَيْ أَنْتَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ وَإِنْ خَالَفَكَ مَنْ خَالَفَكَ مِمَّنْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةُ، وَحَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آية، ولهذا قال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} أَيْ لَا تُسْمِعُهُمْ شَيْئًا يَنْفَعُهُمْ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ عَلَى قُلُوبِهِمْ غِشَاوَةٌ وفي آذانهم وقر الكفر، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ * وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ * إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} أَيْ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لَكَ مَنْ هُوَ سَمِيعٌ بصير، السمع والبصر النافع في القلب، الْخَاضِعُ لِلَّهِ وَلِمَا جَاءَ عَنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.

- 82 - وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ هَذِهِ الدَّابَّةُ تَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ وَتَرْكِهِمْ أَوَامِرَ اللَّهِ وتبديلهم دين الْحَقَّ، يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ. قِيلَ: مِنْ مَكَّةَ، وَقِيلَ مِنْ غَيْرِهَا كَمَا سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى، فَتُكَلِّمُ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ والحسن وقتادة: تُكَلِّمُهُمْ كَلَامًا أَيْ تُخَاطِبُهُمْ مُخَاطَبَةً، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: تُكَلِّمُهُمْ فَتَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ واختاره ابن جرير وَقَدْ وَرَدَ فِي ذِكْرِ الدَّابَّةِ أَحَادِيثُ

وآثار كثيرة، فلنذكر منها ما تيسر والله المستعان روى الإمام أحمد: عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ: أَشْرَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غُرْفَةٍ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ أَمْرَ السَّاعَةَ فَقَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدُّخَانُ، وَالدَّابَّةُ، وَخُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَخُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مريم عليه السلام، وَالدَّجَّالُ، وَثَلَاثَةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنٍ تَسُوقُ أَوْ تَحْشُرُ النَّاسَ تَبِيتُ مَعَهُمْ حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا" (أخرجه الإمام أحمد ورواه كذلك مسلم وأهل السنن وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ). حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ مسلم بن الحجاج عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنْ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدابة على الناس ضحى، وأيتهما كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا». حديث آخر: وروى مسلم فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدجال، والدابة، وخاصة أحدكم، وأمر العامة"، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَخْرُجُ دَابَّةُ الْأَرْضِ وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَتَخْطِمُ أَنْفَ الْكَافِرِ بِالْعَصَا، وَتُجْلِي وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْخَاتَمِ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى الخوان يعرف المؤمن من الكافر» (أخرجه أبو داود الطيالسي بهذا اللفظ وأخرجه الإمام أحمد بمثله إلا أنه قال: فَتَخْطِمُ أَنْفَ الْكَافِرِ بِالْخَاتَمِ، وَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْعَصَا حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْخُوَانِ الْوَاحِدِ لَيَجْتَمِعُونَ فَيَقُولُ هَذَا يَا مُؤْمِنُ، وَيَقُولُ هَذَا يَا كافر). وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ حَكَى مِنْ كَلَامٍ عُزَيْرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: وَتَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ سَدُومَ دَابَّةٌ تُكَلِّمُ النَّاسَ كُلٌّ يَسْمَعُهَا، وَتَضَعُ الْحَبَالَى قَبْلَ التَّمَامِ، وَيَعُودُ الْمَاءُ الْعَذْبُ أُجَاجًا وَيَتَعَادَى الْأَخِلَّاءُ وَتُحْرَقُ الْحِكْمَةُ وَيُرْفَعُ الْعِلْمُ وَتُكَلِّمُ الْأَرْضُ الَّتِي تَلِيهَا، وَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَرْجُو النَّاسُ مَا لَا يَبْلُغُونَ، وَيَتْعَبُونَ فِيمَا لَا يَنَالُونَ، وَيَعْمَلُونَ فِيمَا لَا يَأْكُلُونَ (أخرجه ابن أبي حاتم وقد ورد في بعض الآثار أن الدابة تخرج من موضع بالبادية قريباً من مكة، ويروى عن ابن عباس أنها تخرج من بعض أودية تهامة، وعن ابن مسعود: أنها تخرج من صدع بالصفا).

- 83 - وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فهم يوزعون - 84 - حتى إذا جاؤوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - 85 - وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ - 86 - أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَحَشْرِ الظَّالِمِينَ من المكذبين بآيات الله ورسله، لِيَسْأَلَهُمْ عَمَّا فَعَلُوهُ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، تَقْرِيعًا وتصغيراً وتحقيراً، فقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} أَيْ مِنْ كُلِّ قَوْمٍ وَقَرْنٍ فَوْجًا أَيْ جَمَاعَةً {مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَآ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ}، وقوله تعالى: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} قال ابن عباس: يدفعون، وقال قتادة: يرد أَوَّلَهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زيد: يساقون {حتى إِذَا جَآءُوا} ووقفوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ فِي مَقَامِ الْمُسَاءَلَةِ {قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا علما أم

ماذا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيسألون عَنِ اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أهل السعادة وكانوا كما قال الله عَنْهُمْ، {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فحينئذٍ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عذر يعتذرون به، كما قال الله تَعَالَى: {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فيعتذرون} الآية، وهكذا قال ههنا {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ} أَيْ بُهِتُوا فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا ظَلَمَةً لِأَنْفُسِهِمْ، وقد ردوا إلى علام الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ وشأنه الرفيع: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ} أي في ظلام الليل لتسكن حركاتهم بسببه وَتَهْدَأُ أَنْفَاسُهُمْ، وَيَسْتَرِيحُونَ مِنْ نَصَبِ التَّعَبِ فِي نهارهم {والنهار مُبْصِراً} أي منيراً مشرقاً، فسبب ذَلِكَ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْمَعَايِشِ وَالْمَكَاسِبِ وَالْأَسْفَارِ وَالتِّجَارَاتِ، وغير ذلك من شؤونهم الَّتِي يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

- 87 - وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ - 88 - وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ - 89 - مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ - 90 - وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هول يوم نفخة الفزع في الصور، وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ: أَنَّ إِسْرَافِيلَ هُوَ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَنْفُخُ فِيهِ أَوَّلًا نَفْخَةَ الْفَزَعِ، وَيُطَوِّلُهَا، وَذَلِكَ فِي آخِرِ عُمْرِ الدُّنْيَا حِينَ تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى شَرَارِ الناس من الأحياء، فيفزع مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ {إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ} وَهُمُ الشُّهَدَاءُ فَإِنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عند ربهم يرزقون، وفي حديث مسلم الطويل قَالَ: "فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: أَلَا تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ دارٌّ رِزْقُهُمْ حسنٌ عَيْشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا. قَالَ - وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ قَالَ: فَيَصْعَقُ وَيَصْعَقُ النَّاسُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ - أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ - مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ - أَوْ قَالَ الظل، فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ نفخة أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولون} ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ. فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وتسعون قَالَ: فَذَلِكَ يَوْمٌ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن ساق" (أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو بطوله، وهذا جزء من الحديث الصحيح). وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا. اللِّيتُ هُوَ صَفْحَةُ الْعُنُقِ أَيْ أَمَالَ عُنُقَهُ لِيَسْتَمِعَهُ مِنَ السَّمَاءِ جَيِّدًا، فَهَذِهِ (نَفْخَةُ الْفَزَعِ) ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ (نَفْخَةُ الصَّعْقِ) وَهُوَ الْمَوْتُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ (نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وَهُوَ النُّشُورُ مِنَ الْقُبُورِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} أَيْ صَاغِرِينَ مُطِيعِينَ لَا يَتَخَلَّفُ أَحَدٌ عَنْ أَمْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بحمده}.

وقال تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَآ أَنْتُمْ تخرجون} وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ: أَنَّهُ فِي النَّفْخَةِ الثَّالِثَةِ يَأْمُرُ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ فَتُوضَعُ فِي ثُقْبٍ فِي الصُّورِ، ثُمَّ يَنْفُخُ إِسْرَافِيلُ فِيهِ بَعْدَمَا تَنْبُتُ الْأَجْسَادُ فِي قُبُورِهَا وَأَمَاكِنِهَا، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ طَارَتِ الْأَرْوَاحُ تَتَوَهَّجُ، أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ نُورًا، وَأَرْوَاحُ الْكَافِرِينَ ظُلْمَةً، فَيَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَتَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا، فَتَجِيءُ الْأَرْوَاحُ إِلَى أَجْسَادِهَا فَتَدِبُّ فِيهَا كَمَا يدب السم في اللديغ، ثم يقومون ينفضون التُّرَابَ مِنْ قُبُورِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}، وقوله تَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} أَيْ تَرَاهَا كَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ أَيْ تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً}، وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارزة}، وقوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} أَيْ يفعل ذلك بقدرته العظيمة {الذي أَتْقَنَ كل شيء} أي أَتْقَنَ كلُّ مَا خَلَقَ وَأَوْدَعَ فِيهِ مِنَ الحكمة ما أودع، {إِنَّهُ خَبِيرٌ بما يفعلون} أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُ عِبَادُهُ مِنْ خير وشر وسيجازيهم عليه أتم الجزاء. ثُمَّ بيَّن تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ يومئذٍ فَقَالَ: {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا}، قَالَ قَتَادَةُ: بِالْإِخْلَاصِ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ: هِيَ لا إله إلاّ الله. وقد بين تعالى في الموضع الْآخَرِ أَنَّ لَهُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الأخرة: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر}، وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّنْ يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة}، وقال تعالى: {وَهُمْ فِي الغرفات آمنون}، وقوله تعالى: {وَمَنْ جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} أَيْ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ مُسِيئًا لَا حَسَنَةَ لَهُ أَوْ قَدْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ كل بحسبه، ولهذا قال تعالى: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}. وَقَالَ ابن مسعود وابن عباس والضحاك والحسن وقتادة فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ}: يَعْنِي بِالشِّرْكِ.

- 91 - إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - 92 - وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ - 93 - وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا رَسُولَهُ وَآمِرًا لَهُ أَنْ يَقُولَ: {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ} وإضافة الربيوبية إِلَى الْبَلْدَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ لَهَا وَالِاعْتِنَاءِ بها، كما قال تَعَالَى: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}، وقوله تعالى: {الَّذِي حَرَّمَهَا} أَيِ الَّذِي إِنَّمَا صَارَتْ حَرَامًا شرعاً وقدراً بِتَحْرِيمِهِ لَهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القيامة، ولا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لقطته إلاّ من عرفها، ولا تختلى خلاه» الحديث بتمامه. وقوله تعالى: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} مِنْ بَابِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ أَيْ هُوَ رَبُّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ ورب كل شيء وملكيه لا إله إلا هو، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}

أَيِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُخْلِصِينَ الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ الْمُطِيعِينَ لَهُ، وَقَوْلُهُ: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} أَيْ عَلَى النَّاسِ أبلغهم إياه، كقوله تَعَالَى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ}، وكقوله تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} الآية، أَيْ أَنَا مُبَلِّغٌ وَمُنْذِرٌ، {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ المنذرين} أي لي أسوة بالرسل الَّذِينَ أَنْذَرُوا قَوْمَهُمْ وَقَامُوا بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ أداء الرسالة، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}، وَقَالَ: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وكيل}، {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} أَيِ لِلَّهِ الْحَمْدُ الَّذِي لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عليه، والإنذار إليه، ولهذا قال تعالى: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنه الحق}، وقوله تعالى {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أَيْ بَلْ هو شهيد على كل شيء. عن عمر بن عبد العزيز قال: لو كَانَ اللَّهُ مُغْفلاً شَيْئًا لَأَغْفَلَ مَا تُعَفِّي الرِّيَاحُ مِنْ أَثَرِ قَدَمَيِ ابْنِ آدَمَ، وَقَدْ ذكر عن الإمام أحمد رحمة الله تعالى أنه كان يُنْشِدُ هَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ: إِذَا مَا خلوتَ الدَّهْرَ يَومًا فَلَا تَقُلْ * خلوت وكن قُلْ عليَّ رقيبُ وَلَا تحسبنَّ اللَّهَ يَغْفُلُ سَاعَةً * وَلَا أَنَّ مَا يَخْفَى، عَلَيْهِ يَغِيبُ.

المجلد الثالث

28 - سورة القصص

- 28 - سورة القصص

بسم الله الرحمن الرحيم - 1 - طسم - 2 - تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين - 3 - نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ - 4 - إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ - 5 - وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ - 6 - وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ. وَقَوْلُهُ: {تِلْكَ} أَيْ هَذِهِ {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أَيْ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ الْكَاشِفِ عَنْ حَقَائِقِ الْأُمُورِ وَعِلْمِ مَا قَدْ كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَقَوْلُهُ: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بالحق} أَيْ نَذْكُرُ لَكَ الْأَمْرَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ كَأَنَّكَ تُشَاهِدُ وَكَأَنَّكَ حَاضِرٌ، ثُمَّ قَالَ تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الْأَرْضِ} أَيْ تَكَبَّرَ وَتَجَبَّرَ وَطَغَى، {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} أَيْ أَصْنَافًا قَدْ صَرَّفَ كُلَّ صِنْفٍ فِيمَا يُرِيدُ مِنْ أمور دولته، وقوله تعالى: {يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ} يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خِيَارَ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، هَذَا وَقَدْ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمَلِكُ الْجَبَّارُ الْعَنِيدُ يستعملهم في أخس الأعمال، وَيَقْتُلُ مَعَ هَذَا أَبْنَاءَهُمْ، وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ، إِهَانَةً لَهُمْ وَاحْتِقَارًا وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمُ غُلَامٌ يَكُونُ سَبَبُ هَلَاكِهِ وَذَهَابُ دَوْلَتِهِ عَلَى يديه، فَاحْتَرَزَ فِرْعَوْنُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ ذُكُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَنْ يَنْفَعَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ لِأَنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ ولكل أجل كتاب، ولهذا قَالَ تَعَالَى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرض - إلى قوله - يَحْذَرُونَ} وَقَدْ فَعَلَ تَعَالَى ذَلِكَ بِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ - إلى قوله - يَعْرِشُونَ}، وقال تعالى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إسرائيل} أَرَادَ فِرْعَوْنُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ موسى، فما نفعه ذلك مع قدرة الإله العظيم الذي لا يخالف أمره ولا يغلب، بل نفذ حكمه في القدم بأن يكون هلاك فِرْعَوْنَ عَلَى يَدَيْهِ، بَلْ يَكُونُ هَذَا الْغُلَامُ الَّذِي احْتَرَزْتَ مِنْ وُجُودِهِ وَقَتَلْتَ بِسَبَبِهِ أُلُوفًا مِنَ الْوِلْدَانِ، إِنَّمَا مَنْشَؤُهُ وَمُرَبَّاهُ عَلَى فِرَاشِكَ، وَفِي دَارِكَ، وَغِذَاؤُهُ مِنْ طَعَامِكَ، وَأَنْتَ تُرَبِّيهِ وَتُدَلِّلُهُ وَتَتَفَدَّاهُ وَحَتْفُكَ وَهَلَاكُكَ وَهَلَاكُ جُنُودِكَ عَلَى يديه، لتعلم أن رب السماوات العلا هو القاهر الغالب العظيم، القوي العزيز الشَّدِيدُ الْمِحَالِ الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.

- 7 - وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ - 8 - فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ - 9 - وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ذَكَرُوا أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا أَكْثَرَ مِنْ قَتْلِ ذُكُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، خَافَتِ الْقِبْطُ أَنْ يُفْنِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَلُونَ هُمْ مَا كَانُوا يَلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، فَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ: إِنَّهُ يُوشِكُ إِنِ اسْتَمَرَّ هَذَا الحال أن يموت شيوخهم، وغلمانهم يقتلون، ونساؤهم لا يمكن أن تقمن بما تقوم بِهِ رِجَالُهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ فَيَخْلُصُ إِلَيْنَا ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْوِلْدَانِ عَامًا وَتَرْكِهِمْ عَامًا، فَوُلِدَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّنَةِ الَّتِي يَتْرُكُونَ فيها الوالدان، وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها الوالدان، وكان لفرعون مُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ وَقَوَابِلُ يَدُرْنَ عَلَى النِّسَاءِ، فَمَنْ رَأَيْنَهَا قَدْ حَمَلَتْ أَحْصَوُا اسْمَهَا، فإِذا كَانَ وَقْتُ وِلَادَتِهَا لَا يَقْبَلُهَا إِلَّا نِسَاءُ الْقِبْطِ، فإن وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ جَارِيَةً تَرَكْنَهَا وَذَهَبْنَ، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا دَخَلَ أُولَئِكَ الذَّبَّاحُونَ بِأَيْدِيهِمُ الشِّفَارُ الْمُرْهَفَةُ فقتلوه ومضوا، قبحهم الله تعالى، فَلَمَّا حَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْحَمْلِ كَغَيْرِهَا وَلَمْ تَفْطِنْ لَهَا الدَّايَاتُ، وَلَكِنْ لَمَّا وَضَعَتْهُ ذَكَرًا ضَاقَتْ بِهِ ذَرْعًا، وَخَافَتْ عَلَيْهِ خَوْفًا شَدِيدًا وَأَحَبَّتْهُ حُبًّا زَائِدًا، وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لا يراه أحد إلاّ أحبه، قال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} فلما ضاقت به ذرعاً ألهمت في سرها ونفث في روعها، كما قال تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ دَارُهَا عَلَى حَافَّةِ النِّيلِ، فَاتَّخَذَتْ تَابُوتًا وَمَهَّدَتْ فِيهِ مَهْدًا، وَجَعَلَتْ تُرْضِعُ وَلَدَهَا، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ ممن تخافه ذهبت فوضعته فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ، وَسَيَّرَتْهُ فِي الْبَحْرِ وَرَبَطَتْهُ في بِحَبْلٍ عِنْدَهَا، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا مَنْ تَخَافُهُ، فَذَهَبَتْ فَوَضَعَتْهُ فِي ذَلِكَ التابوت، وأرسلته في البحر، وذهلت أَنْ تَرْبِطَهُ، فَذَهَبَ مَعَ الْمَاءِ وَاحْتَمَلَهُ حَتَّى مَرَّ بِهِ عَلَى دَارِ فِرْعَوْنَ فَالْتَقَطَهُ الْجَوَارِي، فَاحْتَمَلْنَهُ فَذَهَبْنَ بِهِ إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ وَلَا يَدْرِينَ مَا فِيهِ، وَخَشِينَ أَنْ يَفْتَتْنَ عَلَيْهَا فِي فَتْحِهِ دُونَهَا، فَلَمَّا كَشَفَتْ عَنْهُ إِذَا هُوَ غُلَامٌ مِنْ أَحْسَنِ الْخَلْقِ وَأَجْمَلِهِ وَأَحْلَاهُ وَأَبْهَاهُ، فَأَوْقَعَ اللَّهُ مَحَبَّتَهُ فِي قَلْبِهَا حِينَ نَظَرَتْ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِسَعَادَتِهَا وَمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ كَرَامَتِهَا وَشَقَاوَةِ بَعْلِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} الآية، قال محمد بن إسحاق: اللَّامُ هُنَا (لَامُ الْعَاقِبَةِ) لَا (لَامُ التَّعْلِيلِ) لأنهم لم يريدوا بالتقاطه ذلك، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لي وَلَكَ} الآية، يَعْنِي أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا رَآهُ هَمَّ بِقَتْلِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فشرعت امرأته (آسية بنت مزاحم) تخاصم عَنْهُ وَتَذُبُّ دُونَهُ وَتُحَبِّبُهُ إِلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَتْ: {قرة عين لي ولك}، فقال فرعون: أَمَّا لَكِ فَنَعَمْ، وَأَمَّا لِي فَلَا، فَكَانَ كذلك وهداها الله بسببه وأهلكه الله على يديه، وَقَوْلُهُ: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} وَقَدْ حَصَلَ لَهَا ذَلِكَ وَهَدَاهَا اللَّهُ بِهِ وَأَسْكَنَهَا الْجَنَّةَ بِسَبَبِهِ، وقوله: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} أَيْ أَرَادَتْ أَنْ تَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَتَتَبَنَّاهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ

لَّهَآ وَلَدٌ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أَيْ لَا يَدْرُونَ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ بِالْتِقَاطِهِمْ إِيَّاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ الْبَالِغَةِ والحجة القاطعة.

- 10 - وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - 11 - وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ - 12 - وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ - 13 - فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فُؤَادِ أُمِّ مُوسَى حِينَ ذَهَبَ وَلَدُهَا فِي الْبَحْرِ إِنَّهُ أَصْبَحَ فَارِغًا، أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمور الدُّنْيَا إِلَّا مِنْ موسى، قاله ابن عباس ومجاهد {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ}: أَيْ إِنْ كَادَتْ من شدة وجدها وحزنها لَتُظْهِرُ أَنَّهُ ذَهَبَ لَهَا وَلَدٌ، وَتُخْبِرُ بِحَالِهَا لولا أن الله ثبتها وصبرها، قال تعالى: {لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا على عليها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أَيْ أَمَرَتِ ابْنَتَهَا وَكَانَتْ كَبِيرَةً تَعِي مَا يُقال لَهَا فَقَالَتْ لَهَا {قُصِّيهِ} أَيْ اتْبَعِي أَثَرَهُ وَخُذِي خَبَرَهُ، وَتَطَلَّبِي شَأْنَهُ مِنْ نَوَاحِي الْبَلَدِ فَخَرَجَتْ لِذَلِكَ {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ} قَالَ ابن عباس: عن جانب، وقال مجاهد: وقال مجاهد: بصرت به عَنْ بَعِيدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهَا لَا تُرِيدُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَارِ فِرْعَوْنَ، وَأَحَبَّتْهُ امْرَأَةُ الملك عَرَضُوا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ الَّتِي فِي دَارِهِمْ، فَلَمْ يقبل ثَدْيًا وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فخرجوا به إلى السوق لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ امْرَأَةً تَصْلُحُ لِرَضَاعَتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ بأيديهم عرفته، ولم يظهر ذلك ولم يشعروا بها، قال تَعَالَى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ} أَيْ تحريماً قدرياً وذلك لكرامته عند الله وصيانته له أَنْ يَرْتَضِعَ غَيْرَ ثَدْيِ أُمِّهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى جَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى رُجُوعِهِ إِلَى أُمِّهِ لِتُرْضِعَهُ وَهِيَ آمِنَةٌ بَعْدَمَا كَانَتْ خَائِفَةً فَلَمَّا رأتهم حائرين فيمن يرضعه {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أهل بيت يكلفونه لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فلما قَالَتْ ذَلِكَ أَخَذُوهَا وَشَكُّوا فِي أَمْرِهَا، وَقَالُوا لها: وما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في سرور الْمَلِكِ وَرَجَاءُ مَنْفَعَتِهِ فَأَرْسَلُوهَا، فَلَمَّا قَالَتْ لَهُمْ ذَلِكَ وَخَلَصَتْ مِنْ أَذَاهُمْ ذَهَبُوا مَعَهَا إِلَى مَنْزِلِهِمْ، فَدَخَلُوا بِهِ عَلَى أُمِّهِ، فَأَعْطَتْهُ ثَدْيَهَا، فَالْتَقَمَهُ فَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا وَذَهَبَ الْبَشِيرُ إِلَى امْرَأَةِ الْمَلِكِ، فَاسْتَدْعَتْ أُمَّ مُوسَى، وَأَحْسَنَتْ إِلَيْهَا وَأَعْطَتْهَا عَطَاءً جَزِيلًا وَهِيَ لَا تَعْرِفُ أَنَّهَا أُمُّهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَكِنْ لِكَوْنِهِ وَافَقَ ثَدْيَهَا، ثُمَّ سَأَلْتُهَا آسِيَةُ أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهَا فَتُرْضِعُهُ فَأَبَتْ عَلَيْهَا وَقَالَتْ: إِنَّ لِي بَعْلًا وَأَوْلَادًا وَلَا أَقْدِرُ عَلَى الْمَقَامِ عِنْدَكِ، وَلَكِنْ إِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ أُرْضِعَهُ فِي بَيْتِي فَعَلْتُ، فَأَجَابَتْهَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى ذَلِكَ وَأَجْرَتْ عَلَيْهَا النفقة والصلات والإِحسان الْجَزِيلَ، فَرَجَعَتْ أُمُّ مُوسَى بِوَلَدِهَا رَاضِيَةً مرضية، قد أبدلها الله بَعْدِ خَوْفِهَا أَمْنًا فِي عِزٍّ وَجَاهٍ وَرِزْقٍ دَارٍّ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ الَّذِي يَعْمَلُ وَيَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ كَمَثَلِ أَمِّ مُوسَى تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا»، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الشِّدَّةِ وَالْفَرَجِ إِلَّا الْقَلِيلُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، فسبحان من بيده الأمر، يَجْعَلُ لِمَنِ اتَّقَاهُ بَعْدَ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَبَعْدَ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} أَيْ بِهِ {وَلاَ تَحْزَنَ} أَيْ عَلَيْهِ {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أَيْ فِيمَا وَعَدَهَا مِنْ رده إليها

وجعله من المرسلين، وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ حُكْمَ اللَّهِ في أفعاله وعواقبها المحمودة، فَرُبَّمَا يَقَعُ الْأَمْرُ كَرِيهًا إِلَى النُّفُوسِ وَعَاقِبَتُهُ مَحْمُودَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}.

- 14 - وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - 15 - وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ - 16 - قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - 17 - قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ لما ذكر تعالى مبدأة أَمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَاهُ اللَّهُ حُكْمًا وَعِلْمًا، قَالَ مُجَاهِدٌ يَعْنِي النُّبُوَّةَ {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى سَبَبَ وُصُولِهِ إِلَى مَا كان قدره له من النبوة والتكليم في قَضِيَّةَ قَتْلِهِ ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ، الَّذِي كَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ مِنْ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى بِلَادِ مَدْيَنَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقَالَ ابن المنكدر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ ذَلِكَ نِصْفَ النَّهَارِ (وهو قول سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، والسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ)، {فَوَجَدَ فيها رجلان يَقْتَتِلاَنِ} أَيْ يَتَضَارَبَانِ وَيَتَنَازَعَانِ، {هَذَا مِن شِيعَتِهِ} أي إسرائيلي {وهذا مِنْ عَدُوِّهِ} أي قبطي، فاستغاث الإسرائيلي بموسى عليه السلام، فوجد مُوسَى فُرْصَةً وَهِيَ غَفْلَةُ النَّاسِ فَعَمَدَ إِلَى الْقِبْطِيِّ {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: فوكزه أَيْ طَعَنَهُ بِجَمْعِ كَفِّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَكَزَهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ فَقَضَى عَلَيْهِ أَيْ كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ فَمَاتَ: {قَالَ} مُوسَى {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} أَيْ بِمَا جَعَلْتَ لِي من الجاه والعز والنعمة {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً} أَيْ مُعِينًا {لِّلْمُجْرِمِينَ} أَيِ الْكَافِرِينَ بِكَ، الْمُخَالِفِينَ لِأَمْرِكَ.

- 18 - فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ - 19 - فَلَمَّا إِنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هو عدو لهما قال يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَتَلَ ذَلِكَ الْقِبْطِيَّ إِنَّهُ أَصْبَحَ {فِي الْمَدِينَةِ خَآئِفاً} أَيْ مِنْ مَعَرَّةِ مَا فَعَلَ {يَتَرَقَّبُ} أَيْ يَتَلَفَّتُ وَيَتَوَقَّعُ مَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، فَمَرَّ فِي بَعْضِ الطرق فإِذا ذلك الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ عَلَى ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ يُقَاتِلُ آخر، فلما مر عليه مُوسَى اسْتَصْرَخَهُ عَلَى الْآخَرِ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ -[9]- مُّبِينٌ} أَيْ ظَاهِرُ الْغَوَايَةِ كَثِيرُ الشر، ثم عزم موسى عَلَى الْبَطْشِ بِذَلِكَ الْقِبْطِيِّ، فَاعْتَقَدَ الإِسرائيلي لِخَوَرِهِ وَضَعْفِهِ وَذِلَّتِهِ أَنَّ مُوسَى إِنَّمَا يُرِيدُ قَصْدَهُ لَمَّا سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ، فَقَالَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ {يَا مُوسَى} أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إِلَّا هُوَ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا ذَلِكَ الْقِبْطِيُّ لَقَفَهَا مِنْ فَمِهِ، ثُمَّ ذهب بها إلى باب فرعون وألقاها عنده فعلم فرعون بِذَلِكَ، فَاشْتَدَّ حَنَقُهُ وَعَزَمَ عَلَى قَتْلِ مُوسَى، فَطَلَبُوهُ فَبَعَثُوا وَرَاءَهُ لِيُحْضِرُوهُ لِذَلِكَ.

- 20 - وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ قَالَ تَعَالَى: {وَجَآءَ رَجُلٌ} وَصَفَهُ بِالرُّجُولِيَّةِ لِأَنَّهُ خَالَفَ الطَّرِيقَ فسلك طريقاً أقرب من طريق الذي بُعِثُوا وَرَاءَهُ فَسَبَقَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ لَهُ يَا مُوسَى {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أَيْ يَتَشَاوَرُونَ فِيكَ {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} أَيْ مِنَ الْبَلَدِ {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}.

- 21 - فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - 22 - وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ - 23 - وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ - 24 - فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ لَمَّا أَخْبَرَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِمَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ وَدَوْلَتُهُ فِي أَمْرِهِ، خَرَجَ مِنْ مِصْرَ وحده ولم يألف ذلك قبله، بل كان في رفاهية ونعمة ورياسة {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} أَيْ يَتَلَفَّتُ {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، فَذَكَرُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعث ملكاً فأرشده إلى الطريق {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ} أَيْ أَخَذَ طَرِيقًا سالكاً فَرِحَ بِذَلِكَ، {قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ} أي الطَّرِيقِ الْأَقْوَمِ، فَفَعَلَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ، وَهُدَاهُ إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة، فجعله هَادِيًا مَهْدِيًّا، {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ} أَيْ لما وَصَلَ إِلَى مَدْيَنَ وَوَرَدَ مَاءَهَا، وَكَانَ لَهَا بئر يرده رِعَاءُ الشَّاءِ {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} أَيْ جَمَاعَةً يَسْقُونَ {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} أَيْ تُكَفْكِفَانِ غَنَمَهُمَا أَنْ تَرِدَ مَعَ غَنَمِ أُولَئِكَ الرِّعَاءِ لِئَلَّا يُؤْذَيَا، فَلَمَّا رَآهُمَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَقَّ لَهُمَا وَرَحِمَهُمَا، {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا}؟ أَيْ مَا خَبَرُكُمَا لَا تَرِدَانِ مَعَ هَؤُلَاءِ، {قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} أَيْ لَا يَحْصُلُ لَنَا سَقْيٌ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِ هَؤُلَاءِ، {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} أَيْ فهذا الحال الملجىء لَنَا إِلَى مَا تَرَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فسقى لَهُمَا}. روى عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغُوا أَعَادُوا الصَّخْرَةَ عَلَى الْبِئْرِ وَلَا يُطِيقُ رَفْعَهَا إِلَّا عَشَرَةُ رِجَالٍ، فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ: مَا خَطْبُكُمَا؟ فَحَدَّثَتَاهُ فَأَتَى الْحَجَرَ فَرَفَعَهُ، ثم

لَمْ يَسْتَقِ إِلَّا ذَنُوبًا وَاحِدًا حَتَّى رَوِيَتِ الغنم (أخرجه ابن أبي شيبة وإسناده صحيح). وقوله تعالى: {ثُمَّ تولى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَارَ مُوسَى مِنْ مِصْرَ إِلَى مَدْيَنَ لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ إِلَّا الْبَقْلُ وَوَرَقُ الشَّجَرِ، وَكَانَ حَافِيًا، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وَجَلَسَ فِي الظِّلِّ وَهُوَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خلقه، وإن بطنه للاصق بِظَهْرِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَإِنَّ خُضْرَةَ الْبَقْلِ لَتُرَى مِنْ دَاخِلِ جَوْفِهِ، وَإِنَّهُ لَمُحْتَاجٌ إِلَى شِقِّ تمرة، وقوله: {إِلَى الظل} جلس تحت شجرة، قال السدي: كانت الشجرة من شجر السمر، وقال عطاء: لَمَّا قَالَ مُوسَى {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أَسْمَعَ الْمَرْأَةَ.

- 25 - فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - 26 - قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ - 27 - قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِّنَ الصَّالِحِينَ - 28 - قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ لَمَّا رَجَعَتِ الْمَرْأَتَانِ سريعاً بالغنم إلى أبيهما حالهما بسبب مجيئهما سَرِيعًا، فَسَأَلَهُمَا عَنْ خَبَرِهِمَا فَقَصَّتَا عَلَيْهِ مَا فَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَبَعَثَ إِحْدَاهُمَا إِلَيْهِ لتدعوه إلى أبيها، قال تَعَالَى: {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} أَيْ مشي الحرائر، جاءت مستترة بكم درعها، قال عمر رضي الله جَاءَتْ {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} قَائِلَةً بِثَوْبِهَا عَلَى وجهها ليست بسَلْفَع من النساء ولاّجة خرّاجة (أخرجه ابن أبي حاتم وإسناده صحيح ومعنى السلفع: الجريئة من النساء السليطة الجسور كما أفاده الجوهري). {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} وَهَذَا تَأَدُّبٌ فِي الْعِبَارَةِ لَمْ تطلبه مُطْلَقًا لِئَلَّا يُوهِمَ رِيبَةً، بَلْ قَالَتْ: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} يَعْنِي لِيُثِيبَكَ وَيُكَافِئَكَ عَلَى سَقْيِكَ لِغَنَمِنَا، {فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} أَيْ ذَكَرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَمَا جَرَى لَهُ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ مِنْ بَلَدِهِ {قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يَقُولُ: طِبْ نَفْسًا وَقَرَّ عَيْنًا فَقَدْ خَرَجْتَ مِنْ مَمْلَكَتِهِمْ فَلَا حُكْمَ لَهُمْ فِي بلادنا، ولهذا قال: {نَجَوْتَ من القوم الظلمين}. وقد اختلف المفسرون في الرجل من هو؟ على أقوال: أحدهما أَنَّهُ شُعَيْبٌ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي أُرْسِلَ إلى أهل مدين (هذا هو المشهور عند كثير من العلماء وهو قول الحسن البصري)، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ابْنَ أَخِي شُعَيْبٍ، وَقِيلَ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ شُعَيْبٌ قَبْلَ زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ لِأَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ}، وعن ابن عباس قال: الَّذِي اسْتَأْجَرَ مُوسَى (يَثْرَى) صَاحِبُ مَدْيَنَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ: ثُمَّ قَالَ: الصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِخَبَرٍ وَلَا خَبَرَ تَجِبُ به الحجة في ذلك. وقوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} أَيْ قَالَتْ

إِحْدَى ابْنَتَيْ هَذَا الرَّجُلِ قِيلَ: هِيَ الَّتِي ذَهَبَتْ وَرَاءَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَتْ لِأَبِيهَا: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} أَيْ لِرِعْيَةِ هَذِهِ الْغَنَمِ، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} قَالَ له أبوها: وما علمك بذلك؟ قالت له: إِنَّهُ رَفَعَ الصَّخْرَةَ الَّتِي لَا يَطِيقُ حَمْلَهَا إلاّ عشرة رجال، وإن لَمَّا جِئْتُ مَعَهُ تَقَدَّمْتُ أَمَامَهُ فَقَالَ لِي: كوني من ورائي، فإذا اختلف عليَّ الطَّرِيقَ فَاحْذِفِي لِي بِحَصَاةٍ أَعْلَمُ بِهَا كَيْفَ الطريق لأهتدي إليه (روي هذا القول عن عمر وابن عباس وشريح القاضي وقتادة ومحمد بن إسحاق وغيرهم). وقال ابن مسعود: أَفَرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: أَبُو بَكْرٍ حِينَ تَفَرَّسَ في عمره وصاحب يوسف حين قال أكرمي مثواه، وَصَاحِبَةُ مُوسَى حِينَ قَالَتْ: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}، {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} أَيْ طَلَبَ إِلَيْهِ هَذَا الرَّجُلُ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ أن يرعى غنمه ويزوجه إحدى بنتيه. وقوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} أَيْ عَلَى أَنْ تَرْعَى غنمي ثَمَانِي سِنِينَ، فَإِنْ تَبَرَّعْتَ بِزِيَادَةِ سَنَتَيْنِ فَهُوَ إليك، وإلاّ ففي الثمان كِفَايَةٌ، {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} أَيْ لَا أشاقك ولا أؤاذيك ولا أماريك. وفي الحديث: «إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ آجَرَ نَفْسَهُ بِعِفَّةِ فرجه وطعمة بطنه» (أخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجة عن (عتبة بن المنذر السلمي) مرفوعاً)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} يَقُولُ: إِنَّ مُوسَى قَالَ لِصِهْرِهِ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتَ مِنْ أَنَّكَ اسْتَأْجَرْتَنِي عَلَى ثَمَانِ سِنِينَ، فَإِنْ أَتْمَمْتُ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِي فَأَنَا مَتَى فَعَلْتُ أَقَلَّهُمَا، فَقَدْ بَرِئْتُ مِنَ الْعَهْدِ وَخَرَجْتُ مِنَ الشَّرْطِ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ} أَيْ فَلَا حرج عليّ، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السلام إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما. روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: قَالَ سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مَنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ فَقُلْتُ لَا أَدْرِي حَتَّى أقدم على حبر العرب، فأسأله، فقدمت على (ابن عباس) رضي الله عنه فسألته، فَقَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ إذا قال فعل. وعن أبي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سُئِلَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: "أَوْفَاهُمَا وَأَبَرَّهُمَا، قَالَ: وَإِنْ سُئِلْتَ أَيَّ المرأتين تزوج فقل الصغرى منهما" (أخرجه البزار عن أبي ذر رضي الله عنه). وروى ابن جرير عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا دَعَا نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَاحِبَهُ إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: كُلُّ شَاةٍ وَلَدَتْ عَلَى غير لونها فلك ولدها، فعمد موسى فرفع حبالاً على الماء، فلما رأيت الْخَيَالَ فَزِعَتْ فَجَالَتْ جَوْلَةً، فَوَلَدْنَ كُلُّهُنَّ بُلْقًا إلاّ شاة واحدة فذهب بأولادهن كلهن ذلك العام.

- 29 - فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ - 30 - فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ - 31 - وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ - 32 - اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ

بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ قَدْ تقدم أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى أَتَمَّ الْأَجَلَيْنِ وأوفاهما وأبرهما وأكملهما (هو عشر سنين على رأي الجمهور وقال مجاهد عشر سنين وبعدها عشر أخر رواه عن ابن جرير). قوله: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} قَالُوا: كَانَ مُوسَى قَدِ اشْتَاقَ إلى بلاده وأهله، فعزم على زيارتهم خُفْيَةٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَتَحَمَّلَ بِأَهْلِهِ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْغَنَمِ الَّتِي وَهَبَهَا لَهُ صِهْرُهُ، فَسَلَكَ بِهِمْ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ مُظْلِمَةٍ باردة، فنزل منزلاً فجعل كل ما أَوْرَى زَنْدَهُ لَا يُضِيءُ شَيْئًا فَتَعَجَّبَ مِنْ ذلك، فبينما هو كذلك {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} أَيْ رَأَى ناراً تضيء على بعد {فقال لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} أَيْ حَتَّى أَذْهَبَ إِلَيْهَا {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ أَضَلَّ الطَّرِيقَ {أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار} أي قطعة منها {لعلها تَصْطَلُونَ} أي تستدفئون بِهَا مِنَ الْبَرْدِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ من شاطئ الوادي الْأَيْمَنِ} أَيْ مِنْ جَانِبِ الْوَادِي مِمَّا يَلِي الْجَبَلَ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَرْبِ، كَمَا قال تعالى: {ومآ كنت بجانب الغرب إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} فَهَذَا مِمَّا يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ مُوسَى قَصَدَ النَّارَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَالْجَبَلُ الْغَرْبِيُّ عَنْ يَمِينِهِ وَالنَّارُ وَجَدَهَا تَضْطَرِمَ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، فِي لَحْفِ الْجَبَلِ مِمَّا يَلِي الْوَادِيَ فَوَقَفَ بَاهِتًا فِي أمرها فناداه ربه {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أَيِ الَّذِي يُخَاطِبُكَ وَيُكَلِّمُكَ هُوَ {رَبُّ العالمين} الفعال لما يشاء، تعال وَتَقَدَّسَ وتنزَّه عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، فِي ذَاتِهِ وصفاته وأقواله وأفعاله، وَقَوْلُهُ: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} أَيِ الَّتِي فِي يدك، كما في قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى؟ قَالَ هِيَ عَصَايَ أتؤكأ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى}، وَالْمَعْنَى: أَمَّا هَذِهِ عَصَاكَ الَّتِي تَعْرِفُهَا {أَلْقِهَا فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}، فَعَرَفَ وَتَحَقَّقَ أن الذي يكلمه ويخاطبه هو الذي يقول للشيء كن فيكون. {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} أَيْ تَضْطَرِبُ، {كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً} أي في حركتها السريعة مع عظم خلقتها واتساع فمها، واصطكاك أنيابها بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعها تنحدر فِي فِيهَا، تَتَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا حَادِرَةٌ فِي وَادٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ، {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} أَيْ ولم يَلْتَفِتُ لِأَنَّ طَبْعَ الْبَشَرِيَّةِ يَنْفِرُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ لَهُ: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} رَجَعَ فَوَقَفَ في مقامه الأول، قال الله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أَيْ إِذا أَدْخَلْتَ يَدَكَ فِي جَيْبِ دِرْعِكَ ثُمَّ أَخْرَجْتَهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ تَتَلَأْلَأُ كَأَنَّهَا قِطْعَةُ قَمَرٍ فِي لَمَعَانِ الْبَرْقِ، وَلِهَذَا قَالَ {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}: أَيْ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. وقوله تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: مِّن الفزع، وقال قتادة: من الرعب مِمَّا حَصَلَ لَكَ مِنْ خَوْفِكَ مِنَ الْحَيَّةِ؛ والظاهر أَنَّهُ أُمِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا خَافَ مِن شَيْءٍ إِنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ جَنَاحَهُ مِنَ الرَّهْبِ، وهو يَدُهُ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ذَهَبَ عَنْهُ مَا تجده مِنَ الْخَوْفِ، وَرُبَّمَا إِذَا اسْتَعْمَلَ أَحَدٌ ذَلِكَ على سبيل الاقتداء فوضع يده على فؤاده، فإنه يزول عنه ما يجده. عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ مُلِئَ قَلْبُهُ رُعْبًا مِنْ فِرْعَوْنَ، فَكَانَ إِذَا رَآهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَدْرَأُ بِكَ في نحره، وأعوذ بك من شره» فنزع اللَّهُ مَا كَانَ فِي قَلْبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَعَلَهُ فِي قَلْبِ فِرْعَوْنَ فَكَانَ إِذَا رآه بال كما يبول الحمار (رواه ابن أبي حاتم عن مجاهد). وقوله تعالى: {فَذَانِكَ

بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ} يعني جعل العصا حَيَّةً تَسْعَى، وَإِدْخَالَهُ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ فَتَخْرُجُ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، دَلِيلَانِ قَاطِعَانِ وَاضِحَانِ عَلَى قُدْرَةِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَصِحَّةِ نُبُوَّةِ مَنْ جَرَى هَذَا الْخَارِقُ عَلَى يَدَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {إلى فرعون وملته} أَيْ وَقَوْمِهِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْكُبَرَاءِ وَالْأَتْبَاعِ، {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} أَيْ خَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ الله مخالفين لأمره ودينه.

- 33 - قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ - 34 - وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ معي ردء يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ إِنْ يُكَذِّبُونِ - 35 - قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ لَمَّا أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً} يَعْنِي ذَلِكَ الْقِبْطِيَّ، {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} أَيْ إِذَا رَأَوْنِي، {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي لِسَانِهِ لَثْغَةٌ بِسَبَبِ مَا كَانَ تَنَاوَلَ تِلْكَ الجمرة، فَحَصَلَ فِيهِ شِدَّةٌ فِي التَّعْبِيرِ، وَلِهَذَا قَالَ: {واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يفقهوا قولي} {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً} أَيْ وَزِيرًا وَمُعِينًا وَمُقَوِّيا لِأَمْرِي، يَصَدِّقُنِي فِيمَا أَقُولُهُ وَأُخْبِرُ بِهِ عَنِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، لأن خبر الاثنين أنجع في النفوس من خبر الواحد، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ}، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: {رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} أَيْ يُبَيِّنُ لهم ما أكملهم به فإنه يفهم عني ما لا يعلمون، فلما سأل ذلك موسى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أَيْ سَنُقَوِّي أَمْرَكَ وَنُعِزُّ جَانِبَكَ بِأَخِيكَ، الَّذِي سَأَلْتَ لَهُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَعَكَ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا موسى}. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَيْسَ أَحَدٌ أَعْظَمَ مِنَّةً عَلَى أَخِيهِ مِنْ (مُوسَى) عَلَى (هَارُونَ) عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّهُ شُفِّعَ فِيهِ حَتَّى جَعَلَهُ الله نبياً ورسولاً، ولهذا قال تَعَالَى فِي حَقِّ مُوسَى {وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} أَيْ حُجَّةً قَاهِرَةً {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ} أَيْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى أَذَاكُمَا بِسَبَبِ إبلاغكما آيات اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يِا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ من ربك - إلى قوله - والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس}، وَلِهَذَا أَخْبَرَهُمَا أَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُمَا وَلِمَنِ اتَّبَعَهُمَا في الدنيا والآخرة فقال تعالى: {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا} إلى آخر الآية.

- 36 - فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى آبَآئِنَا الْأَوَّلِينَ - 37 - وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مَجِيءِ مُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَعَرْضِهِ مَا آتَاهُمَا اللَّهُ من المعجزات الباهرة والدلالة القاهرة، على صدقهما فيما أخبرا به عَنِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، مِنْ تَوْحِيدِهِ وَاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ، فَلَمَّا عَايَنَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ ذَلِكَ وَشَاهَدُوهُ وتحققوه، وأيقنوا أنه من عند اللَّهِ، عَدَلُوا بِكُفْرِهِمْ وَبَغْيِهِمْ إِلَى الْعِنَادِ وَالْمُبَاهَتَةِ، وَذَلِكَ لِطُغْيَانِهِمْ وَتَكَبُّرِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، فَقَالُوا: {مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى} أَيْ مُفْتَعَلٌ مصنوع، وأرادوا معارضته بالحيلة والجاه، وقوله:

{وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى آبَآئِنَا الْأَوَّلِينَ} يَعْنُونَ عبادة الله وحده لا شريك له، ويقولون مَا رَأَيْنَا أَحَدًا مِنْ آبَائِنَا عَلَى هَذَا الدِّينِ، وَلَمْ نَرَ النَّاسَ إِلَّا يُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُجِيبًا لَهُمْ: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ} يَعْنِي مِنِّي وَمِنْكُمْ، وَسَيَفْصِلُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار} أي من النُّصْرَةُ وَالظَّفَرُ وَالتَّأْيِيدُ، {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي المشركون بالله عز وجل.

- 38 - وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ - 39 - وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ - 40 - فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ - 41 - وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ - 42 - وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كُفْرِ فرعون وطغيانه، وافترائه في دعواه الإِلهية لعنه الله، كما قال الله تعالى: {فاستخف قَوْمَهُ فأطاعوه} الآية، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ بِقِلَّةِ عُقُولِهِمْ وَسَخَافَةِ أَذْهَانِهِمْ؛ ولهذا قال: {يا أيها الملأ ما عملت لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي}، وقال تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُ {فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} يَعْنِي أَنَّهُ جَمَعَ قَوْمَهُ وَنَادَى فِيهِمْ بِصَوْتِهِ العالي مصرحاً لهم بذلك فأجابوه سامعين مطعين، وَلِهَذَا انْتَقَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ فَجَعَلَهُ عِبْرَةً لِغَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحَتَّى إِنَّهُ وَاجَهَ مُوسَى الْكِلِيمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين}، وَقَوْلُهُ: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ موسى} يعني أمر وزيره (هامان) مدير رعيته أن يوقد له على الطين يعني يتخذ لَهُ آجُرًّا لِبِنَاءِ الصَّرْحِ، وَهُوَ الْقَصْرُ الْمُنِيفُ الرفيع العالي، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كاذباً} الآية. وَذَلِكَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ بَنَى هَذَا الصَّرْحَ الَّذِي لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا بِنَاءٌ أَعْلَى مِنْهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا أَنْ يُظْهِرَ لِرَعِيَّتِهِ تَكْذِيبَ موسى فما زَعَمَهُ مِنْ دَعْوَى إِلَهٍ غَيْرِ فِرْعَوْنَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أَيْ فِي قَوْلِهِ إِنَّ ثَمَّ رَبًّا غَيْرِي، لَا أَنَّهُ كذبه في أن الله تعالى أَرْسَلَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْتَرِفُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ جل وعلا، فإنه قال: {وَمَا رَبُّ العالمين}؟ وقال: {وَمَا رَبُّ العالمين}؟ وَقَالَ: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ، وقوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} أَيْ طَغَوْا وَتَجَبَّرُوا وَأَكْثَرُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لا قيامة ولا معاد، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد}، ولهذا قال تعالى ههنا: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} أَيْ أَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْبَحْرِ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أَيْ لِمَنْ سلك وراءهم وأخذ بطريقهم فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَتَعْطِيلِ الصَّانِعِ، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ} أَيْ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ خِزْيُ الدُّنْيَا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَهْلَكْنَاهُمْ

فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ}، وقوله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أَيْ وَشَرَعَ اللَّهُ لَعْنَتَهُمْ وَلَعْنَةَ مَلِكِهِمْ فِرْعَوْنَ عَلَى أَلْسِنَةِ المؤمنين من عبادة المتبعين لرسله كما أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا مَلْعُونُونَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَذَلِكَ، {وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} قال قتادة: هذه الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرفد المرفود}.

- 43 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أَنْعَمُ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى الْكِلِيمِ، عَلَيْهِ مِنْ ربه أفضل الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ، مِنْ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ بَعْدَمَا أهلك فرعون وملأه، وقوله تعالى: {من بعدما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} يَعْنِي أَنَّهُ بَعْدَ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ لَمْ يُعَذِّبْ أُمَّةً بِعَامَّةٍ، بَلْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كما قال تعالى: {وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً}، وروى ابن جرير عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، غير أهل القرية الذين مسخوا قردة بعد مُوسَى، ثُمَّ قَرَأَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى} (أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري موقوفاً، ورواه البزار من طريق آخر عن أبي سعيد مرفوعاً بلفظ مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا قَبْلَ مُوسَى ثُمَّ قرأ {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعدما أَهْلَكْنَا القرون الأولى}) الآية، وقوله: {بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً} أَيْ مِنَ الْعَمَى وَالْغَيِّ، {وَهُدًى} إِلَى الْحَقِّ، {وَرَحْمَةً} أي إرشاد إلى العمل الصالح، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أَيْ لَعَلَّ النَّاسَ يَتَذَكَّرُونَ بِهِ ويهتدون بسببه.

- 44 - وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ - 45 - وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ - 46 - وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ - 47 - وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ تعالى منبهاً على برهان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حَيْثُ أَخْبَرَ بِالْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ خَبَرًا كَأَنَّ سَامِعَهُ شاهدٌ وراءٍ لِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ، نَشَأَ بَيْنَ قَوْمٍ لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أنه لما أخبره عن مريم، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}، ولما أخبره عن نوح وإغراق قومه، قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} الآية. وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ يُوسُفَ {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} الآية، وَقَالَ فِي سُورَةِ طَهَ: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ

ما قد سبق} الآية، وقال ههنا بعدما أخبر عن قصة موسى {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الأمر} يعني ما كنت يا محمد بِجَانِبِ الْجَبَلِ الْغَرْبِيِّ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى من الشجرة عَلَى شَاطِئِ الْوَادِي، {وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْحَى إِلَيْكَ ذلك، ليكون حُجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى قُرُونٍ قَدْ تَطَاوَلَ عَهْدُهَا، وَنَسُوا حُجَجَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَوْحَاهُ إِلَى الأنبياء المتقدمين، وقال تعالى: {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أَيْ وَمَا كُنْتَ مُقِيمًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا، حِينَ أُخْبِرْتَ عن نبيها شعيب وما قاله لِقَوْمِهِ وَمَا رَدُّوا عَلَيْهِ، {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أَيْ وَلَكِنْ نَحْنُ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ذَلِكَ، وَأَرْسَلْنَاكَ إلى الناس رَسُولًا، {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} قيل: المراد أمة محمد، نودوا يا أمة محمد أعطيتهم قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي وَأَجَبْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي (أخرجه النسائي في سننه عن أبي هريرة موقوتاً، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم أيضاً)، وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} موسى، وهذا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ}، ثُمَّ أَخْبَرَ ههنا بِصِيغَةٍ أُخْرَى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ النِّدَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى}، وقال تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالوادي المقدس طوى}، وقال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً}، وقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أَيْ مَا كُنْتَ مشاهداً لشيء من ذلك، ولكن الله تعالى أوحاه إليك وأخبرك به رحمة منه بك وَبِالْعِبَادِ بِإِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ، {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أَيْ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، {وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} الآية، أي وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة، ولينقطع عُذْرَهُمْ إِذَا جَاءَهُمْ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ، فَيَحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ وَلَا نَذِيرٌ، كما قال تَعَالَى: {أَن تَقُولُوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ ونذير} والآيات في هذه كثيرة.

- 48 - فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ - 49 - قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 50 - فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله إِن اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - 51 - وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يَقُولُ تَعَالَى مخبراً عن القوم أنه لَوْ عَذَّبَهُمْ قَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لَاحْتَجُّوا بأنهم لم يأتهم رسول، فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا على وجه التعنت والعناد، والكفر والإِلحاد: {لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَى} الآية، يعنون مِثْلَ الْعَصَا، وَالْيَدِ، وَالطُّوفَانِ، وَالْجَرَادِ، والقُمّل، وَالضَّفَادِعِ، والدم، وتنقيص الزوع وَالثِّمَارِ مِمَّا يَضِيقُ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَكَفَلْقِ الْبَحْرِ، وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ، وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَالْحُجَجِ الْقَاهِرَةِ، التي أجرها الله تعالى على يدي موسى عليه السلام، حجة وبرهاناً

له على فرعون وملئه، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَنْجَعْ فِي فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، بَلْ كَفَرُوا بِمُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ، كَمَا قَالُوا لَهُمَا: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءنا}، وقال تعالى: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين}، ولهذا قال ها هنا: {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ} أَيْ أَوْلَمَ يَكْفُرِ الْبَشَرُ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى من تلك الآيات العظيمة، {قالوا ساحران تَظَاهَرَا} أَيْ تَعَاوَنَا، {وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} أي بكل منهما كافرون، قال مجاهد: أمرت اليهود قريشاً أَنْ يَقُولُوا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ: {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قالوا ساحران تَظَاهَرَا} قَالَ: يَعْنِي مُوسَى وَهَارُونَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَظَاهَرَا} أَيْ تَعَاوَنَا وَتَنَاصَرَا وَصَدَّقَ كل منها الآخر، وهذا قول جيد قوي، وعن ابن عباس: {قَالُواْ ساحران تَظَاهَرَا} قال: يعنون موسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم وهذا رواية الحسن البصري، وأما من قرأ {سحران تظاهرا} فروي عن ابن عباس: يعنون التوراة والقرآن، قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي صَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الآخر، وقال عكرمة: يعنون التوراة والإِنجيل واختاره ابن جرير، والظاهر أَنَّهُمْ يَعْنُونَ التَّوْرَاةَ وَالْقُرْآنَ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: {قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ}، وَكَثِيرًا مَا يُقْرِنُ اللَّهُ بَيْنَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ - إِلَى أَنْ قَالَ - وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مبارك}، وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} الآية، وقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ ترحمون}. وَقَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ لِذَوِي الْأَلْبَابِ، أَنَّ اللَّهَ تعالى لَمْ يُنْزِلْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ - فِيمَا أَنْزَلَ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَعَدِّدَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ - أَكْمَلَ وَلَا أَشْمَلَ وَلَا أَفْصَحَ وَلَا أَعْظَمَ وَلَا أَشْرَفَ، مِنَ الْكِتَابِ الذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَبَعْدَهُ فِي الشَّرَفِ وَالْعَظَمَةِ الْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَى عليه السلام، وهو الكتاب الذي قال الله فيه: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} والإِنجيل إنما أنزل متمماً للتوراة، ومحلاً لبعض ما حرم بني إسرائيل. ولهذا قال تعالى: {قَالَ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ فِيمَا تُدَافِعُونَ بِهِ الْحَقَّ وَتُعَارِضُونَ بِهِ مِنَ الْبَاطِلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ} أَيْ فَإِنْ لَمْ يُجِيبُوكَ عَمَّا قُلْتَ لَهُمْ وَلَمْ يَتَّبِعُوا الْحَقَّ {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ} أَيْ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله} أَيْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مَأْخُوذَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: فَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: بيَّنا لَهُمُ الْقَوْلَ، وَقَالَ قَتَادَةُ، يَقُولُ تَعَالَى: أَخْبَرَهُمْ كَيْفَ صُنِعَ بِمَنْ مَضَى وَكَيْفَ هُوَ صَانِعٌ {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.

- 52 - الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ - 53 - وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ - 54 - أُولَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ ويدرؤون بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ - 55 - وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْعُلَمَاءِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ

يَتْلُونَهُ حق تلاوة أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن مِّن أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لله}. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ فِي سَبْعِينَ مِنَ الْقِسِّيسِينَ بَعَثَهُمُ النَّجَاشِيُّ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ: {يسن وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} حَتَّى خَتَمَهَا، فَجَعَلُوا يَبْكُونَ وَأَسْلَمُوا، وَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ الْأُخْرَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} يَعْنِي مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ كُنَّا مُسْلِمِينَ أَيْ مُوَحِّدِينَ مُخْلِصِينَ لِلَّهِ مُسْتَجِيبِينَ لَهُ، قَالَ الله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ} أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ بِالثَّانِي، وَلِهَذَا قَالَ: {بِمَا صَبَرُواْ} أَيْ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ، فَإِنَّ تَجَشُّمَ مِثْلِ هَذَا شَدِيدٌ عَلَى النُّفُوسِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصحيح: "ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ ثُمَّ آمَنَ بِي، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حقَّ اللَّهِ وحقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَة فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أعتقها فتزوجها"، وفي الحديث: «مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا» (أخرجه الإمام أحمد عن القاسم بن أبي أمامة)، وقوله تعالى: {ويدرأون بالحسنة السيئة} أي لا يقابلون السيء بِمِثْلِهِ وَلَكِنْ يَعْفُونَ وَيَصْفَحُونَ، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أَيْ وَمِنَ الَّذِي رَزَقَهُمْ مِنَ الْحَلَالِ يُنْفِقُونَ على خلق الله في الزكاة المفروضة، وصدقات النفل والقربات، وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ} أَيْ لَا يُخَالِطُونَ أَهْلَهُ وَلَا يُعَاشِرُونَهُمْ، بَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً}، {وَقَالُوا لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أَيْ إِذَا سَفَّهَ عَلَيْهِمْ وكلمهم بما لا يليق أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَلَمْ يُقَابِلُوهُ بِمِثْلِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ، وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ إِلَّا كَلَامٌ طَيِّبٌ، وقالوا: {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أعمالنا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أَيْ لَا نُرِيدُ طَرِيقَ الْجَاهِلِينَ وَلَا نُحِبُّهَا. قَالَ مُحَمَّدُ بن إسحاق: ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ عِشْرُونَ رَجُلًا أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مِنَ النَّصَارَى حِينَ بَلَغَهُمْ خَبَرُهُ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَوَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِدِ فَجَلَسُوا إِلَيْهِ وَكَلَّمُوهُ وَسَاءَلُوهُ وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مُسَاءَلَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا أرادوا دعاهم إلى الله تعالى، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، ثُمَّ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ، فَلَمَّا قَامُوا عَنْهُ اعْتَرَضَهُمْ (أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ) فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُمْ: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ مِنْ رَكْبٍ، بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ لِتَأْتُوهُمْ بِخَبَرِ الرَّجُلِ، فَلَمْ تَطْمَئِنَّ مَجَالِسُكُمْ عِنْدَهُ، حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ وَصَدَّقْتُمُوهُ فِيمَا قَالَ، مَا نَعْلَمُ رَكْبًا أَحْمَقَ مِنْكُمْ، فَقَالُوا لَهُمْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نُجَاهِلُكُمْ، لَنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَلَكُمْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، قَالَ وَيُقَالُ: إِنَّ النَّفَرَ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نجران وفيهم نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ}، إِلَى قَوْلِهِ: {لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} قال: وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت؟ قَالَ: مَا زِلْتُ أَسْمَعُ مِنْ عُلَمَائِنَا أَنَّهُنَّ نزلن فِي (النَّجَاشِيِّ) وَأَصْحَابِهِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْآيَاتُ اللاتي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ورهباناً - إلى قوله - فاكتبنا مَعَ الشاهدين}.

- 56 - إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ - 57 - وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَدُنَّا وَلَكِنَّ

أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنك يا محمد {لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أَيْ لَيْسَ إِلَيْكَ ذَلِكَ، إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يشاء، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يشاء}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي (أَبِي طَالِبٍ) عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ يَحُوطُهُ وَيَنْصُرُهُ، وَيَقُومُ في صفه ويحبه حباً شديداً، فلما حضرته الوفاة دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإيمان والدخول في الإِسلام، فَاسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، ولله الحكمة التامة، روى الزهري عن الْمُسَيَّبُ بْنُ حَزَنٍ الْمَخْزُومِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عنده (أبا جهل بن هشام) و (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمية بْنِ الْمُغِيرَةِ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةٌ أحاج لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ»، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرضها عليه ويعودان عليه بتلك المقالة، حتى كان آخر ما قال: هو على ملة عبد الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «والله لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أنهَ عَنْكَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى" وَأَنْزَلَ فِي أَبِي طَالِبٍ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (أخرجه البخاري ومسلم)، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ أَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَمَّاهُ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي بِهَا قُرَيْشٌ يَقُولُونَ مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ إِلَّا جَزَعُ الْمَوْتِ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، لَا أَقُولُهَا إِلَّا لِأُقِرَّ بِهَا عينك، فأنزل الله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يشآء وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} (أخرجه مسلم والترمذي). وقوله تَعَالَى: {وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ} يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اعْتِذَارِ بَعْضِ الْكُفَّارِ فِي عَدَمِ اتِّبَاعِ الْهُدَى حَيْثُ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} أَيْ نَخْشَى إِنِ اتَّبَعْنَا مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَخَالَفْنَا مَنْ حَوْلَنَا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ الْمُشْرِكِينَ، أَنْ يَقْصِدُونَا بِالْأَذَى وَالْمُحَارَبَةِ، وَيَتَخَطَّفُونَا أَيْنَمَا كنا، قال اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً} يَعْنِي هَذَا الَّذِي اعْتَذَرُوا بِهِ كذب وباطل، لأن الله تعالى جَعَلَهُمْ فِي بَلَدٍ أَمِينٍ، وَحَرَمٍ مُعَظَّمٍ آمِنٍ مُنْذُ وُضِعَ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْحَرَمُ آمِنًا لهم فِي حَالِ كَفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ. وَلَا يَكُونُ آمِنًا وقد أسلموا وتابعوا الحق؟ وقوله تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ مِنْ سَائِرِ الثِّمَارِ مِمَّا حَوْلَهُ مِنَ الطَّائِفِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَتَاجِرُ وَالْأَمْتِعَةُ {رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّآ} أَيْ من عندنا {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يعلمون} ولهذا قالوا ما قالوا.

- 58 - وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ - 59 - وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وأهلها ظالمون

يقول تعالى معرّضاً بأهل مكة: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أَيْ طَغَتْ وَأَشِرَتْ، وَكَفَرَتْ نِعْمَةَ اللَّهِ فِيمَا أَنْعَمَ به عليهم من الأزراق، كما قال: {وَضَرَبَ الله مئلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلِّ مَكَانٍ - إلى قوله - فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظَالِمُونَ}، ولهذا قال تعالى: {فتلك مساكنهم لهم تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً} أَيْ دُثِرَتْ ديارهم فلا ترى إلاّ مساكنهم، وقوله تعالى: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} أَيْ رَجَعَتْ خَرَابًا لَيْسَ فيها أحد، ثم قال تعالى مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُهْلِكُ أَحَدًا ظالماً له، وإنما بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا} وَهِيَ مَكَّةُ {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} فيه دلالة على أن النبي الأمي رَسُولٌ إِلَى جَمِيعِ الْقُرَى مِنْ عَرَبٍ وَأَعْجَامٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حولها}، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إليكم جميعا}، وتمام الدليل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عذابا شديداً} الآية، فأخبر تعالى أَنَّهُ سَيُهْلِكُ كُلَّ قَرْيَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وقد قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} فَجَعَلَ تَعَالَى بِعْثَةَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ شَامِلَةً لِجَمِيعِ القرى لأنهم مَبْعُوثٌ إِلَى أُمِّهَا وَأَصْلِهَا الَّتِي تَرْجِعُ إِلَيْهَا، وثبت في الصحيحين عنه صلوات الله عليه وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ والأسود» ولهذا ختم به النبوة والرسالة، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَلَا رَسُولَ، بَلْ شَرْعُهُ بَاقٍ بَقَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} أَيْ أَصْلِهَا وَعَظِيمَتِهَا كَأُمَّهَاتِ الرَّسَاتِيقِ وَالْأَقَالِيمِ (حَكَاهُ الزمخشري وابن الجوزي وغيرهما وليس ببعيد كما قال ابن كثبير).

- 60 - وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ - 61 - أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ حَقَارَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ الزِّينَةِ الدَّنِيئَةِ وَالزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، مِنَ النعيم العظيم المقيم، كما قال تَعَالَى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} وقال: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ}، وَقَالَ: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ}، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والله ما الحياة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَغْمِسُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ» (أخرجه مسلم في صحيحه)، وقوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أَيْ أَفَلَا يَعْقِلُ مَنْ يُقَدِّمُ الدُّنْيَا عَلَى الآخرة، وقوله تَعَالَى: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ القيامة مِنَ المحضرين}، يقول تعالى: أَفَمَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ على صالح الأعمال من الثواب، كَمَنْ هُوَ كَافِرٌ مُكَذِّبٌ بِلِقَاءِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فَهُوَ مُمَتَّعٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَيَّامًا قَلَائِلَ {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}؟ قال مجاهد: مِّن المعذبين، وهذا كقوله تعالى: {وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}.

- 62 - وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ - 63 - قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ - 64 - وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ

يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ - 65 - وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ - 66 - فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ - 67 - فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عما يوبخ به الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}؟ يَعْنِي: أَيْنَ الْآلِهَةُ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهَا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟ وَهَذَا على سبيل التقريع والتهديد كما قال تعالى: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}، وَقَوْلُهُ: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} يَعْنِي الشَّيَاطِينِ وَالْمَرَدَةِ وَالدُّعَاةِ إِلَى الْكُفْرِ {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} فَشَهِدُوا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أغووهم فاتبعوهم، ثم تبرأوا من عبادتهم، قَالَ تَعَالَى: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضداً}، وقال تَعَالَى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كافرين}، وقال الخليل عليه السلام لقومه {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} الآية، وقال الله تعالى: {وإذا تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} الآية، وَلِهَذَا قَالَ: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ} أَيْ لِيُخَلِّصُوكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ كَمَا كُنْتُمْ تَرْجُونَ مِنْهُمْ في الدار الدنيا، {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ}، أَيْ وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى النَّارِ لَا مَحَالَةَ، وَقَوْلُهُ: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} أَيْ فودُّوا حِينَ عَايَنُوا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مصرفاً} وَقَوْلُهُ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} النداء الأول سؤال عن التوحيد، وهذا عن إِثْبَاتُ النُّبُوَّاتِ، مَاذَا كَانَ جَوَابُكُمْ لِلْمُرْسَلِينَ إِلَيْكُمْ، وَكَيْفَ كَانَ حَالُكُمْ مَعَهُمْ؟ وَهَذَا كَمَا يُسْأَلُ الْعَبْدُ فِي قَبْرِهِ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَقُولُ: هَاهَ هَاهَ لَا أَدْرِي، وَلِهَذَا لَا جَوَابَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ السُّكُوتِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا، وَلِهَذَا قال تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبياء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ} قال مُجَاهِدٌ: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ بِالْأَنْسَابِ، وَقَوْلُهُ: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أَيْ فِي الدُّنْيَا {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَ (عَسَى) مِنَ اللَّهِ مُوجِبَةٌ، فَإِنَّ هَذَا وَاقِعٌ بِفَضْلِ الله ومنته لا محالة.

- 68 - وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ - 69 - وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ - 70 - وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِيَارِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ مُنَازِعٌ وَلَا معقب، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ

مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} أَيْ مَا يَشَاءُ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَالْأُمُورُ كُلُّهَا خَيْرُهَا وَشَرُّهَا بِيَدِهِ وَمَرْجِعُهَا إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} نَفْيٌ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ}، وَلِهَذَا قَالَ: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ الَّتِي لَا تَخْلُقُ ولا تختار شيئاً، ثم قال تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أَيْ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ الضَّمَائِرُ، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ السَّرَائِرُ، كَمَا يَعْلَمُ مَا تُبْدِيهِ الظَّوَاهِرُ مِنْ سَائِرِ الْخَلَائِقِ {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}، وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أَيْ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَلَا مَعْبُودَ سِوَاهُ، كما لا رب سِوَاهُ، {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} أَيْ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ هُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهِ بعدله وَحِكْمَتِهِ، {وَلَهُ الْحُكْمُ} أَيِ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لَهُ لِقَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحِمَتِهِ، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي جميعكم يوم القيامة، فيجزي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ.

- 71 - قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ - 72 - قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ - 73 - وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ بِمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ اللَّذَيْنِ لَا قِوَامَ لَهُمْ بِدُونِهِمَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ اللَّيْلَ دَائِمًا عَلَيْهِمْ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَضَرَّ ذَلِكَ بِهِمْ، وَلَسَئِمَتْهُ النفوس، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ} أَيْ تُبْصِرُونَ بِهِ وَتَسْتَأْنِسُونَ بِسَبَبِهِ {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ}؟ ثم أخبر تعالى أنه لو جعل النهار {سَرْمَداً} أي دَائِمًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَضَرَّ ذَلِكَ بِهِمْ، وَلَتَعِبَتِ الْأَبْدَانُ وَكَلَّتْ مِنْ كَثْرَةِ الْحَرَكَاتِ والأشغال، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ}؟ أَيْ تَسْتَرِيحُونَ مِنْ حركاتكم وأشغالهم، {أَفلاَ تُبْصِرُونَ}؟ * وَمِن رَّحْمَتِهِ} أَيْ بِكُمْ {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أَيْ خَلَقَ هَذَا وَهَذَا {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} أَيْ فِي اللَّيْلِ، {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} (هذا النوع يسمى في علم البديع (اللف والنشر المرتب) حيث جمعهما في اللفظ (الليل والنهار) ثم أعاد ما يتعلق بهما الأول على الأول، والثاني على الثاني) أَيْ فِي النَّهَارِ بِالْأَسْفَارِ وَالتَّرْحَالِ وَالْحَرَكَاتِ وَالْأَشْغَالِ، وَقَوْلُهُ: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أَيْ تَشْكُرُونَ اللَّهَ بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ بِاللَّيْلِ اسْتَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ، أَوْ بِالنَّهَارِ اسْتَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ شكوراً} وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.

- 74 - وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ - 75 - وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وَهَذَا أَيْضًا نِدَاءٌ ثان على سبيل التوبيخ والتقريع لِمَنْ عَبَدَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، يُنَادِيهِمُ الرب تعالى على رؤوس -[23]- الْأَشْهَادِ فَيَقُولُ: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي في دار الدُّنْيَا، {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي رَسُولًا، {فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} أَيْ عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ شُرَكَاءَ {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} أَيْ لَا إله غيره فَلَمْ يَنْطِقُوا وَلَمْ يُحِيرُوا جَوَابًا، {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أَيْ ذَهَبُوا فَلَمْ يَنْفَعُوهُمْ.

- 76 - إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمٍ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إن الله لا يحب الْفَرِحِينَ - 77 - وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرض إن الله لا يحب المفسدين عن ابن عباس قال في قوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمٍ مُوسَى} قَالَ: كان ابن عمه (وهو قول إبراهيم النخعي وقَتَادَةُ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمْ)، وقال ابن جريج: هو قارون بن يصهب بْنِ قَاهِثَ، وَمُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ قَاهِثَ، وزعم محمد بن إسحاق إن قارون كان عم موسى بن عمران عليه السلام، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عمه والله أعلم، وقال قتادة: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى، وَكَانَ يُسَمَّى الْمُنَوَّرَ لِحُسْنِ صَوْتِهِ بِالتَّوْرَاةِ، وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ نَافَقَ كَمَا نَافَقَ السَّامِرِيُّ، فَأَهْلَكَهُ البغي لكثرة ماله، وقوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز} أي الأموال {مَآ إن مفاتحه لتنوأ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ} أَيْ لَيُثْقِلُ حَمْلُهَا الفِئام من الناس لكثرتها، قال الأعمش: كَانَتْ مَفَاتِيحُ كُنُوزِ قَارُونَ مِنْ جُلُودٍ، كُلُّ مِفْتَاحٍ عَلَى خِزَانَةٍ عَلَى حِدَّتِهِ، فَإِذَا رَكِبَ حُمِلَتْ عَلَى سِتِّينَ بَغْلًا أَغَرَّ مُحَجَّلًا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاتفرح إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أَيْ وَعَظَهُ فيما هو فيه صالحو قَوْمِهِ، فَقَالُوا عَلَى سَبِيلِ النُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ: لَا تَفْرَحْ بِمَا أَنْتَ فِيهِ، يَعْنُونَ لَا تَبْطَرْ بما أنت فيه من المال {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمَرِحِينَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْأَشِرِينَ الْبَطِرِينَ، الَّذِينَ لَا يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ، وَقَوْلُهُ: {وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا} أي اسْتَعْمِلْ مَا وَهَبَكَ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ الْجَزِيلِ وَالنِّعْمَةِ الطَّائِلَةِ فِي طَاعَةِ رَبِّكَ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ الَّتِي يَحْصُلُ لَكَ بِهَا الثواب في الدنيا والآخرة، {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أَيْ مِمَّا أَبَاحَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَنَاكَحِ، فَإِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزوجك عَلَيْكَ حَقًّا، فَآتِ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ، {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أَيْ أَحْسِنْ إِلَى خَلْقِهِ كَمَا أَحْسَنَ هُوَ إِلَيْكَ، {وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} أَيْ لَا تَكُنْ هِمَّتُكَ بِمَا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تُفْسِدَ بِهِ في الْأَرْضَ وَتُسِيءَ إِلَى خَلْقِ اللَّهِ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.

- 78 - قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَوَابِ قَارُونَ لِقَوْمِهِ حِينَ نَصَحُوهُ وَأَرْشَدُوهُ إِلَى الْخَيْرِ {قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}

أَيْ أَنَا لَا أَفْتَقِرُ إِلَى مَا تَقُولُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَعْطَانِي هَذَا الْمَالَ لِعِلْمِهِ بِأَنِّي أَسْتَحِقُّهُ وَلِمَحَبَّتِهِ لِي، فَتَقْدِيرُهُ إِنَّمَا أُعْطِيتُهُ لِعِلْمِ اللَّهِ فيَّ أَنِّي أَهْلٌ لَهُ، وهذا كقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أي على علم من الله بي، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَرَادَ {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أَيْ إِنَّهُ كَانَ يعني عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ فِي نَفْسِهِ عِلْمٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ قَلْبَ الأعيان لا يقدر أحد عليه إلا الله عز وجلَّ (ردّ ابن كثير على هذا القول وبيّن أن من ادعى أنه يُحيل ماهية ذات إلى ماهية أُخرى فإنما هو كذب وجهل وضلال، وزغل وتمويه على الناس ثم قال: فأما ما يجريه الله سبحانه مِنْ خَرْقِ الْعَوَائِدِ عَلَى يَدَيْ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ فَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ مُسْلِمٌ، وَلَا يَرُدُّهُ مؤمن، وقد أجاد رحمه الله في هذا المقام وأفاده)، وقال بعضهم: إن قارون كان يعرف الِاسْمَ الْأَعْظَمَ فَدَعَا اللَّهَ بِهِ فَتَمَوَّلَ بِسَبَبِهِ، وَالصَّحِيحُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ اعْتِنَاءِ اللَّهِ بِهِ فِيمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْمَالِ {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً}؟ أَيْ قَدْ كَانَ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ مَالًا، وَمَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ مَحَبَّةٍ مِنَّا لَهُ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ مَعَ ذَلِكَ بِكَفْرِهِمْ وَعَدَمِ شُكْرِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} أَيْ لِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ، قَالَ قَتَادَةُ {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} عَلَى خيرٍ عِنْدِي، وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَلَى عِلْمٍ أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَقَدْ أَجَادَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْإِمَامُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ {قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} قَالَ: لَوْلَا رِضَا اللَّهِ عَنِّي وَمَعْرِفَتُهُ بِفَضْلِي مَا أَعْطَانِي هَذَا الْمَالَ، وَقَرَأَ: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} الآية، وَهَكَذَا يَقُولُ مَنْ قلَّ عِلْمُهُ إِذَا رَأَى من وسع الله عليه، لَوْلَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ لَمَا أُعْطِيَ.

- 79 - فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ - 80 - وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَارُونَ إِنَّهُ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى قَوْمِهِ، فِي زينة عظيمة وتجمل باهر، فَلَمَّا رَآهُ مَنْ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَيَمِيلُ إلى زخارفها وَزِينَتِهَا، تَمَنَّوْا أَنْ لَوْ كَانَ لَهُمْ مِثْلُ الَّذِي أُعْطِيَ {قَالُوا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أَيْ ذُو حَظٍّ وَافِرٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَلَمَّا سَمِعَ مَقَالَتَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ النَّافِعِ قَالُوا لَهُمْ {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أَيْ جَزَاءُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا تَرَوْنَ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خطر على قلب بشر واقرأوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} "، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ} قَالَ السُّدِّيُّ: ولا يُلَقّى الْجَنَّةَ إِلَّا الصَّابِرُونَ، كَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ من تمام كلام الذين أُوتُواْ العلم، وقال ابن جرير: ولا يُلَقَّى هَذِهِ الْكَلِمَةَ إِلَّا الصَّابِرُونَ عَنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا الرَّاغِبُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَكَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مَقْطُوعًا مِنْ كَلَامِ أُولَئِكَ وَجَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ وَإِخْبَارِهِ بِذَلِكَ.

- 81 - فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ

- 82 - وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عباده وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى اخْتِيَالَ قَارُونَ فِي زِينَتِهِ وَفَخْرَهُ عَلَى قَوْمِهِ وَبَغْيَهُ عَلَيْهِمْ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ خَسَفَ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عند الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: بينما رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ إِذْ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة" وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل ممن كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَ فِي بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ يَخْتَالُ فِيهِمَا أَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ فَإِنَّهُ لَيَتَجَلْجَلُ فيها إلى يوم القيامة». وقد ذكر أن هلاك قارون كان من دعوة موسى نبي الله عليه السلام، وَقِيلَ: إِنَّ قَارُونَ لَمَّا خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ في زيتته تِلْكَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى الْبِغَالِ الشُّهْبِ وَعَلَيْهِ وعلى خدمه ثياب الأرجوان المصبغة، فمر في محفله ذَلِكَ عَلَى مَجْلِسِ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، فَلَمَّا رَأَى الناس قارون انصرفت وجوههم نحوه يَنْظُرُونَ إِلَى مَا هُوَ فِيهِ، فَدَعَاهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا مُوسَى أَمَا لَئِنْ كُنْتَ فُضِّلْتَ عَلَيَّ بِالنُّبُوَّةِ فَلَقَدْ فُضِّلْتُ عَلَيْكَ بِالدُّنْيَا، فاستوت بهم الأرض، وعن ابن عباس قَالَ: خُسِفَ بِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُخْسَفُ بِهِمْ كُلَّ يوم قامة يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة، وقوله تعالى: {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} أَيْ مَآ أغنى عَنْهُ ماله ولا جمعه ولا خدمه وحشمه، وَلَا دَفَعُوا عَنْهُ نِقْمَةَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ وَنَكَالَهُ، ولا كان هو نفسه منتصراً لنفسه فلا ناصر له من نفسه ولا غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالأمس} أي الذين لما رأوه في زينتهك {قَالُوا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} فَلَمَّا خُسِفَ بِهِ أَصْبَحُوا يَقُولُونَ {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} أَيْ لَيْسَ الْمَالُ بدالٍّ عَلَى رِضَا اللَّهِ عَنْ صَاحِبِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيُضَيِّقُ وَيُوَسِّعُ، وَيَخْفِضُ ويرفع، وَهَذَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الْمَالَ مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الإِيمان إِلَّا مَنْ يُحِبُّ»، {لَوْلَا أَن منَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} أَيْ لَوْلَا لُطْفُ اللَّهِ بِنَا وَإِحْسَانُهُ إِلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا كَمَا خَسَفَ بِهِ لِأَنَّا وَدِدْنَا أَنْ نَكُونَ مَثَلَهُ، {وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} يَعْنُونَ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا ولا يفلح الكافرون عِنْدَ اللَّهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الآخرة، وقد اختلف في معنى قوله ههنا {ويكأن} فقال بعضهم: معناه ويلك اعلم أن، ولكن خفف فَقِيلَ وَيْكَ، وَدَلَّ فَتْحُ أَنَّ عَلَى حَذْفِ اعْلَمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعَّفَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَوِيٌّ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا كتابتها في المصاحف متصلة ويكأن، وَالْكِتَابَةُ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ اصْطِلَاحِيٌّ وَالْمَرْجِعُ إِلَى اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا {وَيْكَأَنَّ} أَيْ أَلَمْ تَرَ أَنَّ، قَالَهُ قَتَادَةُ: وَقِيلَ مَعْنَاهَا وَيْ كَأَنَّ فَفَصَلَهَا، وَجَعَلَ حَرْفَ وَيْ لِلتَّعَجُّبِ أو للتنبيه، وكأن بمعنى أظن وأحتسب. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَقْوَى الْأَقْوَالِ فِي هَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ إِنَّهَا بِمَعْنَى أَلَمْ تَرَ أَنَّ، والله أعلم.

- 83 - تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ - 84 - مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَنَعِيمَهَا الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، جَعَلَهَا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَوَاضِعِينَ، الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ {عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} أَيْ تَرَفُّعًا عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَتَعَاظُمًا عليهم وتجبراً بهم ولا فساداً فيهم، قَالَ عِكْرِمَةُ: الْعُلُوُّ: التَّجَبُّرُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: العلو البغي، وقال سفيان الثوري: الْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ التَّكَبُّرُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْفَسَادُ أخذ المال بغير حق، وقال ابن جرير {لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ} تَعَظُّمًا وَتَجَبُّرًا، {وَلاَ فَسَاداً} عملاً بالمعاصي. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، ولا يبغي أحد على أحد» وأما أَحَبَّ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ التَّجَمُّلِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَحَبُّ أَنْ يَكُونَ رِدَائِي حَسَنًا وَنَعْلِي حَسَنَةً أَفَمِنَ الْكِبَرِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «لَا إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ»، وَقَالَ تعالى: {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} أَيْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ حَسَنَةِ الْعَبْدِ فَكَيْفَ وَاللَّهُ يُضَاعِفُهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وهذا مَقَامُ الْفَضْلِ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كنتم تعملون} وهذا مقام الفضل والعدل.

- 85 - إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ - 86 - وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِلْكَافِرِينَ - 87 - وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - 88 - وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِبَلَاغِ الرِّسَالَةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ، وَمُخْبِرًا لَهُ بِأَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَى مَعَادٍ وَهُوَ يَوْمُ القيامة فسأله عَمَّا اسْتَرْعَاهُ مِنْ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {إن الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن} أَيِ افْتَرَضَ عَلَيْكَ أَدَاءَهُ إِلَى النَّاسِ {لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أَيْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيَسْأَلُكَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين}، وقال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ} وقال: {وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء}. وقال ابن عباس: {لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} يَقُولُ: لَرَادُّكَ إِلَى الْجَنَّةِ ثم سائلك عن القرآن، وقال مجاهد: يحييك يوم القيامة، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَيْ وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ معاداً فيبعثه اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا قال البخاري في التفسير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قَالَ: إلى مكة، وهكذا رواه الْعَوْفيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أَيْ لَرَادُّكَ إِلَى مَكَّةَ كَمَا أَخْرَجَكَ مِنْهَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ}: إِلَى مَوْلِدِكَ بِمَكَّةَ، وعن الضَّحَّاكِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ فَبَلَغَ الْجُحْفَةَ اشْتَاقَ إِلَى مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} إِلَى مَكَّةَ، وَهَذَا مِنْ كَلَامِ الضَّحَّاكِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعُ السُّورَةِ مكياً، والله أعلم. وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ ذَلِكَ تَارَةً بِرُجُوعِهِ إِلَى مَكَّةَ وَهُوَ الْفَتْحُ الَّذِي هُوَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ أمارة على اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم، كما فسر ابن عباس سورة {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} أَنَّهُ أَجَلُ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعِيَ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَارَةً أُخْرَى قَوْلَهُ: {لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} بِالْمَوْتِ، وَتَارَةً بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي هُوَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتَارَةً بِالْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ جَزَاؤُهُ وَمَصِيرُهُ عَلَى أَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّهِ، وإبلاغها إلى الثقلين الإنس والجن، وَلِأَنَّهُ أَكْمَلُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَفْصَحُ خَلْقِ اللَّهِ وأشرق خلق الله على الإِطلاق، وقوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أَيْ قُلْ لِمَنْ خَالَفَكَ وَكَذَّبَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ قَوْمِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ قُلْ: رُبِّي أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِي مِنْكُمْ وَمِنِّي، وَسَتَعْلَمُونَ لِمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ وَلِمَنْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُذَكِّرًا لِنَبِيِّهِ نِعْمَتَهُ الْعَظِيمَةَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعِبَادِ إِذْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} أَيْ مَا كُنْتَ تَظُنُّ قَبْلَ إِنْزَالِ الوحي إليك أن الوحي ينزل عليك، {ولكن رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أي إنما أنزل الْوَحْيُ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ رَحْمَتِهِ بِكَ وَبِالْعِبَادِ بِسَبَبِكَ، فَإِذَا مَنَحَكَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً} أي معيناً {لِّلْكَافِرِينَ} وَلَكِنْ فَارِقْهُمْ وَنَابِذْهُمْ وَخَالِفْهُمْ، {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} أَيْ لَا تَتَأَثَّرْ لِمُخَالَفَتِهِمْ لَكَ وَصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ طريقك، فَإِنَّ اللَّهَ معلٍ كَلِمَتَكَ، وَمُؤَيِّدٌ دِينَكَ، وَمُظْهِرٌ ما أرسلك بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} أَيْ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. وقوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إله إلا هُوَ} أي لا يليق الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَلَا تَنْبَغِي الْإِلَهِيَّةُ إِلَّا لعظمته، وقوله: {كل شيء إِلَّا وَجْهَهُ} إخبارٌ بِأَنَّهُ الدَّائِمُ الْبَاقِي الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي تَمُوتُ الْخَلَائِقُ وَلَا يَمُوتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله هنهنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ وَجْهَهُ} أَيْ إِلَّا إِيَّاهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصحيح: «أصدق كلمة قالها الشاعر لَبِيَدٍ * أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ باطل *» (أخرجه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} أَيْ إِلَّا مَا أُرِيدَ به وجهه، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُنَافِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ كُلِّ الْأَعْمَالِ بِأَنَّهَا بَاطِلَةٌ، إلاّ ما أريد به وجه الله تعالى مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُطَابِقَةِ لِلشَّرِيعَةِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مقتضاه أن كل الذوات فانية وزائلة إلاّ ذاته تعالى وتقدس، فَإِنَّهُ الْأَوَّلُ الْآخِرُ الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شيء وبعد كل شيء، وكان ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَعَاهَدَ قَلْبَهُ يَأْتِي الْخَرِبَةَ فَيَقِفُ عَلَى بَابِهَا فَيُنَادِي بِصَوْتٍ حَزِينٍ: فَيَقُولُ أَيْنَ أَهْلُكِ؟ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (أخرجه ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ)، وَقَوْلُهُ: {لَهُ الْحُكْمُ} أَيِ الْمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ يَوْمَ مَعَادِكُمْ فيجزيكم بِأَعْمَالِكُمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ.

29 - سورة العنكبوت

- 29 - سورة العنكبوت

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - 1 - الم - 2 - أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ - 3 - وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ - 4 - أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ في أول سورة البقرة، وقوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يفتنون} (أخرج ابن أبي حاتم: أن {آلم أحسب ... } نزلت في أناس كانوا بمكة، أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب الرسول عليه السلام بالمدينة أن لا يقبل منهم حتى يهاجروا، فخرجوا إلى المدينة فردهم المشركون، وأخرج ابن سعد: أنها نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله، كما في اللباب) اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، بِحَسْبِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ له فِي الْبَلَاءِ» وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الذين مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين}، وَقَالَ فِي الْبَقَرَةِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}، ولهذا قال ههنا: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} أَيِ الَّذِينَ صَدَقُوا في دعوى الإِيمان، مِمَّنْ هُوَ كَاذِبٌ فِي قَوْلِهِ وَدَعْوَاهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يكن كَيْفَ يَكُونُ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَئِمَّةِ السنة والجماعة، وبهذا يقول ابن عباس وغيره في مثل قوله: {إِلاَّ لنعلم} إلاّ لنرى، وذلك لأن الرُّؤْيَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ وَالْعِلْمُ أَعَمُّ مِنَ الرؤية فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود، وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الذين يعلون السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أَيْ لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِيمَانِ أَنَّهُمْ يَتَخَلَّصُونَ مِنْ هَذِهِ الْفِتْنَةِ وَالِامْتِحَانِ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ مَا هُوَ

أَغْلَظُ مِنْ هَذَا وَأَطَمُّ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا} أَيْ يفوتونا {ساء يَحْكُمُونَ} أَيْ بِئْسَ مَا يَظُنُّونَ.

- 5 - مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - 6 - وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ - 7 - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {مَّنْ كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ} أَيْ الدار الآخرة وعمل الصالحات، ورجا مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُحَقِّقُ لَهُ رَجَاءَهُ، وَيُوَفِّيهِ عَمَلَهُ كَامِلًا موفراً، فَإِنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ سَمِيعُ الدعاء، بصير بكل الكائنات. ولهذا قال تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ وَهُوَ السميع العليم}، وقوله تعالى: {ومن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ}، كقوله تعالى: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} أَيْ مَنْ عَمِلَ صَالَحَا فَإِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ عمله على نفسه، فإن الله تعالى غني عن الْعِبَادِ وَلَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رجل منهم، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ الرَّجُلَ لِيُجَاهِدُ وَمَا ضَرَبَ يَوْمًا من الدهر بسيف، ثم أخبر تعالى أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم، ومع بره وإحسانه بِهِمْ، يُجَازِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُ يكفَّر عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ، فَيَقْبَلُ الْقَلِيلَ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا الْوَاحِدَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَيَجْزِي عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا أَوْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}، وقال ههنا: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

- 8 - وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ - 9 - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادُهُ بالإِحسان إِلَى الْوَالِدَيْنِ، بَعْدَ الْحَثِّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِتَوْحِيدِهِ، فَإِنَّ الْوَالِدَيْنِ هَمَّا سَبَبُ وُجُودِ الإِنسان، وَلَهُمَا عَلَيْهِ غَايَةُ الإِحسان، فَالْوَالِدُ بالإِنفاق وَالْوَالِدَةُ بالإِشفاق، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إحساناً}، وَمَعَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ والإِحسان إِلَيْهِمَا فِي مُقَابَلَةِ إِحسانهما الْمُتَقَدِّمِ، قَالَ {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تطعهمآ} أي وإِن حرصا أَنْ تُتَابِعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا إِذَا كَانَا مُشْرِكَيْنِ، فلا تُطِعْهُمَا فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مَرْجِعَكُمْ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَجْزِيكَ بِإِحْسَانِكَ إِلَيْهِمَا وَصَبْرِكَ عَلَى دِينِكَ، وَأَحْشُرُكَ مَعَ الصَّالِحِينَ لَا فِي زُمْرَةِ وَالِدَيْكَ، ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ}. عن مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ قال: نزلت فيَّ أربع آيات فذكر قصته، وقال، قالت أم سعد: أليس الله قد أمرك بِالْبَرِّ؟ وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا وَلَا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ، قَالَ: فَكَانُوا إذا أرادوا أن يطعموها

شجروا (فتحوا فمها) فاها، فنزلت: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً، وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تطعهما} (أخرجه الترمذي في باب التفسير في قصة (سعد بن أبي وقاص) مع أمه، ورواه أيضاً مسلم والإمام أحمد وأبو داود والنسائي) الآية.

- 10 - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إنا كنا معكم أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ - 11 - وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُ تَعَالَى مخبراً عن صفات المكذبين، الذين يدعون الإِيمان بألسنتم وَلَمْ يَثْبُتِ الإِيمان فِي قُلُوبِهِمْ، بِأَنَّهُمْ إِذَا جاءتهم محنة وفتنة فِي الدُّنْيَا، اعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ فَارْتَدُّوا عَنِ الإِسلام، وَلِهَذَا قال تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي فِتْنَتَهُ أَنْ يَرْتَدَّ عَنْ دِينِهِ إِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ - إلى قوله - ذلك هُوَ الضلال البعيد}، ثم قال عزَّ وجلَّ: {وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أَيْ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ قَرِيبٌ مِنْ رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ وَفَتْحٌ وَمَغَانِمُ، لَيَقُولُنَّ هؤلاء لكم إنا كنا معكم أي إِخْوَانَكُمْ فِي الدِّينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ} الآية، وقوله تعالىمخبراً عنهم ههنا: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كنا معكم}، ثم قال الله تعالى: {أوليس الله بأعلم فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} أَيْ أَوَلَيِسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَمَا تُكِنُّهُ ضَمَائِرُهُمْ، وَإِنْ أظهروا لكم الموافقة؟ وقوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} أَيْ وليختبرن الله الناس بالضراء والسراء، ليتميز من يطيع الله في الضراء والسراء، ومن يُطِيعُهُ فِي حَظِّ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أخبارهم}.

- 12 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ - 13 - وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الْهُدَى: ارْجِعُوا عَنْ دِينِكُمْ إِلَى دِينِنَا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَنَا {وَلْنَحْمِلْ خطاياكم} أي آثامكم إِن كَانَتْ لَكُمُ آثام، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: افْعَلْ هَذَا وَخَطِيئَتُكَ فِي رقبتي، قال الله تعالى تكذيباً لهم: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خطاياكم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أَيْ فِيمَا قَالُوهُ إنهم يحتملون عَنْ أُولَئِكَ خَطَايَاهُمْ. فَإِنَّهُ لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ وزر أَحَدٌ. قال الله تَعَالَى: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ}، وقوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} إِخْبَارٌ عَنِ الدعاة إلى الكفر والضلالة، أنهم يحملون يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزاراً أخر،

بسبب ما أَضَلُّوا مِنَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أَوْزَارِ أُولَئِكَ شَيْئًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية، وَفِي الصَّحِيحِ: «مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»، وَفِي الصَّحِيحِ: «مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سن القتل». وقوله تعالى: {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أَيْ يكذبون ويختلفون من البهتان. وفي الحديث: "إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْزِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فيقول: وعزتي وجلالي لَا يَجُوزُنِي الْيَوْمَ ظُلْمٌ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ فيقول: أين فلان بن فُلَانٍ؟ فَيَأْتِي يَتْبَعُهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ، فيشخص الناس أبصارهم، حتى يقوم بين يدي الرحمن عزَّ وجلَّ، ثم يأمر المنادي مَنْ كَانَتْ لَهُ تِبَاعَةٌ أَوْ ظُلَامَةٌ عِنْدَ بن فلان بن فُلَانٍ فَهَلُمَّ، فَيُقْبِلُونَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا قِيَامًا بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ، فَيَقُولُ الرَّحْمَنُ: اقْضُوا عَنْ عَبْدِي، فيقولون: كيف نقضي عنه؟ فيقول: خُذُوا لَهُمْ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَلَا يَزَالُونَ يَأْخُذُونَ منها حتى لا يبقى منها حَسَنَةٌ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ الظُّلَامَاتِ، فَيَقُولُ: اقْضُوا عَنْ عَبْدِي، فَيَقُولُونَ: لَمْ يَبْقَ لَهُ حسنة. فيقول: خذوا من سيئاتهم فاحملواها عليه" ثم نزع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وليحملن أثقالهم مع أثقالهم وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون} (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي أمامة مرفوعاً) وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ: «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، وقد ظلم هذا وأخذ مال هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا لم تبق له حسنة أخذ من سيئاتهم فطرح عليه».

- 14 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ - 15 - فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ هَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ ورسوله صلى الله عليه وسلم، يُخْبِرُهُ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مَكَثَ فِي قَوْمِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تعالى لَيْلًا وَنَهَارًا وَسِرًّا وَجِهَارًا، وَمَعَ هَذَا مَا زادهم ذلك إلاّ فراراً، وَمَا آمَنُ مَعَهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، وَلِهَذَا قال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ مَا نَجَعَ فِيهِمُ الْبَلَاغُ والإِنذار، فَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لَا تَأْسَفْ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِكَ مِنْ قَوْمِكَ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَيَضِلُّ مَنْ يشاء، وبيده الأمر وإليه ترجع الأمور وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُكَ وَيَنْصُرُكَ وَيُؤَيِّدُكَ، وَيُذِلُّ عدوك ويكبتهم ويجعلهم أسفل السافلين. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بُعِثَ نُوحٌ وَهُوَ لِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ وَلَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ سِتِّينَ عاماً حتى كثر الناس وفشوا، وقوله تعالى: {فأنجينا وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا بِنُوحٍ عَلَيْهِ السلام، وقد تقدم تفسيره بما أغنى عن إعادته، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} أَيْ وَجَعَلْنَا تِلْكَ السَّفِينَةَ بَاقِيَةً، إِمَّا عَيْنُهَا - كَمَا قَالَ قَتَادَةُ - إِنَّهَا بَقِيَتْ إِلَى أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى جَبَلِ الْجُودِيِّ، أَوْ نَوْعُهَا جَعَلَهُ لِلنَّاسِ تَذْكِرَةً لِنِعَمِهِ عَلَى الخلق كيف أنجاهم مِنَ الطُّوفَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ

فِي الفلك المشحون}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}، وقال ههنا: {فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ}.

- 16 - وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - 17 - إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ - 18 - وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَخَلِيلِهِ (إِبْرَاهِيمَ) إِمَامِ الْحُنَفَاءِ، أَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، والإِخلاص لَهُ فِي التَّقْوَى، وَطَلَبِ الرزق منه وحده لا شريك له، وتوحيد فِي الشُّكْرِ فَإِنَّهُ الْمَشْكُورُ عَلَى النِّعَمِ لَا مُسْدِي لَهَا غَيْرُهُ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} أَيْ أَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ وَالْخَوْفَ {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ حَصَلَ لَكُمُ الْخَيْرُ فِي الدُّنْيَا والآخرة، ثم أخبر تعالى أن الأصنام التي يعبدونها لا تضر ولا تنفع، وإنما هي مخلوقة مثلكم، قال ابن عباس: {وتخلفون إفكاً} أي تنحونها أصناماً (وبه قال مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وهو الأظهر)، وهي لا تملك لكم رزقاً {فاتبغوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ}، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْحَصْرِ، كقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وَلِهَذَا قَالَ: {فَابْتَغُوا} أَيْ فَاطْلُبُوا {عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} أَيْ لَا عِنْدَ غَيْرِهِ فَإِنَّ غَيْرَهُ لا يملك شيئاً، {واعبدوا واشكروا لَهُ} أي كلوا من رزقه واعبدوا وَحْدَهُ وَاشْكُرُوا لَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجَازِي كل عامل بعمله. وقوله تعالى: {وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} أَيْ فَبَلَّغَكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ فِي مُخَالَفَةِ الرُّسُلِ، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} يَعْنِي إِنَّمَا عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُبَلِّغَكُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ، وَاللَّهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، فَاحْرِصُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ السعداء، قال قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ}، قَالَ: يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى الله عليه وسلم، وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ كُلَّ هَذَا مِنْ كلام إبراهيم الخليل عليه السلام، يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ لِإِثْبَاتِ الْمَعَادِ لِقَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

- 19 - أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ - 20 - قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 21 - يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ - 22 - وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ - 23 - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ أَرْشَدَهُمْ إِلَى إِثْبَاتِ الْمَعَادِ الَّذِي يُنْكِرُونَهُ، بِمَا يُشَاهِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، ثُمَّ وُجِدُوا وَصَارُوا أُنَاسًا سَامِعِينَ مُبْصِرِينَ، فَالَّذِي بَدَأَ هَذَا قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ، فَإِنَّهُ سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لَدَيْهِ، ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمَا فِي الْآفَاقِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُشَاهَدَةِ مِنْ خلق الله

الأشياء: السماوات وما فيها من الكواكب المنيرة، وَالْأَرَضِينَ وَمَا فِيهَا مِنْ مِهَادٍ وَجِبَالٍ، وَأَوْدِيَةٍ وبراري وَقِفَارٍ، وَأَشْجَارٍ وَأَنْهَارٍ، وَثِمَارٍ وَبِحَارٍ، كُلُّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى حُدُوثِهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَعَلَى وُجُودِ صَانِعِهَا الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ}، كقوله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق ثُمَّ الله يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وَهَذَا الْمَقَامُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق}، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ؟ * أَمْ خَلَقُواْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لاَّ يوقنون}، وقوله تَعَالَى: {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ} أَيْ هُوَ الْحَاكِمُ الْمُتَصَرِّفُ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، فَلَهُ الخلق والأمر لِأَنَّهُ الْمَالِكُ الَّذِي لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، كما جاء في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لهم» (أخرجه أصحاب السنن)، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وإليه تقبلون} أي ترجعون يوم القيامة، وقوله تعالى: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} أَيْ لَا يُعْجِزُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، بَلْ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، فكل شَيْءٍ خَائِفٌ مِنْهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ وَهُوَ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَآئِهِ} أَيْ جَحَدُوهَا وَكَفَرُوا بِالْمَعَادِ، {أُولَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي} أَيْ لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا، {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ مُوجِعٌ شديد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

- 24 - فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إن في ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ - 25 - وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ ومكابرتهم، ودفعهم الحق بالباطل، إنهم مَا كَانَ لَهُمْ جَوَابٌ بَعْدَ مَقَالَةِ إِبْرَاهِيمَ هَذِهِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْهُدَى وَالْبَيَانِ {إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ}، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَامَ عَلَيْهِمُ الْبُرْهَانُ وَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، فَعَدَلُوا إِلَى استعمال جاههم وقوة ملكهم، {فقالوا ابنوا بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم} وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حَشَدُوا فِي جَمْعِ أَحِطَابٍ عَظِيمَةٍ مدة طويلة، ثم أضرموا فيها النار، ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَكَتَّفُوهُ وَأَلْقَوْهُ فِي كفة المنجنيق، ثم قذفوه فَجَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَخَرَجَ مِنْهَا سالماً بعدما مَكَثَ فِيهَا أَيَّامًا، وَلِهَذَا وَأَمْثَالِهِ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا، فَإِنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلرَّحْمَنِ، وَجَسَدَهُ للنيران، وَلِهَذَا اجْتَمَعَ عَلَى مَحَبَّتِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وقوله تعالى: {فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار} أي سلمه مِنْهَا بِأَنْ جَعَلَهَا عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، {إِنَّ في ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، يَقُولُ لِقَوْمِهِ مُقَرِّعًا لَهُمْ وَمُوَبَّخًا عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ، إنما اتخذتم هذه لتجتمعوا على عباداتها في الدنيا صداقة وألفة منكم {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يَنْعَكِسُ هَذَا الْحَالُ فَتَبْقَى هذه الصداقة والمودة بغضاً وشنآناً، ثم {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ}

أَيْ تَتَجَاحَدُونَ مَا كَانَ بَيْنَكُمْ، {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} أَيْ يَلْعَنُ الْأَتْبَاعُ الْمَتْبُوعِينَ، وَالْمَتْبُوعُونَ الْأَتْبَاعَ، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أختها}، وقال ههنا: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار} الآية، أي مصيركم وَمَرْجِعُكُمْ بَعْدَ عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ إِلَى النَّارِ، وَمَا لَكُمْ من ناصر ينصركم، ولا منفذ ينقذكم من عذاب الله.

- 26 - فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - 27 - وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ آمَنُ لَهُ {لُوطٌ} يُقَالُ: إِنَّهُ ابْنُ أخي إبراهيم، وهو لوط بن هاران بن آزر، وَهَاجَرَ مَعَهُ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، ثُمَّ أُرْسِلُ فِي حَيَاةِ الْخَلِيلِ إِلَى أَهْلِ سَدُومَ وَإِقْلِيمِهَا، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا تَقَدَّمَ وَمَا سَيَأْتِي، وقوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} يَحْتَمِلُ عَوْدَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ} عَلَى (لُوطٍ) لِأَنَّهُ هو أقرب المذكورين، ويحتمل عوده إلى (إبراهيم) وَهُوَ الْمُكَنَّى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} أَيْ مِنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ اخْتَارَ الْمُهَاجَرَةَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمُ، ابْتِغَاءَ إِظْهَارِ الدِّينِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهُ هُوَ العزيز الحكيم} أَيْ لَهُ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ {الْحَكِيمُ} في أقواله وأفعاله، وَقَالَ قَتَادَةُ: هَاجَرَا جَمِيعًا مِنْ كَوْثَى وَهِيَ من سواد الكوفة إلى الشام، وروى الإمام أحمد عَنْ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَتْنَا بَيْعَةُ (يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ) قَدِمْتُ الشَّامَ، فَأُخْبِرْتُ بِمَقَامٍ يَقُومُهُ (نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ) فَجِئْتُهُ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ، فَانْتَبَذَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ، فإذا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَلَمَّا رَآهُ نَوْفٌ أَمْسَكَ عَنِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّهَا سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ فَيَنْحَازُ النَّاسُ إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ إِلَّا شَرَارُ أَهْلِهَا، فَتَلْفِظُهُمْ أرضهم تقْذَرُهُمْ نَفْسُ الرَّحْمَنِ، تَحْشُرُهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، فَتَبِيتُ مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا وَتَقِيلُ مَعَهُمْ إذا قالوا، وتأكل من تخلف منهم». قَالَ: وَسَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَيَخْرُجُ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي مِنْ قبل المشرق، يقرأون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ قرن قطع، كلما خرج قَرْنٌ قُطِعَ - حَتَّى عَدَّهَا زِيَادَةً عَلَى عِشْرِينَ مرة - حتى يخرج الدجال في بقيتهم» (أخرجه الإمام أحمد، ورواه أبو داود في سننه في كتاب الجهاد). وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ويعقوب}، كقوله: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ، وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً} أي لَمَّا فَارَقَ قَوْمَهُ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ بِوُجُودِ وَلَدٍ صَالِحٍ نَبِيٍّ وَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ صَالِحٌ نبي في حياة جده، وكذلك قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} أي زيادة، كما قال تَعَالَى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} أَيْ يولد لِهَذَا الْوَلَدِ وَلَدٌ فِي حَيَاتِكُمَا تَقَرُّ بِهِ أعينكما، فأما ما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ويعقوب} قَالَ: هُمَا وَلَدَا إِبْرَاهِيمَ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ وَلَدَ الولد بمنزلة الولد، فإن هذا الأمر لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى مَنْ هُوَ دُونَ ابن عباس، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} هَذِهِ خِلْعَةٌ سَنِيَّةٌ عَظِيمَةٌ مَعَ اتِّخَاذِ اللَّهِ إِيَّاهُ خَلِيلًا وَجَعْلِهِ لِلنَّاسِ إِمَامًا أَنْ جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، فَلَمْ يُوجَدْ نَبِيٌّ بَعْدَ

إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا وَهُوَ مِنْ سُلَالَتِهِ، فَجَمِيعُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سُلَالَةِ (يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ عيسى بن مريم، فقام مبشراً بالنبي العربي سيد وَلَدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ، مِنْ سُلَالَةِ (إسماعيل بن إبراهيم) عليهما السَّلَامُ، وَلَمْ يُوجَدْ نَبِيٌّ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ سواه عليه أفضل الصلاة والسلام، وَقَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} أَيْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا الْمَوْصُولَةِ بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَكَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا الرِّزْقُ الْوَاسِعُ الْهَنِيُّ وَالْمَنْزِلُ الرَّحْبُ، وَالْمَوْرِدُ الْعَذْبُ، وَالزَّوْجَةُ الْحَسَنَةُ الصَّالِحَةُ، وَالثَّنَاءُ الجميل، والذكر الحسن وكل أَحَدٍ يُحِبُّهُ وَيَتَوَلَّاهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ مَعَ الْقِيَامِ بِطَاعَةِ اللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفَى} أَيْ قَامَ بِجَمِيعِ مَا أُمِرَ بِهِ وَكَمَّلَ طاعة ربه، ولهذا قال تعالى: {وآتينا أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}، وكما قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين - إلى قوله - وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين}.

- 28 - وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكَمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ - 29 - أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ - 30 - قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ (لُوطٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى قَوْمِهِ سُوءَ صَنِيعِهِمْ، وَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ قَبِيحِ الْأَعْمَالِ، في اتباعهم الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَسْبِقْهُمْ إِلَى هَذِهِ الفعلة أحد من نبي آدَمَ قَبْلَهُمْ، وَكَانُوا مَعَ هَذَا يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَيُكَذِّبُونَ رَسُولَهُ وَيُخَالِفُونَهُ وَيَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، أَيْ يَقِفُونَ فِي طَرِيقِ النَّاسِ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَهُمْ، {وَتَأْتُونَ في ناديهم الْمُنْكَرَ} أَيْ يَفْعَلُونَ مَا لَا يَلِيقُ مِنَ الأقوال فِي مَجَالِسِهِمُ الَّتِي يَجْتَمِعُونَ فِيهَا، لَا يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَمِنْ قائل: كانوا يأتون بعضهم فِي الْمَلَأِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَمِنْ قَائِلٍ: كَانُوا يتضارطون ويتضاحكون، روى الإمام أحمد عن أحمد عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى {وتأتون في ناديهم الْمُنْكَرَ} قَالَ: «يَحْذِفُونَ أَهْلَ الطَّرِيقِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه» (أخرجه أحمد وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ). وعن مجاهد {وَتَأْتُونَ في ناديهم المنكر} قال: الصفير ولعب الحمام وحل أزرار القباء، وقوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أن قال ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وهذا من كفرهم واستهزئهم وَعِنَادِهِمْ، وَلِهَذَا اسْتَنْصَرَ عَلَيْهِمْ نبيَّ اللَّهِ فَقَالَ: {رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}.

- 31 - وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ - 32 - قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ - 33 - وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ

- 34 - إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ - 35 - وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لِمَا اسْتَنْصَرَ (لوط) عليه السلام بالله عزَّ وجلَّ عَلَيْهِمْ بَعَثَ اللَّهُ لِنُصْرَتِهِ مَلَائِكَةً، فَمَرُّوا عَلَى (إبراهيم)، عليه السلام في هيئة أضياف، فجاءتهم بما ينبغي للضيف، فلما رأى إبراهيم أَنَّهُ لَا هِمَّةَ لَهُمْ إِلَى الطَّعَامِ نَكِرَهُمْ، وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، فَشَرَعُوا يُؤَانِسُونَهُ وَيُبَشِّرُونَهُ بِوُجُودِ وَلَدٍ صَالِحٍ مِنَ امْرَأَتِهِ سَارَّةَ، وَكَانَتْ حَاضِرَةً فَتَعَجَّبَتْ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سورة هود والحجر، فَلَمَّا جَاءَتْ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى وَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا لِهَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ أَخَذَ يُدَافِعُ لَعَلَّهُمْ يُنْظَرُونَ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، وَلَمَّا قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً، قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أَيْ مِنَ الْهَالِكِينَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُمَالِئُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وبغيهم، ثُمَّ سَارُوا مِنْ عِنْدِهِ فَدَخَلُوا عَلَى (لُوطٍ) في صورة شبان حِسَانٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ كَذَلِكَ {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} أي اغتم بِأَمْرِهِمْ إِنْ هُوَ أَضَافَهُمْ خَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يُضِفْهُمْ خَشِيَ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ، ولم يعلم بأمرهم إلاَّ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ {قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}، وَذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اقتلع قراهم من قرار الأرض ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ منضود، وَجَعَلَ اللَّهُ مَكَانَهَا بُحَيْرَةً خَبِيثَةً مُنْتِنَةً، وَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ، وَهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْمَعَادِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً} أَيْ وَاضِحَةً {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وبالليل أفلا تعقلون}؟

- 36 - وإلى مدين أخاهم شعيبا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ - 37 - فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (شُعَيْبٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَنْذَرَ قَوْمَهُ أَهْلَ مَدْيَنَ فَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يَخَافُوا بَأْسَ اللَّهِ وَنِقْمَتَهُ وَسَطْوَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} قال ابن جرير: معناه واخشوا اليوم الآخر، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر}، وقوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} نَهَاهُمْ عَنِ الْعَيْثِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَهُوَ السَّعْيُ فِيهَا وَالْبَغْيُ عَلَى أَهْلِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْقِصُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، وَيَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ، هَذَا مَعَ كَفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِرَجْفَةٍ عَظِيمَةٍ زَلْزَلَتْ عَلَيْهِمْ بِلَادَهُمْ، وَصَيْحَةٍ أَخْرَجَتِ الْقُلُوبَ مِنْ حَنَاجِرِهَا، وَعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ الَّذِي أَزْهَقَ الْأَرْوَاحَ مِنْ مُسْتَقَرِّهَا إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُمْ مَبْسُوطَةً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهُودٍ وَالشُّعَرَاءِ، وَقَوْلُهُ: {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} قَالَ قَتَادَةُ: مَيِّتِينَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَدْ أُلْقِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.

- 38 - وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وكانوا

مُسْتَبْصِرِينَ - 39 - وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ - 40 - فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يُظْلَمُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ كيف أبادهم وتنوع في عذابهم، وأخذهم بالانتقام منهم، فعاد قوم هود عليه السلام كانوا يَسْكُنُونَ (الْأَحْقَافَ) وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ بِلَادِ اليمن، وثمود قوم صالح كانوا يَسْكُنُونَ (الْحِجْرَ) قَرِيبًا مِنْ وَادِي الْقُرَى، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ مَسَاكِنَهُمَا جَيِّدًا وَتَمُرُّ عَلَيْهَا كَثِيرًا، وقارون صاحب الأموال الجزيلة والكنوز الثقيلة، وفرعون ووزيره (هامان) القبطيان الكافرون بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} أَيْ كَانَتْ عُقُوبَتُهُ بِمَا يُنَاسِبُهُ {فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} وَهُمْ عَادٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ فَجَاءَتْهُمْ رِيحٌ صَرْصَرٌ بَارِدَةٌ شَدِيدَةُ الْبَرْدِ، عاتية شديدة الهبوب، تحمل عليهم حصباء الأرض فتلقيها عَلَيْهِمْ، وَتَقْتَلِعُهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، فَتَرْفَعُ الرَّجُلَ مِنْهُمْ من الأرض إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، ثُمَّ تُنَكِّسُهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَتَشْدَخُهُ فَيَبْقَى بَدَنًا بِلَا رَأْسٍ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ، {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} وَهُمْ ثَمُودُ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَظَهَرَتْ لَهُمُ الدلالة على تِلْكَ النَّاقَةِ الَّتِي انْفَلَقَتْ عَنْهَا الصَّخْرَةُ مِثْلَ مَا سَأَلُوا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَمَعَ هَذَا مَا آمَنُوا بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى طُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَتَهَدَّدُوا نَبِيَّ اللَّهِ صَالِحًا وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، وَتَوَعَّدُوهُمْ بِأَنْ يُخْرِجُوهُمْ وَيَرْجُمُوهُمْ فَجَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَخَمَدَتِ الْأَصْوَاتَ مِنْهُمْ وَالْحَرَكَاتِ، {وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} وَهُوَ قَارُونُ الَّذِي طَغَى وَبَغَى وَعَتَا وَعَصَى الرب الأعلى، ومشى في الأرض مرحا وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، وَاخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ، فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} وهو فرعون ووزيره هامان وجنودهما عَنْ آخِرِهِمْ أُغْرِقُوا فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أَيْ فِيمَا فَعَلَ بِهِمْ، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أَيْ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ جَزَاءً وفاقاً بما كسبت أيديهم.

- 41 - مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ - 42 - إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - 43 - وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلَّا الْعَالِمُونَ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، يَرْجُونَ نَصْرَهُمْ وَرِزْقَهُمْ وَيَتَمَسَّكُونَ بِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فِي ضَعْفِهِ وَوَهَنِهِ، فَلَيْسَ فِي أَيْدِي هَؤُلَاءِ مِنْ آلِهَتِهِمْ إِلَّا كَمَنْ يَتَمَسَّكُ بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْدِي عَنْهُ شَيْئًا، فَلَوْ عَلِمُوا هَذَا الْحَالَ لَمَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ قَلْبُهُ لِلَّهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُحْسِنُ الْعَمَلَ فِي اتِّبَاعِ الشرع، فإنه متمسك بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا لِقُوَّتِهَا وَثَبَاتِهَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِمَنْ عَبَدَ غَيْرَهُ وَأَشْرَكَ بِهِ: إِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَيَعْلَمُ مَا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ وَسَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ

الْعَالِمُونَ} أَيْ وَمَا يَفْهَمُهَا وَيَتَدَبَّرُهَا إِلَّا الرَّاسِخُونَ في العلم المتضلعون منه: عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: مَا مَرَرْتُ بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا أَعْرِفُهَا إِلَّا أَحْزَنَنِي لِأَنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلَّا الْعَالِمُونَ} (أخرجه ابن أبي حاتم).

- 44 - خلق الله السماوات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ - 45 - اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ أَنَّهُ خلق السماوات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، يَعْنِي لَا عَلَى وَجْهِ الْعَبَثِ واللعب {لتجزى كل نفس بما تسعى}، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بالحسنى}، وقوله: تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ لَدَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى الْمُتَفَرِّدُ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْإِلَهِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَهُوَ قِرَاءَتُهُ وَإِبْلَاغُهُ لِلنَّاسِ، {وَأَقِمِ الصلاة إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفشحاء وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} يَعْنِي أَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ عَلَى تَرْكِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، أي مُوَاظَبَتَهَا تَحْمِلُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَ في الحديث عن ابن عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ تَزِدْهُ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بعداً». ذكر الآثار الواردة في ذلك روى ابن أبي حاتم عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ {إِنَّ الصلاة تنهى عن الفشحاء وَالْمُنْكَرِ}؟ قَالَ: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الفحشاء والمنكر فلا صلاة له»، وعن ابن عباس، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا» (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الطبراني بنحوه). وروى الحافظ أبو بكر البزار قَالَ، قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ، قال: «إنه سينهاه ما تقول» (أخرجه البزار والإمام أحمد في مسنده)، وَتَشْتَمِلُ الصَّلَاةُ أَيْضًا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الْأَكْبَرُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أَيْ أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} أي يعلم جميع أعمالكم وأقوالكم، وقال أبو العالية: إِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا ثَلَاثُ خِصَالٍ، فَكُلُّ صَلَاةٍ لَا يَكُونُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْخِلَالِ فَلَيْسَتْ بِصَلَاةٍ: الْإِخْلَاصُ، وَالْخَشْيَةُ، وَذِكْرُ اللَّهِ، فَالْإِخْلَاصُ يَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْخَشْيَةُ تَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَذِكْرُ الله (الْقُرْآنِ) يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ، وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ الْأَنْصَارِيُّ: إِذَا كُنْتَ فِي صَلَاةٍ فَأَنْتَ فِي مَعْرُوفٍ وَقَدْ حَجَزَتْكَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالَّذِي أَنْتَ فيه مِّن ذِكْرِ الله أكبر، وعن ابن عباس في قوله تعالى {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} يَقُولُ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ أكبر إذا ذكروه من ذكرهم إياه (وهو قول مجاهد وبه قال غير واحد من السلف). وعنه أيضاً قال: لها وجهان: ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَمَا حَرَّمَهُ، قَالَ: وَذِكْرُ اللَّهِ إياكم أعظم من ذكرهم أياه، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ، قَالَ لِي ابن

عَبَّاسٍ: هَلْ تَدْرِي مَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}؟ قَالَ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا هو؟ قلت: التسبيح والتحميد والتكلبير فِي الصَّلَاةِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، قَالَ: لقد قلت قولاً عجيباً وَمَا هُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا يَقُولُ: ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ عِنْدَمَا أَمَرَ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ إِذَا ذَكَرْتُمُوهُ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابن عباس، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

- 46 - وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ مُجَادَلَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الْإِسْلَامُ أَوِ الْجِزْيَةُ أَوِ السَّيْفُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ باقية مُحْكَمَةٌ لِمَنْ أَرَادَ الِاسْتِبْصَارَ مِنْهُمْ فِي الدِّينِ، فَيُجَادِلُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، لِيَكُونَ أَنْجَعَ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} الآية. وهذا القول اختاره ابن جرير، وقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} أَيْ حَادُوا عَنْ وَجْهِ الْحَقِّ، وَعَمُوا عَنْ وَاضِحِ الْمَحَجَّةِ، وَعَانَدُوا وَكَابَرُوا، فحينئذٍ يُنْتَقَلُ مِنَ الْجِدَالِ إِلَى الْجِلَادِ، ويقاتلون بما يمنعهم ويردعهم، قَالَ جَابِرٌ: أُمِرْنَا مَنْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ إِنَّ نَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} يَعْنِي أَهْلَ الْحَرْبِ وَمَنِ امْتَنَعَ منهم من أداء الجزية، وقوله تعالى: {وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} يعني إذا أخبروا بما لا نعلم صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ فَهَذَا لَا نُقْدِمُ عَلَى تكذيبه لأنه قد يكون حقاً ولا تَصْدِيقِهِ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا، وَلَكِنْ نُؤْمِنُ به إيماناً مجملاً، أخرج البخاري رحمه الله عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كان أهل الكتاب يقرأون التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسلام، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) قَالَ: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ تَالِيَةٌ تَدْعُوهُ إِلَى دِينِهِ كَتَالِيَةِ الْمَالِ، وروى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمُ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث، تقرأونه مَحْضًا لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب بدلوا وغيروا وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ، وَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا؟ أَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ؟ لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا يَسْأَلُكُمْ عَنِ الذي أنزل عليكم. وحدّث معاوية رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ وَذَكَرَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ، فقال: إن مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عليه الكذب (أخرجه البخاري موقوفاً على مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال ابن كثير: معناه أنه يقع منه الكذب مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، لِأَنَّهُ يُحَدِّثُ عَنْ صُحُفٍ هو يحسن الظن فيها وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة).

- 47 - وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن هَؤُلَاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلَّا الْكَافِرُونَ - 48 - وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِنَ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ

- 49 - بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلَّا الظَّالِمُونَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا أَنْزَلْنَا الْكُتُبَ عَلَى مَنْ قَبْلَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الرُّسُلِ، كَذَلِكَ أنزلنا إليك هذا الكتاب، وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أَيِ الَّذِينَ أخذوه فتلوه حق تلاوته، من أخبارهم العلماء الأذكياء كـ (عبد الله بن سلام) و (سلمان الفارسي) وأشباههما، وقوله تعالى: {وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} يَعْنِي الْعَرَبَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الْكَافِرُونَ} أَيْ مَا يُكَذِّبُ بِهَا وَيَجْحَدُ حَقَّهَا إلاّ من يستر الحق بالباطل، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِنَ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بيمنك} أَيْ قَدْ لَبِثْتَ فِي قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ من قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَ بِهَذَا الْقُرْآنِ عُمُرًا لَا تَقْرَأُ كِتَابًا وَلَا تُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ قَوْمِكَ وَغَيْرِهِمْ يَعْرِفُ أَنَّكَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَا تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ، وَهَكَذَا صِفَتُهُ في الكتب المتقدمة، كما قال تعالى: {والذين يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر} الآية، وَهَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائماً إلى يوم الدين لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَلَا يَخُطُّ سَطْرًا وَلَا حَرْفًا بِيَدِهِ، بَلْ كَانَ لَهُ كُتَّابٌ يَكْتُبُونَ بين يده الوحي والرسائل إلى الأقاليم، وَمَا أَوْرَدَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يمت صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَعَلَّمَ الْكِتَابَةَ فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو} أَيْ تَقْرَأُ {مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ} لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ {وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} تَأْكِيدٌ أَيْضًا وَخَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}. وقوله تعالى: {إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} أَيْ لَوْ كُنْتَ تُحْسِنُهَا لَارْتَابَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنَ النَّاسِ، فَيَقُولُ: إِنَّمَا تَعَلَّمَ هَذَا مِنْ كُتُبٍ قَبْلَهُ مَأْثُورَةٍ عَنِ الأنبياء، وقد قَالُوا ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ أُمِّيٌّ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض} الآية، وقال ههنا {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ آيَاتٌ بَيِّنَةٌ واضحة في الدلالة على الحق، يَحْفَظُهُ الْعُلَمَاءُ، يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِفْظًا وَتِلَاوَةً وَتَفْسِيرًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مدكر} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ أُعطي مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا»، وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِّي مُبْتَلِيكَ وَمُبْتَلٍ بِكَ، ومنزلٌ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا ويقظاناً}، أي لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ، مُيَسَّرٌ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، مُهَيْمِنٌ عَلَى الْقُلُوبِ، مُعْجِزٌ لَفْظًا وَمَعْنَى، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي صِفَةِ هَذِهِ الأمة {أناجيلهم في صدورهم)، وقوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظَّالِمُونَ} أَيْ مَا يُكَذِّبُ بِهَا وَيَبْخَسُ حَقَّهَا وَيَرُدُّهَا {إِلاَّ الظَّالِمُونَ} أَيِ الْمُعْتَدُونَ الْمُكَابِرُونَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَحِيدُونَ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم}.

- 50 - وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - 51 - أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ - 52 - قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الخاسرون

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي تَعَنُّتِهِمْ، وَطَلَبِهِمْ آيَاتٍ يَعْنُونَ تُرْشِدُهُمْ إِلَى أَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله، كما أتى صالح بناقته، قال تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ {إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ} أَيْ إِنَّمَا أَمْرُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّكُمْ تَهْتَدُونَ لَأَجَابَكُمْ إِلَى سؤالكم، لأن هذا سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لَدَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْكُمْ أنكم إنما قضدتم التَّعَنُّتُ وَالِامْتِحَانُ، فَلَا يُجِيبُكُمْ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ * وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بها}، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أَيْ إِنَّمَا بعثت نذيراً لكم فعلي أن أبلغكم رسالة الله تعالى، و {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا كَثْرَةَ جَهْلِهِمْ وَسَخَافَةَ عَقْلِهِمْ، حَيْثُ طَلَبُوا آيَاتٍ تَدُلُّهُمْ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جاءهم، وَقَدْ جَاءَهُمْ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مُعْجِزَةٍ، إِذْ عَجَزَتِ الْفُصَحَاءُ وَالْبُلَغَاءُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، بَلْ عَنْ مُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنْهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عليهم} (أخرجه ابن جرير وغيره قال: جاء أناس من المسلمين بكتب كتبوا فيها بعض ما سمعوه من الْيَهُودُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كفى بقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم، إلى ما جاء به غيره» فنزلت رأولم يكفهم ... } أَيْ أَوْلَمَ يَكْفِهِمْ آيَةً إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ الْعَظِيمَ الَّذِي فِيهِ خَبَرُ مَا قَبْلَهُمْ وَنَبَأُ مَا بَعْدَهُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَهُمْ، وَأَنْتَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَا تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ وَلَمْ تُخَالِطْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَجِئْتَهُمْ بِأَخْبَارِ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى بِبَيَانِ الصَّوَابِ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَبِالْحَقِّ الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ الْجَلِيِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بني إسرائيل}، وقال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آية مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى} وفي الصحيح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ من بني إِلَّا قَدْ أُعطي مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يوم القيامة" (أخرجه الشيخان والإمام أحمد). وقد قال تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أَيْ إِنَّ فِي هَذَا الْقُرْآنِ {لَرَحْمَةً} أي بياناً للحق وإزاحة للباطل {وذكرى} بِمَا فِيهِ حُلُولُ النِّقَمَاتِ وَنُزُولُ الْعِقَابِ بِالْمُكَذِّبِينَ والعاصين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً} أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَيَعْلَمُ مَآ أَقُولُ لَكُمْ مِنْ إِخْبَارِي عَنْهُ بِأَنَّهُ أَرْسَلَنِي، فلو كنت كاذباً عليه لا نتقم مِنِّي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمن ثم قطعنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين}، وَإِنَّمَا أَنَا صَادِقٌ عَلَيْهِ فِيمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ، وَلِهَذَا أَيَّدَنِي بِالْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، {وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ أولئك هُمُ الخاسرون} أي يوم القيامة سَيَجْزِيهِمْ عَلَى مَا فَعَلُوا وَيُقَابِلُهُمْ عَلَى مَا صنعوا، في تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ، كَذَّبُوا بِرُسُلِ اللَّهِ مَعَ قِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَآمَنُوا بِالطَّوَاغِيتِ والأوثان بلا دليل، فسيجزيهم عَلَى ذَلِكَ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.

- 53 - وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ - 54 - يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ - 55 - يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَهْلِ الْمُشْرِكِينَ، فِي استعجالهم عذاب الله أت يَقَعَ بِهِمْ، وَبَأْسَ اللَّهِ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، وقال ههنا: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ} أي لولا ما ختم اللَّهُ مِنْ تَأْخِيرِ الْعَذَابِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ قَرِيبًا سَرِيعًا كَمَا اسْتَعْجَلُوهُ، ثُمَّ قَالَ: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} أَيْ فَجْأَةً، {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أي يستعجلون العذاب وهو واقع بهم لا محالة، ثم قال عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}، وقال تعالى: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}، فَالنَّارُ تَغْشَاهُمْ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِهِمْ وَهَذَا أَبْلَغُ في العذاب الحسي، وقوله تعالى: {وَنَقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تَهْدِيدٌ وَتَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ وهذا عذاب معنوي على النفوس، كقوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وجوهم ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بقدر}، وقال تَعَالَى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ}.

- 56 - يا عبادي الَّذِينَ آمَنُوا إِن أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ - 57 - كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ - 58 - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ - 59 - الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - 60 - وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، بِالْهِجْرَةِ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي لَا يَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ، إِلَى أَرْضِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ، حَيْثُ يُمْكِنُ إِقَامَةُ الدِّينِ، بِأَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ وَيَعْبُدُوهُ كَمَا أَمَرَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {يا عبادي الذين آمنوا إِن أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فاعبدوا}. عن الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبِلَادُ بِلَادُ اللَّهِ، وَالْعِبَادُ عِبَادُ اللَّهِ، فَحَيْثُمَا أَصَبْتَ خَيْرًا فَأَقِمْ» (أخرجه الإمام أحمد عن الزبير بن العوام)، وَلِهَذَا لَمَّا ضَاقَ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ مُقَامَهُمْ بِهَا، خَرَجُوا مُهَاجِرِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ لِيَأْمَنُوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزلين هناك (أصحمة النجاشي) ملك الحبشة رحمة الله تعالى، فآواهم وأيدهم، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة الباقون إلى المدينة المطهرة، ثم قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أَيْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، فَكُونُوا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَحَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ، فَإِنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا مَحِيدَ عَنْهُ، ثُمَّ إِلَى اللَّهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، فَمَنْ كَانَ مُطِيعًا لَهُ جَازَاهُ أَفْضَلَ الْجَزَاءِ ووافاه أتم الثواب، ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ لَنُسْكِنَنَّهُمْ مَنَازِلَ عَالِيَةً فِي الْجَنَّةِ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا، مِنْ مَاءٍ وَخَمْرٍ وَعَسَلٍ وَلَبَنٍ، يُصَرِّفُونَهَا وَيُجْرُونَهَا حَيْثُ شَاءُوا، {خَالِدِينَ فِيهَآ} أي ما كثين فِيهَا أَبَدًا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} نِعْمَتْ هَذِهِ الْغُرَفُ أَجْرًا عَلَى أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ {الَّذِينَ صَبَرُواْ} أَيْ عَلَى دِينِهِمْ وَهَاجَرُوا إِلَى اللَّهِ، وَنَابَذُوا الْأَعْدَاءَ، وَفَارَقُوا الْأَهْلَ وَالْأَقْرِبَاءَ، ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَرَجَاءَ مَا عِنْدَهُ.

وفي الحديث: «أن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وأطاب الكلام، وتابع الصلاة والصيام، وقام بالليل والناس نيام» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي مالك الأشعري مرفوعاً) {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فِي أَحْوَالِهِمْ كُلِّهَا فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى أَنَّ الرِّزْقَ لَا يُخْتَصُّ بِبُقْعَةٍ، بَلْ رِزْقُهُ تَعَالَى عَامٌّ لِخَلْقِهِ حَيْثُ كَانُوا وَأَيْنَ كَانُوا، بَلْ كَانَتْ أَرْزَاقُ الْمُهَاجِرِينَ حَيْثُ هَاجَرُوا أَكْثَرَ وَأَوْسَعَ وَأَطْيَبَ، فَإِنَّهُمْ بَعْدَ قَلِيلٍ صَارُوا حُكَّامَ الْبِلَادِ فِي سائر الأقطار والأمصار، ولهذا قال تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أَيْ لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تدخر شيئاً لغد، {والله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} أَيِ اللَّهُ يُقَيِّضُ لَهَا رِزْقَهَا عَلَى ضَعْفِهَا وَيُيَسِّرُهُ عَلَيْهَا، فَيَبْعَثُ إِلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ مِنَ الرِّزْقِ مَا يُصْلِحُهُ حَتَّى الذَّرِّ فِي قَرَارِ الْأَرْضِ، وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَالْحِيتَانِ في الماء، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}، وروى ابن حاتم عن ابن عمر قال: خرجت مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ بَعْضَ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ يَلْتَقِطُ مِنَ التَّمْرِ وَيَأْكُلُ، فَقَالَ لِي: «يَا ابْنَ عُمَرَ مَا لَكَ لَا تَأْكُلُ؟» قَالَ، قُلْتُ: لَا أَشْتَهِيهِ يَا رسول الله، قال: «لكني أشتهيه وهذا صُبْحُ رابعةٍ مُنْذُ لَمْ أَذُقْ طَعَامًا، وَلَمْ أَجِدْهُ، وَلَوْ شِئْتُ لَدَعَوْتُ رَبِّي فَأَعْطَانِي مِثْلَ ملك كسرى وقيصر، فَكَيْفَ بِكَ يَا ابْنَ عُمَرَ إِذَا بَقِيتَ فِي قَوْمٍ يُخَبِّئُونَ رِزْقَ سَنَتِهِمْ بِضَعْفِ الْيَقِينِ؟» قَالَ فَوَاللَّهِ مَا بَرِحْنَا وَلَا رِمْنا حَتَّى نَزَلَتْ: {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله عزَّ وجلَّ لم يأمروني بِكَنْزِ الدُّنْيَا، وَلَا بِاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَمَنْ كَنَزَ دُنْيَاهُ يُرِيدُ بِهَا حَيَاةً بَاقِيَةً، فَإِنَّ الْحَيَاةَ بِيَدِ اللَّهِ، أَلَا وَإِنِّي لَا أَكْنِزُ دِينَارًا ولا درهماً ولا أخبأ رزقاً لغد (الحديث أخرجه ابن أبي حاتم وفي إسناده ضعف كذا قال ابن كثير)، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَافِرُوا تَرْبَحُوا، وَصُومُوا تَصِحُّوا وغزوا تغنموا» (أخرجه الإمام أحمد، ورواه البيهقي عن ابن عمر مرفوعاً باللفظ (سافروا تصحوا وتغنموا). وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيِ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ {الْعَلِيمُ} بِحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ.

- 61 - وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ - 62 - اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ - 63 - وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُقَرِّرًا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ معه غيره معترفون بأنه المستقل بخلق السماوات وَالْأَرْضِ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَتَسْخِيرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَّهُ الخالق الرازق لعباده، ومقدر آجالهم وأرزاقهم فتفاوت بَيْنَهُمْ، فَمِنْهُمُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِمَا يُصْلِحُ كُلًّا مِنْهُمْ وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْغِنَى مِمَّنْ يستحق الفقر، فذكر أنه المستقل بِخَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَرِّدِ بِتَدْبِيرِهَا، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فلمَ يُعْبَدُ غَيْرُهُ؟ وَلِمَ يُتَوَكَّلُ عَلَى غَيْرِهِ؟ فَكَمَا أَنَّهُ الْوَاحِدُ فِي مُلْكِهِ، فَلْيَكُنِ الْوَاحِدَ فِي عِبَادَتِهِ، وَكَثِيرًا مَا يُقَرِّرُ تَعَالَى «مَقَامَ الْإِلَهِيَّةِ» بِالِاعْتِرَافِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ -[44]- الْمُشْرِكُونَ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ.

- 64 - وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ - 65 - فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ - 66 - لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ حَقَارَةِ الدُّنْيَا وَزَوَالِهَا وَانْقِضَائِهَا، وَأَنَّهَا لَا دَوَامَ لَهَا وَغَايَةُ مَا فِيهَا لَهْوٌ وَلَعِبٌ {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أَيْ الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ، الْحَقُّ الذي لا زوال له وَلَا انْقِضَاءَ، بَلْ هِيَ مُسْتَمِرَّةٌ أَبَدَ الْآبَادِ، وقوله تعالى: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أَيْ لَآثَرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ يَدْعُونَهُ وَحْدَهُ لَا شريك له، فلا يَكُونُ هَذَا مِنْهُمْ دَائِمًا {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} الآية. وقال ههنا: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ هُمْ يُشْرِكُونَ}. وقد ذكر محمد ابن إِسْحَاقَ عَنْ (عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ) أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، ذَهَبَ فَارًّا مِنْهَا، فَلَمَّا رَكِبَ فِي الْبَحْرِ لِيَذْهَبَ إِلَى الْحَبَشَةِ اضْطَرَبَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ، فَقَالَ أَهْلُهَا: يَا قَوْمِ أَخْلِصُوا لِرَبِّكُمُ الدعاء، فإنه لا ينجي ههنا إلا هو، فقال عكرمة: والله لئن كان لاينجي في البحر غيره فإنه لا ينجي في البر أيضاً غيره، اللَّهُمَّ لَكَ عليَّ عَهْدٌ لَئِنْ خَرَجْتُ لَأَذْهَبْنَ فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنه رؤوفاً رحيماً، فكان كذلك. وقوله تعالى: {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ} هذه اللام (لَامَ الْعَاقِبَةِ) لِأَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَقْدِيرِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَتَقْيِيضِهِ إِيَّاهُمْ لِذَلِكَ فَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَقْرِيرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَنًا}.

- 67 - أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ - 68 - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ - 69 - وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لنهدينهم وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى قُرَيْشٍ فِيمَا أَحَلَّهُمْ مِنْ حَرَمِهِ الَّذِي جعله لِلنَّاسِ سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد، وَمَن دخله كان آمناً، فهو أَمْنٍ عَظِيمٍ، وَالْأَعْرَابُ حَوْلَهُ يَنْهَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لإِيلاَفِ قريش} إلى آخر السورة، وقوله تعالى: {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يكفرون} (في اللباب: أخرج جويبر: أنهم قالوا: يا محمد، ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس، والأعراب أكثر منا، فنزل: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا ... } الآية) أَيْ أَفَكَانَ شُكْرُهُمْ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَنْ أَشْرَكُوا بِهِ وَعَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ مِنَ الأصنام والأنداد، {بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} فكفروا بنبي الله ورسوله فكذبوه، فقاتلوه، فأخرجوه من بين أظهرهم، ولهذا سلبهم الله تعالى مَا كَانَ أَنْعَمَ

بِهِ عَلَيْهِمْ، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ، ثم صارت الدَّوْلَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَكَّةَ وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ وَأَذَلَّ رِقَابَهُمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ}؟ أَيْ لَا أَحَدَ أَشَدُّ عُقُوبَةً مِمَّن كَذَبَ علَى الله، فقال إن الله أوحى إليه وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شيء، وَهَكَذَا لَا أَحَدَ أَشَدُّ عُقُوبَةً مِمَّنْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ، فَالْأَوَّلُ مُفْتَرٍ وَالثَّانِي مُكَذِّبٌ، ولهذا قال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ}، ثُمَّ قَالَ تعالى: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا} يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ وَأَتْبَاعَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أَيْ لَنُبَصِّرَنَّهُمْ سُبُلَنَا أَيْ طُرُقَنَا فِي الدُّنْيَا والآخرة، وقوله: {وإن الله لَمَعَ المحسنين}. روى ابن حاتم بسنده عن الشعبي قال، قال عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّمَا الإِحسان أَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، لَيْسَ الْإِحْسَانُ أَنْ تحسن إلى من أحسن إليك، والله أعلم.

30 - سورة الروم

- 30 - سورة الروم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - 1 - الم - 2 - غُلِبَتِ الرُّومُ - 3 - فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ - 4 - فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمَن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ - 5 - بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ - 6 - وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - 7 - يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ نزلت هذه الآيات حين غلب الفرس (آخر ملوك الفرس الذي قتل زمن عثمان بن عفان هو: يزدجر بن شهريار، وهو الذي كتب له النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه للإسلام، فمزق الكتاب، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق) عَلَى بِلَادِ الشَّامِ، وَمَا وَالَاهَا مِنْ بِلَادِ الجزيرة وأقاصي بلاد الروم، فاضطر ملك الروم حتى لجأ إلى القسطنطينية وحوصر فِيهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ عَادَتِ الدَّوْلَةُ لِهِرَقْلَ كما سيأتي. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ أَوْثَانٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الكتاب، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إِنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ»، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ، فَقَالُوا: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا، فَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ ظَهَرْتُمْ كَانَ لَكُمْ كذا وكذا، فجعل أجل خَمْسَ سِنِينَ، فَلَمْ يَظْهَرُوا، فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "ألا جعلتها إلى دُونَ الْعَشْرِ؟ ثُمَّ ظَهَرَتِ الرُّومُ بَعْدُ، قَالَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما). (حديث آخر: عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَانُ، وَاللِّزَامُ، وَالْبَطْشَةُ، وَالْقَمَرُ، وَالرُّومُ (أخرجاه فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ موقوفاً). وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: كانت فارس ظاهرة عَلَى الرُّومِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تظهر الروم

عَلَى فَارِسَ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى دِينِهِمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بعد عليهم سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِين} قَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ صَاحِبَكَ يَقُولُ: إِنَّ الرُّومَ تَظْهَرُ عَلَى فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِين، قَالَ: صَدَقَ، قالوا: هل لك أَنْ نُقَامِرَكَ، فَبَايَعُوهُ عَلَى أَرْبَعِ قَلَائِصَ إِلَى سَبْعِ سِنِينَ فَمَضَتِ السَّبْعُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ، ففرح المشركون بذلك، فشق عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا بِضْعُ سِنِينَ عِنْدَكُمْ»؟ قَالُوا دُونَ الْعَشْرِ، قَالَ: «اذْهَبْ فَزَايِدْهُمْ وَازْدَدْ سَنَتَيْنِ فِي الْأَجَلِ» قَالَ: فَمَا مَضَتِ السَّنَتَانِ حَتَّى جَاءَتِ الرُّكْبَانُ بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ، ففرح المؤمنون بذلك وأنزل الله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الروم - إلى قوله تعالى - وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وعده} (أخرجه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم والترمذي قريباً منه). وقال عكرمة: لقي الْمُشْرِكُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: إِنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَالنَّصَارَى أَهْلُ كِتَابٍ، وَنَحْنُ أُمِّيُّونَ وَقَدْ ظَهَرَ إِخْوَانُنَا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّكُمْ إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله تَعَالَى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ - إلى قوله - يَنصُرُ مَن يَشَآءُ} فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ إِلَى الْكُفَّارِ فَقَالَ: أَفَرِحْتُمْ بِظُهُورِ إِخْوَانِكُمْ عَلَى إِخْوَانِنَا، فَلَا تَفْرَحُوا وَلَا يُقِرَّنَ اللَّهُ أَعْيُنَكُمْ، فَوَاللَّهِ لَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ الرُّومَ عَلَى فَارِسَ، أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ إِلَيْهِ (أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ) فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا أَبَا فُضَيْلٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَنْتَ أكذب يا عدو الله، فقال: أناجيك عَشْرَ قَلَائِصَ مِنِّي وَعَشْرَ قَلَائِصَ مِنْكَ، فَإِنْ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ غَرِمْتُ، وَإِنْ ظَهَرَتْ فَارِسُ غَرِمْتَ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: «مَا هَكَذَا ذَكَرْتُ إِنَّمَا الْبِضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ فَزَايِدْهُ في خطر، ومادَّه فِي الْأَجَلِ»، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَقِيَ أُبَيًّا فَقَالَ: لَعَلَّكَ نَدِمْتَ؟ فَقَالَ: لَا، تَعَالَ أُزَايِدْكَ فِي الْخَطَرِ وَأُمَادَّكَ فِي الْأَجَلِ، فَاجْعَلْهَا مائة قَلُوصٍ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، فَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ قَبْلَ ذَلِكَ فَغَلَبَهُمُ المسلمون. ولنتكلم على كلمات هذه الآيات الكريمات، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَمَّا الرُّومُ فَهُمْ مِنْ سُلَالَةِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَيُقَالُ لَهُمْ بَنُو الْأَصْفَرِ، وَكَانُوا عَلَى دِينِ الْيُونَانِ، وَالْيُونَانُ مِنْ سُلَالَةِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ أَبْنَاءِ عَمِّ التُّرْكِ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّيَّارَةَ، وهم الذين أسسوا دمشق وبنوا معبدها، فكان الروم على دينهم إلى بعد مبعث المسيح بنحو من ثلثمائة سنة، وكان من ملك منهم الشام مع الجزيرة يُقَالُ لَهُ (قَيْصَرُ)، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ في دين النصارى من الروم (قسطنطين)، وأمه مريم الهيلانية مِنْ أَرْضِ حَّران كَانَتْ قَدْ تَنَصَّرَتْ قَبْلَهُ فَدَعَتْهُ إِلَى دِينِهَا، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَيْلَسُوفًا، فتابعها، وَاجْتَمَعَتْ بِهِ النَّصَارَى وَتَنَاظَرُوا فِي زَمَانِهِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْيُوسَ، وَاخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا كثيراُ لا ينضبط، إلاّ أنه اتفق جماعتهم ثلثمائة وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ أُسْقُفًّا، فَوَضَعُوا لِقُسْطَنْطِينَ الْعَقِيدَةَ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا (الْأَمَانَةَ الْكَبِيرَةَ) وَإِنَّمَا هِيَ الْخِيَانَةُ الْحَقِيرَةُ، وَوَضَعُوا لَهُ الْقَوَانِينَ يَعْنُونَ كُتُبَ الْأَحْكَامِ من تحريم وتحليل وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَغَيَّرُوا دِينَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَزَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا مِنْهُ، فصلوا إِلَى الْمَشْرِقِ، وَاعْتَاضُوا عَنِ السَّبْتِ بِالْأَحَدِ، وَعَبَدُوا الصَّلِيبَ، وَأَحَلُّوا الْخِنْزِيرَ، وَاتَّخَذُوا أَعْيَادًا أَحْدَثُوهَا، كَعِيدِ الصَّلِيبِ وَالْقِدَّاسِ وَالْغِطَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ

الْبَوَاعِيثِ وَالشَّعَانِينِ، وَجَعَلُوا لَهُ الْبَابَ وَهُوَ كَبِيرُهُمْ، ثم البتاركة، ثم المطارنة، ثم الأساقفة والقساوسة، ثُمَّ الشَّمَامِسَةِ، وَابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ، وَبَنَى لَهُمُ الْمَلِكُ الْكَنَائِسَ وَالْمَعَابِدَ، وَأَسَّسَ الْمَدِينَةَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَيْهِ وَهِيَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، يُقَالُ: إِنَّهُ بَنَى فِي أَيَّامِهِ اثْنَيْ عشر ألف كنيسة، وبنى بيت لحم بثلاث مَحَارِيبَ، وَبَنَتْ أُمُّهُ الْقُمَامَةَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمَلَكِيَّةُ، يَعْنُونَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى دِينِ الْمَلِكِ، ثُمَّ حدثت الْيَعْقُوبِيَّةُ أَتْبَاعُ يَعْقُوبَ الْإِسْكَافِ ثُمَّ النَّسْطُورِيَّةُ أَصْحَابُ نَسْطُورَا، وَهُمْ فِرَقٌ وَطَوَائِفُ كَثِيرَةً، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنهم افترقوا على اثنين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً». وَالْغَرَضُ أَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ كُلَّمَا هَلَكَ قَيْصَرُ خَلْفَهُ آخَرُ بَعْدَهُ حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ (هِرَقْلُ) وَكَانَ مِنْ عُقَلَاءِ الرِّجَالِ، ومن أحرم الْمُلُوكِ وَأَدْهَاهُمْ وَأَبْعَدِهِمْ غَوْرًا وَأَقْصَاهُمْ رَأْيًا، فَتَمَلَّكَ عليهم في رياسة عظيمة وأبهة كثيرة، فناوأه كسرى ملك الفرس، وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر، وَكَانُوا مَجُوسًا يَعْبُدُونَ النَّارَ، فَتَقَدَّمَ عَنْ عِكْرِمَةَ أنه قال: بَعَثَ إِلَيْهِ نُوَّابَهُ وَجَيْشَهُ فَقَاتَلُوهُ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ كِسْرَى غَزَاهُ بِنَفْسِهِ فِي بِلَادِهِ فَقَهَرَهُ وَكَسَرَهُ وَقَصَرَهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى مَدِينَةِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ فَحَاصَرَهُ بِهَا مُدَّةً طَوِيلَةً حَتَّى ضَاقَتْ عليه، وَلَمْ يَقْدِرْ كِسْرَى عَلَى فَتْحِ الْبَلَدِ وَلَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ لِحَصَانَتِهَا، لِأَنَّ نِصْفَهَا مِنْ نَاحِيَةِ الْبَرِّ وَنِصْفَهَا الْآخَرَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَحْرِ، فَكَانَتْ تأتيهم الميرة والمدد من هنالك، ثُمَّ كَانَ غَلَبُ الرُّومِ لِفَارِسَ بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ وَهِيَ تَسَعٌ، فَإِنَّ الْبِضْعَ فِي كَلَامِ العرب ما بين الثلاث إلى التسع. وقوله تعالى: {للَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمَن بَعْدُ} أَيْ من قبل ذلك ومن بعده، {ويؤمئذ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} أَيْ لِلرُّومِ أَصْحَابِ قَيْصَرَ مَلِكِ الشَّامِ عَلَى فَارِسَ أَصْحَابِ كِسْرَى، وهم المجوس، وكانت نُصْرَةُ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ يَوْمَ وَقْعَةِ بَدْرٍ في قول طائفة كثيرة مِنَ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ، وقد ورد في الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فَأَعْجَبَ ذَلِكَ المؤمنين ففرحوا به، وأنزل الله: {ويؤمئذ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم} (أخرجه الترمذي وابن أبي حاتم والبرار)، وقال الآخرون: بل كان نصر الروم على فارس عام الحديبية (يروى هذا القول عن عكرمة والزهري وقتادة وغيرهم)، وَالْأَمْرُ فِي هَذَا سَهْلٌ قَرِيبٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا انْتَصَرَتْ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ سَاءَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا انْتَصَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الرُّومَ أَهْلُ كِتَابٍ فِي الْجُمْلَةِ فَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمَجُوسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى - إلى قوله - رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين}. وقال تعالى ههنا: {ويؤمئذ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم}، عن العلاء بن الزبير الكلابي عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ غَلَبَةَ فَارِسَ الرُّومَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الرُّومِ فَارِسَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الْمُسْلِمِينَ فَارِسَ وَالرُّومَ كُلُّ ذَلِكَ فِي خمس عشرة سنة (أخرجه ابن أبي حاتم). وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أَيْ فِي انْتِصَارِهِ وَانْتِقَامِهِ مِنْ أعدائه، {الرحيم} بعباده المؤمنين، وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} أَيْ هَذَا الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَنَّا سَنَنْصُرُ الرُّومَ عَلَى فَارِسَ وَعْدٌ مِنَ الله حق، وخبر صدق لايخلف، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ وَوُقُوعِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ أَنْ يَنْصُرَ أَقْرَبَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ وَيَجْعَلَ لَهَا الْعَاقِبَةَ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ بِحُكْمِ اللَّهِ فِي كَوْنِهِ وَأَفْعَالِهِ الْمُحْكَمَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ العدل، وقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ الغافلون} أَيْ أَكْثَرُ النَّاسِ لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ إِلَّا بالدنيا

وأكسابها وشؤونها وَمَا فِيهَا، فَهُمْ حُذَّاقٌ أَذْكِيَاءُ فِي تَحْصِيلِهَا ووجوه مكاسبها، وهم غافلون في أمور الدين وما يَنْفَعُهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، كَأَنَّ أَحَدَهُمْ مُغَفَّلٌ لَا ذِهْنَ لَهُ وَلَا فِكْرَةَ، قَالَ الْحَسَنُ البصري: والله ليبلغ مِنْ أَحَدِهِمْ بِدُنْيَاهُ أَنَّهُ يَقْلِبُ الدِّرْهَمَ عَلَى ظُفْرِهِ فَيُخْبِرُكَ بِوَزْنِهِ وَمَا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّيَ، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ الغافلون} يَعْنِي الْكُفَّارُ يَعْرِفُونَ عُمْرَانَ الدُّنْيَا وَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ جُهَّالٌ.

- 8 - أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنْفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ - 9 - أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ - 10 - ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا على التفكير في مخلوقاته الدالة على وجوده، وَإِنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ} يَعْنِي بِهِ النَّظَرَ وَالتَّأَمُّلَ لِخَلْقِ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ، مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهَا مَا خُلِقَتْ سُدًى وَلَا بَاطِلًا بَلْ بِالْحَقِّ، وَأَنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ إِلَى أَجَلٍ مسمى وهو يوم القيامة، ولهذا قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ}، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا جَاءُوا بِهِ عَنْهُ، بِمَا أَيَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ، مِنْ إِهْلَاكِ مَنْ كَفَرَ بِهِمْ، ونجاة من صدقهم، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ بِأَفْهَامِهِمْ وَعُقُولِهِمْ ونظرهم وسماع أَخْبَارَ الْمَاضِينَ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أَيْ كَانَتِ الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ وَالْقُرُونُ السَّالِفَةُ أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً، وَمُكِّنُوا فِي الدُّنْيَا تَمْكِينًا لَمْ تَبْلُغُوا إِلَيْهِ، وَعُمِّرُوا فِيهَا أَعْمَارًا طِوَالًا فَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِنْكُمْ، واستغلوها أكثر من استغلالكم، ومع هذا فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ من واق، ولا حالت أموالهم وأولادهم بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَأْسِ اللَّهِ وَلَا دَفَعُوا عَنْهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فِيمَا أَحَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله واستهزأوا بِهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمُ السَّالِفَةِ وتكذيبهم المتقدم، ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} أَيْ كَانَتِ السُّوأَى عَاقِبَتَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله وكانوا بها يستهزئون}.

- 11 - الله يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ - 12 - وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ - 13 - وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ - 14 - وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ - 15 - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ - 16 - وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ

فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أَيْ كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى بَدَاءَتِهِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، ثُمَّ قَالَ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَيْأَسُ الْمُجْرِمُونَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَفْتَضِحُ الْمُجْرِمُونَ، وَفِي رِوَايَةٍ يَكْتَئِبُ المجرمون، {وَلَمْ يكن له مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ} أَيْ مَا شَفَعَتْ فِيهِمُ الْآلِهَةُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ تعالى وَكَفَرُوا بِهِمْ وَخَانُوهُمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ، ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يؤمئذ يَتَفَرَّقُونَ} قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ وَاللَّهِ الْفُرْقَةُ الَّتِي لا اجتماع بعدها، يعني أنه إِذَا رُفِعَ هَذَا إِلَى عِلِّيِّينَ وَخُفِضَ هَذَا إلى أسفل سافلين، فذلك آخر العهد بينهما، ولهذا قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} قال مجاهد وقتادة: ينعمون.

- 17 - فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ - 18 - وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ - 19 - يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدسة، وإرشاده لِعِبَادِهِ إِلَى تَسْبِيحِهِ وَتَحْمِيدِهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، عِنْدَ الْمَسَاءِ وَهُوَ إِقْبَالُ اللَّيْلِ بِظَلَامِهِ، وَعِنْدَ الصباح وهو إسفار النهار بضيائه، ثُمَّ اعْتَرَضَ بِحَمْدِهِ مُنَاسِبَةً لِلتَّسْبِيحِ وَهُوَ التَّحْمِيدُ، فقال تعالى: {وَلَهُ الحمد في السموات وَالْأَرْضِ} أَيْ هُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى مَا خَلَقَ في السماوات والأرض، ثم قال تعالى: {وعيشاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} فالعَشاء هُوَ شِدَّةُ الظَّلَامِ وَالْإِظْهَارُ هو قوة الضياء، كما قال تعالى: {والنهار إِذَا جَلاَّهَا * والليل إِذَا يَغْشَاهَا}، وقال تعالى: {والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى}، وقال تعالى: {والضحى والليل إِذَا سجى} والآيات في هذا كثيرة. وفي الحديث: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ الَّذِي وفَّى، لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وكلما أصبح وكلما أمسى: سُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ" (أخرجه الإمام أحمد). وقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} هُوَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قُدْرَتِهِ على خلق الأشياء المتقابلة، فإنه يذكر خلقه الأشياء وأضدادها ليدل عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ إِخْرَاجُ النَّبَاتِ مِنَ الْحَبِّ، وَالْحَبِّ مِنَ النَّبَاتِ، وَالْبَيْضِ مِنَ الدَّجَاجِ، وَالدَّجَاجِ مِنَ الْبَيْضِ، وَالْإِنْسَانِ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالنُّطْفَةِ مِنَ الإِنسان، وَالْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرِ من المؤمن. وقوله تعالى: {ويحيي الأرض بعد موتها}، كقوله تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}، وقوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج}، ولهذا قال: {وكذلك تخرجون}.

- 20 - وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ - 21 - وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، أَنَّهُ خَلَقَ أَبَاكُمْ آدَمَ مِن تُرَابٍ، {ثُمَّ إِذَآ

أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} فَأَصْلُكُمْ مِن تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ تَصَوَّرَ فَكَانَ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ صَارَ عِظَامًا، شَكْلُهُ عَلَى شَكْلِ الْإِنْسَانِ ثُمَّ كَسَا اللَّهُ تِلْكَ الْعِظَامَ لَحْمًا، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحَ فَإِذَا هُوَ سميع بصير، ثُمَّ كَلَّمَا طَالَ عُمْرُهُ تَكَامَلَتْ قُوَاهُ وَحَرَكَاتُهُ، حَتَّى آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ صَارَ يبني المدائن والحصون، ويدور أقطار الأرض، ويكتسب، وَيَجْمَعُ الْأَمْوَالَ، وَلَهُ فِكْرَةٌ وَغَوْرٌ، وَدَهَاءٌ وَمَكْرٌ، وَرَأْيٌ وَعِلْمٌ، وَاتِّسَاعٌ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كُلٌّ بِحَسَبِهِ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَقْدَرَهُمْ وَسَيَّرَهُمْ وَسَخَّرَهُمْ وَصَرَّفَهُمْ فِي فُنُونِ الْمَعَايِشِ وَالْمَكَاسِبِ وَفَاوَتَ بَيْنَهُمْ في العلوم والفكر، وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ إذآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ}. عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُمُ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَالسَّهْلُ والحزن وبين ذلك» (أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وقال الترمذي: حسن صحيح). وقوله تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} أَيْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ جِنْسِكُمْ إِنَاثًا تكون لَكُمْ أَزْوَاجاً {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ليسكن إليها} يَعْنِي بِذَلِكَ حَوَّاءَ خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ آدَمَ من ضلعه الأيسر، ولو أنه تعالى جَعَلَ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ ذُكُورًا، وَجَعَلَ إِنَاثَهُمْ مَنْ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ، إِمَّا مِنْ جَانٍّ أَوْ حَيَوَانٍ، لَمَا حَصَلَ هَذَا الِائْتِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَزْوَاجِ، بَلْ كَانَتْ تَحْصُلُ نَفْرَةٌ لَوْ كَانَتِ الْأَزْوَاجُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، ثُمَّ مِنْ تَمَامِ رَحْمَتِهِ بِبَنِي آدَمَ أَنْ جَعَلَ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ {مَّوَدَّةً} وهي المحبة {وَرَحْمَةً} وهي الرأفة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.

- 22 - وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ - 23 - وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِن فَضْلِهِ إِن فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ يَقُولُ تعالى: {ومن آيَاتِهِ} الدالة على قدرته العظيمة {خَلْقُ السموات وَالْأَرْضَ} أَيْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا، وَشُفُوفِ أَجْرَامِهَا وَزِهَارَةِ كَوَاكِبِهَا، وَنُجُومِهَا الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، وخلق الأرض في انخفاضها وكثافة، وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَأَوْدِيَةٍ، وَبِحَارٍ وَقِفَارٍ وحيوان وأشجار، وقوله تعالى: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} يَعْنِي اللُّغَاتِ، فَهَؤُلَاءِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وهؤلاء تتر، وهؤلاء كرج، وهؤلاء روم، وهؤلاء فرنج، وهؤلاء بربر، وَهَؤُلَاءِ حَبَشَةٌ، وَهَؤُلَاءِ هُنُودٌ، وَهَؤُلَاءِ عَجَمٌ، وَهَؤُلَاءِ صقالبة، وَهَؤُلَاءِ أَكْرَادٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنَ اخْتِلَافِ لُغَاتِ بَنِي آدَمَ وَاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِمْ، وَهِيَ حُلَاهُمْ فَجَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ بَلْ أَهْلِ الدُّنْيَا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، كُلٌّ لَهُ عَيْنَانِ وَحَاجِبَانِ وَأَنْفٌ وَجَبِينٌ وَفَمٌ وَخَدَّانِ وَلَيْسَ يُشْبِهُ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الْآخَرَ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُفَارِقَهُ بِشَيْءٍ مِنَ السَّمْتِ أَوِ الْهَيْئَةِ أَوِ الْكَلَامِ، ظَاهِرًا كَانَ أَوْ خَفِيًّا يَظْهَرُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ. كُلُّ وَجْهٍ مِنْهُمْ أُسْلُوبٌ بِذَاتِهِ، وَهَيْئَةٌ لا تشبه أخرى، وَلَوْ تَوَافَقَ جَمَاعَةٌ فِي صِفَةٍ مِنْ جَمَالٍ أَوْ قُبْحٍ، لَا بُدَّ مِنْ فَارِقٍ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَبَيْنَ الْآخَرِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ} أَيْ وَمِنِ الْآيَاتِ مَا جَعَلَ الله مِنْ صِفَةِ النُّوَّمِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِيهِ تَحْصُلُ الرَّاحَةُ، وَسُكُونُ الْحَرَكَةِ، وَذَهَابُ الْكَلَالِ وَالتَّعَبِ، وَجَعَلَ لَكُمْ الِانْتِشَارَ وَالسَّعْيَ فِي الْأَسْبَابِ وَالْأَسْفَارِ فِي النَّهَارِ وَهَذَا ضِدُّ النَّوْمِ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أَيْ يعون، روى الطبراني

عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَصَابَنِي أَرَقٌ مِنَ اللَّيْلِ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَقَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ غَارَتِ النُّجُومُ، وَهَدَأَتِ الْعُيُونُ، وَأَنْتَ حَيٌّ قَيُّومٌ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، أنم عيني، وأهدىء ليلي" فقلتها فذهب عني (أخرجه الطبراني عن زيد بن ثابت).

- 24 - وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ - 25 - وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ أَنَّهُ {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} أَيْ تَارَةً تَخَافُونَ مِمَّا يَحْدُثُ بَعْدَهُ مِنْ أمطار مزعجة، وصواعق متلفة، وتارة ترجون وميضه وما يأتي به من المطر المحتاج إليه، ولهذا قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ موتها} أَيْ بَعْدَمَا كَانَتْ هَامِدَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا شَيْءَ، فَلَمَّا جَاءَهَا الْمَاءُ {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيج}، وَفِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ وَدَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى الْمَعَادِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، ثم قال تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ}، كقوله تَعَالَى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بإذنه}، وقوله: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ} وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا اجتهد في اليمين قال: وَالَّذِي تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ، أَيْ هِيَ قَائِمَةٌ ثَابِتَةٌ بِأَمْرِهِ لَهَا وَتَسْخِيرِهِ إِيَّاهَا، ثُمَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُدِّلَتِ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ، وَخَرَجَتِ الْأَمْوَاتُ مِنْ قُبُورِهَا أَحْيَاءً، بأمره تعالى ودعائه إياهم، ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} أي من الأرض، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إن لبثتنم إلا قليلا}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ}.

- 26 - وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ - 27 - وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَقُولُ تعالى: {وَلَهُ مَن في السموات وَالْأَرْضِ} أَيْ مِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} أي خاضعون خاشعون طوعاً وكرهاً، وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي أَيْسَرُ عَلَيْهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْإِعَادَةُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنَ الْبُدَاءَةِ، وَالْبُدَاءَةُ عَلَيْهِ هينة، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عليَّ مِنْ إِعَادَتِهِ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ" (أخرجه البخاري وأحمد)، وَقَالَ آخَرُونَ: كِلَاهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى السواء، وقال الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كلٌّ عَلَيْهِ هيِّن، وقوله: {وَلَهُ المثل الأعلى في السموات

والأرض}، قال ابن عباس: كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَقَالَ قَتَادَةُ: مَثَلُهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هو ولا رب غيره، قوله: {وَهُوَ العزيز الحكيم} وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ، بَلْ قَدْ غَلَبَ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَهَرَ كُلَّ شيء بقدرته وسلطانه {الحكيم} في أقواله وأفعاله، وعن مالك فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.

- 28 - ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ - 29 - بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ، العابدين معه غيره، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُعْتَرِفُونَ أَنَّ شُرَكَاءَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادَ عُبَيْدٌ لَهُ مِلْكٌ لَهُ، كَمَا كانوا يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أَيْ تَشْهَدُونَهُ وتفهمونه من أنفسكم {هل لكم مما مملكت أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فيما رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} أي أيرضى أحدكم أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ شَرِيكًا لَهُ فِي مَالِهِ فَهُوَ وَهُوَ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ؟ {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أَيْ تَخَافُونَ أَنْ يُقَاسِمُوكُمُ الْأَمْوَالَ، قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: إِنَّ مَمْلُوكَكَ لَا تَخَافُ أَنْ يُقَاسِمَكَ مَالَكَ وَلَيْسَ لَهُ ذَاكَ، كَذَلِكَ اللَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْأَنْدَادَ مِنْ خَلْقِهِ؟ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} فَهُمْ يَأْنَفُونَ مِنَ الْبَنَاتِ، وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ، فَنَسَبُوا إِلَيْهِ مَا لَا يَرْتَضُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ فَهَذَا أَغْلَظُ الْكُفْرِ، وَهَكَذَا فِي هَذَا الْمَقَامِ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ مِنْ عَبِيدِهِ وَخَلْقِهِ، وَأَحَدُهُمْ يَأْبَى غَايَةَ الْإِبَاءِ وَيَأْنَفُ غَايَةَ الْأَنَفَةِ، مِنْ ذَلِكَ إِن يَكُونَ عَبْدُهُ شَرِيكَهُ فِي مَالِهِ يُسَاوِيهِ فِيهِ وَلَوْ شَاءَ لَقَاسَمَهُ عَلَيْهِ، تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً، ولما كان التنبيه بمثل هذا المثل على براءته تعالى ونزاهته عن ذلك بطريق الأَوْلى والأحرى، قال تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا عَبَدُوا غَيْرَهُ سَفَهًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجَهْلًا: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أَيِ الْمُشْرِكُونَ {أَهْوَآءَهُمْ} أَيْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَنْدَادَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، {فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أَيْ فَلَا أَحَدَ يَهْدِيهِمْ إِذَا كَتَبَ الله ضلالهم، {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَّاصِرِينَ} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ من قدرة الله منقذ ولا مجير.

- 30 - فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - 31 - مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - 32 - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ يقول تعالى: فسدِّدْ وجهك واستمر على الدين الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لَكَ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي هَدَاكَ اللَّهُ لَهَا، وَكَمَّلَهَا لَكَ غاية الكمال، ولازم فِطْرَتَكَ السَّلِيمَةَ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ عَلَيْهَا، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته

وتوحيد، وأنه لا إله غيره. وقوله تعالى: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ لَا تُبَدِّلُوا خَلْقَ اللَّهِ، فَتُغَيِّرُوا النَّاسَ عَنْ فطرتهم التي فطرهم الَّتِي فَطَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ خَبَرًا بِمَعْنَى الطَّلَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وهو مَعْنًى حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ خَبَرٌ عَلَى بَابِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى سَاوَى بَيْنَ خلقه كلهم في الفطرة، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا قال ابن عباس {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أَيْ لِدِينِ اللَّهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ» ثُمَّ يَقُولُ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدين القيم} (أخرجه البخاري عن أبي هريرة ورواه أيضاً مسلم). وروى الإمام أحمد عن الأسود بن سريع قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وغزوت معه، فأصبت ظفراً. فقاتل الناس يؤمئذ حَتَّى قَتَلُوا الْوِلْدَانَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ جَاوَزَهُمُ الْقَتْلُ الْيَوْمَ حَتَّى قَتَلُوا الذُّرِّيَّةَ»؟ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا هُمْ أبناء المشركين؟ فقال: "لا إِنَّمَا خِيَارُكُمْ أَبْنَاءُ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ قَالَ: لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً، لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً، وَقَالَ: كُلُّ نَسَمَةٍ تُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهَا لسانها فأبواها يهودانها أو ينصرانها" (أخرجه الإمام أحمد في مسنده والنسائي في كتاب السير)، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ فَإِذَا عَبَّرَ عَنْهُ لِسَانُهُ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» (أخرجه أحمد عن جابر بن عبد الله مرفوعاً). وروى الإمام أحمد عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "إِنَّ رَبِّي عزَّ وجلَّ أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي فِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عِبَادِي حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَأَضَلَّتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وأمرتهم أن لا يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابً لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فَقُلْتُ: رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدْعُوهُ خُبْزَةً، قَالَ: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فَسَنُنْفِقُ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثُ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ. قَالَ: وَأَهْلُ الجنة ثلاثة: ذو سلطان مسقط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، ورجل عفيف متعفف ذو عيال. قال: "وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زِبْر (لازِبْر: بكسر الزاي وفتحها: أي لا عقل له) له، الذين هم فيكم تبع لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لايخفى لَهُ طَمَعٌ - وَإِنْ دَقَّ - إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عن أهلك ومالك"، وذكر البخيل والكذاب والشنْظير (أخرجه أحمد ومعنى الشنظير: السيء الخلق: البذيء اللسان) الفحَّاش. وقوله تعالى: {ذَلِكَ دين الْقَيِّمُ} أَيِ التَّمَسُّكُ بِالشَّرِيعَةِ وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ هُوَ الدين القيم الْمُسْتَقِيمُ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ فَلِهَذَا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ فَهُمْ عَنْهُ نَاكِبُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} الآية.

وقوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} قال ابن جريح: أَيْ رَاجِعِينَ إِلَيْهِ {وَاتَّقُوهُ} أَيْ خَافُوهُ وَرَاقَبُوهُ {وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ} وَهِيَ الطَّاعَةُ الْعَظِيمَةُ {وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين} أي بل كونوا مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُخْلِصِينَ لَهُ الْعِبَادَةَ لَا يُرِيدُونَ بها سواه، قال ابن جرير: مَرَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمُعَاذِ بْنِ جبل، فقال عمر: مَا قِوَامُ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالَ مُعَاذٌ: ثَلَاثٌ وهن الْمُنْجِيَاتِ: الإِخلاص، وَهِيَ الْفِطْرَةُ، فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَالصَّلَاةُ وَهِيَ الْمِلَّةُ، وَالطَّاعَةُ وهي العصمة، فقال عمر صدقت. وقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أَيْ لَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَدْ فَرَّقُوا دِينَهُمْ أَيْ بدلوه وغيروه وآمنوا ببعض وكفروا ببعض؛ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ مِمَّا عَدَا أَهْلَ الإِسلام، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} الآية، فَأَهْلُ الْأَدْيَانِ قَبْلَنَا اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى آراء بَاطِلَةٍ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ مِنْهُمْ تَزْعُمُ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ أَيْضًا اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى نَحِلٍ كُلُّهَا ضَلَالَةٌ إِلَّا وَاحِدَةً، وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْمُتَمَسِّكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ، كَمَا رواه الحاكم في مستدركه أَنَّهُ: سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الفرقة الناجية منهم قَالَ: «مَنْ كَانَ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي».

- 33 - وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ - 34 - لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - 35 - أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ - 36 - وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ - 37 - أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ النَّاسِ إِنَّهُمْ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يشركون بالله ويعبدون معه غيره، وقوله تعالى: {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ} هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَلَامُ التَّعْلِيلِ عِنْدَ آخَرِينَ. وَلَكِنَّهَا تَعْلِيلٌ لِتَقْيِيضِ اللَّهِ لَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَاللَّهِ لَوْ تَوَعَّدَنِي حارس لخفت منه، فكيف والمتوعد ههنا هُوَ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ؛ ثُمَّ قال تعالى منكراً على المشركين فيما اختلفوا فيه من عبادة غيره بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} أَيْ حُجَّةً، {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} أَيْ يَنْطِقُ {بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ}؟ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ من ذلك، ثم قال تعالى: {وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يقنطون}، وهذا إِنْكَارٌ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَوَفَّقَهُ، فَإِنَّ الإِنسان إِذَا أصابته نعمة بطر، وإذا أصابته شدة قنط وأيس، قَالَ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أَيْ صَبَرُوا فِي الضَّرَّاءِ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي الرَّخَاءِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ

لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ فَيُوَسِّعُ عَلَى قَوْمٍ وَيُضَيِّقُ عَلَى آخَرِينَ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

- 38 - فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون - 39 - وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ - 40 - اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يَقُولُ تعالى آمراً بإعطاء {ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} أَيْ مِنَ الْبَرِّ وَالصِّلَةِ، {وَالْمِسْكِينَ} وَهُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ أو له شيء لايقوم بِكِفَايَتِهِ، {وَابْنَ السَّبِيلِ} وَهُوَ الْمُسَافِرُ الْمُحْتَاجُ إِلَى نَفَقَةٍ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سَفَرِهِ، {ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهُ اللَّهِ} أَيِ النَّظَرُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} أَيْ مَنْ أَعْطَى عَطِيَّةً يُرِيدُ أَنْ يَرُدَّ النَّاسُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَهْدَى لَهُمْ فَهَذَا لَا ثَوَابَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ، بِهَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد والضحاك، وَهَذَا الصَّنِيعُ مُبَاحٌ وَإِنْ كَانَ لَا ثَوَابَ فيه، إلاّ أنه قد نهي عنه بقوله تعالى: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} أَيْ لَا تُعْطِ الْعَطَاءَ تُرِيدُ أَكْثَرَ مِنْهُ، قال تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} أَيِ الَّذِينَ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُمُ الثَّوَابَ وَالْجَزَاءَ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «وَمَا تَصْدَّقَ أَحَدٌ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ»، إِلَّا أَخْذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ، حَتَّى تصير التمرة أعظم من أُُحُدٍ"، وقوله عزَّ وجلَّ: {والله الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} أَيْ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ يُخْرِجُ الإِنسان مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ عُرْيَانًا لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا سَمْعَ وَلَا بَصَرَ وَلَا قُوَى، ثُمَّ يَرْزُقُهُ جَمِيعَ ذَلِكَ بَعْدَ ذلك، والرياش واللباس والمال والأملاك والمكاسب. وقوله تعالى: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} أي يوم القيامة، وقوله تعالى: {هل من شركائهم} أَيِ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ {مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ}؟ أَيْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، ثُمَّ يَبْعَثُ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أَيْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، وتنزّه وتعاظم عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ نَظِيرٌ، أَوْ وَلَدٌ أَوْ وَالِدٌ، بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الفرد الصمد.

- 41 - ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ - 42 - قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ قال ابن عباس وعكرمة: المراد بالبر ههنا الفيافي، وبالبحر الأمصار والقرى، وفي رواية عنه: الْبَحْرُ الْأَمْصَارُ وَالْقُرَى مَا كَانَ مِنْهَا عَلَى جَانِبِ نَهْرٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بِالْبَرِّ المعروف، وبالبحر هو البحر المعروف،

وعن مُجَاهِدٍ {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} قَالَ: فَسَادُ الْبَرِّ قَتْلُ ابْنِ آدَمَ، وَفَسَادُ الْبَحْرِ أخذ السفينة غصباً، وقال عطاء: الْمُرَادُ بِالْبَرِّ مَا فِيهِ مِنَ الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى، وبالبحر جزائره، والقول الأول أظهر وعليه الأكثرون؛ وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} أَيْ بَانَ النقص في الزروع والثمار بِسَبَبِ الْمَعَاصِي، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي الْأَرْضِ فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ صَلَاحَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِالطَّاعَةِ، وَلِهَذَا جَاءَ في الحديث: «لَحَدٌ يُقَامُ فِي الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَى أَهْلِهَا من أن يمطروا أربعين صباحاً» (أخرجه أبو داود في سننه). وَالسَّبَبُ فِي هَذَا أَنَّ الْحُدُودَ إِذَا أُقِيمَتْ انكف الناس عن تعاطي المحرمات، وإذا تركت المعاصي كان سبباً في حصول الْبَرَكَاتِ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ وَلِهَذَا إِذَا نَزَلَ عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان، قيل للأرض: أخرجي بركتك، فيأكل من الرمانة الفئام (الفِئَام: الجماعة الكثيرة) مِنَ النَّاسِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقَحْفِهَا، وَيَكْفِي لَبَنُ اللَّقْحة (اللَّقْحة: الحلوب) الْجَمَاعَةَ مِنَ النَّاسِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِبَرَكَةِ تنفيذ شريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُلَّمَا أُقِيمَ الْعَدْلُ كثرت البركات والخير، ولهذا ثبت في الصحيحين: أن الفاجر إذا مات يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب، وقوله تعالى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ} الآية، أَيْ يَبْتَلِيهِمْ بِنَقْصِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ اخْتِبَارًا منه لهم وَمُجَازَاةً عَلَى صَنِيعِهِمْ {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أَيْ عَنِ الْمَعَاصِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يرجعون}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ} أَيْ مِنْ قَبْلِكُمْ، {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ} أَيْ فانظروا ما حَلَّ بِهِمْ مِنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَكُفْرِ النِّعَمِ.

- 43 - فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ - 44 - مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ - 45 - لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ فِي طَاعَتِهِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا أَرَادَ كَوْنَهُ فَلَا رَادَّ له، {يؤمئذ يَصَّدَّعُونَ} أي يتفرقون فريق فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِّن فَضْلِهِ} أَيْ يُجَازِيهِمْ مُجَازَاةَ الْفَضْلِ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} وَمَعَ هَذَا هُوَ الْعَادِلُ فِيهِمْ الَّذِي لَا يَجُورُ.

- 46 - وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - 47 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قومهم فجاؤوهم بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نصر المؤمنين

يقول تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى خَلْقِهِ، فِي إِرْسَالِهِ الرِّيَاحَ مبشرات بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، بمجيء الغيث عقبها، ولهذا قال تعالى: {وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ} أي المطر الذي الَّذِي يُنْزِلُهُ فَيُحْيِيَ بِهِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ، {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} أَيْ فِي الْبَحْرِ وَإِنَّمَا سَيَّرَهَا بِالرِّيحِ {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أَيْ فِي التِّجَارَاتِ والمعايش والسير من قطر إِلَى قُطْرٍ، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أَيْ تَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، مِنَ النِّعَمِ الظاهرة والباطلة الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، ثُمَّ قَالَ تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ} هَذِهِ تسلية من الله تعالى وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ وإن كذبه كثير من قومه، فَقَدْ كُذِّبَتِ الرُّسُلُ الْمُتَقَدِّمُونَ، مَعَ مَا جَاءُوا أممهم من الدلائل الواضحات، ولكن انتقم الله مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ وَخَالَفَهُمْ، وَأَنْجَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ، {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} أي هُوَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ تَكَرُّمًا وتفضيلاً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}. عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَرُدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نصر المؤمنين} (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء مرفوعاً).

- 48 - اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ - 49 - وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ - 50 - فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 51 - وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ يُبَيِّنُ تَعَالَى كَيْفَ يَخْلُقُ السحاب، الذي ينزل منه الماء، فقال تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} إِمَّا من البحر أَوْ مِمَّا يَشَاءُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَآءُ} أَيْ يَمُدُّهُ فَيُكَثِّرُهُ وينميه، ينشىء سحابة ترى فِي رَأْيِ الْعَيْنِ مِثْلَ التُّرْسِ، ثُمَّ يَبْسُطُهَا حَتَّى تَمْلَأَ أَرْجَاءَ الْأُفُقِ، وَتَارَةً يَأْتِي السَّحَابُ من نحو البحر ثقالاً مملوءة كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ - إلى قوله - كذلك نُخْرِجُ الموتى لعلكم تذكرون}، وكذلك قال ههنا: {الله الذي يُرْسِلُ الرياح فتثر سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً}، قال مجاهد: يعني قطعاً، وقال مجاهد: يعني قطعاً، وقال الضحاك: متراكماً وَقَالَ غَيْرُهُ: أَسْوَدَ مِنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ تَرَاهُ مدلهماً ثقيلاً قريباً من الأرض، وقوله تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} أَيْ فَتَرَى الْمَطَرَ وَهُوَ الْقَطْرُ، يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ذَلِكَ السَّحَابِ {فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أَيْ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ يفرحون بنزوله عليهم ووصوله إليهم، وقوله تعالى: {وَإِن كَانُواْ مِن قبل أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} مَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ القوم الذين أصابهم هذا المطر، كانوا قانطين من نزول المطر إليهم، فَلَمَّا جَاءَهُمْ، جَاءَهُمْ عَلَى فَاقَةٍ فَوَقَعَ مِنْهُمْ موقعاً عظيماً، فبعدما كَانَتْ أَرْضُهُمْ مُقَشْعَرَةً هَامِدَةً، أَصْبَحَتْ وَقَدِ اهْتَزَّتْ وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج، ولهذا قال تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} يَعْنِي الْمَطَرَ {كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ}

ثُمَّ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ بَعْدَ موتها وتفرقها وتمزقها، فقال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى} أَيْ إِنَّ الَّذِي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ}، يقول تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً} يَابِسَةً عَلَى الزَّرْعِ الَّذِي زَرَعُوهُ، وَنَبَتَ وَشَبَّ وَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ {فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً} أَيْ قَدِ اصْفَرَّ وَشَرَعَ فِي الْفَسَادِ {لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ} أَيْ بَعْدَ هَذَا الْحَالِ {يَكْفُرُونَ} أَيْ يَجْحَدُونَ مَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ مِنَ النعم، كقوله تعالى: {ألإرأيتم ما تحرثون - إلى قوله - بَلْ نحن محرمون}، قال ابن أبي حاتم عن عبيد اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: الرِّيَاحُ ثَمَانِيَةٌ: أَرْبَعَةٌ منها رحمة، وأربعة منها عذاب، فأما الرحمة: فالناشرات، والمبشرات، والمرسلات، والذرايات، وَأَمَّا الْعَذَابُ: فَالْعَقِيمُ، وَالصَّرْصَرُ - وَهُمَا فِي الْبَرِّ - وَالْعَاصِفُ وَالْقَاصِفُ وَهُمَا فِي الْبَحْرِ، فَإِذَا شَاءَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّكَهُ بِحَرَكَةِ الرَّحْمَةِ، فَجَعَلَهُ رَخَاءً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَلَاقِحًا لِلسَّحَابِ تُلَقِّحُهُ بِحَمْلِهِ الْمَاءَ كَمَا يُلَقِّحُ الذَّكَرُ الْأُنْثَى بِالْحَمْلِ، وَإِنْ شَاءَ حَرَّكَهُ بِحَرَكَةِ الْعَذَابِ، فَجَعَلَهُ عَقِيمًا وَأَوْدَعَهُ عَذَابًا أَلِيمًا وَجَعْلَهُ نِقْمَةً عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَيَجْعَلُهُ صَرْصَرًا وَعَاتِيًا وَمُفْسِدًا لِمَا يَمُرُّ عَلَيْهِ؛ وَالرِّيَاحُ مُخْتَلِفَةٌ فِي مَهَابِّهَا، صبَا ودَبُور وجَنوب وشَمال، وَفِي مَنْفَعَتِهَا وَتَأْثِيرِهَا أَعْظَمَ اخْتِلَافِ، فَرِيحٌ لَيِّنَةٌ رَطْبَةٌ تُغَذِّي النَّبَاتَ وَأَبْدَانَ الْحَيَوَانِ، وَأُخْرَى تُجَفِّفُهُ، وَأُخْرَى تُهْلِكُهُ وَتُعْطِبُهُ، وَأُخْرَى تُسَيِّرُهُ وَتَصْلُبُهُ، وَأُخْرَى تُوهِنُهُ وَتُضْعِفُهُ (أخرجه ابن أبي حاتم عن عبيد بن عمرو موقوفاً).

- 52 - فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدعآء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ - 53 - وَمَآ أَنتَ بهاد الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ يَقُولُ تَعَالَى: كَمَا أَنَّكَ لَيْسَ فِي قُدْرَتِكَ أَنْ تُسْمِعَ الْأَمْوَاتَ فِي أَجْدَاثِهَا، وَلَا تُبْلِغَ كَلَامَكَ الصُّمَّ الَّذِينَ لا يسمعون، كَذَلِكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ الْعُمْيَانِ عَنِ الْحَقِّ وَرَدِّهِمْ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ، بَلْ ذَلِكَ إِلَى الله فإنه تعالى بقدرته يسمع الأموات إِذَا شَاءَ، وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} أَيْ خَاضِعُونَ مُسْتَجِيبُونَ مُطِيعُونَ، فَأُولَئِكَ هُمُ الذين يسمعون الحق ويتبعونه، وهذا حال المؤمينين، وَالْأَوَّلُ مَثَلُ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}، وقد تواترت الآثار (أورد ابن كثير عن ابن أبي الدنيا آثاراً كثيرة عن السلف الصالح تدل على اجتماع أرواح الموتى واستبشارهم بزيارة أخوانهم وأقربائهم لهم وأنهم يحسون ويشعرون بذلك ويأنسون بزيارة الأحياء، وقد ضربنا صفحاً عنها خشية الإطالة) بِأَنَّ الْمَيِّتَ يَعْرِفُ بِزِيَارَةِ الْحَيِّ لَهُ وَيَسْتَبْشِرُ؛ فروى ابن أبي الدنيا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما مِنْ رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ أَخِيهِ وَيَجْلِسُ عِنْدَهُ إِلَّا اسْتَأْنَسَ بِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُومَ»، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «إذا مر الرجل بِقَبْرٍ يَعْرِفُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» وَقَدْ شُرِعَ السَّلَامُ عَلَى الْمَوْتَى، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْعُرْ وَلَا يَعْلَمُ بالمسلَّم مُحَالٌ، وقد علّم النبي صلى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ إِذَا رَأَوُا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ، فَهَذَا السَّلَامُ وَالْخِطَابُ وَالنِّدَاءُ لِمَوْجُودٍ يَسْمَعُ وَيُخَاطِبُ وَيَعْقِلُ وَيَرُدُّ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعِ المسلِّم الرَّدَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

- 54 - اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ يُنَبِّهُ تَعَالَى عَلَى تَنَقُّلِ الإِنسان فِي أَطْوَارِ الْخَلْقِ، حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَأَصْلُهُ مِن تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ، ثُمَّ يَصِيرُ عظاماً، ثم تكسى العظام لَحْمًا، وَيُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ ضَعِيفًا نَحِيفًا وَاهِنَ الْقُوَى، ثُمَّ يَشِبُّ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَكُونَ صَغِيرًا، ثُمَّ حَدَثًا، ثُمَّ مُرَاهِقًا، ثُمَّ شَابًّا وَهُوَ - الْقُوَّةُ بَعْدَ الضَّعْفِ - ثُمَّ يَشْرَعُ فِي النَّقْصِ فَيَكْتَهِلُ، ثُمَّ يَشِيخُ ثُمَّ يَهْرَمُ وَهُوَ - الضَّعْفُ بَعْدَ الْقُوَّةِ - فَتَضْعُفُ الْهِمَّةُ وَالْحَرَكَةُ وَالْبَطْشُ، وَتَشِيبُ اللُّمَّةُ وَتَتَغَيَّرُ الصِّفَاتُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} أَيْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَتَصَرَّفُ فِي عَبِيدِهِ بِمَا يُرِيدُ {وَهُوَ الْعَلِيمُ القدير}.

- 55 - وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ - 56 - وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ - 57 - فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَهْلِ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَفِي الدُّنْيَا فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَكُونُ مِنْهُمْ جَهْلٌ عَظِيمٌ أَيْضًا، فَمِنْهُ: إِقْسَامُهُمْ بِاللَّهِ أَنَّهُمْ مَا لَبِثُوا غير ساعة واحدة في الدنيا، ومقصودهم بِذَلِكَ عَدَمُ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُنْظَرُوا حَتَّى يُعْذَرَ إِلَيْهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الذين أُوتُواْ العالم وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} أَيْ فَيَرُدُّ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُونَ الْعُلَمَاءُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَقَامُوا عَلَيْهِمْ حُجَّةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُونَ لَهُمْ حِينَ يَحْلِفُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أَيْ فِي كِتَابِ الْأَعْمَالِ {إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} أَيْ مِنْ يَوْمِ خُلِقْتُمْ إِلَى أَنْ بُعِثْتُمْ، {وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ} أي اعْتِذَارُهُمْ عَمَّا فَعَلُوا، {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أَيْ وَلَا هُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ}.

- 58 - وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ - 59 - كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ - 60 - فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} أَيْ قَدْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْحَقَّ وَوَضَّحْنَاهُ لَهُمْ، وَضَرَبْنَا

لهم فيه الأمثال ليستبينوا الحق بغيره وَيَتَّبِعُوهُ، {وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} أَيْ لَوْ رَأَوْا أَيَّ آيَةٍ كَانَتْ، سَوَاءً كَانَتْ بِاقْتِرَاحِهِمْ أَوْ غَيْرِهِ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا سِحْرٌ وَبَاطِلٌ، كَمَا قَالُوا فِي انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَنَحْوِهِ، ولهذا قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أَيِ اصْبِرْ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ، مِنْ نَصْرِهِ إِيَّاكَ عليهم، وَجَعْلِهِ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} أَيْ بَلِ اثْبُتْ عَلَى مَا بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ، فإنه الحق الذي لا مرية فِيهِ، قال ابن أبي حاتم عن أبي يحيى: صلى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فَأَجَابَهُ علي رضي الله عنه وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يوقنون} (أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير).

31 - سورة لقمان

- 31 - سورة لقمان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - 1 - الم - 2 - تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ - 3 - هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ - 4 - الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ - 5 - أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَامَّةُ الكلام على ما يتعلق بصدر هذه الآية، وهو أنه سبحانه وتعالى جَعَلَ هَذَا الْقُرْآنَ هُدًى وَشِفَاءً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ، فَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ بِحُدُودِهَا وَأَوْقَاتِهَا، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ نَوَافِلَ رَاتِبَةٍ وَغَيْرِ رَاتِبَةٍ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ المفروضة عليهم إلى مستحقيها، ووصلوا أرحامهم وقراباتهم، وَأَيْقَنُوا بِالْجَزَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَرَغِبُوا إِلَى الله في ثواب ذلك، لم يراؤوا وَلَا أَرَادُوا جَزَاءً مِنَ النَّاسِ وَلَا شَكُورًا، فمن ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} أَيْ عَلَى بصيرة وبينة ومنهج واضح جلي {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

- 6 - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ - 7 - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ لَمَّا ذَكَّرَ تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بكتاب الله وينتفعون بسماعة، عَطَفَ بِذِكْرِ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ، الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الِانْتِفَاعِ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ، وَأَقْبَلُوا عَلَى اسْتِمَاعِ المزامير والغناء، بالألحان وآلات الطرب (قال السيوطي: أخرج ابن جويبر: نزلت في النضر بن الحارث، اشترى قينة، وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، يقول: أطعميه واسقيه وغنيه، هذا خير مما يدعوك إليه محمد، وقيل: إن النضر هذا كان من بني عبد الدار، وكان قد تعلم أخبار فارس في الجاهلية). روى ابن جرير عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ الْبَكْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الآية: {ومن الناس من يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود: الْغِنَاءُ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، يردها ثلاث

مرات، وقال الحسن البصري: نزلت هذه الآية {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} في الغناء والمزامير، وقيل: أراد بِقَوْلِهِ: {يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} اشْتِرَاءَ الْمُغَنِّيَاتِ مِنَ الجواري، قال ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لَا يَحُلُّ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ، ولا شراؤهن، وأكل أثمانهم حَرَامٌ، وَفِيهِنَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عليَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سبيل الله} (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الترمذي وابن جرير)، قال الضحّاك: {لَهْوَ الحديث} يعني الشرك، وبه قال ابن أَسْلَمَ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ كُلُّ كَلَامٍ يَصُدُّ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِهِ، وَقَوْلُهُ: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ إِنَّمَا يَصْنَعُ هذا للتخالف للإسلام وأهله، وقوله تعالى: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} قَالَ مُجَاهِدٌ: وَيَتَّخِذُ سَبِيلَ اللَّهِ هُزُوًا يَسْتَهْزِئُ بِهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي وَيَتَّخِذُ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً، وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أَيْ كَمَا اسْتَهَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَسَبِيلِهِ، أُهِينُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَذَابِ الدَّائِمِ الْمُسْتَمِرِّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} أَيْ هَذَا الْمُقْبِلُ عَلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالطَّرَبِ، إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ، وَلَّى عَنْهَا وَأَعْرَضَ وَأَدْبَرَ، وتصامم وما به من صمم: كأنه ما سمعها لأنه يتأذى بسماعها، إذ لاانتفاع لَهُ بِهَا وَلَا أَرَبَ لَهُ فِيهَا، {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤْلِمُهُ كَمَا تَأَلَّمَ بِسَمَاعِ كِتَابِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ.

- 8 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم جَنَّاتُ النَّعِيمِ - 9 - خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هَذَا ذِكْرُ مَآلِ الْأَبْرَارِ، مِنَ السُّعَدَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وصدقوا المرسلين، وعملوا الأعمال الصالحة التابعة لِشَرِيعَةِ اللَّهِ {لَهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أَيْ يَتَنَعَّمُونَ فيها بأنواع الملاذ، مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمُشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، وَالْمَرَاكِبِ، وَالنِّسَاءِ، وَالنَّضْرَةِ، وَالسَّمَاعِ، الَّذِي لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ أَحَدٍ، وهم في ذلك مقيمون دائماً لَا يَظْعَنُونَ وَلَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَعَدَ اللَّهِ حَقّاً} أَيْ هَذَا كَائِنٌ لَا محالة، لأنه وَعْدِ اللَّهِ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ لِأَنَّهُ الْكَرِيمُ الْمَنَّانُ، الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ، الْقَادِرُ عَلَى كل شيء، {وهو العزيز} الَّذِي قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَدَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، {الْحَكِيمُ} فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الَّذِي جَعَلَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ}.

- 10 - خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ - 11 - هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ يُبَيِّنُ سُبْحَانَهُ بِهَذَا قُدْرَتَهُ الْعَظِيمَةَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض، وما فيهما وما بينهما، فقال تعالى: {خلق السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَيْسَ لَهَا عمد، وقال ابن عباس: لَهَا عُمُدٌ لَا تَرَوْنَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هذه المسألة في أول سورة الرعد، {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} يَعْنِي الْجِبَالُ أَرْسَتِ الْأَرْضَ وَثَقَّلَتْهَا لِئَلَّا تَضْطَرِبُ بِأَهْلِهَا عَلَى وَجْهِ الماء، ولهذا قال: {إِنْ تَمِيدَ بِكُمْ} أي لئلا تميد بكم، وقوله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ}

أَيْ وَذَرَأَ فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْحَيَوَانَاتِ مِمَّا لَا يَعْلَمُ عَدَدَ أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا إِلَّا الَّذِي خلقها، ولما قرر سبحانه أنه الخالق نبه على أنه الرزاق، بقوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مآء فأنبتنا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} أَيْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ مِنَ النَّبَاتِ {كَرِيمٍ} أَيْ حَسَنِ الْمَنْظَرِ، وقال الشعبي: من دَخَلَ الْجَنَّةَ فَهُوَ كَرِيمٌ وَمَنْ دَخَلَ النَّارَ فهو لئيم، وقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا صَادِرٌ عَنْ فِعْلِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ وَتَقْدِيرِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} أَيْ مِمَّا تَعْبُدُونَ وَتَدْعُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، {بَلِ الظَّالِمُونَ} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ {فِي ضَلاَلٍ} أَيْ جَهْلٍ وَعَمًى {مُّبِينٍ} أَيْ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ.

- 12 - وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي لقمان: هل كان نبياً أو عبداً صالحاً؟ على قولين: الأكثرون على الثاني، قال ابن عباس: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً، وقال سعيد بن المسيب: كَانَ لُقْمَانُ مِنْ سُودَانِ مِصْرَ ذَا مَشَافِرَ، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة، وقال ابن جرير عَنْ خَالِدٍ الرَّبْعِيِّ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا نَجَّارًا، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: اذْبَحْ لَنَا هذه الشاة فذبحها، قال أَخْرِجْ أَطْيَبَ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا، فَأَخْرَجَ اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ، ثم مكث مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ اذْبَحْ لَنَا هَذِهِ الشَّاةَ فَذَبَحَهَا فَقَالَ: أَخْرِجْ أَخْبَثَ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا فَأَخْرَجَ اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: أَمَرْتُكَ أَنْ تُخْرِجَ أَطْيَبَ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا فَأَخْرَجْتَهُمَا، وَأَمَرْتُكَ أَنْ تُخْرِجَ أَخْبَثَ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا فَأَخْرَجْتَهُمَا: فَقَالَ لُقْمَانُ؛ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ أَطْيَبَ مِنْهُمَا إِذَا طَابَا وَلَا أَخْبَثَ مِنْهُمَا إِذَا خبثا، وقال مُجَاهِدٍ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا صَالِحًا وَلَمْ يَكُنْ نبياً، غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ مُصَفَّحَ الْقَدَمَيْنِ قَاضِيًا عَلَى بَنِي إسرائيل. وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} أَيِ الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَالتَّعْبِيرَ، {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} أَيْ أَمَرْنَاهُ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ عَلَى مَا أَتَاهُ اللَّهُ وَمَنَحَهُ وَوَهَبَهُ مِنَ الْفَضْلِ الَّذِي خصصه بِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَأَهْلِ زَمَانِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أَيْ إِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ وَثَوَابُهُ عَلَى الشَّاكِرِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يمهدون}، وَقَوْلُهُ: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أَيْ غَنِيٌّ عَنِ الْعِبَادِ لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ وَلَوْ كَفَرَ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً، فَإِنَّهُ الغني عما سِوَاهُ؛ فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلا إياه.

- 13 - وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ - 14 - وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ - 15 - وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يَقُولُ تَعَالَى مخبراً عن وصية لقمان لولده، وقد ذكره الله تعالى بأحسن الذكر، وَهُوَ يُوصِي وَلَدَهُ الَّذِي هُوَ أُشْفِقُ النَّاسِ عَلَيْهِ وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ، فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَمْنَحَهُ أَفْضَلَ مَا يُعْرَفُ، وَلِهَذَا أَوْصَاهُ أَوَّلًا بِأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا

يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ مُحَذِّرًا لَهُ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أَيْ هُوَ أَعْظَمُ الظلم. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنه ليس بذلك، أَلَا تَسْمَعَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ {يَا بنيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود)، ثُمَّ قَرَنَ بِوَصِيَّتِهِ إِيَّاهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، الْبَرَّ بِالْوَالِدَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إحساناً} وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ تَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فِي القرآن؛ وقال ههنا: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ}، قَالَ مُجَاهِدٌ: مَشَقَّةُ وَهْنِ الْوَلَدِ؛ وَقَالَ قَتَادَةُ: جُهْدًا عَلَى جُهْدٍ؛ وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ، وَقَوْلُهُ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} أَيْ تَرْبِيَتُهُ وَإِرْضَاعُهُ بَعْدَ وَضْعِهِ فِي عَامَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} ألآية، ومن ههنا استنبط ابن عباس وغيره من اللأئمة أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، لِأَنَّهُ قال فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً}، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ تَعَالَى تَرْبِيَةَ الْوَالِدَةِ، وَتَعَبَهَا وَمَشَقَّتَهَا فِي سَهَرِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، لِيُذَكِّرَ الْوَلَدَ بِإِحْسَانِهَا الْمُتَقَدِّمِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صغيراً}، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إليَّ الْمَصِيرُ} أَيْ فَإِنِّي سَأَجْزِيكَ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ جزاء. عن شعيب بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَكَانَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُطِيعُونِي لَا آلُوكُمْ خيراً، وإن المصير إِلَى اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ، إقامة فلا ظعن، وخلود فلا موت (أخرجه ابن أبي حاتم، وهذا القول من كلام معاذ بن جبل رضي الله عنه). وقوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تطعمها} أَيْ إِنْ حَرَصَا عَلَيْكَ كُلَّ الْحِرْصِ، عَلَى أَنْ تُتَابِعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا فَلَا تَقْبَلْ مِنْهُمَا ذلك، ولا يمنعك ذلك أَنْ تُصَاحِبَهُمَا فِي الدُّنْيَا {مَعْرُوفاً} أَيْ مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا، {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ، {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، روى الطبراني عن داود بن أبي هند أن سعد بن مالك (سعد بن مالك هو سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه) قَالَ: أُنْزِلَتْ فِيَّ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ به علم فلا تطعهمآ} الآية، قال: كُنْتُ رَجُلًا بَرًّا بِأُمِّي، فَلَمَّا أَسْلَمْتُ قَالَتْ: يَا سَعْدُ مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكَ قَدْ أَحْدَثْتَ؟ لتدعنَّ دِينَكَ هَذَا أَوْ لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ حَتَّى أَمُوتَ، فَتُعَيَّرُ بِي، فَيُقَالُ: يَا قَاتِلَ أُمِّهِ، فَقُلْتُ: لَا تَفْعَلِي يَا أُمَّهْ، فَإِنِّي لَا أَدْعُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ؛ فَمَكَثَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَمْ تَأْكُلْ فَأَصْبَحَتْ قَدْ جهدت، فمكثت يوماً آخر وَلَيْلَةً لَمْ تَأْكُلْ، فَأَصْبَحَتْ قَدْ جَهِدَتْ، فَمَكَثَتْ يوماً وَلَيْلَةً أُخْرَى لَا تَأْكُلْ، فَأَصْبَحَتْ قَدِ اشْتَدَّ جُهْدُهَا، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُلْتُ يَا أُمَّهْ تَعْلَمِينَ وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ فَخَرَجَتْ نَفساً نَفْساً مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ؛ فَإِنْ شِئْتِ فَكُلِي وَإِنْ شِئْتِ لَا تأكلي، فأكلت.

- 16 - يَا بُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ - 17 - يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ

عَزْمِ الْأُمُورِ - 18 - وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ - 19 - وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحمير هذه وصايا نافعة حكاها الله سبحانه عَنْ (لُقْمَانَ الْحَكِيمِ) لِيَمْتَثِلَهَا النَّاسُ وَيَقْتَدُوا بِهَا، فَقَالَ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} أَيْ إِنَّ الْمَظْلَمَةَ أَوِ الخطيئة لو كانت مثقال حبة خردل، وكانت مخفية فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} أَيْ أَحْضَرَهَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ، وَجَازَى عَلَيْهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} الآية، وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الذَّرَّةُ مُحَصَّنَةً مُحَجَّبَةً فِي داخل صخرة صماء، أو ذاهبة في أرجاء السماوات والأرض، فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِهَا لِأَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أَيْ لِطَيْفُ الْعَلَمِ فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ الْأَشْيَاءُ، وَإِنْ دَقَّتْ وَلَطُفَتْ وَتَضَاءَلَتْ، {خَبِيرٌ} بِدَبِيبِ النَّمْلِ فِي اللَّيْلِ الْبَهِيمِ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} أَنَّهَا صَخْرَةٌ تَحْتَ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ، وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ فِي حَقَارَتِهَا لَوْ كَانَتْ دَاخِلَ صَخْرَةٍ فإن الله سيبديها ويظهرها بلطيف عمله، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ، لَخَرَجَ عَمَلُهُ للناس كائناً ما كان" (أخرجه أحمد عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً)، ثُمَّ قَالَ: {يَا بنيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} أَيْ بِحُدُودِهَا وَفُرُوضِهَا وَأَوْقَاتِهَا، {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} أَيْ بِحَسَبِ طَاقَتِكِ وَجُهْدِكَ، {وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ} لأن الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ مِنَ النَّاسِ أَذًى فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أَيْ إِنَّ الصَّبْرَ عَلَى أَذَى النَّاسِ لَمِنْ عَزْمِ الأمور. وقوله تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} يَقُولُ: لَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ إِذَا كَلَّمْتَهُمْ أَوْ كَلَّمُوكَ، احْتِقَارًا مِنْكَ لَهُمْ وَاسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أََلِنْ جَانِبَكَ وَابْسُطْ وَجْهَكَ إِلَيْهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ»، قال ابن عباس يقول: لا تتكبر فتحتقر عِبَادَ اللَّهِ وَتُعْرِضَ عَنْهُمْ بِوَجْهِكَ إِذَا كَلَّمُوكَ، وقال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ}: لا تتكلم وأنت معرض، وقال إبراهيم النخعي: يعني بذلك التشدق في الكلام، والصواب القول الأول، قال الشاعر (هو عمرو بن حيي التَّغْلَبِيِّ): وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صعَّر خَدَّهُ * أَقَمْنَا له من ميله فتقوما وقوله تعالى: رولا تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً} أي خيلاء مُتَكَبِّرًا جَبَّارًا عَنِيدًا، لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ يُبْغِضُكَ اللَّهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أَيْ مُخْتَالٍ مُعْجَبٍ فِي نَفْسِهِ {فَخُورٍ} أَيْ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}. عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ قَالَ: ذُكِرَ الْكِبْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَدَّدَ فِيهِ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» فَقَالَ رَجُلٌ

مِنَ الْقَوْمِ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لِأَغْسِلُ ثِيَابِي فَيُعْجِبُنِي بَيَاضُهَا وَيُعْجِبُنِي شِرَاكُ نَعْلِي وعلاَّقة سَوْطِي، فَقَالَ: «لَيْسَ ذَلِكَ الْكِبْرُ، إِنَّمَا الكبر أن تسفه الحق، وتغمط الناس» (أخرجه الطبراني عن ثابت بن قيس وفيه قصة طويلة)، وقوله: {واقصد فِي مَشْيِكَ} أي امش مقتصداً مشياً لَيْسَ بِالْبَطِيءِ الْمُتَثَبِّطِ، وَلَا بِالسَّرِيعِ الْمُفْرِطِ بَلْ عَدْلًا وَسَطًا بَيْنَ بَيْنَ وَقَوْلُهُ: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} أَيْ لَا تُبَالِغْ فِي الْكَلَامِ وَلَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلِهَذَا قال: {إن أنكر الأصولت لَصَوْتُ الحمير} قال مجاهد: إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، أَيْ غَايَةُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ أَنَّهُ يُشَبَّهُ بِالْحَمِيرِ فِي عُلُوِّهِ وَرَفْعِهِ، وَمَعَ هَذَا هُوَ بَغِيضٌ إِلَى الله تعالى، وهذا التشبيه بِالْحَمِيرِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ وَذَمَّهُ غَايَةَ الذَّمِّ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه»، وروى النسائي عند تفسير هذه الآية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحَمِيرِ فَتَعَوَّذُوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطاناً» (أخرجه النسائي وبقية الجماعة سوى ابن ماجة). فَهَذِهِ وَصَايَا نَافِعَةٌ جِدًّا، وَهِيَ مِنْ قَصَصِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ، وَقَدْ رُوِيَ عنه من الحكم والمواعظ أشياء كثيرة.

- 20 - أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلاَ كِتَابٍ منير - 21 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ يقول تعالى منبهاً خلقه عاى نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِأَنَّهُ سَخَّرَ لَهُمْ مَّا فِي السموات، مِنْ نُجُومٍ يَسْتَضِيئُونَ بِهَا فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ، وما يخلق فيها من سحاب وأمطار، وما خلق لهم في الأرض من أنهار وَأَشْجَارٍ وَزُرُوعٍ وَثِمَارٍ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ الظَّاهِرَةَ والباطنة، ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ مَا آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ أي في توحيده وإرساله الرُّسُلِ، وَمُجَادَلَتِهِ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا مُسْتَنَدٍ، مِنْ حُجَّةٍ صَحِيحَةٍ وَلَا كِتَابٍ مَأْثُورٍ صَحِيحٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} أَيْ مُبِينٍ مُضِيءٍ {وَإِذَا قِيلَ لهم} أي هؤلاء الْمُجَادِلِينَ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ {اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} أَيْ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ الشَّرَائِعِ الْمُطَهَّرَةِ، {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ إِلَّا اتِّبَاعَ الآباء الأقدمين، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} أَيْ فَمَا ظَنُّكُمْ أَيُّهَا الْمُحْتَجُّونَ بِصَنِيعِ آبَائِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ وَأَنْتُمْ خَلَفٌ لَهُمْ فيما كانوا فيه، ولهذا قال تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}.

- 22 - وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمور - 23 - وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ - 24 - نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ -[68]- يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أَيْ أَخْلَصَ لَهُ الْعَمَلَ، وَانْقَادَ لِأَمْرِهِ وَاتَّبَعَ شَرْعَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أَيْ فِي عَمَلِهِ بِاتِّبَاعِ مَا بِهِ أُمِرَ، وَتَرْكِ مَا عَنْهُ زُجِرَ {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} أَيْ فَقَدْ أَخَذَ مُوَثِقًا مِنَ اللَّهِ مَتِينًا أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُ، {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ * وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} أَيْ لَا تحزن عليهم يا محمد فِي كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَإِنَّ قَدَرَ اللَّهِ نَافِذٌ فِيهِمْ، وَإِلَى اللَّهِ مَرْجِعُهُمْ {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} أَيْ فَيَجْزِيهِمْ عَلَيْهِ، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خافية، ثم قال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً} أَيْ فِي الدُّنْيَا، {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} أَيْ نُلْجِئُهُمْ {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} أَيْ فَظِيعٍ صعب شاق على النفوس، كما قال تَعَالَى: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}.

- 25 - وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ - 26 - لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَن اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عن هؤلاء المشركين، إِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ شُرَكَاءَ يَعْتَرِفُونَ أَنَّهَا خَلْقٌ لَهُ وَمِلْكٌ له، ولهذا قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} أَيْ إِذْ قَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ بِاعْتِرَافِكُمْ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، ثم قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السموات والأرض} أي هي خَلْقُهُ وَمُلْكُهُ، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أَيِ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، {الْحَمِيدُ} فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَ لَهُ الحمد في السماوات والأرض، وَهُوَ الْمَحْمُودُ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا.

- 27 - وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ - 28 - مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَجَلَالِهِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا، وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا أَحَدٌ، وَلَا اطِّلَاعَ لِبِشْرٍ عَلَى كُنْهِهَا وَإِحْصَائِهَا، كما قال سيد البشر: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ على نفسك»، فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبحر ما نفذت كَلِمَاتُ اللَّهِ} أَيْ وَلَوْ أَنَّ جَمِيعَ أَشْجَارِ الأرض جعلت أقلاماً، وجعل البحر مداداً وأمده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} أَيْ وَلَوْ أَنَّ جَمِيعَ أَشْجَارِ الْأَرْضِ جُعِلَتْ أَقْلَامًا، وجعل البحر مداداً وأمده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَعَهُ، فَكُتِبَتْ بِهَا كَلِمَاتُ اللَّهِ الدَّالَّةُ عَلَى عَظْمَتِهِ وَصِفَاتِهِ وَجَلَالِهِ، لَتَكَسَّرَتِ الْأَقْلَامُ ونفذ مَاءُ الْبَحْرِ وَلَوْ جَاءَ أَمْثَالُهَا مَدَدًا، وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ السَّبْعَةُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ وَلَمْ يُرِدِ الحصر، فقد قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {بِمِثْلِهِ} آخَرَ فَقَطْ، بَلْ بِمِثْلِهِ ثُمَّ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ بِمِثْلِهِ ثُمَّ هَلُمَّ جَرًّا، لِأَنَّهُ لَا حَصْرَ لِآيَاتِ اللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ، قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَوْ جُعِلَ شَجَرُ الْأَرْضِ أَقْلَامًا وَجُعِلَ الْبَحْرُ مِدَادًا، وَقَالَ اللَّهُ: إِنَّ مِنْ أمري كذا لنفذ ماء البحر وتكسرت الأقلام، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّ مَثَلَ عِلْمِ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَطْرَةٍ مِنْ مَاءِ الْبُحُورِ كُلِّهَا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ: {ولو أن ما في الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} الآية، وقوله تَعَالَى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أَيْ مَا خَلْقُ جَمِيعِ النَّاسِ، وَبَعْثُهُمْ يَوْمَ الْمَعَادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ، إِلَّا كَنِسْبَةِ خلق نفس واحدة،

الجميع هيّن عليه، {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ له كن فيكون}، {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} أَيْ لَا يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكَرُّرِهِ وتوكيده، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أَيْ كَمَا هُوَ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِهِمْ بَصِيرٌ بِأَفْعَالِهِمْ، كَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، كَذَلِكَ قُدْرَتُهُ عَلَيْهِمْ كقدرته على نفس واحدة، ولهذا قال تَعَالَى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} الآية.

- 29 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ - 30 - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ يُخْبِرُ تعالى أنه {يُولِجُ الليل فِي النهار} يعني يَأْخُذُ مِنْهُ فِي النَّهَارِ فَيَطُولُ ذَلِكَ وَيَقْصُرُ هَذَا، وَهَذَا يَكُونُ زَمَنَ الصَّيْفِ يَطُولُ النَّهَارُ إلى الغاية، ثم يشرع فِي النَّقْصِ فَيَطُولُ اللَّيْلُ وَيَقْصُرُ النَّهَارُ وَهَذَا يكون في الشِّتَاءِ {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قِيلَ إِلَى غَايَةٍ مَحْدُودَةٍ، وَقِيلَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكِلَا الْمَعْنِيِّينَ صَحِيحٌ وَيُسْتَشْهِدُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ؟» قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ؟ قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ ثُمَّ تَسْتَأْذِنُ رَبَّهَا فَيُوشِكُ أَنْ يُقَالَ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ» (أخرجه الشيخان عن أبي ذر الغفاري مرفوعاً)، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الشَّمْسُ بِمَنْزِلَةِ السَّاقِيَةِ تَجْرِي بِالنَّهَارِ فِي السَّمَاءِ فِي فَلَكِهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ جَرَتْ بِاللَّيْلِ فِي فَلَكِهَا، تَحْتَ الْأَرْضِ حَتَّى تَطْلُعَ مِنْ مَشْرِقِهَا، قَالَ: وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفاً)، وقوله: {وإن الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} المعنى أنه تعالى الخالق العالم بجميع الأشياء، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ} أَيْ إِنَّمَا يُظْهِرُ لَكُمْ آيَاتِهِ لِتَسْتَدِلُّوا بِهَا عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ أي الإله الحق، وأن كل مل سِوَاهُ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ وَكُلُّ شيء فقير إليه، الْجَمِيعُ خَلْقُهُ وَعَبِيدُهُ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى تَحْرِيكِ ذَرَّةٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَوِ اجْتَمَعَ كُلُّ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا لعجزوا عن ذلك، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أَيِ الْعَلِيُّ الَّذِي لَا أَعْلَى مِنْهُ، الْكَبِيرُ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شيء، فالكل خَاضِعٌ حَقِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ.

- 31 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ - 32 - وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كفور يقول تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ، لِتَجْرِيَ فِيهِ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، أَيْ بِلُطْفِهِ وَتَسْخِيرِهِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا جَعَلَ فِي الْمَاءِ مِنْ قُوَّةٍ يَحْمِلُ بِهَا السُّفُنَ لَمَا جَرَتْ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ} أَيْ مِنْ قُدْرَتِهِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ

لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أَيْ صَبَّارٌ فِي الضَّرَّاءِ، شكور في الرخاء، ثم قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ} أَيْ كَالْجِبَالِ وَالْغَمَامِ {دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إياه}، وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك} الآية، ثم قال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ متقصد} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ كَافِرٌ، كَأَنَّهُ فَسَرَّ الْمُقْتَصِدَ ههنا بالجاهد، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يشركون}، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، هُوَ الْمُتَوَسِّطُ فِي الْعَمَلِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ هُوَ الْمُرَادُ في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} الآية، فالمقتصد ههنا هو المتوسط في العمل، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الإِنكار عَلَى مَنْ شَاهَدَ تِلْكَ الْأَهْوَالَ، وَالْأُمُورَ الْعِظَامَ، وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ فِي البحر، ثم بعدما أنعم الله عليه بالخلاص، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَابِلَ ذَلِكَ بِالْعَمَلِ التَّامِّ، وَالدَّؤُوبِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ، فَمَنِ اقتصد بعد ذلك كان مقصراً والله أعلم، وقوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} الختار: هو الغدّار، قاله مجاهد والحسن وَهُوَ الَّذِي كُلَّمَا عَاهَدَ نَقَضَ عَهْدَهُ، وَالْخَتْرُ أتم الغدر وأبلغه. قال عمرو بن معد يكرب: وَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ أَبَا عُمَيْرٍ * مَلَأْتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ وَقَوْلُهُ: {كَفُورٍ} أَيْ جَحُودٌ لِلنِّعَمِ لَا يَشْكُرُهَا بَلْ يَتَنَاسَاهَا وَلَا يَذْكُرُهَا.

- 33 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ يَقُولُ تَعَالَى مُنْذِرًا لِلنَّاسِ يَوْمَ الْمَعَادِ، وَآمِرًا لَهُمْ بِتَقْوَاهُ وَالْخَوْفِ مِنْهُ، والخشية من الله مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَيْثُ {لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ} أَيْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِنَفْسِهِ لَمَا قُبِلَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْوَلَدُ لَوْ أراد فداء والده بنفسه لم يقبل مِنْهُ، ثُمَّ عَادَ بِالْمَوْعِظَةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {فَلَا تعزنكم الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أَيْ لَا تُلْهِيَنَّكُمْ بِالطُّمَأْنِينَةِ فِيهَا عَنِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} يَعْنِي الشَّيْطَانُ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ)، فَإِنَّهُ يَغُرُّ ابْنَ آدَمَ وَيَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ، وليس من ذلك شيء، بل كان كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا}، قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَالَ عُزَيْرٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَمَّا رَأَيْتُ بَلَاءَ قَوْمِي اشْتَدَّ حُزْنِي وكثر همي وأرق نومي، فتضرعت إِلَى رَبِّي وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ، فَأَنَا فِي ذَلِكَ التضرع أبكي إذ أتاني الملَك، فقلت له: خبرني هل تشفع أرواح الصديقين المظلمة، أَوِ الْآبَاءِ لِأَبْنَائِهِمْ؟ قَالَ: إِنِ الْقِيَامَةَ فِيهَا فَصْلُ الْقَضَاءِ، وَمُلْكٌ ظَاهِرٌ لَيْسَ فِيهِ رُخْصَةٌ لَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ الرَّحْمَنِ، وَلَا يُؤْخَذُ فِيهِ وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ، وَلَا أَخٌ عَنْ أَخِيهِ، وَلَا عَبْدٌ عَنْ سَيِّدِهِ، وَلَا يَهْتَمُّ أَحَدٌ به بِغَيْرِهِ، وَلَا يَحْزَنُ لِحُزْنِهِ وَلَا أَحَدَ يَرْحَمُهُ، كُلٌّ مُشْفِقٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يُؤْخَذُ إِنْسَانٌ عن إنسان، كل يهمه همه ويبكي ذنبه، وَيَحْمِلُ وَزْرَهُ وَلَا يَحْمِلُ وِزْرَهُ مَعَهُ غَيْرُهُ (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ).

- 34 - إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي

نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ هذ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا، فَلَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِهِ تَعَالَى بِهَا، فَعِلْمُ وَقْتِ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ}، وَكَذَلِكَ إِنْزَالُ الْغَيْثِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَكِنْ إِذَا أَمَرَ بِهِ عَلِمَتْهُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بذلك، ومن يشاء اللَّهُ مَنْ خَلْقِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَعْلَمُ مَا في الأرحام مما يريد أن يخلقه تَعَالَى سِوَاهُ، وَلَكِنْ إِذَا أَمَرَ بِكَوْنِهِ ذِكْرًا أو أُنثى، شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا، عَلِمَ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ، وكذا لَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا فِي دُنْيَاهَا وَأُخْرَاهَا،، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فِي بَلَدِهَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَيِّ بِلَادِ اللَّهِ كَانَ، لَا عِلْمَ لِأَحَدٍ بِذَلِكَ وهذه شبيهة بقوله تعالى: {وعنده مفاتيح الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إلا هو} الآية، وقد ورد السنّة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب، وروى الإمام أحمد عن أبي بُرَيْدَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "خمسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ} "، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مفاتيح الغيب لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خبير} (أخرجه البخاري والإمام أحمد). وعن مجاهد قال: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: إِنِ امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد؟ وبلادنا مجدبة، فَأَخْبِرْنِي مَتَّى يَنْزِلُ الْغَيْثُ؟ وَقَدْ عَلِمْتُ مَتَى وُلِدْتُ فَأَخْبَرَنِي مَتَى أَمُوتُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة - إلى قوله - عَلَيمٌ خَبِيرٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَهِيَ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ التي قال الله تعالى: {وَعِندَهُ مفاتيح الغيب لايعلمها إلا هو} (رواه ابن أبي حاتم وابن جرير)، وروى مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً}. وقوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ أَرْضٍ تَمُوتُ} قَالَ قَتَادَةُ: أَشْيَاءُ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بهن فلن يُطْلِعْ عَلَيْهِنَّ مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فَلَا يَدْرِي أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ فِي أي سنة أة فِي أَيِّ شَهْرٍ أَوْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَتَّى يَنْزِلُ الْغَيْثُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا فِي الْأَرْحَامِ أَذَكُرٌ أَمْ أُنْثَى، أَحْمَرُ أَوْ أَسْوَدُ وَمَا هُوَ، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} أَخَيْرٌ أَمْ شَرٌّ، وَلَا تَدْرِي يَا ابْنَ آدَمَ مَتَى تَمُوتُ لَعَلَّكَ الْمَيِّتُ غَدًا لَعَلَّكَ الْمُصَابُ غَداً، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} أي لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَدْرِي أَيْنَ مَضْجَعُهُ مِنَ الْأَرْضِ، أَفِي بَحْرٍ أَمْ بَرٍّ، أَوْ سَهْلٍ أَوْ جَبَلٍ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة» (أخرجه الطبراني في المعجم الكبير). وروي مثله عن ابن مسعود، وبمعناه عن أسامة.

32 - سورة السجدة

- 32 - سورة السجدة

روى البخاري عن أبي هريرة قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ يَوْمَ الْجُمُعَةِ (الم تَنْزِيلُ) السَّجْدَةَ وَ {هَلْ أتى عَلَى الإنسان}، وروى الإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تنزيل السجدة وتبارك الذي بِيَدِهِ الملك.

بسم الله الرحن الرحيم

- 1 - الم - 2 - تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ الْعَالَمِينَ - 3 - أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ههنا، وَقَوْلُهُ: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} أَيْ لا شك فيه ولا مرية أنه منزل {مِن رَّبِّ العالمين}، ثم قال تعالى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} بَلْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ أَيِ اخْتَلَقَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أَيْ يَتَّبَعُونَ الْحَقَّ.

- 4 - اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ - 5 - يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ - 6 - ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ يُخْبِرُ تَعَالَى أنه خالق الأشياء، فَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ، {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ} أَيْ بَلْ هُوَ الْمَالِكُ لِأَزِمَّةِ الْأُمُورِ، الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ الْمُدَبِّرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا وَلِيَّ لِخَلْقِهِ سِوَاهُ، وَلَا شَفِيعَ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ، {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} يَعْنِي أَيُّهَا الْعَابِدُونَ غَيْرَهُ، الْمُتَوَكِّلُونَ عَلَى مَنْ عَدَاهُ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَظِيرٌ أَوْ شَرِيكٌ أو وزير، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أَيْ يَتَنَزَّلُ أَمْرُهُ

مِنْ أَعْلَى السَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَى تُخُومِ الْأَرْضِ السابعة، كما قال تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمر بينهن} الآية، وَتُرْفَعُ الْأَعْمَالُ إِلَى دِيوَانِهَا فَوْقَ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَمَسَافَةُ مَا بَيَّنَهَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَسُمْكُ السَّمَاءِ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: النُّزُولُ مِنَ الْمَلَكِ فِي مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَصُعُودُهُ فِي مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَلَكِنَّهُ يَقْطَعُهَا فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أَيِ الْمُدَبِّرُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّذِي هُوَ شَهِيدٌ عَلَى أَعْمَالِ عِبَادِهِ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ جَلِيلُهَا وَحَقِيرُهَا وَصَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا، هُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي قَدْ عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ فَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ، وَدَانَتْ لَهُ الْعِبَادُ وَالرِّقَابُ، {الرَّحِيمُ} بعباده المؤمنين.

- 7 - الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِّن طِينٍ - 8 - ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَاءٍ مَهِينٍ - 9 - ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ يقول تعالى مخبراً إِنَّهُ الَّذِي أَحْسَنَ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ وَأَتْقَنَهَا وَأَحْكَمَهَا، قال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ} قَالَ: أَحْسَنَ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ، كَأَنَّهُ جَعَلَهُ مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ؛ ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ تعالى خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ خَلْقِ الإنسان، فقال تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِّن طِينٍ} يَعْنِي خَلَقَ أَبَا الْبَشَرِ آدَمَ مِّن طِينٍ، {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن ملء مَّهِينٍ} أَيْ يَتَنَاسَلُونَ كَذَلِكَ مِنْ نُطْفَةٍ، تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ، {ثُمَّ سَوَّاهُ} يَعْنِي آدَمَ لَمَّا خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ خَلَقَهُ سَوِيًّا مُسْتَقِيمًا، {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} يَعْنِي الْعُقُولَ، {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أَيْ بِهَذِهِ الْقُوَى الَّتِي رَزَقَكُمُوهَا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، فَالسَّعِيدُ مَنِ اسْتَعْمَلَهَا فِي طَاعَةِ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ.

- 10 - وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ - 11 - قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي اسْتِبْعَادِهِمُ الْمَعَادَ حَيْثُ قَالُوا {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} أَيْ تَمَزَّقَتْ أَجْسَامُنَا، وَتَفَرَّقَتْ فِي أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَذَهَبَتْ، {أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي أئنا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي أتنا لنعود بعد تلك الحال؟ يستبعدون ذلك، ولهذا قال تعالى: {بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ}، ثُمَّ قَالَ تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}، الظاهر أن ملك الموت شخص معين، وَقَدْ سُمِّيَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ بِعِزْرَائِيلَ وَهُوَ لمشهور (قاله قتادة وغير واحد من علماء السلف)، وَلَهُ أَعْوَانٌ؛ وَهَكَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَعْوَانَهُ يَنْتَزِعُونَ الْأَرْوَاحَ مِنْ سَائِرِ الْجَسَدِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ تَنَاوَلَهَا مَلَكُ الْمَوْتِ، قَالَ مجاهد: حويت له الأرض فجعلت مثل الطست يتناول منها متى يشاء، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: وَاللَّهِ مَا مِنْ بَيْتٍ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَّا وَمَلَكُ الْمَوْتِ يَقُومُ عَلَى بَابِهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ يَنْظُرُ هَلْ فِيهِ أَحَدٌ أُمِرَ أَنْ يتوفاه (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أَيْ يَوْمَ مَعَادِكُمْ وَقِيَامِكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ لِجَزَائِكُمْ.

- 12 - ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ - 13 - وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ - 14 - فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عن حال المشركين يوم القيامة، حِينَ عَايَنُوا الْبَعْثَ وَقَامُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، حَقِيرِينَ ذَلِيلِينَ نَاكِسِي رُؤُوسِهِمْ أَيْ مِنَ الْحَيَاءِ وَالْخَجَلِ، يَقُولُونَ {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} أَيْ نَحْنُ الْآنَ نَسْمَعُ قَوْلَكَ وَنُطِيعُ أَمْرَكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يأتوننا} وَكَذَلِكَ يَعُودُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ بِقَوْلِهِمْ: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير}، وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا} أي إلى دار الدُّنْيَا {نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} أَيْ قَدْ أيقنا وتحققنا فيها أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ وَلِقَاءَكَ حَقٌّ، وَقَدْ عَلِمَ الرَّبُّ تَعَالَى مِنْهُمْ أَنَّهُ لَوْ أَعَادَهُمْ إِلَى الدنيا كفاراً يكذبون بآيات الله، ويخالفون رسله، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ ربنا} الآية، وقال ههنا: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً}، {ولكن حقَّ القول مني لأملأن جنهم مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أَيْ مِنَ الصِّنْفَيْنِ فَدَارُهُمُ النَّارُ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا وَلَا مَحِيصَ لَهُمْ مِنْهَا، نَعُوذُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّةِ مِنْ ذَلِكَ {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أَيْ يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، ذُوقُوا هَذَا الْعَذَابَ بِسَبَبِ تَكْذِيبِكُمْ به، واستبعادكم وقوعه، {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} أي سَنُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ النَّاسِي، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْسَى شَيْئًا وَلَا يَضِلُّ عَنْهُ شَيْءٌ، بَلْ مِنْ باب المقابلة، كما قال تعالى: {فاليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا}، وقول تعالى: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ بسبب كفرهم وتكذيبكم، كما قال تعالى: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً}.

- 15 - إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ - 16 - تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ - 17 - فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} أَيْ إِنَّمَا يُصَدِّقُ بِهَا {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً} أَيِ اسْتَمَعُوا لَهَا وَأَطَاعُوهَا قَوْلًا وَفِعْلًا، {وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} أَيْ عَنِ اتِّبَاعِهَا وَالِانْقِيَادِ لَهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ الْجَهَلَةُ مِنَ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جهنم داخرين}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} يَعْنِي بِذَلِكَ قِيَامَ اللَّيْلِ وَتَرْكَ النَّوْمِ، وَالِاضْطِجَاعِ على الفرش الوطيئة، قال مجاهد والحسن: يَعْنِي بِذَلِكَ قِيَامَ اللَّيْلِ، وَعَنْ أَنَسٍ وَعِكْرِمَةَ: هُوَ الصَّلَاةُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، وَعَنْ أَنَسٍ أَيْضًا: هو انتظار صلاة العتمة، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ وَصَلَاةُ الْغَدَاةِ فِي جَمَاعَةٍ {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} أَيْ خَوْفًا مِنْ وَبَالِ عِقَابِهِ، وَطَمَعًا فِي جَزِيلِ ثَوَابِهِ {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} فَيَجْمَعُونَ فعل القربات اللازمة

والمتعدية، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فأصبحت يوماً قريباً ونحن نسير، فقلت: يا بني اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النار قال: "لقد سألت عن عظيم وغنه لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ الله ولا تشرك به شيئا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلَّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جنة، والصدقة تطفىء الْخَطِيئَةَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ - ثُمَّ قَرَأَ - {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حَتَّى بَلَغَ {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: "رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَّا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ"؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ ثُمَّ قَالَ: «كفَّ عَلَيْكَ هَذَا» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ قَالَ عَلَى مناخرهم - إلاّ حصائد ألسنتهم» (أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة). وروى ابن أبي حاتم، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تبوك فقال: «إن شئت نبأتك بِأَبْوَابِ الْخَيْرِ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} الآية، وعن أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، جَاءَ مُنَادٍ فَنَادَى بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ» سَيَعْلَمُ أَهْلُ الْجَمْعِ الْيَوْمَ مَنْ أَوْلَى بِالْكَرَمِ" ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُنَادِي: لِيَقُمِ الَّذِينَ كَانَتْ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ - الْآيَةَ - فيقومون وهم قليل"، وقال بِلَالٌ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} الْآيَةَ، كُنَّا نَجْلِسُ فِي الْمَجْلِسِ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلُّونَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعَشَاءِ، فنزلت هذه الآية {تتجافى جوبهم عن المضاجع} (أخرجه البزار عن زيد بن أسلم عن أبيه)، وقوله تَعَالَى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} أَيْ فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ عَظَمَةَ مَا أَخْفَى اللَّهُ لَهُمْ فِي الْجَنَّاتِ، مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَاللَّذَّاتِ الَّتِي لَمْ يَطَّلِعُ عَلَى مِثْلِهَا أَحَدٌ، لما أخفوا أعمالهم، كذلك أَخْفَى اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، جَزَاءً وِفَاقًا، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَخْفَى قَوْمٌ عَمَلَهُمْ فَأَخْفَى اللَّهُ لَهُمْ مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قلب بشر، قال البخاري: قوله تعالى {فَلاَ تَعْلَمُ ما أخفي مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (رواه البخاري ومسلم والترمذي والإمام أحمد). وفي الحديث: «مَنْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ، فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خطر على قلب بشر» (أخرجه مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أبي هريرة مرفوعاً)، وروى مسلم عن المغيرة بن شعبة يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ عزَّ وجلَّ مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَمَا أُُدخَلَ أهلُ الجنةَ الجنةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رب كيف وقد أخذ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ أَتَرْضَى أن يكون لك مثل مَلِكٍ مَنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ

رَبِّ، فَيَقُولُ لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ ومثله، فقال في الخامسة: رضيت ربي، هذا لك وعشرة أمثاله معه، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، قَالَ رَبِّ فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً، قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ: وَمِصْدَاقُهُ من كتاب الله عزَّ وجلَّ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية (أخرجه مسلم عن المغيرة بن شعبة مرفوعاً ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح).

- 18 - أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ - 19 - أَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ - 20 - وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ - 21 - وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ - 22 - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَدْلِهِ وَكَرَمِهِ، أَنَّهُ لَا يُسَاوِي فِي حُكْمِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِآيَاتِهِ مُتْبِعًا لِرُسُلِهِ بِمَنْ كَانَ فَاسِقًا، أي خارجاً عن طاعة ربه، مكذباً رسل الله، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كالفجار}؟ وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} الآية، ولهذا قال تعالى ههنا: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} أَيْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ ذكر عطاء والسدي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي (عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) و (عقبة بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ) وَلِهَذَا فَصَّلَ حُكْمَهُمْ فَقَالَ: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أَيْ صَدَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَعَمِلُوا بِمُقْتَضَاهَا وَهِيَ الصَّالِحَاتُ، {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} أَيِ الَّتِي فِيهَا الْمَسَاكِنُ وَالدُّورُ وَالْغُرَفُ الْعَالِيَةُ {نُزُلاً} أَيْ ضِيَافَةً وَكَرَامَةً، {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ} أَيْ خَرَجُوا عَنِ الطَّاعَةِ، {فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا}، كَقَوْلِهِ: {كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا} الآية، قال الفضيل ابن عِيَاضٍ: وَاللَّهِ إِنَّ الْأَيْدِيَ لَمُوثَقَةٌ، وَإِنَّ الْأَرْجُلَ لَمُقَيَّدَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَبَ لَيَرْفَعُهُمْ، وَالْمَلَائِكَةَ تَقْمَعُهُمْ، {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا، وقوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِالْعَذَابِ الْأَدْنَى مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَأَسْقَامَهَا وَآفَاتِهَا، وَمَا يَحِلُّ بِأَهْلِهَا مِمَّا يبتلى الله به عباده ليتوبوا إليه، وقال مجاهد: يعني به عذاب القبر، وقال عبد الله بن مسعود: الْعَذَابُ الْأَدْنَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ يوم بدر، قال السدي: لَمْ يَبْقَ بَيْتٌ بِمَكَّةَ إِلَّا دَخَلَهُ الْحُزْنُ عَلَى قَتِيلٍ لَهُمْ أَوْ أَسِيرٍ فَأُصِيبُوا أَوْ غَرِمُوا، وَمِنْهُمْ مَنْ جُمِعَ لَهُ الْأَمْرَانِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {ومن أظلم ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} أَيْ لَا أَظْلِمُ مِمَّنْ ذَكَّرَهُ اللَّهُ بِآيَاتِهِ وَبَيَّنَهَا لَهُ وَوَضَّحَهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَرَكَهَا وَجَحَدَهَا، وَأَعْرَضَ عَنْهَا وَتَنَاسَاهَا كَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهَا، قال قتادة: إِيَّاكُمْ وَالْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ فَقَدِ اغْتَرَّ أَكْبَرَ الْغِرَّةِ وأعوز أشد العوز، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُتَهَدِّدًا لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} أَيْ سَأَنْتَقِمُ مِمَّنْ فعل ذلك أشد الانتقام.

- 23 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ - 24 - وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ - 25 - إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (مُوسَى) عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ آتَاهُ الْكِتَابَ وَهُوَ التَّوْرَاةُ، وقوله تعالى: {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} قَالَ قتادة: يعني به ليلة الإسراء، وفي الحديث: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ رَجُلًا آدم جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رجلاً مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبْطَ الرَّأْسِ، وَرَأَيْتُ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ، وَالدَّجَّالَ» فِي آيات أراهن الله أياها {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} أَنَّهُ قَدْ رَأَى مُوسَى وَلَقِيَ مُوسَى لَيْلَةَ أُسَرِيَ به. وروى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في قوله تعالى: {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} قَالَ من لقاء موسى ربه عزَّ وجلَّ (أخرجه الطبراني)، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُ} أي الكتاب الذي آتيناه {هدى لنبي إِسْرَائِيلَ}، كما قال تعالى في الإسراء: {وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وجعلناه هدى لنبي إسرائيل أن لا تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وكيلا}. وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} أَيْ لَمَّا كَانُوا صَابِرِينَ على أوامر الله، وترك زواجره، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَاتِّبَاعِهِمْ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ، كَانَ مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ إِلَى الْحَقِّ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَيَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، ثم لمّا بدّلوا وحرّفوا سُلِبُوا ذَلِكَ الْمَقَامَ، وَصَارَتْ قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، فَلَا عَمَلَ صَالِحًا وَلَا اعتقاداً صحيحاً، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الكتاب} قال قتادة: لما صبروا عن الدنيا، وقال سُفْيَانُ: هَكَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ حَتَّى يَتَحَامَى عن الدنيا، وسئل سُفْيَانُ عَنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ}؟ قَالَ: لَمَّا أَخَذُوا بِرَأْسِ الأمر صاروا رؤساء، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تَنَالُ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات وفضلناهم عن العالمين}، كما قال ههنا: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَيْ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ والأعمال.

- 26 - أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ - 27 - أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ يَقُولُ تَعَالَى أَوَلَمْ يَهْدِ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ، مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم إياهم فيما جاؤوهم به، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ وَلَا عَيْنٌ وَلَا أثر {هَلْ تحسن مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}، وَلِهَذَا قَالَ: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} أَيْ وَهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ، فَلَا يَرَوْنَ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ كَانَ يَسْكُنُهَا وَيَعْمُرُهَا ذهبوا منها كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فيها، كَمَا قَالَ: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا}، وقال: {وَكَأَيِّن

مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وقصر مشيد}، ولهذا قال ههنا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} أَيْ إِنَّ فِي ذَهَابِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ وَدَمَارِهِمْ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، وَنَجَاةِ مَنْ آمَنَ بِهِمْ، لآيات وعبراً ومواعظ ودلائل {أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} أَيْ أَخْبَارَ مَنْ تَقَدَّمَ كَيْفَ كان من أمرهم. وقوله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرض الجزر} يُبَيِّنُ تَعَالَى لُطْفَهُ بِخَلْقِهِ وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ، فِي إرساله الماء مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ مِنَ السَّيْحِ، وَهُوَ مَا تحمله الأنهار ويتحدر مِنَ الْجِبَالِ، إِلَى الْأَرَاضِي الْمُحْتَاجَةِ إِلَيْهِ فِي أوقاته، ولهذا قال تعالى: {إِلَى الأرض الجرز} وهي الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزًا}، وأرض مصر رخوة تَحْتَاجُ مِنَ الْمَاءِ مَا لَوْ نَزَّلَ عَلَيْهَا مطراً لتهدمت أبنيتها فيسوق الله تعالى إِلَيْهَا النَّيْلَ، بِمَا يَتَحَمَّلُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ من أمطار بلاد الحبشة، فَيَسْتَغِلُّونَ كُلَّ سَنَةٍ عَلَى مَاءٍ جَدِيدٍ مَمْطُورٍ فِي غَيْرِ بِلَادِهِمْ، وَطِينٍ جَدِيدٍ مِنْ غَيْرِ أرضهم فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود أبداً. روى قيس بن حجاج قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ مِصْرُ أَتَى أَهْلُهَا (عَمْرَو بن العاص) وكان أميراً بها، فقالوا أيها الأمير إن لنيلنا هذا سُنَّةً لَا يَجْرِي إِلَّا بِهَا، قَالَ وَمَا ذاك؟ قالوا ذا كَانَتْ ثِنْتَا عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ عَمَدْنَا إِلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ بَيْنَ أَبَوَيْهَا فَأَرْضَيْنَا أَبَوَيْهَا وَجَعَلْنَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ أَفْضَلَ مَا يَكُونُ، ثُمَّ أَلْقَيْنَاهَا فِي هَذَا النِّيلِ فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: إِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ فِي الإِسلام، إِنَّ الإِسلام يَهْدِمُ مَا كان قبله، فأقاموا وَالنِّيلُ لَا يَجْرِي حَتَّى هَمُّوا بِالْجَلَاءِ، فَكَتَبَ (عَمْرٌو) إِلَى (عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) بِذَلِكَ فَكَتَبَ إليه عمر إنك قد أصبت بالذي فعلت، قد بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِبِطَاقَةٍ دَاخِلَ كِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهَا فِي النِّيلِ، فَلَمَّا قَدِمَ كِتَابُهُ أَخَذَ عَمْرٌو الْبِطَاقَةَ فَفَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نِيلِ أَهْلِ مِصْرَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تَجْرِي مِنْ قِبَلِكَ فَلَا تَجْرِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ هُوَ الَّذِي يُجْرِيكَ فَنَسْأَلُ اللَّهَ أن يجزيك، قال فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ النِّيلَ سِتَّةَ عشر ذراعاً في ليلة واحدة، وقد قطع اللَّهُ تِلْكَ السُّنَّةَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى اليوم (رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة). وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صباً} الآية، ولهذا قال ههنا: {أَفَلاَ يُبْصِرُونَ}؟ وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} قَالَ: هِيَ الَّتِي لَا تُمْطَرُ إِلَّا مَطَرًا لَا يُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا إِلَّا مَا يَأْتِيهَا من السيول، وقال عكرمة والضحاك: الْأَرْضِ الْجُرُزِ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا وَهِيَ مغبرة، قلت وهذا كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا} الآيتين.

- 28 - وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 29 - قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ - 30 - فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اسْتِعْجَالِ الْكَفَّارِ وُقُوعِ بَأْسِ اللَّهِ بِهِمْ، وَحُلُولِ غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ، اسْتِبْعَادًا وَتَكْذِيبًا وَعِنَادًا {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} أَيْ مَتَى تُنْصَرُ عَلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ؟ كَمَا تَزْعُمُ أَنَّ لَكَ وَقْتًا تُدَالُ عَلَيْنَا وَيُنْتَقَمُ لَكَ مِنَّا، فَمَتَى يَكُونُ هَذَا؟ مَا نَرَاكَ أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ إِلَّا مُخْتَفِينَ خَائِفِينَ ذَلِيلِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ}

أَيْ إِذَا حَلَّ بِكُمْ بَأْسُ اللَّهِ وَسُخْطُهُ وَغَضَبُهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْأُخْرَى {لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عندهم من العلم} الآيتين. والمراد بالفتح القضاء والفصل، كقوله: {فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فتحاً} الآية، وَكَقَوْلِهِ: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق} الآية، ثم قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} أَيْ أَعْرِضْ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَبَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ من ربك، كقوله تعالى: {اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ لَا إله إلا هو} الآية، وَانْتَظِرْ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، وَسَيَنْصُرُكَ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، إِنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} أَيْ أَنْتَ مُنْتَظِرٌ وَهُمْ مُنْتَظِرُونَ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِكُمُ الدَّوَائِرَ {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ تتربص به ريب المنون} وسترى عَاقِبَةَ صَبْرِكَ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّهِ فِي نُصْرَتِكَ وَتَأْيِيدِكَ، وَسَيَجِدُونَ غِبَّ مَا يَنْتَظِرُونَهُ فِيكَ وَفِي أَصْحَابِكَ، مِنْ وَبِيلِ عِقَابِ اللَّهِ لَهُمْ، وَحُلُولِ عَذَابِهِ بِهِمْ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوكيل.

33 - سورة الأحزاب

- 33 - سورة الأحزاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - 1 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا - 2 - وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً - 3 - وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: التَّقْوَى أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، تَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، مَخَافَةَ عَذَابِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَلاَ تطع الكافرين والمنافقين} (دعا أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرجع عن قوله، على أن يعطوه شطراً من أموالهم، وخوفه المنافقون واليهود بالمدينة، فأنزل الله {يَا أيها النبي ... } الآية. أخرجه جويبر، وذكره في اللباب) أَيْ لَا تَسْمَعْ مِنْهُمْ وَلَا تَسْتَشِرْهُمْ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} أَيْ فَهُوَ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعَ أَوَامِرَهُ وَتُطِيعَهُ، فَإِنَّهُ عَلِيمٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ} أَيْ مِنْ قُرْآنٍ وَسُنَّةٍ، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أَيْ فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أَيْ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ وَأَحْوَالِكَ، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أَيْ وَكَفَى بِهِ وَكِيلًا لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَأَنَابَ إِلَيْهِ.

- 4 - مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ - 5 - ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً يَقُولُ تَعَالَى مُوَطِّئًا قَبْلَ الْمَقْصُودِ الْمَعْنَوِيِّ، أَمْرًا معروفاً حسياً، وَهُوَ أَنَّهُ كَمَا لَا يَكُونُ لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ قَلْبَانِ فِي جَوْفِهِ وَلَا تَصِيرُ زَوْجَتُهُ الَّتِي يظاهر منه بِقَوْلِهِ أَنْتِ عليَّ كَظَهْرِ أُمِّي أُمًّا لَهُ، كَذَلِكَ لَا يَصِيرُ الدعيُّ وَلَدًا لِلرَّجُلِ

إِذَا تَبَنَّاهُ فَدَعَاهُ ابْنًا لَهُ، فَقَالَ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وما يجعل أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ}، كقوله عزَّ وجلَّ: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللَّائِي ولدنهم} الآية، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أبناءهم} هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّفْيِ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي شأن (زيد بن حارثة) رضي الله عنه مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَبَنَّاهُ قبل النبوة، فكان يُقَالُ لَهُ (زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ) فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ يَقْطَعَ هَذَا الْإِلْحَاقَ وَهَذِهِ النِّسْبَةَ بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ}، كما قال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين}، وقال ههنا: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} يَعْنِي تَبَنِّيكُمْ لَهُمْ قَوْلٌ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ابْنًا حَقِيقِيًّا فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ صُلْبِ رَجُلٍ آخَرَ، فَمَا يُمْكِنُ أن يكون له أبوان، كما لايمكن أَنْ يَكُونَ لِلْبَشَرِ الْوَاحِدِ قَلْبَانِ، {وَاللَّهُ يَقُولُ الحق} أي العدل، {هو يَهْدِي السَّبِيلَ} أَيِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ يُقَالُ لَهُ ذُو القلبين (هو جميل بن معمر الجمحي)، وَأَنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ كُلٌّ منهما بعقل وافر، فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليه. وقال عبد الرزاق عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي (زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ) ضُرِبَ لَهُ مَثَلٌ، يَقُولُ لَيْسَ ابْنُ رَجُلٍ آخَرَ ابْنَكَ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رضي الله عنه، وَهَذَا يُوَافِقُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّفْسِيرِ وَاللَّهُ سبحانه تعالى أعلم، وقوله عزَّ وجلَّ: {ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} هَذَا أَمْرٌ نَاسِخٌ لِمَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، مِنْ جَوَازِ ادِّعَاءِ الْأَبْنَاءِ الْأَجَانِبِ، وهم الأدعياء، فأمر تبارك وتعالى بِرَدِّ نِسَبِهِمْ إِلَى آبَائِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّ هذا هو العدل والقسط والبر. روى الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: إن زيد بن حارثة رضي الله عنه مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ {ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي). وَقَدْ كَانُوا يُعَامِلُونَهُمْ مُعَامَلَةَ الْأَبْنَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْخَلْوَةِ بِالْمَحَارِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لما نسخ هذا الحكم أباح تبارك وتعالى زَوْجَةَ الدَّعِيِّ، وَتَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقال عزَّ وجلَّ: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ منهن وطراً}، وقال تبارك وتعالى في آية التحريم: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين من أصلابكم} احْتِرَازًا عَنْ زَوْجَةِ الدَّعِيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الصلب، فَأَمَّا دَعْوَةُ الْغَيْرِ ابْنًا عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِيمِ والتحبيب، فليس مما نهنهي عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - أغيلمة بني عبد المطلب - على جمرات لَنَا مِنْ جَمْعٍ، فَجَعَلَ يُلَطِّخُ أَفْخَاذَنَا وَيَقُولُ: «أبنيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» (أخرجه أحمد وأهل السنن إلا الترمذي) وعن أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يا بني»، وقوله عزَّ وجلَّ: {فَإِنْ لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} أمر تَعَالَى بِرَدِّ أَنْسَابِ الْأَدْعِيَاءِ إِلَى آبَائِهِمْ إِنْ عرفوا، فإن لم يعرفوا فهم إخوانكم فِي الدِّينِ وَمَوَالِيهِمْ أَيْ عِوَضًا عَمَّا فَاتَهُمْ مِنَ النَّسَبِ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي رضي الله عنه: «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر رضي الله عنه: «أشبهتَ خَلْقَي وخُلُقي»، وقال لزيد رضي الله عنه: «أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا». كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ}.

وقد جاء في الحديث: «ليس من رجل ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلَّا كفر» (أخرجه البخاري ومسلم)؛ وَهَذَا تَشْدِيدٌ وَتَهْدِيدٌ، وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، فِي التَّبَرِّي من النسب المعلوم، ولهذا قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}، ثم قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} أَيْ إِذَا نَسَبْتُمْ بَعْضَهُمْ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ فِي الْحَقِيقَةِ خَطَأً، بَعْدَ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ، فَإِنَّ الله تعالى قَدْ وَضَعَ الْحَرَجَ فِي الْخَطَأِ، وَرَفَعَ إِثْمَهُ كما أرشد إليه في قوله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا}، وفي الحديث: «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنِ اجتهد فأخطا فله أجر» (أخرجه البخاري عن عمرو بن العاص مرفوعاً)، وفي الحديث الآخر: «إن الله تعالى رفع عن أمتي الخطأ والنسيان والأمر الذي يكرهون عليه»، وقال تبارك وتعالى ههنا: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَّا تعمدت قلوبهم وكان الله عفوراً رَحِيماً} أي إنما الْإِثْمُ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ الْبَاطِلَ، كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} الآية، وروى الإمام أحمد عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ مَعَهُ الْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، فرجم رسول الله صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمَنَا بَعْدَهُ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ كُنَّا نَقْرَأُ: [وَلَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كفر بكم إن ترغبوا عن آبائكم] (أخرجه الإمام أحمد في المسند)، وفي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "ثَلَاثٌ فِي النَّاسِ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ".

- 6 - النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأْوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى شَفَقَةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم على أمته ونصحته لَهُمْ، فَجَعَلَهُ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَحَكَّمَهُ فيهم مقدمٌ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تسليماً}، وفي الصحيح: «والذي نفسي بيده لايؤمن أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ». وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أن عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إليَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبُّ إِلَيْكَ من نفسك» فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إليَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «الْآنَ يَا عُمَرُ»؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، وقال البخاري عند هذه الآية الكريمة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ في الدنيا والآخرة، اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَّنفسهم}. فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كانوا، وإن تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ" (أخرجه البخاري ورواه أحمد وابن أبي حاتم). وقال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي في الحرمة والاحترام، والتوقير والإكرام وَالْإِعْظَامِ، وَلَكِنْ لَا تَجُوزُ الْخَلْوَةُ بِهِنَّ وَلَا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع. وقوله تعالى: {وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أَيْ فِي حُكْمِ اللَّهِ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمهاجرين}

أَيِ الْقُرَابَاتُ أَوْلَى بِالتَّوَارُثِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَهَذِهِ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ التَّوَارُثِ بِالْحَلِفِ وَالْمُؤَاخَاةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: كَانَ الْمُهَاجِرِيُّ يَرِثُ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ قِرَابَاتِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فِينَا خَاصَّةً مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارَ: {وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بعض}، وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا من الْمَدِينَةَ قَدِمْنَا وَلَا أَمْوَالَ لَنَا، فَوَجَدْنَا الْأَنْصَارَ نِعْمَ الْإِخْوَانُ فَوَاخَيْنَاهُمْ وَوَارَثْنَاهُمْ، فَآخَى أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه (خارجة بن زيد)، وآخى عمر رضي الله عنه فلاناً، وآخى عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ (ابن سَعْدٍ الزُّرَقِيِّ) وَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ غَيْرَهُ، قَالَ الزبير رضي الله عنه، وَوَاخَيْتُ أَنَا (كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ) فَجِئْتُهُ فَابْتَعَلْتُهُ، فَوَجَدَتُ السِّلَاحَ قَدْ ثَقِلَهُ فِيمَا يُرَى، فَوَاللَّهِ يا بني لو مات يؤمئذ عَنِ الدُّنْيَا مَا وَرِثَهُ غَيْرِي، حَتَّى أَنْزَلَ الله تعالى هَذِهِ الْآيَةَ فِينَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَالْأَنْصَارَ خَاصَّةً، فرجعنا إلى مواريثنا. وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً} أَيْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَبَقِيَ النَّصْرُ وَالْبِرُّ وَالصِّلَةُ وَالْإِحْسَانُ والوصية، وقوله تعالى: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} أَيْ هَذَا الْحُكْمُ، وَهُوَ أَنَّ أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ، حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ مُقَدَّرٌ مَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ، وإن كان تعالى قَدْ شَرَعَ خِلَافَهُ فِي وَقْتٍ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَنْسَخُهُ إِلَى مَا هُوَ جَارٍ فِي قدره الأزلي وقضائه القدري الشرعي والله أعلم.

- 7 - وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظًا - 8 - لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ وَبَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، أَنَّهُ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، فِي إِقَامَةِ دِينِ الله تعالى وَإِبْلَاغِ رِسَالَتِهِ، وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ وَالِاتِّفَاقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} الآية، فَهَذَا الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أُخِذَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ إِرْسَالِهِمْ، وَكَذَلِكَ هَذَا، وَنَصَّ مِنْ بَيْنِهِمْ عَلَى هَؤُلَاءِ الخمسة وهم أولو العزم، وقد صرح بذكرهم أيضاً في قوله تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ. وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فيه} فَهَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الَّتِي أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بها، كما قال تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} فَبَدَأَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْخَاتَمِ لِشَرَفِهِ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ، ثُمَّ رَتَّبَهُمْ بِحَسَبِ وَجُودِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمِيثَاقِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُمْ حِينَ أُخْرِجُوا فِي صُورَةِ الذَّرِّ من صلب آدم عليه الصلاة والسلام، كما قال أبي بن كعب: وَرَفَعَ أَبَاهُمْ آدَمَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَعْنِي ذُرِّيَّتَهُ، وَأَنَّ فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَحَسَنَ الصُّورَةِ وَدُونَ ذَلِكَ فَقَالَ: رَبِّ لَوْ سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ فقال: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ، وَرَأَى فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ مِثْلَ السُّرُجِ عَلَيْهِمُ النُّورُ وَخُصُّوا بِمِيثَاقٍ آخَرَ من الرسالة والنبوة وهو الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ الْعَهْدُ، وَقَوْلُهُ تعالى: {لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُبَلِّغِينَ المؤدين عن الرسل، وقوله تعالى: {وَأَعَدَّ

لِلْكَافِرِينَ} أَيْ مِنْ أُمَمِهِمْ {عَذَاباً أَلِيماً} أَيْ مُوجِعًا، فَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا رسالات ربهم ونصحوا الأمم، وَإِنْ كَذَّبَهُمْ مَنْ كَذَّبَهُمْ مِنَ الْجَهَلَةِ وَالْمُعَانِدِينَ، والمارقين والقاسطين.

- 9 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بصيرا - 10 - إذ جاؤوكم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نِعْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي صَرْفِهِ أَعْدَاءَهُمْ وَهَزْمِهِ إِيَّاهُمْ، عَامَ تَأَلَّبُوا عَلَيْهِمْ وَتَحَزَّبُوا، وَذَلِكَ عَامَ الخندق، وَكَانَ سَبَبُ قُدُومِ الْأَحْزَابِ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَشْرَافِ يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ، الَّذِينَ كَانُوا قَدْ أَجْلَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى خَيْبَرَ، مِنْهُمْ (سَلَّامُ بْنُ أبي الحقيق) و (سلاَم بن مشكم) و (كنانة بن الربيع) خرجوا إلى مكة، فاجتمعوا بأشراف قريش، وألبوهم على حرب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَعَدُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمُ النَّصْرَ وَالْإِعَانَةَ، فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى غَطَفَانَ فَدَعَوْهُمْ فَاسْتَجَابُوا لَهُمْ أَيْضًا، وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ فِي أَحَابِيشِهَا وَمَنْ تَابَعَهَا وَقَائِدُهُمْ (أَبُو سُفْيَانَ) صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَلَى غَطَفَانَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ بَدْرٍ، وَالْجَمِيعُ قَرِيبٌ مِنْ عَشْرَةِ آلَافٍ، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَسِيرِهِمْ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ، وَذَلِكَ بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فَعَمِلَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ وَاجْتَهَدُوا وَنَقَلَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التُّرَابَ وَحَفَرَ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَنَزَلُوا شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ قَرِيبًا مِنْ أُحُد، وَنَزَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فِي أَعَالِي أَرْضِ الْمَدِينَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ}، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ من المسلمين وهم نحو من ثلاثة آلاف، فأسندوا ظهورهم إلى سلع ووجوههم نَحْوِ الْعَدُوِّ، وَالْخَنْدَقُ حَفِيرٌ لَيْسَ فِيهِ مَاءٌ بينهم وبينهم، يحجب الخيالة والرجالة أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِمْ وَجَعَلَ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ فِي آطَامِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ لَهُمْ حِصْنٌ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ، وَلَهُمْ عَهْدٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِمَّةٌ، وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، فَذَهَبَ إليهم (حيي بن أخطب) فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد، ومالأوا الْأَحْزَابَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَظُمَ الْخَطْبُ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، وَضَاقَ الْحَالُ، كما قال الله تبارك وتعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} وَمَكَثُوا مُحَاصِرِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إليهم، ولم يقع بينهم قتال، ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَلَى الْأَحْزَابِ ريح شديدة الهبوب قوية حتى لم يبق لَهُمْ خَيْمَةٌ وَلَا شَيْءٌ، وَلَا تُوقَدُ لَهُمْ نَارٌ وَلَا يَقِرُّ لَهُمْ قَرَارٌ، حَتَّى ارْتَحَلُوا خائبين خاسرين، كما قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً} قال مجاهد: وهي الصَّبا، ويؤيده الحديث الشريف: «نصرت بالصَّبا وأهلكت عاد بالدبور». وقوله تعالى: {وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} هم الْمَلَائِكَةُ زَلْزَلَتْهُمْ وَأَلْقَتْ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ وَالْخَوْفَ، فكان رئيس كل قبيلة يقولك يَا بَنِي فُلَانٍ إِلَيَّ فَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ: النجاء لما ألقى الله عزَّ وجلَّ في قلوبهم من الرعب، روى مسلم في صحيحه عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: لَوْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلْتُ مَعَهُ وَأَبْلَيْتُ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ

الْأَحْزَابِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ رِيحٍ شَدِيدَةٍ وَقُرٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ الثانية، ثم الثالثة مثله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «يَا حُذَيْفَةُ قُمْ فَأْتِنَا بِخَبَرٍ مِنَ الْقَوْمِ» فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ فَقَالَ: "ائْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلَا تَذْعَرْهُمْ عليَّ، قَالَ فَمَضَيْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ قَوْسِي وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهِ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُهُ، قَالَ: فَرَجَعْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَصَابَنِي الْبَرْدُ حِينَ فَرَغْتُ وَقَرَرْتُ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَلْبَسَنِي مِنْ فَضْلٍ عَبَاءَةً كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى الصُّبْحَ، فلما أن أصبحت قال رسول الله عليه وسلم: «قم يا نومان» (أخرجه مسلم في صحيحه). وأخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنِ أَخِي حُذَيْفَةَ قَالَ: ذكر حذيفة رضي الله عنه مَشَاهِدَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ جُلَسَاؤُهُ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شَهِدْنَا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا، فقال حذيفة: لاتمنوا ذَلِكَ لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ وَنَحْنُ صَافُّونَ قعوداً وَأَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَحْزَابِ فَوْقَنَا، وقريظة لليهود أَسْفَلَ مِنَّا نَخَافُهُمْ عَلَى ذَرَارِينَا، وَمَا أَتَتْ عَلَيْنَا قَطُّ أَشَدُّ ظُلْمَةً وَلَا أَشَدُّ رِيحًا فِي أَصْوَاتِ رِيحِهَا أَمْثَالُ الصَّوَاعِقِ وَهِيَ ظُلْمَةٌ مَا يَرَى أَحَدُنَا إِصْبَعَهُ، فَجَعَلَ الْمُنَافِقُونَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ، فَمَا يَسْتَأْذِنُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَذِنَ لَهُ، وَيَأْذَنُ لَهُمْ فيتسللون ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك إذا اسْتَقْبَلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا رَجُلًا، حَتَّى أَتَى عَلَيَّ وَمَا عليَّ من جنة الْعَدْوِ وَلَا مِنَ الْبَرْدِ إِلَّا مِرْطٌ لِامْرَأَتِي مَا يُجَاوِزُ رُكْبَتِي، قَالَ فَأَتَانِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا جَاثٍ عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟» فَقُلْتُ: حُذَيْفَةُ، قَالَ: «حُذَيْفَةُ؟» فَتَقَاصَرْتُ الأرض فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ اقوم فَقُمْتُ، فَقَالَ: «إِنَّهُ كَائِنٌ فِي الْقَوْمِ خَبَرٌ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ» قَالَ: وَأَنَا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ فَزَعًا وَأَشَدِّهِمْ قُرًّا قَالَ: فَخَرَجْتُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ»، قال: فوالله ما خلق الله تعالى فَزَعًا وَلَا قُرًّا فِي جَوْفِي إِلَّا خَرَجَ مِنْ جَوْفِي، فَمَا أُجِدُ فِيهِ شَيْئًا، قَالَ: فلما وليت قال صلى الله عليه وسلم: «يَا حُذَيْفَةُ لَا تُحْدِثَنَّ فِي الْقَوْمِ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي» قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا دَنَوْتُ مِنْ عَسْكَرِ الْقَوْمِ نَظَرْتُ فِي ضَوْءِ نَارٍ لهم توقد، فإذا رَجُلٌ أَدْهَمُ ضَخْمٌ يَقُولُ بِيَدِهِ عَلَى النَّارِ وَيَمْسَحُ خَاصِرَتَهُ وَيَقُولُ: الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ وَلَمْ أَكُنْ أعرف أبا سفيان قيل ذَلِكَ، فَانْتَزَعْتُ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي أَبْيَضَ الرِّيشِ، فَأَضَعُهُ فِي كَبِدِ قَوْسِي لِأَرْمِيَهُ بِهِ فِي ضَوْءِ النَّارِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُحْدِثَنَّ فِيهِمْ شَيْئًا حتى تأتيني»، قال: فَأَمْسَكْتُ وَرَدَدْتُ سَهْمِي إِلَى كِنَانَتِي ثُمَّ إِنِّي شجعت نفسي حتى دخلت المعسكر، فَإِذَا أَدْنَى النَّاسِ مِنِّي بَنُو عَامِرٍ يَقُولُونَ: يَا آلَ عَامِرٍ الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ لَا مُقَامَ لَكُمْ، وَإِذَا الرِّيحُ فِي عَسْكَرِهِمْ مَا تُجَاوِزُ عَسْكَرَهُمْ شِبْرًا، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْمَعُ صَوْتَ الْحِجَارَةِ في رحالهم وفرشهم الرِّيحُ تَضْرِبُهُمْ بِهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ نَحْوَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْتَصَفْتُ فِي الطَّرِيقِ أَوْ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ، إِذَا أَنَا بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مُعْتَمِّينَ فَقَالُوا: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَفَاهُ الْقَوْمَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى لله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ فِي شَمْلَةٍ يُصَلِّي فَوَاللَّهِ مَا عَدَا أَنْ رَجَعْتُ رَاجَعَنِي الْقُرُّ وَجَعَلْتُ أُقَرْقِفُ، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَهُوَ يُصَلِّي، فَدَنَوْتُ منه، فأسبل علي شملة، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى، فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرَ الْقَوْمِ وأخبرته أني تركتهم يرتحلون، وأنزل الله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله

عليكم إذا جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بصيراً} (أخرجه الحاكم والبيهقي في دلائل النبوة) ولأبي داود: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى (أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ في سننه)؛ وقوله تعالى: {إِذاً جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ} أَيِ الْأَحْزَابُ {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} تقدم عن حذيفة رضي الله عنه أَنَّهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أَيْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَالْفَزَعِ، {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} ظَنَّ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدَّائِرَةَ عَلَى المؤمنين، وقال محمد بن إسحاق: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ ظَنٍّ وَنَجَمَ النِّفَاقُ، حَتَّى قال (معتب بن قشير): كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَذْهَبَ إلا الغائط، وقال الحسن في قوله عز وجلَّ: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} ظنون مختلفة ظن المنافقون أن محمداً صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ يُسْتَأْصَلُونَ، وَأَيْقَنَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ وَرَسُولَهُ حَقٌّ وَأَنَّهُ سَيُظْهِرُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ولو كره المشركون، وعن أبي سعيد رضي الله عنه قَالَ: قُلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُ، فَقَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحناجر؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ، قُولُوا: اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا قَالَ: فَضَرَبَ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرِّيحِ، فَهَزَمَهُمْ بِالرِّيحِ (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الإمام أحمد بمثله).

- 11 - هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً - 12 - وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا - 13 - وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ذَلِكَ الْحَالِ حِينَ نَزَلَتِ الْأَحْزَابُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَالْمُسْلِمُونَ مَحْصُورُونَ فِي غَايَةِ الْجُهْدِ وَالضِّيقِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهُمْ، أَنَّهُمُ ابْتُلُوا وَاخْتُبِرُوا وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً، فحينئذٍ ظَهَرَ النِّفَاقُ وَتَكَلَّمَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ، {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً}، أَمَّا الْمُنَافِقُ فَنَجَمَ نِفَاقُهُ، وَالَّذِي قلبه شبهة تنفس بِمَا يَجِدُهُ مِنَ الْوَسْوَاسِ فِي نَفْسِهِ، لِضَعْفِ إِيمَانِهِ وَشِدَّةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الحال، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} يَعْنِي الْمَدِينَةَ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: "أُرِيتُ فِي الْمَنَامِ دَارَ هِجْرَتِكُمْ أَرْضٌ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ فذهب وَهْلي (وَهْلي: أي ظني) أَنَّهَا هَجَرُ فَإِذَا هِيَ يَثْرِبُ" وَفِي لَفْظٍ المدينة، وقوله: {لا مقام لكم} أي ههنا يَعْنُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامِ الْمُرَابِطَةِ، {فَارْجِعُوا} أَيْ إِلَى بُيُوتِكُمْ ومنازلكم {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي} قال ابن عباس رضي الله عنهما: هُمْ بَنُو حَارِثَةَ، قَالُوا: بُيُوتُنَا نَخَافُ عَلَيْهَا السراق، يَعْنِي اعْتَذَرُوا فِي الرُّجُوعِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ بِأَنَّهَا عورة، أي ليس دونها ما يحجبها من الْعَدُوِّ، فَهُمْ يَخْشَوْنَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} أَيْ لَيْسَتْ كَمَا يَزْعُمُونَ {إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} أَيْ هَرَبًا من الزحف.

- 14 - وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا - 15 - وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ

مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ الله مسؤولا - 16 - قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا - 17 - قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سوء أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا} أَنَّهُمْ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْمَدِينَةِ وَقُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِهَا، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ وَهِيَ الدُّخُولُ فِي الْكَفْرِ لَكَفَرُوا سَرِيعًا، وَهُمْ لَا يُحَافِظُونَ عَلَى الْإِيمَانِ وَلَا يَسْتَمْسِكُونَ بِهِ مَعَ أَدْنَى خَوْفٍ وَفَزَعٍ (هَكَذَا فَسَّرَهَا قَتَادَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ)، وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ فِي غَايَةِ الذَّمِّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى يُذَكِّرُهُمْ بِمَا كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ هَذَا الْخَوْفِ أن لا يُوَلُّوا الْأَدْبَارَ وَلَا يَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ: {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً} أي وإن الله سَيَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ فِرَارَهُمْ ذَلِكَ لَا يُؤَخِّرُ آجَالَهُمْ وَلَا يُطَوِّلُ أَعْمَارَهُمْ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي تَعْجِيلِ أَخْذِهِمْ غِرَّةً، ولهذا قال تعالى: {وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أَيْ بَعْدَ هربكم وفراركم، ثم قال تعالى: {قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} أي يمنعكم، {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سواءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُجِيرٌ وَلَا مُغِيثٌ.

- 18 - قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً - 19 - أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِالْمُعَوِّقِينَ لِغَيْرِهِمْ من شُهُودِ الْحَرْبِ، وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ أَيْ أَصْحَابِهِمْ وَعُشَرَائِهِمِ وَخُلَطَائِهِمْ {هَلُمَّ إِلَيْنَا} أَيْ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي الظِّلَالِ وَالثِّمَارِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ {لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أَيْ بُخَلَاءُ بِالْمَوَدَّةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْكُمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أَيْ فِي الْغَنَائِمِ، {فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أَيْ مِنْ شَدَّةِ خَوْفِهِ وَجَزَعِهِ، وَهَكَذَا خَوْفُ هَؤُلَاءِ الْجُبَنَاءِ مِنَ الْقِتَالِ {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} أَيْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْنُ تَكَلَّمُوا كلاماً فصيحاً عالياً، وادعوا لأنفسهم الشجاعة والنجدة، وهم يكذبون في ذلك، قال ابْنُ عَبَّاسٍ: {سَلَقُوكُمْ} أَيِ اسْتَقْبَلُوكُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَّا عِنْدَ الْغَنِيمَةِ فَأَشَحُّ قَوْمٍ وَأَسْوَأُهُ مُقَاسِمَةً أَعْطُونَا أَعْطُونَا، قَدْ شَهِدْنَا مَعَكُمْ، وَأَمَّا عِنْدَ الْبَأْسِ فَأَجَبْنُ قَوْمٍ وَأَخْذُلُهُ لِلْحَقِّ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} أَيْ لَيْسَ فِيهِمْ خَيْرٌ قَدْ جَمَعُوا الْجُبْنَ وَالْكَذِبَ وَقِلَّةَ الْخَيْرِ. فَهُمْ كَمَا قَالَ فِي أَمْثَالِهِمُ الشَّاعِرُ: أَفِي السلم أعيار (الأعيار: جمع عير وهو الحمار) جَفَاءً وَغِلْظَةً * وَفِي الْحَرْبِ أَمْثَالَ النِّسَاءِ الْعَوَارِكِ؟

أي في حال المسالمة كأنهم الحمر، وَفِي الْحَرْبِ كَأَنَّهُمُ النِّسَاءُ الْحُيَّضُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} أَيْ سَهْلًا هيناً عنده.

- 20 - يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً وَهَذَا أَيْضًا مِنْ صِفَاتِهِمُ الْقَبِيحَةِ في الجبن والخور والخوف، {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ} بَلْ هُمْ قَرِيبٌ مِنْهُمْ وَإِنَّ لَهُمْ عَوْدَةً إِلَيْهِمْ، {وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يسألون عن أبنائكم} أَيْ وَيَوَدُّونَ إِذَا جَاءَتِ الْأَحْزَابُ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ حَاضِرِينَ مَعَكُمْ فِي الْمَدِينَةِ، بَلْ فِي الْبَادِيَةِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَخْبَارِكُمْ وَمَا كَانَ مِنْ أمرهم مَعَ عَدُوِّكُمْ، {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً} أَيْ وَلَوْ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ لَمَا قَاتَلُوا مَعَكُمْ إِلَّا قَلِيلًا، لِكَثْرَةِ جُبْنِهِمْ وذلتهم وضعف يقينهم والله سبحانه وتعالى العالم بهم.

- 21 - لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا - 22 - وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي التَّأَسِّي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر تبارك وتعالى النَّاسُ بِالتَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صبره ومصابراته ومرابطته ومجاهدته، ولهذا قال تعالى للذين تضجروا وَتَزَلْزَلُوا وَاضْطَرَبُوا فِي أَمْرِهِمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، الْمُصَدِّقِينَ بِمَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ، وَجَعْلِهِ العاقبة لهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} قَالَ ابن عباس: يعنون قوله تعالى فِي سورة البقرة {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} أَيْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ الَّذِي يَعْقُبُهُ النَّصْرُ الْقَرِيبُ، ولهذا قال تعالى: {وَصَدَقَ الله ورسوله}، وقوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} دَلِيلٌ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ، ومعنى قوله جلت عظمته: {وَمَا زَادَهُمْ} أَيْ ذَلِكَ الْحَالُ وَالضِّيقُ وَالشِّدَّةُ {إِلاَّ إِيمَاناً} بِاللَّهِ {وَتَسْلِيماً} أَيِ انْقِيَادًا لِأَوَامِرِهِ وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.

- 23 - مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً - 24 - لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً لَمَّا ذكر عزَّ وجلَّ عن المنافقين أنهم نقضوا العهد، وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، وَ {صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ} قَالَ بَعْضُهُمْ: أَجْلَهُ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: عَهْدَهُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ

{وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} أَيْ وَمَا غَيَّرُوا عَهْدَ اللَّهِ وَلَا نَقَضُوهُ وَلَا بدلوه. روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نرى هذه الآيات نزلت في أنس بن النضر رضي الله عنه {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية، وروى الإمام أحمد عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ عَمِيَ (أَنَسُ بن النضر) رضي الله عنه، لَمْ يَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَشَقَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مَشْهَدًا فِيمَا بَعْدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرين الله عزَّ وجلَّ مَا أَصْنَعُ، قَالَ: فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا، فشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُُحد، فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال له أنس رضي الله عنه: يا أبا عمرو أين، واهاً لريح الجنة إني أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ، قَالَ: فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ رضي الله عنه، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ، فَقَالَتْ أُخْتُهُ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ ابْنَةُ النَّضْرِ: فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ، قال: فنزلت هذه الآية {مِّنَ المؤمنين رجالاً صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} قَالَ: فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ وفي أصحابه رَّضِيَ الله عَنْهُمْ (أخرجه أحمد ورواه مسلم والترمذي والنسائي عن أنس رضي الله عنه بنحوه). وعن طلحة رضي الله عنه قال: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُحد صَعِدَ الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَعَزَّى الْمُسْلِمِينَ بِمَا أَصَابَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالذُّخْرِ، ثُمَّ قرأ هذه الآية: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عليه فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} الآية كلها، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فأقبلتُ وعليَّ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ حَضْرَمِيَّانِ فَقَالَ: «أَيُّهَا السَّائِلُ هَذَا مِنْهُمْ» (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ موسى بن طلحة). قال مجاهد في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} يعني عهده {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} يوماً فيه القتال فيصدق في اللقاء، وَقَالَ الْحَسَنُ: {فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ} يَعْنِي مَوْتَهُ عَلَى الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الْمَوْتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يبدل تبديلاً، وقال بعضهم: نحبه نذره، وقوله تعالى: {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} أَيْ وَمَا غَيَّرُوا عَهْدَهُمْ وَبَدَّلُوا الْوَفَاءَ بِالْغَدْرِ، بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا نَقَضُوهُ كَفِعْلِ الْمُنَافِقِينَ الذين {عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ}، وقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أَيْ إِنَّمَا يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِالْخَوْفِ وَالزِّلْزَالِ، لِيَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَيَظْهَرُ أَمْرُ هَذَا بِالْفِعْلِ وَأَمْرُ هَذَا بِالْفِعْلِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ كَوْنِهِ، وَلَكِنْ لَا يُعَذِّبُ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ، حَتَّى يعملوا بما يعمله منهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أخباركم}، فَهَذَا عِلْمٌ بِالشَّيْءِ بَعْدَ كَوْنِهِ وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ السَّابِقُ حَاصِلًا بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَكَذَا قال الله تَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطيب}، ولهذا قال تعالى ههنا: {لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} أَيْ بِصَبْرِهِمْ عَلَى مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَقِيَامِهِمْ بِهِ وَمُحَافَظَتِهِمْ عَلَيْهِ {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} وَهُمُ النَّاقِضُونَ لِعَهْدِ اللَّهِ المخالفون لأوامره، فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه، ولما كانت رحمته ورأفته تبارك وتعالى بِخَلْقِهِ هِيَ الْغَالِبَةُ لِغَضَبِهِ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}.

- 25 - وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْأَحْزَابِ لَمَّا أَجْلَاهُمْ عَنِ الْمَدِينَةِ بِمَا أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ من الريح والجنود الإلهية، ولولا أن الله جعل رَسُولَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ لَكَانَتْ هَذِهِ الرِّيحُ عَلَيْهِمْ أشد من الريح العقيم التي أرسلها على عاد، ولكن قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} فسلط عليهم هواء فرّق شملهم، وَرَدَّهُمْ خَائِبِينَ خَاسِرِينَ بِغَيْظِهِمْ وَحَنَقِهِمْ {لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} لا في الدنيا مِنَ الظَّفَرِ وَالْمَغْنَمِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ بِمَا تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعداوة وهمهم بقتله، وقوله تبارك وتعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} أَيْ لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى مُنَازَلَتِهِمْ وَمُبَارَزَتِهِمْ حَتَّى يُجْلُوهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ؛ بَلْ كَفَى اللَّهُ وَحْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَأَعَزَّ جنده، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ فلا شيء بعده» (أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة)، وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَحْزَابِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الْأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ». وفي قوله عزَّ وجلَّ: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}، إِشَارَةٌ إِلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، وَهَكَذَا وَقَعَ بَعْدَهَا لَمْ يَغُزْهُمُ الْمُشْرِكُونَ بَلْ غَزَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي بِلَادِهِمْ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا انْصَرَفَ أهل الْخَنْدَقِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما بَلَغْنَا: «لَنْ تَغْزُوَكُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ عَامِكُمْ هَذَا وَلَكِنَّكُمْ تَغْزُونَهُمْ»، فَلَمْ تَغْزُ قُرَيْشٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ يَغْزُوهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ تعالى مكة، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} أَيْ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ رَدَّهُمْ خَائِبِينَ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً، وأعز الله الإسلام وأهله، فلخ الحمد والمنة.

- 26 - وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا - 27 - وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لم تطؤوها وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً قَدْ تقدم أن (بني قريظة) لما قدمت الْأَحْزَابِ، وَنَزَلُوا عَلَى الْمَدِينَةَ نَقَضُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَهْدِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِسِفَارَةِ (حُيَيِّ بن أخطب) لَعَنَهُ اللَّهُ دَخَلَ حِصْنَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ بِسَيِّدِهِمْ (كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ) حَتَّى نَقَضَ الْعَهْدَ، وَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: وَيْحَكَ قَدْ جِئْتُكَ بِعِزِّ الدَّهْرِ، أَتَيْتُكَ بِقُرَيْشٍ وَأَحَابِيشِهَا، وَغَطَفَانَ وَأَتْبَاعِهَا، وَلَا يزالون ههنا حَتَّى يَسْتَأْصِلُوا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: بل والله أتيتني بذل الدهر، فَلَمْ يَزَلْ يَفْتِلُ فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ، حَتَّى أجابه، فَلَمَّا نَقَضَتْ قُرَيْظَةُ وَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَاءَهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ وعلى المسلمين جداً، فلما أيده الله تعالى ونصره، وَكَبَتَ الْأَعْدَاءَ وَرَدَّهُمْ خَائِبِينَ بِأَخْسَرِ صَفْقَةٍ، وَرَجَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، وَوَضَعَ النَّاسُ السِّلَاحَ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ مِنْ وَعْثَاءِ تِلْكَ الْمُرَابَطَةِ، فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، إذ تبدى له جبريل عليه الصلاة والسلام متعجراً بِعِمَامَةٍ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ، فَقَالَ: أَوَضَعْتَ السِّلَاحَ يَا رَسُولَ الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ»، قَالَ: لَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَضَعْ أَسْلِحَتَهَا، وَهَذَا الْآنَ رُجُوعِي مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ، ثُمَّ قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة، فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

من فوره، وأمر الناس بالميسر إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَكَانَتْ عَلَى أَمْيَالٍ مِنَ المدينة وذلك بعد صلاة الظهر، وقال صلى الله عليه وسلم: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، فَسَارَ النَّاسُ فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ فِي الطَّرِيقِ، فَصَلَّى بَعْضُهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَقَالُوا: لَمْ يُرِدْ مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ألا تعجيل المسير، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّيهَا إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَبِعَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وأعطى الراية لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ نَازَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم وَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ (سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) سيد الأوس رضي الله عنه، لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَدْعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ لِيَحْكُمَ فِيهِمْ، فَلَمَّا أَقْبَلَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ قَدْ وَطَّئُوا لَهُ عَلَيْهِ جَعَلَ الْأَوْسُ يَلُوذُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: يَا سَعْدُ إِنَّهُمْ مَوَالِيكَ فَأَحْسِنْ فِيهِمْ، وَيُرَقِّقُونَهُ عَلَيْهِمْ وَيُعَطِّفُونَهُ، وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ، فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه: لقد آن لسعد أن تَأْخُذَهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، فَعَرَفُوا أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَبْقِيهِمْ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْخَيْمَةِ الَّتِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» فَقَامَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَأَنْزَلُوهُ إِعْظَامًا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا لَهُ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ لِيَكُونَ أَنْفَذَ لِحُكْمِهِ فِيهِمْ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ هَؤُلَاءِ - وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ - قَدْ نَزَلُوا عَلَى حكمك فاحكم فيهم بما شئت» فقال رضي الله عنه: وحكمي نافذ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» قَالَ: وَعَلَى مَنْ فِي هَذِهِ الْخَيْمَةِ؟ قال: «نعم»، قال: وعلى من ههنا، وَأَشَارَ إِلَى الْجَانِبِ الَّذِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ»، فَقَالَ رضي الله عنه: إِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتَلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذُرِّيَّتُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة»، ثُمَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَخَادِيدِ، فَخُدَّتْ فِي الْأَرْضِ وَجِيءَ بِهِمْ مُكْتَفِينَ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَكَانُوا مَا بَيْنَ السَّبْعِمِائَةِ إِلَى الثَّمَانِمِائَةِ، وَسَبَى مَنْ لَمْ يُنْبِتْ مِنْهُمْ مع النساء وأموالهم، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم} أَيْ عَاوَنُوا الْأَحْزَابَ وَسَاعَدُوهُمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يَعْنِي بَنِي قُرَيْظَةَ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَعْضِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ قَدْ نَزَلَ آبَاؤُهُمُ الْحِجَازَ قَدِيمًا طَمَعًا فِي اتِّبَاعِ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإِنجيل، {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كفروا به} فعليهم لعنة الله، وقوله تعالى: {من صَيَاصِيهِمْ} يعني حصونهم (وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وقتادة والسدي وغير واحد من السلف)، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} وَهُوَ الْخَوْفُ لِأَنَّهُمْ كانوا مالأوا المشركين على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم فانعكس عليهم الحال، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} فالذين قتلوا هم المقاتلة، والأسراء هم الصغار والنساء، {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} أَيْ جَعَلَهَا لَكُمْ من قتلكم لهم {وَأَرْضاً لم تطأوها} قيل: خيبر، وقيل: مكة، وقيل: فارس والروم، قال ابْنُ جَرِيرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادًا {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}.

- 28 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا - 29 - وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أجرا عظيما

هذا أمر من الله تبارك وتعالى لرسول الله صلى اله عليه وسلم، بِأَنْ يُخَيِّرَ نِسَاءَهُ بَيْنَ أَنْ يُفَارِقَهُنَّ فَيَذْهَبْنَ إِلَى غَيْرِهِ، مِمَّنْ يَحْصُلُ لَهُنَّ عِنْدَهُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا، وَبَيْنَ الصَّبْرِ عَلَى مَا عِنْدَهُ من ضيق الحال، ولهن عند الله تعالى فِي ذَلِكَ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، فَاخْتَرْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَأَرْضَاهُنَّ، اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَجَمَعَ الله تعالى لَهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَ خَيْرِ الدُّنْيَا وَسَعَادَةِ الآخرة، روى البخاري عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهَا حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ تعالى أن يخيَّر أزواجه، قالت: فَبَدَأَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَسْتَعْجِلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ - قالت: وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أبويَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بفراقه - قالت: ثم قال: " إن الله تبارك تعالى قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ} " الْآيَتَيْنِ، قالت عائشة رضي الله عنها فَقُلْتُ أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ الله ورسوله والدار الآخرة (أخرجه البخاري وفي بعض رواياته عن عائشة قَالَتْ: ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مثل ما فعلت). وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أُنْزِلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ، فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لا تعجلي حتى تستأمري أبويك» قالت وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بفراقه قالت ثم قال: "إن الله تبارك وتعالى قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ} الْآيَتَيْنِ، قالت عائشة رضي الله عنها فَقُلْتُ أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ، فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عنهن (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه البخاري ومسلم عن الزهري عن عائشة بمثله). وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يستأذن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّاسَ بِبَابِهِ جُلُوسٌ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ رضي الله عنه، فَاسْتَأْذَنَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، ثُمَّ أَذِنَ لِأَبِي بكر وعمر رضي الله عنهما فَدَخْلَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وحوله نساؤه، وهو صلى الله عليه وسلم ساكت، فقال عمر رضي الله عنه: لأكملن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَ ابْنَةَ زَيْدٍ - امْرَأَةَ عُمَرَ - سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ آنِفًا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقَالَ: «هُنَّ حَوْلِي يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ»، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى عَائِشَةَ لِيَضْرِبَهَا، وَقَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى حَفْصَةَ كِلَاهُمَا يَقُولَانِ: تَسْأَلَانِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ما ليس عنده، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلن: والله لا نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد هَذَا الْمَجْلِسِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، قَالَ: وَأَنْزَلَ الله عزَّ وجلَّ الخيار، فبدأ بعائشة رضي الله عنها فَقَالَ: «إِنِّي أَذْكُرُ لَكِ أَمْرًا مَا أُحِبُّ أَنْ تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» قَالَتْ وَمَا هُوَ؟ قَالَ فَتَلَا عَلَيْهَا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ} الْآيَةَ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَفِيكَ أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ بَلْ أَخْتَارُ الله تعالى ورسوله، وأسألك أن لا تَذْكُرَ لِامْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِكَ مَا اخْتَرْتُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّفًا وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا، لاتسألني امرأة منهن عما اخترت إلاّ أخبرتها» (أخرجه مسلم والإمام أحمد)، قوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} أي أعطيكن حقوقكن وأطلق سراحكن، قال عكرمة: وكان تحته يؤمئذ تِسْعُ نِسْوَةٍ، خَمْسٌ مِنْ قُرَيْشٍ (عَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة) رضي الله عنهن، وَكَانَتْ تَحْتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةُ بنت حيي النضيرية، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عنهن وأرضاهن أجمعين.

- 30 - يا نساء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا - 31 - وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيمًا يَقُولُ تَعَالَى وَاعِظًا نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللَّاتِي اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ والدار الآخرة، بِأَنَّ مَنْ يَأْتِ مِنْهُنَّ {بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} قَالَ ابن عباس: هي النشوز وسوء الخلق، وهذا شَرْطٌ وَالشَّرْطُ لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}، وكقوله {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين}، فلما كانت منزلتهن رَفِيعَةً نَاسَبَ أَنْ يَجْعَلَ الذَّنْبَ لَوْ وَقَعَ منهن مغلظاً، ولهذا قال تعالى: {مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} يعني في الدنيا والآخرة (قاله زيد بن أسلم ومجاهد)، {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} أَيْ سَهْلًا هنياً، ثُمَّ ذَكَرَ عَدْلَهُ وَفَضْلَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ} أي تطع الله ورسوله وتستجب {نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} أَيْ فِي الْجَنَّةِ، فَإِنَّهُنَّ فِي مَنَازِلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، فَوْقَ مَنَازِلِ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ، فِي الْوَسِيلَةِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ مَنَازِلِ الْجَنَّةِ إِلَى الْعَرْشِ.

- 32 - يا نساء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً - 33 - وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا - 34 - وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا هَذِهِ آدَابٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَنِسَاءُ الأمة تبع لهن في ذلك)، بأنهن إذا اتقين الله عزَّ وجلَّ كما أمرهن، فإنه لا يشبهن أَحَدٌ مِنَ النِّسَاءِ وَلَا يَلْحَقُهُنَّ فِي الْفَضِيلَةِ والمنزلة، ثم قال تعالى: {فلاتخضعن بالقول} قال السدي: يَعْنِي بِذَلِكَ تَرْقِيقَ الْكَلَامِ إِذَا خَاطَبْنَ الرِّجَالَ، ولهذا قال تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أَيْ دَغَلٌ، {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَوْلًا حَسَنًا جَمِيلًا مَعْرُوفًا فِي الْخَيْرِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهَا تُخَاطِبُ الْأَجَانِبَ بِكَلَامٍ لَيْسَ فِيهِ تَرْخِيمٌ، أَيْ لَا تُخَاطِبِ الْمَرْأَةُ الْأَجَانِبَ كَمَا تُخَاطِبُ زوجها، وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أَيِ الْزَمْنَ بُيُوتَكُنَّ، فَلَا تَخْرُجْنَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَمِنِ الْحَوَائِجِ الشَّرْعِيَّةِ، الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ بِشَرْطِهِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وليخرجن وهنَّ تفِلات» (تفلات: أي غير متطيبات) وفي رواية: «وبيوتهن خير لهن» وروى الحافظ البزار عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جِئْنَ النِّسَاءُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ الرِّجَالُ بِالْفَضْلِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَا لَنَا عَمَلٌ نُدْرِكُ بِهِ عَمَلَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سبيل اللَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قعدت - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - مِنْكُنَّ فِي بَيْتِهَا فَإِنَّهَا تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى»، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المرأة عورة

فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ، وَأَقْرَبُ مَا تَكُونُ بروحة ربها وهي في قعر بيتها» (أخرجه الحافظ البزار والترمذي)، وفي الحديث: «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا» (أخرجه الحافظ البزار عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً وإسناده جَيِّدٌ)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَخْرُجُ تَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ الرِّجَالِ فَذَلِكَ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ قتادة: كانت لهن مشية وتكسر وتغنج فنهى الله تعالى عن ذلك، وقال مقاتل: التبرج أَنَّهَا تُلْقِي الْخِمَارَ عَلَى رَأْسِهَا وَلَا تَشُدُّهُ فَيُوَارِي قَلَائِدَهَا وَقُرْطَهَا وَعُنُقَهَا وَيَبْدُو ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْهَا وَذَلِكَ التَّبَرُّجُ، ثُمَّ عُمَّتْ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ في التبرج. وقوله تعالى: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} نَهَاهُنَّ أَوَّلًا عَنِ الشَّرِّ ثُمَّ أَمَرَهُنَّ بِالْخَيْرِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَهِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، وَهَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْعَامِ على الخاص، وقوله تَعَالَى: {إِنَّمَآ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} نَصٌّ فِي دُخُولِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم في أهل البيت ههنا، لأنهن سبب نزول هذه اللآية، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً، روى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَانَ يُنَادِي فِي السُّوقِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} نَزَلَتْ فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وليس المراد أنهن المراد فقط دون غيرهن، فقد روى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ رضي الله عنه عن ابن عَمٍّ لَهُ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَسَأَلْتُهَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: تَسْأَلُنِي عَنْ رَجُلٍ كَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَتُهُ وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ؟ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وحسيناً رَّضِيَ الله عَنْهُمْ فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ ثَوْبًا فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» قَالَتْ: فدنوت منهم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا مِنْ أَهْلِ بيتك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «تنحي فإنك على خير» (أخرجه ابن أبي حاتم). وروى مسلم في صحيحه عن يزيد بن حبان قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَحُصَيْنُ بْنُ سَبْرَةَ وَعُمَرُ بن سلمة إلى (زيد بن أرقم) رضي الله عنه، فَلَمَّا جَلَسْنَا إِلَيْهِ قَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: لَقَدْ لَقِيتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعْتَ حَدِيثَهُ وَغَزَوْتَ مَعَهُ وَصَلَّيْتَ خَلْفَهُ، لَقَدْ لَقِيَتْ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا، حَدِّثْنَا يَا زَيْدُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي وَاللَّهِ لَقَدْ كَبُرَتْ سِنِّي وَقَدِمَ عَهْدِي وَنَسِيتُ بَعْضَ الَّذِي كُنْتُ أَعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا حَدَّثْتُكُمْ فَاقْبَلُوا وَمَا لَا، فلا تكلفوا فيه، ثُمَّ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خماً بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يوشك أن يأتني رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبُ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثِقْلَيْنِ، أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحث على كتاب الله عزَّ وجلَّ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ أَهْلَ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ. قَالَ: ومن هم؟ هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل

عباس رضي الله عنهم، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة بعده؟ قال: نعم (رواه مسلم في صحيحه). والذي لَا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلَاتٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ مَعَهُنَّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ من آيات الله والحكمة} أي واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بيوتكن من الكتاب والسنّة، وَاذْكُرْنَ هَذِهِ النِّعْمَةَ الَّتِي خُصِصْتُنَّ بِهَا مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، أَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ فِي بُيُوتِكُنَّ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ، وَعَائِشَةُ الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ رضي عنهما أولاهن بهذه النعمة، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ فِي فِرَاشِ امْرَأَةٍ سِوَاهَا، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وسلامه عليه، فَنَاسَبَ أَنَّ تُخَصُّصَ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ، وَأَنَّ تُفْرَدَ بهذه المرتبة الْعَلِيَّةِ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ أَزْوَاجُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَقَرَابَتُهُ أَحَقُّ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ: «وَأَهْلُ بَيْتِي أَحَقُّ»، وَهَذَا يُشْبِهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فَقَالَ: «هُوَ مَسْجِدِي هَذَا»، فَهَذَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ ذَاكَ أُسس عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِتَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ والله أعلم. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} أَيْ بِلُطْفِهِ بكن بلغتن هذه المنزلة، وبخبرته أَعْطَاكُنَّ ذَلِكَ وَخَصَّكُنَّ بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: واذكروا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُنَّ بِأَنَّ جَعْلَكُنَّ فِي بُيُوتٍ تُتْلَى فِيهَا آيَاتُ اللَّهِ وَالْحِكْمَةُ، فَاشْكُرْنَ اللَّهَ تعالى عَلَى ذَلِكَ وَاحْمِدْنَهُ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خبيراً} أي إذا لُطْفٍ بِكُنَّ إِذْ جَعَلَكُنَّ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي تتلى فيها آيات الله وَالْحِكْمَةُ وَهِيَ (السُّنَّةُ) خَبِيرًا بِكُنَّ إِذِ اخْتَارَكُنَّ لرسوله أزواجاً.

- 35 - إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً عن أم سلمة رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: مَا لِي أَسْمَعُ الرِّجَالَ يُذْكَرُونَ فِي الْقُرْآنِ، وَالنِّسَاءُ لَا يُذْكَرْنَ؟ فَأَنْزَلَ الله تعالى: {إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} (رواه النسائي في سننه عن أم سلمة رضي الله عنها). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَهُ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَذْكُرُ المؤمنات؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ المسلمين والمسلمات} الآية (أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما). وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ في قلوبكم} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» فَيَسْلُبُهُ الْإِيمَانَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كُفْرُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أخص منه. وقوله تعالى: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} الْقُنُوتُ هُوَ الطَّاعَةُ فِي سُكُونٍ، قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ

الليل ساجداً وقائماً}، وقال تعالى: {كُلُّ له قانتون} فالإسلام بعده مرتبة يرتقي إليها وهو {الإيمان} ثم القنوت ناشىء عَنْهُمَا {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} هَذَا فِي الْأَقْوَالِ فَإِنَّ الصدق خصلة محمودة، وَهُوَ عَلَامَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ أَمَارَةٌ عَلَى النِّفَاقِ؛ وَمَنْ صَدَقَ نَجَا، «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ» الحديث. {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} هَذِهِ سَجِيَّةُ الْأَثْبَاتِ، وَهِيَ الصَّبْرُ على المصائب، والعلم [ان المقدر كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَتَلَقِّي ذَلِكَ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، أي أصبعه فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ ثُمَّ مَا بَعْدَهُ أَسْهَلُ منه وهو صدق السجية وثباتها {والخاشعين والخاشعين} الخشوع هو السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ وَالتُّؤَدَةُ وَالْوَقَارُ وَالتَّوَاضُعُ، وَالْحَامِلُ عَلَيْهِ الخوف من الله تعالى وَمُرَاقَبَتُهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} الصَّدَقَةُ هِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ المحاويج الضعفاء الذين لا كسب لهم، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّهِ - فَذَكَرَ مِنْهُمْ - وَرَجُلٌ تصدَّق بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ». وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الماء النار» والأحاديث في الحث عليها كثيرة جداً. {والصائمين والصائمات} والصوم زكاة البدن، يزكيه ويطهره وينقيه من الأخلاط الرديئة، كما قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ دَخَلَ فِي قوله تعالى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} وَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى كَسْرِ الشَّهْوَةِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهُ {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} أَيْ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ إِلَّا عَنِ الْمُبَاحِ، كما قال عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}، وقوله تعالى: {والذاكرين الله كثيراً والذكرات}، روى ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إذ أَيْقَظَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ كانا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ» (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه بمثله). وفي الحديث: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعُهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ تَعَاطِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ غَدًا فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: «ذكر الله عزَّ وجلّ» (أخرجه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل مرفوعاً) وروي أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَقَالَ: أَيُّ الْمُجَاهِدِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا يَا رَسُولَ الله؟ قال رسول الله عليه وسلم: «أكثرهم لله تعالى ذِكْرًا»، قَالَ: فَأَيُّ الصَّائِمِينَ أَكْثَرُ أَجْرًا؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أكثرهم لله عزَّ وجل ذِكْرًا» ثُمَّ ذَكَرَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَالصَّدَقَةَ، كل ذلك يقول رسول الله صلى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ذَهَبَ الذَّاكِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أجل» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقوله تعالى: {أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} خبر عن هؤلاء المذكورين كلهم، أي أن الله تعالى قد أعد لهم أي هيأ لهم {مَّغْفِرَةً} منه لذنوبهم و {أجراً عَظِيماً} وَهُوَ الْجَنَّةُ.

- 36 - وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مبينا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (زينب بنت جحش) لزيد بن حارثة رضي الله عنه، فَاسْتَنْكَفَتْ مِنْهُ، وَقَالَتْ: أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ حَسَبًا، وكانت امرأة فيها حدة، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ} الْآيَةَ كُلَّهَا (وهكذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل أنها نزلت في (زينب بنت جحش) حِينَ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لمولاه زيد بن حارثة)، وقال عبد الرحمن بْنِ أَسْلَمَ: نَزَلَتْ فِي (أُمِّ كُلْثُومِ) بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ رضي الله عنها، وَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ مِنَ النِّسَاءِ يَعْنِي بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فَوَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ، فَزَوَّجَهَا زيد بن حارثة رضي الله عنه يَعْنِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بَعْدَ فِرَاقِهِ زَيْنَبَ، فَسَخِطَتْ هِيَ وَأَخُوهَا، وَقَالَا: إِنَّمَا أَرَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَزَوَّجَنَا عَبْدَهُ، قَالَ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} إِلَى آخِرِ الآية، وروى الإمام أحمد عن أنَس رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى (جُلَيْبِيبٍ) امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى أَبِيهَا فقال: حتى أستأمر أمها، فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم إِذًا» قَالَ، فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَذَكَرَ لها، فقالت: لاها الله إذن مَا وَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا جُلَيْبِيبًا، وَقَدْ مَنَعْنَاهَا مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، قَالَ: وَالْجَارِيَةُ فِي سِتْرِهَا تَسْمَعُ، قَالَ فانطلق الرجل يريد أن يخبر رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَرُدُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ، إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَهُ لَكُمْ فَأَنْكِحُوهُ، قَالَ: فَكَأَنَّهَا جَلَّتْ عَنْ أَبَوَيْهَا، وَقَالَا: صَدَقْتِ، فَذَهَبَ أَبُوهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ رضيته فقد رضيناه، قال صلى الله عليه وسلم: «فَإِنِّي قَدْ رَضِيتُهُ»، قَالَ: فَزَوَّجَهَا، ثُمَّ فَزِعَ أهل المدينة فركب جليبيب فوجوده قَدْ قُتِلَ، وَحَوْلُهُ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ قتلهم، قال أنس رضي الله عنه: فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَمِنْ أَنْفَقِ بَيْتٍ بِالْمَدِينَةِ (أخرجه أفمام أحمد عن أنس رضي الله عنه). وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (الِاسْتِيعَابِ) أَنَّ الْجَارِيَةَ لَمَّا قَالَتْ فِي خِدْرِهَا: أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أمره؟ نزلت هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عن طاووس قَالَ: إِنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَنَهَاهُ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِشَيْءٍ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُ وَلَا اختيار لأحد ههنا ولا رأي ولا قول، كما قال تبارك وتعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}، وَفِي الْحَدِيثِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ»، وَلِهَذَا شَدَّدَ فِي خِلَافِ ذَلِكَ فَقَالَ: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أليم}.

- 37 - وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ

فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عن نبيه صلى الله عليه وسلم، أنه قال لمولاه (زيد بن حارثة) رضي الله عنه، وَهُوَ الَّذِي (أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ) أَيْ بِالْإِسْلَامِ ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} أَيْ بِالْعِتْقِ مِنَ الرِّقِّ، وَكَانَ سَيِّدًا كَبِيرَ الشَّأْنِ جَلِيلَ الْقَدْرِ، حَبِيبًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ (الْحِبُّ) وَيُقَالُ لِابْنِهِ أُسَامَةَ (الْحِبُّ ابْنُ الْحِبِّ) قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سَرِيَّةٍ إِلَّا أَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ عَاشَ بَعْدَهُ لاستخلفه (أخرجه الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا)، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ زَوَّجَهُ بِابْنَةِ عَمَّتِهِ (زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ) الأسدية رضي الله عنها، وَأَصْدَقَهَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَخِمَارًا وَمِلْحَفَةً ودرعاً، فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ أَوْ فَوْقَهَا، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فَجَاءَ زَيْدٌ يَشْكُوهَا إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لَهُ::أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}. روى ابن أبي حاتم عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ قَالَ: سألني علي بن الحسين رضي الله عنهما ما يقول الحسن في قوله تَعَالَى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}، فذكرت له، فقال: لا، ولكن الله تعالى أَعْلَمَ نَبِيَّهُ أَنَّهَا سَتَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِهِ قَبْلَ أن يتزوجها، فلما أتاه زيد رضي الله عنه لِيَشْكُوَهَا إِلَيْهِ قَالَ: «اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» فَقَالَ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنِّي مُزَوِّجُكَهَا وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ. وروى ابن جرير عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ كَتَمَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تعالى لِكَتَمَ {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} الْوَطَرُ: هُوَ الْحَاجَةُ وَالْأَرَبُ، أَيْ لَمَّا فَرِغَ مِنْهَا وَفَارَقَهَا زَوَّجْنَاكَهَا، وَكَانَ الَّذِي وَلِيَ تَزْوِيجَهَا مِنْهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِ أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود من البشر، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ: «اذْهَبْ فَاذْكُرْهَا عليَّ» فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَاهَا وَهِيَ تُخَمِّرُ عَجِينَهَا قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا عَظُمَتْ فِي صَدْرِي، حَتَّى مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَيْهَا وأقول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقي، وَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ أَبْشِرِي أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُكِ، قَالَتْ: مَا أنا بصانعة شيئا حتى أؤمر رَبِّي عزَّ وجلَّ، فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، وَجَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا حِينَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأطعمنا عَلَيْهَا الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ، فَخَرَجَ النَّاسُ وَبَقِيَ رِجَالٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ الطَّعَامِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعَتْهُ، فَجَعَلَ صلى الله عليه وسلم يَتَتَبَّعُ حُجِرَ نِسَائِهِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ وَيَقُلْنَ: يَا رسول الله فكيف وَجَدْتَ أَهْلَكَ؟ فَمَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ أَنَّ القوم قد خرجوا أو أخبر، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ فَذَهَبْتُ أَدْخَلَ مَعَهُ، فَأَلْقَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَنَزَلَ الْحِجَابُ وَوَعَظَ الْقَوْمَ بِمَا وُعِظُوا بِهِ {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يؤذن لكم} الآية كلها (أخرجه الإمام أحمد ورواه مسلم والنسائي بنحوه)، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "إِنَّ زينب بنت جحش رضي الله عنها كَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تعالى من فوق سبع سماوات" (أخرجه البخاري في صحيحه عن أنَس بن مالك) وقوله تعالى: {لِّكَيْلاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ

أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} أَيْ إِنَّمَا أَبَحْنَا لَكَ تَزْوِيجَهَا وَفَعَلْنَا ذَلِكَ لِئَلَّا يَبْقَى حَرَجٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَزْوِيجِ مُطَلَّقَاتِ الْأَدْعِيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ قَدْ تَبَنَّى (زَيْدَ بن حارثة) رضي الله عنه، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ (زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ) فَلَمَّا قطع الله تعالى هَذِهِ النِّسْبَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أنباءكم} زاد ذلك بياناً وتأكيداً بوقوع رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها لَمَّا طَلَّقَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى في آية التحريم {وَحَلاَئِلُ أبناءكم الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} لِيَحْتَرِزَ مِنَ الِابْنِ الدَّعِيِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ كثيراً فيهم، وقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} أَيْ وَكَانَ هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي وَقَعَ قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحَتَّمَهُ، وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، كَانَتْ زَيْنَبُ رضي الله عنها فِي عِلْمِ اللَّهِ سَتَصِيرُ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

- 38 - مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا يَقُولُ تَعَالَى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} أَيْ فِيمَا أَحَلَّ لَهُ وَأَمَرَهُ بِهِ مِنْ تَزْوِيجِ زينب رضي الله عنها التي طلقها دعيه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} أي هذا حكم الله تعالى فِي الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ لِيَأْمُرَهُمْ بِشَيْءٍ وعليهم في ذلك حرج، وهذا رد مَنْ تَوَهَّمَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ نَقْصًا فِي تَزْوِيجِهِ امْرَأَةَ زَيْدٍ مَوْلَاهُ وَدَعِيِّهِ الَّذِي كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} أَيْ وَكَانَ أَمْرُهُ الَّذِي يُقَدِّرُهُ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ، وَوَاقِعًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ وَلَا مَعْدَلَ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.

- 39 - الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً - 40 - مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شيء عليما يمدح تبارك وتعالى {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ} أَيْ إِلَى خَلْقِهِ ويؤدونها بأماناتها {وَيَخْشَوْنَهُ} أَيْ يَخَافُونَهُ وَلَا يَخَافُونَ أَحَدًا سِوَاهُ، فَلَا تَمْنَعُهُمْ سَطْوَةُ أَحَدٍ عَنْ إِبْلَاغِ رِسَالَاتِ الله تعالى {وكفى بالله حَسِيباً} أي وكفى الله نَاصِرًا وَمُعِينًا، وَسَيِّدُ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، بَلْ وَفِي كُلِّ مَقَامٍ (مُحَمَّدٍ) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ قَامَ بِأَدَاءِ الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب، ثُمَّ وَرِثَ مَقَامَ الْبَلَاغِ عَنْهُ أُمَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَكَانَ أَعْلَى مَنْ قَامَ بِهَا بَعْدَهُ أَصْحَابُهُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بَلَّغُوا عَنْهُ كَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَحَضَرِهِ وَسَفَرِهِ، وَسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، ثُمَّ وَرِثَهُ كُلُّ خَلَفٍ عَنْ سَلَفِهِمْ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، فَبِنُورِهِمْ يقتدي المهتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفقون، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُحَقِّرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَرَى أَمْرَ اللَّهِ فِيهِ مَقَالٌ ثُمَّ لَا يَقُولُهُ، فَيَقُولُ الله: ما يمنعك أن تقول منه، فَيَقُولُ رَبِّ خَشِيتُ النَّاسَ فَيَقُولُ فَأَنَا أَحَقُّ أن يخشى" (أخرجه أحمد ورواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري). وقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} نهى أَنَّ يُقَالَ بَعْدَ هَذَا (زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أَيْ لَمْ يَكُنْ أَبَاهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تبناه، فإنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعِشْ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ حَتَّى بَلَغَ الحلم، فإنه صلى الله عليه وسلم وُلِدَ لَهُ الْقَاسِمُ وَالطَّيِّبُ وَالطَّاهِرُ مِنْ خَدِيجَةَ رضي الله عنها فماتوا صغاراً، وولد له صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمُ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ، فَمَاتَ أَيْضًا رَضِيعًا، وكان له صلى الله عليه وسلم مِنْ خَدِيجَةَ أَرْبَعُ بَنَاتٍ: زَيْنَبُ وَرُقَيَّةُ وَأُمُّ كُلْثُومٍ وَفَاطِمَةُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَمَاتَ في حياته صلى الله عليه وسلم ثلاث، وتأخرت فاطمة

رضي الله عنها حتى أصيبت به صلى الله عليه وسلم ثم ماتت بعده لستة أشهر، وقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} فَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَإِذَا كَانَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ فَلَا رسول بعده بالطريق الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، لِأَنَّ مَقَامَ الرِّسَالَةِ أَخَصُّ مِنْ مقام النبوة. وَبِذَلِكَ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. روى الإمام أحمد عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلِي فِي النَّبِيِّينَ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَحْسَنَهَا وَأَكْمَلَهَا وَتَرَكَ فِيهَا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ لَمْ يَضَعْهَا فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِالْبُنْيَانِ وَيَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ: لَوْ تَمَّ مَوْضِعُ هَذِهِ اللَّبِنَةِ؟ فَأَنَا فِي النَّبِيِّينَ مَوْضِعُ تلك اللبنة" (أخرجه الإمام أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح). حديث آخر: روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ فَلَا رَسُولَ بَعْدِي وَلَا نَبِيَّ» قَالَ فَشَقَّ ذَلِكَ على الناس فقال: «وَلَكِنَّ الْمُبَشِّرَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: «رُؤْيَا الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ وَهِيَ جُزْءٌ من أجزاء النبوة» (أخرجه أحمد والترمذي)، حديث آخر: روى أبو داود الطيالسي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ فَكَانَ مَنْ دَخَلَهَا فَنَظَرَ إِلَيْهَا قَالَ: مَا أَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ هَذِهِ اللَّبِنَةِ، فَأَنَا مَوْضِعُ اللبنة ختم بي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" (أخرجه الطيالسي ورواه البخاري ومسلم والترمذي بنحوه). حديث آخر: قال الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رجل ابتنى بيوتاً فأكملها وأحسنها وَأَجْمَلَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ وَيُعْجِبُهُمُ الْبُنْيَانُ وَيَقُولُونَ ألا وضعت ههنا لَبِنَةً فَيَتِمُّ بُنْيَانُكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكنت أنا اللبنة، حديث آخر، قال الإمام أحمد عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قَالَ، قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لمنجدل في طينته». حديث آخر: عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "إن لي أسماء: أنا أَسْمَاءٌ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الذي يمحو الله تعالى بِهِ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ" (أخرجاه في الصحيحين عن طريق الزهري). فَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادِ إِرْسَالُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، ثُمَّ مِنْ تَشْرِيفِهِ لَهُمْ خَتْمُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ بِهِ، وَإِكْمَالُ الدِّينِ الْحَنِيفِ لَهُ، وَقَدْ أخبر تبارك وتعالى في كتابه العزيز أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ لِيَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنِ ادَّعَى هَذَا الْمَقَامَ بَعْدَهُ فَهُوَ كَذَّابٌ أفاك دجال، ضال مضل.

- 41 - يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا - 42 - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً - 43 - هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً - 44 - تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيمًا يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عباد المؤمنين بكثرة الذكر لربهم تبارك وتعالى، المنعم عليهم بأنواع النعم وصنوف المنن، لما

لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ، وَجَمِيلِ المآب، روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكارها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرَقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ»؟ قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «ذكر الله عزَّ وجلَّ» (أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه). وعن عبد الله بن بشر قال: جَاءَ أَعُرَابِيَّانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أي الناس خير؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ»، وَقَالَ الْآخَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا فَمُرْنِي بِأَمْرٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لايزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى» (أخرجه الإمام أحمد وروى الترمذي وابن ماجه الفصل الأخير منه). وفي الحديث: «أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون» (أخرجه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً)، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ جَلَسُوا مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا الله تعالى فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة» (أخرجه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً)، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذكرا كَثِيراً} إن الله تعالى لَمْ يَفْرِضْ عَلَى عِبَادِهِ فَرِيضَةً، إِلَّا جَعَلَ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا، ثُمَّ عَذَرَ أَهْلَهَا فِي حال العذر غير الذكر، فإن الله تعالى لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَمْ يَعْذُرْ أَحَدًا فِي تَرْكِهِ إِلَّا مَغْلُوبًا عَلَى تركه فقال: {اذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جنوبكم} بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَفِي السِّفْرِ والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. وقال عزَّ وجلَّ: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ صَلَّى عَلَيْكُمْ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ، وَالْأَحَادِيثُ وَالْآيَاتُ وَالْآثَارُ فِي الحث على ذكر الله تعالى كثيرة جداً (صنف العلماء في الأذكار كتباً كثيرة ومن أحسنها كتاب (الأذكار) للإمام النووي). وقوله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أَيْ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ، كقوله عزَّ وجلَّ: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ} هَذَا تَهْيِيجٌ إِلَى الذِّكْرِ، أَيْ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُكُمْ فَاذْكُرُوهُ أنتم، كقوله عزَّ وجلَّ: {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}، وَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، ومَن ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خير منه» والصلاة من الله تعالى: ثَنَاؤُهُ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ، حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عن أبي العالية، وقال غيره: الصلاة من الله عزَّ وجلَّ: الرحمة، وَأَمَّا الصَّلَاةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَبِمَعْنَى الدُّعَاءِ لِلنَّاسِ والاستغفار، كقوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم}، وقوله تعالى: {لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أَيْ بِسَبَبِ رَحْمَتِهِ بِكُمْ وَثَنَائِهِ عَلَيْكُمْ وَدُعَاءِ مَلَائِكَتِهِ لَكُمْ، يُخْرِجُكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ إِلَى نُورِ الْهُدَى وَالْيَقِينِ، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ هَدَاهُمْ إلى الحق وبصّرهم الطريق، الذي ضل عنه الدعاة إلى الكفر أو البدعة، وَأَمَّا رَحْمَتُهُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَآمَنَهُمْ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَأَمَرَ مَلَائِكَتَهُ يَتَلَقَّوْنَهُمْ بِالْبِشَارَةِ بِالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لمحبته لهم ورأفته بهم. روى الإمام البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَةً مِنَ السَّبْيِ، قَدْ أَخَذَتْ صَبِيًّا لَهَا، فَأَلْصَقَتْهُ إِلَى صَدْرِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ تُلْقِي وَلَدَهَا فِي النَّارِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؟» قالوا: لا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فواللَّهِ، للهُ أرحمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا، وقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} أي تحيتهم مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ، أَيْ يوم يسلم عليهم، كما قال عزَّ وجلَّ: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رحيم} وقال قتادة: الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ يَوْمَ يَلْقَوْنَ اللَّهَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. (قُلْتُ): وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقوله تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} يَعْنِي الْجَنَّةَ وَمَا فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والملاذ والمناظر مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. - 45 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً - 46 - وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا - 47 - وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا - 48 - وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ: أَجَلْ، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته فِي الْقُرْآنِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً}، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ ولا سخَّاب (سخّاب: أي كثير الصخب وهو الذي يرفع صوته في الأسواق) فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، وَلَكِنْ يعفو ويصفح وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً (أخرجه البخاري والإمام أحمد عن عطاء بن يسار). وقال وهب بن منبه: إن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ (شِعِيَاءُ) أَنْ قُمْ فِي قَوْمِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنِّي مَنْطِقٌ لِسَانَكَ بِوَحْيٍ، وأبعث أمياً من الأميين، أبعثه لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، لَوْ يَمُرُّ إِلَى جَنْبِ سِرَاجٍ لَمْ يُطْفِئْهُ مِنْ سَكِينَتِهِ، وَلَوْ يَمْشِي عَلَى الْقَصَبِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ، أَبْعَثُهُ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، لَا يَقُولُ الْخَنَا، أَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا كُمْهًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا، أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ أَمْرٍ جَمِيلٍ، وَأَهَبُ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، وَأَجْعَلُ السَّكِينَةَ لِبَاسَهُ، والبِّر شِعَارَهُ، وَالتَّقْوَى ضَمِيرَهُ، وَالْحِكْمَةَ مَنْطِقَهُ، وَالصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ، وَالْعَفْوَ وَالْمَعْرُوفَ خُلُقَهُ، وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ، وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ، وَالْهُدَى إِمَامَهُ، وَالْإِسْلَامَ مِلَّتَهُ، وَأَحْمَدَ اسْمَهُ، أَهْدِي بِهِ بَعْدَ الضلال، وأعلِّم بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ، وَأَرْفَعُ بِهِ بَعْدَ الْخَمَالَةِ، وَأُعْرَفُ بِهِ بَعْدَ النُّكْرَةِ، وَأُكْثِّرُ بِهِ بَعْدَ الْقِلَّةِ، وَأُغْنِي بِهِ بَعْدَ الْعَيْلَةِ، وَأَجْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَأُؤَلِّفُ بِهِ بَيْنَ أُمَمٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَقُلُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَهْوَاءٍ مُتَشَتَّتَةٍ، وَأَسْتَنْقِذُ بِهِ فِئَامًا مِنَ النَّاسِ عَظِيمَةً مِنَ الْهَلَكَةِ، وَأَجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، مُوَحِّدِينَ مُؤْمِنِينَ مُخْلِصِينَ، مُصَدِّقِينَ لِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلِي، أُلْهِمُهُمُ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، وَالثَّنَاءَ وَالتَّكْبِيرَ وَالتَّوْحِيدَ، فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَمَضَاجِعِهِمْ وَمُنْقَلَبِهِمْ وَمَثْوَاهُمْ، يُصَلُّونَ

لِي قِيَامًا وَقُعُودًا، وَيُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صُفُوفًا وَزُحُوفًا، وَيُخْرِجُونَ مِنْ دِيَارِهِمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي أُلُوفًا، يُطَهِّرُونَ الْوُجُوهَ وَالْأَطْرَافَ، وَيَشُدُّونَ الثِّيَابَ فِي الْأَنْصَافِ، قُرْبَانُهُمْ دِمَاؤُهُمْ، وَأَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ، لُيُوثٌ بِالنَّهَارِ، وَأَجْعَلُ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وذريته السابقين والصديقين، والشهداء الصالحين، أُمَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، وأعز مَنْ نَصَرَهُمْ وَأُؤَيِّدُ مَنْ دَعَا لَهُمْ، وَأَجْعَلُ دائرة السوء على ما خَالَفَهُمْ، أَوْ بَغَى عَلَيْهِمْ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَ شَيْئًا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ، أَجْعَلُهُمْ وَرَثَةً لِنَبِيِّهِمْ، وَالدَّاعِيَةَ إِلَى رَبِّهِمْ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُوفُونَ بعهدهمن أَخْتِمُ بِهِمُ الْخَيْرَ الَّذِي بَدَأْتُهُ بِأَوَّلِهِمْ، ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ، وَأَنَا ذُو الْفَضْلِ العظيم (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ رحمة الله). وقال ابن عباس: لَمَّا نَزَلَتْ: {يِا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} وَقَدْ كَانَ أَمَرَ عَلِيًّا ومعاذاً رضي الله عنهما أَنْ يَسِيرَا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: "انْطَلِقَا فَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، إِنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عليَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} (رواه ابن أبي حاتم والطبراني) ". فقوله تعالى {شَاهِداً} أَيْ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَعَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}، كَقَوْلِهِ: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}، وقوله عزَّ وجلَّ {وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} أَيْ بَشِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ، ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب، وقوله جلت عظمته {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} أَيْ دَاعِيًا لِلْخَلْقِ إلى عبادة ربهم، {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} أَيْ وَأَمْرُكَ ظَاهِرٌ فِيمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ كَالشَّمْسِ فِي إِشْرَاقِهَا وَإِضَاءَتِهَا لا يجحدها إلا معاند. وقوله جلَّ وعلا: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} أَيْ لا تطعهم وتسمع مِنْهُمْ فِي الَّذِي يَقُولُونَهُ، {وَدَعْ أَذَاهُمْ} أَيِ اصْفَحْ وَتَجَاوَزْ عَنْهُمْ وَكِلْ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ تعالى، ولهذا قال جلَّ جلاله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}.

- 49 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلًا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا إِطْلَاقُ النِّكَاحِ عَلَى الْعَقْدِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَصْرَحُ فِي ذَلِكَ منها، لقوله تبارك وتعالى: {مِنْ قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} وَفِيهَا دَلَالَةٌ لِإِبَاحَةِ طلاق المرأة قبل الدخول بها، وقوله تعالى: {الْمُؤْمِنَاتِ} خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، إِذْ لَا فَرْقَ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُؤْمِنَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ فِي ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ، وقد استبدل ابن عباس وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا إِذَا تَقَدَّمَهُ نِكَاحٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} فعقب النكاح بالطلاق، وهذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل، وذهب مالك وأبو حنيفة إِلَى صِحَّةِ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ، فِيمَا إِذَا قَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً فَهِيَ طَالِقٌ، فَعِنْدَهُمَا متى تزوجها طلقت مِنْهُ، فَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَاحْتَجُّوا عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: إِذَا قَالَ (كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طالق) لَيْسَ بِشَيْءٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} أَلَا تَرَى أن الطلاق بعد النِّكَاحِ؟ وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «لَا طَلَاقَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» (أخرجه أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ الترمذي: حديث حسن وهو أحسن شيء في هذا الباب) وفي رواية: «لاطلاق قبل النكاح» (أخرجه ابن ماجه عن المسور بن مخزمة)، وقوله عزَّ وجلَّ: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} هَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فَتَذْهَبُ فَتَتَزَوَّجُ فِي فَوْرِهَا مَنْ شَاءَتْ، ولا يستثنى من هذا إلا المتوقي عَنْهَا زَوْجُهَا فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا بِالْإِجْمَاعِ أيضاً. وقوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} المتعة هنا أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ نِصْفَ الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى أَوِ الْمُتْعَةُ الْخَاصَّةُ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَمَّى لَهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فرضتم} وقال عزَّ وجلَّ: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين}. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم تزوج (أميمة بنت شراحيل) فلما أن دخلت عليه صلى الله عليه وسلم بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَبَا أَسِيدٍ أَنْ يُجَهِّزَهَا وَيَكْسُوَهَا ثَوْبَيْنِ رَازِقِيَّيْنِ. قال علي بن أبي طلحة: إِنْ كَانَ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا النِّصْفُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا صداقاً أمتعها عَلَى قَدْرِ عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ وَهُوَ السَّرَاحُ الْجَمِيلُ.

- 50 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً يَقُولُ تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم، بِأَنَّهُ قَدْ أَحَلَّ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ أَزْوَاجَهُ اللاتي أعطاهن مهورهن وهي الأجور ههنا كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَدْ كَانَ مهره لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونصف، فَالْجَمِيعُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَّا (أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ) فَإِنَّهُ أَمْهَرَهَا عَنْهُ النَّجَاشِيُّ رَحِمَهُ الله تعالى أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَإِلَّا (صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ) فَإِنَّهُ اصْطَفَاهَا مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَكَذَلِكَ (جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ) الْمُصْطَلِقِيَّةُ أَدَّى عَنْهَا كِتَابَتَهَا إِلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بن شماس وتزوجها - رَّضِيَ الله عَنْهُمْ أجمعين - وقوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} أَيْ وَأَبَاحَ لَكَ التَّسَرِّي مِمَّا أَخَذْتَ مِنَ الْمَغَانِمِ، وَقَدْ مَلَكَ صَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَةَ فَأَعْتَقَهُمَا وَتَزَوَّجَهُمَا، وَمَلَكَ رَيْحَانَةَ بِنْتَ شَمْعُونٍ النَّضْرِيَّةَ، وَمَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةَ أم ابنه إبراهيم عليهما السَّلَامُ، وَكَانَتَا مِنَ السَّرَارِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وقوله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ} الآية، كان النَّصَارَى لَا يَتَزَوَّجُونَ الْمَرْأَةَ إِلَّا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا سَبْعَةُ أَجْدَادٍ فَصَاعِدًا، وَالْيَهُودُ يَتَزَوَّجُ أَحَدُهُمْ بِنْتَ أَخِيهِ وَبِنْتَ أُخْتِهِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ الطَّاهِرَةُ بِهَدْمِ إِفْرَاطِ النَّصَارَى، فَأَبَاحَ بِنْتَ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ، وَبِنْتَ الْخَالِ وَالْخَالَةِ، وحرم

مَا فَرَّطَتْ فِيهِ الْيَهُودُ مِنْ إِبَاحَةِ بِنْتِ الأخ والأخت وهذا شنيع فظيع، روى ابن أبي حاتم عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الله تعالى: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} قَالَتْ: فَلَمْ أَكُنْ أَحِلُّ لَهُ، وَلَمْ أَكُنْ مِمَّنْ هَاجَرَ مَعَهُ، كُنْتُ من الطلقاء، وقال قتادة: الْمُرَادَ مَنْ هَاجَرَ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفِي رواية عنه {اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ} أي أسلمن، وقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ} أي ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة، إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ أَنْ تَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ إن شئت ذلك، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ، فَقَامَتْ قِيَامًا طَوِيلًا فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إِيَّاهُ؟» فَقَالَ مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي هَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِزَارَكَ جَلَسْتَ لَا إِزَارَ لَكَ فَالْتَمِسْ شَيْئًا» فَقَالَ: لاَ أَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ؟» قَالَ نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كذا - السور يسميها - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زوجتكها بما معك من القرآن» (أخرجه البخاري ومسلم وأحمد). وعن ثابت قال: كُنْتُ مَعَ أَنَسٍ جَالِسًا وَعِنْدَهُ ابْنَةٌ لَهُ، فَقَالَ أَنَسٌ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَلْ لَكَ فيَّ حَاجَةٌ؟ فَقَالَتِ ابْنَتُهُ: مَا كَانَ أَقَلَّ حَيَاءَهَا فَقَالَ: «هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ، رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها» (أخرجه البخاري والإمام أحمد). وقال ابن أبي حاتم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خولة بنت الحكيم، وعن عروة كنا نتحدث أن خولة بنت الحكيم كَانَتْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وكانت امرأة صالحة، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ للنبي صلى الله عليه وسلم كثير، كما روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغَارُ مِنَ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} قُلْتُ: مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ في هواك. وقد قال ابن عباس: لَمْ يَكُنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأة وهبت نفسها له، أَيْ إِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ وَاحِدَةً مِمَّنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُ وَمَخْصُوصًا بِهِ لِأَنَّهُ مَرْدُودٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا} أي إن اختار ذلك (أخرج ابن سعد: أن أم شريك غزية بنت جابر الدوسية عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم وكانت جميلة فقبلها، فقالت عائشة: ما في امرأة حين تهب نفسها لرجل خير، قالت أم شريك: فأنا تلك فسماها الّله: مؤمنة، فقال {وامرأة مؤمنة ... } الآية، فلما نزلت قالت عائشة: إن الله يسرع لك في هواك). وقوله تعالى: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ عِكْرِمَةُ: أَيْ لَا تَحِلُّ الْمَوْهُوبَةُ لِغَيْرِكَ، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِرَجُلٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حتى يعطيها شيئاً، أَيْ إِنَّهَا إِذَا فَوَّضَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا إِلَى رجل فإنه متى دخل بها وجب عليه لها مهر مثلها، وَلِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} يَقُولُ: لَيْسَ لِامْرَأَةٍ تَهَبُ نَفْسَهَا لِرَجُلٍ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا مَهْرٍ إِلَّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ

أَيْمَانُهُمْ} أي من حصرهم في أربعة نِسْوَةٍ حَرَائِرَ، وَمَا شَاءُوا مِنَ الْإِمَاءِ، وَاشْتِرَاطِ الولي والمهر والشهود عليهم، وَقَدْ رَخَّصْنَا لَكَ فِي ذَلِكَ فَلَمْ نُوجِبْ عليك شيئاً منه (قاله مجاهد والحسن وقتادة وابن جرير في تفسير قوله تَعَالَى {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أزواجهم}) {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}.

- 51 - تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيمًا {تُرْجِي} أَيْ تُؤَخِّرُ {مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ} أَيْ من الواهبات، {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ} أَيْ مَنْ شِئْتَ رددتها، ومن رددتها فأنت أَيْضًا بِالْخِيَارِ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شِئْتَ عُدْتَ فِيهَا فَآوَيْتَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَن ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ}، قال الشعبي: كن نساءاً وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بِبَعْضِهِنَّ وَأَرْجَأَ بِعَضَهُنَّ لَمْ يُنْكَحْنَ بَعْدَهُ، مِنْهُنَّ أُمُّ شَرِيكٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بقوله: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ} الآية، أَيْ مِنْ أَزْوَاجِكَ لَا حَرَجَ عَلَيْكَ أَنْ تَتْرُكَ الْقَسْمَ لَهُنَّ، فَتُقَدِّمْ مَنْ شِئْتَ، وَتُؤَخِّرْ مَنْ شِئْتَ، وَتُجَامِعْ مَنْ شِئْتَ، وَتَتْرُكْ مَنْ شئت؛ ومع هذا كان النبي يَقْسِمُ لَهُنَّ، وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ القسم واجباً عليه صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بهذه الآية الكريمة، وروى البخاري عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كان يستأذن في اليوم الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} فَقُلْتُ لَهَا: مَا كُنْتِ تَقُولِينَ؟ فَقَالَتْ: كنت أقول: إن كان ذلك إليَّ فَإِنِّي لَا أُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أن أوثر عليك أحداً (اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْوَاهِبَاتِ وَفِي النِّسَاءِ اللَّاتِي عِنْدَهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فيهن جميعاً وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي)، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} أَيْ إِذَا عَلِمْنَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ عَنْكَ الْحَرَجَ فِي الْقَسْمِ، فَإِنْ شِئْتَ قَسَمْتَ وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تَقْسِمْ، لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِي أَيِّ ذَلِكَ فَعَلْتَ، ثُمَّ مَعَ هَذَا أن تَقْسِمُ لَهُنَّ اخْتِيَارًا مِنْكَ، لَا أَنَّهُ عَلَى سبيل الوجوب، فرحن بذلك واستبشرن واعترفن بمنتك عليهن، في قسمتك وإنصافك لهن وعدلك فيهن، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أَيْ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى بَعْضِهِنَّ دُونَ بَعْضٍ مِمَّا لَا يمكن دفعه، كما روي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا فِعْلِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أملك» (أخرجه أصحاب السنن الأربعة وإسناده صحيح ورجاله ثقات)، وزاد أبو داود: يعني القلب. ولهذا عقب ذلك بقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً} أَيْ بِضَمَائِرِ السَّرَائِرِ، {حَلِيماً} أي يحلم ويغفر (أخرج ابن سعد عن أبي رزين قال: همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يطلق نساءه، فلما رأين ذلك جعلنه في حل من أنفسهن، يؤثر من يشاء على من يشآء، فأنزل الله: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ - إلى قوله - تُرْجِي مَن تَشَآءُ} ذكره السيوطي).

- 52 - لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ على كل شيء رقيبا

هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مُجَازَاةً لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم عَلَى حُسْنِ صَنِيعِهِنَّ، فِي اخْتِيَارِهِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، لَمَّا خَيَّرَهُنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تقدم، فَلَمَّا اخْتَرْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان جزاؤهن أن الله تعالى قَصَرَهُ عَلَيْهِنَّ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِنَّ أو يستبدل بهن أزواجاً غيرهن، ثم إنه تعالى رفع عنه الحرج في ذلك وَأَبَاحَ لَهُ التَّزَوُّجَ، وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ بعد ذلك تزوج، لتكون المنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن، روي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أحل الله له النساء (أخرجه أحمد والترمذي والنسائي). وروى ابن أبي حاتم عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حتى أحل لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ النِّسَاءِ مَا شَاءَ إلاّ ذات محرم، وذلك قول الله تعالى: {تُرْجِي مَن تشاء منهن} (أخرجه ابن أبي حاتم) فَجُعِلَتْ هَذِهِ نَاسِخَةً لِلَّتِي بَعْدَهَا فِي التِّلَاوَةِ كَآيَتِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي الْبَقَرَةِ، الْأُولَى نَاسِخَةٌ لِلَّتِي بَعْدَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى الْآيَةِ {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ} أي من بعدما ذَكَرْنَا لَكَ مِنْ صِفَةِ النِّسَاءِ، اللَّاتِي أَحْلَلْنَا لَكَ مِنْ نِسَائِكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، وَبَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ، وَالْخَالِ وَالْخَالَاتِ، وَالْوَاهِبَةِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ فلا يحل لَّكَ. قال ابن جرير عن زياد عن رَجُلٍ مَنَّ الْأَنْصَارِ قَالَ، قُلْتُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّينَ أَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ؟ فَقَالَ: وَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ؟ قال، قلت: قول الله تعالى: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ} فَقَالَ: إِنَّمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ ضَرْبًا مِنَ النِّسَاءِ، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ - إلى قوله تعالى - إِنَّ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ثُمَّ قِيلَ لَهُ: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ}، وروى الترمذي عن ابن عباس قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا كَانَ من المؤمنات المهاجرات بقوله تعالى: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ}، فَأَحَلَّ اللَّهُ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبي، وحرم كل ذات غير دين الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حبط عمله} الآية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتتيت أجورهن - إلى قوله تعالى - خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وَحَرَمَ مَا سوى ذلك من أصناف النساء (رواه التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا). وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ} أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا سَمَّى لَكَ، لَا مُسْلِمَةً وَلَا يَهُودِيَّةً، وَلَا نَصْرَانِيَّةً، وَلَا كافرة، وَقَالَ عِكْرِمَةُ {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ}: أَيِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ رَّحْمَةِ اللَّهُ إِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِيمَنْ ذُكِرَ مِنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ، وَفِي النِّسَاءِ اللَّوَاتِي فِي عِصْمَتِهِ وَكُنْ تِسْعًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ جَيِّدٌ وَلَعَلَّهُ مُرَادُ كَثِيرٍ مِمَّنْ حَكَيْنَا عَنْهُ مِنَ السَّلَفِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ رُوِيَ عَنْهُ هذا وهذا ولا منافاة والله أعلم.

- 53 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ

وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا - 54 - إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً هَذِهِ آيَةُ الْحِجَابِ، وَفِيهَا أَحْكَامٌ وَآدَابٌ شَرْعِيَّةٌ، وَهِيَ مِمَّا وَافَقَ تَنْزِيلُهَا قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عنه أنه قال: وَافَقْتُ رَبِّي عزَّ وجلَّ فِي ثَلَاثٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَأَنْزَلَ الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ نِسَاءَكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ حَجَبْتَهُنَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ، وَقُلْتُ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لمَّا تَمَالَأْنَ عَلَيْهِ فِي الْغَيْرَةِ {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} فَنَزَلَتْ كَذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ذِكْرُ أُسَارَى بدر وهي قضية رابعة. وفي البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخِطَابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَ أُمهات الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ، وَكَانَ وَقْتُ نُزُولِهَا فِي صَبِيحَةِ عُرْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بزينب بنت جحش، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما، قال البخاري عن أنس بن مالك: لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ دَعَا الْقَوْمَ فَطَعِمُوا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ، قَامَ مَنْ قَامَ، وَقَعَدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْخُلَ، فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قاموا فانطلقوا، فَجِئْتُ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخَلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا} الآية (رواه البخاري عن أنس بن مالك وأخرجه مسلم والنسائي بنحوه). وروى ابن أبي حاتم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَعْرَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ نِسَائِهِ، فصنعت أم سليم حيساً ثم جعلته في تَوْر (الحيس: طعام خليط من تمر وسمن وأَقِط. التور: وعاء صغير للشرب)، فَقَالَتْ: اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُ أَنَّ هَذَا مِنَّا لَهُ قَلِيلٌ، - قَالَ أَنَسٌ: وَالنَّاسُ يومئذٍ فِي جَهْد - فَجِئْتُ بِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعثتْ بِهَذَا أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَيْكَ، وَهِيَ تُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَتَقُولُ أَخْبِرْهُ أَنَّ هَذَا مِنَّا لَهُ قَلِيلٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثُمَّ قال: «ضعه» فوضعه فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبْ فَادْعُ لي فلاناً وفلاناً» فسمى رِجَالًا كَثِيرًا، وَقَالَ: «وَمَنْ لَقِيتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»، فَدَعَوْتُ مَنْ قَالَ لِي وَمَنْ لَقِيتُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَجِئْتُ وَالْبَيْتُ وَالصُّفَّةُ وَالْحُجْرَةُ مَلْأَى مِنَ النَّاسِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عُثْمَانَ كَمْ كَانُوا؟ فَقَالَ: كَانُوا زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جئْ بِهِ» فَجِئْتُ بِهِ إِلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَدَعَا، وَقَالَ: «مَا شَاءَ اللَّهُ» ثُمَّ قَالَ: «لِيَتَحَلَّقْ عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ وَلْيُسَمُّوا، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ» فَجَعَلُوا يُسَمُّونَ وَيَأْكُلُونَ حَتَّى أكلوا كلهم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارفعه» قال: فجئت فأخذت التور، فنظرت فيه فَمَا أَدْرِي أَهْوَ حِينَ وَضَعْتُ أَكْثَرُ أَمْ حِينَ أَخَذْتُ، قَالَ: وَتَخَلَّفَ رِجَالٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزوج رسول الله التي دخل

بِهَا مَعَهُمْ مُوَلِّيَةٌ وَجْهِهَا إِلَى الْحَائِطِ فَأَطَالُوا الْحَدِيثَ، فَشَقُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً، وَلَوْ أُعْلِمُوا كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَزِيزًا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حُجَرِهِ وَعَلَى نِسَائِهِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَدْ جَاءَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ثَقِلُوا عَلَيْهِ ابْتَدَرُوا الْبَابَ، فَخَرَجُوا، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَرْخَى السِّتْرَ وَدَخَلَ الْبَيْتَ وَأَنَا فِي الْحُجْرَةِ فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ يَسِيرًا وَأَنْزَلَ الله عليه القرآن فخرج وهو يتلو هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي} الآيات، قَالَ أَنَسٌ: فَقَرَأَهُنَّ عليَّ قَبْلَ النَّاسِ فَأَنَا أحدث الناس بهن عهداً (رواه ابن أبي حاتم واللفظ له وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي بنحوه). فقوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ} حَظَرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْخُلُوا مَنَازِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، كَمَا كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَصْنَعُونَ فِي بُيُوتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَابْتِدَاءِ الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة فأخبرهم بِذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنْ إِكْرَامِهِ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ، ثم استثنى من ذلك فقال تعالى: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أَيْ غَيْرَ مُتَحَيِّنِينَ نُضْجَهُ وَاسْتِوَاءَهُ، أَيْ لَا ترقبوا الطعام إذا طبخ حَتَّى إِذَا قَارَبَ الِاسْتِوَاءَ تَعَرَّضْتُمْ لِلدُّخُولِ، فَإِنَّ هذا مما يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَذُمُّهُ؛ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التطفيل وهو الذي تسميه العرب الضيفن (صنّف الخطيب البغدادي كِتَابًا فِي ذَمِّ الطُّفَيْلِيِّينَ وَذَكَرَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ أَشْيَاءَ يَطُولُ إِيرَادُهَا)، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا}، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ عُرْسًا كَانَ أو غيره» (أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عمر)، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ، فَإِذَا فَرَغْتُمْ مِنَ الَّذِي دُعِيتُمْ إِلَيْهِ فَخَفِّفُوا عَنْ أَهْلِ الْمَنْزِلِ وَانْتَشَرُوا فِي الْأَرْضِ»، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أَيْ كَمَا وَقَعَ لِأُولَئِكَ النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث، {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ} وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ دُخُولَكُمْ مَنْزِلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كان يشق عليه ويتأذى به، ولكن كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، مِنْ شِدَّةِ حَيَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عليه النهي عن ذلك، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} أَيْ وَلِهَذَا نَهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ وَزَجَرَكُمْ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أَيْ وَكَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنِ الدُّخُولِ عَلَيْهِنَّ كَذَلِكَ لَا تَنْظُرُوا إِلَيْهِنَّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِكُمْ حَاجَةٌ يُرِيدُ تَنَاوُلَهَا مِنْهُنَّ فَلَا يَنْظُرْ إِلَيْهِنَّ، وَلَا يَسْأَلْهُنَّ حَاجَةً إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حجاب. {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أَيْ هَذَا الَّذِي أَمَرَتْكُمْ بِهِ وَشَرَعْتُهُ لَكُمْ مِنَ الْحِجَابِ أَطْهَرُ وأطيب، وقوله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} قال ابن عباس: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ همَّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بَعْضَ نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده، قَالَ رَجُلٌ لِسُفْيَانَ: أَهِيَ عَائِشَةُ؟ قَالَ: قَدْ ذكروا ذلك، وقال السُّدِّيِّ: أَنَّ الَّذِي عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ (طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى نَزَلَ التَّنْبِيهُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا أَجْمَعَ العلماء قاطبة على من أن تُوُفِّيَ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَزْوَاجِهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ تزوجها مِنْ بَعْدِهِ، لِأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وأمهات المؤمنين كما تقدم، وَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَلِكَ وشدَّد فِيهِ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ الله عَظِيماً}، ثم قال تعالى: {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}

أَيْ مَهْمَا تُكِنُّهُ ضَمَائِرُكُمْ وَتَنْطَوِي عَلَيْهِ سَرَائِرُكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ فَإِنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (نزلت الآية في طلحة بن عبيد الله، قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا، لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه بعده، فأنزل الله هذه الآية. أخرجه ابن أبي حاتم وأخرج جوبير عن ابن عباس: أن رجلاً أتى بعض أزواج الرسول فكلمها، وهو ابن عم لها، فكره الرسول ذلك، فقال الرجل: يمنعني من كلام ابنة عمي، لأتزوجنها من من بعده فنزلت الآية، قال ابن عباس: فأعتق ذلك الرجل رقبة، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله وحج ماشياً، توبة من كلمته).

- 55 - لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لما أمر تبارك وتعالى النِّسَاءَ بِالْحِجَابِ مِنَ الْأَجَانِبِ، بيَّن أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَقَارِبَ لَا يَجِبُ الِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ كَمَا اسْتَثْنَاهُمْ في سورة النور عند قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بعولتهن} الآية، وَفِيهَا زِيَادَاتٌ عَلَى هَذِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا والكلام عليها بما أغنى عن إعادته ههنا، وقوله تعالى: {وَلاَ نسائهن} يعني ذلك عدم الاحتجاب من النساء المؤمنات، وقوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يعني به أرقاءهن من الإناث كما تقدم التنبيه عليه، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الإماء فقط، وقوله تعالى: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} أَيْ وَاخْشَيْنَهُ فِي الْخَلْوَةِ وَالْعَلَانِيَةِ، فَإِنَّهُ شَهِيدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فَرَاقِبْنَ الرَّقِيبَ.

- 56 - إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: صَلَاةُ اللَّهِ تعالى ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ الدعَّاء، وقال ابن عباس: يصلون يبِرّكون، وقال سفيان الثوري: صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وتعالى أَخْبَرَ عِبَادَهُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ عِنْدَهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، بِأَنَّهُ يُثْنِي عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى أَهْلَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ، لِيَجْتَمِعَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْعَالَمِينَ (الْعُلْوِيِّ) و (السفلي) جَمِيعاً، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَلْ يُصَلِّي رَبُّكَ؟ فَنَادَاهُ رَبُّهُ عزَّ وجلَّ: يَا مُوسَى سَأَلُوكَ هَلْ يُصَلِّي رَبُّكَ فَقُلْ نعم، أنا أصلي وَمَلَائِكَتِي عَلَى أَنْبِيَائِي وَرُسُلِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس). وقد أخبر سبحانه وتعالى بأنه يُصَلِّي عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الذي يُصَلِّي عليكم وملائكته} الآية، وقال تعالى: {أولئك عليهم صلوت من ربهم} الآية، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ميامن الصفوف»، وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، ونحن نذكر منها إن شاء الله ما تيسر، روى البخاري عند تفسير هذه الآية عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا السَّلَامُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ فَكَيْفَ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ على آل إبراهيم إنك حميد مجيد». وروى ابن أبي حاتم عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا السَّلَامَ عَلَيْكَ فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إنك حميد مجيد»، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: أَمَّا السَّلَامُ عَلَيْكَ

فقد عرفناه هو الذي في التشهد وَفِيهِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. حديث آخر: وروى الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قل، قلنا: يا رسول الله هذا السلام عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كما باركت على آل إبراهيم». حديث آخر: قال مسلم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كما باركت على آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، والسلام كما قد علمتم» (أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي). ومن ههنا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، فإن تركه لم تصح صلاته، عَلَى أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِهِ وَحَكَوُا الْإِجْمَاعَ على خلافه وللقول بوجوبه ظواهر الحديث، فلا إجماع فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا، والله أعلم. (فضائل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم). روى أبو عيسى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً» (تفرد بروايته الترمذي وقال: حديث حسن غريب). حديث آخر: وروى الترمذي عن أبي بن كعب قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ» قَالَ أُبَيٌّ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ قَالَ: «مَا شِئْتَ» قُلْتُ الرُّبْعُ، قَالَ: «مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» قُلْتُ: فَالنِّصْفُ قَالَ: {مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ" قُلْتُ: فَالثُّلْثَيْنِ، قَالَ: «مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» قُلْتُ أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا، قَالَ: «إِذَنْ تُكفى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لك ذنبك». طريق أخرى: روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَجَّهُ نَحْوَ صَدَقَتِهِ فَدَخَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَخَرَّ سَاجِدًا فَأَطَالَ السُّجُودَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ قَبَضَ نَفْسَهُ فِيهَا فَدَنَوْتُ مِنْهُ ثُمَّ جَلَسْتُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «مَنْ هَذَا» قلت: عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: «مَا شَأْنُكَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَجَدْتَ سَجْدَةً خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ الله قبض روحك فِيهَا، فَقَالَ: «إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَبَشَّرَنِي أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَقُولُ لَكَ مَنْ

صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَسَجَدْتُ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ شُكْرًا». حديث آخر: قال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالسُّرُورُ يُرَى فِي وَجْهِهِ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَرَى السُّرُورَ فِي وَجْهِكَ، فَقَالَ: "إِنَّهُ أَتَانِي الْمَلَكُ فقال: يا محمد أما يرضيك رَبَّكَ عزَّ وجلَّ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلَّا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا، وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إلاّ سلمت عليه عشراً قلت: بلى" (أخرجه أحمد ورواه النسائي بنحوه). حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من صلى عليَّ واحدة صل الله عليه بها عشراً». حديث آخر: قال الإمام أحمد عن قيس مولى عمرو بن العاص قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: مَنْ صَلَّى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ لها سَبْعِينَ صَلَاةً، فليقلَّ عَبْدٌ مِنْ ذَلِكَ أَوْ ليكثر، وسمعت عبد الله ابن عَمْرٍو يَقُولُ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالْمُوَدِّعِ، فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ - قَالَهُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ - وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلَامِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ، وَعَلِمْتُ كَمْ خَزَنَةُ النَّارِ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَتُجُوِّزَ بِي عُوفِيتُ وَعُوفِيَتْ أُمَّتِي، فَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا مَا دمت فيكم، فإن ذُهِبَ بِي فَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ أَحِلُّوا حَلَالَهُ وحرموا حرامه». حديث آخر: قال الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ وَحَطَّ عَنْهُ عَشْرَ خَطِيئَاتٍ». حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أحمد عن عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْبَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ». حديث آخر: قال إسماعيل القاضي عن أبي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَبْخَلَ النَّاسِ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يصل عليّ»، وروى عن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الْبُخْلِ أَنْ أُذْكَرَ عِنْدَهُ فلا يصليّ عليّ». حديث آخر: قال الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَغِمَ أَنْفُ رِجْلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عليَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ» (أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب ورواه البخاري بنحوه). وَهَذَا الْحَدِيثُ وَالَّذِي قَبْلَهُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا ذُكِرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ منهم الطحاوي والحليمي؛ وذهب أخرون إلى أنه تجب الصلاة عليه فِي الْمَجْلِسِ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ لَا تَجِبُ في بقية ذلك المجلس، بل تستحب، ويتأيد بالحديث الذي رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نبيهم إلاّ كان عليهم تِرَةَ (ترة: مكروهاً وحسرة عليهم) يوم القيامة، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ"، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ إِنَّمَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عليه - عليه الصلاة والسلام - فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً امْتِثَالًا لِأَمْرِ الْآيَةِ، ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ فِي كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ بَعْدَمَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم في الجملة. فَصْلٌ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى

مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، فَهَذَا جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِيمَا إِذَا أَفْرَدَ غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ قَائِلُونَ: يَجُوزُ ذَلِكَ، واحتجوا بقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ}، وَبِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}، وبقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} الآية. وَبِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: «اللَّهُمَّ صلِّ عَلَيْهِمْ» فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أبي أوفى» (أخرجاه في الصحيحين)، وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ إِفْرَادُ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّ هَذَا قَدْ صَارَ شِعَارًا لِلْأَنْبِيَاءِ إِذَا ذُكِرُوا، فَلَا يَلْحَقُ بِهِمْ غَيْرُهُمْ، فَلَا يُقَالُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، أَوْ قَالَ عَلِيٌّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا، كَمَا لَا يُقَالُ: قَالَ مُحَمَّدٌ عزَّ وجلَّ، وَإِنِ كَانَ عزيزاً جليلاً، لأن هذا شِعَارِ ذِكْرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَحَمَلُوا مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُمْ، وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ شِعَارًا لِآلِ أَبِي أَوْفَى وَلَا لِجَابِرٍ وَامْرَأَتِهِ، وَهَذَا مَسْلَكٌ حسن. وأما السلام، فقال الْجُوَيْنِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: هُوَ فِي مَعْنَى الصَّلَاةِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْغَائِبِ وَلَا يُفْرَدُ بِهِ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَا يُقَالُ: عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، وَأَمَّا الْحَاضِرُ فيخاطب به فيقال: سلام عليك وسلام عليكم أَوِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَوْ عَلَيْكُمْ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ. (قُلْتُ): وَقَدْ غَلَبَ هَذَا فِي عِبَارَةِ كَثِيرٍ مِنَ النُّسَّاخِ لِلْكُتُبِ أَنْ يُفْرَدَ عَلَيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنْ يُقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ دُونِ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَوْ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ؛ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ معناه صحيحاً لكن ينبغي أن يسوى بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ، فَالشَّيْخَانِ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، قال عكرمة عن ابن عباس: لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ يُدْعَى للمسلمين والمسلمات بالمغفرة، وكتب عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمَّا بعد فإن ناساً مِنَ النَّاسِ قَدِ الْتَمَسُوا الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ نَاسًا مِنَ الْقُصَّاصِ قَدْ أَحْدَثُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى خُلَفَائِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ عَدْلَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا، فَمُرْهُمْ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُمْ عَلَى النَّبِيِّينَ، وَدُعَاؤُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً وَيَدْعُوا مَا سِوَى ذلك (قال ابن كثير: أثر حسن). فَرْعٌ: قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَجْمَعْ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ، فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَا يَقُولُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَطْ، وَلَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَطْ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُنْتَزَعٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.

- 57 - إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا - 58 - وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً يَقُولُ تَعَالَى مُتَهَدِّدًا وَمُتَوَعِّدًا مَنْ آذَاهُ، بِمُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ وَارْتِكَابِ زواجره، وإيذاء رسوله بعيب أو بنقص - عياذاً بالله من ذلك - قال عكرمة {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} نَزَلَتْ فِي المصورين، وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ"

وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يَقُولُونَ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَعَلَ بِنَا كَذَا وَكَذَا، فَيُسْنِدُونَ أفعال الله إِلَى الدَّهْرِ وَيَسُبُّونَهُ، وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ لِذَلِكَ هُوَ الله عزَّ وجلَّ فنهى عن ذلك، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ طَعَنُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَزْوِيجِهِ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ آذَاهُ بِشَيْءٍ، وَمَنْ آذَاهُ فَقَدْ آذَى الله كما أن الطاعة فقد أطاع الله، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمِنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمِنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى الله يوشك أن يأخذه» (أخرجه أحمد والترمذي). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} أَيْ يَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ مَا هُمْ بُرَآءُ مِنْهُ لَمْ يَعْمَلُوهُ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} وهذا هو البهت الكبير أَنْ يُحْكَى أَوْ يُنْقَلَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ مَا لَمْ يَفْعَلُوهُ، عَلَى سَبِيلِ الْعَيْبِ وَالتَّنَقُّصِ لَهُمْ، وَمِنْ أَكْثَرِ مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الوعيد الرَّافِضَةُ الَّذِينَ يَتَنَقَّصُونَ الصَّحَابَةَ، وَيَعِيبُونَهُمْ بِمَا قَدْ بَرَّأَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، وَيَصِفُونَهُمْ بِنَقِيضِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَدَحَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ الْأَغْبِيَاءُ يَسُبُّونَهُمْ وَيَتَنَقَّصُونَهُمْ، وَيَذْكُرُونَ عَنْهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ وَلَا فَعَلُوهُ أَبَدًا، فهم في الحقيقة منكسو القلوب، يذمون الممدوحين ويمدحون المذمومين، وقد روى عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: "أَيُّ الرِّبَا أَرْبَى عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللَّهِ اسْتِحْلَالُ عِرْضِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» ثُمَّ قَرَأَ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احتملوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} (أخرجه ابن أبي حاتم).

- 59 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيمًا - 60 - لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا - 61 - مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا - 62 - سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَ النِّسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ - خَاصَّةً أَزْوَاجَهُ وَبَنَاتِهِ لشرفهن - بأن يدنين عليهم مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، لِيَتَمَيَّزْنَ عَنْ سِمَاتِ نِسَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، والجلباب هو الرداء فوق الخمار، وهو بمنزلة الإزار اليوم، قال الْجَوْهَرِيُّ: الْجِلْبَابُ الْمِلْحَفَةُ، قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ هُذَيْلٍ تَرْثِي قَتِيلًا لَهَا: تَمْشِي النُّسُورُ إِلَيْهِ وَهْيَ لاهية * مشي العذارى عليهن الجلابيب. قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا خَرَجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ فِي حَاجَةٍ أَنْ يُغَطِّينَ وجوهن مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِنَّ بِالْجَلَابِيبِ وَيُبْدِينَ عَيْنًا وَاحِدَةً، وَقَالَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: سَأَلْتُ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيَّ عَنْ قول الله عزَّ وجلَّ: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} فَغَطَّى وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ وَأَبْرَزَ عَيْنَهُ الْيُسْرَى، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تُغَطِّي ثُغْرَةَ نحرها بجلبابها تدنيه عليها،

عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} خَرَجَ نِسَاءُ الأنصار كأن على رؤوسهن الْغِرْبَانُ مِنَ السَّكِينَةِ وَعَلَيْهِنَّ أَكْسِيَةٌ سُودٌ يَلْبَسْنَهَا (أخرجه ابن أبي حاتم). وسئل الزُّهْرِيَّ هَلْ عَلَى الْوَلِيدَةِ خِمَارٌ، مُتَزَوِّجَةٌ أَوْ غَيْرُ مُتَزَوِّجَةٍ؟ قَالَ: عَلَيْهَا الْخِمَارُ إِنْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، وَتُنْهَى عَنِ الْجِلْبَابِ، لِأَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُنَّ أن يتشبهن بالحرائر المحصنات، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ}. وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى زِينَةِ نِسَاءِ أهل الذمة وإما نهي عَنْ ذَلِكَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ لَا لِحُرْمَتِهِنَّ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ}، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} أَيْ إِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ عُرِفْنَ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ، لَسْنَ بِإِمَاءٍ وَلَا عواهر، قال السُّدي: كَانَ نَاسٌ مِنْ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَخْرُجُونَ بِاللَّيْلِ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ إِلَى طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فيتعرضون للنساء وكان مَسَاكِنُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ضَيِّقَةً، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ خَرَجَ النِّسَاءُ إِلَى الطُّرُقِ يَقْضِينَ حَاجَتَهُنَّ، فَكَانَ أُولَئِكَ الْفُسَّاقُ يَبْتَغُونَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ، فَإِذَا رَأَوُا المرأة عليها جلباب قالوا: هذه حرة فكفوا عَنْهَا، وَإِذَا رَأَوُا الْمَرْأَةَ لَيْسَ عَلَيْهَا جِلْبَابٌ قالوا: هذه أمة فوثبوا عليها، وقال مجاهد: يتحجبن فَيُعْلَمُ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُنَّ فَاسِقٌ بأذى ولا ريبة، وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} أَيْ لِمَا سَلَفَ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُنَّ عِلْمٌ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِلْمُنَافِقِينَ وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطون الْكُفْرَ {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} قَالَ عِكْرِمَةُ وغيره: هم الزناة ههنا، {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} يَعْنِي الَّذِينَ يَقُولُونَ جَاءَ الأعداء وجاءت الْحُرُوبُ، وَهُوَ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، لَئِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ وَيَرْجِعُوا إِلَى الْحَقِّ {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ لَنُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ لَنُحَرِّشَنَّكَ بِهِمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَنُعْلِمَنَّكَ بِهِمْ، {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا} أَيْ فِي الْمَدِينَةِ {إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ} حَالٌ مِنْهُمْ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِمْ في المدينة مدة قريبة مطرودين مبعدين {أَيْنَمَا ثُقِفُوا} أَيْ وُجِدُوا، {أُخِذُواْ} لِذِلَّتِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ، {وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً}. ثم قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} أَيْ هَذِهِ سُنَّتُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ إِذَا تَمَرَّدُوا عَلَى نِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَلَمْ يَرْجِعُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ وَيَقْهَرُونَهُمْ، {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} أَيْ وَسُنَّةُ اللَّهِ فِي ذَلِكَ لَا تُبَدَّلُ وَلَا تُغَيَّرُ.

- 63 - يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا - 64 - إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً - 65 - خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً - 66 - يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا - 67 - وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا - 68 - رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً يقول تعالى مخبراً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه أنه لا علم له بالساعة، وَأَرْشَدَهُ أَنْ يَرُدَّ عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، لَكِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهَا قَرِيبَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً}، كما قال تعالى: {اقتربت الساعة وانشق الْقَمَرِ}، وَقَالَ: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}، وقال: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ

تَسْتَعْجِلُوهُ}، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ} أَيْ ابعدهم من رَحْمَتِهِ {وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أَيْ مَاكِثِينَ مُسْتَمِرِّينَ فَلَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا وَلَا زَوَالَ لَهُمْ عنها، {لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} أي ليس لَهُمْ مُغِيثٌ وَلَا مُعِينٌ يُنْقِذُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} أَيْ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وتلوى وجوههم على جهنم، يتمنون أن لو كانوا في الدُّنْيَا مِمَّنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَأَطَاعَ الرَّسُولَ، كَمَا أخبر الله عنهم بِقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا ليتني اتخذت مَعَ الرسول سبيلاً}، وَقَالَ تَعَالَى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ}، وَهَكَذَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي حَالَتِهِمْ هَذِهِ أَنَّهُمْ يودون أن لو أَطَاعُوا اللَّهَ وَأَطَاعُوا الرَّسُولَ فِي الدُّنْيَا، {وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا} قال طاووس: {سَادَتَنَا} يعني الأشراف و {كُبَرَآءَنَا} يعني العلماء، أَيِ اتَّبَعْنَا السَّادَةَ وَهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ مِنَ المشيخة، وخالفنا الرسل {رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِّنَ الْعَذَابِ} أَيْ بِكُفْرِهِمْ وإغوائهم إيانا {والعنهم لَعْناً كَبِيراً} قرئ (كبيراً) وقرئ (كيثراً) وهما متقاربان في المعنى.

- 69 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَى فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً أخرج الإمام البخاري عند تفسير هذه الآية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: مَا يَتَسَتَّرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِنْ عيب في جلده إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ، فَخَلَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فرغ أقبل على ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثُوبِي حَجَرٌ، ثُوبِي حَجَرٌ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الْحَجَرُ، فَأَخَذَ ثَوْبَهُ، فَلَبِسَهُ، وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَباً مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا - قَالَ - فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَى فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} (أخرجه البخاري مطولاً في أحاديث الأنبياء ورواه في باب التفسير مختصراً). وعن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَى} قَالَ، قَالَ قَوْمُهُ لَهُ: إِنَّكَ آدَرُ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى صَخْرَةٍ فَخَرَجَتِ الصَّخْرَةُ تَشْتَدُّ بِثِيَابِهِ، وَخَرَجَ يَتْبَعُهَا عُرْيَانَا، حَتَّى انْتَهَتْ بِهِ إلى مَجَالِسُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: فَرَأَوْهُ لَيْسَ بِآدَرَ فذلك قوله: {فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ}، وروى الإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ مَنَّ الْأَنْصَارِ: إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، قَالَ، فَقُلْتُ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَمَا لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قلت، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْمَرَّ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرِ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» (أَخْرَجَاهُ فِي الصحيحين وللفظ لأحمد). وقوله تعالى: {وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} أَيْ لَهُ وَجَاهَةٌ وَجَاهٌ عِنْدَ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ عِنْدَ اللَّهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، وَلَكِنْ مُنِعَ الرُّؤْيَةَ لِمَا يَشَاءُ عزَّ وجلَّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ وَجَاهَتِهِ الْعَظِيمَةِ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ شَفَعَ فِي

أخيه هارون أن يرسله (أي يجعله رسولاً معه) الله معه فأجاب الله سؤاله فقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}.

- 70 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - 71 - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيماً يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ، وَأَنْ يَعْبُدُوهُ عِبَادَةَ مَنْ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَأَنْ يَقُولُوا {قَوْلاً سَدِيداً} أَيْ مُسْتَقِيمًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ، وَوَعَدَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَثَابَهُمْ عَلَيْهِ، بِأَنْ يُصْلِحَ لَهُمْ أعمالهم أن يُوَفِّقُهُمْ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُمُ الذُّنُوبَ الماضية، ثم قال تعالى: {ومن من يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} وذلك أنه يجار من نار الجحيم، ويصير إلى النعيم المقيم، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم صلاة الظُّهْرِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَوْمَأَ إِلَيْنَا بِيَدِهِ فَجَلَسْنَا فقال: «إن الله تعالى أَمَرَنِي أَنْ آمُرَكُمْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ وَتَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا» ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ آمُرَكُنَّ أَنْ تَتَّقِينَ اللَّهَ وتقلن قولاً سديداً». وعن ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ، قَالَ عِكْرِمَةُ: الْقَوْلُ السَّدِيدُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّدِيدُ الصِّدْقُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ السَّدَادُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الصَّوَابُ، وَالْكُلُّ حَقٌّ.

- 72 - إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً - 73 - لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً قال ابن عباس: يعني بالأمانة (الطاعة) عرضها عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَهَا عَلَى آدَمَ فَلَمْ يطقنها، فقال لآدم: إني قد رعضت الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَلَمْ يُطِقْنَهَا، فَهَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِمَا فِيهَا؟ قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا فِيهَا؟ قَالَ: إِنْ أَحْسَنْتَ جُزِيتَ، وإن أسأت عوقبت، فأخذها آدم فحملها، فذلك قوله تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} وعنه الْأَمَانَةُ (الْفَرَائِضُ) عَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ إِنْ أَدَّوْهَا أَثَابَهُمْ وَإِنْ ضَيَّعُوهَا عَذَّبَهُمْ فكرهوا ذلك وأشفقوا عليه مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَلَكِنْ تَعْظِيمًا لِدِينِ اللَّهِ أن لا يَقُومُوا بِهَا، ثُمَّ عَرَضَهَا عَلَى آدَمَ فَقَبِلَهَا بما فيها، وهو قوله تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} يعني غراً بأمر الله. وهكذا قال مجاهد والضحاك والحسن البصري: إِنَّ الْأَمَانَةَ هِيَ الْفَرَائِضُ، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ الطاعة، وقال أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ مِنَ الْأَمَانَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ اؤْتُمِنَتْ عَلَى فَرْجِهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْأَمَانَةُ الدِّينُ والفرائض والحدود، وقال زيد بن أسلم: الْأَمَانَةُ ثَلَاثَةٌ: الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالِاغْتِسَالُ مِنَ الْجَنَابَةِ؛ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهَا، بَلْ هِيَ مُتَّفِقَةٌ وَرَاجِعَةٌ إِلَى أَنَّهَا التَّكْلِيفُ وَقَبُولُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِشَرْطِهَا، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ قَامَ بِذَلِكَ أُثِيبَ، وَإِنْ تَرَكَهَا عُوقِبَ، فَقَبِلَهَا الْإِنْسَانُ عَلَى ضَعْفِهِ وَجَهْلِهِ وَظُلْمِهِ، إِلَّا مَنْ وَفَّقَ الله وبالله المستعان. عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} قَالَ: عَرَضَهَا عَلَى السَّبْعِ الطِّبَاقِ الطَّرَائِقِ الَّتِي زُيِّنَتْ بِالنُّجُومِ، وَحَمَلَةِ

الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، فَقِيلَ لَهَا: هَلْ تَحْمِلِينَ الْأَمَانَةَ وَمَا فِيهَا؟ قَالَ: قِيلَ لَهَا إِنْ أَحْسَنْتِ جُزِيتِ، وَإِنْ أَسَأْتِ عُوقِبْتِ، قَالَتْ: لَا، ثُمَّ عَرَضَهَا عَلَى الْأَرْضِينَ السَّبْعِ الشِّدَادِ الَّتِي شُدَّتْ بِالْأَوْتَادِ، وَذُلِّلَتْ بِالْمِهَادِ، قَالَ، فَقِيلَ لَهَا: هَلْ تَحْمِلِينَ الْأَمَانَةَ وَمَا فِيهَا؟ قَالَتْ: وَمَا فِيهَا؟ قَالَ، قِيلَ لَهَا: إِنْ أَحْسَنْتِ جُزِيتِ، وَإِنْ أَسَأْتِ عُوقِبْتِ، قَالَتْ: لَا، ثُمَّ عَرَضَهَا عَلَى الْجِبَالِ الشُّمِّ الشَّوَامِخِ الصِّعَابِ الصِّلَابِ، قَالَ، قِيلَ لَهَا: هَلْ تَحْمِلِينَ الْأَمَانَةَ وَمَا فِيهَا؟ قَالَتْ: وما فيهن؟ قال لَهَا: إِنْ أَحْسَنْتِ جُزِيتِ، وَإِنْ أَسَأْتِ عُوقِبْتِ، قالت: لا (ذكره ابن أبي حاتم من كلام الحسن البصري رضي الله عنه). وقال مقاتل ابن حيان: إن الله تعالى حِينَ خَلَقَ خَلْقَهُ جَمَعَ بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، فَبَدَأَ بِالسَّمَاوَاتِ فَعَرَضَ عَلَيْهِنَّ الْأَمَانَةَ وَهِيَ الطَّاعَةُ، فَقَالَ لَهُنَّ أَتَحْمِلْنَ هَذِهِ الْأَمَانَةَ، وَلَكُنَّ عليَّ الفَضْلُ وَالْكَرَامَةِ وَالثَّوَابِ فِي الجنة؟ فقلن: يا رب إنا لا نسطيع هذا الأمر، وليس بنا قوة ولكنا لك مطيعون، ثُمَّ عَرَضَ الْأَمَانَةَ عَلَى الْأَرْضِينَ فَقَالَ لَهُنَّ: أَتَحْمِلْنَ هَذِهِ الْأَمَانَةَ وَتَقْبَلْنَهَا مِنِّي وَأُعْطِيكُنَّ الْفَضْلَ والكرامة في الدنيا؟ فَقُلْنَ: لَا صَبْرَ لَنَا عَلَى هَذَا يَا رب ولا نطيق ولكنا لك سامعون مطيعون لا نعصيك في شيء أمرتنا بِهِ، ثُمَّ قَرَّبَ آدَمَ فَقَالَ لَهُ: أَتَحْمِلُ هَذِهِ الْأَمَانَةَ وَتَرْعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا؟ فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ آدَمُ: مَا لِي عِنْدَكَ؟ قَالَ: يَا آدَمُ إِنْ أَحْسَنْتَ وَأَطَعْتَ وَرَعَيْتَ الْأَمَانَةَ فَلَكَ عِنْدِي الْكَرَامَةُ وَالْفَضْلُ وَحُسْنُ الثَّوَابِ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ عَصَيْتَ وَلَمْ تَرْعَهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا وَأَسَأْتَ فَإِنِّي مُعَذِّبُكَ وَمُعَاقِبُكَ وَأُنْزِلُكَ النَّارَ، قَالَ: رَضِيتُ يَا رَبِّ، وَتَحَمَّلَهَا فَقَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عند ذلك: قد حملتكها فذلك قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإنسان} (أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان موقوفاً). وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا - أَوْ قَالَ - يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الْأَمَانَةَ، يُؤْتَى بِصَاحِبِ الْأَمَانَةِ فَيُقَالُ لَهُ: أدِّ أَمَانَتَكَ فَيَقُولُ: أَنَّى يَا رَبِّ وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَدِّ أَمَانَتَكَ، فَيَقُولُ: أنَّى يَا رَبِّ، وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَدِّ أَمَانَتَكَ، فَيَقُولُ: أنَّى يَا رَبِّ وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، فَيُذْهَبُ بِهِ إِلَى الْهَاوِيَةِ، فَيَهْوِي فِيهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى قَعْرِهَا فَيَجِدُهَا هُنَالِكَ كَهَيْئَتِهَا فَيَحْمِلُهَا فَيَضَعُهَا عَلَى عَاتِقِهِ، فَيَصْعَدُ بِهَا إِلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ، حَتَّى إذا رأى أنه قد خرج زلت قدمه فهوى في أثرها أبد الآبدين" قال: والأمانة في الصلاة، وَالْأَمَانَةُ فِي الصَّوْمِ، وَالْأَمَانَةُ فِي الْوُضُوءِ، وَالْأَمَانَةُ في الحديث، وأشد ذلك الوادئع، فلقيت البراء فقلت: ألا تسمع ما يقول أخوك عبد الله؟ فقل: صدق (أخرجه ابن جرير عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه)، ومما يتعلق بالأمانة ما روي عن حذيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنَ قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ، حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رفع الأمانة فقال: ينام الرجل النومة فتنقبض الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ المَجْل كَجَمْرٍ دَحْرَجْتُهُ عَلَى رِجْلِكَ، تَرَاهُ مُنْتَبراً (المًجْل: انتفاخ في اليد من العمل الشاق أو النار، منتبراً: متورماً)، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ - قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ حَصًى فَدَحْرَجَهُ عَلَى رِجْلِهِ - قَالَ: فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، حَتَّى يُقَالَ: إِنْ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ مَا أَجْلَدَهُ وَأَظْرَفَهُ وَأَعْقَلَهُ وَمَا في قلبه حبة خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ، وَمَا أُبَالِي أَيُّكُمْ

بَايَعْتُ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا لَيُرَدَنَّهُ عَلَيَّ دِينُهُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا لَيَرُدُنَّهُ عَلِيَّ سَاعِيهِ، فَأَمَّا الْيَوْمُ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ مِنْكُمْ إلا فلاناً وفلاناً (أخرجه الشيخان والإمام أحمد). وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا، حِفْظُ أَمَانَةٍ، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة طِعمة» (أخرجه أحمد والطبراني. و (الطِعمة): الجهة التي يُرتزق منها). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ والمشركات} أي إنما حمّل بني آدَمَ الْأَمَانَةَ وَهِيَ التَّكَالِيفُ {لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} وَهُمُ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ خَوْفًا مِنْ أَهْلِهِ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ مُتَابَعَةً لِأَهْلِهِ {وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} وَهُمُ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمْ وَبَاطِنُهُمْ عَلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَمُخَالَفَةِ رُسُلِهِ، {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي ليرحم المؤمنين من الخلق الذين آمَنُواْ بالله وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ الْعَامِلِينَ بِطَاعَتِهِ، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رحيماً}.

34 - سورة سبأ

- 34 - سورة سبأ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ - 2 - يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ لَهُ الْحَمْدَ الْمُطْلَقَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الْمَالِكُ لِجَمِيعِ ذَلِكَ، الْحَاكِمُ فِي جميع ذلك، ولهذا قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ وتحت تصرفه وقهره، كما قال تعالى: {وَإِنَّ لَنَا للآخرة والأولى}، ثم قال تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} فَهُوَ الْمَعْبُودُ أَبَدًا، المحمود على طول المدى، وقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ} أَيْ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، {الْخَبِيرُ} الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ ولا يغيب عنه شيء، وقال الزُّهْرِيِّ: خَبِيرٌ بِخَلْقِهِ حَكِيمٌ بِأَمْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ عزَّ وجلَّ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أَيْ يَعْلَمُ عَدَدَ الْقَطْرِ النَّازِلِ فِي أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، وَالْحَبِّ الْمَبْذُورِ وَالْكَامِنِ فِيهَا، وَيَعْلَمُ ما يخرج من ذلك وعدده وَكَيْفِيَّتُهُ وَصِفَاتُهُ {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} أَيْ مِنْ قَطْرٍ وَرِزْقٍ، {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أَيْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} أَيِ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ فَلَا يُعَاجِلُ عُصَاتَهُمْ بالعقوبة {الغفور} عن ذنوب التَّائِبِينَ إِلَيْهِ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ.

- 3 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ - 4 - لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ - 5 - وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ - 6 - وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ

هَذِهِ إِحْدَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي لَا رَابِعَ لهن، مما أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْسِمَ بِرَبِّهِ الْعَظِيمِ عَلَى وُقُوعِ الْمَعَادِ، لَمَّا أَنْكَرَهُ مَنْ أَنْكَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، فَإِحْدَاهُنَّ في سورة يونس، وهي قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أنتم معجزين}، وَالثَّانِيَةُ هَذِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}، وَالثَّالِثَةُ فِي سورة التغابن وهي قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ}، فقال تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}، ثُمَّ وَصَفَهُ بِمَا يؤكد ذلك ويقرره فقال: {عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} لَا يَغِيبُ عَنْهُ، أَيِ الْجَمِيعُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ علمه فلا يخفى عليه شَيْءٌ، فَالْعِظَامُ وَإِنْ تَلَاشَتْ وَتَفَرَّقَتْ وَتَمَزَّقَتْ، فَهُوَ عَالِمٌ أَيْنَ ذَهَبَتْ وَأَيْنَ تَفَرَّقَتْ، ثُمَّ يُعِيدُهَا كَمَا بَدَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَإِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ثُمَّ بيَّن حِكْمَتَهُ فِي إِعَادَةِ الْأَبْدَانِ وقيام الساعة بقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أَيْ سَعَوْا فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ الله تعالى وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} أَيْ لِيُنَعِّمَ السُّعَدَاءَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُعَذِّبَ الأشقياء من الكافرين، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الجنة هُمْ الفائزون}. وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كالفجار}؟ وقوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} هَذِهِ حِكْمَةٌ أُخْرَى مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا شَاهَدُوا قِيَامَ السَّاعَةِ وَمُجَازَاةَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ رأوه حينئذ عين اليقين، ويقولون يومئذ {لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق}، {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} الْعَزِيزُ هُوَ الْمَنِيعُ الْجَنَابِ الَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ، بل قد قهر كل شيء وغلبه، الْحَمِيدُ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، وهو المحمود في ذلك كله جلَّ وعلا.

- 7 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ - 8 - أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ - 9 - أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَنْ اسْتِبْعَادِ الْكَفَرَةِ الْمُلْحِدِينَ قِيَامَ السَّاعَةِ، وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِخْبَارِهِ بِذَلِكَ، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أَيْ تَفَرَّقَتْ أَجْسَادُكُمْ فِي الْأَرْضِ وَذَهَبَتْ فِيهَا كُلَّ مَذْهَبٍ وَتَمَزَّقَتْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، {إِنَّكُمْ} أَيْ بَعْدَ هَذَا الْحَالِ {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أَيْ تَعُودُونَ أحياء ترزقون بعد ذلك؟ {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ}؟ قال الله عزَّ وجلَّ رَادًّا عَلَيْهِمْ: {بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كما زعموا، بَلْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ الرَّاشِدُ الَّذِي جَاءَ بِالْحَقِّ، وَهُمُ الكذبة الجهلة الأغبياء، {فِي العذاب} أي الكفر المفضي بهم إلى عذاب الله تعالى، {والضلال

الْبَعِيدِ} مِنَ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ تعالى مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض، {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}، أَيْ حَيْثُمَا تَوَجَّهُوا وذهبوا، فالسماء مطلة عليهم والأرض تحتهم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الماهدون} قال قتادة: إِنَّكَ إِنْ نَظَرْتَ عَنْ يَمِينِكَ أَوْ عَنْ شِمَالِكَ أَوْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ أَوْ مَنْ خلفك رأيت السماء والأرض، وقوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ} أَيْ لَوْ شِئْنَا لفعلنا بهم ذلك بظلمهم وَقُدْرَتِنَا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ نُؤَخِّرُ ذَلِكَ لِحِلْمِنَا وَعَفْوِنَا، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ}، قال قتادة: {مُّنِيبٍ} تائب، وعنه: المنيب المقبل إلى الله تعالى، أي إن في النظر إلى خلق السماوات وَالْأَرْضِ، لَدَلَالَةٌ لِكُلِّ عَبْدٍ فَطِنٍ لَبِيبٍ رجَّاع إلى الله، على قدرة الله تعالى عَلَى بَعْثِ الْأَجْسَادِ وَوُقُوعِ الْمَعَادِ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ السَّمَاوَاتِ فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا، وَهَذِهِ الْأَرْضِينَ فِي انْخِفَاضِهَا، وَأَطْوَالِهَا وَأَعْرَاضِهَا إِنَّهُ لَقَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ وَنَشْرِ الرَّمِيمِ مِنَ الْعِظَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى}، وقال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يعلمون}.

- 10 - ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ - 11 - أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أنعم به على عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام مِمَّا آتَاهُ مِنَ الْفَضْلِ الْمُبِينِ وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ الْمُتَمَكِّنِ، وَالْجُنُودِ ذَوِي الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، وَمَا أَعْطَاهُ وَمَنَحَهُ مِنَ الصَّوْتِ الْعَظِيمِ الَّذِي كَانَ إِذَا سَبَحَ بِهِ تَسْبَحُ مَعَهُ الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ، الصُّمُّ الشَّامِخَاتُ، وَتَقِفُ لَهُ الطُّيُورُ السَّارِحَاتُ، وَالْغَادِيَاتُ وَالرَّائِحَاتُ، وَتُجَاوِبُهُ بِأَنْوَاعِ اللُّغَاتِ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سمع صَوْتِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ، فَوَقَفَ فَاسْتَمِعْ لِقِرَاءَتِهِ، ثُمَّ قال صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ داود». ومعنى قوله تعالى: {أَوِّبِي} أَيْ سَبِّحِي (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وغير واحد)، والتأويب في اللغة التَّرْجِيعُ، فَأُمِرَتِ الْجِبَالُ وَالطَّيْرُ أَنْ تُرَجِّعَ مَعَهُ بأصواتها، وقوله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ: كَانَ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُدْخِلَهُ نَارًا وَلَا يَضْرِبَهُ بِمِطْرَقَةٍ، بَلْ كَانَ يَفْتِلُهُ بِيَدِهِ مِثْلَ الخيوط، ولهذا قال تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} وَهِيَ الدُّرُوعُ، قَالَ قَتَادَةُ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَهَا مِنَ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا كانت قبل ذلك صفائح، وقال ابن شوذب: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرْفَعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِرْعًا فَيَبِيعُهَا بِسِتَّةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، أَلْفَيْنِ لَهُ وَلِأَهْلِهِ وَأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ يُطْعِمُ بِهَا بني إسرائيل خبز الحواري (أخرجه ابن أبي حاتم)، {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} هَذَا إِرْشَادٌ مِنَ اللَّهِ تعالى لِنَبِيِّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَعْلِيمِهِ صَنْعَةَ الدروع، قال مجاهد {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} لَا تُدِقَّ الْمِسْمَارَ فَيَقْلَقَ في الحلقة، ولا تغلظه فيقصمها واجعله بقدر، وقال الحكم بن عيينة: لا تغلظه فيقصم ولا تدقه فيقلق، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: السَّرْدُ حَلَقُ الْحَدِيدِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُقَالُ دِرْعٌ مَسْرُودَةٌ إِذَا كَانَتْ مَسْمُورَةُ الْحَلَقِ، وَاسْتُشْهِدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا * دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تبع. وقد ذكر الحافظ ابن عساكر عن وهب بن منبه أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَخْرُجُ مُتَنَكِّرًا، فَيَسْأَلُ الرُّكْبَانَ عَنْهُ وَعَنْ سِيرَتِهِ، فَلَا يَسْأَلُ أَحَدًا إِلَّا أَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا فِي عِبَادَتِهِ وسيرته وعدله عليه السلام. قال وهب: حتى بعث الله تعالى ملكاً في سورة رجل فلقيه داود عليه الصلاة والسلام، فَسَأَلَهُ كَمَا كَانَ يَسْأَلُ غَيْرَهُ، فَقَالَ: هُوَ خَيْرُ النَّاسِ لِنَفْسِهِ وَلِأُمَّتِهِ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ خَصْلَةً لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ كَانَ كَامِلًا، قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ عِيَالَهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ يَعْنِي بَيْتَ الْمَالِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَصَبَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى رَبِّهِ عزَّ وجلَّ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يُعَلِّمَهُ عَمَلًا بِيَدِهِ يَسْتَغْنِي به ويغني به عياله فألان الله عزَّ وجلَّ له الحديد وعلمه صنعة الدروع فعمل الدروع وهو أول من عملها، فقال الله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} يَعْنِي مَسَامِيرَ الْحَلَقِ، قَالَ: وَكَانَ يَعْمَلُ الدِّرْعَ فَإِذَا ارْتَفَعَ مِنْ عَمَلِهِ دِرْعٌ بَاعَهَا فَتَصَدَّقَ بِثُلْثِهَا وَاشْتَرَى بِثُلْثِهَا مَا يَكْفِيهِ وَعِيَالَهُ، وَأَمْسَكَ الثُّلُثَ يَتَصَدَّقُ بِهِ يَوْمًا بِيَوْمٍ إِلَى أَنْ يَعْمَلَ غيرها، وقال: إن الله تعالى أعطى داود لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُهُ مِنْ حُسْنِ الصَّوْتِ، إِنَّهُ كان إذا قرأ الزبور تجتمع الوحوش إليه حَتَّى يُؤْخَذَ بِأَعْنَاقِهَا وَمَا تَنْفِرُ، وَمَا صَنَعَتِ الشَّيَاطِينُ الْمَزَامِيرَ وَالْبَرَابِطَ وَالصُّنُوجَ إِلَّا عَلَى أَصْنَافِ صوته عليه السلام، وَكَانَ شَدِيدَ الِاجْتِهَادِ، وَكَانَ إِذَا افْتَتَحَ الزَّبُورَ بِالْقِرَاءَةِ كَأَنَّمَا يَنْفُخُ فِي الْمَزَامِيرِ، وَكَأَنْ قَدْ أعطي سبعين مزماراً في حلقه، وقوله تعالى: {وَاعْمَلُوا صَالِحاً} أَيْ فِي الَّذِي أَعْطَاكُمُ اللَّهُ تعالى مِنَ النِّعَمِ {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أَيْ مُرَاقِبٌ لَكُمْ بَصِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ وَأَقْوَالِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.

- 12 - وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ السَّعِيرِ - 13 - يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى ما أنعم به على (داود) عطف بذكره ما أعطى ابنه (سليمان) عليهما الصلاة والسلام، مِنْ تَسْخِيرِ الرِّيحِ لَهُ تَحْمِلُ بِسَاطَهُ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ يَغْدُو عَلَى بِسَاطِهِ مِنْ دِمَشْقَ فَيَنْزِلُ بِإِصْطَخَرَ يتغدى بِهَا، وَيَذْهَبُ رَائِحًا مِنْ إِصْطَخَرَ فَيَبِيتُ بِكَابُلَ، وَبَيْنَ دِمَشْقَ وَإِصْطَخَرَ شَهْرٌ كَامِلٌ لِلْمُسْرِعِ، وَبَيْنَ إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع، وقوله تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرِ وَاحِدٍ: الْقِطْرُ النُّحَاسُ، قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ فَكُلُّ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ مِمَّا أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ السُّدِّيُّ: وإنما أسيلت له ثلاثة أيام، وقوله تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أَيْ وَسَخَّرْنَا لَهُ الْجِنَّ يَعْمَلُونَ بَيْنَ يديه {بِإِذْنِ رَبِّهِ} أَيْ بِقَدَرِهِ وَتَسْخِيرِهِ لَهُمْ بِمَشِيئَتِهِ، مَا يَشَاءُ مِنَ الْبِنَايَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} أَيْ وَمَنْ يَعْدِلْ وَيَخْرُجُ مِنْهُمْ عَنِ الطَّاعَةِ {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ السَّعِيرِ} وَهُوَ الحريق، وقوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} أَمَّا الْمَحَارِيبُ فَهِيَ الْبِنَاءُ الْحَسَنُ وَهُوَ أَشْرَفُ شَيْءٍ فِي الْمَسْكَنِ وَصَدْرُهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَحَارِيبُ بُنْيَانٌ دُونَ الْقُصُورِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ الْمَسَاجِدُ، وقال قتادة: هي القصور والمساجد، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْمَسَاكِنُ، وَأَمَّا التَّمَاثِيلُ، فقال الضحاك وَالسُّدِّيُّ: التَّمَاثِيلُ الصُّوَرُ، قَالَ مُجَاهِدٌ:

وَكَانَتْ مِنْ نُحَاسٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مِنْ طِينٍ وزجاج. وقوله تعالى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} الْجَوَابُ جَمْعُ جَابِيَةٍ وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء، قال الأعشى: تَرُوحُ عَلَى آلِ الْمَحَلَّقِ جَفْنَةٌ * كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ العراقي تفهق. وقال ابن عباس {كالجواب} كَالْحِيَاضِ (وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ)، وَالْقُدُورُ الرَّاسِيَاتُ أَيِ الثَّابِتَاتُ فِي أَمَاكِنِهَا لا تتحرك ولا تتحول عن أماكنها لعظمها، وقال عكرمة: أثافيها منها، وقوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} أَيْ وَقُلْنَا لَهُمُ اعْمَلُوا شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ فِي الدين والدنيا، قال السلمي: الصَّلَاةُ شُكْرٌ، وَالصِّيَامُ شُكْرٌ، وَكُلُّ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ لله عزَّ وجلَّ شُكْرٌ، وَأَفْضَلُ الشُّكْرِ الْحَمْدُ (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عن أبي عبد الرحمن السلمي). وقال القرظي: الشكر تقوى الله تعالى وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهَذَا يُقَالُ لِمَنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بالفعل، وقد كان آل داود عليهم السلام كذلك قائمين بشكر الله تعالى قولاً وعملاً، قال ابن أبي حاتم عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ جَزَّأَ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَنِسَائِهِ الصَّلَاةَ، فَكَانَ لَا تَأْتِي عَلَيْهِمْ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَّا وَإِنْسَانٌ مِنْ آلِ دَاوُدَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَغَمَرَتْهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنْ أَحَبَّ الصَّلَاةِ إِلَى الله تعالى صَلَاةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ تعالى صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلَا يَفِرُّ إِذَا لاقى». وقد روي عن جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمَانَ بن داود عليهم السلام لِسُلَيْمَانَ: يَا بُنَيَّ لَا تُكْثِرِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَإِنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ تَتْرُكُ الرَّجُلَ فَقِيرًا يوم القيامة" (أخرجه ابن ماجة في سننه). وقال فَضِيلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} قال: دَاوُدُ يَا رَبِّ كَيْفَ أَشْكُرُكَ وَالشُّكْرُ نِعْمَةٌ مِنْكَ؟ قَالَ: «الْآنَ شَكَرْتَنِي حِينَ عَلِمْتَ أَنَّ النعمة مني»، وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} إِخْبَارٌ عَنِ الْوَاقِعِ.

- 14 - فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ يَذْكُرُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ مَوْتِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَيْفَ عَمَّى اللَّهُ مَوْتَهُ عَلَى الْجَانِّ الْمُسَخَّرِينَ لَهُ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، فَإِنَّهُ مَكَثَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عصاه وهي منسأته مُدَّةً طَوِيلَةً نَحْوًا مِنْ سَنَةٍ، فَلَمَّا أَكَلَتْهَا دَابَّةُ الْأَرْضِ وَهِيَ (الْأَرَضَةُ) ضَعُفَتْ وَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ وَعُلِمَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ بمدة طويلة، وتبينت الْجِنُّ وَالْإِنْسُ أَيْضًا أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ كَمَا كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ وَيُوهِمُونَ النَّاسَ ذَلِكَ (ذكر عند تفسير هذه الآية أخبار غريبة من الإسرائيليات ضربنا صفحاً عنها). قال عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم: قَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَلِكِ الْمَوْتِ: إِذَا أُمِرْتَ بِي فَأَعْلِمْنِي، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا سُلَيْمَانُ قَدْ أُمِرْتُ بِكَ قَدْ بَقِيَتْ لَكَ سُوَيْعَةٌ، فَدَعَا الشَّيَاطِينَ فَبَنَوْا عَلَيْهِ صَرْحًا مِنْ قَوَارِيرَ، وَلَيْسَ لَهُ بَابٌ، فَقَامَ يُصَلِّي فَاتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ، قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَبَضَ

رُوحَهُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَصَاهُ، وَلَمْ يَصْنَعْ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ، قَالَ: وَالْجِنُّ تعمل بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ. قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ دَابَّةَ الْأَرْضِ، قَالَ: وَالدَّابَّةُ تَأْكُلُ الْعِيدَانَ يُقَالُ لَهَا: الْقَادِحُ، فَدَخَلَتْ فِيهَا فَأَكَلَتْهَا، حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ جَوْفَ الْعَصَا ضَعُفَتْ وَثَقُلَ عَلَيْهَا فَخَرَّ مَيِّتًا، فَلَمَّا رأت الجن ذلك انفضوا وذهبوا، قال: فذلك قوله تعالى: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} قال أصبغ: بلغني أَنَّهَا قَامَتْ سَنَةً تَأْكُلُ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يخر، وذكر غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ نَحْوًا مِنْ هَذَا، والله أعلم.

- 15 - لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ - 16 - فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ - 17 - ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ كَانَتْ سَبَأٌ مُلُوكَ الْيَمَنِ وَأَهْلَهَا، وَكَانُوا فِي نِعْمَةٍ وَغِبْطَةٍ فِي بِلَادِهِمْ وَعَيْشِهِمْ، واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم، وبعث الله تبارك وتعالى إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ تَأْمُرُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَيَشْكُرُوهُ بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَكَانُوا كَذَلِكَ مَا شَاءَ الله تعالى، ثُمَّ أَعْرَضُوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ، فَعُوقِبُوا بِإِرْسَالِ السَّيْلِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الْبِلَادِ أَيْدِيَ سَبَأٍ شَذَرَ مذر، كما سيأتي قريباً، روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبَأٍ ما هو أرجل أم امرأة أم أرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بل هو رَجُلٌ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةٌ، فَسَكَنَ الْيَمَنَ مِنْهُمْ ستة، والشام مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا الْيَمَانِيُّونَ فَمَذْحِجُ وَكِنْدَةُ وَالْأَزْدُ وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَأَنْمَارٌ وَحِمْيَرُ، وَأَمَّا الشَّامِيَّةُ فَلَخْمُ وَجُذَامُ وعاملة وغسان» (رواه الإمام أحمد وابن جرير والترمذي وقال: حسن غريب، قال ابن كثير: ورواه ابن عبد البر عن تميم الداري مرفوعاً فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَقَوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ وَحُسِّنَ)، قَالَ علماء النسب: اسْمُ سَبَأٍ (عَبْدُ شَمْسِ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ) وَإِنَّمَا سُمِّيَ سَبَأً، لِأَنَّهُ أول من سبأ في العرب، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «كان رجلاً من العرب» يعني من سلالة الخليل عليه السلام، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مر بنفر من أسلم ينتصلون فقال: «ارموا بني إسرائيل فإن أباكم كان رامياً» (أخرجه البخاري)، فَأَسْلَمُ قَبِيلَةٌ مِنَ (الْأَنْصَارِ) وَالْأَنْصَارُ أَوْسُهَا وَخَزْرَجُهَا مِنْ غَسَّانَ مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ مِنْ سَبَأٍ، نَزَلُوا بِيَثْرِبَ لَمَّا تَفَرَّقَتْ سَبَأٌ فِي الْبِلَادِ حين بعث الله عزَّ وجلَّ عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، وَنَزَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِالشَّامِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ غَسَّانُ بِمَاءٍ نَزَلُوا عَلَيْهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُشَلَّلِ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثابت رضي الله عنه: إما سألت عنا فنحن مَعْشَرٌ نُجُبٌ * الْأَزْدُ نِسْبَتُنَا وَالْمَاءُ غَسَّانُ. وَمَعْنَى قوله صلى الله عليه وسلم: «ولد له عشرة» أَيْ كَانَ مِنْ نَسْلِهِ هَؤُلَاءِ الْعَشْرَةُ الَّذِينَ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أُصُولُ الْقَبَائِلِ مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ، لَا أَنَّهُمْ وُلِدُوا مِنْ صُلْبِهِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ الْأَبَوَانِ وَالثَّلَاثَةُ وَالْأَقَلُّ وَالْأَكْثَرُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مُبِينٌ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ كتب النسب، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ» أَيْ بعد ما أرسل

الله تعالى عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، مِنْهُمْ مَنْ أَقَامَ بِبِلَادِهِمْ، ومنهم من نزح إِلَى غَيْرِهَا، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ السَّدِّ أَنَّهُ كَانَ الْمَاءُ يَأْتِيهِمْ مِنْ بَيْنِ جَبَلَيْنِ، وَتَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَيْضًا سُيُولُ أَمَطَارِهِمْ وَأَوْدِيَتِهِمْ، فَعَمَدَ مُلُوكُهُمُ الْأَقَادِمُ، فَبَنَوْا بَيْنَهُمَا سَدًا عَظِيمًا مُحْكَمًا، حَتَّى ارْتَفَعَ الْمَاءُ، وَحُكَمَ عَلَى حَافَاتِ ذَيْنَكِ الْجَبَلَيْنِ، فَغَرَسُوا الْأَشْجَارَ، وَاسْتَغَلُّوا الثِّمَارَ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَثْرَةِ وَالْحُسْنِ، كَمَا ذَكَرَ غَيْرُ واحد من السلف، أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَمْشِي تَحْتَ الْأَشْجَارِ وَعَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلٌ أَوْ زِنْبِيلٌ - وَهُوَ الَّذِي تُخْتَرَفُ فِيهِ الثِّمَارُ - فَيَتَسَاقَطُ مِنَ الْأَشْجَارِ فِي ذَلِكَ مَا يَمْلَؤُهُ، مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَحْتَاجَ إِلَى كُلْفَةٍ وَلَا قِطَافٍ، لِكَثْرَتِهِ وَنُضْجِهِ وَاسْتِوَائِهِ، وَكَانَ هذا السد بمأرب (مأرب بلدة بينها وبين اليمن ثلاث مراحل ويعرف هذا السد بسد مأرب). ويذكر أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الذُّبَابِ وَلَا الْبَعُوضِ وَلَا الْبَرَاغِيثِ وَلَا شَيْءٌ مِنَ الْهَوَامِّ، وَذَلِكَ لِاعْتِدَالِ الْهَوَاءِ وَصِحَّةِ الْمِزَاجِ، وَعِنَايَةِ الله بهم ليوحدوه ويعبدوه، كما قال تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} ثُمَّ فسرها بقوله عزَّ وجلَّ {جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} أَيْ مِنْ نَاحِيَتَيِ الْجَبَلَيْنِ وَالْبَلْدَةُ بَيْنَ ذَلِكَ، {كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} أي غفور لكم إن استررتم على التوحيد، وقوله تعالى: {فَأَعْرَضُواْ} أَيْ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَدَلُوا إِلَى عبادة الشمس من دون الله كما قال الهدهد لسليمان عليه الصلاة والسلام: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} قال السدي: أرسل الله عزَّ وجلَّ إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ نَبِيٍّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ سَيْلَ العرم} المراد بالعرم المياه، وقيل: الوادي، وقيل: الماء الغزير، وذكر غير واحد منهم ابن عباس وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ لَمَّا أَرَادَ عُقُوبَتَهُمْ بِإِرْسَالِ الْعَرِمِ عَلَيْهِمْ بَعَثَ عَلَى السَّدِّ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ، يُقَالُ لَهَا الْجُرَذُ، نقبته، وانساب الْمَاءُ فِي أَسْفَلِ الْوَادِي، وَخَرُبَ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنَضَبَ الْمَاءُ عَنِ الْأَشْجَارِ الَّتِي فِي الْجَبَلَيْنِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ. فَيَبِسَتْ وَتَحَطَّمَتْ، وَتَبَدَّلَتْ تِلْكَ الْأَشْجَارُ المثمرة الأنيقة النضرة، كما قال تبارك وَتَعَالَى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} قال ابن عباس ومجاهد: هو الأراك وأكلة البربر (وَأَثْلٍ) هُوَ الطَّرْفَاءُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ شَجَرٌ يُشْبِهُ الطرفاء، وقيل: هو الثمر والله أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ: {وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} لَمَّا كَانَ أَجْوَدُ هَذِهِ الْأَشْجَارِ الْمُبْدَلِ بِهَا هُوَ السِّدْرُ، قَالَ {وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} فَهَذَا الَّذِي صَارَ أَمْرُ تَيْنِكَ الْجَنَّتَيْنِ إِلَيْهِ، بَعْدَ الثِّمَارِ النَّضِيجَةِ وَالْمَنَاظِرِ الْحَسَنَةِ وَالظِّلَالِ الْعَمِيقَةِ وَالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ تَبَدَّلَتْ إِلَى شَجَرِ الْأَرَاكِ وَالطَّرْفَاءِ وَالسِّدْرِ ذِي الشَّوْكِ الْكَثِيرِ وَالثَّمَرِ الْقَلِيلِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبِهِمُ الْحَقَّ وَعُدُولِهِمْ عَنْهُ إلى الباطل، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} أَيْ عَاقَبْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَلاَ يُعَاقَبُ إِلَّا الْكُفُورُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: صَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ لَا يُعَاقَبُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ إِلَّا الكفور، وقال ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ خِيرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَزَاءُ الْمَعْصِيَةِ الْوَهْنُ فِي الْعِبَادَةِ، وَالضِّيقُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَالتَّعَسُّرُ فِي اللَّذَّةِ، قِيلَ: وَمَا التَّعَسُّرُ فِي اللَّذَّةِ؟ قَالَ: لا يصادف لذة حلال إلا جاءه من ينغصه إياها (ذكره ابن أبي حاتم).

- 18 - وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ - 19 - فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النعمة والغبطة وَالْعَيْشِ الْهَنِيِّ الرَّغِيدِ، وَالْبِلَادِ الرَّخِيَّةِ، وَالْأَمَاكِنِ الْآمِنَةِ وَالْقُرَى الْمُتَوَاصِلَةِ الْمُتَقَارِبَةِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، مَعَ كَثْرَةِ أَشْجَارِهَا وَزُرُوعِهَا وَثِمَارِهَا، بِحَيْثُ إِنَّ مُسَافِرَهُمْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَمْلِ زَادٍ وَلَا مَاءٍ، بل حيث نزل وجد ماء وثمراً، ويقبل فِي قَرْيَةٍ وَيَبِيتُ فِي أُخْرَى بِمِقْدَارِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي سَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: هِيَ قُرًى بِصَنْعَاءَ، وقال مجاهد والحسن: هي قُرَى الشَّامِ، يَعْنُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى الشَّامِ فِي قُرًى ظَاهِرَةٍ مُتَوَاصِلَةٍ، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا بَيْتُ المقدس، وعنه: هِيَ قُرًى عَرَبِيَّةٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ {قُرًى ظَاهِرَةً} أَيْ بَيِّنَةً وَاضِحَةً يَعْرِفُهَا الْمُسَافِرُونَ، يَقِيلُونَ فِي وَاحِدَةٍ وَيَبِيتُونَ فِي أُخْرَى، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير} أي جعلنا بِحَسْبَ مَا يَحْتَاجُ الْمُسَافِرُونَ إِلَيْهِ، {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} أي الأمن الحاصل لَهُمْ فِي سَيْرِهِمْ لَيْلًا وَنَهَارًا، {فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وظلموا أَنفُسَهُمْ} وذلك أنهم بطروا هذه النعمة، وَأَحَبُّوا مَفَاوِزَ وَمَهَامِهَ، يَحْتَاجُونَ فِي قَطْعِهَا إِلَى الزاد والرواحل والسير في المخاوف، كَمَا طَلَبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مُوسَى أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ لَهُمْ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ {مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي عَيْشٍ رَغِيدٍ، فِي مَنَّ وَسَلْوَى وَمَا يَشْتَهُونَ مِنْ مَآكِلَ وَمَشَارِبَ وَمَلَابِسَ مُرْتَفِعَةٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}، وقال تعالى في حق هؤلاء {فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} أَيْ بِكُفْرِهِمْ، {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أَيْ جَعَلْنَاهُمْ حَدِيثًا لِلنَّاسِ، وَسَمَرًا يَتَحَدَّثُونَ بِهِ مِنْ خَبَرِهِمْ، وَكَيْفَ مَكَرَ اللَّهُ بِهِمْ وَفَرَّقَ شَمْلَهُمْ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ وَالْأُلْفَةِ وَالْعَيْشِ الْهَنِيءِ تَفَرَّقُوا في البلاد ههنا وههنا، وَلِهَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ فِي الْقَوْمِ إِذَا تَفَرَّقُوا: تفرقوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ، وتفرقوا شذر مذر، قال الشعبي: أما غسان فلحقوا بعمان فمزقهم الله كل ممزق بِالشَّامِ، وَأَمَّا الْأَنْصَارُ فَلَحِقُوا بِيَثْرِبَ، وَأَمَّا خُزَاعَةَ فَلَحِقُوا بِتِهَامَةَ، وَأَمَّا الْأَزْدُ فَلَحِقُوا بِعُمَانَ فَمَزَّقَهُمُ اللَّهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وابن جرير عن الشعبي). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أَيْ إِنَّ فِي هَذَا الَّذِي حَلَّ بِهَؤُلَاءِ مِنَ النِّقْمَةِ وَالْعَذَابِ، وَتَبْدِيلِ النِّعْمَةِ وَتَحْوِيلِ الْعَافِيَةِ عُقُوبَةً عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الكفر والآثام، لعبرة لكل صَبَّارٍ على المصائب، شكور على النعم، روى الإمام أحمد عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجِبْتُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ حَمِدَ رَبَّهُ وَشَكَرَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ حَمِدَ رَبَّهُ وَصَبَرَ، يُؤْجَرُ الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي اللُّقْمَةِ يَرْفَعُهَا إلى امرأته» (أخرجه الإمام أحمد ورواه النسائي وهو حديث عزيز من رواية عمر ابن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنهما)، وهذا الحديث لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هريرة

رضي الله عنه: «عجباً للمؤمن لا يقضي الله تعالى قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ؛ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضراء صبر فكان خيراً له وليس لذلك لأحد إلا للمؤمن»، قال قَتَادَةَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} كَانَ مُطَرَّفٌ يَقُولُ: نِعْمَ الْعَبْدُ الصَّبَّارُ الشَّكُورُ الَّذِي إِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ وَإِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ.

- 20 - وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ - 21 - وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شيء حفيظ لما ذكر تَعَالَى قِصَّةَ سَبَأٍ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي اتِّبَاعِهِمُ الْهَوَى وَالشَّيْطَانِ، أَخْبَرَ عَنْهُمْ وَعَنْ أمثالهم ممن اتبع إبليس والهوى والرشاد وَالْهُدَى فَقَالَ: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ}، قال ابن عباس: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْلِيسٍ {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلًا}، وقال {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لما أهبط الله آدم عليه الصلاة والسلام مِنَ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ حَوَّاءُ، هَبَطَ إِبْلِيسُ فَرِحًا بِمَا أَصَابَ مِنْهُمَا، وَقَالَ: إِذَا أَصَبْتُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مَا أَصَبْتُ فَالذُّرِّيَّةُ أَضْعَفُ وَأَضْعَفُ، وَكَانَ ذَلِكَ ظَنًّا مِنْ إِبْلِيسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ إِبْلِيسُ: لَا أُفَارِقُ ابْنَ آدَمَ مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ أَعِدُهُ وَأُمَنِّيهِ وَأَخْدَعُهُ، فَقَالَ اللَّهُ تعالى: وعزتي وجلالي لَا أَحْجُبُ عَنْهُ التَّوْبَةَ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ بِالْمَوْتِ، وَلَا يَدْعُونِي إِلَّا أَجَبْتُهُ، وَلَا يَسْأَلُنِي إِلَّا أَعْطَيْتُهُ، وَلَا يَسْتَغْفِرُنِي إِلَّا غَفَرْتُ لَهُ (رواه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري). وقوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مِنْ حُجَّةٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ مَا ضَرَبَهُمْ بِعَصَا وَلَا أَكْرَهَهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَمَا كَانَ إِلَّا غُرُورًا وَأَمَانِيَّ، دعاهم إليها فأجابوه، وقوله عزَّوجلَّ: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} أَيْ إِنَّمَا سَلَّطْنَاهُ عَلَيْهِمْ ليظهر أمر من هو مؤمن بالآخرة والحساب وَالْجَزَاءِ، فَيُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ فِي الدُّنْيَا مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ} أَيْ وَمَعَ حِفْظِهِ ضَلَّ مَنْ ضَلَّ مِنَ اتِّبَاعِ إِبْلِيسَ، وَبِحِفْظِهِ وَكِلَاءَتِهِ سَلِمَ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أتباع الرسل.

- 22 - قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ - 23 - وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ بَيَّنَ تبارك وتعالى أَنَّهُ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لا نظير له ولا شريك، بَلْ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْأَمْرِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ وَلَا مُنَازِعٍ وَلَا مُعَارِضٍ، فَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ} أَيْ مِنَ الْآلِهَةِ الَّتِي عُبِدَتْ مِنْ دُونِهِ، {لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}، كما قال تعالى: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ من قطمير}، وقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} أَيْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا اسْتِقْلَالًا وَلَا عَلَى سَبِيلِ

الشَّرِكَةِ {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ} أَيْ وليس لله من هذه الأنداد من معين يُسْتَظْهَرُ بِهِ فِي الْأُمُورِ، بَلِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ فُقَرَاءُ إِلَيْهِ عُبَيْدٌ لَدَيْهِ، قَالَ قَتَادَةُ فِي قوله عزَّ وجلَّ {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ} مِنْ عَوْنٍ يعينه بشيء، ثم قال تعالى {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أَيْ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، لَا يَجْتَرِئُ أَحَدٌ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ تَعَالَى فِي شَيْءٍ، إِلَّا بَعْدَ إِذْنِهِ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ، كَمَا قال عزَّ وجلَّ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}؟ وقال جلَّ وعلا: {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى}، وقال تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خشيته مشفقون} وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَكْبَرُ شَفِيعٍ عِنْدَ الله تعالى، أَنَّهُ حِينَ يَقُومُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ لِيَشْفَعَ فِي الخلق كلهم، قال: «فأسجد لله تعالى فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، وَيَفْتَحَ عليَّ بِمَحَامِدَ لَا أُحْصِيهَا الْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ» الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا الْحَقَّ}، وَهَذَا أَيْضًا مَقَامٌ رَفِيعٌ فِي الْعَظَمَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى إذا تكلم بالوحي فسمع أَهْلُ السَّمَاوَاتِ كَلَامَهُ أُرْعِدُوا مِنَ الْهَيْبَةِ حَتَّى يلحقهم مثل الغشي، قال ابن مسعود {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أَيْ زَالَ الْفَزَعُ عَنْهَا، وقال ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة في قوله عزَّ وجلَّ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُواْ الحق} يقول: خلي عن قلوبهم، فإذا كان كذلك سأل بَعْضُهُمْ بَعْضًا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُ بِذَلِكَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ لِلَّذِينِ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ لِمَنْ تَحْتَهُمْ، حَتَّى يَنْتَهِيَ الْخَبَرُ إِلَى أَهْلِ السماء الدنيا، ولهذا قال تعالى: {قَالُواْ الْحَقَّ} أَيْ أَخْبَرُوا بِمَا قَالَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}. وقال آخرون: بل معنى قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا اسْتَيْقَظُوا مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْغَفْلَةِ فِي الدنيا، قَالُواْ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَقِيلَ لَهُمْ: الْحَقُّ، وَأُخْبِرُوا بِهِ مِمَّا كَانُوا عَنْهُ لَاهِينَ فِي الدنيا، قال مُجَاهِدٍ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} كَشَفَ عَنْهَا الْغِطَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ {حَتَّى إِذَا فزع عن قلوبهم} يعني من فيها من الشك والتكذيب، وقال ابن أَسْلَمَ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يَعْنِي مَا فِيهَا مِنَ الشَّكِّ قَالَ فُزِّعَ الشَّيْطَانُ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَفَارَقَهُمْ وَأَمَانِيهِمْ وَمَا كَانَ يُضِلُّهُمْ {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} قَالَ: وَهَذَا فِي بَنِي آدَمَ - هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ - أَقَرُّوا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِقْرَارُ، وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أن الضمير عائد على (الملائكة) وهذا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ لِصِحَّةِ الأحاديث فيه والآثار، قَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ في صحيحه عن سفيان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إذا قضى الله تعالى الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانَ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بعض - ووصف سفيان بيده فحرفها ونشر بَيْنَ أَصَابِعِهِ - فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء" (أخرجه البخاري ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه). وعن النواس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَرَادَ الله تبارك وتعالى أَنْ يُوحِيَ بِأَمْرِهِ تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ أَخَذَتِ السَّمَاوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ - أَوْ قَالَ رِعْدَةٌ - شديدة من خوف الله تعالى، فَإِذَآ سَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَعِقُوا وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ (جبريل) عليه الصلاة والسلام، فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ، فَيَمْضِي به جبريل عليه الصلاة والسلام على الملائكة، كلما مر بسماء سماء يسأله مَلَائِكَتُهَا: مَاذَا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيلُ، فَيَقُولُ عليه السلام: قَالَ الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فَيَقُولُونَ كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيلُ، فَيَنْتَهِي جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ إلى حيث أمره الله تعالى مِّنَ السمآء والأرض" (أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن خزيمة عن النواس بن سمعان مرفوعاً).

- 24 - قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ - 25 - قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ - 26 - قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ - 27 - قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَقُولُ تَعَالَى مُقَرِّرًا تَفَرُّدَهُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وَانْفِرَادَهُ بالإلهية أيضاً، فكما كانوا يعترفون بأنهم لا يرزقهم مِّنَ السمآء والأرض إِلَّا اللَّهُ، فَكَذَلِكَ فَلْيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غيره، وقوله تَعَالَى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أَيْ وَاحِدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مُبْطِلٌ، وَالْآخَرُ مُحِقٌّ، لَا سَبِيلَ إِلَى أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ وَنَحْنُ عَلَى الْهُدَى أَوْ عَلَى الضَّلَالِ، بَلْ وَاحِدٌ مِنَّا مُصِيبٌ، وَنَحْنُ قَدْ أَقَمْنَا الْبُرْهَانَ عَلَى التَّوْحِيدِ فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الشرك بالله تعالى، وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} قَالَ قَتَادَةُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُشْرِكِينَ، وَاللَّهِ مَا نَحْنُ وَإِيَّاكُمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، إنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ لَمُهْتَدٍ. وَقَالَ عكرمة: معناها إِنَّا نَحْنُ لَعَلَى هُدًى وَإِنَّكُمْ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ، وقوله تَعَالَى: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} مَعْنَاهُ التَّبَرِّي مِنْهُمْ أَيْ لَسْتُمْ مِنَّا وَلَا نَحْنُ مِنْكُمْ، بَلْ نَدْعُوكُمْ إِلَى الله تعالى وَإِلَى تَوْحِيدِهِ وَإِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لَهُ، فَإِنْ أَجَبْتُمْ فَأَنْتُمْ مِنَّا وَنَحْنُ مِنْكُمْ، وَإِنْ كَذَّبْتُمْ فَنَحْنُ بُرَآءُ مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ بُرَآءُ مِنَّا كَمَا قَالَ تعالى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}، وقوله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} أَيْ يَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَسَتَعْلَمُونَ يَوْمَئِذٍ لِمَنِ الْعِزَّةُ وَالنُّصْرَةُ وَالسَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يتفرقون}، ولهذا قال الله عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} أَيِ الْحَاكِمُ الْعَادِلُ الْعَالِمُ بحقائق الأمور، وقوله تبارك وتعالى: {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ} أَيْ أَرَوْنِي هَذِهِ الْآلِهَةِ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَصَيَّرْتُمُوهَا لَهُ عَدْلًا، (كَلاَّ) أَيْ لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا نَدِيدٌ وَلَا شَرِيكٌ وَلَا عَدِيلٌ، ولهذا قال تعالى: {بَلْ هُوَ اللَّهُ} أَيِ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ، {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أَيْ ذُو العزة الذي قهر بها كُلَّ شَيْءٍ، (الْحَكِيمُ) فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَشَرْعِهِ وقدره، تبارك وتعالى وتقدس عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كبيراً.

- 28 - وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - 29 - وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 30 - قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تستقدمون يقول تعالى لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليماً {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} أي إلى جميع الخلائق من المكلفين كقوله تبارك وتعالى: {قُلِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إليكم جميعاً}، {بَشِيراً وَنَذِيراً} أَيْ تُبَشِّرُ مَنْ أَطَاعَكَ بِالْجَنَّةِ، وَتُنْذِرُ مَنْ عَصَاكَ بِالنَّارِ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، كقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بؤمنين}، {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله}، قال محمد بن كعب: يعني إلى الناس عامة، وقال قتادة: أرسل اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْعَرَبِ والعجم، فأكرمهم على الله تبارك وتعالى أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم عن عكرمة قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إن الله تعالى فَضَّلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ، قَالُوا: يَا ابْنَ عباس فيم فضله على الأنبياء؟ قال رضي الله عنه إن الله تعالى قَالَ: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} فأرسله الله تعالى إلى الجن والإنس، وهذا كما ثبت في الصحيحين، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خاصة وبعثت إلى الناس عامة" (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ موقوفاً)، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ» قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَقَالَ غَيْرُهُ يَعْنِي الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ، وَالْكُلُّ صَحِيحٌ، ثُمَّ قال الله عزَّ وجلَّ مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ فِي اسْتِبْعَادِهِمْ قِيَامَ السَّاعَةِ: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} وهذه الآية، كقوله عزَّ وجلَّ: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا} الآية، ثم قال تعالى: {قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ} أَيْ لَكُمْ مِيعَادٌ مُؤَجَّلٌ، لا يزاد ولا ينقص، فَإِذَا جَاءَ فَلَا يُؤَخَّرُ سَاعَةً وَلَا يُقَدَّمُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ}، وقال عزَّ وجلَّ: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يأتي لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وسعيد}.

- 31 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلِ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ - 32 - قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ - 33 - وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَمَادِي الْكُفَّارِ فِي طُغْيَانِهِمْ وعنادهم، وإصرارهم عل عدم الإيمان بالقرآن الكريم، وبما أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ} قَالَ الله عزَّ وجلَّ مُتَهَدِّدًا لَهُمْ وَمُتَوَعِّدًا وَمُخْبِرًا عَنْ مَوَاقِفِهِمُ الذَّلِيلَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي حَالِ تُخَاصِمِهِمْ وَتَحَاجِّهِمْ، {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلِ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} وهم الأتباع {لِلَّذِينَ استكبروا} منهم وَهُمْ قَادَتُهُمْ وَسَادَتُهُمْ: {لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أَيْ لَوْلَا أَنْتُمْ تَصُدُّونَا لَكُنَّا اتَّبَعْنَا الرُّسُلَ، وَآمَنَّا بِمَا جَاءُونَا بِهِ، فَقَالَ لَهُمُ الْقَادَةُ وَالسَّادَةُ وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا {أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ}، أَيْ نَحْنُ مَا فَعَلْنَا بِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّا دَعَوْنَاكُمْ فَاتَّبَعْتُمُونَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَخَالَفْتُمُ الْأَدِلَّةَ والبراهين والحجج التي جاءت بها الرسل لِشَهْوَتِكُمْ وَاخْتِيَارِكُمْ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالُوا: {بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أَيْ بَلْ كُنْتُمْ تَمْكُرُونَ بنا ليلاً ونهاراً، وتغرّونا وَتُخْبِرُونَا أَنَّا عَلَى هُدًى وَأَنَّا عَلَى شَيْءٍ، فإذا اجتمع ذَلِكَ بَاطِلٌ وَكَذِبٌ وَمَيْنٌ، قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} يَقُولُ بَلْ مكركم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، {إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} أَيْ نُظَرَاءَ وَآلِهَةً مَعَهُ وتقيموا لنا شبهاً وأشياء تُضِلُّونَا بِهَا، {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ} أَيِ الْجَمِيعُ مِنَ السَّادَةِ وَالْأَتْبَاعِ كُلٌّ نَدِمَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ، {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَهِيَ السَّلَاسِلُ الَّتِي تَجْمَعُ أَيْدِيهِمْ مَعَ أَعْنَاقِهِمْ، {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أَيْ إِنَّمَا نُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، كلٌ بِحَسْبِهِ لِلْقَادَةِ عَذَابٌ بِحَسْبِهِمْ، وَلِلْأَتْبَاعِ بِحَسْبِهِمْ، {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} قال ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن جهنم لما سيق إليها تلقَّاهم لَهَبُهَا، ثُمَّ لَفَحَتْهُمْ لَفْحَةً فَلَمْ يَبْقَ لهم لحم إلا سقط على العرقوب» (أخرجه ابن أبي حاتم).

- 34 - وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ - 35 - وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ - 36 - قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - 37 - وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ - 38 - وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ - 39 - قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَآمِرًا لَهُ بِالتَّأَسِّي بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، ومخبراً له بِأَنَّهُ مَا بَعَثَ نَبِيًّا فِي قَرْيَةٍ إِلَّا كَذَّبَهُ مُتْرَفُوهَا وَاتَّبَعَهُ ضُعَفَاؤُهُمْ، كَمَا قَالَ قَوْمُ نوح: {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون}، وَقَالَ الْكُبَرَاءُ مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ؟ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ

الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فيها}، وقال جلَّ وعلا: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}، وقال جلَّ وعلا ههنا: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ} أَيْ نبي أو ورسول {إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ} وَهُمْ أُولُو النِّعْمَةِ وَالْحِشْمَةِ وَالثَّرْوَةِ وَالرِّيَاسَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ جَبَابِرَتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ ورؤوسهم فِي الشَّرِّ {إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي لا نؤمن به ولا نتبعه، عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: كَانَ رَجُلَانِ شَرِيكَانِ خَرَجَ أَحَدُهُمَا إِلَى السَّاحِلِ وَبَقِيَ الْآخَرُ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى صَاحِبِهِ يَسْأَلُهُ مَا فَعَلَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِنَّمَا اتَّبَعَهُ أَرَاذِلُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ، قَالَ: فَتَرَكَ تِجَارَتَهُ ثم أتى صاحبه، فقال: دلني عليه، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ أَوْ بَعْضَ الْكُتُبِ، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إلامَ تدعو؟ قال: «أدعو إِلَى كَذَا وَكَذَا» قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الله، قال صلى الله عليه وسلم: «وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟» قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ نبي إلا اتبعه أراذل النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (أخرجه ابن أبي حاتم)، وَهَكَذَا قَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي سُفْيَانَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ تِلْكَ الْمَسَائِلَ قَالَ فِيهَا: وَسَأَلْتُكَ أَضُعَفَاءُ النَّاسِ اتَّبَعَهُ أَمْ أَشْرَافُهُمْ، فَزَعَمْتَ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ وهم أتباع الرسل (هذا جزء من حديث طويل رواه الشيخان). وقال تبارك وتعالى إخباراً عن المترفين الكاذبين: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أَيِ افْتَخَرُوا بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَاعْتَقَدُوا أن ذلك دليل على محبة الله تعالى لَهُمْ وَاعْتِنَائِهِ بِهِمْ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ لِيُعْطِيَهُمْ هَذَا فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وهيهات لهم ذلك، قال الله تَعَالَى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ؟ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ}، وقال تبارك وتعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}، ولهذا قال عزَّ وجلَّ ها هنا: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} أَيْ يُعْطِي الْمَالُ لِمَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، فَيُفْقِرُ مَنْ يَشَاءُ وَيُغْنِي مَنْ يشاء، وله الحكمة التامة البالغة، والحجة القاطعة الدامغة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} أَيْ لَيْسَتْ هَذِهِ دَلِيلًا عَلَى مَحَبَّتِنَا لكم ولا اعتنائنا بكم، ولهذا قال الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أَيْ إِنَّمَا يُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى الإيمانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضعف بِمَا عَمِلُواْ} أي تصاعف لَهُمُ الْحَسَنَةُ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} أَيْ فِي مَنَازِلِ الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ {آمِنُونَ} مِنْ كُلِّ بَأْسٍ وَخَوْفٍ وأذى، ومن كل شر يحذر منه. عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا» فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: لِمَنْ هِيَ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لِمَنْ طيَّب الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وصلى بالليل والناس نيام» (أخرجه ابن أبي حاتم). {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أَيْ يَسْعَوْنَ في الصد عن سبيل الله واتباع رسله وَالتَّصْدِيقِ بِآيَاتِهِ، {أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} أَيْ جميعهم مجزيون بأعمالهم فيها بحسبهم، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} أَيْ بِحَسْبِ مَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، يَبْسُطُ عَلَى هَذَا مِنَ الْمَالِ

كثيراً، ويضيّق على هذا ويقتر عليه رِزْقَهُ جِدًّا، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ مَا لَا يُدْرِكُهَا غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} أَيْ كَمَا هُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الدُّنْيَا هَذَا فَقِيرٌ مُدْقِعٌ وَهَذَا غَنِيٌّ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ، هَذَا فِي الْغُرُفَاتِ فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَهَذَا فِي الْغَمَرَاتِ فِي أَسْفَلِ الدَّرَكَاتِ، وَأَطْيَبُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» (أخرجه مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما)، وقوله تَعَالَى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أَيْ مَهْمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا أَمَرَكُمْ به، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبذل، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنفقْ أُنفقْ عَلَيْكَ»، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنفقْ بِلَالًا، وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقلالاً»، وعن حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ألا إن بَعْدَ زَمَانِكُمْ هَذَا زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ حَذَارَ الْإِنْفَاقِ»، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (أخرجه ابن أبي حاتم)، وفي الحديث: «شرار الناس يُبَايِعُونَ كُلَّ مُضْطَرٍّ، أَلَا إِنَّ بِيعَ الْمُضْطَرِّينَ حَرَامٌ، أَلَا إِنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّينَ حَرَامٌ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَعْرُوفٌ فَعُدْ بِهِ عَلَى أَخِيكَ، وإلا فلا تزده هلاكاً إلى هلاكه» (أخرجه الحافظ الموصلي وفي إسناده ضعف)، وقال مُجَاهِدٌ: لَا يَتَأَوَّلَنَّ أَحَدُكُمْ هَذِهِ الْآيَةَ {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} إِذَا كَانَ عِنْدَ أَحَدِكُمْ مَا يُقِيمُهُ فَلْيَقْصِدْ فِيهِ، فَإِنَّ الرزق مقسوم.

- 40 - وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ - 41 - قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ - 42 - فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَقْرَعُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رؤوس الْخَلَائِقِ، فَيَسْأَلُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَ أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورهم لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} أَيْ أَنْتُمْ أَمَرْتُمْ هَؤُلَاءِ بعبادتكم، كما قال تعالى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل}، وكما يقول لعيسى عليه الصلاة والسلام: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بحق}، وَهَكَذَا تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: {سُبْحَانَكَ} أَيْ تَعَالَيْتَ وَتَقَدَّسْتَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ إِلَهٌ {أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} أَيْ نَحْنُ عَبِيدُكَ وَنَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ هَؤُلَاءِ، {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} يَعْنُونَ الشياطين لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}، كما قال تبارك وتعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثاُ وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً * لَّعَنَهُ الله}، قال الله عزَّ وجلَّ: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} أَيْ لَا يَقَعُ لَكُمْ نَفْعٌ مِمَّنْ كُنْتُمْ تَرْجُونَ نَفْعَهُ الْيَوْمَ، مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ الَّتِي ادَّخَرْتُمْ عِبَادَتَهَا لِشَدَائِدِكُمْ وَكُرَبِكُمْ، الْيَوْمَ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ {ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تقريعاً وتوبيخاً.

- 43 - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ - 44 - وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ - 45 - وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ أنهم يستحقون الْعُقُوبَةَ وَالْأَلِيمَ مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ بَيِّنَاتٍ، يَسْمَعُونَهَا غَضَّةً طَرِيَّةً مِنْ لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قَالُواْ مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ} يَعْنُونَ أَنَّ دِينَ آبَائِهِمْ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ مَا جَاءَهُمْ به الرسول عندهم باطل، {وَقَالُواْ مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} يَعْنُونَ الْقُرْآنَ، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ} أَيْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ مِنْ كِتَابٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانُوا يَوَدُّونَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: لَوْ جَاءَنَا نَذِيرٌ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيْنَا كِتَابٌ، لَكُنَّا أَهْدَى مِنْ غَيْرِنَا، فَلَمَّا منَّ الله عَلَيْهِم بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه، ثم قال تعالى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أَيْ مِنَ الْأُمَمِ {وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ}، قَالَ ابْنُ عباس: أي من القوة في الدنيا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أكثر منهم وأشد قوة} أَيْ وَمَا دَفَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ عَذَابَ اللَّهِ وَلَا رَدَّهُ، بَلْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} أي فكيف كان عقابي ونكالي وانتصاري لرسلي.

- 46 - قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ يقول تبارك وتعالى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الزَّاعِمِينَ أَنَّكَ مَجْنُونٌ: {إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} أَيْ إِنَّمَا آمُرُكُمْ بِوَاحِدَةٍ، وَهِيَ {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ} أَيْ تقوموا قياماً خالصاً لله عزَّ وجلَّ مِنْ غَيْرِ هَوًى وَلَا عَصَبِيَّةٍ فَيَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا: هَلْ بِمُحَمَّدٍ مِنْ جُنُونٍ؟ فَيَنْصَحُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ} أَيْ يَنْظُرُ الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَسْأَلُ غَيْرَهُ مِّنَ النَّاسِ عَنْ شَأْنِهِ إِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَيَتَفَكَّرُ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ} (هَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وغيرهم، وتفسير الآية بِالْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ وَفُرَادَى بَعِيدٌ كما ذكر ابن كثير)، وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}، قال البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصفا ذات يوم فقال: «يا صاحباه» فاجتمعت إليه قريش فقالوا: مالك؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ

أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ أَمَا كُنْتُمْ تصدقوني" قالوا: بلى؟ قال صلى الله عليه وسلم: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ»، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {تبت يد أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين}. وقال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَنَادَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ: «أيها الناس تدرون ما مثلي ومثلكم؟» قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ مَثَلُ قَوْمٍ خَافُوا عَدُوًّا يَأْتِيهِمْ، فَبَعَثُوا رَجُلًا يَتَرَاءَى لَهُمْ، فَبَيْنَمَا هُوَ كذك أَبْصَرَ الْعَدُوَّ، فَأَقْبَلَ لِيُنْذِرَهُمْ وَخَشِيَ أَنْ يُدْرِكَهُ الْعَدُوُّ قَبْلَ أَنْ يُنْذِرَ قَوْمَهُ فَأَهْوَى بِثَوْبِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ أُوتِيتُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ أُوتِيتُمْ" ثَلَاثَ مرات.

- 47 - قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ - 48 - قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ - 49 - قُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ - 50 - قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ: {مَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ}، أَيْ لَا أُرِيدُ مِنْكُمْ جُعْلًا ولا عطاء على أداء رسالة الله عزَّ وجلَّ إِلَيْكُمْ، وَنُصْحِي إِيَّاكُمْ وَأَمْرِكُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ}، أَيْ إِنَّمَا أَطْلُبُ ثَوَابَ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أَيْ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْأُمُورِ بِمَا أَنَا عَلَيْهِ مِنْ إِخْبَارِي عَنْهُ بِإِرْسَالِهِ إياي إليكم وما أنتم عليه، وقوله عزَّ وجلَّ: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أَيْ يُرْسِلُ الْمَلَكَ إِلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا في الأرض، وقوله تبارك وتعالى: {قُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} أَيْ جَاءَ الْحَقُّ مِنَ اللَّهِ وَالشَّرْعِ العظيم، وذهب الباطل واضمحل، كقوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}، وَلِهَذَا لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَوَجَدَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ مَنْصُوبَةً حَوْلَ الْكَعْبَةِ، جَعَلَ يَطْعَنُ الصنم منها وَيَقْرَأُ: {وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}، {قُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي). وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أَيْ لَمْ يَبْقَ لِلْبَاطِلِ مَقَالَةً وَلَا رِيَاسَةً وَلَا كَلِمَةً، وَزَعَمَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بالباطل ها هنا إبليس أي إِنَّهُ لَا يَخْلُقُ أَحَدًا وَلَا يُعِيدُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ حَقًا، ولكن ليس هو المراد ههنا والله أعلم، وقوله تبارك وتعالى: {قُلِ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} أَيِ الخير كله من عند الله وفيما أنزل اللَّهُ عزَّ َّوجلَّ، مِنَ الْوَحْيِ وَالْحَقِّ الْمُبِينِ، فِيهِ الْهُدَى وَالْبَيَانُ وَالرَّشَادُ، وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يضل من تلقاء نفسه، وقوله تعالى: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} أَيْ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ {قَرِيبٌ} يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وقد روي في الصحيحين: «إنكم لا تدعون أصماً وَلَا غَائِبًا إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا مُجِيبًا».

- 51 - وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ - 52 - وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ - 53 - وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ - 54 - وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شك مريب يقول تبارك وتعالى: ولو ترى يا محمد إذا فَزِعَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فَلاَ فَوْتَ} أي فلا مفر لهم ولا وزر لهم وَلَا مَلْجَأَ {وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} أَيْ لم يمكنوا أن يمعنوا فِي الْهَرَبِ، بَلْ أُخِذُوا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: حِينَ خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ، وقال مجاهد وَقَتَادَةُ: مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: يَعْنِي عَذَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي قَتَلَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ الطَّامَّةُ الْعُظْمَى، وَإِنْ كَانَ مَا ذُكِرَ مُتَّصِلًا بذلك، {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ آمنا بالله ورسله كما قال تعالى: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا موقنون}، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} أَيْ وَكَيْفَ لَهُمْ تَعَاطِي الْإِيمَانِ، وَقَدْ بَعُدُوا عَنْ مَحَلِّ قَبُولِهِ مِنْهُمْ، وَصَارُوا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةَ، وَهِيَ (دَارُ الْجَزَاءِ) لَا دَارُ الِابْتِلَاءِ؟ فَلَوْ كَانُوا آمِنُوا فِي الدُّنْيَا لَكَانَ ذَلِكَ نَافِعَهُمْ، وَلَكِنْ بَعْدَ مَصِيرِهِمْ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةَ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى قَبُولِ الإيمان، قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} قَالَ: التَّنَاوُلُ لِذَلِكَ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: التَّنَاوُشُ تَنَاوُلُهُمُ الْإِيمَانَ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُمُ الدُّنْيَا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَمَا إِنَّهُمْ طَلَبُوا الْأَمْرَ مِنْ حَيْثُ لَا يُنَالُ، تَعَاطَوُا الْإِيمَانَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلَبُوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا وَالتَّوْبَةَ مِمَّا هُمْ فِيهِ وَلَيْسَ بِحِينِ رجعة ولا توبة. وقوله تعالى: {وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} أَيْ كَيْفَ يَحْصُلُ لَهُمُ الْإِيمَانُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِالْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَكَذَّبُوا بِالرُّسُلِ، {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} يعني بالظن، كما قال تعالى: {رَجْماً بالغيب} فَتَارَةً يَقُولُونَ شَاعِرٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ كَاهِنٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ سَاحِرٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ مَجْنُونٌ، إِلَى غَيْرِ ذلك من الأقوال الباطلة، ويكذبون بالبعث وَالنُّشُورِ وَالْمَعَادِ، {وَيَقُولُونَ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وما نحن بمستيقين} قال قتادة ومجاهد: يَرْجُمُونَ بِالظَّنِّ، لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نار، وقوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمَا: يَعْنِي الْإِيمَانُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}: وَهِيَ التَّوْبَةُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ مَالٍ وَزَهْرَةٍ وَأَهْلٍ (وَرُوِيَ نحوه عن ابن عمر وابن عباس وَالرَّبِيعِ بْنِ أنَس وَهُوَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ وَجَمَاعَةٍ من العلماء)، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ قَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَهَوَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا طَلَبُوهُ فِي الْآخِرَةِ فَمُنِعُوا مِنْهُ. وقوله تعالى: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِن قَبْلُ} أَيْ كَمَا جرى للأمم الماضية المكذبة بالرسل لَمَّا جَاءَهُمْ بِأْسُ اللَّهِ، تَمَنَّوْا أَنْ لَوْ آمنوا فلم يقبل منهم {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون}، وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ} أَيْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا فِي شَكٍّ وَرِيبَةٍ فَلِهَذَا لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، قَالَ قَتَادَةُ: إِيَّاكُمْ وَالشَّكَّ وَالرِّيبَةَ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى شَكٍّ بُعِثَ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى يقين بعث عليه.

35 - سورة فاطر

- 35 - سورة فاطر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قال ابن عباس رضي الله عنهما: كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها أي بدأتها، وقال ابن عباس: {فَاطِرِ السماوات والأرض}: أي بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: فَهُوَ خَالِقُ السماوات والأرض، وقوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً} أَيْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ، {أُولِي أَجْنِحَةٍ} أَيْ يَطِيرُونَ بِهَا لِيُبَلِّغُوا مَا أُمِرُوا بِهِ سَرِيعًا {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} أَيْ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ جَنَاحَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ ثَلَاثَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رأى جبريل عليه السلام (لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ) وَلَهُ سِتُّمَائَةِ جَنَاحٍ بَيْنَ كُلِّ جَنَاحَيْنِ كَمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلِهَذَا قَالَ جلَّ وعلا: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قَالَ السُّدِّيُّ: يَزِيدُ فِي الْأَجْنِحَةِ وَخَلْقِهِمْ مَا يَشَاءُ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ} يَعْنِي حُسْنَ الصوت (رواه البخاري في الأدب، وقرئ في الشاذ (يَزِيدُ فِي الخلق) بالحاء المهملة).

- 2 - مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى ولا معطي لما منع، رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، كان يقول إذا انصرف من الصَّلَاةِ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الجد» (أخرجاه في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة)، وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ يَقُولُ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ -[139]- حَمْدُهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مَلْءَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَمَلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، اللَّهُمَّ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ». وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تبارك وتعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لفضله} ولها نظائر كثيرة.

- 3 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ يُنَبِّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَوْحِيدِهِ، فِي إِفْرَادِ الْعِبَادَةَ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، فَكَذَلِكَ فَلْيُفْرَدْ بِالْعِبَادَةِ وَلَا يُشْرَكْ بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ والأوثان، ولهذا قال تعالى: {لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فأنَّى تُؤْفَكُونَ} أَيْ فَكَيْفَ تُؤْفَكُونَ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ، وَوُضُوحِ هَذَا الْبُرْهَانِ، وَأَنْتُمْ بَعْدَ هَذَا تَعْبُدُونَ الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ؟ والله أعلم.

- 4 - وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ - 5 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ - 6 - إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير يقول تبارك وتعالى: وإن يكذبوك يَا مُحَمَّدُ - هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ - وَيُخَالِفُوكَ فِيمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، فَلَكَ فِيمَنْ سَلَفَ قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ أُسْوَةٌ، فَإِنَّهُمْ كَذَلِكَ جَاءُوا قَوْمَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، وَأَمَرُوهُمْ بِالتَّوْحِيدِ فَكَذَّبُوهُمْ وَخَالَفُوهُمْ، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أَيْ وَسَنَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أوفر الجزاء، ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أَيِ الْمَعَادُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أَيِ الْعِيشَةُ الدَّنِيئَةُ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَتْبَاعِ رُسُلِهِ مِنَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، فَلَا تَتَلَهَّوْا عَنْ ذَلِكَ الْبَاقِي بِهَذِهِ الزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ، {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وهو الشيطان، أي لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان ويصرفكم عَنِ اتِّبَاعِ رُسُلِ اللَّهِ وَتَصْدِيقِ كَلِمَاتِهِ، فَإِنَّهُ غرار كذاب أفاك، وهذه كَالْآيَةِ الَّتِي فِي آخِرِ لُقْمَانَ: {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور}، وقال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُوَ الشَّيْطَانُ، كَمَا قَالَ المؤمنون للمنافقين يوم القيامة: {وَغرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بالله الغرور} ثُمَّ بيَّن تَعَالَى عَدَاوَةَ إِبْلِيسَ لِابْنِ آدَمَ، فَقَالَ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} أَيْ هُوَ مُبَارِزٌ لَكُمْ بِالْعَدَاوَةِ، فَعَادُوهُ أَنْتُمْ أَشَدَّ الْعَدَاوَةِ وَخَالِفُوهُ، وَكَذِّبُوهُ فِيمَا يَغُرُّكُمْ بِهِ، {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أَيْ إِنَّمَا يَقْصِدُ أَنْ يُضِلَّكُمْ حَتَّى تَدْخُلُوا مَعَهُ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، فَهَذَا هُوَ الْعَدُوُّ المبين، وهذه كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}.

- 7 - الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ - 8 - أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ

سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يصنعون لما ذكر تعالى أن أتباع إبليس مصيرهم إلى السَّعِيرِ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ وَعَصَوُا الرَّحْمَنَ، وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ} أَيْ لِمَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ ذَنْبٍ {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} عَلَى مَا عَمِلُوهُ من خير، ثم قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} يَعْنِي كَالْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ، يَعْمَلُونَ أَعْمَالًا سَيِّئَةً وَهُمْ في ذلك يعتقدون ويحسبون أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، أي فمن كَانَ هَكَذَا قَدْ أَضَلَّهُ اللَّهُ، أَلَكَ فِيهِ حيلة؟ {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} أَيْ بِقَدَرِهِ كَانَ ذَلِكَ، {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} أَيْ لَا تَأْسَفْ عَلَى ذلك، فإن الله حكيم في قدره، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بما يصنعون} (في اللباب: أخرج جوبير: نزلت {أفمن زين} حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ أعز دينك بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل فهدى الله عمر وأضل أبا جهل)، روى ابن أبي حاتم عند هذه الآية عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ فِي حَائِطٍ بِالطَّائِفِ يُقَالُ لَهُ الْوَهْطُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "إن الله تعالى خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ نُورِهِ يَوْمَئِذٍ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ مِنْهُ ضَلَّ، فَلِذَلِكَ أَقُولُ: جفَّ الْقَلَمُ عَلَى مَا عَلِمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ".

- 9 - وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ - 10 - مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ - 11 - وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ كَثِيرًا مَا يَسْتَدِلُّ تَعَالَى عَلَى الْمَعَادِ بِإِحْيَائِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ موتها، يُنَبِّهُ عِبَادَهُ أَنْ يَعْتَبِرُوا بِهَذَا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَرْضَ تَكُونُ مَيِّتَةً هَامِدَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا، فَإِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا السَّحَابَ تَحْمِلُ الْمَاءَ وَأَنْزَلَهُ عَلَيْهَا، {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زوج بهيج}، كذلك الأجساد إذا أراد الله تعالى بَعْثَهَا وَنَشُورَهَا أَنْزَلَ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مَطَرًا يعم الأرض جميعاً، ونبتت الأجساد في قبورها كما تنبت الحبة فِي الْأَرْضِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إِلَّا عَجْبَ الذَّنَب، مِنْهُ خُلِقَ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ النُّشُورُ}. وَتَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ حَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى؟ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا رَزِينٍ أَمَا مَرَرْتَ بِوَادِي

قومك ممحلاً ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضِرًا» قُلْتُ: بَلَى، قال صلى الله عليه وسلم: «فكذلك يحيي الله الموتى»، وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} أَيْ مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ عَزِيزًا في الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله تعالى فإنه يحصل له مقصوده، لأن الله تعالى مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعاً، كما قال تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}، وقال عزَّ وجلَّ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} بِعِبَادَةِ الأوثان {فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً}، وَقَالَ قَتَادَةُ: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} أَيْ فَلْيَتَعَزَّزْ بِطَاعَةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وقوله تبارك وتعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} يَعْنِي الذِّكْرَ وَالتِّلَاوَةَ والدعاء؛ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله تعالى، إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ إِذَا قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ تَبَارَكَ اللَّهُ، أَخَذَهُنَّ ملَك فَجَعَلَهُنَّ تَحْتَ جَنَاحِهِ، ثُمَّ صَعِدَ بِهِنَّ إِلَى السَّمَاءِ فَلَا يَمُرُّ بِهِنَّ عَلَى جَمْعٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا اسْتَغْفَرُوا لِقَائِلِهِنَّ، حَتَّى يَجِيءَ بِهِنَّ وَجْهَ الله عزَّ وجلَّ، ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}. وقال كعب الأحبار: إن لسبحان اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، لَدَوِيًّا حَوْلَ الْعَرْشِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، يذكرن لصاحبهن، والعمل الصالح في الخزائن. وقوله تعالى: {والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} قال ابن عباس: الكلم الطيب ذكر الله تعالى يُصْعَدُ بِهِ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَالْعَمَلُ الصالح أداء الفريضة، فمن ذكر الله تعالى في أداء فرائضه حمل عمله ذكر الله تعالى يصعد به إلى الله عزَّ وجلَّ، ومن ذكر الله تعالى وَلَمْ يُؤَدِّ فَرَائِضَهُ رُدَّ كَلَامُهُ عَلَى عَمَلِهِ فَكَانَ أَوْلَى بِهِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: الْعَمَلُ الصالح يرفع الكلام الطيب، وقال إياس بن معاوية: لَوْلَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ لَمْ يُرْفَعِ الْكَلَامُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَا يُقْبَلُ قَوْلٌ إِلَّا بِعَمَلٍ، وقوله تعالى: {والذين يَمْكُرُونَ السيئات} قال مجاهد: هم المراؤون بِأَعْمَالِهِمْ، يَعْنِي يَمْكُرُونَ بِالنَّاسِ، يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ فِي طاعة الله تعالى وهم بغضاء إلى الله عزَّ وجلَّ يراؤون بأعمالهم {وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قليلا}، وقال ابن أَسْلَمَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَامَّةٌ، وَالْمُشْرِكُونَ داخلون بطريق الأولى، ولهذا قال تعالى: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} أَيْ يَفْسَدُ وَيَبْطُلُ، وَيَظْهَرُ زَيْفُهُمْ عَنْ قَرِيبٍ لأولي البصائر والنُّهَى، فإنه مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَبْدَاهَا اللَّهُ تعالى عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَمَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا كَسَاهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، فَالْمُرَائِي لَا يَرُوجُ أَمْرُهُ وَيَسْتَمِرُّ إِلَّا عَلَى غَبِيٍّ، أَمَّا المؤمنون المتفرسون فلا يروج لهم ذلك عليهم بل ينكشف لَهُمْ عَنْ قَرِيبٍ، وَعَالَمُ الْغَيْبِ لَا تَخْفَى عليه خافية، وقوله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} أَيِ ابْتَدَأَ خَلْقَ أَبِيكُمْ آدَمَ مِن تُرَابٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَاءٍ مَهِينٍ، {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً} أَيْ ذَكَرًا وَأُنْثَى لُطْفًا مِنْهُ وَرَحْمَةً أَنْ جَعَلَ لَكُمْ أَزْوَاجًا من جنسكم لتسكنوا إليها، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ بَلْ {مَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} وقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} أَيْ مَا يُعْطَى بَعْضُ النُّطَفِ مِنَ الْعُمُرِ

الطَّوِيلِ يَعْلَمُهُ وَهُوَ عِنْدَهُ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ {وَماَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْجِنْسِ، لأن الطويل العمر في الكتاب وفي علم الله تعالى لَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ، وَإِنَّمَا عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْجِنْسِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ عندي ثوب ونصفه، أي ونصف ثوب آخر. وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} الآية، يقول: ليس أحد قضيت له بطول العمر والحياة إِلَّا وَهُوَ بَالِغٌ مَا قَدَّرْتُ لَهُ مِنَ الْعُمُرِ، وَقَدْ قَضَيْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَإِنَّمَا يَنْتَهِي إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي قَدَّرْتُ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وليس أحد قدرت له أنه قصير العمر، والحياة ببالغ العمر، وَلَكِنْ يَنْتَهِي إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبْتُ لَهُ، فذلك قوله تعالى: {وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} يَقُولُ: كُلُّ ذلك في كتاب عنده، وقال زيد بن أسلم {وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} قَالَ: مَا لَفَظَتِ الْأَرْحَامُ مِنَ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ تَمَامٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي تَفْسِيرِهَا: أَلَا تَرَى النَّاسَ يَعِيشُ الْإِنْسَانُ مِائَةَ سَنَةٍ وَآخَرُ يَمُوتُ حِينَ يُولَدُ فَهَذَا هَذَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَالَّذِي يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ فَالَّذِي يَمُوتُ قَبْلَ سِتِّينَ سَنَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} أَيْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ يُكْتَبُ لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُقِ الْخَلْقَ عَلَى عُمُرٍ واحد، بل لهذا عمر، ولهذا عمر، فكل ذَلِكَ مَكْتُوبٌ لِصَاحِبِهِ بَالِغٌ مَا بَلَغَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ مَعْنَاهُ {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} أَيْ مَا يُكْتَبُ مِنَ الْأَجَلِ {وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} وَهُوَ ذَهَابُهُ قَلِيلًا قَلِيلًا الْجَمِيعُ معلوم عند الله تعالى سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ وَشَهْرًا بَعْدَ شَهْرٍ، وَجُمُعَةً بعد جمعة، وَسَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ الْجَمِيعُ مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ تعالى في كتابه، نقله ابن جرير عن أبي مالك، واختار ابن جرير الأول، ويؤيده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» (رواه البخاري ومسلم والنسائي واللفظ له)، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذَكَرْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إن الله تعالى لَا يُؤَخِّرُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجْلُهَا، وَإِنَّمَا زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقه الْعَبْدَ فَيَدْعُونَ لَهُ مِن بَعْدِهِ فَيَلْحَقُهُ دُعَاؤُهُمْ في قبره فذلك زيادة العمر»، وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أَيْ سَهْلٌ عليه يسير لديه، فإن عمله شامل للجميع لا يخفى عليه شيء منها.

- 12 - وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ فِي خلقه الأشياء المختلفة، خلق الْبَحْرِينِ الْعَذْبَ الزُّلَالَ، وَهُوَ هَذِهِ الْأَنْهَارُ السَّارِحَةُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ كِبَارٍ وَصِغَارٍ، بِحَسْبِ الْحَاجَةِ إليها في كل الأقاليم والأمصار، وَهِيَ عَذْبَةٌ سَائِغٌ شَرَابُهَا لِمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ {وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي مر وَهُوَ الْبَحْرُ السَّاكِنُ الَّذِي تَسِيرُ فِيهِ السُّفُنُ الْكِبَارُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مَالِحَةً زُعاقاً مُرَّةً، وَلِهَذَا قَالَ: {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أَيْ مُرٌّ، ثُمَّ قال تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} يَعْنِي السَّمَكَ {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}، كما قال عزَّ وجلَّ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ والمرجان}، وقوله جلَّ وعلا: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} أَيْ تَمْخُرُهُ وَتَشُقُّهُ بِحَيْزُومِهَا وَهُوَ مُقَدِّمُهَا الْمُسَنَّمُ الَّذِي يُشْبِهُ جُؤْجُؤَ الطَّيْرِ وَهُوَ صَدْرُهُ، وَقَالَ

مُجَاهِدٌ: تَمْخُرُ الرِّيحُ السُّفُنَ وَلَا يَمْخُرُ الرِّيحُ من السفن إلا العظام، وقوله جلَّ وعلا: {لِتَبْتَغُواْ مِّن فَضْلِهِ} أَيْ بِأَسْفَارِكُمْ بِالتِّجَارَةِ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ وَإِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أَيْ تَشْكُرُونَ رَبَّكُمْ عَلَى تَسْخِيرِهِ لَكُمْ هَذَا الْخَلْقَ الْعَظِيمَ وَهُوَ الْبَحْرُ، تَتَصَرَّفُونَ فِيهِ كَيْفَ شِئْتُمْ وَتَذْهَبُونَ أَيْنَ أَرَدْتُمْ، وَلَا يَمْتَنِعُ عليكم شيء منه، الجميع من فضله ورحمته.

- 13 - يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ - 14 - إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، فِي تَسْخِيرِهِ اللَّيْلَ بِظَلَامِهِ وَالنَّهَارَ بِضِيَائِهِ، وَيَأْخُذُ مِنْ طُولِ هَذَا فَيَزِيدُهُ فِي قِصَرِ هَذَا فَيَعْتَدِلَانِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْ هَذَا فِي هَذَا فَيَطُولُ هَذَا وَيَقْصُرُ هَذَا، ثُمَّ يَتَقَارَضَانِ صَيْفًا وَشِتَاءً {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ والقمر} أي والنجوم السيارات، الجميع يسيرون بمقدار مبين، وَعَلَى مِنْهَاجٍ مُقَنَّنٍ مُحَرَّرٍ، تَقْدِيرًا مِنْ عَزِيزٍ عَلِيمٍ، {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} أَيْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} أَيِ الَّذِي فَعَلَ هَذَا هُوَ الرَّبُّ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ} أَيْ من الأصنام والأنداد الَّتِي هِيَ عَلَى صُورَةِ مَنْ تَزْعُمُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} قَالَ ابن عباس: الْقِطْمِيرُ هُوَ اللِّفَافَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَى نَوَاةِ التَّمْرَةِ، أَيْ لَا يَمْلِكُونَ مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا بِمِقْدَارِ هَذَا الْقِطْمِيرِ، ثُمَّ قَالَ تعالى: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ} يَعْنِي الْآلِهَةَ التي تدعونها من دون الله لا تسمع دُعَاءَكُمْ لِأَنَّهَا جَمَادٌ لَا أَرْوَاحَ فِيهَا، {وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} أَيْ لَا يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مما تَطْلُبُونَ مِنْهَا، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أَيْ يتبرأون منكم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}، وقوله تعالى: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أَيْ وَلَا يُخْبِرُكَ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَمَآلِهَا وَمَا تَصِيرُ إِلَيْهِ، مِثْلُ خَبِيرٍ بِهَا، قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي نَفْسَهُ تَبَارَكَ وتعالى فَإِنَّهُ أَخْبَرُ بِالْوَاقِعِ لَا مَحَالَةَ.

- 15 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ - 16 - إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ - 17 - وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ - 18 - وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ يُخْبِرُ تَعَالَى بِغَنَائِهِ عَمَّا سِوَاهُ وَبِافْتِقَارِ الْمَخْلُوقَاتِ كلها إليه، وتذللها بين يديه، فقال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} أَيْ هُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْحَرَكَاتِ والسكنات، وهو تعالى الغني عنهم بالذات، ولهذا

قال عزَّ وجلَّ {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أَيْ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْغِنَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ الْحَمِيدُ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ وَيَقُولُهُ وَيُقَدِّرُهُ وَيُشَرِّعُهُ، وقوله تَعَالَى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أَيْ لَوْ شَاءَ لَأَذْهَبَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَأَتَى بِقَوْمٍ غَيْرِكُمْ وَمَا هَذَا عَلَيْهِ بِصَعْبٍ وَلَا مُمْتَنِعٍ، ولهذا قال تعالى: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ}، وقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا} أَيْ وَإِنْ تَدْعُ نَفْسٌ مُثْقَلَةٌ بِأَوْزَارِهَا إِلَى أَنْ تُسَاعَدَ عَلَى حَمْلِ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْأَوْزَارِ أَوْ بَعْضِهِ {لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} أي وإن كَانَ قَرِيبًا إِلَيْهَا حَتَّى وَلَوْ كَانَ أَبَاهَا أو ابنها، كل مشغول بنفسه وحاله، قال عكرمة في قوله تعالى: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا} الْآيَةَ، قَالَ: هُوَ الْجَارُ يَتَعَلَّقُ بِجَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ سَلْ هَذَا لِمَ كَانَ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونِي، وَإِنَّ الْكَافِرَ لَيَتَعَلَّقُ بِالْمُؤْمِنِ يَوْمَ القيامة فيقوله لَهُ: يَا مُؤْمِنُ إِنَّ لِي عِنْدَكَ يَدًا قد عرفت كيف كنت لك في الدينا، وَقَدِ احْتَجْتُ إِلَيْكَ الْيَوْمَ، فَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يَشْفَعُ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ، حَتَّى يَرُدَّهُ إِلَى مَنْزِلٍ دُونَ مَنْزِلِهِ، وَهُوَ فِي النَّارِ، وَإِنَّ الْوَالِدَ لَيَتَعَلَّقُ بِوَلَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ يَا بُنَيَّ أَيُّ وَالِدٍ كُنْتُ لَكَ فَيُثْنِي خَيْرًا، فَيَقُولُ لَهُ يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدِ احْتَجْتُ إِلَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ حَسَنَاتِكَ أَنْجُو بِهَا مِمَّا تَرَى، فَيَقُولُ لَهُ وَلَدُهُ: يَا أَبَتِ مَا أَيْسَرَ مَا طَلَبْتَ، وَلَكِنِّي أَتَخَوَّفُ مِثْلَ مَا تَتَخَوَّفُ، فَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا، ثُمَّ يَتَعَلَّقُ بِزَوْجَتِهِ فَيَقُولُ: يَا فُلَانَةُ أَوْ يَا هَذِهِ، أَيُّ زَوْجٍ كُنْتُ لَكِ فَتُثْنِي خَيْرًا، فَيَقُولُ لَهَا: إِنِّي أَطْلُبُ إِلَيْكِ حَسَنَةً واحدة تهبين لِي لَعَلِّي أَنْجُو بِهَا مِمَّا تَرَيْنَ، قَالَ، فَتَقُولُ: مَا أَيْسَرَ مَا طَلَبْتَ، وَلَكِنِّي لَا أُطِيقُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا إِنِّي أَتَخَوَّفُ مِثْلَ الذي تتخوف، يقول الله تعالى: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا} الْآيَةَ. وَيَقُولُ تبارك وتعالى: {لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن ولده شيئاً}، وَيَقُولُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يغنيه}، ثم قال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ} أَيْ إِنَّمَا يَتَّعِظُ بِمَا جِئْتَ بِهِ أُولُو الْبَصَائِرِ وَالنُّهَى، الْخَائِفُونَ مِنْ رَبِّهِمْ الْفَاعِلُونَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، {وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} أَيْ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّمَا يَعُودُ عَلَى نَفْسِهِ، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أَيْ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، وَسَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شرا فشر.

- 19 - وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ - 20 - وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ - 21 - وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ - 22 - وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلاَ الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ - 23 - إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ - 24 - إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ - 25 - وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ - 26 - ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ يَقُولُ تَعَالَى: كَمَا لَا تَسْتَوِي هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمُتَبَايِنَةُ الْمُخْتَلِفَةُ كَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، لَا يَسْتَوِيَانِ بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَبَوْنٌ كَثِيرٌ، وَكَمَا لَا تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ، كَذَلِكَ لَا تَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلاَ الْأَمْوَاتُ، وهذا

مثل ضربه الله تعالى لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمُ الْأَحْيَاءُ، وَلِلْكَافِرِينَ وَهُمُ الْأَمْوَاتُ، كَقَوْلِهِ تعالى: {أَوْ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ منها}. وقال عزَّ وجلَّ: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً}؟ فالمؤمن بصير سميع فِي نُورٍ يَمْشِي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ بِهِ الْحَالُ فِي الجنات ذات الظلال والعيون، والكافر أعمى وأصم فِي ظُلُمَاتٍ يَمْشِي لَا خُرُوجَ لَهُ مِنْهَا، بَلْ هُوَ يَتِيهُ فِي غَيِّهِ وَضَلَالِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، حَتَّى يُفْضِيَ بِهِ ذَلِكَ إِلَى الْحَرُورِ وَالسَّمُومِ وَالْحَمِيمِ {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ}، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ} أَيْ يَهْدِيهِمْ إِلَى سَمَاعِ الْحُجَّةِ وَقَبُولِهَا وَالِانْقِيَادِ لَهَا {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} أَيْ كَمَا لا يَنْتَفِعُ الْأَمْوَاتُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَصَيْرُورَتِهِمْ إِلَى قُبُورِهِمْ وَهُمْ كُفَّارٌ بِالْهِدَايَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا، كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ المشركون الذين كتب عليهم الشقاوة لا حلية لَكَ فِيهِمْ، وَلَا تَسْتَطِيعُ هِدَايَتَهُمْ {إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ}، أَيْ إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَالْإِنْذَارُ وَاللَّهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} أَيْ بَشِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَنَذِيرًا لِلْكَافِرِينَ، {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} أَيْ وَمَا مِنْ أُمَّةٍ خَلَتْ مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَّا وَقَدْ بَعَثَ الله تعالى إِلَيْهِمُ النُّذُرَ وَأَزَاحَ عَنْهُمُ الْعِلَلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الْآيَةَ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ الْبَاهِرَاتُ وَالْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَاتُ، {وَبِالزُّبُرِ} وَهِيَ الْكُتُبُ، {وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} أَيِ الْوَاضِحُ الْبَيِّنُ، {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}، أَيْ وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ كَذَّبَ أُولَئِكَ رُسُلَهُمْ فِيمَا جَاءُوهُمْ بِهِ فَأَخَذْتُهُمْ أَيْ بِالْعِقَابِ وَالنَّكَالِ، {فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} أَيْ فَكَيْفَ رَأَيْتَ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ عظيماً شديداً بليغاً؟ والله أعلم.

- 27 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ - 28 - وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عَزِيزٌ غفور قول تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ فِي خَلْقِهِ الْأَشْيَاءَ الْمُتَنَوِّعَةَ الْمُخْتَلِفَةَ مِنَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يُنْزِلُهُ مِنَ السَّمَاءِ، يُخْرِجُ بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا مِنْ أَصْفَرَ وَأَحْمَرَ وَأَخْضَرَ وَأَبْيَضَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَلْوَانِ الثِّمَارِ، كما هو الشاهد مِنْ تَنَوُّعِ أَلْوَانِهَا وَطَعُومِهَا وَرَوَائِحِهَا، كَمَا قَالَ تعالى في الآية الأخرى: {يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} أَيْ وَخَلَقَ الْجِبَالَ كَذَلِكَ مُخْتَلِفَةَ الْأَلْوَانِ كَمَا هُوَ الْمُشَاهِدُ أَيْضًا مِنْ بِيضٍ وَحُمْرٍ، وَفِي بَعْضِهَا طَرَائِقُ وَهِيَ الْجُدَدُ جَمْعُ جُدَّةٍ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ عباس: الجدد الطرائق، ومنها غرابيب سُودٌ، قَالَ عِكْرِمَةُ: الْغَرَابِيبُ الْجِبَالُ الطِّوَالُ السُّودُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْعَرَبُ إِذَا وَصَفُوا الْأَسْوَدَ بِكَثْرَةِ السَّوَادِ، قَالُوا: أَسْوَدُ غِرْبِيبٌ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} أي سود غرابيب، فيما قَالَهُ نَظَرٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} أي كذلك

الْحَيَوَانَاتُ مِنَ الْأَنَاسِيِّ (وَالدَّوَابِّ) وَهُوَ كُلُّ مَا دب على القوائم (وَالْأَنْعَامِ) مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِ كَذَلِكَ هِيَ مُخْتَلِفَةٌ أَيْضًا، فَالنَّاسُ مِنْهُمْ بَرْبَرٌ وحبوش فِي غَايَةِ السَّوَادِ، وَصَقَالِبَةٌ وَرُومٌ فِي غَايَةِ الْبَيَاضِ، وَالْعَرَبُ بَيْنَ ذَلِكَ، وَالْهُنُودُ دُونَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ وَالْأَنْعَامُ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ، حَتَّى فِي الجنس الواحد بل النوع الواحد، بَلِ الْحَيَوَانُ الْوَاحِدُ يَكُونُ أَبْلَقَ فِيهِ مِنْ هَذَا اللَّوْنِ، وَهَذَا اللَّوْنِ، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخالقين، وقد روى الحافظ البزار في مسنده عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: أيصبغ ربك؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ صَبْغًا لَا يُنْفَضُّ أَحْمَرَ وَأَصْفَرَ وَأَبْيَضَ» (قال ابن كثير: روي مُرْسَلًا وَمَوْقُوفًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ)، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} أَيْ إِنَّمَا يَخْشَاهُ حَقَّ خَشْيَتِهِ الْعُلَمَاءُ الْعَارِفُونَ بِهِ، لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ لِلْعَظِيمِ القدير أَتَمُّ وَالْعِلْمُ بِهِ أَكْمَلَ، كَانَتِ الْخَشْيَةُ لَهُ أعظم وأكثر. قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} قَالَ: الَّذِينَ يَعْلَمُونَ إن الله على كل شيء قدير، وعنه قال: العالم بالرحمن من عباده من لم يترك بِهِ شَيْئًا، وَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، وَحَفِظَ وَصِيَّتَهُ، وَأَيْقَنَ أَنَّهُ مُلَاقِيهِ وَمُحَاسَبٌ بِعَمَلِهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْخَشْيَةُ هِيَ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْعَالِمُ مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَرَغِبَ فِيمَا رَغِبَ اللَّهُ فِيهِ، وَزَهِدَ فِيمَا سَخِطَ اللَّهُ فِيهِ، ثُمَّ تَلَا الْحَسَنُ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْعِلْمُ عَنْ كَثْرَةِ الْحَدِيثِ وَلَكِنَّ الْعِلْمَ عَنْ كَثْرَةِ الْخَشْيَةِ، وَقَالَ مالك: إِنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا الْعِلْمُ نور يجعله الله في القلب، وقال سفيان الثوري: كان يقال: العلماء ثلاثة، عالم بالله وعالم بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَالِمٌ بِاللَّهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَالِمٍ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِاللَّهِ، فَالْعَالِمُ بِاللَّهِ وَبِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِي يَخْشَى اللهَ تعالى وَيَعْلَمُ الْحُدُودَ وَالْفَرَائِضَ، وَالْعَالِمُ بِاللَّهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ وَلَا يَعْلَمُ الحدود والفرائض، وَالْعَالِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِاللَّهِ الَّذِي يَعْلَمُ الْحُدُودَ وَالْفَرَائِضَ وَلَا يَخْشَى اللَّهَ عزَّ وجلَّ.

- 29 - إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ - 30 - لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ المؤمنين، الذين يتلون كتابه ويؤمنون به، ويعلمون بِمَا فِيهِ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَالْإِنْفَاقِ مِمَّا رزقهم الله تعالى سراً وعلانية بأنهم {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} أَيْ يَرْجُونَ ثَوَابًا عند الله لا بد من حصوله، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} أي ليوفيهم ثواب ما عملوه وَيُضَاعِفَهُ لَهُمْ بِزِيَادَاتٍ لَمْ تَخْطُرْ لَهُمْ، {إِنَّهُ غَفُورٌ} أَيْ لِذُنُوبِهِمْ، {شَكُورٌ} لِلْقَلِيلِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ مُطَرَّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ: هَذِهِ آيَةُ الْقُرَّاءِ.

- 31 - وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ -[147]- يَقُولُ تَعَالَى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْكِتَابِ وَهُوَ الْقُرْآنُ {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أَيْ مِنَ الكتب المتقدمة يصدقها، كا شهدت هي لَهُ بِالتَّنْوِيهِ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} أَيْ هُوَ خَبِيرٌ بِهِمْ بَصِيرٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مَا يُفَضِّلُهُ بِهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُ، وَلِهَذَا فَضَّلَ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَفَضَّلَ النَّبِيِّينَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، وَجَعَلَ مَنْزِلَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوْقَ جَمِيعِهِمْ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

- 32 - ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يَقُولُ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْنَا الْقَائِمِينَ بِالْكِتَابِ الْعَظِيمِ، الْمُصَدِّقُ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} وَهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ ثُمَّ قسمهم إلى ثلاثة أنواع فقال تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} وَهُوَ الْمُفَرِّطُ فِي فِعْلِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ الْمُرْتَكِبُ لِبَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ، {وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} وَهُوَ الْمُؤَدِّي لِلْوَاجِبَاتِ التَّارِكُ لِلْمُحَرَّمَاتِ وَقَدْ يَتْرُكُ بَعْضَ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَيَفْعَلُ بَعْضَ الْمَكْرُوهَاتِ، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ} وَهُوَ الْفَاعِلُ لِلْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات، قال ابن عباس فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} قَالَ: هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ورثهم الله تعالى كُلُّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ، فَظَالِمُهُمْ يُغْفَرُ لَهُ، وَمُقْتَصِدُهُمْ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَسَابِقُهُمْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حساب، روى الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَالْمُقْتَصِدُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَأَصْحَابُ الْأَعْرَافِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ عِوَجٍ وَتَقْصِيرٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الأمة ولا من المصطفين الوارثين للكتاب. رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} قال: هو الكافر، وقال مجاهد فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} قَالَ: هم أصحاب المشأمة، وقال الحسن وَقَتَادَةَ: هُوَ الْمُنَافِقُ، ثُمَّ قَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ كَالْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَآخِرِهَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَكَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُرُقٍ يَشُدُّ بعضها بعضاً، ونحن إن شاء الله تعالى نُورِدُ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْإِمَامُ أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ} قَالَ: «هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَكُلُّهُمْ فِي الجنة» (الحديث غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لم يسم، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ أخرى يتقوى بها هذا الحديث)، وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ: أَيْ فِي أَنَّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ فَرْقٌ فِي الْمَنَازِلِ فِي الجنة. الحديث الثاني: قال الإمام أحمد عن أبي

الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ} فَأَمَّا الَّذِينَ سَبَقُوا فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يُحَاسِبُونَ حِسَابًا يَسِيرًا، وَأَمَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يُحْبَسُونَ فِي طُولِ الْمَحْشَرِ، ثُمَّ هم الذين تلافاهم الله بِرَحْمَتِهِ، فَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يسمنا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} ". الحديث الثالث: قال الحافظ الطبراني عَنْ أُسامة بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله} الْآيَةَ، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ»، الْحَدِيثُ الرابع: قال ابن أبي حاتم عن عوف بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أمتي ثلاثة أثلاث، فَثُلُثٌ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، وَثُلُثٌ يُحَاسَبُونَ حِسَابًا يَسِيرًا ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَثُلُثٌ يُمَحَّصُونَ وَيُكْشَفُونَ، ثُمَّ تَأْتِي الْمَلَائِكَةُ فَيَقُولُونَ: وَجَدْنَاهُمْ يَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، يقول الله تعالى: صَدَقُوا، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا أَدْخِلُوهُمُ الْجَنَّةَ، بِقَوْلِهِمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَاحْمِلُوا خَطَايَاهُمْ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} (أخرجه ابن أبي حاتم وهو غريب جداً كما قال ابن كثير). (أثر عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ). قَالَ ابن جرير عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: إن هذه الأمة ثلاث أَثْلَاثٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُلُثٌ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَثُلُثٌ يُحَاسَبُونَ حِسَابًا يَسِيرًا، وَثُلُثٌ يَجِيئُونَ بذنوب عظام حتى يقول الله عزَّ وجلَّ مَا هَؤُلَاءِ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: هَؤُلَاءِ جَاءُوا بِذُنُوبٍ عِظَامٍ إِلَّا أَنَّهُمْ لم يشركوا بك شيئاً، فَيَقُولُ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ: أَدْخِلُوا هَؤُلَاءِ فِي سعة رحمتي، وتلا عبد الله رضي الله عنه هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الْآيَةَ. أَثَرٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عن عقبة بن صبهان الْهُنَائِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عن قول اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} الْآيَةَ، فَقَالَتْ لِي: «يَا بُنَيَّ هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ، أَمَّا السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ فَمَنْ مَضَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَيَاةِ والرزق، وأما المقتصد فمن اتبع أثراً مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى لَحِقَ بِهِ، وَأَمَّا الظَّالِمُ لنفسه فمثلي ومثلكم، قال فجعلت نفسها رضي الله عنها مَعَنَا»، وَهَذَا مِنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ بَابِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ، وَإِلَّا فَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ السَّابِقَيْنِ بِالْخَيْرَاتِ لِأَنَّ فَضْلَهَا عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ. وقال عوف الأعرابي، عن كعب الأحبار رحمه الله قال: إن للظالم لنفسه من هذه الأمة، والمتقصد، وَالسَّابِقَ بِالْخَيْرَاتِ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا - إلى قوله عزَّ وجلَّ - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} قَالَ: فَهَؤُلَاءِ أهل النار (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَوْفٍ عن كعب الأحبار)، وعن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قَالَ: إِنَّهَا أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، الظَّالِمُ مَغْفُورٌ لَهُ،

وَالْمُقْتَصِدُ فِي الْجِنَانِ عِنْدَ اللَّهِ، وَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ في الدرجات عند الله. فَهَذَا مَا تَيَسَّرَ مِنْ إِيرَادِ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْمَقَامِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِنَّ الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة في هذه الأمة، والعلماء أَغْبَطُ النَّاسِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِهَذِهِ الرحمة، فإنهم كما روى الإمام أحمد رحمه الله عَنْ قَيْسِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ من أهل المدينة إلى أبي الدرداء رضي الله عنه وَهُوَ بِدِمَشْقَ، فَقَالَ: مَا أَقْدَمَكَ أَيْ أَخِي؟ قَالَ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: أَمَا قَدِمْتَ لِتِجَارَةٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَمَا قَدِمْتَ لِحَاجَةٍ؟ قَالَ" لَا. قَالَ: أَمَا قَدِمْتَ إِلَّا فِي طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قال رضي الله عنه، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «من سلك طريقاً يطلب فيها علماً سلك الله تعالى بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالَمِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى الحِيتان فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالَمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ على سائر الكواكب، وإن الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فمن أخذ به أحذ بحظ وافر» (أخرجه الإمام أحمد ورواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة). وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ (سُورَةِ طه) حَدِيثُ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْعُلَمَاءِ إِنِّي لَمْ أَضَعْ عِلْمِي وَحِكْمَتِي فِيكُمْ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ وَلَا أُبَالِي».

- 33 - جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ - 34 - وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ - 35 - الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لغوب يخبر تعالى أن هَؤُلَاءِ الْمُصْطَفَيْنَ مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ أَوْرَثُوا الْكِتَابَ المنزل من رب العالمين يوم القيامة، مأواهم جَنَّاتُ عَدْنٍ، أَيْ جَنَّاتُ الْإِقَامَةِ يَدْخُلُونَهَا يَوْمَ معادهم وقدومهم على الله عزَّ وجلَّ {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ» {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}، وَلِهَذَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ في الدنيا فأباحه الله تعالى لهم في الْآخِرَةِ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ». وقال: «هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ». وقال ابن أبي حاتم، عن أبي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حدَّث أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ذكر حُلِيَّ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: «مُسَوَّرُونَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، مُكَلَّلَةٌ بِالدُّرِّ، وَعَلَيْهِمْ أَكَالِيلُ مِنْ دُرٍّ وَيَاقُوتٍ مُتَوَاصِلَةٌ، وَعَلَيْهِمْ تَاجٌ كَتَاجِ الْمُلُوكِ، شَبَابٌ جُرْدٌ مرد مكحولون». {وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} وَهُوَ الْخَوْفُ مِنَ الْمَحْذُورِ أَزَاحَهُ عَنَّا وَأَرَاحَنَا مِمَّا كُنَّا نَتَخَوَّفُهُ وَنَحْذَرُهُ مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا والآخرة، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وحشة في قبورهم ولا نشورهم، وَكَأَنِّي بِأَهْلِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) يَنْفُضُونَ التراب عن رؤوسهم وَيَقُولُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ» (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عمر مرفوعاً). وروى الطبراني، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وحشة في الموت ولا في

القبور وَلَا فِي النُّشُورِ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الصحية ينفضون رؤوسهم مِنَ التُّرَابِ يَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ"، قَالَ ابن عباس: غَفَرَ لَهُمُ الْكَثِيرَ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَشَكَرَ لَهُمُ الْيَسِيرَ مِنَ الْحَسَنَاتِ {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ} يَقُولُونَ: الَّذِي أَعْطَانَا هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، وَهَذَا الْمَقَامَ مِنْ فَضْلِهِ وَمَنِّهِ وَرَحْمَتِهِ، لَمْ تَكُنْ أَعْمَالُنَا تُسَاوِي ذَلِكَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمْ عملُه الجنةَ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ تعالى بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أَيْ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا عَنَاءٌ وَلَا إِعْيَاءٌ، والنَصب وَاللُّغُوبُ كُلٌّ مِنْهُمَا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّعَبِ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ يَنْفِي هَذَا وَهَذَا عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا تَعَبَ عَلَى أَبْدَانِهِمْ وَلَا أَرْوَاحِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْئَبُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْعِبَادَةِ فِي الدُّنْيَا، فَسَقَطَ عَنْهُمُ التَّكْلِيفُ بِدُخُولِهَا، وَصَارُوا فِي راحة دائمة مستمرة، قال الله تبارك وتعالى: {كُلُواْ وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الخالية}.

- 36 - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ - 37 - وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نصير لما ذكر تبارك وتعالى حال السعداء شرع في بيان ما للأشقياء، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لاَ يَمُوتُ فِيهَا ولا يحيى}، وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يحيون»، وقال عزَّ وجلَّ: {وَنَادَوْاْ يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إنكم ماكثون} فهم في حالهم يَرَوْنَ مَوْتَهُمْ رَاحَةً لَهُمْ، وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}، كما قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مبلسون}، وقال جلَّ وعلا: {كلما خبت زنادهم سعيراً}، {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إلا عذاباً}، ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كفور} أي هذا الجزاء كُلِّ مَنْ كَفَرَ بِرَبِّهِ وَكَذَّبَ بِالْحَقِّ، وَقَوْلُهُ جلت عظمته: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} أَيْ يُنَادُونَ فِيهَا يَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ بِأَصْوَاتِهِمْ: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} أَيْ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا غَيْرَ عَمَلِهِمْ الْأَوَّلِ، وَقَدْ عَلِمَ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ أَنَّهُ لَوْ رَدَّهُمْ إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا {لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فَلِهَذَا لَا يُجِيبُهُمْ إلى سؤالهم، ولذا قال ههنا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير}؟ أي أو ما عِشْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَعْمَارًا، لَوْ كُنْتُمْ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ بِالْحَقِّ لَانْتَفَعْتُمْ بِهِ فِي مُدَّةِ عُمْرِكُمْ؟ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مِقْدَارِ الْعُمُرِ الْمُرَادِ ههنا، فروي أنه مقدار سبع عشرة سنة (هذا قول علي ابن الحسين زين العابدين رضي الله عنهما)، وَقَالَ قَتَادَةُ: اعْلَمُوا أَنَّ طُولَ الْعُمُرِ حُجَّةٌ فَنَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نُعَيَّرَ بِطُولِ الْعُمُرِ، قَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} وَإِنَّ فِيهِمْ لِابْنِ ثَمَانِي عشرة سنة، وقال وهب بن منبه {أَوَلَمْ

نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} قَالَ: عشرين سنة، وقال الحسن: أربعين سنة، وقال مسروق: إِذَا بَلَغَ أَحَدُكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَلْيَأْخُذْ حِذْرَهُ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ (وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنِ ابن عباس رضي الله عنهما). وروى ابن جرير عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: العمر الذي أعذر الله لابن آدَمَ {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} أربعون سنة، وهذا هو اختيار ابن جرير، ثم روي عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: الْعُمُرُ الَّذِي أَعْذَرَ اللَّهُ فِيهِ لِابْنِ آدَمَ فِي قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} سِتُّونَ سَنَةً، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أصح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَيْضًا، لِمَا ثبت في ذلك من الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لقد أعذر الله تعالى إِلَى عَبْدٍ أَحْيَاهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ أَوْ سبعين سنة، لقد أعذر الله تعالى إليه، لقد أعذر الله تعالى إليه» (أخرجه الإمام أحمد وفي لفظ للنسائي «من عمّره الله تعالى سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ إِلَيْهِ فِي الْعُمْرِ». وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْذَرَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ إِلَى امْرِئٍ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة»، وفي رواية: «مَنْ أَتَتْ عَلَيْهِ سِتُّونَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ الله عزَّ وجلَّ إليه في العمر» (أخرجه ابن أبي حاتم والإمام أحمد). وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْعُمُرَ الطَّبِيعِيَّ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَالْإِنْسَانُ لَا يَزَالُ فِي ازْدِيَادٍ إِلَى كَمَالِ السِّتِّينَ، ثُمَّ يَشْرَعُ بَعْدَ هَذَا فِي النَّقْصِ وَالْهَرَمِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا بَلَغَ الْفَتَى سِتِّينَ عَامًا * فَقَدْ ذَهَبَ الْمَسَرَّةُ وَالْفَتَاءُ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا هُوَ الْعُمُرُ الذي يعذر الله تعالى إلى عباده به، ويزيح عَنْهُمُ الْعِلَلَ، كَانَ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَعْمَارِ هذه الأمة، كما ورد بذلك الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ وأقلهم من يجوز ذلك» (أخرجه الترمذي وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ). وقوله تعالى: {وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ} رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وقتادة أَنَّهُمْ قَالُوا: يَعْنِي الشَّيْبَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَعَبْدُ الرحمن بن زيد: يعني بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ: {هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأولى} وهذا هو الصحيح عن قتادة أَنَّهُ قَالَ: احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالْعُمُرِ وَالرُّسُلِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} أَيْ لَقَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْحَقَّ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ فَأَبَيْتُمْ وَخَالَفْتُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ * فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ}، وقوله تعالى: {فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} أَيْ فَذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ، جَزَاءً عَلَى مُخَالَفَتِكُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ فِي مدة أعمالكم، فَمَا لَكَمَ الْيَوْمَ نَاصِرٌ يُنْقِذُكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْأَغْلَالِ.

- 38 - إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ - 39 - هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي -[152]- الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا يُخْبِرُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ يَعْلَمُ ما تكنه السرائر، ما تنطوي عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ، وَسَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، ثُمَّ قال عزَّ وجلَّ {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الْأَرْضِ} أَيْ يخلف قوم لآخرين وجيل لجيل قبلهم، {فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أَيْ فَإِنَّمَا يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ {وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً} أَيْ كُلَّمَا اسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ أَبْغَضُهُمُ اللَّهُ تعالى، وَكُلَّمَا اسْتَمَرُّوا فِيهِ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُمْ كُلَّمَا طَالَ عُمُرُ أَحَدِهِمْ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، ارْتَفَعَتْ دَرَجَتُهُ وَمَنْزِلَتُهُ فِي الْجَنَّةِ وَزَادَ أَجْرُهُ، وَأَحَبَّهُ خَالِقُهُ وَبَارِئُهُ رَبُّ العالمين.

- 40 - قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلَّا غُرُورًا - 41 - إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُورًا يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ: {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، وَقَوْلُهُ: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ} أَيْ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ كتاباً بما يقولونه مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ {بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً} أَيْ بَلْ إِنَّمَا اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ أَهْوَاءَهُمْ وَأَمَانِيَّهُمُ الَّتِي تَمَنَّوْهَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَهِيَ غُرُورٌ وَبَاطِلٌ وَزُورٌ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ، الَّتِي بِهَا تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ عَنْ أَمْرِهِ، وَمَا جُعِلَ فِيهِمَا مِنَ الْقُوَّةِ الْمَاسِكَةِ لَهُمَا فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولاَ} أَيْ أَنْ تَضْطَرِبَا عَنْ أَمَاكِنِهِمَا كَمَا قال عزَّ وجلَّ {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ}، {وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِن بَعْدِهِ} أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَوَامِهِمَا وَإِبْقَائِهِمَا إِلَّا هُوَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ حَلِيمٌ غَفُورٌ، أَيْ يَرَى عِبَادَهُ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِهِ وَيَعْصُونَهُ، وَهُوَ يَحْلُمُ فَيُؤَخِّرُ وَيَنْظُرُ وَيُؤَجِّلُ وَلَا يَعْجَلُ، ويستر آخرين ويغفر، ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «إن الله تعالى لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ أَوِ النَّارُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ».

- 42 - وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا - 43 - اسْتِكْبَارًا فِي الأرض ومكر السيء وَلاَ يَحِيقُ المكر السيء إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ

فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} قَبْلَ إِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ {لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} أَيْ مِنْ جَمِيعِ الأمم الذين أرسل إليهم الرسل، كقوله تعالى: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وهدى ورحمة}، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ المخلصين. فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يعلمون}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ} وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أُنْزِلَ مَعَهُ مِنَ الْكِتَابِ الْعَظِيمِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمُبِينُ {مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} أي ما زادوا إِلَّا كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ، ثُمَّ بيَّن ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ} أَيِ اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتباع آيات الله، {وَمَكْرَ السيء} أَيْ وَمَكَرُوا بِالنَّاسِ فِي صَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ سبيل الله، {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} أَيْ وَمَا يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: ثَلَاثٌ مِنْ فَعَلَهُنَّ لَمْ يَنْجُ حَتَّى يَنْزِلَ بِهِ، مِنْ مَكْرٍ، أَوْ بَغْيٍ، أَوْ نَكْثٍ، وَتَصْدِيقُهَا فِي كتاب الله تعالى: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيء إِلاَّ بِأَهْلِهِ}، {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ}، {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ}، وقوله عزَّ وجلَّ: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ} يَعْنِي عُقُوبَةَ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ وَمُخَالَفَتِهِمْ أَمْرَهُ، {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} أَيْ لَا تُغَيَّرُ وَلَا تُبَدَّلُ بَلْ هِيَ جَارِيَةٌ كَذَلِكَ فِي كُلِّ مُكَذِّبٍ {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} أَيْ {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} ولا يكشف ذلك عنهم ولا يتولهم عنهم أحد، والله أعلم.

- 44 - أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيرًا - 45 - وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا يَقُولُ تعالى: قل يا محد لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ، بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ، سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ، كَيْفَ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فخلت مِنْهُمْ مَنَازِلُهُمْ، وَسُلِبُوا مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النعيم، بَعْدَ كَمَالِ الْقُوَّةِ وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، وَكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، فَمَا أَغْنَى ذَلِكَ شَيْئًا وَلَا دَفَعَ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، لأنه تعالى لا يعجزه شيء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} أَيْ عَلِيمٌ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، قَدِيرٌ عَلَى مَجْمُوعِهَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} أَيْ لَوْ آخَذَهُمْ بِجَمِيعِ ذُنُوبِهِمْ لَأَهْلَكَ جميع أهل السماوات والأرض، وما يملكونه من دواب وأرزاق، قال سعيد بن جبير والسدي في قوله تعالى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} أَيْ لَمَا سَقَاهُمُ الْمَطَرُ فَمَاتَتْ جَمِيعُ الدَّوَابِّ {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أَيْ وَلَكِنْ يُنْظِرُهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيُحَاسِبُهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَيُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، فَيُجَازِي بِالثَّوَابِ أَهْلَ الطَّاعَةِ، وَبِالْعِقَابِ أهل المعصية، ولهذا قال تبارك وتعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بصيراً}.

36 - سورة يس

- 36 - سورة يس

[مقدمة] روى الترمذي عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا، وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس، وَمَنْ قَرَأَ يس كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِقِرَاءَتِهَا قِرَاءَةَ القرآن عشر مرات» (أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب)، وروى الحافظ أبو يعلى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ يس فِي لَيْلَةٍ أَصْبَحَ مَغْفُورًا له، ومن قرأ حم التي يذكر فيها الدخان أصبح مغفوراً له» (أخرجه الحافظ الموصلي وإسناده جيد كذا قال ابن كثير). وقال ابن حبان في صحيحه عن جندب بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ يس فِي لَيْلَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله عزَّ وجلَّ غفر له». وروى الإمام أحمد: عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «اقرأوها على موتاكم» يعني يس (أخرجه أحمد ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه). وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهَا لَا تُقْرَأُ عِنْدَ أَمْرٍ عَسِيرٍ إلا يسره الله تعالى، وَكَانَ قِرَاءَتَهَا عِنْدَ الْمَيِّتِ لِتُنْزِلَ الرَّحْمَةَ وَالْبَرَكَةَ، وليسهل عليه خروج الروح والله تعالى أعلم، قال الإمام أحمد رحمه الله: كَانَ الْمَشْيَخَةُ يَقُولُونَ: إِذَا قُرِئَتْ - يَعْنِي يس - عند الميت خفف الله عنه بها، وروى البزار عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوَدِدْتُ أَنَّهَا فِي قَلْبِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أمتي» (أخرجه الحافظ البزار) يعني يس.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - يس - 2 - وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ - 3 - إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ - 4 - عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - 5 - تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ - 6 - لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ - 7 - لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ

قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (وهو قول عكرمة والضحاك والحسن وسفيان بن عيينة كذلك) أَنَّ {يس} بِمَعْنَى يَا إِنْسَانُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ كَذَلِكَ فِي لُغَةِ الْحَبَشَةِ، وقال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} أَيِ الْمُحْكَمِ الَّذِي لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خلفه، {إِنَّكَ} أي يَا مُحَمَّدُ {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أَيْ عَلَى مَنْهَجٍ وَدِينٍ قَوِيمٍ وَشَرْعٍ مُسْتَقِيمٍ، {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أَيْ هَذَا الصِّرَاطُ وَالْمَنْهَجُ والدين الذي جئت به، تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعِزَّةِ الرَّحِيمِ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} يَعْنِي بِهِمُ الْعَرَبَ، فَإِنَّهُ مَّآ أَتَاهُم مِّن نذير من قبله، وقوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ}، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَقَدْ وَجَبَ الْعَذَابُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، بِأَنَّ الله تعالى قَدْ حَتَّمَ عَلَيْهِمْ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بِاللَّهِ وَلَا يصدقون.

- 8 - إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ - 9 - وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ - 10 - وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ - 11 - إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ - 12 - إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٌ يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلَنَا هَؤُلَاءِ الْمَحْتُومَ عَلَيْهِمْ بالشقاء، كمن جُعِلَ فِي عُنُقِهِ غِلٌّ، فَجَمَعَ يَدَيْهِ مَعَ عُنُقِهِ تَحْتَ ذَقَنِهِ، فَارْتَفَعَ رَأْسُهُ فَصَارَ مُقْمَحًا، ولهذا قال تعالى: {فَهُم مُّقْمَحُونَ} وَالْمُقْمَحُ هُوَ الرَّافِعُ رَأْسَهُ، كَمَا قَالَتْ أُمُّ زَرْعٍ فِي كَلَامِهَا: وَأَشْرَبُ فَأَتَقَمَّحُ، أَيْ أَشْرَبُ فَأُرْوَى وَأَرْفَعُ رَأْسِي تَهْنِيئًا وَتَرَوِّيًا، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْغِلِّ فِي الْعُنُقِ عَنْ ذِكْرِ اليدين وإن كانت مُرَادَتَيْنِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا * أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يليني. فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ الشَّرِّ، لَمَّا دل الكلام والسياق عليه، وهكذا هَذَا، لَمَّا كَانَ الْغُلُّ إِنَّمَا يُعْرَفُ فِيمَا جَمَعَ الْيَدَيْنِ مَعَ الْعُنُقِ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْعُنُقِ عن اليدين، قال ابن عباس: هو كقوله عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ أَيْدِيَهُمْ مُوثَقَةٌ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَبْسُطُوهَا بِخَيْرٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَهُم مُّقْمَحُونَ} قال: رافعي رؤوسهم وَأَيْدِيهِمْ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، فَهُمْ مَغْلُولُونَ عَنْ كل خير، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً}، قَالَ مُجَاهِدٌ عن الحق: {ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} عَنِ الْحَقِّ فَهُمْ يَتَرَدَّدُونَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي الضلالات، وقوله تعالى: {فَأغْشَيْنَاهُمْ} أَيْ أَغْشَيْنَا أَبْصَارَهُمْ عَنِ الْحَقِّ {فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} أَيْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِخَيْرٍ وَلَا يهتدون إليه، قال عبد الرحمن بن زيد: جعل الله تعالى هَذَا السَّدَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، فَهُمْ لَا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ، وَقَرَأَ: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ العذاب

الأليم}، ثم قال: مَن منعه الله تعالى لَا يَسْتَطِيعُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتَ مُحَمَّدًا لَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ فَأُنْزِلَتْ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً - إِلَى قَوْلِهِ - فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} قَالَ: وَكَانُوا يَقُولُونَ هَذَا مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: أَيْنَ هُوَ أَيْنَ هُوَ؟ لَا يُبْصِرُهُ (أخرجه ابْنُ جَرِيرٍ). وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَهُمْ جُلُوسٌ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّكُمْ إِنْ تَابَعْتُمُوهُ كُنْتُمْ مُلُوكًا فَإِذَا مُتُّمْ بُعِثْتُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، وَكَانَتْ لَكُمْ جِنَانٌ خَيْرٌ مِنْ جِنَانِ الْأُرْدُنِّ، وَأَنَّكُمْ إِنْ خَالَفْتُمُوهُ كَانَ لَكُمْ مِنْهُ ذَبْحٌ ثُمَّ بُعِثْتُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ وَكَانَتْ لكم ناراً تُعَذَّبُونَ بِهَا، وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ وَفِي يَدِهِ حفنة من تراب، وقد أخذ الله تعالى على أعينهم دونه، فجعل يذرها على رؤوسهم وَيَقْرَأُ: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ - حَتَّى انْتَهَى إِلَى قوله تعالى - وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}، وَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ وَبَاتُوا رُصَدَاءَ عَلَى بَابِهِ حَتَّى خَرَجَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ خَارِجٌ مِنَ الدَّارِ، فَقَالَ: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: نَنْتَظِرُ مُحَمَّدًا، قَالَ: قَدْ خَرَجَ عَلَيْكُمْ، فما بقي منكم من رجل إلا وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، ثُمَّ ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ، فَجَعَلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَنْفُضُ مَا عَلَى رَأْسِهِ مِنَ التُّرَابِ، قَالَ: وَقَدْ بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ فَقَالَ: «وَأَنَا أَقُولُ ذَلِكَ إِنَّ لَهُمْ مِنِّي لذبحاً وإنه لآخذهم». وقوله تبارك وتعالى: {وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} أَيْ قَدْ خَتَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالَةِ، فَمَا يُفِيدُ فِيهِمُ الْإِنْذَارُ وَلَا يَتَأَثَّرُونَ بِهِ، {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أَيْ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِإِنْذَارِكَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ {الذِّكْر} وَهُوَ القرآن العظيم، {وَخشِيَ الرحمن بالغيب} أَيْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ تبارك وتعالى، يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ وَعَالَمٌ بِمَا يفعل، {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} أَيْ لِذُنُوبِهِ {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أَيْ كثير واسع حسن جميل كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (أخرجه ابن جرير). ثم قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي قلب من يشآء من الكفار، الذين مَاتَتْ قُلُوبُهُمْ بِالضَّلَالَةِ، فَيَهْدِيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وقوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} أَيْ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَفِي قوله تعالى: {وَآثَارَهُمْ} قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: نَكْتُبُ أَعْمَالَهُمُ الَّتِي بَاشَرُوهَا بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فيجزيهم عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عليها وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا» (أخرجه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي وهو طويل وفيه قصة مجتابي النمار المضريين). وهكذا الحديث الآخر: "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: مِنْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ ولدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ، أَوْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ من بعده" (أخرجه مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مرفوعاً). وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ} قَالَ: مَا أَوْرَثُوا من الضلالة، وقال سعيد بن جبير: {وَآثَارَهُمْ} يَعْنِي مَا أَثَرُوا، يَقُولُ: مَا سَنُّوا مِنْ سُنَّةٍ فَعَمِلَ بِهَا قَوْمٌ مِنْ بَعْدِ

موتهم، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ الْبَغَوِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ آثَارُ خُطَاهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ أو المعصية، قال مُجَاهِدٍ: {مَا قَدَّمُواْ} أَعْمَالُهُمْ {وَآثَارَهُمْ} قَالَ: خُطَاهُمْ بأرجلهم (وهو قول الحسن وقتادة). وقال قتادة: لو كان الله عزَّ وجلَّ مُغْفِلًا شَيْئًا مِنْ شَأْنِكَ يَا ابْنَ آدَمَ أغفل ما تغفل الرِّيَاحُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ، وَلَكِنْ أَحْصَى عَلَى ابْنِ آدَمَ أَثَرَهُ وَعَمَلَهُ كُلَّهُ، حَتَّى أَحْصَى هَذَا الْأَثَرَ فِيمَا هُوَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تعالى أو مَعْصِيَتِهِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكْتُبَ أَثَرَهُ في طاعة الله تعالى فَلْيَفْعَلْ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ. الحديث الأول: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قَالَ: خَلَتِ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، فَأَرَادَ بَنُو سَلَمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لَهُمْ: «إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ»، قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قد أردنا ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "يَا بَنِي سَلَمَةَ: دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ، دِيَارَكُمْ تكتب آثاركم" (أخرجه أحمد والإمام مسلم). الحديث الثاني: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ بَنُو سَلَمَةَ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَنَزَلَتْ: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ} فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ آثَارَكُمْ تُكْتَبُ» فَلَمْ ينتقلوا (أخرجه ابن أبي حاتم والترمذي وقال الترمذي: حسن غريب). وروى الحافظ البزار، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ بَنِي سَلَمَةَ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعْدَ مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ فَنَزَلَتْ: {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ} فأقاموا في مكانهم. الحديث الثالث: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتِ الْأَنْصَارُ بَعِيدَةً مَنَازِلُهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ فَأَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى الْمَسْجِدِ فَنَزَلَتْ {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ} فثبتوا في منازلهم (أخرجه الطبراني وهو حديث موقوف). الحديث الرابع: عن عبد الله بن عمرو رضي لله عنهما قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «يَا لَيْتَهُ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْلِدِهِ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا تُوُفِّيَ فِي غَيْرِ مَوْلِدِهِ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطِعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّةِ» (أخرجه الإمام أحمد والنسائي). وروى ابن جرير عن ثابت قال: مشيت مع أنَس رضي الله عنه فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ فَأَخَذَ بِيَدِي فَمَشَيْنَا رُوَيْدًا، فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ قَالَ أنَس: مَشَيْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ، فَقَالَ: يَا أنَس أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ الْآثَارَ تُكْتَبُ؟ وَهَذَا الْقَوْلُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ، بَلْ فِي هَذَا تَنْبِيهٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الأَوْلى وَالْأَحْرَى، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآثَارُ تُكْتَبُ فَلَأَنْ تُكْتَبَ تِلْكَ الَّتِي فِيهَا قُدْوَةٌ بِهِمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَاللَّهُ أعلم. وقوله تَعَالَى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} أَيْ وجميع الْكَائِنَاتِ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابٍ مَسْطُورٍ مَضْبُوطٍ فِي لوح محفوظ، {والإمام المبين} ههنا هو أم الكتاب، قاله مجاهد وقتادة وكذا في قوله تعالى: {يوم ندعو كل ناس بِإِمَامِهِمْ} أَيْ بِكِتَابِ أَعْمَالِهِمِ الشَّاهِدِ عَلَيْهِمْ بِمَا عَمِلُوهُ من خير أو شر كما قال عزَّ وجلَّ: {وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهداء}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أحداً}.

- 13 - وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ - 14 - إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ - 15 - قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ - 16 - قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ - 17 - وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ يَقُولُ تَعَالَى وَاضْرِبْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ الَّذِينَ كَذَّبُوكَ {مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ}. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا بلغه عن ابن عباس وكعب الأحبار: إِنَّهَا مَدِينَةُ أَنْطَاكِيَةَ، وَكَانَ بِهَا مَلِكٌ يُقَالُ له (أنطيقس) كان يعبد الأصنام، فبعث الله تعالى إليه ثلاثة من الرسل وهم (صادق) و (صدوق) و (شلوم) فكذبهم. وقوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} أَيْ بَادَرُوهُمَا بالكتذيب، {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أَيْ قَوَّيْنَاهُمَا وَشَدَدْنَا أَزْرَهُمَا بِرَسُولٍ ثالث (قال ابن جريج: كان اسم الرسولين (شمعون) و (يوحنا) واسم الثالث (بولص) والقرية انطاكية، وقال ابن كثير: وزعم قتادة أَنَّهُمْ كَانُوا رُسُلَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أهل أَنْطَاكِيَةُ)، {فَقَالُوا} أَيْ لِأَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ {إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} أَيْ مِنْ رَبِّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ يأمركم بعبادته وحده لا شريك له، {قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} أَيْ فَكَيْفَ أُوحِيَ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ بَشَرٌ وَنَحْنُ بَشَرٌ! فَلِمَ لَا أُوحِيَ إِلَيْنَا مِثْلَكُمْ؟ وَلَوْ كُنْتُمْ رسلاً لكنتم ملائمة، وهذه شبهة كَثِيرٍ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تعالى عنهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا}! أي استعجبوا من ذلك وأنكروه، كما قال تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً}! وَلِهَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ: {مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} أَيْ أَجَابَتْهُمْ رُسُلُهُمُ الثَّلَاثَةُ قَائِلِينَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّا رُسُلُهُ إِلَيْكُمْ، وَلَوْ كُنَّا كَذَبَةً عَلَيْهِ لَانْتَقَمَ مِنَّا أَشَدَّ الِانْتِقَامِ، وَلَكِنَّهُ سَيُعِزُّنَا وَيَنْصُرُنَا عَلَيْكُمْ وَسَتَعْلَمُونَ لِمَنْ تَكُونُ عَاقِبَةُ الدَّارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شهيداً}، {وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} يَقُولُونَ: إِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نُبَلِّغَكُمْ مَا أُرْسِلْنَا بِهِ إِلَيْكُمْ، فإذا أطعتم كانت السَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ لَمْ تُجِيبُوا فَسَتَعْلَمُونَ غِبَّ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

- 18 - قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ - 19 - قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ أَهْلُ الْقَرْيَةِ: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أَيْ لَمْ نَرَ عَلَى وُجُوهِكُمْ خَيْرًا فِي عَيْشِنَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُونَ إِنْ أَصَابَنَا شَرٌّ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِكُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُونَ: لَمْ يَدْخُلْ مِثْلُكُمْ إِلَى قَرْيَةٍ إِلَّا عُذِّبَ أَهْلُهَا {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ}، قَالَ قَتَادَةُ: بِالْحِجَارَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالشَّتْمِ {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ عُقُوبَةٌ شَدِيدَةٌ، فَقَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ: {طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} أَيْ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ، كقوله تعالى في قوم فرعون: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله}، وَقَالَ قَوْمُ صَالِحٍ: {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عند الله}، وَقَالَ قَتَادَةُ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَيْ أَعْمَالُكُمْ معكم، وقوله تعالى: {أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}

أي من أجل هذا أَنَّا ذَكَّرْنَاكُمْ وَأَمَرْنَاكُمْ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ، قَابَلْتُمُونَا بِهَذَا الْكَلَامِ وَتَوَعَّدْتُمُونَا وَتَهَدَّدْتُمُونَا، {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ إِنْ ذكرناكم بالله تطيرتم منا بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ.

- 20 - وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ - 21 - اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ - 22 - وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ - 23 - أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلَا يُنْقِذُونِ - 24 - إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ - 25 - إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ قَالَ وهب بْنِ مُنَبِّهٍ: إِنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ هَمُّوا بِقَتْلِ رُسُلِهِمْ، فَجَاءَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى لِيَنْصُرَهُمْ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: وَهُوَ (حَبِيبٌ) وَكَانَ يعمل الحرير وهو الحباك، وَكَانَ رَجُلًا سَقِيمًا قَدْ أَسْرَعَ فِيهِ الْجُذَامُ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ يَتَصَدَّقُ بِنِصْفِ كَسْبِهِ مُسْتَقِيمَ الفطرة (ذكره ابن إسحاق عن كعب الأحبار ووهب بن منبه)، وقال ابن عباس: اسْمُ صَاحِبِ يس (حَبِيبٌ النَّجَّارُ) فَقَتَلَهُ قَوْمُهُ، وقال السدي: كان قصاراً، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي غَارٍ هُنَاكَ، {قال يا قوم اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} يَحُضُّ قَوْمَهُ عَلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَتَوْهُمْ {اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} أَيْ عَلَى إِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} فِيمَا يدعونكم إليه عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} أَيْ وَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّذِي خَلَقَنِي وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ يَوْمَ الْمَعَادِ فَيُجَازِيكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً}؟ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ {إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ} أَيْ هَذِهِ الْآلِهَةُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِهِ، لَا يَمْلِكُونَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْئًا، فَإِنَّ الله تعالى لَوْ أَرَادَنِي بِسُوءٍ، {فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هو}، وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ لَا تَمْلِكُ دَفْعَ ذَلِكَ وَلَا مَنْعَهُ، وَلَا يُنْقِذُونَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ {إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} أَيْ إِنِ اتَّخَذْتُهَا آلهة من دون الله، وقوله تعالى: {إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: يَقُولُ لِقَوْمِهِ {إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ} الَّذِي كَفَرْتُمْ بِهِ {فَاسْمَعُونِ} أَيْ فَاسْمَعُوا قَوْلِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابُهُ لِلرُّسُلِ بِقَوْلِهِ {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} أَيِ الَّذِي أَرْسَلَكُمْ {فَاسْمَعُونِ} أَيْ فَاشْهَدُوا لِي بِذَلِكَ عِنْدَهُ، وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فَقَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ خَاطَبَ بِذَلِكَ الرُّسُلَ وَقَالَ لَهُمْ: اسْمَعُوا قَوْلِي لِتَشْهَدُوا لِي بِمَا أَقُولُ لكم عند ربي، إني آمنت بربكم واتبعتكم، وهذا القول أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ ابْنُ إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس: فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ وَثَبُوا عَلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَقَتَلُوهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ يَمْنَعُ عَنْهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: جَعَلُوا يَرْجُمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَقَعَصُوهُ، وَهُوَ يَقُولُ كَذَلِكَ، فَقَتَلُوهُ رَحِمَهُ اللَّهُ.

- 26 - قيل ادخل الجنة قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ - 27 - بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ - 28 - وَمَآ أَنزَلْنَا على

قَوْمِهِ مِنَ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ - 29 - إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ قال ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّهُمْ وَطِئُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ حَتَّى خَرَجَ قصه مِنْ دُبُرِهِ، وَقَالَ اللَّهُ لَهُ: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} فدخلها، فهو يرزق فيها قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ سُقْمَ الدُّنْيَا وَحُزْنَهَا وَنَصَبَهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قِيلَ لِحَبِيبٍ النَّجَّارِ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قُتِلَ فَوَجَبَتْ لَهُ، فَلَمَّا رَأَى الثَّوَابَ {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَلْقَى الْمُؤْمِنَ إِلَّا نَاصِحًا ولا تَلْقَاهُ غَاشًّا، لَمَّا عَايَنَ مَا عَايَنَ مِنْ كرامة الله تعالى {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين} تمنى والله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله وَمَا هَجَمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَصَحَ قومه في حياته بقوله: {يا قوم اتبعوا المرسلين}، وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فِي قَوْلِهِ: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين} (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما)، وقال سفيان الثوري عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ: {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} بِإِيمَانِي بِرَبِّي وَتَصْدِيقِي الْمُرْسَلِينَ، وَمَقْصُودُهُ أَنَّهُمْ لَوِ اطَّلَعُوا عَلَى مَا حَصَلَ لي مِنْ هَذَا الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، لَقَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ، فَلَقَدْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ قَوْمِهِ. وقال محمد بن إسحاق، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ (حَبِيبُ بن زيد) الذي كان مسليمة الكذاب قطعه باليمامة، حين جعل يسأل عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل يقول له: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَيَقُولُ: لَا أَسْمَعُ، فيقول له مسليمة لعنه الله: أَتَسْمَعُ هَذَا وَلَا تَسْمَعُ ذَاكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَجَعَلَ يُقَطِّعُهُ عُضْوًا عُضْوًا كُلَّمَا سَأَلَهُ لَمْ يَزِدْهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ فِي يَدَيْهِ، فَقَالَ كَعْبٌ حِينَ قِيلَ لَهُ اسْمُهُ حَبِيبٌ: وَكَانَ وَاللَّهِ صَاحِبُ يس اسْمَهُ حَبِيبٌ. وَقَوْلُهُ تبارك وتعالى: {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنَ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ انْتَقَمَ مِنْ قَوْمِهِ بَعْدَ قَتْلِهِمْ إياه غضباً منه تبارك وتعالى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُ وَقَتَلُوا وَلَيَّهُ، وَيَذْكُرُ عزَّ وجلَّ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ وَمَا احْتَاجَ فِي إِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى إِنْزَالِ جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ، بَلِ الْأَمْرُ كَانَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ (قاله ابن مسعود والمعنى مَا كَاثَرْنَاهُمْ بِالْجُمُوعِ، الْأَمْرُ كَانَ أَيْسَرَ عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ)، {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} فأهلك الله تعالى ذَلِكَ الْمَلِكَ، وَأَهْلَكَ أَهْلَ أَنْطَاكِيَةَ فَبَادُوا عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ، وَقِيلَ: {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} أَيْ وَمَا كُنَّا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الْأُمَمِ إِذَا أَهْلَكْنَاهُمْ، بَلْ نَبْعَثُ عَلَيْهِمْ عَذَابًا يُدَمِّرُهُمْ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تعالى {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنَ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ} أَيْ مِنْ رِسَالَةٍ أُخرى إليهم (قاله مجاهد وقتادة وقول ابن مسعود أظهر والله أعلم) قَالَ قَتَادَةُ: فَلَا وَاللَّهِ مَا عَاتَبَ اللَّهُ قَوْمَهُ بَعْدَ قَتْلِهِ {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تُسَمَّى جُنْدًا. قال المفسرون: بعث الله تعالى إليهم جبريل عليه الصلاة والسلام، فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيْ بَابِ بَلَدِهِمْ، ثُمَّ صَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هم خامدون عن آخرتهم لم تبق بهم رُوحٌ تَتَرَدَّدُ فِي جَسَدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْقَرْيَةَ هِيَ (أَنْطَاكِيَةُ) وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ كَانُوا رُسُلًا مِنْ عند المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام كما نص عليه قتادة وغيره، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْقِصَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا رُسُلَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لَا مِنْ جِهَةِ المسيح عليه السلام كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا

إِنَّآ إِلَيْكُمْ مرسلون}، وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ لَقَالُوا عِبَارَةً تُنَاسِبُ أَنَّهُمْ مِنْ عِنْدِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ لَوْ كَانُوا رُسُلَ الْمَسِيحِ لَمَا قَالُوا لهم {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا}. الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ أَنْطَاكِيَةَ آمَنُوا بِرُسُلِ الْمَسِيحِ إليهم، وكانت أَوَّلَ مَدِينَةٍ آمَنَتْ بِالْمَسِيحِ وَلِهَذَا كَانَتْ عِنْدَ النصارى إحدى المدائن الأربع اللَّاتِي فِيهِنَّ بِتَارِكَةٌ، وَهُنَّ (الْقُدْسُ) لِأَنَّهَا بَلَدُ المسيح، و (أنطاكية) لِأَنَّهَا أَوَّلُ بَلْدَةٍ آمَنَتْ بِالْمَسِيحِ عَنْ آخِرِ أهلها، و (الاسكندرية) لِأَنَّ فِيهَا اصْطَلَحُوا عَلَى اتِّخَاذِ الْبَتَارِكَةِ وَالْمَطَارِنَةِ والأساقفة والقساوسة، ثُمَّ (رُومِيَّةُ) لِأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلَكِ قُسْطَنْطِينَ الَّذِي نصر دينهم وأوطده، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ أَنْطَاكِيَةَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ آمَنَتْ، فأهل هذه القرية ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَأَنَّهُ أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم، والله أَعْلَمُ. الثَّالِثُ: أَنَّ قِصَّةَ أَنْطَاكِيَةَ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ بَعْدَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ، وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ الله تبارك وتعالى بَعْدَ إِنْزَالِهِ التَّوْرَاةَ، لَمْ يُهْلِكْ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ عَنْ آخِرِهِمْ بِعَذَابٍ يَبْعَثُهُ عَلَيْهِمْ، بَلْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، ذَكَرُوهُ عند قوله تبارك وتعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى}، فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ أَنَّ هَذِهِ الْقَرْيَةَ الْمَذْكُورَةَ في القرآن قَرْيَةٌ أُخْرى غَيْرُ (أَنْطَاكِيَةَ) كَمَا أَطْلَقَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَيْضًا، أَوْ تَكُونُ أَنْطَاكِيَةُ إِنْ كَانَ لَفْظُهَا مَحْفُوظًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَدِينَةً أُخرى غَيْرَ هَذِهِ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهَا أُهْلِكَتْ لَا فِي الْمِلَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ وَلَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أعلم.

- 30 - يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ - 31 - أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ - 32 - وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ قَالَ ابن عباس {يا حسرة عَلَى الْعِبَادِ} أَيْ يَا وَيْلَ الْعِبَادِ، وَقَالَ قتادة: {يا حسرة عَلَى الْعِبَادِ} أَيْ يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ عَلَى أنفسهم، على ما ضيعت مِنْ أَمْرِ الله وفرطت فِي جَنبِ الله، والمعنى: يَا حَسْرَتَهُمْ وَنَدَامَتَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ، كَيْفَ كَذَّبُوا رُسُلَ اللَّهِ وَخَالَفُوا أَمْرَ الله؟ فإنهم كانوا {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ يُكَذِّبُونَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَيَجْحَدُونَ مَا أُرْسِلَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} أَيْ أَلَمْ يَتَّعِظُوا بِمَنْ أَهْلَكَ اللَّهُ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ، كيف لم يكن لَهُمْ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا كَرَّةٌ وَلَا رَجْعَةٌ، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أَيْ وَإِنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ، سَتَحْضُرُ لِلْحِسَابِ يوم القيامة بين يدي الله جلَّ وعلا، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها، ومعنى هذا كقوله جلَّ وعلا {وإنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ}.

- 33 - وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ - 34 - وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ - 35 - لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ - 36 - سُبْحَانَ الذِي خَلَق الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ يَقُولُ تبارك وتعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ} أَيْ دَلَالَةٌ لَهُمْ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى {الْأَرْضُ

الْمَيْتَةُ} أَيْ إِذَا كَانَتْ مَيِّتَةً هَامِدَةً لَا شَيْءَ فِيهَا مِنَ النَّبَاتِ، فَإِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى عَلَيْهَا الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ولهذا قال تعالى: {أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} أَيْ جعلنا لهم رِزْقًا لَهُمْ وَلِأَنْعَامِهِمْ، {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} أَيْ جَعَلْنَا فِيهَا أَنْهَارًا سَارِحَةً فِي أَمْكِنَةٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا، {لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} لَمَّا امْتَنَّ عَلَى خَلْقِهِ بِإِيجَادِ الزُّرُوعِ لَهُمْ، عَطَفَ بِذِكْرِ الثِّمَارِ وتنوعها وأصنافها، وقوله جلَّ وعلا: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أَيْ وَمَا ذَاكَ كُلُّهُ إلا رحمة الله تعالى بِهِمْ، لَا بِسَعْيِهِمْ وَلَا كَدِّهِمْ وَلَا بِحَوْلِهِمْ وقوتهم (قاله ابن عباس وقتادة فتكون (ما) في قوله: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} للنفي)، ولهذا قال تعالى: {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} أَيْ فَهَلَا يَشْكُرُونَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ (قوله (واختار ابن جرير) بل جزم بأن (ما) اسم موصول بمعنى (الذي) وَلَمْ يَحْكِ غَيْرُهُ إِلَّا احْتِمَالًا) أَنَّ (مَا) في قوله تعالى: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} بِمَعْنَى (الَّذِي) تَقْدِيرُهُ: لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمِمَّا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ، أَيْ غَرَسُوهُ وَنَصَبُوهُ، قَالَ: وَهِيَ كَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مسعود رضي الله تعالى عنه: {لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ ومما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ}، ثم قال تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} أَيْ مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ وَنَبَاتٍ، {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} فَجَعَلَهُمْ ذَكَرًا وَأُنْثَى {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ شَتَّى لَا يَعْرِفُونَهَا كَمَا قال جلت عظمته: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

- 37 - وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ - 38 - وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ - 39 - وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ - 40 - لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنَ الدلالة لهم على قدرته تبارك وتعالى الْعَظِيمَةِ، خَلَقَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، هَذَا بِظَلَامِهِ وَهَذَا بِضِيَائِهِ، وَجَعَلُهُمَا يَتَعَاقَبَانِ، يَجِيءُ هَذَا فَيَذْهَبُ هَذَا، ويذهب هذا فيجيء هذا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً}، ولهذا قال عزَّ وجلَّ ههنا: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} أَيْ نَصْرِمُهُ مِنْهُ فَيَذْهَبُ فَيَقْبَلُ اللَّيْلُ، وَلِهَذَا قَالَ تبارك وتعالى: {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» هَذَا هُوَ الظاهر من الآية؛ وقوله جل جلاله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مُسْتَقَرُّهَا الْمَكَانِيُّ، وَهُوَ تَحْتَ العرش مما يلي الأرض من ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَهِيَ أَيْنَمَا كَانَتْ فَهِيَ تَحْتَ العرش، هي وجميع المخلوقات لأنه سقفها، فحينئذٍ تَسْجُدُ وَتَسْتَأْذِنُ فِي الطُّلُوعِ كَمَا جَاءَتْ بذلك الأحاديث، روى البخاري عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المسجد عند غروب الشمس، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَذَلِكَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ العليم} "، وروى البخاري أيضاً عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله تبارك وتعالى: {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} قال صلى الله عليه وسلم: «مستقرها تحت

العرش»، وعنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد حين غربت الشمس، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ الشَّمْسُ»؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ بَيْنَ يَدَي رَبِّهَا عزَّ وجلَّ، فَتَسْتَأْذِنُ فِي الرُّجُوعِ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَرْجِعُ إِلَى مَطْلَعِهَا وَذَلِكَ مُسْتَقَرُّهَا - ثُمَّ قرأ - {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا}» (أخرجه الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه). وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِمُسْتَقَرِّهَا هُوَ مُنْتَهَى سَيْرِهَا وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يَبْطُلُ سَيْرُهَا وَتَسْكُنُ حَرَكَتُهَا وَتُكَوَّرُ وَيَنْتَهِي هَذَا الْعَالَمُ إِلَى غَايَتِهِ، وَهَذَا هُوَ مُسْتَقَرُّهَا الزَّمَانِيُّ، قَالَ قَتَادَةُ: {لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} أَيْ لِوَقْتِهَا ولأجلٍ لَا تَعْدُوهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهَا لَا تَزَالُ تَنْتَقِلُ فِي مَطَالِعِهَا الصيفية إلى مدة لا تزيد عليها، ثم تنتقل في مطلع الشتاء إلى مدة لا تزيد عليها (هذه رواية عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما)، وقرأ ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم (والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) أَيْ لَا قَرَارَ لَهَا وَلَا سُكُونَ بَلْ هِيَ سَائِرَةٌ لَيْلًا وَنَهَارًا لَا تَفْتُرُ ولا تقف، كما قال تبارك وتعالى: {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ} أَيْ لَا يَفْتُرَانِ وَلَا يَقِفَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} أَيِ الَّذِي لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ {الْعَلِيمُ} بِجَمِيعِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ، وقد قدَّر ذلك ووقَّته عَلَى مِنْوَالٍ، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَعَاكُسَ، كما قال عزَّ وجلَّ: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم}، ثم قال جلَّ وعلا: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} أَيْ جَعَلْنَاهُ يَسِيرُ سَيْرًا آخَرَ، يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مُضِيِّ الشُّهُورِ، كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ يُعْرَفُ بِهَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، كَمَا قال عزَّ وجلَّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج}. وقال تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} الآية، وقال تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تفصيلاً}، فَجَعَلَ الشَّمْسَ لَهَا ضَوْءٌ يَخُصُّهَا، وَالْقَمَرَ لَهُ نُورٌ يَخُصُّهُ، وَفَاوَتَ بَيْنَ سَيْرِ هَذِهِ وَهَذَا، فَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ يَوْمٍ وَتَغْرُبُ فِي آخِرِهِ عَلَى ضَوْءٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ تَنْتَقِلُ فِي مَطَالِعِهَا ومغاربها صيفاً وشتاء، يطول هذا بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّهَارُ وَيَقْصُرُ اللَّيْلُ، ثُمَّ يَطُولُ اللَّيْلُ وَيَقْصُرُ النَّهَارُ، وَجَعَلَ سُلْطَانَهَا بِالنَّهَارِ فَهِيَ كَوْكَبٌ نَهَارِيٌّ، وَأَمَّا الْقَمَرُ فَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ يَطْلُعُ في أول ليلة من الشهر ضيئلاً قَلِيلَ النُّورِ، ثُمَّ يَزْدَادُ نُورًا فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ وَيَرْتَفِعُ مَنْزِلَةً، ثُمَّ كَلَّمَا ارْتَفَعَ ازْدَادَ ضياء، وإن كان مقتسباً مِنَ الشَّمْسِ، حَتَّى يَتَكَامَلَ نُورُهُ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي النَّقْصِ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ، حَتَّى يَصِيرَ {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ أَصْلُ الْعِذْقِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {الْعُرْجُونُ الْقَدِيمُ}: أَيِ الْعِذْقُ الْيَابِسُ، يَعْنِي ابْنُ عباس أصل العنقود من الرطب إذا غتق ويبس وانحنى، ثم بعد هذا يبديه الله تعالى جديداً في أول الشهر الآخر. وقوله تبارك وتعالى: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَدٌّ لَا يَعْدُوهُ وَلَا يَقْصِرُ دُونَهُ، إِذَا جَاءَ سُلْطَانُ هَذَا ذَهَبَ هَذَا، وَإِذَا ذَهَبَ سُلْطَانُ هَذَا جَاءَ سلطان هذا، وقال الحسن في قوله تَعَالَى: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ} قال: ذلك ليلة الهلال، وقال الثوري: لَا يُدْرِكُ هَذَا ضَوْءَ هَذَا وَلَا هَذَا ضوء هذا، وقال عكرمة في قوله عزَّ وجلَّ: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ} يعني أن لكل منهما سطاناً فَلَا يَنْبَغِي لِلشَّمْسِ

أن تطلع بالليل، وقوله تعالى: {وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي إِذَا كَانَ اللَّيْلُ أَنْ يَكُونَ لَيْلٌ آخَرُ حَتَّى يَكُونَ النَّهَارُ، فَسُلْطَانُ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ، وَسُلْطَانُ الْقَمَرِ بِاللَّيْلِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ من ههنا حتى يجيء النهار من ههنا وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَلَا الليل سَابِقُ النهار} المعنى أَنَّهُ لَا فَتْرَةَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا يَعْقُبُ الْآخَرَ بِلَا مُهْلَةٍ وَلَا تَرَاخٍ، لِأَنَّهُمَا مُسَخَّرَانِ دَائِبَيْنِ يَتَطَالَبَانِ طَلَبًا حَثِيثًا، وقوله تبارك وتعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلُّهُمْ {يَسْبَحُونَ} أَيْ يَدُورُونَ فِي فَلَكِ السَّمَاءِ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيِّ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} في فلك بين السماء والأرض، قال ابن عباس: فِي فَلْكَةٍ كَفَلْكَةِ الْمِغْزَلِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْفَلَكُ كحديدة الرَّحَى أَوْ كَفَلْكَةِ الْمِغْزَلِ، لَا يَدُورُ الْمِغْزَلُ إِلَّا بِهَا وَلَا تَدُورُ إِلَّا بِهِ.

- 41 - وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ - 42 - وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ - 43 - وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ - 44 - إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ يقول تبارك وتعالى: ودلالة لهم أيضاً على قدرته تبارك وتعالى، تسخيره البحر ليحمل السفن، فمن دلك بل أوله سفينة نوح عليه الصلاة والسلام، الَّتِي أَنْجَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا بِمَنْ مَعَهُ من المؤمنين، ولهذا قال عزَّ وجلَّ {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} أَيْ آبَاءَهُمْ {فِي الفلك المشحون} أي في السفينة الْمَمْلُوءَةِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْحَيَوَانَاتِ، الَّتِي أَمَرَهُ اللَّهُ تبارك وتعالى أَنْ يَحْمِلَ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، قال ابن عباس {المشحون} الموقر، وقال الضحاك وقتادة: هي سفينة نوح عليه الصلاة والسلام، وقوله جلَّ وعلا: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْإِبِلُ، فَإِنَّهَا سُفُنُ البر يحملون عليها ويركبونها؛ وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي رِوَايَةٍ هِيَ الْأَنْعَامُ، وَقَالَ ابن جرير: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أتدرون ما قوله تعالى: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هِيَ السُّفُنُ جُعِلَتْ مِنْ بَعْدِ سفينة نوح عليه الصلاة والسلام على مثلها، وكذا قال الضحّاك وقتادة: المراد بقوله تعالى: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} أَيِ السُّفُنَ، وَيُقَوِّي هَذَا الْمَذْهَبَ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ جلَّ وعلا: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ واعية}، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} يَعْنِي الَّذِينَ فِي السُّفُنِ، {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} أي فلا نغيث لَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ، {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ} أَيْ مِمَّا أَصَابَهُمْ، {إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا} وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَكِنْ بِرَحْمَتِنَا نُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَنُسَلِّمُكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَلِهَذَا قال تعالى: {وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} أَيْ إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ عند الله عزَّ وجلَّ.

- 45 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ - 46 - وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ - 47 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَمَادِي الْمُشْرِكِينَ فِي غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَعَدَمِ اكْتِرَاثِهِمْ بِذُنُوبِهِمُ الَّتِي أَسْلَفُوهَا، وما يَسْتَقْبِلُونَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} قال مجاهد: مِّن الذنوب، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أَيْ لَعَلَّ اللَّهَ بِاتِّقَائِكُمْ ذَلِكَ يرحمكم ويؤمنكم من عذابه، وتقدير الكلام أنهم لا يجيبون إلى ذلك بل يعرضون عنه، واكتفى عن ذلك بقوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَّبِّهِمْ}: أَيْ عَلَى التَّوْحِيدِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ، {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي لا يتأملونها ولا يقبلونها ولا ينتفعون بها، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أَيْ وَإِذَا أُمِرُوا بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا} أَيْ قَالُوا لِمَنْ أَمْرُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِنْفَاقِ، مُحَاجِّينَ لَهُمْ فِيمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ} أي هؤلاء الَّذِينَ أَمَرْتُمُونَا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ، لَوْ شَآءَ اللَّهُ لِأَغْنَاهُمْ وَلَأَطْعَمَهُمْ مِنْ رِزْقِهِ، فَنَحْنُ نُوَافِقُ مَشِيئَةَ الله تعالى فِيهِمْ {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي في أمركم لنا بذلك.

- 48 - وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 49 - مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ - 50 - فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يُرْجَعُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ اسْتِبْعَادِ الْكَفَرَةِ لِقِيَامِ الساعة في قولهم: {متى هذا الوعد}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا}، قال الله عزَّ وجلَّ: {مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً، وَهَذِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ «نَفْخَةُ الْفَزَعِ» يُنْفَخُ فِي الصُّورِ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، وَالنَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ يَخْتَصِمُونَ وَيَتَشَاجَرُونَ عَلَى عَادَتِهِمْ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذ أمر الله عزَّ وجلَّ إِسْرَافِيلَ فَنَفَخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةً يُطَوِّلُهَا وَيَمُدُّهَا، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِلَّا أَصْغَى لَيْتًا وَرَفَعَ لَيْتًا، وَهِيَ صَفْحَةُ الْعُنُقِ يَتَسَمَّعُ الصَّوْتَ مِنْ قِبَلِ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُسَاقُ الْمَوْجُودُونَ مِنَ النَّاسِ إِلَى مَحْشَرِ الْقِيَامَةِ بِالنَّارِ تحيط بهم من جوانبهم، ولهذا قال تعالى: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} أَيْ عَلَى مَا يَمْلِكُونَهُ، الْأَمْرُ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ، {وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}، وقد وردت ههنا آثَارٌ وَأَحَادِيثُ ذَكَرْنَاهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ هَذَا «نَفْخَةُ الصَّعْقِ» الَّتِي تَمُوتُ بِهَا الْأَحْيَاءُ كُلُّهُمْ مَا عَدَا الْحَيُّ الْقَيُّومُ، ثم بعد ذلك «نفخة البعث» والله أعلم.

- 51 - وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ - 52 - قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ - 53 - إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ - 54 - فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذِهِ هِيَ النَّفْخَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ نَفْخَةُ (الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) لِلْقِيَامِ مِنَ الْأَجْدَاثِ وَالْقُبُورِ، ولهذا قال تعالى: {فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} وَالنَّسَلَانُ هُوَ الْمَشْيُ السَّرِيعُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سراعاً} الآية، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا}؟ يعنون قُبُورِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ مِنْهَا، فَلَمَّا عَايَنُوا مَا كذبوا به فِي مَحْشَرِهِمْ {قَالُواْ يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَرْقَدِنَا}؟ وَهَذَا لَا يَنْفِي

عَذَابَهُمْ فِي قُبُورِهِمْ، لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا بعده في الشدة كالرقاد، قال أبي بن كعب ومجاهد والحسن: يَنَامُونَ نَوْمَةً قَبْلَ الْبَعْثِ، قَالَ قَتَادَةُ: وَذَلِكَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} فإذا قالوا ذلك أجابهم المؤمنون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} وَقَالَ الحسن: إنما يجيبهم بذلك الملائكة (قال ابن كثير: ولا منافاة بين القولين إذ الجمع ممكن والقول الأول قاله غير واحد من السلف والله أعلم)؛ وقال عبد الرحمن بن زيد: الْجَمِيعُ مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ {يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا؟ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ وهو أصح، وذلك كقوله تبارك وتعالى في الصافات: {قالوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تكذبون}، وقوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ}، كقوله عزَّ وجلَّ: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ واحدة فإذا هو بالساهرة}، وقال جلَّت عظمته: {وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}، وقال جل جلاله {يوم يدعوكم فتسجيبون بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً أَيْ إِنَّمَا نَأْمُرُهُمْ أَمْرًا وَاحِدًا فَإِذَا الْجَمِيعُ مُحْضِرُونَ، {فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} أَيْ مِنْ عَمَلِهَا {وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تعملون}.

- 55 - إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ - 56 - هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ - 57 - لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ - 58 - سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَبٍّ رَّحِيمٌ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أهل الجنة: أنهم إِذَا ارْتَحَلُوا مِنَ الْعَرَصَاتِ، فَنَزَلُوا فِي رَوْضَاتِ الجنات، أنهم فِي شُغُلٍ عَنْ غَيْرِهِمْ، بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ، قَالَ الْحَسَنُ البصري: فِي شُغُلٍ عَمَّا فِيهِ أَهْلُ النَّارِ مِنَ الْعَذَابِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} أَيْ في نعيم معجبون به، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَاكِهُونَ} أَيْ فَرِحُونَ، قَالَ ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} قَالُوا: شَغَلَهُمُ افْتِضَاضُ الْأَبْكَارِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: {فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} أَيْ بسماع الأوتار (قال أَبُو حَاتِمٍ: لَعَلَّهُ غَلَطٌ مِنَ الْمُسْتَمِعِ وَإِنَّمَا هو افتضاض الأبكار)، وقوله عزَّ وجلَّ: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: وَحَلَائِلُهُمْ {فِي ظِلاَلٍ} أَيْ فِي ظِلَالِ الْأَشْجَارِ {عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة {الأرآئك} هي السرر تحت الحجال، وقوله عزَّ وجلَّ: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ} أَيْ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا {وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} أَيْ مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا من جميع أصناف الملاذ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلاَ هَلْ مُشَمِّرٌ إِلَى الْجَنَّةِ! فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خَطَرَ لَهَا، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ كُلُّهَا يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَثَمَرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، وَمُقَامٌ فِي أبد في دار سلامة، وفاكهة خضرة، وخير وَنَعْمَةٍ فِي مَحَلَّةٍ عَالِيَةٍ بَهِيَّةٍ»، قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فَقَالَ الْقَوْمُ: إِنْ شاء الله (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه ابْنُ مَاجَهْ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ مِنْ سُنَنِهِ). وقوله تعالى: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} قَالَ ابْنُ عباس: فإن الله تعالى نفسه سلام على أهل الجنة، وهذا كقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ

سلام}، وقد روى عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إذ سطع عليهم نور فرفعوا رؤوسهم، فَإِذَا الرَّبُّ تَعَالَى قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فذلك قوله تعالى: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}، قَالَ: فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، وَيَبْقَى نُورُهُ وَبِرْكَتُهُ عَلَيْهِمْ وَفِي ديارهم" (أخرجه ابن أبي حاتم، قال ابن كثير: وفي إسناده نظر، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي كِتَابِ السُّنَةِ مِنْ سننه).

- 59 - وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ - 60 - أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ - 61 - وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ - 62 - وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يَؤُولُ إِلَيْهِ حَالُ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنْ أمره لهم (أن يمتازوا) بمعنى يتميزوا عن المؤمنين في موقفهم، كقوله تَعَالَى: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ}، وقال عزَّ وجلَّ: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يومئذ يتفرقون}، وقال {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أي يصيرون صدعين فرقتين، وقوله تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} هذا تقريع من الله تعالى لِلْكَفَرَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ، الَّذِينَ أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ وَهُوَ عَدُوٌّ لَهُمْ مُبِينٌ، وَعَصَوُا الرَّحْمَنَ وَهُوَ الذي خلقهم ورزقهم، ولهذا قال تعالى: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أَيْ قَدْ أَمَرْتُكُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا بِعِصْيَانِ الشَّيْطَانِ وَأَمَرْتُكُمْ بِعِبَادَتِي، وَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، فَسَلَكْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ وَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَلِهَذَا قال عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} يُقَالُ: جِبِلًّا بكسر الجيم وتشديد اللام، والمراد بذلك الخلق الكثير، وقوله تعالى: {أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} أَيْ أَفَمَا كَانَ لَكُمْ عقل في مخافة ربكم فيما أمركم به وعدو لكم إلى اتباع الشيطان؟ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا كان يوم القيامة أمر الله تعالى جَهَنَّمَ فَيَخْرُجُ مِنْهَا عُنُقٌ سَاطِعٌ مُظْلِمٌ يَقُولُ: {وامتازوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} فَيَتَمَيَّزُ النَّاسُ وَيَجْثُونَ، وَهِيَ التي يقول الله عزَّ وجلَّ: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} " (أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعاً).

- 63 - هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ - 64 - اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ - 65 - الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ - 66 - وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ - 67 - وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلَا يَرْجِعُونَ يُقَالُ لِلْكَفَرَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَدْ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لَهُمْ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أَيْ هَذِهِ الَّتِي حَذَّرَتْكُمُ الرُّسُلُ فَكَذَّبْتُمُوهُمْ، {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ

إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}، هَذَا حَالُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُنْكِرُونَ مَا اجْتَرَمُوهُ فِي الدُّنْيَا وَيَحْلِفُونَ مَا فَعَلُوهُ، فَيَخْتِمُ اللَّهُ على أفواههم ويستنطق جوارحهم بما عملت، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَتُدْرُونَ ممَّ أَضْحَكُ؟» قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قال صلى الله عليه وسلم: "مِنْ مُجَادَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: لَا أُجِيزُ عليَّ إِلَّا شَاهِدًا مِنْ نَفْسِي، فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ بِعَمَلِهِ، ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ، فَيَقُولُ: بُعْدًا لكنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ" (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه مسلم والنسائي بنحوه). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْقِيَامَةِ الطَّوِيلِ قَالَ فِيهِ: "ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ: مَا أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَبْدُكَ آمَنْتُ بِكَ وَبِنَبِيِّكَ وَبِكِتَابِكَ وَصُمْتُ وَصَلَّيْتُ وَتَصَدَّقْتُ، وَيَثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ - قَالَ - فَيُقَالُ لَهُ أَلَا نَبْعَثُ عَلَيْكَ شَاهِدَنَا؟ - قَالَ: فَيُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيْهِ، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، ويقال: لفخذه انطقي - قال - فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ، وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، وَذَلِكَ لِيُعْذَرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ الذي يسخط الله تعالى عليه" (أخرجه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة بطوله). وروى ابن جرير عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: يُدْعَى الْمُؤْمِنُ لِلْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَبُّهُ عَمَلَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَيَعْتَرِفُ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ عَمِلْتُ عَمِلْتُ عَمِلْتُ، قَالَ: فيغفر الله تعالى له ذنوبه ويستره منه، قَالَ: فَمَا عَلَى الْأَرْضِ خَلِيقَةٌ تَرَى مِنْ تلك الذنوب شيئاً، وتبدو حسناته فود النَّاسَ كُلَّهُمْ يَرَوْنَهَا، وَيُدْعَى الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ لِلْحِسَابِ فيعرض عليه ربه عَمَلَهُ فَيَجْحَدُ، وَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ وَعَزَّتِكَ، لَقَدْ كَتَبَ عليَّ هَذَا الْمَلَكُ مَا لَمْ أَعْمَلْ، فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ: أَمَا عَمِلْتَ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا فِي مَكَانِ كَذَا؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ أَيْ رَبِّ مَا عَمِلْتُهُ، فَإِذَا فَعَلَ ذلك ختم الله تعالى على فيه، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: فَإِنِّي أَحْسَبُ أَوَّلَ مَا يَنْطِقُ مِنْهُ الْفَخِذُ اليمنى، ثم تلا: {اليوم نَخْتِمُ على أفواهم وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (أخرجه ابن جرير وهو حديث موقوف على أبي موسى الأشعري رضي الله عنه). وقوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فأنى يبصرون}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهَا يَقُولُ: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَضْلَلْنَاهُمْ عَنِ الْهُدَى فَكَيْفَ يَهْتَدُونَ؟ وَقَالَ مُرَّةُ: أَعْمَيْنَاهُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَوْ شَآءَ اللَّهُ لَطَمَسَ عَلَى أَعْيُنِهِمْ، فَجَعَلَهُمْ عُمْيًا يَتَرَدَّدُونَ، وَقَالَ السدي: ولو نشاء أعمينا أبصارهم، وقال مجاهد وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} يَعْنِي الطَّرِيقَ، وَقَالَ ابن زيد يعني بالصراط ههنا الْحَقَّ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ وَقَدْ طَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ؟ وقال ابن عباس {فأنى يُبْصِرُونَ} لا يبصرون الحق، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ على مَكَانَتِهِمْ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَهْلَكْنَاهُمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي لَغَيَّرْنَا خَلْقَهُمْ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: لَجَعَلْنَاهُمْ حِجَارَةً، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ: لَأَقْعَدَهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَلِهَذَا قال تبارك وتعالى: {فَمَا استطاعوا مُضِيّاً} أي إلى الإمام {وَلاَ يَرْجِعُونَ} إِلَى وَرَاءٍ، بَلْ يَلْزَمُونَ حَالًا وَاحِدًا لَا يَتَقَدَّمُونَ وَلَا يَتَأَخَّرُونَ.

- 68 - وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ - 69 - وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ - 70 - لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ ابْنِ آدَمَ أَنَّهُ كُلَّمَا طَالَ عُمْرُهُ، رُدَّ إِلَى الضَّعْفِ بَعْدَ الْقُوَّةِ، وَالْعَجْزِ بعد النشاط، كما قال تعالى {الله خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ القدير}، وقال عزَّ وجلَّ: {وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً}، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الْإِخْبَارُ عَنْ هذ الدَّارِ، بِأَنَّهَا دَارُ زَوَالٍ وَانْتِقَالٍ، لَا دَارُ دوام واستقرار، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {أَفَلاَ يَعْقِلُونَ}؟ أَيْ يَتَفَكَّرُونَ بِعُقُولِهِمْ فِي ابْتِدَاءِ خلقهم، ثم صيرورتهم إلى سن الشيبة، ثُمَّ إِلَى الشَّيْخُوخَةِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ خُلِقُوا لِدَارٍ أُخْرَى، لَا زَوَالَ لَهَا وَلَا انْتِقَالَ مِنْهَا، وَلَا مَحِيدَ عَنْهَا وَهِيَ الدَّارُ الْآخِرَةُ، وَقَوْلُهُ تبارك وتعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ}، يَقُولُ عزَّ وجلَّ مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ مَا عَلَّمَهُ الشِّعْرَ {وَمَا يَنبَغِي لَهُ} أي ما هُوَ فِي طَبْعِهِ فَلَا يُحْسِنُهُ وَلَا يُحِبُّهُ ولا تقتضيه جبلته، ولهذا ورد أنه صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَحْفَظُ بَيْتًا عَلَى وَزْنٍ مُنْتَظِمٍ، بَلْ إِنْ أَنْشَدَهُ زَحَّفَهُ أَوْ لَمْ يُتِمَّهُ، قال الشعبي: مَا وَلَدَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى إِلَّا يَقُولُ الشِّعْرَ، إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ذكره ابن عساكر عن الشعبي). وعن الحسن الْبَصْرِيُّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ: (كَفَى بِالْإِسْلَامِ وَالشَّيْبِ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا)، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ ناهياً قال أبو بكر أو عمر رضي الله عنهما: أشهد أنك رسول الله، يقول تَعَالَى: {وَمَآ عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} (ذكره ابن أبي حاتم عن الحسن البصري). وروى الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَمْشِي بَيْنَ الْقَتْلَى يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ يَقُولُ: «نَفَلِّق هَامًا»، فَيَقُولُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُتَمِّمًا لِلْبَيْتِ: ... مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ * عَلَيْنَا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وَأَظْلَمَا. وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إذا استراب الْخَبَرَ تَمَثَّلَ فِيهِ بِبَيْتِ طَرَفَةَ: وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ من لم تزود (أخرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وقال الترمذي: حديث حسن صحيح). وهو فِي شِعْرِ (طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ) فِي مُعَلَّقَتِهِ المشهورة: سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا * «وَيَأْتِيكَ بالأخبار من لم تزود». وثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم تَمَثَّلَ يَوْمَ حَفْرِ الْخَنْدَقِ بِأَبْيَاتِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ولكن تبعاً لقول أصحابه رَّضِيَ الله عَنْهُمْ، فإنهم كانوا يرتجزون وهم يحفرون فيثولون: لا هم لَولَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا * وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَينَا * وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لاقينا

إن أولاء قَدْ بَغَوْا عَلَينَا * إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أبَيْنَا. ويرفع صلى الله عليه وسلم صوته يقوله: أبينا، ويمدها، وقدر روى هذا بزحاف في الصحيحين أيضاً، وكذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَهُوَ رَاكِبٌ الْبَغْلَةَ يُقْدِمُ بِهَا فِي نُحُورِ الْعَدُوِّ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ * أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ. لَكِنْ قَالُوا: هَذَا وَقَعَ اتِّفَاقًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِوَزْنِ شِعْرٍ، بَلْ جَرَى عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قصد إليه، وكذلك كا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ، فَنَكِبَتْ أُصْبُعُهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ * وَفِي سَبِيلِ الله ما لقيت. وَكُلُّ هَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ما علم شعراً وَمَا يَنبَغِي لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا عَلَّمَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ {الذِي لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، وَلَيْسَ هُوَ بِشِعْرٍ كَمَا زَعَمَهُ طَائِفَةٌ مِنْ جهلة كفار قريش، ولا كهانة وَلَا سِحْرٍ يُؤْثَرُ، كَمَا تَنَوَّعَتْ فِيهِ أَقْوَالُ الضُّلَّالُ وَآرَاءُ الْجُهَّالِ، وَقَدْ كَانَتْ سَجِيَّتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْبَى صِنَاعَةَ الشِّعْرِ طَبْعًا وشرعاً. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِأَنَّ يَمْتَلِئُ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شعراً» (أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً، قال ابن كثير. وإسناده على شرط الشيخين ولم يخرجاه). عَلَى أَنَّ الشِّعْرَ فِيهِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ وَهُوَ هِجَاءُ الْمُشْرِكِينَ، الَّذِي كَانَ يَتَعَاطَاهُ شُعَرَاءُ الْإِسْلَامِ، كَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ وَأَمْثَالِهِمْ وَأَضْرَابِهِمْ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَمِنْهُ مَا فِيهِ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ وَآدَابٌ، كَمَا يُوجَدُ فِي شِعْرِ جَمَاعَةٍ من الجاهلية، ومنهم (أمية ابن أبي الصلت) الذي قال فِيهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ»، وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ الصحابة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ بَيْتٍ يقول صلى الله عليه وسلم عَقِبَ كُلِّ بَيْتٍ: «هِيهِ»، يَعْنِي يَسْتَطْعِمُهُ فَيَزِيدُهُ من ذلك، وفي الحديث: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حكماً» (أخرجه أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وابن عباس رضي الله عنهما)، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَلَّمَهُ الله الشعر، {وَمَا يَنبَغِي لَهُ} أَيْ وَمَا يَصْلُحُ لَهُ {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} أَيْ مَا هَذَا الَّذِي عَلَّمْنَاهُ {إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} أَيْ بيِّن وَاضِحٌ جَلِيٌّ لِمَنْ تَأْمَّلَهُ وتدبره، ولهذا قال تعالى: {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً} أَيْ لِيُنْذِرَ هَذَا القرآن المبين كُلَّ حَيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بلغ}، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِنِذَارَتِهِ مَنْ هُوَ حَيُّ الْقَلْبِ مستنير البصيرة، كما قال قتادة: جي الْقَلْبِ، حَيُّ الْبَصَرِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي عَاقِلًا، {وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين} أي وهو رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين.

- 71 - أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ - 72 - وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ - 73 - وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ يَذْكُرُ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَنْعَامِ الَّتِي سَخَّرَهَا لَهُمْ {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} قَالَ قَتَادَةُ: مُطِيقُونَ أَيْ جَعَلَهُمْ يَقْهَرُونَهَا وَهِيَ ذَلِيلَةٌ لَهُمْ، لَا تَمْتَنِعُ مِنْهُمْ بَلْ لَوْ جَاءَ صَغِيرٌ إِلَى بَعِيرٍ لَأَنَاخَهُ، وَلَوْ شَاءَ لَأَقَامَهُ وَسَاقَهُ -[171]- وَذَاكَ ذَلِيلٌ مُنْقَادٌ مَعَهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْقِطَارُ مِائَةُ بَعِيرٍ أَوْ أَكْثَرُ لَسَارَ الْجَمِيعُ بسير الصغير، وقوله تعالى: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أَيْ مِنْهَا مَا يَرْكَبُونَ فِي الْأَسْفَارِ، وَيَحْمِلُونَ عَلَيْهِ الْأَثْقَالَ إِلَى سَائِرِ الْجِهَاتِ وَالْأَقْطَارِ، {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} إِذَا شَاءُوا نَحَرُوا وَاجْتَزَرُوا، {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أَيْ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ {وَمَشَارِبُ} أَيْ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا لِمَنْ يَتَدَاوَى وَنَحْوِ ذَلِكَ، {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ}؟ أَيْ أَفَلَا يُوَحِّدُونَ خَالِقَ ذَلِكَ وَمُسَخِّرَهُ وَلَا يُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ؟

- 74 - وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ - 75 - لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ - 76 - فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمُ الْأَنْدَادَ آلِهَةً مَعَ اللَّهِ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ أَنْ تَنْصُرَهُمْ تِلْكَ الْآلِهَةُ، وَتَرْزُقَهُمْ وَتُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أَيْ لَا تَقْدِرُ الْآلِهَةُ عَلَى نَصْرِ عَابِدِيهَا، بَلْ هِيَ أَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ وأقل وأذل، وأحقر وأدحر، بل لا تقدر على الاستنصار لِأَنْفُسِهَا وَلَا الِانْتِقَامِ مِمَّنْ أَرَادَهَا بِسُوءٍ، لِأَنَّهَا جماد لا تسمع ولا تعقل، وقوله تبارك وتعالى: {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ}، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي عِنْدَ الْحِسَابِ يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ مَحْشُورَةٌ مَجْمُوعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُحْضَرَةٌ عِنْدَ حِسَابِ عَابِدِيهَا، ليكون ذلك أبلغ في حزنهم وَأَدُلَّ عَلَيْهِمْ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} يَعْنِي الْآلِهَةَ، {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ} وَالْمُشْرِكُونَ يَغْضَبُونَ لِلْآلِهَةِ فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ لَا تَسُوقُ إِلَيْهِمْ خَيْرًا وَلَا تدفع عنهم شراً إِنَّمَا هِيَ أَصْنَامٌ (وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وهو اختيار ابن جرير رحمه الله)، وَهَذَا الْقَوْلُ حَسَنٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وقوله تعالى: {فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} أَيْ تَكْذِيبُهُمْ لَكَ وَكُفْرُهُمْ بِاللَّهِ، {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي نحن نعلم جميع ما هم فيه وسنجزيهم وصفهم، يَوْمَ لَا يَفْقِدُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ جَلِيلًا وَلَا حَقِيرًا، وَلَا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا، بَلْ يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ جَمِيعُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.

- 77 - أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ - 78 - وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ - 79 - قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ - 80 - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِنْهُ توقدون قال مجاهد وعكرمة: جَاءَ (أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ) لَعَنَهُ اللَّهُ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وفي يده عظم رميم، وهو يفته ويذروه فِي الْهَوَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أَتَزْعُمُ أن الله يبعث هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم، يمتيك اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ يَبْعَثُكَ ثُمَّ يَحْشُرُكَ إِلَى النَّارِ»، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ يس: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ} إلى آخرهن، وقال ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ أَخَذَ عَظْمًا مِنَ الْبَطْحَاءِ فَفَتَّهُ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُحْيِي اللَّهُ هَذَا بَعْدَ مَا أَرَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، يُمِيتُكَ اللَّهُ ثُمَّ

يُحْيِيكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ»، قَالَ: وَنَزَلَتِ الْآيَاتُ من آخر يس، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ سَوَاءً كَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ قَدْ نَزَلَتْ فِي (أُبي بْنِ خَلَفٍ) أَوْ (الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ) أَوْ فِيهِمَا، فَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ} لِلْجِنْسِ يَعُمُّ كُلَّ مُنْكِرٍ لِلْبَعْثِ، {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} أي أو لم يَسْتَدِلَّ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ بِالْبَدْءِ عَلَى الْإِعَادَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ ابْتَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِن سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، فَخَلَقَهُ مِنْ شَيْءٍ حَقِيرٍ ضعيف مهين، كما قال عزَّ وجلَّ: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن ماء مهين}، وقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} أَيْ مَنْ نُطْفَةٍ مِنْ أَخْلَاطٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَالَّذِي خَلَقَهُ مِنْ هَذِهِ النُّطْفَةِ الضَّعِيفَةِ أَلَيْسَ بِقَادِرٍ عَلَى إِعَادَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أحمد في مسنده عن بشر بن جحاش قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا إصبعه، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ابْنَ آدَمَ أنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ، حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْكَ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ وأنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ؟ " (أخرجه الإمام أحمد ورواه ابن ماجة في سننه)، ولهذا قَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}؟ أَيِ اسْتَبْعَدَ إعادة الله تعالى ذي القدرة العظيمة، لِلْأَجْسَادِ وَالْعِظَامِ الرَّمِيمَةِ، وَنَسِيَ نَفْسَهُ وَأَنَّ اللَّهَ تعالى خلقه من العدم إلى الوجود، فَعَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا استبعده وأنكره وجحده، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ} أي يعلم العطام فِي سَائِرِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَأَرْجَائِهَا، أَيْنَ ذَهَبَتْ وأين تفرقت وتمزقت. قال الإمام أحمد، قال عقبة بن عمرو لحذيفة رضي الله عنهما: أَلَا تُحَدِّثُنَا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم؟ فقال: سمعته صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنْ رَجُلًا حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَلَمَّا أَيِسَ مِنَ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ إِذَا أَنَا مُتُّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا جَزْلًا، ثُمَّ أَوْقَدُوا فِيهِ نَارًا، حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي وَخَلَصَتْ إلى عظمي، فامتحشت (فامتحشت أي: فاحترقت) فَخُذُوهَا فَدُقُّوهَا فَذَرُّوهَا فِي الْيَمِّ، فَفَعَلُوا، فَجَمَعَهُ الله تعالى إليه، ثُمَّ قَالَ لَهُ: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيك، فغفر الله عزَّ وجلَّ له"، وفي الصحيحين بأنه أَمَرَ بَنِيهِ أَنْ يَحْرُقُوهُ، ثُمَّ يَسْحَقُوهُ، ثُمَّ يَذَرُّوَا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فِي يَوْمٍ رَائِحٍ، أَيْ كَثِيرِ الْهَوَاءِ، فَفَعَلُوا ذلك، فأمر الله تعالى الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ وَأَمَرَ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُنْ فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ قَائِمٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قال: مَخَافَتُكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَمَا تَلَافَاهُ أَنْ غَفَرَ له. وقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ} أَيِ الَّذِي بَدَأَ خَلْقَ هَذَا الشَّجَرِ مِنْ مَاءٍ، حَتَّى صَارَ خَضِرًا نَضِرًا ذَا ثَمَرٍ وَيَنْعٍ، ثُمَّ أَعَادَهُ إِلَى أَنْ صَارَ حَطَبًا يَابِسًا تُوقَدُ بِهِ النار، كذلك هو فعال لما يشاء قارد عَلَى مَا يُرِيدُ لَا يَمْنَعُهُ شَيْءٌ، قَالَ قتادة: يقول: هذا الَّذِي أَخْرَجَ هَذِهِ النَّارَ مِنْ هَذَا الشَّجَرِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ شجر المرخ والغفار يَنْبُتُ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ فَيَأْتِي مَنْ أَرَادَ قَدْحَ نَارٍ وَلَيْسَ مَعَهُ زِنَادٌ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ عُودَيْنِ أَخْضَرَيْنِ، وَيَقْدَحُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، فَتَتَوَلَّدُ النَّارُ بينهما كالزناد سواء، وَفِي الْمَثَلِ: لِكُلِّ شَجَرٍ نَارٌ وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ والغفار، وَقَالَ الْحُكَمَاءُ: فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ إِلَّا العنَّاب.

- 81 - أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ - 82 - إِنَّمَآ

أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ - 83 - فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وإليه ترجعون يقول تعالى مخبراً مُنَبِّهًا عَلَى قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ، فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ وَالثَّوَابِتِ، وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَرِمَالٍ وَبِحَارٍ وَقَفَارٍ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَمُرْشِدًا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَادِ بِخَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ العظيمة كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} وقال عزَّ وجلَّ ههنا {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم؟} أَيْ مِثْلَ الْبَشَرِ فَيُعِيدُهُمْ كما بدأهم، وهذه الآية الكريمة كقوله عزَّ وجلَّ: {أو لم يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى؟ بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وقال تبارك وتعالى ههنا: {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي إنما يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ أَمْرًا وَاحِدًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تكرار وتأكيد كما قيل: إِذَا مَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْراً فَإِنَّمَا * يَقُولُ له {كن} قولةً {فيكون}. عن أبي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ مُذْنِبٌ إِلَّا مِنْ عَافَيْتُ، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، وَكُلُّكُمْ فَقِيرٌ إِلَّا مَنْ أَغْنَيْتُ، إِنِّي جَوَادٌ مَاجِدٌ وَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ، عَطَائِي كَلَامٌ، وَعَذَابِي كَلَامٌ، إِذَا أَرَدْتُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (أخرجه الإمام أحمد عن أبي ذر مرفوعاً)، وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي تنزيه وتقديس لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ، الَّذِي بِيَدِهِ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وإليه ترجع العباد يوم المعاد فيجازي كل عامل بعمله، وهو العادل المنعم المتفضل، ومعنى قوله سبحانه: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} كَقَوْلِهِ عزَّ وجلَّ: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الْمُلْكِ} فَالْمُلْكُ وَالْمَلَكُوتُ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى كَرَحْمَةٍ ورحموت، ورهبة ورهبوت، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ {الْمُلْكَ} هُوَ عالم الأجساد، و (المَلَكُوتُ) هو عالم الأرواح، والصحيح الأول، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ. روى الإمام أحمد، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة فقرأ السبع الطوال في ركعات، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ قَالَ: الحمد للَّهِ، ذِي الْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، وَكَانَ رُكُوعُهُ مِثْلَ قِيَامِهِ، وَسُجُودُهُ مِثْلَ رُكُوعِهِ، فَأَنْصَرِفُ وَقَدْ كادت تنكسر رجلاي" (أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي بنحوه). عن عوف بن مالك الأشجعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَقَامَ، فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ، قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: «سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ»، ثُمَّ سَجَدَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي سُجُودِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ بِآلِ عمران، ثم قرأ سورة (أخرجه أبو داود في سننه، والترمذي في الشمائل والنسائي عن عوف بن مالك الأشجعي).

37 - سورة الصافات

- 37 - سورة الصافات

[مقدمة] روى النسائي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات.

- 1 - وَالصَّافَّاتِ صَفَّا - 2 - فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً - 3 - فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً - 4 - إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ - 5 - رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ورب المشارق قال ابن مسعود رضي الله عنه {والصافات صَفَّا}، {فالزاجرات زَجْراً}، {فالتاليات ذِكْراً}: هي الملائكة (وهو قول ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ ومجاهد والسدي وقتادة وغيرهم)؛ وقال قتادة: الملائكة صفوف في السماء، روى مسلم عن جابر بن سمرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟» قُلْنَا: وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» (وفي صحيح مسلم أيضاً "فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الملائكة" الحديث). وقال السدي معنى قوله تعالى: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً}: أَنَّهَا تَزْجُرُ السَّحَابَ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً}: مَا زَجَرَ اللَّهُ تعالى عنه في القرآن، {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} قَالَ السُّدِّيُّ: الْمَلَائِكَةُ يَجِيئُونَ بِالْكِتَابِ والقرآن من عند الله إلى الناس، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً}، وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ رَبُّ السماوات والأرض}، هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ {وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} أَيْ هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْخَلْقِ، بِتَسْخِيرِهِ بِمَا فيه من كواكب تَبْدُو مِنَ الْمَشْرِقِ وَتَغْرُبُ مِنَ الْمَغْرِبِ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْمَشَارِقِ عَنِ الْمَغَارِبِ لِدَلَالَتِهَا عَلَيْهِ، وَقَدْ صرح بذلك في قوله عزَّ وجلَّ: {فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ}، وقال تعالى {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} يَعْنِي فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.

- 6 - إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ - 7 - وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ - 8 - لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ - 9 - دُحُورًا وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ - 10 - إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ زَيَّنَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا لِلنَّاظِرِينَ إِلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ بزينة الكواكب، فالكواكب السيارة والثوابت تضيء لِأَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ}، وقال عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ}، فقوله جلَّ وعلا ههنا {وَحِفْظاً} تَقْدِيرُهُ: وَحَفِظْنَاهَا حِفْظًا {مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} يَعْنِي الْمُتَمَرِّدَ الْعَاتِيَ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِقَ السَّمْعَ أَتَاهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ فَأَحْرَقَهُ، وَلِهَذَا قال جلَّ جلاله: {لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} أَيْ لِئَلَّا يَصِلُوا إِلَى {الْمَلَأِ الْأَعْلَى} وَهِيَ السَّمَاوَاتُ وَمِنْ فيها من الملائكة، كما تقدم بيان ذلك، ولهذا قال تعالى: {وَيُقْذَفُونَ} أَيْ يُرْمَوْنَ {مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} أَيْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ يَقْصِدُونَ السَّمَاءَ مِنْهَا، {دُحُوراً} أَيْ رَجْمًا يُدْحَرُونَ بِهِ وَيُزْجَرُونَ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ الوصول إلى ذلك ويرجمون، {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، لَهُمْ عَذَابٌ دَائِمٌ مُوجِعٌ مُسْتَمِرٌّ، كَمَا قَالَ جلت عظمته: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عذاب السعير}، وقوله تبارك وتعالى: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} أَيْ إِلَّا مَنِ اخْتَطَفَ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْخَطْفَةَ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ يَسْمَعُهَا من السماء، فيلقيها إِلَى الَّذِي تَحْتَهُ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أن يلقيها، وربما ألقاها قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الشِّهَابُ فَيُحْرِقَهُ، فَيَذْهَبُ بِهَا الْآخَرُ إِلَى الْكَاهِنِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} أي مستنير، قال ابن عباس: كَانَ لِلشَّيَاطِينِ مَقَاعِدُ فِي السَّمَاءِ، فَكَانُوا يَسْتَمِعُونَ الوحي، وَكَانَتِ النُّجُومُ لَا تَجْرِي، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ لَا ترمي، فَإِذَا سَمِعُوا الْوَحْيَ نَزَلُوا إِلَى الْأَرْضِ، فَزَادُوا في الكلمة تسعاً، فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جعل الشيطان إذا قعد مقعده جاءه شهاب فلم يخطئه حتى يحرقه، فشكوا ذلك إلى إبليس لعنه الله، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلاَّ مَنْ أمرٍ حدَث، فبعث جُنُودَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلَيْ نَخْلَةَ، قَالَ وَكِيعٌ: يَعْنِي بَطْنَ نَخْلَةَ، قَالَ: فَرَجَعُوا إِلَى إبليس، فأخبروه، فقال: هذا الذي حدث (أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما).

- 11 - فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَازِبٍ - 12 - بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ - 13 - وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ - 14 - وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ - 15 - وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ - 16 - أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ - 17 - أَوَ آبَآؤُنَا الْأَوَّلُونَ - 18 - قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ - 19 - فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ يَقُولُ تَعَالَى: فَسَلْ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ أَيُّمَا أَشَدُّ خُلُقًا هُمْ أَمِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة؟ فَإِنَّهُمْ يُقِرُّونَ أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ أَشَدُّ خَلْقًا مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِمَ

يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ؟ وَهُمْ يُشَاهِدُونَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مما أنكروا، كما قال عزَّ وجلَّ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولكنَّ أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ثُمَّ بيَّن أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ شَيْءٍ ضَعِيفٍ فَقَالَ: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} قَالَ مجاهد وَالضَّحَّاكُ: هُوَ الْجَيِّدُ الَّذِي يَلْتَزِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وقال ابن عباس وعكرمة: هو اللزج الجيد، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الَّذِي يَلْزَقُ بِالْيَدِ، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} أَيْ بَلْ عَجِبْتَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ تَكْذِيبِ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، وَأَنْتَ موقن مصدق بما أخبر الله تعالى مِنَ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ، وَهُوَ إِعَادَةُ الْأَجْسَامِ بَعْدَ فَنَائِهَا، وَهُمْ بِخِلَافِ أَمْرِكَ مِنْ شِدَّةِ تَكْذِيبِهِمْ يَسْخَرُونَ مِمَّا تَقُولُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ قَتَادَةُ: عَجِبَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَخِرَ ضُلَّالُ بَنِي آدَمَ، {وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً} أَيْ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى ذَلِكَ {يَسْتَسْخِرُونَ}، قَالَ مجاهد: يَسْتَهْزِئُونَ، {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أَيْ مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ، {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الْأَوَّلُونَ}؟ يَسْتَبْعِدُونَ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُونَ بِهِ {قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ}، أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: نعم تبعثون يوم القيامة بعدما تَصِيرُونَ تُرَابًا وَعِظَامًا، {وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} أَيْ حَقِيرُونَ تَحْتَ الْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}، وقال تعالى: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}، ثم قال جلت عظمته: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} أي فإنما هُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، يدعوهم أَن يَخْرُجُواْ مِنَ الْأَرْضِ، فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ يَنْظُرُونَ إِلَى أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

- 20 - وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ - 21 - هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ - 22 - احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ - 23 - مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ - 24 - وَقِفُوهُمْ إنهم مسؤولون - 25 - مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ - 26 - بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قَيْلِ الْكَفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ، وَيَعْتَرِفُونَ بأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم، فإذا عاينوا أهوال القيامة، ندموا كل الندامة حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ، {وَقَالُواْ يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ}، فَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} على وجه التقريع والتوبيخ، ويأمر الله تعالى الْمَلَائِكَةَ أَنْ تُمَيِّزَ الْكُفَّارَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فِي الْمَوْقِفِ فِي مَحْشَرِهِمْ وَمَنْشَرِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ}، قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بشير: يَعْنِي بِأَزْوَاجِهِمْ أَشْبَاهَهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ (وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وأبو العالية وغيرهم. وروي عن ابن عباس أنه قال: {أزواجهم} نساؤهم، وهو غريب والمعروف عنه الأول)؛ وعن عمر بن الخطاب: {وَأَزْوَاجَهُمْ} قال: إخوانهم، وقال النعمان: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} قال: أشباههم، قال: يجيء أصحاب الزنا مع أصحاب الزنا، وأصحاب الربا مع أصحاب الربا، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر، وقال ابن عباس: {أَزْوَاجَهُمْ} قُرَنَاءَهُمْ، {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ تُحْشَرُ مَعَهُمْ في أماكنهم، وقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} أَيْ أَرْشَدُوهُمْ إِلَى طَرِيقَ جَهَنَّمَ، وهذا كقوله تعالى: {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زنادهم سعيراً}، وقوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولون} أي قفوهم

حَتَّى يُسْأَلُوا عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمُ، الَّتِي صَدَرَتْ عنهم في الدار الدنيا، قال ابن عباس: يعني احبسوهم إنهم محاسبون، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى شَيْءٍ كَانَ مَوْقُوفًا مَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُغَادِرُهُ وَلَا يُفَارِقُهُ، وَإِنْ دَعَا رَجُلٌ رَجُلًا» ثُمَّ قرأ: {وقفوهم إنهم مسؤولون} (رواه ابن أبي حاتم وابن جرير والترمذي عن أنَس بن مالك مرفوعاً)، وقال ابن المبارك: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الرَّجُلُ جُلَسَاؤُهُ: " ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ {مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ؟} أَيْ كَمَا زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ؟ {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} أَيْ مُنْقَادُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ لَا يُخَالِفُونَهُ وَلَا يحيدون عنه، والله أعلم.

- 27 - وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ - 28 - قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ - 29 - قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ - 30 - وَمَا كَانَ لَنَآ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ - 31 - فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ - 32 - فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ - 33 - فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ - 34 - إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ - 35 - إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ - 36 - وَيَقُولُونَ أئنا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ - 37 - بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ المرسلين يذكر تعالى: أن الكفار يتلامون فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، كَمَا يَتَخَاصَمُونَ فِي دَرَكَاتِ النَّارِ، {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النار}؟ كما قال تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلِ، يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} وهكذا قالوا لهم ههنا: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ، يَقُولُونَ: كُنْتُمْ تَقْهَرُونَنَا بِالْقُدْرَةِ مِنْكُمْ عَلَيْنَا، لِأَنَّا كُنَّا أَذِلَّاءَ وَكُنْتُمْ أَعِزَّاءَ، وَقَالَ مجاهد: يعني عن الحق، تقوله الكفار لِلشَّيَاطِينِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَتِ الْإِنْسُ لِلْجِنِّ: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ}، قَالَ: مِنْ قِبَلِ الْخَيْرِ فَتَنْهُونَا عَنْهُ وَتُبْطِئُونَا عَنْهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: تأنوننا من قبل الحق وتزينوا لنا الباطل، وتصدونا عن الحق، قال الحسن: أي والله يأيته عِنْدَ كُلِّ خَيْرٍ يُرِيدُهُ فَيَصُدُّهُ عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ تَحُولُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخَيْرِ، وَرَدَدْتُمُونَا عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِالْخَيْرِ الَّذِي أمرنا به. وقوله تعالى: {قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} تَقُولُ الْقَادَةُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِلْأَتْبَاعِ: مَا الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ، بَلْ كَانَتْ قُلُوبُكُمْ مُنْكِرَةً لِلْإِيمَانِ، قَابِلَةً لِلْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، {وَمَا كَانَ لَنَآ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} أَيْ مِنْ حُجَّةٍ عَلَى صِحَّةِ مَا دَعَوْنَاكُمْ إِلَيْهِ، {بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ} أَيْ بَلْ كَانَ فِيكُمْ طُغْيَانٌ وَمُجَاوَزَةٌ لِلْحَقِّ، فَلِهَذَا اسْتَجَبْتُمْ لَنَا وَتَرَكْتُمُ الْحَقَّ الَّذِي جَاءَتْكُمْ بِهِ الأنبياء، {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ}، يَقُولُ الْكُبَرَاءُ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ: حَقَّتْ عَلَيْنَا كَلِمَةُ اللَّهِ إِنَّا مِنَ الْأَشْقِيَاءِ الذَّائِقِينَ للعذاب يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {فَأَغْوَيْنَاكُمْ} أَيْ دَعَوْنَاكُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ}، أي فدعوناكم إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَاسْتَجَبْتُمْ لَنَا، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} أَيِ الْجَمِيعُ فِي النَّارِ كُلٌّ بِحَسَبِهِ، {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * إِنَّهُمْ كَانُوا} أَيْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} أَيْ يَسْتَكْبِرُونَ أَنْ يَقُولُوهَا كَمَا يقولها المؤمنون.

وفي الحديث: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إلا بحقه وحسابه على الله عزَّ وجلَّ» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعاً). وروى ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ: يُؤْتَى بِالْيَهُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ نعبد اللَّهَ وَعُزَيْرًا، فَيُقَالُ لَهُمْ: خُذُوا ذَاتَ الشِّمَالِ؛ ثُمَّ يُؤْتَى بِالنَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعْبُدُ اللَّهَ وَالْمَسِيحَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: خُذُوا ذَاتَ الشِّمَالِ؛ ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمُشْرِكِينَ فَيُقَالُ لَهُمْ: لاَّ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَسْتَكْبِرُونَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَسْتَكْبِرُونَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَسْتَكْبِرُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: خُذُوا ذَاتَ الشِّمَالِ، قَالَ أَبُو نَضْرَةَ: فَيَنْطَلِقُونَ أَسْرَعَ مِنَ الطَّيْرِ، قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ: ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمُسْلِمِينَ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ اللَّهَ تعالى، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ تَعْرِفُونَهُ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فَكَيْفَ تَعْرِفُونَهُ وَلَمْ تَرَوْهُ؟ فيقولون: نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ، قَالَ: فَيَتَعَرَّفُ لهم تبارك وتعالى وتقدس وينجي الله المؤمنين (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي العلاء موقوفاً). {ويقولون أئنا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} أَيْ أَنْحَنُ نَتْرُكُ عِبَادَةَ آلِهَتِنَا وَآلِهَةِ آبَائِنَا عَنْ قَوْلِ هَذَا الشَّاعِرِ الْمَجْنُونِ؟ يَعْنُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى تَكْذِيبًا لَهُمْ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ: {بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ} يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء بالحق، {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} أَيْ صَدَّقَهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ، وَالْمَنَاهِجِ السَّدِيدَةِ، وَأَخْبَرَ عَنِ الله تعالى في شرعه وَأَمْرِهِ، كَمَا أَخْبَرُوا {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} الْآيَةَ.

- 38 - إنكم لذائقوا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ - 39 - وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - 40 - إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ - 41 - أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ - 42 - فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ - 43 - فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ - 44 - عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ - 45 - يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ - 46 - بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ - 47 - لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ - 48 - وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ - 49 - كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ يَقُولُ تَعَالَى مخاطباً للناس: {إنكم لذائقوا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عِبَادَهُ الْمُخْلَصِينَ، كما قال تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جثياً}، وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين}، ولهذا قال جلَّ وعلا ههنا {إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أَيْ لَيْسُوا يَذُوقُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وَلَا يُنَاقَشُونَ فِي الْحِسَابِ، بَلْ يَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ إِنْ كَانَ لَهُمْ سَيِّئَاتٌ، وَيُجْزَوْنَ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أضعاف كثيرة، وقوله جلَّ وعلا {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ} قال السدي: يَعْنِي الْجَنَّةَ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَاكِهُ} أي متنوعة {وَهُم مُّكْرَمُونَ} أي يخدمون وَيُرَفَّهُونَ وَيُنَعَّمُونَ {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}، قال مجاهد: لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، وقوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا

يُنزَفُونَ} كما قال تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ ينزفون} نزّه الله سبحانه وتعالى خمر الجنة عَنِ الْآفَاتِ الَّتِي فِي خَمْرِ الدُّنْيَا، مِنْ صُدَاعِ الرَّأْسِ، وَوَجَعِ الْبَطْنِ، وَهُوَ (الْغَوْلُ) وَذَهَابِهَا بالعقل جملة، فقال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} أَيْ بِخَمْرٍ مِنْ أَنْهَارٍ جَارِيَةٍ، لَا يَخَافُونَ انْقِطَاعَهَا وَلَا فراغها، قال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: خَمْرٌ جَارِيَةٌ بَيْضَاءُ، أَيْ لَوْنُهَا مُشْرِقٌ حَسَنٌ بَهِيٌّ، لَا كَخَمْرِ الدُّنْيَا فِي مَنْظَرِهَا الْبَشِعِ الرَّدِيءِ، مِنْ حُمْرَةٍ أَوْ سَوَادٍ أَوِ اصْفِرَارٍ أَوْ كُدُورَةٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُنَفِّرُ الطَّبْعَ السَّلِيمَ، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} أَيْ طَعْمُهَا طَيِّبٌ كَلَوْنِهَا، وَطِيبُ الطَّعْمِ دَلِيلٌ عَلَى طِيبِ الرِّيحِ، بِخِلَافِ خمر الدنيا في جميع ذلك، وقوله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ} يعني وجع البطن (قاله ابن عباس ومجاهد وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ)، كَمَا تَفْعَلُهُ خَمْرُ الدُّنْيَا، وقيل: المراد بالغول ههنا صداع الرأس، وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ صُدَاعُ الرأس ووجع البطن؛ وقال السُّدِّيِّ: لَا تَغْتَالُ عُقُولَهُمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَمَا زَالَتِ الْكَأْسُ تَغْتَالُنَا * وَتَذْهَبُ بِالْأَوَّلِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا مَكْرُوهَ فِيهَا وَلَا أَذًى، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: إِنَّهُ وَجَعُ البطن، وقوله تعالى: {وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تذهب عقولهم (وكذا قال ابن عباس والحسن وعطاء والسدي)، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ خِصَالٍ: (السُّكْرُ، والصداع، والقيء، والبول)، فذكر الله تعالى خمر الجنة، فنزّهها عن هذه الخصال، وقوله تعالى: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أَيْ عَفِيفَاتٌ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ، كَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد، وقوله تبارك وتعالى: {عِينٌ} أَيْ حِسَانُ الْأَعْيُنِ، وَقِيلَ ضِخَامُ الْأَعْيُنِ، وَهِيَ النَّجْلَاءُ الْعَيْنَاءُ، فَوَصَفَ عُيُونَهُنَّ بِالْحُسْنِ وَالْعِفَّةِ، كقول زليخا في يوسف عليه السلام {ولقد روادته عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} أَيْ هُوَ مَعَ هَذَا الْجَمَالِ عَفِيفٌ تَقِيٌّ نقي، وهكذا الحور العين {خَيْرَاتٌ حسان}، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف عِينٌ}. وقوله جلَّ جلاله: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} وَصَفَهُنَّ بِتَرَافَةِ الْأَبْدَانِ بِأَحْسَنِ الألوان، قال ابن عباس {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} يقول: اللؤلؤ المكنون، وأنشد قول الشاعر: وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوا * ص مِيزَتْ مِنْ جَوْهَرٍ مَكْنُونِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مكنون} يعين مصون لم تمسه الأيدي، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} يعني بطن البيض، وَقَالَ السُّدِّيُّ {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} يَقُولُ بَيَاضُ الْبَيْضِ حِينَ يُنْزَعُ قِشْرُهُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لِقَوْلِهِ {مَّكْنُونٌ} قَالَ: وَالْقِشْرَةُ الْعُلْيَا يَمَسُّهَا جَنَاحُ الطير والعش، وتنالها الأيدي بخلاف داخلها، وفي الحديث عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا حَزِنُوا، وَأَنَا شَفِيعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا، لِوَاءُ الْحَمْدِ يومئذٍ بِيَدِي، وأنا أكرم ولد آدم على الله عزَّ وجلَّ وَلَا فَخْرَ، يَطُوفُ عَلِيَّ أَلْفُ خَادِمٍ كَأَنَّهُنَّ الْبَيْضُ الْمَكْنُونُ - أَوِ اللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ -» (أخرجه ابن أبي حاتم وروى بعضه الترمذي).

- 50 - فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ - 51 - قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ - 52 - يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ - 53 - أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ - 54 - قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُطَّلِعُونَ - 55 - فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ - 56 - قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ - 57 - وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ - 58 - أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ - 59 - إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ - 60 - إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - 61 - لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُ {أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} أَيْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَكَيْفَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا، وَمَاذَا كَانُوا يُعَانُونَ فِيهَا، وَذَلِكَ مِنْ حَدِيثِهِمْ عَلَى شَرَابِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ فِي تُنَادِمِهِمْ، ومعاشرتهم فِي مَجَالِسِهِمْ، وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى السُّرُرِ، وَالْخَدَمِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، يَسْعَوْنَ وَيَجِيئُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ عَظِيمٍ، مما لا رأت عين، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} قال مجاهد: يعني شيطاناً، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الرَّجُلُ الْمُشْرِكُ يَكُونُ لَهُ صاحب من أهل الإيمان في الدنيا (القائل هو أحد الرجلين اللذين قال الله فيهما: {واضرب لهم مثلاً رجلين} والقرين: الرجل الذي دخل جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لنفسه، وقد وردت قصتهما في سورة الكهف)، وَلَا تَنَافِي بَيْنَ كَلَامِ مُجَاهِدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَكُونُ مِنَ الْجِنِّ فَيُوَسْوِسُ فِي النَّفْسِ، وَيَكُونُ مِنَ الْإِنْسِ فَيَقُولُ كَلَامًا تَسْمَعُهُ الأذنان، وكلاهما يتعاونان، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وكل منهما يوسوس، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صدور الناس من الجنة والناس}، وَلِهَذَا: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} أَيْ أَأَنْتَ تُصَدِّقُ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ؟ يَعْنِي يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ وَالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ}؟ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: لَمُحَاسَبُونَ، وَقَالَ ابْنُ عباس: لمجزيون بأعمالنا، قال تعالى: {قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} أَيْ مُشْرِفُونَ، يَقُولُ الْمُؤْمِنُ لِأَصْحَابِهِ وَجُلَسَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ والسدي: يَعْنِي فِي وَسَطِ الْجَحِيمِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: في وسط الجحيم كأنه شهاب يتقدم، وقال قتادة: ذكر أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي، وقال كعب الأحبار: فِي الْجَنَّةِ كُوًى، إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يَنْظُرَ إِلَى عَدُوِّهِ فِي النَّارِ، اطلع فيها فازداد شكراً لله، {قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} يَقُولُ الْمُؤْمِنَ مُخَاطِبًا لِلْكَافِرِ: وَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُهْلِكُنِي لَوْ أَطَعْتُكَ، {وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} أي وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عليك لكنت مثلك فِي سَوَآءِ الجحيم، محضر معك في العذاب، ولكنه رحمني فهداني للإيمان، وأرشدني إلى توحيده {وما كما لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هدانا الله}. وقوله تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}؟ هذا من كلام المؤمن، مغطبتاً نفسه بما أعطاه الله تعالى، مِنَ الْخُلْدِ فِي الْجَنَّةِ وَالْإِقَامَةِ فِي دَارِ الكرامة، بلا موت فيها ولا عذاب، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم}. قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ نَعِيمٍ فَإِنَّ الْمَوْتَ يَقْطَعُهُ، فَقَالُوا: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ

بِمُعَذَّبِينَ}؟ قيل: لَا، قَالُوا: {إنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. وقوله جل جلاله: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} قَالَ قَتَادَةُ هَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: لِمِثْلِ هَذَا النَّعِيمِ وَهَذَا الْفَوْزِ فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ فِي الدنيا ليصيروا إليه في الآخرة. قال السدي: كَانَ شَرِيكَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَحَدُهُمَا مُؤْمِنٌ وَالْآخَرُ كَافِرٌ، فَافْتَرَقَا عَلَى سِتَّةِ آلَافِ دِينَارٍ، لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، ثم افترقا فَمَكَثَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَا، ثُمَّ الْتَقَيَا، فَقَالَ الْكَافِرُ لِلْمُؤْمِنِ: مَا صَنَعْتَ فِي مَالِكَ؟ أَضَرَبْتَ بِهِ شَيْئًا، أَتَّجَرْتَ بِهِ فِي شيء؟ قال لَهُ الْمُؤْمِنُ: لَا، فَمَا صَنَعْتَ أَنْتَ؟ فَقَالَ اشتريت به أرضاً ونخلاً وثمارا وأنهارا بالف دينار - قَالَ - فَقَالَ لَهُ الْمُؤْمِنُ: أَوَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَرَجَعَ الْمُؤْمِنُ حَتَّى إِذَا كَانَ الليل صلى ما شاء الله تعالى أَنْ يُصَلِّيَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخَذَ أَلْفَ دِينَارٍ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانًا - يَعْنِي شَرِيكَهُ الْكَافِرَ - اشْتَرَى أَرْضًا وَنَخْلًا وَثِمَارًا وَأَنْهَارًا بِأَلْفِ دِينَارٍ ثُمَّ يَمُوتُ غَدًا وَيَتْرُكُهَا. اللَّهُمَّ إِنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْكَ بِهَذِهِ الْأَلْفِ دِينَارٍ أَرْضًا وَنَخْلًا وَثِمَارًا وَأَنْهَارًا فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحَ فَقَسَمَهَا فِي الْمَسَاكِينِ، قَالَ: ثُمَّ مَكَثَا مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَمْكُثَا، ثُمَّ الْتَقَيَا، فَقَالَ الْكَافِرُ لِلْمُؤْمِنِ: مَا صَنَعْتَ فِي مَالِكَ أَضَرَبْتَ بِهِ فِي شَيْءٍ؟ أتجرت به في شيء؟ قال: لا، قال: فَمَا صَنَعْتَ أَنْتَ؟ قَالَ: كَانَتْ ضَيْعَتِي قَدِ اشْتَدَّ عليَّ مُؤْنَتُهَا، فَاشْتَرَيْتُ رَقِيقًا بِأَلْفِ دِينَارٍ، يقومون لي فِيهَا وَيَعْمَلُونَ لِي فِيهَا، فَقَالَ لَهُ الْمُؤْمِنُ: أَوَفَعَلْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَرَجَعَ الْمُؤْمِنُ حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ تعالى أَنْ يُصَلِّيَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخَذَ أَلْفَ دِينَارٍ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانًا - يَعْنِي شَرِيكَهُ الْكَافِرُ - اشْتَرَى رَقِيقًا مِنْ رقيق الدنيا بألف دينار يموت غداً فيتركهم أو يموتون فيتركونه، اللَّهُمَّ إِنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْكَ بِهَذِهِ الْأَلْفِ دِينَارٍ رقيقاً فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحَ، فَقَسَمَهَا فِي الْمَسَاكِينِ قَالَ: ثُمَّ مَكَثَا مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَمْكُثَا، ثُمَّ الْتَقَيَا، فَقَالَ الْكَافِرُ لِلْمُؤْمِنِ: مَا صَنَعْتَ فِي مَالِكَ أَضَرَبْتَ بِهِ فِي شَيْءٍ، أَتَّجَرْتَ بِهِ فِي شَيْءٍ؟ قَالَ: لا، فما صنعت أنت؟ قال: كان أَمْرِي كُلُّهُ قَدْ تَمَّ إِلَّا شَيْئًا وَاحِدًا، فُلَانَةٌ قَدْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَأَصْدَقْتُهَا أَلْفَ دِينَارٍ، فَجَاءَتْنِي بِهَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا، فَقَالَ لَهُ الْمُؤْمِنُ: أَوَفَعَلْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ، فَرَجَعَ الْمُؤْمِنُ حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ صَلَّى مَا شَاءَ الله تعالى أن يصلي، فلما انصرف أخذ الألف دينار الباقية فوضعها بين يدي، وَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ فُلَانًا - يَعْنِي شَرِيكَهُ الْكَافِرَ - تزوج زوجة من أزواج الدنيا بألف دينار، فيموت غداً فيتركها أو تموت غداً فَتَتْرُكُهُ، اللَّهُمَّ وَإِنِّي أَخْطُبُ إِلَيْكَ بِهَذِهِ الْأَلْفِ دينار حوراء عيناء في الجنة - قال - ثُمَّ أَصْبَحَ فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمَسَاكِينِ - قَالَ - فَبَقِيَ المؤمن ليس عنده شيء، فَخَرَجَ شَرِيكُهُ الْكَافِرُ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَلَمَّا رَآهُ عَرَفَهُ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَصَافَحَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَلَمْ تَأْخُذْ مِنَ الْمَالِ مِثْلَ ما آخذت؟ قال: بلى، قال: وَهَذِهِ حَالِي وَهَذِهِ حَالُكَ؟ قَالَ: أَخْبِرْنِي مَا صَنَعْتَ فِي مَالِكَ؟ قَالَ: أَقْرَضْتُهُ، قَالَ: مَنْ؟ قَالَ: الْمَلِيءَ الْوَفِيَّ، قَالَ: مَنْ؟ قَالَ: اللَّهَ ربي، قال، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: {أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ}؟ قَالَ السُّدِّيُّ: مُحَاسَبُونَ، قَالَ: فَانْطَلَقَ الكافر وتركه، فلما رآه المؤمن وليس يلوي عليه رجع وتركه وجعل يَعِيشُ الْمُؤْمِنُ فِي شِدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَيَعِيشُ الْكَافِرُ فِي رَخَاءٍ مِنَ الزَّمَانِ، قَالَ: فَإِذَا كان يوم القيامة وأدخل الله تعالى الْمُؤْمِنَ الْجَنَّةَ، يَمُرُّ فَإِذَا هُوَ بِأَرْضٍ وَنَخْلٍ وَثِمَارٍ وَأَنْهَارٍ فَيَقُولُ: لِمَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: هَذَا لك، فيقول: يا سبحان الله، أو بلغ مِنْ فَضْلِ عَمَلِي أَنْ أُثَابَ بِمِثْلِ هَذَا؟ قَالَ، ثُمَّ يَمُرُّ، فَإِذَا هُوَ بِرَقِيقٍ لَا تُحْصَى عِدَّتُهُمْ، فَيَقُولُ: لِمَنْ

هَذَا فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ لَكَ، فَيَقُولُ: يَا سُبْحَانَ الله، أو بلغ مِنْ فَضْلِ عَمَلِي أَنْ أُثَابَ بِمِثْلِ هَذَا؟ قَالَ: ثُمَّ يَمُرُّ، فَإِذَا هُوَ بِقُبَّةٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ مُجَوَّفَةٍ فِيهَا حَوْرَاءُ عَيْنَاءُ، فَيَقُولُ: لِمَنْ هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: هَذِهِ لَكَ، فَيَقُولُ: يَا سبحان الله، أو بلغ مِنْ فَضْلِ عَمَلِي أَنْ أُثَابَ بِمِثْلِ هَذَا؟ قَالَ: ثُمَّ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنُ شَرِيكَهُ الْكَافِرَ، فَيَقُولُ: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ}، قَالَ، فَالْجَنَّةُ عَالِيَةٌ، وَالنَّارُ هَاوِيَةٌ، قَالَ: فيريه الله تعالى شَرِيكَهُ فِي وَسَطِ الْجَحِيمِ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ النَّارِ، فَإِذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُ عَرَفَهُ، فَيَقُولُ: {تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} بِمَثَلِ ما قد مُنَّ عَلَيْهِ، قَالَ: فَيَتَذَكَّرُ الْمُؤْمِنُ مَا مَرَّ عليه في الدنيا من شدة، فَلَا يَذْكُرُ مِمَّا مَرَّ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا من الشدة أشد عَلَيْهِ مِنَ الموت (أخرجه ابن أبي حاتم).

- 62 - أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ - 63 - إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ - 64 - إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الجحيم - 65 - طلعها كأنه رؤوس الشَّيَاطِينِ - 66 - فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ - 67 - ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ - 68 - ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ - 69 - إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَالِّينَ - 70 - فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ يَقُولُ الله تعالى: أهذا الذي ذكر مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ مَآكِلَ وَمُشَارِبَ وَمَنَاكَحَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَاذِّ خَيْرٌ ضِيَافَةً وَعَطَاءً {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} أَيِ الَّتِي في جهنم؟ وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ}، قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَتْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، فَافْتَتَنَ بِهَا أَهْلُ الضَّلَالَةِ، وَقَالُوا صَاحِبُكُمْ يُنْبِئُكُمْ أَنَّ فِي النَّارِ شَجَرَةً وَالنَّارُ تأكل الشجر، فأنزل الله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم} غذيت مِنَ النَّارِ وَمِنْهَا خُلِقَتْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا الزَّقُّومُ التَّمْرُ وَالزُّبْدُ أَتَزَقَّمُهُ؟ قُلْتُ: وَمَعْنَى الْآيَةِ إِنَّمَا أَخْبَرْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ، اخْتِبَارًا تَخْتَبِرُ بِهِ النَّاسَ، مَنْ يُصَدِّقُ منهم ممن يكذب، كقوله تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طيغاناً كَبِيراً} وقوله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} أَيْ أَصْلُ مَنْبَتِهَا فِي قَرَارِ النَّارِ: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رؤوس الشياطين} تبشيع لها وتكريه لذكرها، وإنما شبّهها برؤوس الشَّيَاطِينِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي النُّفُوسِ أَنَّ الشَّيَاطِينَ قبيحة المنظر، وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}، ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، الَّتِي لَا أَبْشَعَ مِنْهَا وَلَا أَقْبَحَ مِنْ مَنْظَرِهَا، مَعَ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ وَالطَّبْعِ، فَإِنَّهُمْ لَيَضْطَرُّونَ إِلَى الْأَكْلِ مِنْهَا، لأنهم لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ إياها وما هو فِي مَعْنَاهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ * لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي من جوع}، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، فَلَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ فِي بِحَارِ الدُّنْيَا لَأَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مَعَايِشَهُمْ، فكيف بمن يكون طعامه؟» (أخرجه الترمذي وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ).

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي شُرْبَ الحميم على الزقوم، وعنه {شَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} مَزْجًا مِنْ حَمِيمٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَعْنِي يَمْزُجُ لَهُمُ الْحَمِيمَ بِصَدِيدٍ وَغَسَّاقٍ، مما يسيل من فروجهم وعيونهم، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «يُقَرَّبُ - يَعْنِي إِلَى أَهْلِ النَّارِ - مَاءٌ فَيَتَكَرَّهُهُ، فَإِذَا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ فِيهِ، فَإِذَا شَرِبَهُ قطع أمعاءه، حتى تخرج من دبره» (أخرجه ابن أبي حاتم)، وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «إِذَا جَاعَ أَهْلُ النَّارِ اسْتَغَاثُوا بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ، فَأَكَلُوا مِنْهَا فَاخْتَلَسَتْ جُلُودَ وُجُوهِهِمْ، فَلَوْ أَنَّ ماراً قد مر بهم يعرفهم لعرفهم بوجوههم فِيهَا، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَيْهِمُ الْعَطَشَ، فَيَسْتَغِيثُونَ فَيُغَاثُونَ بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ، وَهُوَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، فَإِذَا أَدْنَوْهُ مِنْ أَفْوَاهِهِمُ اشْتَوَى مِنْ حَرِّهِ لحوم ووجوههم، التي سَقَطَتْ عَنْهَا الْجُلُودُ وَيُصْهَرُ مَا فِي بُطُونِهِمْ، فَيَمْشُونَ تَسِيلُ أَمْعَاؤُهُمْ، وَتَتَسَاقَطُ جُلُودُهُمْ ثُمَّ يُضْرَبُونَ بِمَقَامِعَ مِنْ حَدِيدٍ، فَيَسْقُطُ كُلُّ عُضْوٍ عَلَى حياله يدعون بالثبور» (هذا حديث موقوف أخرجه ابن أبي حاتم)، وقوله عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ} أَيْ ثُمَّ إِنَّ مَرَدَّهُمْ بَعْدَ هَذَا الْفَصْلِ لَإِلَى نَارٍ تتأجج، وجحيم تتوقد، وسعير تتوهج، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} هَكَذَا تَلَا قَتَادَةُ هَذِهِ الْآيَةَ عِنْدَ هَذِهِ الآية، وهو تفسير حسن قوي، وكان عبد الله (المراد به ابن مسعود رضي الله عنه وهي رواية السدي عنه) رضي الله عنه يَقُولُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَنْتَصِفُ النَّهَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقِيلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ. ثُمَّ قَرَأَ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}. وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ} أي إنما جازيناه بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ، فَاتَّبَعُوهُمْ فِيهَا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} قال مجاهد: شبَّهة بِالْهَرْوَلَةِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُسَفَّهُونَ.

- 71 - وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ - 72 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ - 73 - فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ - 74 - إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا ضَالِّينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخرى. وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أرسل فيهم منذرين ينذرونهم بأس الله، ويحذرونهم سطوته ونقمته، وَأَنَّهُمْ تَمَادَوْا عَلَى مُخَالَفَةِ رُسُلِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، فَأَهْلَكَ الله الْمُكَذِّبِينَ وَدَمَّرَهُمْ، وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ وَنَصَرَهُمْ وَظَفَّرَهُمْ، وَلِهَذَا قال تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين}.

- 75 - وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ - 76 - وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ - 77 - وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ - 78 - وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ - 79 - سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ - 80 - إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - 81 - إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ - 82 - ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عَنْ أَكْثَرِ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنْ سَبِيلِ النَّجَاةِ شَرَعَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ مفصلاً، فذكر نوحاً عليه الصلاة والسلام وَمَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَنْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ مَعَ طُولِ المدة، لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ تَكْذِيبُهُمْ، وكلما دعاهم ازدادوا نُفْرة {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مغلوب فانتصر}، فغضب الله تعالى لغضبه عليهم، ولهذا قال عز وجل: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} لَهُ، {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} وَهُوَ التَّكْذِيبُ وَالْأَذَى، {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين} قال ابن عباس: لَمْ تَبْقَ إِلَّا ذُرِّيَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وقال قتادة: النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وقد روى الترمذي عَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} قَالَ: سَامٌ وَحَامٌ ويافث، وروى الإمام أحمد، عن سمرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامٌ أَبُو الْحَبَشِ، ويافث أبو الروم» (أخرجه الإمام أحمد ورواه الترمذي في السنن)، وقوله تبارك وتعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُذْكَرُ بِخَيْرٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي لِسَانَ صِدْقٍ لِلْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ فِي الْآخَرِينَ، قَالَ الضَّحَّاكُ: السَّلَامُ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} مُفَسِّرٌ لِمَا أَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ وَالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الطَّوَائِفِ وَالْأُمَمِ، {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أَيْ هَكَذَا نَجْزِي مَنْ أَحْسَنَ من العباد في طاعة الله تعالى، نَجْعَلُ لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ يُذَكَرُ بِهِ بَعْدَهُ، ثم قال تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} أَيِ الْمُصَدِّقِينَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُوقِنِينَ، {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَمْ تبق منهم عين تطرف، ولا ذكر وَلَا عَيْنَ وَلَا أَثَرَ، وَلَا يُعَرَفُونَ إِلَّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْقَبِيحَةِ.

- 83 - وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لِإِبْرَاهِيمَ - 84 - إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ - 85 - إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ - 86 - أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ - 87 - فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِن مِّنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ} يَقُولُ: مِنْ أَهْلِ دِينِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى مِنْهَاجِهِ وَسُنَّتِهِ {إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله، روى ابن أبي حاتم، عن عوف قال: قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ "مَا الْقَلْبُ السَّلِيمُ؟ قَالَ: يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَّن فِي القبور" (أخرجه ابن أبي حاتم من كلام ابن سيرين)، وقال الحسن: سليم من الشرك، ثمَّ قال تعالى: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ}؟ أَنْكَرَ عليهم عبادة الأصنام والأنداد، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين}؟ قال قتادة: يعني ما ظنكم أنه فاعل بكم إذا لا قيتموه وقد عبدتم معه غيره؟.

- 88 - فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ - 89 - فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ - 90 - فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ - 91 - فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ - 92 - مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ - 93 - فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ - 94 - فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ - 95 - قَالَ أَتَعْبُدُونَ

مَا تَنْحِتُونَ - 96 - وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ - 97 - قَالُواْ ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ - 98 - فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ إِنَّمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَوْمِهِ ذَلِكَ، لِيُقِيمَ فِي الْبَلَدِ إِذَا ذَهَبُوا إِلَى عِيدِهِمْ، فَإِنَّهُ كَانَ قد أزف خروجهم إلى عيدهم، فَأَحَبَّ أَنْ يَخْتَلِيَ بِآلِهَتِهِمْ لِيَكْسِرَهَا، فَقَالَ لَهُمْ كَلَامًا هُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ سَقِيمٌ عَلَى مُقْتَضَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ، {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ}. قَالَ قَتَادَةُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ تَفَكَّرَ: نَظَرَ فِي النُّجُومِ، يَعْنِي قَتَادَةُ أنه نظر إلى السَّمَاءِ مُتَفَكِّرًا فِيمَا يُلْهِيهِمْ بِهِ، فَقَالَ: {إِنِّي سَقِيمٌ} أي ضعيف، فأما قوله عليه السلام: "لم يكذب إبراهيم عليه السلام غَيْرَ ثَلَاثِ كَذْبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ تعالى، قَوْلُهُ: [{إِنِّي سَقِيمٌ}، وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا}، وَقَوْلُهُ فِي سَارَةَ: (هِيَ أُخْتِي)] فَهُوَ حَدِيثٌ مخرج في الصحاح والسنن، ولكن ليس مِنْ بَابِ الْكَذِبِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يُذَمُّ فَاعِلُهُ حاشا وكلا؛ وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْمَعَارِيضِ فِي الْكَلَامِ لِمَقْصِدٍ شَرْعِيٍّ دِينِيٍّ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب». قال ابن الْمُسَيَّبِ: رَأَى نَجْمًا طَلَعَ فَقَالَ: {إِنِّي سَقِيمٌ} كَابَدَ نَبِيُّ اللَّهِ عَنْ دِينِهِ {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}، وَقِيلَ: أَرَادَ {إِنِّي سَقِيمٌ} أَيْ مَرِيضُ الْقَلْبِ من عبادتكم الأوثان من دون الله تعالى، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: خَرَجَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى عِيدِهِمْ فَأَرَادُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ، فَاضْطَجَعَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَقَالَ: {إِنِّي سَقِيمٌ} وَجَعَلَ يَنْظُرُ فِي السَّمَاءِ، فَلَمَّا خَرَجُوا أَقْبَلَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَكَسَرَهَا (رَوَاهُ ابن أبي حاتم عن الحسن البصري)، ولهذا قال تعالى: {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ}، وقوله تعالى: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} أَيْ ذَهَبَ إِلَيْهَا بَعْدَ ما خَرَجُوا فِي سُرْعَةٍ وَاخْتِفَاءٍ، {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}؟ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ وَضَعُوا بَيْنَ أَيْدِيهَا طَعَامًا قُرْبَانًا لِتُبَرِّكَ لَهُمْ فِيهِ، قَالَ السُّدِّيُّ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى بَيْتِ الْآلِهَةِ، فإذا هم في بهو عظيم، وإذا مسقبل باب البهو صنم عظيم، إلى جنبه أصغر منه، بعضها إلى جنب بعضن كُلُّ صَنَمٍ يَلِيهِ أَصْغَرُ مِنْهُ حَتَّى بَلَغُوا بَابَ الْبَهْوِ، وَإِذَا هُمْ قَدْ جَعَلُوا طَعَامًا ووضعوه بَيْنَ أَيْدِي الْآلِهَةِ، وَقَالُوا: إِذَا كَانَ حِينَ نَرْجِعُ وَقَدْ بَرَّكَتِ الْآلِهَةُ فِي طَعَامِنَا أَكَلْنَاهُ، فلما نظر إبراهيم عليه الصلاة والسلام إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الطَّعَامِ قَالَ: {أَلاَ تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ}، وَقَوْلُهُ تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ مَالَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْجَوْهَرِيُّ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ؛ وَإِنَّمَا ضَرَبَهُمْ بِالْيَمِينِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ وَأَنْكَى، وَلِهَذَا تَرَكَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تفسير ذلك. وقوله تعالى ههنا: {فأقبلوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} قال مجاهد: أي يسرعون، فَلَمَّا جَاءُوا لِيُعَاتِبُوهُ أَخْذَ فِي تَأْنِيبِهِمْ وَعَيْبِهِمْ فَقَالَ: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}؟ أَيْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله من الأصنام ما أنتم تنحونها وَتَجْعَلُونَهَا بِأَيْدِيكُمْ؟ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} يُحْتَمَلُ أن تكون (ما) مصدرية، فيكون الكلام: خَلَقَكُمْ وَعَمَلَكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (الَّذِي) تَقْدِيرُهُ وَاللَّهُ خَلْقَكُمْ وَالَّذِي تَعْمَلُونَهُ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ متلازم، والأول أظهر، لما رواه البخاري عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً قال: «إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته» فَعِنْدَ ذَلِكَ لَمَّا قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ عَدَلُوا إِلَى أَخْذِهِ بِالْيَدِ وَالْقَهْرِ فَقَالُوا: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ

فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَنَجَّاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، وَأَظْهَرَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَعْلَى حَجَّتَهُ وَنَصَرَهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}.

- 99 - وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ - 100 - رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ - 101 - فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ - 102 - فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ - 103 - فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ - 104 - وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ - 105 - قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - 106 - إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ - 107 - وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ - 108 - وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ - 109 - سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ - 110 - كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - 111 - إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ - 112 - وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ - 113 - وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُّبِينٌ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، إِنَّهُ بعدما نصره الله تعالى على قومه، وأيس من إيمانهم بعد ما شَاهَدُوا مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ، هَاجَرَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَقَالَ: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} يَعْنِي أَوْلَادًا مطيعين يكونون عِوَضًا مِنْ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ الَّذِينَ فَارَقَهُمْ، قَالَ الله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} هذا الْغُلَامُ هُوَ (إِسْمَاعِيلُ) عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ وَلَدٍ بُشِّرَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ إِسْحَاقَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، بَلْ فِي نَصِّ كِتَابِهِمْ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ وُلِدَ وَلِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سِتٌّ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَوُلِدَ إسحاق وفي عمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام تسع وتسعون سنة، وعندهم أن الله تبارك وتعالى أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ وَحِيدَهُ، وَفِي نسخة أخرى: بكره، فأقحموا ههنا كَذِبًا وَبُهْتَانًا (إِسْحَاقَ) وَلَا يَجُوزُ هَذَا لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِنَصِّ كِتَابِهِمْ، وَإِنَّمَا أَقْحَمُوا إِسْحَاقَ لِأَنَّهُ أبوهم، وإسماعيل أبو العرب، فحسدوهم، وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ (إِسْحَاقُ) وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ، حَتَّى نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصحابة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ أَيْضًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَمَا أَظُنُّ ذَلِكَ تُلُقِّيَ إِلَّا عَنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأُخِذَ ذَلِكَ مُسَلَّماً مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، وَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ شَاهِدٌ وَمُرْشِدٌ إِلَى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بغلام حليم، وَذَكَرَ أَنَّهُ الذَّبِيحُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ}، وَلَمَّا بَشَّرَتِ الْمَلَائِكَةُ إِبْرَاهِيمَ بِإِسْحَاقَ قَالُوا {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} أَيْ يولد فِي حَيَاتِهِمَا وَلَدٌ يُسَمَّى يَعْقُوبُ فَيَكُونُ مِنْ ذريته عقب ونسل، فَكَيْفَ يُمْكِنُ بُعْدَ هَذَا أَنْ يُؤْمَرَ بِذَبْحِهِ صغيراً؟ وإسماعيل وصف ههنا بالحليم لأنه مناسب لهذا المقام، وقوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أَيْ كَبِرَ وَتَرَعْرَعَ وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه، قال ابن عباس ومجاهد: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي} بمعنى شَبَّ وَارْتَحَلَ، وَأَطَاقَ مَا يَفْعَلُهُ أَبُوهُ مِنَ السعي والعمل {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}؟، وَإِنَّمَا أَعْلَمُ ابْنَهُ بِذَلِكَ لِيَكُونَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ، وليختبر صبره وجلده وعزمه في صِغَرِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَةِ أَبِيهِ {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ} أَيِ امض

لِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ مِنْ ذَبْحِي، {سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} أَيْ سَأَصْبِرُ وَأَحْتَسِبُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَصَدَقَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فِيمَا وَعَدَ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً}، قال تَعَالَى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أَيْ فَلَمَّا تَشَهَّدَا وَذَكَرَا اللَّهَ تَعَالَى (إِبْرَاهِيمُ) عَلَى الذَّبْحِ و (الولد) شَهَادَةِ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: {أَسْلَمَا} يَعْنِي اسْتَسْلَمَا وَانْقَادَا، إبراهيم امتثل أمر الله تعالى وإسماعيل طاعة لله ولأبيه (قاله مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وهو الأظهر)، ومعنى {تلّه لِلْجَبِينِ}: أَيْ صَرَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ لِيَذْبَحَهُ مِنْ قَفَاهُ، وَلَا يُشَاهِدَ وَجْهَهُ عِنْدَ ذَبْحِهِ لِيَكُونَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، قال ابن عباس: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أكبه على وجهه (وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة). عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قال: لما أمر إبراهيم عليه السلام بِالْمَنَاسِكِ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ السَّعْيِ فَسَابَقَهُ، فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم ذهب به جبريل عليه السلام إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتِ، وَثَمَّ تلَّه للجبين، وعلى إسماعيل عليه الصلاة والسلام قَمِيصٌ أَبْيَضُ: فَقَالَ لَهُ يَا أَبَتِ إِنَّهُ ليس لي ثوب تكفني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفني فِيهِ، فَعَالَجَهُ لِيَخْلَعَهُ، فَنُودِيَ مِنْ خَلْفِهِ: {أَن يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} فَالْتَفَتَ إِبْرَاهِيمُ، فإذا بكبش أبيض أقرن أعين (هذا جزء من حديث رواه الإمام أحمد عن ابن عباس موقوفاً). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} أَيْ قَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ رُؤْيَاكَ بِإِضْجَاعِكَ وَلَدَكَ لِلذَّبْحِ، وَذَكَرَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ أمرَّ السِّكِّينَ عَلَى رَقَبَتِهِ فَلَمْ تَقْطَعْ شيئاً، بل حال بينها وبينه صفحة من نحاس، ونودي إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند ذلك {قد صَدَّقْتَ الرؤيآ}، وقوله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أَيْ هَكَذَا نَصْرِفُ عَمَّنْ أَطَاعَنَا الْمَكَارِهَ وَالشَّدَائِدَ، وَنَجْعَلُ لَهُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يحتسب}، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} أَيِ الِاخْتِبَارُ الْوَاضِحُ الْجَلِيُّ حَيْثُ أُمِرَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ فَسَارَعَ إِلَى ذَلِكَ، مُسْتَسْلِمًا لِأَمْرِ اللَّهِ تعالى مُنْقَادًا لِطَاعَتِهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وفى}، وقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} عن علي رضي الله عنه قال: بكبش أبيض أقرن قد ربط بسمرة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كَبْشٌ قَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الكبش يرتع في الجنة، حتى شقق عنه ثبير، وكان عليه عهن أحمر (ذكر أن الكبش هو الذي قر به ابن آدم وكان في الجنة حتى فدي به إسماعيل وهو منقول عن بعض السلف)، قال مجاهد: ذبحه بمنى عند النحر، وقال الثوري، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} قال: وعل، وقال الحسن: ما فدي إسماعيل عليه السلام إِلَّا بِتَيْسٍ مِنَ الْأَرْوَى، أُهْبِطَ عَلَيْهِ مِنْ ثبير. (ذكر الآثار الواردة بأنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو الصحيح المقطوع به). تقدمت الرواية عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ إسحاق عليه الصلاة والسلام، وروى مجاهد وعطاء وغير

واحد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ (إسماعيل) عليه الصلاة والسلام، وروى ابن جرير عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمُفْدَى إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود، وروى مجاهد، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: الذبيح إسماعيل، وقال مجاهد: هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وَقَدْ رَأَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ فِي الْكَعْبَةِ، وَقَالَ محمد بن إسحاق، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي أُمِرَ بِذَبْحِهِ مِنِ ابني إبراهيم (إسماعيل) عليه السلام، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تعالى إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِهِ مِنِ ابْنَيْهِ (إِسْمَاعِيلُ) وَإِنَّا لَنَجِدُ ذلك في كتاب الله تعالى، وذلك أن الله تعالى حِينَ فَرَغَ مِنْ قِصَّةِ الْمَذْبُوحِ مِنِ ابنَيْ إبراهيم قال تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين}، ويقول اللَّهُ تَعَالَى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} يَقُولُ: بِابْنٍ، وَابْنِ ابْنٍ، فَلَمْ يَكُنْ ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الْمَوْعِدُ بِمَا وَعَدَهُ، وَمَا الَّذِي أَمَرَ بِذَبْحِهِ إلا إسماعيل، قال ابن إسحاق: سمعته يقول ذلك كثيراً. وقال ابن إسحاق، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ خَلِيفَةٌ إِذْ كَانَ مَعَهُ بِالشَّامِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا كُنْتُ أَنْظُرُ فِيهِ، وَإِنِّي لَأَرَاهُ كَمَا قُلْتَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ كَانَ عِنْدَهُ بِالشَّامِ كَانَ يَهُودِيًّا، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ يَرَى أَنَّهُ من علمائهم، فسأله عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه عَنْ ذَلِكَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: وَأَنَا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ لَهُ عمر: أيُّ ابن إِبْرَاهِيمَ أُمِرَ بِذَبْحِهِ؟ فَقَالَ: إِسْمَاعِيلُ وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ يَهُودَ لَتَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ يَحْسُدُونَكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَبَاكُمُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِيهِ، وَالْفَضْلُ الذي ذكر الله تعالى مِنْهُ لِصَبْرِهِ لِمَا أُمِرَ بِهِ فَهُمْ يَجْحَدُونَ ذلك، ويزعمون أنه إسحاق، لأن إِسْحَاقَ أَبُوهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّهُمَا كَانَ، وَكُلٌّ قَدْ كَانَ طَاهِرًا طَيِّبًا مُطِيعًا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ (ذهب ابن جرير الطبري إلى أن الذبيح هو (إسحاق) وهو قول لبعض علماء السلف وإحدى الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما ورواية عن كعب الأحبار، والصحيح كما قال ابن كثير أن الذبيح هو (إسماعيل) للآثار الكثيرة الواردة وظاهر القرآن الكريم كما في رواية ابن إسحاق، والله أعلم.)، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: سَأَلْتُ أَبِي عَنِ الذَّبِيحِ، هل هُوَ إِسْمَاعِيلُ أَوْ إِسْحَاقُ؟ فَقَالَ: إِسْمَاعِيلُ (ذَكَرَهُ ابن حنبل فِي كِتَابِ الزُّهْدِ.). وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَسَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: الصَّحِيحُ أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ عليه الصلاة والسلام، قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي الطُّفَيْلِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وأبي صالح رَّضِيَ الله عَنْهُمْ أنهم قالوا: الذبيح إسماعيل، وَإِنَّمَا عَوَّلَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي اخْتِيَارِهِ أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} فَجَعَلَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ هِيَ الْبِشَارَةُ بِإِسْحَاقَ في قوله تعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عليم}، وَلَيْسَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِمَذْهَبٍ وَلَا لَازِمٍ، بَلْ هُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، وَالَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ عَلَى أَنَّهُ (إِسْمَاعِيلُ) أثبت وأصح وأقوى، والله أعلم. وقوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} لَمَّا تَقَدَّمَتِ الْبِشَارَةُ بِالذَّبِيحِ وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ عَطَفَ بِذِكْرِ الْبِشَارَةِ بِأَخِيهِ إِسْحَاقَ وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي سُورَتَيْ هُودٍ والحجر، وقوله تعالى: {نَبِيّاً} أي سيصير منه نبي صالح، قال

ابن عباس: بشر بنبوته، حين ولد، وحين نبئ، وقال قتادة في قوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} قَالَ: بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ لَمَّا جَادَ لِلَّهِ تعالى بنفسه، وقوله تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

- 114 - وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ - 115 - وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ - 116 - وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ - 117 - وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ - 118 - وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - 119 - وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ - 120 - سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ - 121 - إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - 122 - إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ يَذْكُرُ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى (موسى) و (هارون) مِنَ النُّبُوَّةِ، وَالنَّجَاةِ بِمَنْ آمَنَ مَعَهُمَا مِنْ قهر فرعون وقومه، وما كان يعتمد فِي حَقِّهِمْ مِنَ الْإِسَاءَةِ الْعَظِيمَةِ، مِنْ قَتْلِ الأنبياء وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ، وَاسْتِعْمَالِهِمْ فِي أَخَسِّ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ نَصَرَهُمْ عَلَيْهِمْ وَأَقَرَّ أَعْيُنَهُمْ مِنْهُمْ، فَغَلَبُوهُمْ وَأَخَذُوا أَرْضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَمَا كَانُوا جمعوه طوال حياتهم، ثم أنزل الله عزَّ وجلَّ عَلَى مُوسَى الْكِتَابَ الْعَظِيمَ، الْوَاضِحَ الْجَلِيَّ الْمُسْتَبِينَ وَهُوَ (التَّوْرَاةُ) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وهارون الفرقان ضياء}. وقال عزَّ وجلَّ ههنا: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أَيْ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ} أَيْ أَبْقَيْنَا لَهُمَا مِنْ بَعْدِهِمَا ذِكْرًا جَمِيلًا، وثناء حسناً، ثم فسره بقوله تعالى: {سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}.

- 123 - وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ - 124 - إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ - 125 - أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ - 126 - اللَّهَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الْأَوَّلِينَ - 127 - فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ - 128 - إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ - 129 - وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ - 130 - سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ - 131 - إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - 132 - إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ قال قتادة: يقال إلياس هو إدريس، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ منبه: هو إلياس بن نسي بن فنحاص، بعثه الله تعالى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ (حِزْقِيلَ) عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَكَانُوا قَدْ عَبَدُوا صَنَمًا يُقَالُ لَهُ بَعْلٌ، فدعاهم إلى الله تعالى، وَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، وَكَانَ قَدْ آمَنَ بِهِ مَلِكُهُمْ، ثُمَّ ارْتَدَّ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ضَلَالَتِهِمْ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَدَعَا اللَّهَ عَلَيْهِمْ فَحَبَسَ عَنْهُمُ الْقَطْرَ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثم سألوه أن يكشف ذلك عنهم ووعده بالإيمان بِهِ إِنْ هُمْ أَصَابَهُمُ الْمَطَرُ، فَدَعَا اللَّهَ تعالى لَهُمْ، فَجَاءَهُمُ الْغَيْثُ، فَاسْتَمَرُّوا عَلَى أَخْبَثِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ نَشَأَ عَلَى يَدَيْهِ (اليسع بن أخطوب) عليهما السلام.

{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون الله عزَّ وجلَّ فِي عِبَادَتِكُمْ غَيْرَهُ، {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين}؟ قال ابن عباس ومجاهد: {بَعْلاً} يعني رباً، قال عكرمة وقتادة: وهي لغة أهل اليمن، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ امْرَأَةً اسْمُهَا بَعْلٌ، وَقَالَ عبد الرحمن بن زيد: هُوَ اسْمُ صَنَمٍ كَانَ يَعْبُدُهُ أَهْلُ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا بَعْلَبَكُّ غَرْبِيَّ دِمَشْقَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هو صنم كانوا يعبدونه، وقوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً}؟ أَيْ أَتَعْبُدُونَ صَنَمًا، {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الْأَوَّلِينَ} أَيْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أَيْ لِلْعَذَابِ يَوْمَ الْحِسَابِ {إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي الموحدين منهم، وهذا استثناء منقطع، وقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} أَيْ ثَنَاءً جَمِيلًا {سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ}، كَمَا يُقَالُ فِي إسماعيل إسماعين، وهي لغة بني أسد، وقوله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} قد تقدم تفسيره والله أعلم.

- 133 - وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ - 134 - إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ - 135 - إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ - 136 - ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ - 137 - وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ - 138 - وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (لُوطٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ بَعَثَهُ إِلَى قَوْمِهِ فَكَذَّبُوهُ، فنجاه الله تعالى مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ هُوَ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ، فَإِنَّهَا هَلَكَتْ مَعَ مَنْ هَلَكَ مِنْ قَوْمِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْلَكَهُمْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعُقُوبَاتِ وَجَعَلَ مَحِلَّتَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ بُحَيْرَةً مُنْتِنَةً قَبِيحَةَ المنظر والطعم والريح (اشتهرت بتسميتها (بحيرة لوط) وهي قريبة من شرقِ الأردن)، وَجَعَلَهَا بِسَبِيلٍ مُقِيمٍ يَمُرُّ بِهَا الْمُسَافِرُونَ لَيْلًا ونهاراً، ولهذا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّليْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}؟ أَيْ أَفَلَا تَعْتَبِرُونَ بِهِمْ كَيْفَ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَتَعْلَمُونَ أَنَّ لِلْكَافِرِينَ أَمْثَالَهَا .. ؟

- 139 - وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ - 140 - إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ - 141 - فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ - 142 - فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ - 143 - فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ - 144 - لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ - 145 - فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ - 146 - وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ - 147 - وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ - 148 - فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ قَدْ تَقَدَّمَتْ قصة يونس عليه الصلاة والسلام فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» وَنَسَبَهُ إِلَى أُمِّهِ، وفي رواية إلى أبيه، وقوله تعالى: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْمُوَقَّرُ أَيِ الْمَمْلُوءُ بِالْأَمْتِعَةِ، {فَسَاهَمَ} أَيْ قَارَعَ {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} أَيِ الْمَغْلُوبِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّفِينَةَ تَلَعَّبَتْ بِهَا الْأَمْوَاجُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَأَشْرَفُوا عَلَى الْغَرَقِ، فَسَاهَمُوا

على أن مَنْ تَقَعُ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ يُلْقَى فِي الْبَحْرِ، لِتَخِفَّ بِهِمُ السَّفِينَةُ، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ (يُونُسَ) عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهُمْ يَضِنُّونَ بِهِ أَنْ يُلْقَى مِنْ بَيْنِهِمْ، فَتَجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ لِيُلْقِيَ نَفْسَهُ، وَهُمْ يَأْبَوْنَ عليه ذلك، وأمر الله تعالى حوتاً أن يَلْتَقِمَ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا يُهَشِّمَ لَهُ لَحْمًا، وَلَا يَكْسِرَ لَهُ عَظْمًا، فَجَاءَ ذَلِكَ الحوت وألقي يونس عليه السلام، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَذَهَبَ بِهِ فَطَافَ بِهِ الْبِحَارَ كلها، ولما استقر فِي بَطْنِ الْحُوتِ حَسَبَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ وَرَجْلَيْهِ وَأَطْرَافَهُ، فَإِذَا هُوَ حي، فقام فصلى فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ دُعَائِهِ: «يَا رَبِّ اتَّخَذْتُ لَكَ مَسْجِدًا فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ»، وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا لَبِثَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَقِيلَ ثلاثة أيام، وقيل: سبعة، وقيل: أربعين يوماً، وقال مجاهد: التقمه ضحى ولفظه عشية، والله تعالى أعلم بمقدار ذلك. وقوله تَعَالَى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} قِيلَ: لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الرَّخَاءِ، قَالَهُ الضحّاك واختاره ابن جرير. وفي الحديث: «تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشدة» (أخرجه الترمذي في سننه.). وقال ابن عباس وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} يعني المصلين، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ فِي جَوْفِ أَبَوَيْهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} هو قوله عزَّ وجلَّ: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين}. روى ابن أبي حاتم عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يرفعه -: "إن يونس النبي عليه الصلاة والسلام حِينَ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذِهِ الْكَلَمَّاتِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين، فأقبلت الدعوة تحن بِالْعَرْشِ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ هَذَا صَوْتٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ غَرِيبَةٍ، فَقَالَ الله تعالى: أَمَا تَعْرِفُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: يَا رَبِّ وَمَنْ هو؟ قال عزَّ وجلِّ: عَبْدِي يُونُسُ، قَالُوا: عَبْدُكَ يُونُسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ وَدَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، قالوا: يا رب أو لا تَرْحَمُ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِي الرَّخَاءِ فَتُنَجِّيَهُ فِي الْبَلَاءِ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَمَرَ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ بالعراء" (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ابن وهب.). وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَنَبَذْنَاهُ} أَيْ أَلْقَيْنَاهُ {بِالْعَرَاءِ}، قال ابن عباس: وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ بِهَا نَبْتٌ وَلَا بِنَاءٌ، قِيلَ: عَلَى جَانِبِ دِجْلَةَ، وَقِيلَ: بِأَرْضِ الْيَمَنِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، {وَهُوَ سَقِيمٌ} أَيْ ضَعِيفُ الْبَدَنِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَهَيْئَةِ الْفَرْخِ لَيْسَ عَلَيْهِ رِيشٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كهيئة الصبي حين يولد، وهو المنفوس، {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} قَالَ ابْنُ مسعود وابن عباس: (اليقطين) هو القرع (وهو قول جمهور السلف.)، وقال سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: كُلُّ شَجَرَةٍ لَا سَاقَ لَهَا فَهِيَ مِنَ الْيَقْطِينِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: كُلُّ شَجَرَةٍ تَهْلِكُ مِنْ عَامِهَا فَهِيَ مِنَ الْيَقْطِينِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي الْقَرْعِ فَوَائِدَ: مِنْهَا سُرْعَةُ نَبَاتِهِ، وَتَظْلِيلُ وَرَقِهِ لِكِبَرِهِ وَنُعُومَتِهِ، وَأَنَّهُ لا يقربها الذباب، وجودة تغذية ثَمَرِهِ، وَأَنَّهُ يُؤْكَلُ نَيِّئًّا وَمَطْبُوخًا بِلُبِّهِ وَقِشْرِهِ أَيْضًا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان يحب الدباء، ويتبعه مِنْ حَوَاشِي الصَّحْفَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}، روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ رسالة يونس عليه الصلاة والسلام بَعْدَ مَا نَبَذَهُ الْحُوتُ (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عن ابن عباس.)، وقال مُجَاهِدٍ: أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَلْتَقِمَهُ الْحُوتُ. قُلْتُ: وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إليهم أولاً أمر بالعودة إِلَيْهِمْ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْحُوتِ، فَصَدَّقُوهُ كُلُّهُمْ وَآمَنُوا بِهِ، وَحَكَى الْبَغَوِيُّ:

أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَى أُمَّةٍ أُخْرَى بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْحُوتِ كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، وقوله تعالى: {أَوْ يَزِيدُونَ} قال ابن عباس: بل يزيدون، وكانوا مائة وثلاثين أَلْفًا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَزِيدُونَ سَبْعِينَ أَلْفًا؛ وَقَالَ مَكْحُولٌ: كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ وَعَشَرَةَ آلاف، وقال ابن جرير، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} قال: يزيدون عشرين ألفاً (الحديث رواه ابن جرير وأخرجه الترمذي وقال: غريب.). وقد سلك ابن جرير ههنا مَا سَلَكَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كالجحارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، الْمُرَادَ لَيْسَ أَنْقَصُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ أَزْيَدُ، وقوله تعالى: {فَآمِنُواْ} أَيْ فَآمَنَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمِيعُهُمْ، {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} أي إلى وقت آجالهم، كقوله جلت عظمته {فلولا قرية كانت آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ}.

- 149 - فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ - 150 - أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ - 151 - أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ - 152 - وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ - 153 - أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ - 154 - مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ - 155 - أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ - 156 - أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ - 157 - فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 158 - وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ - 159 - سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ - 160 - إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ في جعلهم لله تعالى الْبَنَاتِ {سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} أَيْ مِنَ الذُّكُورِ، أَيْ يَوَدُّونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْجَيِّدَ، {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} أي يسوؤه ذَلِكَ وَلَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ إِلَّا الْبَنِينَ. يَقُولُ عزَّ وجلَّ فكيف إذا نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْقِسْمَ الَّذِي لَا يختارونه لأنفسهم، ولهذا قال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ} أَيْ سَلْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ {أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون}؟ كقوله عزَّ وجلَّ: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى}، وقوله تبارك وتعالى: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} أَيْ كَيْفَ حَكَمُوا عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ إِنَاثٌ وَمَا شاهدوا خلقهم كقوله جلَّ وعلا {وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ ويسألون} أَيْ يُسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُهُ جلت عظمته {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ} أَيْ مِنْ كَذِبِهِمْ {لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ} أَيْ صَدَرَ مِنْهُ الْوَلَدُ {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، فذكر الله تعالى عَنْهُمْ فِي الْمَلَائِكَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي غَايَةِ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ: فَأَوَّلًا جَعَلُوهُمْ (بَنَاتِ اللَّهِ) فَجَعَلُوا لله ولداً تعالى وتقدس، ثُمّ جعلوا ذَلِكَ الْوَلَدَ (أُنْثَى) ثُمَّ عَبَدُوهُمْ مِنْ دُونِ الله تعالى وتقدس وَكُلٌّ مِنْهَا كَافٍ فِي التَّخْلِيدِ فِي نَارِ جهنم، ثم قال تعالى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} أَيْ: أيُّ شيء يحمله على أن يختار البنات دون البنين؟ كقوله عزَّ وجلَّ: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا؟ إنكم لقولون قولاً عظيماً}، ولهذا قال تبارك وتعالى: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟ أَيْ مَا لَكُمْ عُقُولٌ تَتَدَبَّرُونَ بِهَا مَا تَقُولُونَ {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ} أَيْ حُجَّةٌ عَلَى مَا تَقُولُونَهُ، {فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ هَاتُوا بُرْهَانًا عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ مُسْتَنِدًا إِلَى كِتَابٍ مُنَزَّلٍ مِنَ

السماء، عن الله تعالى أنه اتخذ مَا تَقُولُونَهُ، لَا يُمْكِنُ اسْتِنَادُهُ إِلَى عَقْلٍ، بل لا يجوزه العقل بالكلية. وقوله تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} قَالَ مُجَاهِدٌ: قال المشركون: الملائكة بنات الله تعالى، فقال أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَمَنْ أُمَّهَاتُهُنَّ؟ قالوا: بنات سروات الجن، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ} أَيِ الَّذِينَ نَسَبُوا إِلَيْهِمْ ذَلِكَ {إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أَيْ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ ذَلِكَ {لَمُحْضَرُونَ} فِي الْعَذَابِ يَوْمَ الْحِسَابِ، لِكَذِبِهِمْ فِي ذَلِكَ وَافْتِرَائِهِمْ وَقَوْلِهِمُ الباطل بلا علم، وقال ابن عباس: زَعَمَ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ وإبليس أخوان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وقوله جلت عظمته: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} أَيْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَعَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الظَّالِمُونَ الْمُلْحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَقَوْلُهُ تعالى: {إلا عِبَادَ الله المخلصين} اسْتَثْنَى مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ وَهُمُ الْمُتَّبِعُونَ لِلْحَقِّ الْمُنَزَّلِ على كل نبي مرسل، وَجَعَلَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: {إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} وَفِي هذا الذي قاله نظر، والله سبحانه وتعالى أعلم.

- 161 - فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ - 162 - مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ - 163 - إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ - 164 - وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ - 165 - وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ - 166 - وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ - 167 - وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ - 168 - لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الْأَوَّلِينَ - 169 - لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ - 170 - فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يقول تعالى مخاطباً المشركين: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} أي إنما ينقاد لمقالتكم وَمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْعِبَادَةِ الْبَاطِلَةِ، من هو أضل منكم ممن ذرئ لِلنَّارِ، {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ، أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغافلون} فَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ هُوَ الَّذِي يَنْقَادُ لدين الشرك والكفر والضلالة، كما قال تبارك وتعالى {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أَيْ إِنَّمَا يَضِلُّ بِهِ مَنْ هُوَ مَأْفُوكٌ ومبطل، ثم قال تبارك وتعالى مُنَزِّهًا لِلْمَلَائِكَةِ مِمَّا نَسَبُوا إِلَيْهِمْ مِنَ الْكُفْرِ بِهِمْ وَالْكَذِبِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} أَيْ لَهُ موضع مخصوص في السماوات ومقام العبادات لا يتجاوزه ولا يتعداه، قال الضحّاك: كَانَ مَسْرُوقٌ يَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من السماء الدينا مَوْضِعٌ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ» فذلك قوله تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ معلوم} (أخرجه الضحّاك في تفسيره ورواه ابن عساكر بنحوه وأصله في الصحاح.). وقال الاعمش، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ لَسَمَاءٍ مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا عَلَيْهِ جَبْهَةُ مَلَكٍ أَوْ قَدَمَاهُ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ الله رضي الله عنه: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ}، قَالَ ابن جريج: كَانُوا لَا يُصَفُّونَ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} فَصُفُّوا، وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ: كان عمر رضي الله عنه إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، اسْتَوُوا قِيَامًا، يُرِيدُ اللَّهُ تعالى بِكُمْ هَدْيَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ}، تَأَخَّرْ يَا فُلَانُ، تَقَدَّمْ يَا فُلَانُ، ثم يتقدم فيكبر" (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ.).

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا، وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا" الْحَدِيثَ، {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} أَيْ نَصْطَفُّ فَنُسَبِّحُ الرَّبَّ وَنُمَجِّدُهُ وَنُقَدِّسُهُ وَنُنَزِّهُهُ عَنِ النقائض، فَنَحْنُ عَبِيدٌ لَهُ فُقَرَاءُ إِلَيْهِ خَاضِعُونَ لَدَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} الْمَلَائِكَةُ، {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} الملائكة، {وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} الملائكة تسبح اللَّهَ عزَّ وجلَّ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} يَعْنِي الْمُصَلُّونَ يَثْبُتُونَ بِمَكَانِهِمْ مِنَ الْعِبَادَةِ (الصحيح أن المراد به الملائكة وهو قول ابن عباس ومجاهد.). وقوله جلَّ وعلا: {وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}، أَيْ قَدْ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ يَا مُحَمَّدُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ مَنْ يُذَكِّرُهُمْ بِأَمْرِ الله، وَمَا كَانَ من القرون الأولى ويأيتهم بكتاب الله كما قال جلَّ جلاله: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نفوراً}، وقال تَعَالَى: {إِنَّ تَقُولُوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} ولهذا قال تعالى ههنا: {فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وَعِيدٌ أَكِيدٌ وَتَهْدِيدٌ شديد، على كفرهم بربهم عزَّ وجلَّ وتكذبيهم لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

- 171 - وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ - 172 - إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ - 173 - وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ - 174 - فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ - 175 - وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ - 176 - أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ - 177 - فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ - 178 - وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ - 179 - وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ يَقُولُ تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} أَيْ تَقَدَّمَ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}، وقال عزَّ وجلَّ {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدنيا وَيَوْمَ يقوم الأشهاد}، ولهذا قال جلَّ جلاله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كما تقدم بيان نصرتهم على قومهم، ممن كذبهم وخالفهم، كيف أَهْلَكَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ وَنَجَّى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} أَيْ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ، وَقَوْلُهُ جلَّ وَعَلَا: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} أَيِ اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ لَكَ وَانْتَظِرْ إِلَى وَقْتٍ مُؤَجَّلٍ، فَإِنَّا سَنَجْعَلُ لَكَ الْعَاقِبَةَ وَالنُّصْرَةَ والظفر، وقوله جلت عظمته: {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أَيْ أَنْظِرْهُمْ وَارْتَقِبْ مَاذَا يحل بهم من العذاب والنكال بمخالفتك وتكذيبك، ولهذا قال تعالى عَلَى وَجْهِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}، ثُمَّ قَالَ عزَّ وجلَّ: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} أَيْ هُمْ هم إنما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم بك، ومع هذا يَسْتَعْجِلُونَ الْعَذَابَ وَالْعُقُوبَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} أَيْ فَإِذَا نَزَلَ الْعَذَابُ بِمَحِلَّتِهِمْ فَبِئْسَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمُهُمْ، بإهلاكهم ودمارهم، وقال السُّدِّيُّ: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} يَعْنِي بِدَارِهِمْ {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} أَيْ فَبِئْسَ مَا يُصْبِحُونَ أَيْ بِئْسَ الصَّبَاحُ صَبَاحُهُمْ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: صَبَّحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبير، فَلَمَّا خَرَجُوا بِفُؤُوسِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ وَرَأَوُا الْجَيْشَ رَجَعُوا، وَهُمْ يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ

أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قوم فسآء صباح المنذرين» (أخرجه البخاري ومسلم عن أنس، ومعنى قولهم (محمد والخميس) أي محمد والجيش.)، وقوله تعالى: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.

- 180 - سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ - 181 - وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ - 182 - وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يُنَزِّهُ تبارك وتعالى نفسه الكريمة ويقدسها، ويبرئها عما يقول الظالمون المكذبون المعتدون، تعالى وتنزه وَتَقَدَّسَ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَلِهَذَا قَالَ تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} أَيْ ذِي الْعِزَّةِ الَّتِي لَا تُرَامُ {عَمَّا يَصِفُونَ} أَيْ عَنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَدِينَ الْمُفْتَرِينَ، {وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} أَيْ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ لَهُ الْحَمْدُ في الأولى والآخرة في كل حال، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إذا سلمتم عليَّ فسلموا عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَإِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» (أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم مرسلاً ورواه ابن أبي حاتم مسنداً عن أبي طلحة رضي الله عنه.). وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان إذا أراد أن يسلم قَالَ: «سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ثم يسلم (أخرجه الحافظ أبو يعلى، قال ابن كثير: إسناده ضعيف، أقول: وله ما يؤيده من الشواهد الصحيحة.)، وروى ابن أبي حاتم عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَالَ بالميال الْأَوْفَى مِنَ الْأَجْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلْيَقُلْ آخِرَ مَجْلِسِهِ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَقُومَ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} " (أخرجه ابن أبي حاتم مرسلاً، وروي موقوفاً عن علي رضي الله عنه.). وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وأتوب إليك، قال ابن كثير: وقد أفردت لها جزءاً على حدة، ولله الحمد والمنة.

38 - سورة ص

- 38 - سورة ص

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ - 2 - بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ - 3 - كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعادته ههنا، وقوله تعالى {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} أَيْ وَالْقُرْآنِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَا فِيهِ ذِكْرٌ لِلْعِبَادِ، وَنَفْعٌ لَهُمْ فِي المعاش والمعاد، قال الضحّاك {ذِي الذكر} كقوله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذكركم} أي تذكيركم (وبه قال قتادة واختاره ابن جرير رحمة الله). وقال ابن عباس {ذِي الذِّكْرِ} ذِي الشَّرَفِ أَيْ ذِي الشَّأْنِ وَالْمَكَانَةِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ كِتَابٌ شَرِيفٌ، مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّذْكِيرِ وَالْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، وَاخْتَلَفُوا في جواب هذا القسم: فقال قَتَادَةُ: جَوَابُهُ {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: جَوَابُهُ مَا تضمنه سياق السورة بكمالها، والله أعلم، وقوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} أَيْ إن هذا القرآن لذكرى لِمَنْ يَتَذَكَّرُ وَعِبْرَةً لِمَنْ يَعْتَبِرُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الْكَافِرُونَ لِأَنَّهُمْ {فِي عِزَّةٍ} أَيِ استكباراً عنه وحمية، {وَشِقَاقٍ} أي ومخالفة لَهُ وَمُعَانَدَةٍ وَمُفَارَقَةٍ، ثُمَّ خَوَّفَهُمْ مَا أَهْلَكَ به الأمم المكذبة قبلهم فقال تَعَالَى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} أَيْ مِنْ أُمَّةٍ مُكَذِّبَةٍ، {فَنَادَواْ} أَيْ حِينَ جَاءَهُمُ العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله تعالى، وَلَيْسَ ذَلِكَ بمُجْدٍ عَنْهُمْ شَيْئًا، كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ: {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ} أي يهربون، قال التميمي: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قول الله تبارك وتعالى: {فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ}! قَالَ: لَيْسَ بِحِينِ نداء ولا نزعٍ ولا فرار، وعن ابن عباس: ليس بحين مغاث، نادوا بالنداء حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ، وَأَنْشَدَ: تذكَّرَ لَيْلَى لَاتَ حين تذكر وقال محمد بن كعب: نَادَوْا بِالتَّوْحِيدِ حِينَ تَوَلَّتِ الدُّنْيَا عَنْهُمْ، وَاسْتَنَاصُوا لِلتَّوْبَةِ حِينَ تَوَلَّتِ الدُّنْيَا عَنْهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ أَرَادُوا التَّوْبَةَ فِي غَيْرِ حِينِ النِّدَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} ليس بحين فرار ولا إجابة، وعن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} وَلَا نِدَاءَ فِي غَيْرِ حِينِ النِّدَاءِ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَهِيَ (لَاتَ) هِيَ (لَا) الَّتِي لِلنَّفْيِ زِيدَتْ مَعَهَا التَّاءُ، كَمَا تُزَادُ فِي ثُمَّ، فَيَقُولُونَ: ثمت، ورب، فيقولون: ربت.

وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: النَّوْصُ: التَّأَخُّرُ، وَالْبَوْصُ: التَّقَدُّمُ، ولهذا قال تبارك وتعالى: {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} أَيْ لَيْسَ الْحِينُ حِينَ فرار ولا ذهاب، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.

- 4 - وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ - 5 - أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ - 6 - وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاْصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ - 7 - مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخرة إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق - 8 - أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ - 9 - أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ - 10 - أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الْأَسْبَابِ - 11 - جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الْأَحْزَابِ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ في تعجبهم من بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيراً ونذيراً، كما قال عزَّ وجلَّ: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أنذر الناس}؟ الآية، وقال جلَّ وعلا ههنا: {وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ} أَيْ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَقَالَ الْكَافِرُونَ {هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً} أي أزعم أم الْمَعْبُودَ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلَّا هُوَ؟ أَنْكَرَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَتَعَجَّبُوا مِنْ تَرْكِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ تَلَقَّوْا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلووبهم، فلما دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خلع ذلك من قلوبهم وإفراد الآله بِالْوَحْدَانِيَّةِ، أَعَظَمُوا ذَلِكَ وَتَعَجَّبُوا، وَقَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} وَهُمْ سَادَتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ قائلين {امْشُوا} أَيِ اسْتَمِرُّوا عَلَى دِينِكُمْ، {وَاْصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ}، وَلَا تَسْتَجِيبُوا لِمَا يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ من التوحيد، وقوله تعالى {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ هَذَا الَّذِي يَدْعُونَا إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوْحِيدِ لَشَيْءٌ يُرِيدُ بِهِ الشَّرَفَ عَلَيْكُمْ وَالِاسْتِعْلَاءَ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ منكم أتباع ولسنا نجيبه إليه. (ذكر سبب نزول هذه الآيات الكريمات). روى ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ (أَبُو جَهْلٍ) فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يَشْتُمُ آلِهَتَنَا، وَيَفْعَلُ وَيَفْعَلُ وَيَقُولُ وَيَقُولُ، فَلَوْ بَعَثْتَ إِلَيْهِ فَنَهَيْتَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ الْبَيْتَ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدْرُ مَجْلِسِ رجُل، قال: فخشي أبو جهل، لعنه الله، إِنْ جَلَسَ إِلَى جَنْبِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَكُونَ أَرَقَّ لَهُ عَلَيْهِ، فَوَثَبَ فَجَلَسَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يَجِدْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا قُرْبَ عَمِّهِ، فَجَلَسَ عِنْدَ الْبَابِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ: أَيِ ابن أخي، ما بال قومك يشكونك ويزعمون أَنَّكَ تَشْتُمُ آلِهَتَهُمْ وَتَقُولُ وَتَقُولُ؟ قَالَ: وَأَكْثَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ، وَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَمِّ، إِنِّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَقُولُونَهَا تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ»، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: كلمة واحدة نعم وأبيك عشراً (أي نعطيك بدل الكلمة الواحدة عشر كلمات)، فَقَالُوا: وَمَا هِيَ؟ وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَأَيُّ كلمة هي يا ابن أخي؟ قال

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»، فَقَامُوا فَزِعِينَ يَنْفُضُونَ ثِيَابَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِداً! إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ونزلت من هذا الموضع إلى قوله: {بَلْ لَّمَّا يَذُوقُواْ عذاب} (أخرجه ابن جرير ورواه أحمد والنسائي والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما). وَقَوْلُهُمْ: {مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} أَيْ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا الَّذِي يَدْعُونَا إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ مِنَ التَّوْحِيدِ فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، قَالَ مجاهد وقتادة: يعنون دين قريش، وقال السدي: يعنون النصرانية، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى الْمِلَّةِ الآخرة} يعني دين النَّصْرَانِيَّةَ، قَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ حَقًّا لأخبرتنا بِهِ النَّصَارَى {إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلَاقٌ} قَالَ مجاهد: كذب، وقال ابن عباس: تخرص، وقولهم: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا} يَعْنِي أَنَّهُمْ يَسْتَبْعِدُونَ تخصيصه بإنزال القرآن عليه من بينهم كما قال فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ}، وَلِهَذَا لَمَّا قَالُوا هَذَا الَّذِي دَلَّ عَلَى جَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ، فِي اسْتِبْعَادِهِمْ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ عَلَى الرَّسُولِ مِنْ بَيْنِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَل لَّما يَذُوقُواْ عَذَابِ} أَيْ إِنَّمَا يَقُولُونَ هذا، لأنهم ما ذاقوا عذاب الله تعالى ونقمته، وسيعلمون غِبَّ ما قالوا وما كذبوا به. ثم قال تعالى مُبَيِّنًا أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي مُلْكِهِ، الْفَعَّالُ لِمَا يشاء، الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُنَزِّلُ الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عباده، وأنَّ الْعِبَادَ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مِنَ الْأَمْرِ وَلَيْسَ إِلَيْهِمْ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمُلْكِ وَلَا مثقال ذرة، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} أَيِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يُرَامُ جَنَابُهُ، الْوَهَّابِ الَّذِي يُعْطِي ما يريد لمن يريد، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} الْآيَةَ، كما أخبر عزَّ وجلَّ عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالُوا: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا، بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر} وقوله تعالى: {أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الْأَسْبَابِ} أَيْ إِنْ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْعَدُوا فِي الْأَسْبَابِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي طُرُقَ السَّمَاءِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فَلْيَصْعَدُوا إِلَى السماء السابعة، ثم قال عزَّ وجلَّ: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الْأَحْزَابِ} أَيْ هؤلاء الجند المكذبون سَيُهْزَمُونَ وَيُغْلَبُونَ، وَيُكْبَتُونَ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قبلهم من الأحزاب المكذبين، وهذه الآية كقوله جلَّت عظمته: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ويولون الدبر} كان ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أدهى وأمر}.

- 12 - كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ - 13 - وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ - 14 - إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ - 15 - وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ - 16 - وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ هَؤُلَاءِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالنَّقَمَاتِ في مخالفة الرسل وتكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَصُهُمْ مَبْسُوطَةً فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ، وقوله تعالى: {أولئك

الْأَحْزَابُ} أَيْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْكُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وأكثر أموالاً وأولاداً، فما دَفَعَ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} فجعل علة إهلاكهم هُوَ تَكْذِيبُهُمْ بِالرُّسُلِ، فَلْيَحْذَرِ الْمُخَاطَبُونَ مِنْ ذَلِكَ أشد الحذر، وقوله تَعَالَى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} قال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَيْ لَيْسَ لَهَا مَثْنَوِيَّةٌ، أَيْ مَا يَنظُرُونَ {إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} أَيْ فَقَدِ اقْتَرَبَتْ وَدَنَتْ وَأَزِفَتْ، وَهَذِهِ الصَّيْحَةُ هِيَ نَفْخَةُ الْفَزَعِ التي يأمر الله تعالى إِسْرَافِيلَ أَنْ يُطَوِّلَهَا، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فَزِعَ إِلَّا مَنِ استثنى الله عزَّ وجلَّ، وقوله جلَّ جلاله: {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} هذا إنكار من الله تعالى عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي دُعَائِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَعْجِيلِ الْعَذَابِ، فَإِنَّ القِط هُوَ الْكِتَابُ، وَقِيلَ: هُوَ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: سألوا تعجيل العذاب كَمَا قَالُواْ: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وَقِيلَ: سَأَلُوا تَعْجِيلَ نَصِيبِهِمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِنْ كانت موجودة ليلقوا ذَاكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا خَرَجَ هَذَا مِنْهُمْ مَخْرَجَ الِاسْتِبْعَادِ وَالتَّكْذِيبِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: سَأَلُوا تَعْجِيلَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ في الدنيا، وهذا الذي قاله جيد، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالِاسْتِبْعَادِ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمِرًا لَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَمُبَشِّرًا لَهُ عَلَى صَبْرِهِ بِالْعَاقِبَةِ وَالنَّصْرِ والظفر.

- 17 - اصبر على مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ - 18 - إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ - 19 - وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ - 20 - وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ يَذْكُرُ تَعَالَى عَنْ عبده ورسوله (داود) عليه الصلاة والسلام إِنَّهُ كان ذا أيد، و (الأيد) الْقُوَّةُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَيْدُ الْقُوَّةُ، وَقَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بأيد وإنا لموسعون} وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَيْدُ، الْقُوَّةُ فِي الطَّاعَةِ. وَقَالَ قتادة: أعطي داود عليه الصلاة والسلام قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ وَفِقْهًا فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ ذكر لنا أنه عليه الصلاة والسلام كَانَ يَقُومُ ثُلُثَ اللَّيْلِ، وَيَصُومُ نِصْفَ الدَّهْرِ، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَحَبُّ الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله عزَّ وجلَّ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ولا يفر إذا لاقى» (أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة) وَإِنَّهُ كَانَ (أوَّاباً) وَهُوَ الرَّجاع إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ في جميع أموره وشؤونه، وقوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يسبَّحن بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى سَخَّرَ الْجِبَالَ تُسَبِّحُ مَعَهُ عِنْدَ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ وَآخِرِ النَّهَارِ، كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ: {يا جبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير) وَكَذَلِكَ كَانَتِ الطَّيْرُ تُسَبِّحُ بِتَسْبِيحِهِ وَتُرَجِّعُ بِتَرْجِيعِهِ، إِذَا مَرَّ بِهِ الطَّيْرُ وَهُوَ سَابِحٌ فِي الْهَوَاءِ، فَسَمِعَهُ وَهُوَ يَتَرَنَّمُ بِقِرَاءَةِ الزَّبُورِ لَا يستطيع الذهاب بل يقف في الهواء، ويسبح مَعَهُ وَتُجِيبُهُ الْجِبَالُ الشَّامِخَاتُ تُرَجِّعُ مَعَهُ وَتُسَبِّحُ تبعاً له. ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} أَيْ مَحْبُوسَةً فِي الْهَوَاءِ، {كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} أَيْ مُطِيعٌ يُسَبِّحُ تَبَعًا لَهُ، قال سعيد بن جبير وقتادة {كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} أي مطيع، وقوله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} أَيْ جَعَلْنَا لَهُ مُلْكًا كَامِلًا مِنْ جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُلُوكُ، قَالَ مُجَاهِدٍ: كَانَ أَشَدَّ أَهْلِ الدُّنْيَا سُلْطَانًا، وَقَالَ السدي: كان يحرسه كل يوم أربعة آلاف، وقوله جلَّ وعلا: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْفَهْمَ وَالْعَقْلَ والفطنة، وعنه: {الحكمة}

العدل، وَقَالَ قَتَادَةُ: كِتَابَ اللَّهِ وَاتِّبَاعَ مَا فِيهِ، وقال السُّدي: {الحكمة} النبوة، وقوله جلَّ جلاله: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ}. قَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَالشَّعْبِيُّ: فَصْلُ الْخِطَابِ: الشُّهُودُ وَالْأَيْمَانُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: شَاهِدَانِ عَلَى المدعي أو يمين المدعي عليه، وقال مجاهد والسدي: هو إصابة القضاء وفهم ذلك، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: هُوَ الْفَصْلُ فِي الْكَلَامِ وفي الحكم، وهذا يشمل كل ذلك، وهو المراد واختاره ابن جرير، وعن أبي موسى رضي الله عنه، أَوَّلُ مَنْ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ) دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ، وَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَصْلُ الْخِطَابِ: أَمَّا بَعْدُ.

- 21 - وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ - 22 - إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ - 23 - إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ - 24 - قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ - 25 - فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ قد ذكر المفسرون ها هنا قِصَّةً أَكْثَرُهَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا عَنِ الْمَعْصُومِ حَدِيثٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَلَكِنْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هُنَا حَدِيثًا، لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عن أنَس رضي الله عنه، وَيَزِيدُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ، لَكِنَّهُ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ؛ فَالْأُولَى أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَأَنْ يُرَدَّ عِلْمُهَا إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وما تضمن فهو حق أيضاً (زعموا أن المراد بالخصم جبريل وميكائيل، وضمير الجمع في: تسوروا، يرجع إليهما، حملاً على لفظ الخصم. والنعجة: كناية عن المرأة، والمراد: أم سليمان، وكانت أمرأة أوريا قبل داود، إلى آخر ما هنالك من أقوال غير صحيحة)، وقوله تعالى: {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي مِحْرَابِهِ، وَهُوَ أَشْرَفُ مَكَانٍ فِي دَارِهِ، وكان قد أمر أن لا يَدْخُلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا بِشَخْصَيْنِ قَدْ تَسَوَّرَا عَلَيْهِ الْمِحْرَابَ، أَيِ احتاطا به، يسألانه عن شأنهما، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} أَيْ غَلَبَنِي، يُقَالُ: عَزَّ يعز إذا قهر وغلب، وقوله تعالى: {وَظَنَّ داود أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} قال ابن عباس: أي اختبرناه، وقوله تعالى {وَخَرَّ رَاكِعاً} أي ساجداً، {وَأَنَابَ} أي رجع وتاب وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ رَكَعَ أَوَّلًا ثُمَّ سَجَدَ بَعْدَ ذلك، {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} أَيْ مَا كَانَ مِنْهُ مما يقال فيه «حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ». وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي سَجْدَةِ (ص) هَلْ هِيَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْجَدِيدُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، بَلْ هِيَ سجدة شكر؛ والدليل على ذلك ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قال: السجدة فِي (ص) لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد فيها (أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي والإمام أحمد، وقال الترمذي: حسن صحيح)،

وروى البخاري عند تفسيرها عَنِ الْعَوَامِّ قَالَ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ (ص) فقال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما مِنْ أَيْنُ سَجَدْتَ؟ فَقَالَ: أَوَمَا تَقْرَأُ {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ داود وسليمان}، {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده}؟ فكان داود عليه الصلاة والسلام مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقتدي به، فسجدها داود عليه الصلاة والسلام، فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله تعالى: {وَإِن لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنُ مَآبٍ} أَيْ وإن يوم لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ بها، وحسن مرجع، وهو الدرجات العالية فِي الْجَنَّةِ لِتَوْبَتِهِ وَعَدْلِهِ التَّامِّ فِي مُلْكِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يُقْسِطُونَ فِي أَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا». وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ، وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يوم القيامة وأشدهم عذاباً إمام جائر» (أخرجه الإمام أحمد والترمذي).

- 26 - يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ هَذِهِ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ، أَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلاَ يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله، وقد توعد تبارك وتعالى مَنْ ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَتَنَاسَى يَوْمَ الْحِسَابِ، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد، روى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي زُرْعَةَ - وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْكِتَابَ - أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ لَهُ: أَيُحَاسَبُ الْخَلِيفَةُ فَإِنَّكَ قَدْ قَرَأْتَ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ وَفَقِهْتَ؟ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَقُولُ؟ قَالَ: قل في أمان الله، قَلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ أَكْرَمُ عَلَى الله أو داود عليه الصلاة والسلام؟ إن الله تعالى جَمَعَ لَهُ النُّبُوَّةَ وَالْخِلَافَةَ ثُمَّ تَوَعَّدَهُ فِي كتابه فقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} الآية (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة)، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ} هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ: لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ يَوْمَ الْحِسَابِ بِمَا نَسُوا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا تَرَكُوا أَنْ يعملوا ليوم الحساب، وهذا القول أظهر، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.

- 27 - وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ - 28 - أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ - 29 - كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَا خَلَقَ الْخَلْقَ عبثاً، وإنما خلقهم ليعبدوه ويوحّده، ثم يجمعهم يوم الْجَمْعِ فَيُثِيبُ الْمُطِيعَ وَيُعَذِّبُ الْكَافِرَ، وَلِهَذَا قَالَ تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ}، أَيِ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ بَعْثًا وَلَا مَعَادًا، وَإِنَّمَا يَعْتَقِدُونَ هَذِهِ الدَّارَ فَقَطْ، {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} أَيْ وَيْلٌ لَهُمْ

يَوْمَ مَعَادِهِمْ وَنَشُورِهِمْ مِنَ النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَهُمْ، ثم بيَّن تعالى أنه عزَّ وجلَّ من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمنين والكافرين، فقال تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ * أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} أَيْ لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَارٍ أُخْرَى يُثَابُ فِيهَا هَذَا الْمُطِيعُ، ويعاقب فيها هذا الفاجر، وتدل الْعُقُولَ السَّلِيمَةَ وَالْفِطَرَ الْمُسْتَقِيمَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعَادٍ وَجَزَاءٍ، فَإِنَّا نَرَى الظَّالِمَ الْبَاغِيَ يَزْدَادُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ وَنَعِيمُهُ وَيَمُوتُ كَذَلِكَ، وَنَرَى الْمُطِيعَ الْمَظْلُومَ يَمُوتُ بِكَمَدِهِ، فَلَا بُدَّ فِي حِكْمَةِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ الْعَادِلِ، الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِنْصَافِ هَذَا مِنْ هَذَا، وَإِذَا لَمْ يَقَعْ هَذَا فِي هَذِهِ الدَّارِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ هُنَاكَ دَارًا أُخْرَى، لِهَذَا الْجَزَاءِ وَالْمُوَاسَاةِ، وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ يُرْشِدُ إِلَى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة قال تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ} أَيْ ذَوُو الْعُقُولِ، وَهِيَ (الْأَلْبَابُ) جَمْعُ لُبٍّ وَهُوَ الْعَقْلُ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ مَا تَدَبَّرَهُ بِحِفْظِ حُرُوفِهِ، وَإِضَاعَةِ حُدُودِهِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مَا يُرَى لَهُ الْقُرْآنُ فِي خُلُقٍ وَلَا عَمَلٍ (رواه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري).

- 30 - وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ - 31 - إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ - 32 - فَقَالَ إني أحببت حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ - 33 - رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا أَنَّهُ وَهَبَ لداود (سليمان) أي نبياً، كما قال عزَّ وجلَّ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} أَيْ فِي النُّبُوَّةِ، وَإِلَّا فَقَدَ كَانَ لَهُ بَنُونَ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ قَدْ كان عنده مائة امرأة حرائر، وقوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ثَنَاءٌ عَلَى سُلَيْمَانَ بِأَنَّهُ كَثِيرُ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وقوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} أَيْ إذ عرض على سليمان عليه الصلاة والسلام فِي حَالِ مَمْلَكَتِهِ وَسُلْطَانِهِ الْخَيْلُ الصَّافِنَاتُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهِيَ الَّتِي تَقِفُ عَلَى ثَلَاثٍ وَطَرَفِ حافر الرابعة، والجياد السراع (وكذلك قال غير واحد من السلف)، وعن إبراهيم التيمي قال: كانت النخيل الَّتِي شَغَلَتْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِشْرِينَ ألف فرس فعقرها، وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تبوك أو خبير وَفِي سَهْوَتِهَا سَتْرٌ، فَهَبَّتِ الرِّيحُ، فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ الستر عن بنات لعائشة رضي الله عنها لعب، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا يَا عائشة؟» قالت رضي الله عنها: بَنَاتِي، وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رقاع، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما هذا الذي أرى أوسطهن؟» قال رضي الله عنها: فرس، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فرس له جناحان» قالت رضي الله عنها:! أما سمعت أن سليمان عليه الصلاة والسلام كانت له خيل لها أجنحة؟ قالت رضي الله عنها: فضحك صلى الله عليه وسلم حتى رِأيت نواجذه (أخرجه أبو داود في السنن من حديث عائشة رضي الله عنها). وقوله تبارك وتعالى: {فقال إني أحببت حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِعَرْضِهَا حَتَّى فَاتَ وَقْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَالَّذِي يُقْطَعُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهَا عَمْدًا، بَلْ نِسْيَانًا، كَمَا شُغِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ، حَتَّى صَلَّاهَا بَعْدَ الغروب؛ وذلك ثابت

في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا»، فَقَالَ: فَقُمْنَا إِلَى بطحان فتوضأ نبي الله صلى الله عليه وسلم لِلصَّلَاةِ وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ سَائِغًا فِي مِلَّتِهِمْ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لعذر الغزو والقتال، والأول أقرب، لأنه قال بعده: {رُدُّوهَا عليَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} قَالَ الحسن البصري: لَا وَاللَّهِ لَا تَشْغَلِينِي عَنْ عِبَادَةِ رَبِّي آخِرَ مَا عَلَيْكِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُقِرَتْ، وقال السدي: ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف (وروي عن ابن عباس أنه قال: جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها بيده حباً لها، والأظهر قول الحسن والسدي)، ولهذا عوضه الله عزَّ وجلَّ ما هو خير منها، وهو الرِّيحُ الَّتِي تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ، غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ، فَهَذَا أَسْرَعُ وَخَيْرٌ من الخيل.

- 34 - وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ - 35 - قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ - 36 - فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ - 37 - وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ - 38 - وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ - 39 - هَذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ - 40 - وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} أَيِ اخْتَبَرْنَاهُ بِأَنْ سَلَبْنَاهُ الْمُلْكَ، {وَأَلْقَيْنَا على كرسيه جسداً} (رويت عدة روايات مطولة عن موضوع (فتنة سليمان) وكلها إسرائيليات، ومن أغربها وأنكرها ما رواه ابن أبي حاتم إن سليمان عليه السلام أراد أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ فَأَعْطَى الْجَرَادَةَ خَاتَمَهُ وَكَانَتِ أحب نسائه إليه، فجاءها الشيطان بصورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي، فظنته سليمان فَأَعْطَتْهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا لَبِسَهُ دَانَتْ لَهُ الْإِنْسُ والجن والشياطين .. وكل هذه القصص لا تصح لأنها من الإسرائيليات وقد ذكرها ابن كثير وبيّن غرابتها ونكارتها، ولذلك ضربنا صفحاً عنها). وقال ابن عباس والحسن وقتادة: يَعْنِي شَيْطَانًا، {ثُمَّ أَنَابَ} أَيْ رَجَعَ إِلَى مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ وَأُبَّهَتِهِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ اسم ذلك الشيطان صخراً، وقيل: آصف، {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي أَيْ لَا يَصْلُحُ لِأَحَدٍ أَنْ يسلبنيه بعدي، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سَأَلَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مُلْكًا لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ مِنَ الْبَشَرِ مِثْلُهُ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ مِنَ الْآيَةِ، وبذلك وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ عند تفسير هذه الآية، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عليَّ الْبَارِحَةَ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ تبارك وتعالى مِنْهُ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي} " قَالَ رَوْحٌ: فَرَدَّهُ خاسئاً. وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، ثُمَّ قَالَ، أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ» ثَلَاثًا، وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قُلْنَا: يا رسول الله

سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطَتْ يَدَكَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي، فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ، فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أردت أن أَخْذَهُ، وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ موثقاً يلعب به صبيان أهل المدينة" (أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء مرفوعاً). وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ يصلي الصبح، وأنا خَلْفُهُ فَقَرَأَ، فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: «لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي، فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ أُصْبُعَيَّ هَاتَيْنِ - الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا - ولولاد دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ، فَمَنِ استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل» (أخرجه الإمام أحمد وروى بعضه أبو داود في سننه). وقوله تبارك وتعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ} قال الحسن البصري: لما عقر سليمان عليه الصلاة والسلام الْخَيْلَ غَضَبًا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، عَوَّضَهُ اللَّهُ تعالى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا وَأَسْرَعُ الرِّيحُ الَّتِي غدوها شهر ورواحها شهر، وقوله جلَّ وعلا: {حَيْثُ أَصَابَ} أَيْ حَيْثُ أَرَادَ مِنَ الْبِلَادِ، وقوله جلَّ جلاله: {والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ} أي منهم ما هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَبْنِيَةِ الْهَائِلَةِ مِنْ مَحَارِيبَ وتماثيل إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْبَشَرُ، وَطَائِفَةٌ غَوَّاصُونَ فِي البحار يستخرجون ما بها من الآلئ والجواهر والأشياء النفسية الَّتِي لَا تُوجَدُ إِلَّا فِيهَا، {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} أي موثوقون في الأغلال والأكبال ممن تَمَرَّدَ وَعَصَى، وَامْتَنَعَ مِنَ الْعَمَلِ وَأَبَى، أَوْ قد أساء في صنيعه واعتدى، وقوله عزَّ وجلَّ: {هَذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أَيْ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْنَاكَ مِنَ الْمُلْكِ التَّامِّ وَالسُّلْطَانِ الْكَامِلِ كَمَا سَأَلْتَنَا، فَأَعْطِ مَنْ شِئْتَ، وَاحْرِمْ مَنْ شِئْتَ، لَا حِسَابَ عَلَيْكَ، أَيْ مهما فعلت فهو جائز لك، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خيَّر بَيْنَ أن يكون (عبداً رسولاً)، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ (مَلِكًا نَبِيًّا) يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، بِلَا حِسَابٍ وَلَا جُنَاحٍ، اخْتَارَ الْمَنْزِلَةَ الْأُولَى بَعْدَ مَا اسْتَشَارَ جبريل عليه السلام، فَقَالَ لَهُ: تَوَاضَعْ فَاخْتَارَ الْمَنْزِلَةَ الْأُولَى، لِأَنَّهَا أرفع قدراً عند الله عزَّ وجلَّ وَأَعْلَى مَنْزِلَةً فِي الْمَعَادِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَنْزِلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ النُّبُوَّةُ مَعَ الْمُلْكِ عَظِيمَةً أَيْضًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ تَبَارَكَ وتعالى ما أعطى سليمان عليه الصلاة والسلام في الدنيا نبه تعالى أَنَّهُ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القيامة أيضا، فقال تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنُ مَآبٍ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.

- 41 - وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ - 42 - ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ - 43 - وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الْأَلْبَابِ - 44 - وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ يَذْكُرُ تبارك وتعالى عبده ورسوله (أيوب) عليه الصلاة والسلام، وَمَا كَانَ ابْتَلَاهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الضُّرِّ في

جَسَدِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَنْ جشده مَغْرَزُ إِبْرَةٍ سَلِيمًا سِوَى قَلْبِهِ، وَلَمْ يَبْقَ له من الدُّنْيَا شَيْءٌ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَرَضِهِ وَمَا هُوَ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّ زَوْجَتَهُ حَفِظَتْ وِدَّهُ لإيمانها بالله تعالى وَرَسُولِهِ، فَكَانَتْ تَخْدُمُ النَّاسَ بِالْأُجْرَةِ وَتُطْعِمُهُ وَتَخْدُمُهُ، نَحْوًا مِنْ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي مَالٍ جَزِيلٍ وَأَوْلَادٍ وَسَعَةٍ طَائِلَةٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَسُلِبَ جَمِيعَ ذَلِكَ حَتَّى رفضه الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ سِوَى زَوْجَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فإنها كانت لا تفارقه صباحاً ومساء إِلَّا بِسَبَبِ خِدْمَةِ النَّاسِ ثُمَّ تَعُودُ إِلَيْهِ قَرِيبًا، فَلَمَّا طَالَ الْمَطَالُ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ، وَانْتَهَى القدر، وَتَمَّ الْأَجَلُ الْمُقَدَّرُ تَضَرَّعَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِلَهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين}، وفي هذه الآية الكريمة قال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} قِيلَ {بنُصْب} فِي بدين {وَعَذَابٍ} فِي مَالِي وَوَلَدِي، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَجَابَ لَهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَقَامِهِ، وَأَنْ يَرْكُضَ الْأَرْضَ بِرِجْلِهِ، فَفَعَلَ، فَأَنْبَعَ الله تعالى عيناً وأمره أن يغتسل منها، فأذهبت جَمِيعَ مَا كَانَ فِي بَدَنِهِ مِنَ الْأَذَى؛ ثُمَّ أَمَرَهُ فَضَرَبَ الْأَرْضَ فِي مَكَانٍ آخَرَ، فَأَنْبَعَ لَهُ عَيْنًا أُخْرَى، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْرَبَ منها، فأذهبت جميع مَا كَانَ فِي بَاطِنِهِ مِنَ السُّوءِ، وَتَكَامَلَتِ العافية ظاهراً وباطناً، ولهذا قال تبارك وتعالى: {اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}. روى ابن جرير وابن أبي حاتم، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ الصلاة والسلام لبث في بلائه ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، إِلَّا رَجُلَيْنِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ بِهِ، كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعَلَّمْ وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أحد في الْعَالَمِينَ، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِيَ عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى، فَيَكْشِفَ مَا بِهِ، فَلَمَّا رَاحَا إِلَيْهِ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ أيوب عليه الصلاة والسلام: أَدْرِي مَا تَقُولُ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ، فيذكران الله تعالى، فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يذكر الله تعالى إِلَّا فِي حَقٍّ، قَالَ: وَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى حَاجَتِهِ، فَإِذَا قَضَاهَا أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأَ عَلَيْهَا، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه الصلاة والسلام أَنِ: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} فاستبطأته، فالتفتت تَنْظُرُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا، قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَهُوَ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: أَيْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا الْمُبْتَلَى، فوالله القدير عَلَى ذَلِكَ، مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا، قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هو" (أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم بنحوه وهذا لفظ ابن جرير). وفي الحديث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ من ذهب فجعل أيوب عليه الصلاة والسلام يحثو في ثوبه، فناداه ربه عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قال عليه الصلاة والسلام: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لَا غِنَى بِي عن بركتك" (أخرجه البخاري والإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً)، ولهذا قال تبارك وتعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الْأَلْبَابِ} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِأَعْيَانِهِمْ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وقوله عزَّ وجلَّ: {رَحْمَةً مِّنَّا} أَيْ بِهِ عَلَى صَبْرِهِ وَثَبَاتِهِ وَإِنَابَتِهِ وَتَوَاضُعِهِ وَاسْتِكَانَتِهِ، {وَذِكْرَى لأُوْلِي الْأَلْبَابِ} أَيْ لِذَوِي الْعُقُولِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ عَاقِبَةَ الصَّبْرِ الْفَرَجُ، وقوله جلَّت عظمته: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} وذلك أن أيوب عليه الصلاة والسلام كان قد غضب على زوجته ووجد في أمر فعلته، وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة

جلدة، فلما شفاه الله عزَّ وجلَّ وَعَافَاهُ مَا كَانَ جَزَاؤُهَا مَعَ هَذِهِ الْخِدْمَةِ التَّامَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْإِحْسَانِ أَنْ تُقَابَلَ بِالضَّرْبِ، فَأَفْتَاهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أَنْ يَأْخُذَ {ضِغْثاً} وَهُوَ الشِّمْرَاخُ فِيهِ مِائَةُ قَضِيبٍ، فَيَضْرِبُهَا بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وَخَرَجَ مِنْ حِنْثِهِ وَوَفَى بِنَذْرِهِ، وَهَذَا مِنَ الْفَرَجِ وَالْمَخْرَجِ لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه، ولهذا قال جلَّ وعلا: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَمَدَحَهُ بِأَنَّهُ {نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أَيْ رجَّاع مُنِيبٌ؛ وَلِهَذَا قال جلَّ جلاله: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يحتسب} الآية واستدل كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى مسائل في الإيمان والله أعلم.

- 45 - واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأيدي وَالْأَبْصَارِ - 46 - إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ - 47 - وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ - 48 - وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ - 49 - هَذَا ذِكْرٌ يقول تبارك وتعالى مُخْبِرًا عَنْ فَضَائِلَ عِبَادِهِ الْمُرْسَلِينَ وَأَنْبِيَائِهِ الْعَابِدِينَ: {واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأيدي وَالْأَبْصَارِ} يَعْنِي بِذَلِكَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْعِلْمَ النَّافِعَ والقوة في العبادة والبصيرة النافذة، قال ابن عباس {أُوْلِي الأيدي}: أولي القوة، {والأبصار}: الْفِقْهِ فِي الدِّينِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أُوْلِي الْأَيْدِي} يعني القوة في طاعة الله تعالى، {وَالْأَبْصَارِ} يَعْنِي الْبَصَرَ فِي الْحَقِّ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أُعْطُوا قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ وَبَصَرًا فِي الدين، وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ جَعَلْنَاهُمْ يَعْمَلُونَ لِلْآخِرَةِ لَيْسَ لَهُمْ همٌّ غيرها، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمْ حُبَّ الدُّنْيَا وَذِكْرَهَا وَأَخْلَصَهُمْ بِحُبِّ الْآخِرَةِ وذكرها، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي بِالدَّارِ (الْجَنَّةَ) يقول: أخلصناها لهم بذكرهم لَهَا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جُعِلَ لَهُمْ خَاصَّةً أفضل شيء في الدار الآخرة، وقوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار} أي الْمُخْتَارِينَ الْمُجْتَبِينَ الْأَخْيَارِ، فَهُمْ أَخْيَارٌ مُخْتَارُونَ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ}. قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَصَصِهِمْ وَأَخْبَارِهِمْ في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما أغنى عن إعادته ههنا، وقوله عزَّ وجلَّ {هَذَا ذِكْرٌ} أَيْ هَذَا فَصْلٌ فِيهِ ذِكْرٌ لمن يتذكر، وقال السدي: يعني القرآن العظيم.

(تتمة الآية 49): وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ - 50 - جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ - 51 - مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ - 52 - وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ - 53 - هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ - 54 - إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ أَنَّ لَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ {لَحُسْنَ مَآبٍ} وَهُوَ الْمُرْجِعُ وَالْمُنْقَلَبُ. ثُمَّ فسره بقوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} أَيْ جَنَّاتِ إِقَامَةٍ {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب} والألف واللام ههنا بِمَعْنَى الْإِضَافَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ مُفَتَّحَةً لَهُمْ أَبْوَابُهَا، أي إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذِكْرِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أحاديث كثيرة

من وجوه عديدة، وقوله عزَّ وجلَّ: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا} قيل: متربعين على سرير تَحْتَ الْحِجَالِ، {يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} أَيْ مهما طلبوا وجدوا وأحضر كَمَا أَرَادُوا، {وَشَرَابٍ} أَيْ مِنْ أَيِّ أَنْوَاعِهِ شاءوا أتتهم به الخدام {بِأَكْوَابٍ وأبارق وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ}، {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف} أي من غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ فَلَا يَلْتَفِتْنَ إِلَى غَيْرِ بُعُولَتِهِنَّ {أَتْرَابٌ} أَيْ مُتَسَاوِيَاتٌ فِي السِّنِّ وَالْعُمُرِ، {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} أَيْ هَذَا الَّذِي ذكرنا من صفة الجنة هي الَّتِي وَعَدَهَا لِعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ، الَّتِي يَصِيرُونَ إِلَيْهَا بَعْدَ نُشُورِهِمْ وَقِيَامِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ مِنَ النار، ثم أخبر تبارك وتعالى عَنِ الْجَنَّةِ أَنَّهُ لَا فَرَاغَ لَهَا وَلَا زوال ولا انقضاء ولا انتهاء فقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ}، كقوله عزَّ وجلَّ: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، وكقوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أَيْ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، وَكَقَوْلِهِ: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.

- 55 - هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ - 56 - جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ - 57 - هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ - 58 - وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ - 59 - هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النَّارِ - 60 - قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ - 61 - قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ - 62 - وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الْأَشْرَارِ - 63 - أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ - 64 - إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار لما ذكر تبارك وتعالى مَآلَ السُّعَدَاءِ ثنَّى بِذِكْرِ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ وَمَرْجِعِهِمْ ومآبهم، فقال الله عزَّ وجلَّ: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} وَهُمُ الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ الله عزَّ وجلَّ، المخالفون لرسل الله صلى الله عليهم وسلم {لَشَرَّ مَآبٍ} أَيْ لَسُوءَ مُنْقَلَبٍ وَمَرْجِعٍ، ثُمَّ فسره بقوله جلَّ وعلا: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} أَيْ يَدْخُلُونَهَا فَتَغْمُرُهُمْ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِمْ {فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ}، أَمَّا الْحَمِيمُ فَهُوَ الْحَارُّ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، وَأَمَّا الْغَسَّاقُ فَهُوَ ضِدُّهُ وَهُوَ الْبَارِدُ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهِ الْمُؤْلِمِ، ولهذا قال عزَّ وجلَّ {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} أَيْ وَأَشْيَاءُ مِنْ هذا القبيل، الشيء وضده يتعاقبون بها، عن أبي سعيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غسَّاق يُهَرَاقُ فِي الدُّنْيَا لَأَنْتَنَ أهل الدنيا» (أخرجه الإمام أحمد ورواه الترمذي وابن جرير). وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ {غَسَّاقٌ} عَيْنٌ فِي جَهَنَّمَ يَسِيلُ إِلَيْهَا حُمَةُ كُلِّ ذَاتِ حُمَةٍ مِنْ حَيَّةٍ، وَعَقْرَبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَسْتَنْقِعُ، فَيُؤْتَى بِالْآدَمِيِّ، فَيُغْمَسُ فِيهَا غَمْسَةً وَاحِدَةً فَيَخْرُجُ، وَقَدْ سَقَطَ جِلْدُهُ وَلَحْمُهُ عَنِ الْعِظَامِ، وَيَتَعَلَّقُ جِلْدُهُ وَلَحْمُهُ في كعبيه وعقبيه، ويجر لحمه كله كَمَا يَجُرُّ الرَّجُلُ ثَوْبَهُ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حاتم عن كعب الأحبار)، وقال الحسن البصري {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}: أَلْوَانٌ مِنَ الْعَذَابِ، كَالزَّمْهَرِيرِ، وَالسَّمُومِ، وَشُرْبِ الْحَمِيمِ، وَأَكْلِ الزَّقُّومِ، وَالصُّعُودِ وَالْهُوِيُّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ المتضادة، وَالْجَمِيعُ مِمَّا يُعَذَّبُونَ بِهِ،

ويهانون بسببه، وقوله عزَّ وجلَّ: {هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار}، هذا إخبار من الله تعالى عَنْ قِيلِ أَهْلِ النَّارِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} يَعْنِي بَدَلَ السَّلَامِ يَتَلَاعَنُونَ وَيَتَكَاذَبُونَ، وَيَكْفُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَتَقُولُ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَدْخُلُ قَبْلَ الْأُخْرَى، إذا أقبلت مَعَ الْخَزَنَةِ مِنَ الزَّبَانِيَةِ {هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ} أَيْ دَاخِلٌ {مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النَّارِ} أَيْ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ جَهَنَّمَ، {قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ} أَيْ فَيَقُولُ لَهُمُ الدَّاخِلُونَ {بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} أَيْ أَنْتُمْ دَعَوْتُمُونَا إِلَى مَا أَفْضَى بِنَا إِلَى هَذَا الْمَصِيرِ، {فَبِئْسَ الْقَرَارُ} أَيْ فَبِئْسَ الْمَنْزِلُ وَالْمُسْتَقَرُّ وَالْمَصِيرُ {قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ}، كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ * قَالَ لكلٍ ضعفٌ ولكن لاَ تَعْلَمُونَ} أَيْ لِكُلٍّ مِنْكُمْ عَذَابٌ بِحَسَبِهِ، {وَقَالُواْ مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصارْ؟ هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ، أَنَّهُمْ يفتقدون رجالاً كانوا معهم يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ فِي زَعْمِهِمْ قَالُوا: مَا لَنَا لَا نَرَاهُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ؟ قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ يَقُولُ: مَا لِي لَا أَرَى بِلَالًا وعماراً وصهيباً وفلاناً وفلاناً؟ وهذا ضرب مثل، وَإِلَّا فَكُلُّ الْكُفَّارِ هَذَا حَالُهُمْ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ، فَلَمَّا دَخَلَ الْكُفَّارُ النَّارَ، افْتَقَدُوهُمْ فَلَمْ يَجِدُوهُمْ، فَقَالُوا: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً} أي في الدار الدُّنْيَا {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ}؟ يُسَلُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمُحَالِ، يَقُولُونَ: أَوْ لَعَلَّهُمْ مَعَنَا فِي جَهَنَّمَ، وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ بَصَرُنَا عَلَيْهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ فِي الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ وَهُوَ قَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رنبا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً؟ قَالُواْ: نَعَمْ، فأذَّن مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله على الظالمين}، وقوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}، أَيْ إِنَّ هَذَا الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، مِنْ تَخَاصُمِ أَهْلِ النَّارِ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، وَلَعْنِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، لحقٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ ولا شك.

- 65 - قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ - 66 - رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ - 67 - قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ - 68 - أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ - 69 - مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ - 70 - إِنْ يُوحَى إليَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْكَفَّارِ بِاللَّهِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ المكذبين لرسوله {إنما أنا مذر؟} لَسْتُ كَمَا تَزْعُمُونَ، {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أَيْ هُوَ وَحْدَهُ قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَغَلَبَهُ، {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيْ هُوَ مَالِكٌ جَمِيعَ ذَلِكَ وَمُتَصَرِّفٌ فِيهِ، {العزيز الغفار} أي غفار مع عظمته وعزته، {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} أَيْ خَبَرٌ عَظِيمٌ وشأن بليغ، وهو إرسال الله تعالى إِيَّايَ إِلَيْكُمْ، {أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} أَيْ غَافِلُونَ، قال مجاهد {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ}: يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَقَوْلُهُ تعالى: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أَيْ لَوْلَا الْوَحْيُ مِنْ أَيْنَ كُنْتُ أَدْرِي بِاخْتِلَافِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى؟ يَعْنِي فِي شأن آدم عليه الصلاة والسلام، وَامْتِنَاعِ إِبْلِيسَ مِنَ السُّجُودِ لَهُ، وَمُحَاجَّتِهِ رَبَّهُ في تفضيله عليه، وغير ذلك.

- 71 - إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ - 72 - فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ - 73 - فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ - 74 - إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ - 75 - قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ - 76 - قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ - 77 - قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ - 78 - وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ - 79 - قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ - 80 - قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ - 81 - إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ - 82 - قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - 83 - إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ - 84 - قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ - 85 - لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ هَذِهِ القصة ذكرها الله تبارك وتعالى في سورة البقرة، وفي أول سورة الأعراف، وفي سورة الحجر، وسبحان، والكهف، وههنا، وهي أن الله سبحانه وتعالى، أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام، بِأَنَّهُ سَيَخْلُقُ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، وقد تقدم إِلَيْهِمْ بِالْأَمْرِ مَتَى فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ وَتَسْوِيَتِهِ، فَلْيَسْجُدُوا لَهُ إِكْرَامًا وَإِعْظَامًا وَاحْتِرَامًا وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ الله عزَّ وجلَّ، فامتثل الملائكة كلهم سِوَى إِبْلِيسَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ جِنْسًا، كَانَ مِنَ الجن (هذا الرأي وهو أن إبليس من الجن وليس من الملائكة هو الذي تطمئن إليه النفس وترتاح، وتدل عليه النصوص الشرعية كقوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ ربه}، وانظر الأدلة في كتابنا (النبوة والأنبياء)، صفحة (128) تحت عنوان: هل كان إبليس من الملائكة؟)، فخانه طبعه وجبلته، فَاسْتَنْكَفَ عَنِ السُّجُودِ لِآدَمَ، وَخَاصَمَ رَبَّهُ عزَّ وجلَّ فِيهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ آدَمَ، فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نَارٍ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ طِينٍ، وَالنَّارُ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ فِي زَعْمِهِ، وَقَدْ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ وَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تعالى، وكفر بذلك فأبعده الله عزَّ وجلَّ، وَأَرْغَمَ أَنْفَهُ وَطَرَدَهَ عَنْ بَابِ رَحْمَتِهِ وَمَحَلِّ أُنْسِهِ، وَحَضْرَةِ قُدْسِهِ، وَسَمَّاهُ (إِبْلِيسَ) إِعْلَامًا لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَبْلَسَ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَأَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ مَذْمُومًا مَدْحُورًا إِلَى الْأَرْضِ، فَسَأَلَ اللَّهَ النَّظِرَةَ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَأَنْظَرَهُ الْحَلِيمُ الَّذِي لَا يَعْجَلُ عَلَى مَنْ عَصَاهُ، فَلَمَّا أَمِنَ الْهَلَاكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَمَرَّدَ وَطَغَى، وَقَالَ: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلًا} وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُسْتَثْنَوْنَ فِي الْآيَةِ الأُخرى، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً}، وقوله تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}، قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أجمعين}، وكقوله عزَّ وجلَّ: {قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جزاؤكم جزاءاً موفوراً}.

- 86 - قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ - 87 - إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ - 88 - وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ

يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى هَذَا الْبَلَاغِ، وَهَذَا النُّصْحِ أجراً تعطوني إياه مِنْ عَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا {وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} أي وما أريد على ما أرسلني الله تعالى بِهِ، وَلَا أَبْتَغِي زِيَادَةً عَلَيْهِ، بَلْ مَا أُمِرْتُ بِهِ أَدَّيْتُهُ، لَا أَزْيَدُ عَلَيْهِ وَلَا أَنْقَصُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ والدار الآخرة، قال مسروق: أتينا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ به، ومن لم يَعْلَمُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم، فإن اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَالَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} (أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش). وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} يَعْنِي الْقُرْآنُ ذكر لجميع المكلفين من الإنس والجن، قال ابن عباس {لِّلْعَالَمِينَ} قال: الجن والإنس (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ)، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بلغ}، وقوله تعالى {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} أَيْ خَبَرَهُ وَصِدْقَهُ {بَعْدَ حِينِ} أَيْ عَنْ قَرِيبٍ، قَالَ قَتَادَةُ: بَعْدَ الْمَوْتِ، قال عِكْرِمَةُ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ دَخَلَ فِي حكم القيامة، وقال الحسن البصري: يَا ابْنَ آدَمَ عِنْدَ الْمَوْتِ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ اليقين.

39 - سورة الزمر

- 39 - سورة الزمر

روى النسائي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ مَا يُرِيدُ أَنْ يُفْطِرَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالزُّمَرَ (أخرجه النسائي من حديث عائشة رضي الله عنها).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- 1 - تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ - 2 - إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ - 3 - أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بينهم فيما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ - 4 - لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ تَنْزِيلَ هَذَا الْكِتَابِ وَهُوَ (الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ) مِنْ عِنْدِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَهُوَ الْحَقُّ الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ كَمَا قال عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين}، وقال تعالى: {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، وقال ها هنا {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ} أَيِ الْمَنِيعِ الْجَنَابِ {الْحَكِيمِ} أَيْ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} أَيْ فَاعْبُدِ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَادْعُ الْخَلْقَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لله وحده، ولهذا قال تعالى: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أَيْ لَا يُقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا أَخْلَصَ فِيهِ الْعَامِلُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ أخبر عزَّ وجلَّ عَنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أَيْ إِنَّمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمْ لَهُمْ أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى أَصْنَامٍ، اتَّخَذُوهَا عَلَى صُوَرِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي زَعْمِهِمْ، فَعَبَدُوا تِلْكَ الصُّوَرَ تنزيلاًَ لِذَلِكَ مَنْزِلَةَ عِبَادَتِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَ الله تعالى، فَأَمَّا الْمَعَادُ فَكَانُوا جَاحِدِينَ لَهُ كَافِرِينَ بِهِ، قال قتادة والسدي: {إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أَيْ لِيَشْفَعُوا لَنَا وَيُقَرِّبُونَا عِنْدَهُ مَنْزِلَةً، وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ في تلبيتهم

إِذَا حَجُّوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ: «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ» وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ هِيَ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْمُشْرِكُونَ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ، وَجَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بِرَدِّهَا وَالنَّهْيِ عَنْهَا، وَالدَّعْوَةِ إِلَى إِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ هَذَا شَيْءٌ اخْتَرَعَهُ الْمُشْرِكُونَ مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ فِيهِ، وَلَا رَضِيَ بِهِ، بَلْ أَبْغَضَهُ وَنَهَى عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعبدون}، وأخبر أن الملائكة التي في السماوات، كلهم عبد خاضعون لله، لا يشفعون عند إِلَّا بِإِذْنِهِ لِمَنِ ارْتَضَى، وَلَيْسُوا عِنْدَهُ كَالْأُمَرَاءِ عند ملوكهم، يشفعون عندهم بغير إذنهم {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُم} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فيما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَيْ سَيَفْصِلُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ يوم معادهم، ويجزي كل عامل بعمله، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} أَيْ لَا يُرْشِدُ إِلَى الْهِدَايَةِ، مَنْ قصده الكذب والافتراء على الله تعالى، وقلبه كافر بِآيَاتِهِ وَحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ؛ ثُمَّ بيَّن تَعَالَى أَنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ كَمَا يَزْعُمُهُ جَهَلَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَالْمُعَانِدُونَ مَنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي العزير وعيسى، فقال تبارك وتعالى: {لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} أَيْ لَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ مَا يَزْعُمُونَ، وَهَذَا شَرْطٌ لَا يَلْزَمُ وُقُوعُهُ وَلَا جَوَازُهُ بَلْ هُوَ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا قَصَدَ تَجْهِيلَهُمْ فِيمَا ادَّعَوْهُ وَزَعَمُوهُ كَمَا قال عزَّ وجلَّ: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كنا فاعلين}، فهذا مِنْ بَابِ الشَّرْطِ، وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الشَّرْطِ عَلَى المستحيل لمقصد المتكلم، وقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أَيْ تَعَالَى وَتَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ، عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، فإنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي قهر الأشياء، فدانت له وذلت وخضعت، تبارك وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.

- 5 - خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ - 6 - خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْخَالِقُ لِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ من الأشياء، وبأنه مَالِكُ الْمُلْكِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ يُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الليل} أي سخرهما يجريان متعاقبين، لا يفترقان، كُلٌّ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْآخَرَ طَلَبًا حَثِيثًا، كَقَوْلِهِ تعالى: {يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً}، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كلٌ يَجْرِي لأجلٍ مُّسَمًّى} أي إلى مدة معلومة عند الله تعالى، ثم ينقضي يَوْمَ الْقِيَامَةِ {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} أَيْ مَعَ عِزَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، هُوَ غَفَّارٌ لِمَنْ عصاه ثم تاب وأناب إليه، وقوله جلت عظمته: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} أَيْ خَلَقَكُمْ مَعَ اخْتِلَافِ أَجْنَاسِكُمْ وَأَصْنَافِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} وهو آدم عليه الصلاة

والسلام {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وهي حواء عليها السلام كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً ونساء}، وقوله تَعَالَى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} أَيْ وَخَلَقَ لَكُمْ مِنْ ظُهُورِ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ، وهي المذكورة في سورة الأنعام من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، وقوله عزَّ وجلَّ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} أَيْ قَدَّرَكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ {خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ} يَكُونُ أَحَدُكُمْ أَوَّلًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً، ثُمَّ يُخْلَقُ فَيَكُونُ لَحْمًا وَعَظْمًا وَعَصَبًا وَعُرُوقًا، وَيُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَيَصِيرُ خلقاً آخر {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين}، وقوله جلَّ وعلا: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} يَعْنِي ظُلْمَةَ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةَ المشيمة، وَظُلْمَةَ الْبَطْنِ، كَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ (وهو قول عكرمة والضحّاك والسدي وقتادة وابن زيد وغيرهم). وقوله جلَّ جلاله: {ذلكم الله رَبُّكُمْ} أي هذا الذي خلقكم وَخَلَقَ آبَاءَكُمْ، هُوَ الرَّبُّ لَهُ الْمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أَيِ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}؟ أَيْ فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ؟ وأين يذهب بعقولكم؟.

- 7 - إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ - 8 - وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ جلَّ وعلا أَنَّهُ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا قال موسى عليه السلام لقومه: {وإن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حميد}، وفي الصحيح: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً» (أخرجه مسلم في صحيحه وهو جزء من حديث قدسي طويل)، وقوله تعالى: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أَيْ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ، {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} أي يحبه لكم، وَيَزِدْكُمْ مِنْ فَضْلِهِ، {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى} أَيْ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا، بَلْ كلٌ مُطَالَبٌ بِأَمْرِ نَفْسِهِ، {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ فَلَا تَخْفَى عليه خافية، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} أي عند الحاجة يتضرع وَيَسْتَغِيثُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وإذا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دعا ربه منبياً إِلَيْهِ} أي عند الحاجة يتضرع ويشتغيث بِاللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً}، ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ} أَيْ فِي حَالِ الرَّفَاهِيَةِ، يَنْسَى ذَلِكَ الدُّعَاءَ وَالتَّضَرُّعَ، كَمَا قال جلَّ جلاله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ}، وقوله تعالى: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ} أَيْ في

حَالِ الْعَافِيَةِ يُشْرِكُ بِاللَّهِ وَيَجْعَلُ لَهُ أَنْدَادًا، {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار} أي قل لمن هذه حالته وطريقته ومسلكه {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} وهو تهديد شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار}.

- 9 - أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ يَقُولُ تَعَالَى: أَمَّن هَذِهِ صِفَتُهُ، كَمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَجَعَلَ لَهُ أَنْدَادًا؟ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَيْسُواْ سَوَاءً}، وقال تعالى ههنا: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وقائماً} (أخرج جوبير عن ابن عباس قال: نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة) أَيْ فِي حَالِ سُجُودِهِ، وَفِي حَالِ قِيَامِهِ، وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْقُنُوتَ هُوَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ، لَيْسَ هو القيام وحده، قال ابن مسعود: «القانت المطيع لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم»، وقال ابن عباس: {آناء الليل} جوف الليل (وهو قول الحسن والسدي وابن زيد)، وقال الثوري: بَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: {آنَآءَ اللَّيْلِ} أَوَّلُهُ وَأَوْسَطُهُ وَآخِرُهُ، وقوله تعالى: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} أَيْ فِي حَالِ عِبَادَتِهِ خَائِفٌ راجٍ، وَلَا بُدَّ فِي الْعِبَادَةِ مِنْ هَذَا وَهَذَا، وَأَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ هُوَ الْغَالِبُ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ، فَلْيَكُنِ الرَّجَاءُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ، كما قال أنَس رضي الله عنه: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُ: «كيف تجدك»؟ فقال: أَرْجُو وَأَخَافُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عبدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ الَّذِي يَرْجُو، وَأَمْنَهُ الَّذِي يَخَافُهُ» (رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه). وعن يحيى البكاء أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقرأ: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «ذَاكَ (عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) رَضِيَ الله عنه» (أخرجه ابن أبي حاتم) وإنما قال ابن عمر رضي الله عنهما ذلك، لكثرة صلاة عثمان رضي الله عنه بِاللَّيْلِ وَقِرَاءَتِهِ، حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ في ركعة، قال الشاعر: «يقطّع الليل تسبيحاً وقرآناً» وقوله تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}؟ أَيْ هَلْ يَسْتَوِي هَذَا، وَالَّذِي قَبْلَهُ مِمَّنْ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ؟ {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ} أَيْ إِنَّمَا يَعْلَمُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وهذا، من له لب، وهو العقل، والله أعلم.

- 10 - قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى

الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ - 11 - قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ - 12 - وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى طَاعَتِهِ وَتَقْوَاهُ {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} أَيْ لِمَنْ أَحَسَنَ الْعَمَلَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، حَسَنَةٌ فِي دنياهم وأخراهم، {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ: فَهَاجِرُوا فِيهَا وجاهدوا، واعتزلوا الأوثان، وقال: إذا دعيتم إلى معصية فَاهْرُبُوا، ثُمَّ قَرَأَ: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا}؟ وقوله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَيْسَ يُوزَنُ لَهُمْ وَلَا يُكَالُ، إِنَّمَا يُغْرَفُ لَهُمْ غَرْفًا، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بَلَغَنِي أَنَّهُ لَا يَحْسِبُ عَلَيْهِمْ ثَوَابَ عَمَلِهِمْ قَطُّ، ولكن يزادون على ذلك، وقال السدي: يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ، وَقَوْلُهُ: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} أَيْ إِنَّمَا أُمِرْتُ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي مِنْ أُمَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.

- 13 - قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ - 14 - قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي - 15 - فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ - 16 - لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَمَعْنَاهُ التَّعْرِيضُ بِغَيْرِهِ، بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ}، وَهَذَا أَيْضًا تَهْدِيدٌ، وتبرٍّ مِنْهُمْ، {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ} أَيْ إِنَّمَا الْخَاسِرُونَ كُلَّ الْخُسْرَانِ {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ تَفَارَقُوا فَلَا الْتِقَاءَ لَهُمْ أَبَدًا، وسواء ذهب أهلوهم إلى الجنة، وذهبوا هُمْ إِلَى النَّارِ، أَوْ أَنَّ الْجَمِيعَ أُسْكِنُوا النَّارَ، وَلَكِنْ لَا اجْتِمَاعَ لَهُمْ وَلَا سُرُورَ {أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أَيْ هَذَا هُوَ الخسران المبين، الظَّاهِرُ الْوَاضِحُ، ثُمَّ وَصَفَ حَالَهُمْ فِي النَّارِ فَقَالَ: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}، كما قال عزَّ وجلَّ: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وكذلك نَجْزِي الظالمين}، وقال تَعَالَى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله جلَّ جلاله: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} أَيْ إِنَّمَا يقص هذا لِيُخَوِّفَ بِهِ عِبَادَهُ، لِيَنْزَجِرُوا عَنِ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ، وقوله تعالى: {يَا عبادِ فَاتَّقُونِ} أَيِ اخْشَوْا بَأْسِي وَسَطْوَتِي وعذابي ونقمتي.

- 17 - وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى الله لهم البشرى فَبَشِّرْ عِبَادِ - 18 - الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الألباب قال زيد بن أسلم: نزلت الآية في (زيد بن عمرو) و (أبي ذر) و (سلمان الفارسي) رضي الله تعالى عنهم، -[216]- وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا شَامِلَةٌ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، مِمَّنِ اجْتَنَبَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَأَنَابَ إِلَى عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ، فَهَؤُلَاءِ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، ثم قال عزَّ وجلَّ: {فَبَشِّرْ عبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي يفهمونه ويعملون بما فيه كقوله تبارك وتعالى: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} أَيِ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ هُمُ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا والآخرة، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ أُوْلُواْ الألباب} أَيْ ذَوُو الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ، وَالْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ.

- 19 - أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَن فِي النَّارِ - 20 - لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ يَقُولُ تَعَالَى: أَفَمَنْ كَتَبَ اللَّهُ أنه شقي هل تقدر أن تُنْقِذُهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْهَلَاكِ؟ أَيْ لَا يَهْدِيهِ أَحَدٌ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ، ثم أخبر الله عزَّ وجلَّ عن عباده السعداء أن لهم غرفاً فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْقُصُورُ الشَّاهِقَةُ، {مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ} طِبَاقٌ فَوْقَ طِبَاقٍ، مَبْنِيَّاتٌ مُحَكَمَاتٌ، مُزَخْرَفَاتٌ عَالِيَاتٌ، وفي الصحيح: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغُرَفًا يُرَى بُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا، وَظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا» فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: لِمَنْ هي يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى بالليل والناس نيام» (أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب)، وروى الإمام أحمد، عن سهل بن سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ الْغُرْفَةِ فِي الْجَنَّةِ كَمَا تَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ فِي أفق السماء» (أخرجه أحمد ورواه الشيخان بلفظ: "كما تراءون الكوكب الذي في الأفق الشرقي أو الغربي). وروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا إِذَا رَأَيْنَاكَ رَقَّتْ قُلُوبُنَا، وَكُنَّا مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا فَارَقْنَاكَ أَعْجَبَتْنَا الدُّنْيَا، وَشَمَمْنَا النِّسَاءَ وَالْأَوْلَادَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ بِأَكُفِّهِمْ وَلَزَارَتْكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لجاء الله عزَّ وجلَّ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ كَيْ يَغْفِرَ لَهُمْ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لبنة ذهب ولبنة فضة، وبلاطها المسك الأذفر، وحصاؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من لم يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلَا يَبْأَسُ، وَيَخْلُدُ وَلَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ، ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لها أبواب السماوات، ويقول الرب تبارك وتعالى: وعزتي لأنصرك ولو بعد حين" (أخرجه الإمام أحمد، وروى الترمذي وابن ماجه بعضه). وقوله تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ تَسْلُكُ الْأَنْهَارُ بين خلال ذلك كما شاءوا، وَأَيْنَ أَرَادُوا {وَعْدَ اللَّهِ} أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَعْدٌ وَعْدَهُ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.

- 21 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الْأَلْبَابِ - 22 - أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ أَصْلَ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ من السماء، كما قال عزَّ وجلَّ: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً} فَإِذَا أَنْزَلَ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ كَمَن فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يَصْرِفُهُ تَعَالَى فِي أَجْزَاءِ الْأَرْضِ كَمَا يَشَاءُ، وَيُنْبِعُهُ عُيُونًا مَا بَيْنَ صِغَارٍ وكبار، بحسب الحاجة إليها، ولهذا قال تبارك وتعالى: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض}، عن ابن عباس قَالَ: لَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَاءٌ إِلَّا نَّزَّلَ مِنَ السماء، ولكن عروق الْأَرْضِ تُغَيِّرُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} فَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَعُودَ الْمِلْحُ عذباً فليصعده (رواه ابن أبي حاتم، وهكذا قال الشعبي وسعيد بن جبير أَنَّ كُلَّ مَاءٍ فِي الْأَرْضِ فَأَصْلُهُ مِنَ السَّمَاءِ)، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَصْلُهُ مِنَ الثَّلْجِ يَعْنِي أَنَّ الثَّلْجَ يَتَرَاكَمُ عَلَى الْجِبَالِ، فَيَسْكُنُ فِي قَرَارِهَا، فَتَنْبُعُ الْعُيُونُ مِنْ أَسَافِلِهَا، وقوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ}، أَيْ ثُمَّ يُخْرِجُ بِالْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالنَّابِعِ مِنَ الْأَرْضِ {زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} أَيْ أَشْكَالُهُ وَطُعُومُهُ، وَرَوَائِحُهُ وَمَنَافِعُهُ، {ثُمَّ يَهِيجُ} أَيْ بَعْدَ نضارته وشبابه يكتهل، فنراه مُصْفَرًّا قَدْ خَالَطَهُ الْيُبْسُ، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً} أَيْ ثُمَّ يَعُودُ يَابِسًا يَتَحَطَّمُ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الْأَلْبَابِ} أَيِ الَّذِينَ يَتَذَكَّرُونَ بِهَذَا، فَيَعْتَبِرُونَ إِلَى أَنَّ الدُّنْيَا هَكَذَا تَكُونُ خضرة ناضرة حَسْنَاءَ، ثُمَّ تَعُودُ عَجُوزًا شَوْهَاءَ، وَالشَّابُّ يَعُودُ شيخاً هرماً، كبيراً ضعيفاً، وَبَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ الْمَوْتُ، فَالسَّعِيدُ مَنْ كَانَ حله بعده إلى خير، وقوله تبارك وتعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَّبِّهِ} أَيْ هَلْ يَسْتَوِي هَذَا، وَمَنْ هُوَ قَاسِي الْقَلْبِ بِعِيدٌ مِنَ الْحَقِّ؟ كقوله عزَّ وجلَّ: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ منها}؟ ولهذا قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ فَلَا تَلِينُ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَلَا تَخْشَعُ وَلَا تَعِي وَلَا تَفْهَمُ {أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}.

- 23 - اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ هَذَا مَدْحٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لِكِتَابِهِ (الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ) الْمُنَزَّلِ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُتَشَابِهٌ مَثَانِي، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْآيَةُ تُشْبِهُ الْآيَةَ، وَالْحَرْفُ يُشْبِهُ الْحَرْفَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {مَّثَانِيَ} تَرْدِيدُ الْقَوْلِ ليفهموا عن ربهم تبارك وتعالى، وقال عبد الرحمن بن زيد: {مَّثَانِيَ} مردَّد، رُدِّدَ مُوسَى فِي الْقُرْآنِ وَصَالِحٌ وهود والأنبياء عليهم الصلاة والسلام في أمكنة كثيرة، وقال ابن عباس: {مَّثَانِيَ} أي الْقُرْآنُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، ويُرَدُّ بَعْضُهُ عَلَى بعض، وقوله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ هَذِهِ صِفَةُ الْأَبْرَارِ، عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ الْجَبَّارِ، الْمُهَيْمِنِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، لِمَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُهُمْ مِنَ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، لِمَا يَرْجُونَ وَيُؤَمِّلُونَ مِنْ رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الفجار مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ سَمَاعَ هَؤُلَاءِ هُوَ تلاوة الآيات، وسماع أولئك نغمات الأبيات مِنْ أَصْوَاتِ الْقَيْنَاتِ، (الثَّانِي) أَنَّهُمْ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ {خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} بِأَدَبٍ وَخَشْيَةٍ، وَرَجَاءٍ وَمَحَبَّةٍ، وَفَهْمٍ وَعِلْمٍ، كَمَا قَالَ تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذكِّروا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وعمياناً} أَيْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ

سَمَاعِهَا مُتَشَاغِلِينَ لَاهِينَ عَنْهَا بَلْ مُصْغِينَ إِلَيْهَا، وَيَسْجُدُونَ عِنْدَهَا عَنْ بَصِيرَةٍ لَا عَنْ جَهْلٍ ومتابعة لغيرهم، (الثَّالِثُ) أَنَّهُمْ يَلْزَمُونَ الْأَدَبَ عِنْدَ سَمَاعِهَا، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عِنْدَ سَمَاعِهِمْ كلام الله تعالى تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ مَعَ قُلُوبِهِمْ إِلَى ذِكْرِ الله، لم يكونوا يتصارخون، بَلْ عِنْدَهُمْ مِنَ الثَّبَاتِ وَالسُّكُونِ وَالْأَدَبِ وَالْخَشْيَةِ ما لا يلحقهم أحد في ذلك، تَلَا قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قَالَ: هَذَا نَعْتُ أَوْلِيَاءِ الله، نعتهم الله عزَّ وجلَّ بِأَنْ تَقْشَعِرَّ جُلُودُهُمْ وَتَبْكِيَ أَعْيُنُهُمْ، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْعَتْهُمْ بِذَهَابِ عُقُولِهِمْ، وَالْغَشَيَانِ عَلَيْهِمْ، إِنَّمَا هَذَا فِي أَهْلِ الْبِدَعِ، وهذا من الشيطان، وقال السدي: {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ إِلَى وَعْدِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أَيْ هَذِهِ صِفَةُ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَهُوَ مِمَّنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.

- 24 - أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ - 25 - كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ - 26 - فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَيُقْرَعُ فَيُقَالُ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ مِنَ الظَّالِمِينَ: {ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} كَمَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ القيامة؟ كما قال الله عزَّ وجلَّ: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً على صراط مستقيم}؟ وقال تبارك وتعالى: {أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّنْ يأتي آمِناً يوم القيامة}، وَاكْتَفَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ عَنِ الآخر، وقوله جلت عظمته: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَّ يَشْعُرُونَ} يَعْنِي الْقُرُونَ الْمَاضِيَةَ الْمُكَذِّبَةَ لِلرُّسُلِ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ الله منواق، وقوله جلَّ وعلا {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ بِمَا أَنْزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، وَتَشَفِّي المؤمنين منهم، فَلْيَحْذَرِ الْمُخَاطَبُونَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا أشرف الرسل وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، والذي أعده الله جلَّ جلاله لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، أَعْظَمُ مما أصابهم في الدنيا، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}.

- 27 - وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ - 28 - قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ - 29 - ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ - 30 - إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ - 31 - ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} أَيْ بَيَّنَّا لِلنَّاسِ فِيهِ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ {لَّعَلَّهُمْ يتذكَّرون} فَإِنَّ الْمَثَلَ يُقَرِّبُ المعنى إلى الأذهان كما قال تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ

إِلاَّ العالمون}، وقوله جلَّ وعلا: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أَيْ هُوَ قُرْآنٌ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَلَا انْحِرَافَ وَلَا لَبْسَ، بَلْ هُوَ بَيَانٌ وَوُضُوحٌ وبرهان، وإنما جعله الله تعالى كذلك، وأنزله بذلك {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي يحذورن مَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ، ثُمَّ قَالَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ} أَيْ يَتَنَازَعُونَ فِي ذلك العبد المشترك بيهم، {وَرَجُلاً سَلَماً} أي سالماً {لِّرَجُلٍ} أي خالصاً لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً}؟ أَيْ لَا يَسْتَوِي هَذَا وَهَذَا، كَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْمُشْرِكُ الَّذِي يَعْبُدُ آلِهَةً مَعَ اللَّهِ، وَالْمُؤْمِنُ الْمُخْلِصُ الَّذِي لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؟ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هذا؟ قال ابن عباس ومجاهد: هَذِهِ الْآيَةُ ضَرَبَتْ مَثَلًا لِلْمُشْرِكِ وَالْمُخْلِصِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَثَلُ ظَاهِرًا بَيِّنًا جَلِيًّا قَالَ: {الْحَمْدُ للَّهِ} أَيْ عَلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ فَلِهَذَا يُشْرِكُونَ بالله، وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} أي إنكم ستنقلون من هذه الدار لا محالة، وستجمعون عند الله تعالى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَتَخْتَصِمُونَ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ من الدُّنْيَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فَيَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَيَفْتَحُ بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ، فَيُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ الْمُوَحِّدِينَ، وَيُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ الْجَاحِدِينَ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَ سِيَاقُهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَذِكْرِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهَا شَامِلَةٌ لِكُلِّ مُتَنَازِعَيْنِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ تُعَادُ عليهم الخصومة في الدار الآخرة. روي أنه لَمَّا نَزَلَتْ {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قال الزبير رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتُكَرَّرُ عَلَيْنَا الْخُصُومَةُ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «نعم»، قال رضي الله عنه: إن الأمر إذاً لشديد (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الترمذي والإمام أحمد وابن ماجه بزيادة فيه)، وعن الزبير بن العوام رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}، قَالَ الزُّبَيْرُ رضي الله عنه: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، أَيُكَرَّرُ عَلَيْنَا مَا كَانَ بَيْنَنَا فِي الدُّنْيَا مَعَ خَوَاصِّ الذُّنُوبِ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ لَيُكَرَّرَنَ عَلَيْكُمْ حَتَّى يُؤَدَّى إِلَى كُلِّ ذي حق حقه» قال الزبير رضي الله عنه: والله إن الأمر لشديد (أخرجه الإمام أحمد ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح). وفي الحديث: «أول الخصمين يوم القيامة جاران» (أخرجه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر مرفوعاً). وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاتَيْنِ يَنْتَطِحَانِ، فَقَالَ: «أَتُدْرِي فِيمَ يَنْتَطِحَانِ يَا أَبَا ذَرٍّ»، قُلْتُ: لَا، قال صلى الله عليه وسلم: «لكن الله يدري وسيحكم بينهما» (أخرجه الإمام أحمد أيضاً). وقال الحافظ أبو بكر البزار، عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُجَاءُ بالإمام الجائر الخائن يوم القيامة فتخاصمه الرعية، فيفلحون عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: سُدَّ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ جهنم" (رواه الحافظ البزار). وعن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} يَقُولُ: يُخَاصِمُ الصادق الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهتدي الضال، والضعيف المستكبر، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: يَخْتَصِمُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى تَخْتَصِمَ الرُّوحُ مَعَ الْجَسَدِ، فَتَقُولُ الرُّوحُ لِلْجَسَدِ: أَنْتَ فَعَلْتَ، وَيَقُولُ الْجَسَدُ لِلرُّوحِ: أَنْتِ أَمَرْتِ، وَأَنْتِ سولت،

فيبعث الله تعالى مَلَكًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، فَيَقُولُ لَهُمَا: إِنْ مَثَلَكُمَا كَمَثَلِ رَجُلٍ مُقْعَدٍ بَصِيرٍ، وَالْآخَرُ ضَرِيرٌ، دَخَلَا بستاناً، فقال المقعد للضرير: إني أرى ههنا ثِمَارًا، وَلَكِنْ لَا أَصِلُ إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ الضَّرِيرُ: ارْكَبْنِي فتناوَلْها، فَرَكِبَهُ فَتَنَاوَلَهَا، فَأَيُّهُمَا الْمُعْتَدِي؟ فَيَقُولَانِ كِلَاهُمَا، فَيَقُولُ لَهُمَا الْمَلَكُ: فَإِنَّكُمَا قَدْ حكمتا عَلَى أَنْفُسِكُمَا، يَعْنِي أَنَّ الْجَسَدَ لِلرُّوحِ كَالْمَطِيَّةِ وهو راكبه (رواه ابن منده في كتاب الروح ولم يشر له ابن كثير بضعف)، وروى ابن أبي حاتم، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نزلت هذه الآية وما يعلم فِي أَيِّ شَيْءٍ نَزَلَتْ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قَالَ، قُلْنَا: مَنْ نُخَاصِمُ؟ لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ خُصُومَةٌ فَمَنْ نُخَاصِمُ؟ حَتَّى وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، فَقَالَ ابْنُ عمر رضي الله عنهما: هَذَا الَّذِي وَعَدَنَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ نَخْتَصِمُ فيه (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه النسائي عن ابن عمر)، وقال أبو العالية: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} يَعْنِي أَهْلَ الْقِبْلَةِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلَ الْكُفْرِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصحيح العموم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

- 32 - فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ - 33 - وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المتقون - 34 - لهم ما يشاؤون عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ - 35 - لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ يقول عزَّ وجلَّ مُخَاطِبًا لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ، وَجَعَلُوا مَعَهُ آلِهَةً أُخرى، وَادَّعَوْا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ وَلَدًا - تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قولهم علواً كبيراً - ومع هذا فقد كَذَّبُوا بِالْحَقِّ إِذْ جَاءَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَلِهَذَا قال الله عزَّ وجلَّ: {فَمَن أَظْلَمُ مِمَّنِ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ} أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْ هَذَا، لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ طَرَفَيِ الْبَاطِلِ: كذب على الله، وكذّب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الباطل، ورد الحق، ولهذا قال جلت عظمته مُتَوَعِّدًا لَهُمْ: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ}؟ وهم الجاحدون المكذبون، ثم قال جلَّ وعلا {وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}، قَالَ مُجَاهِدٌ وقتادة: {الذي جَآءَ بالصدق} هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {وَصَدَّقَ بِهِ} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال ابن عباس: مَنْ جَاءَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ {وَصَدَّقَ بِهِ} يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل: أَصْحَابُ الْقُرْآنِ الْمُؤْمِنُونَ يَجِيئُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: هَذَا مَا أَعْطَيْتُمُونَا فَعَمِلْنَا فِيهِ بِمَا أَمَرْتُمُونَا، وهذا القول (وهو رواية ليث عن مجاهد وهو اختيار ابن كثير) يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمنين يقولون الحق ويعملون به، والرسول صلى الله عليه وسلم أول الناس بالدخول في هذه الآية، فَإِنَّهُ جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ، وَآمَنَ بِمَا أنزل إليه من ربه، وقال ابن زيد: {وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ} هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَصَدَّقَ بِهِ} قال الْمُسْلِمُونَ {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اتقوا الشرك {لهم ما يشاؤون عِندَ رَبِّهِمْ} يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ، مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا {ذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} كما قال عزَّ وجلَّ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ}.

- 36 - أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ - 37 - وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ - 38 - وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ - 39 - قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - 40 - مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مقيم يقول الله تعالى: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يَكْفِي مَنْ عَبَدَهُ وَتَوَكَّلَ عليه، وفي الحديث: «أَفْلَحَ مَنْ هُدِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كفافا، وقنع به» (أخرجه ابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري مرفوعاً ورواه الترمذي والنسائي بنحوه). {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ يُخَوِّفُونَ الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم، التي يدعونها من دون الله جهلاً منهم وضلالاً (عن معمر قَالَ: قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنأمرنها فلتخبلنك، فنزلت: {وَيُخَوِّفُونَكَ بالذين مِن دونه}، أخرجه عبد الرزاق كما في اللباب.)، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ؟} أَيْ مَنِيعِ الْجَنَابِ لَا يُضَامُ مَنِ اسْتَنَدَ إِلَى جَنَابِهِ، وَلَجَأَ إِلَى بَابِهِ، فَإِنَّهُ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا أعز منه، ولا أشد انتقاماً منه، فمن كَفَرَ بِهِ وَأَشْرَكَ، وَعَانَدَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله} يعني المشركين كانوا يعترفون بأن الله عزَّ وجلَّ هُوَ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَمَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، مِمَّا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً ولا نفعاً، ولهذا قال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ؟ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ}؟ أَيْ لَا تَسْتَطِيعُ شَيْئًا مِنَ الْأَمْرِ، وفي الحديث: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشدة» (الحديث رواه ابن أبي حاتم والترمذي) الحديث. {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} أَيِ اللَّهُ كَافِيَّ، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فليتوكل المتوكلون}، كما قال (هود) عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي على صراط مستقيم}، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَغْنَى النَّاسِ فَلْيَكُنْ بما في يد الله عزَّ وجلَّ أَوْثَقَ مِنْهُ بِمَا فِي يَدَيْهِ، وَمِنْ أَحَبَّ أن يكون أكرم الناس فليتق الله عزَّ وجلَّ» (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس مرفوعاً)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أَيْ عَلَى طَرِيقَتِكُمْ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ، {إِنِّي عَامِلٌ} أَيْ عَلَى طَرِيقَتِي وَمَنْهَجِي، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أَيْ سَتَعْلَمُونَ غَبَّ ذَلِكَ وَوَبَالِهِ، {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أَيْ فِي الدُّنْيَا، {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أَيْ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ، لَا مَحِيدَ لَهُ عنه، وذلك يوم القيامة، أعاذنا الله منها.

- 41 - إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ - 42 - اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} أَيْ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، لِتُنْذِرَهُمْ بِهِ، {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ} أَيْ فَإِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ، {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أَيْ إِنَّمَا يَرْجِعُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أَيْ بِمُوَكَّلٍ أَنْ يهتدوا، {إِنَّمَآ أَنتَ نذير}، {إنما عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْوُجُودِ بِمَا يَشَاءُ، وَأَنَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الْوَفَاةَ الْكُبْرَى بِمَا يُرْسِلُ مِنَ الْحَفَظَةِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَهَا مِنَ الْأَبْدَانِ، وَالْوَفَاةَ الصُّغْرَى عند المنام، كما قال تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} الآية، وقال: {حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ}، فَذَكَرَ الْوَفَاتَيْنِ الصُّغْرَى ثُمَّ الْكُبْرَى، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ الْكُبْرَى ثُمَّ الصُّغْرَى، وَلِهَذَا قَالَ تبارك وتعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا تَجْتَمِعُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، كما ورد فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفه عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيَقُلْ بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» (أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً)، وقال بعض السلف: يَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ إِذَا مَاتُوا، وَأَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله أَنْ تَتَعَارَفَ {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} الَّتِي قَدْ مَاتَتْ، وَيُرْسِلُ الأُخرى إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، قَالَ السُّدِّيُّ: إِلَى بَقِيَّةِ أَجَلِهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُمْسِكُ أَنْفُسَ الْأَمْوَاتِ، وَيُرْسِلُ أَنْفُسَ الْأَحْيَاءِ، وَلَا يَغْلَطُ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.

- 43 - أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ - 44 - قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ - 45 - وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِلْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ شُفَعَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهُمُ الْأَصْنَامُ وَالْأَنْدَادُ التي اتخذوها بلا دليل ولا برهان، وهي لا تملك شيئاً من الأمر، وَلَيْسَ لَهَا عَقْلٌ تَعْقِلُ بِهِ، وَلَا سَمْعٌ تَسْمَعُ بِهِ، وَلَا بَصَرٌ تُبْصِرُ بِهِ، بَلْ هي جمادات أسوأ حالاً من الحيوانات بِكَثِيرٍ، ثُمَّ قَالَ {قُلْ} أَيْ يَا مُحَمَّدُ لهؤلاء الزاعمين

أَنَّ مَا اتَّخَذُوهُ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تعالى، أَخْبِرْهُمْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَاهُ وَأَذِنَ لَهُ، فَمَرْجِعُهَا كُلِّهَا إِلَيْهِ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}، {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَحْكُمُ بَيْنَكُمْ بِعَدْلِهِ وَيَجْزِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذَامًّا لِلْمُشْرِكِينَ أَيْضًا: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ} أَيْ إِذَا قِيلَ لا إله إلا اللَّهُ وَحْدَهُ، {اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: اشْمَأَزَّتْ انْقَبَضَتْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نفرت، وقال قتادة: كفرت واستكبرت، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لا إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} أَيْ عَنِ الْمُتَابَعَةِ وَالِانْقِيَادِ لَهَا، فَقُلُوبُهُمْ لَا تَقْبَلُ الْخَيْرَ، وَمَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْخَيْرَ يَقْبَلِ الشر، ولذلك قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} أَيْ مِنَ الأصنام والأنداد {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أَيْ يَفْرَحُونَ وَيُسَرُّونَ.

- 46 - قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ - 47 - وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ - 48 - وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ يَقُولُ تبارك وتعالى، بَعْدَ مَا ذَكَرَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ مَا ذَكَرَ، مِنَ الْمَذَمَّةِ لَهُمْ فِي حُبِّهِمُ الشِّرْكَ، وَنُفْرَتِهِمْ عَنِ التَّوْحِيدِ {قُلِ اللهمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أَيِ ادْعُ أَنْتَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَفَطَرَهَا، أَيْ جَعَلَهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أَيِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، {أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَيْ فِي دُنْيَاهُمْ، سَتَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ معادهم ونشورهم وقيامهم من قبورهم، روى مسلم في صحيحه، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ إذا قام من الليل؟ قالت رضي الله عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تشاء إلى صراط مستقيم» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ قَالَ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُقَرِّبُنِي مِنَ الشَّرِّ وَتُبَاعِدُنِي مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوَفِّينِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المعياد، إِلَّا قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لِمَلَائِكَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّ عَبْدِي قَدْ عَهِدَ إليَّ عَهْدًا فأوفوه إياه، فيدخله الله الجنة" (أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه). وروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقُلْتُ لَهُ: حَدِّثْنَا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَلْقَى بَيْنَ يَدَيَّ صَحِيفَةً فَقَالَ: هَذَا مَا كَتَبَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرْتُ فِيهَا، فَإِذَا فِيهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي مَا أَقُولُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، قُلِ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ رَبَّ كل شيء وَمَلِيكَهِ، أُعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَشَرِّ الشيطان وشركه، أن أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا، أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مسلم" (أخرجه الإمام أحمد ورواه الترمذي وقال: حسن غريب)، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ {مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ} أَيْ وَلَوْ أن جميع مَّا فِي الْأَرْضِ وَضِعْفِهُ مَعَهُ {لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوءِ العذاب} أي الذي أوجبه الله تعالى لهم يوم القيامة، ومع هذا لا يقبل مِنْهُمُ الْفِدَاءُ وَلَوْ كَانَ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} أي وظهر لَهُم مِّنَ الله الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ بِهِمْ، مَا لَمْ يَكُنْ فِي بَالِهِمْ وَلَا فِي حِسَابِهِمْ، {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} أَيْ وَظَهَرَ لَهُمْ جَزَاءُ مَا اكْتَسَبُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ، {وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ وَأَحَاطَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ مَا كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا.

- 49 - فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ - 50 - قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ - 51 - فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ - 52 - أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يقول تبارك وتعالى مُخْبِرًا عَنِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ فِي حَالِ الضَّرَّاءِ يتضرع إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَيُنِيبُ إِلَيْهِ وَيَدْعُوهُ، وإذا خوّله نعمة منه بَغَى وَطَغَى، وَقَالَ: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أي لما يعلم الله تعالى مِنِ اسْتِحْقَاقِي لَهُ، وَلَوْلَا أَنِّي عِنْدَ اللَّهِ خِصِّيصٌ لَمَا خَوَّلَنِي هَذَا، قَالَ قَتَادَةُ: {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} عَلَى خَيْرٍ عِنْدِي، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أَيْ لَيْسَ الأمر كما زعم، بَلْ إِنَّمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ لِنَخْتَبِرَهُ فِيمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ أَيُطِيعُ أَمْ يَعْصِي؟ مَعَ عِلْمِنَا الْمُتَقَدِّمِ بِذَلِكَ فَهِيَ {فِتْنَةٌ} أَيِ اخْتِبَارٌ {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، فلهذا يَقُولُونَ وَيَدْعُونَ مَا يَدْعُونَ، {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ قَبْلِهِمْ} أي قد قال هذه المقالة وادعى أن هَذِهِ الدَّعْوَى كَثِيرٌ مِمَّنْ سَلَفَ مِنَ الْأُمَمِ، {فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أَيْ فما صح قولهم ولا نفعهم جَمْعُهُمْ وَمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلَاءِ} أَيْ مِنَ المخاطبين {سيصيبهم سئيات مَا كَسَبُواْ}، أَيْ كَمَا أَصَابَ أُولَئِكَ {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}، كما قال تبارك وتعالى مخبراً عن قارون {قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي أو لم يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}؟ وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}، وقوله تبارك وتعالى: {أو لم يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} أَيْ يُوَسِّعُهُ عَلَى قَوْمٍ وَيُضَيِّقُهُ عَلَى آخرين، {إِنَّ في ذلك لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي لعبراً وحججاً.

- 53 - قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ

الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - 54 - وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ - 55 - وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ - 56 - أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ - 57 - أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ - 58 - أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ - 59 - بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ دَعْوَةٌ لِجَمِيعِ الْعُصَاةِ مِنَ الْكَفَرَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، وَإِخْبَارٌ بِأَنَّ الله تبارك وتعالى يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لِمَنْ تَابَ مِنْهَا وَرَجَعَ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَهْمَا كَانَتْ وَإِنْ كَثُرَتْ وَكَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ هذه عَلَى غَيْرِ تَوْبَةٍ، لِأَنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ لمن لم يتب منه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةٌ، فَنَزَلَ: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بالحق وَلاَ يزنون}، ونزل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ من رحمة الله} (أخرجه البخاري ورواه مسلم وأبو داود والنسائي). وعن ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ الدُّنْيَا وما فيها بهذه الْآيَةَ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}» (أخرجه الإمام أحمد عن ثوبان رضي الله عنه) إلى آخر الآية. وعن عمرو بن عنبسة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْخٌ كَبِيرٌ يُدَعِّمُ عَلَى عَصًا لَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي غَدَرَاتٍ وَفَجَرَاتٍ، فَهَلْ يُغْفَرُ لي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أَلَسْتَ تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟» قَالَ: بَلَى، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ غُفِرَ لَكَ غَدَرَاتُكَ وَفَجَرَاتُكَ» (تَفَرَّدَ بِهِ أحمد من حديث عمرو بن عنبسة). وروى الإمام أحمد، عن أسماء بنت يزيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ: {إِنَّهُ عَمَلٌ غير صالح} وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي). فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَغْفِرُ جَمِيعَ ذَلِكَ مَعَ التَّوْبَةِ، وَلَا يَقْنَطَنَّ عَبْدٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَإِنْ عَظُمَتْ ذنوبه وكثرت، فإن باب الرحمة والتوبة وَاسِعٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}، وقال عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً}، وَقَالَ جلَّ وعلا فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ}، وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يتوبوا} قال الحسن البصري رحمه الله: انظروا إلى

هَذَا الْكَرَمِ وَالْجُودِ قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثُ الَّذِي قَتَلَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ نَفْسًا، ثُمَّ نَدِمَ وَسَأَلَ عَابِدًا مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ وَأَكْمَلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَالِمًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالذَّهَابِ إِلَى قَرْيَةٍ يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهَا فَقَصَدَهَا، فَأَتَاهُ الْمَوْتُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَأَمَرَ الله عزَّ وجلَّ أن يقيسوا ما بين الأرضيين فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَقْرَبُ فَهُوَ مِنْهَا، فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا بشير فقبضته ملائكة الرحمة، هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ، وَقَدْ كَتَبْنَاهُ فِي مَوْضِعٍ آخر بلفظه، وقال ابن عباس في قوله عزَّ وجلَّ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية، قال: قد دعا الله تعالى إِلَى مَغْفِرَتِهِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهُ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. ثم دعا إلى التوبة مَنْ هُوَ أَعْظَمُ قَوْلًا مِنْ هَؤُلَاءِ، مَنْ قال: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} وَقَالَ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ مَنْ آيَسَ عِبَادَ اللَّهِ مِنَ التَّوْبَةِ بَعْدَ هذا فقد جحد كتاب الله عزَّ وجلَّ، وَلَكِنْ لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ أَنْ يَتُوبَ حَتَّى يتوب الله عليه، وروى الطبراني عن ابن مسعود قال: إِنَّ أَعْظَمَ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وَإِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ بِخَيْرٍ وَشَرٍّ {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان}، وإن أكثر آية في القرآن فرحاً {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}، وَإِنَّ أَشَدَّ آية في كتاب الله تفويضاً: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يحتسب} (رواه الطبراني عن ابن مسعود موقوفاً). ومرَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قاصٍّ وَهُوَ يَذَكِّرُ النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مذكر لِمَ تقنطِ الناسَ من رحمة الله؟ ثُمَّ قَرَأَ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} (رواه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أيضاً). (ذكر أحاديث فيها نفي القنوط). عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَمْلَأَ خَطَايَاكُمْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثم استغفرتم الله تعالى لَغَفَرَ لَكُمْ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ لم تخطئوا لجاء الله عزَّ وجلَّ بقوم يخطئون ثم يستغفرون فيغفر لهم» (تفرد به الإمام أحمد من حديث أَنَس بن مالك)، وعن أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: قَدْ كُنْتُ كَتَمْتُ مِنْكُمْ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْلَا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ لخلق الله عزَّ وجلَّ قوماً يذنبون فيغفر لهم» (أخرجه أحمد ورواه مسلم والترمذي)، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «كفارة الذنب الندامة» (أخرجه أحمد عن ابن عباس موقوفاً)، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيغفر لهم» (تفرد به الإمام أحمد). ثم استحث تبارك

وَتَعَالَى عِبَادَهُ إِلَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى التَّوْبَةِ، فَقَالَ: {وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ} الخ، أَيِ ارْجِعُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَسْلِمُوا لَهُ {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} أَيْ بَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ حُلُولِ النِّقْمَةِ، {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العذابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} أَيْ مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُونَ وَلَا تَشْعُرُونَ، ثُمَّ قال تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَحَسَّرُ الْمُجْرِمُ الْمُفَرِّطُ فِي التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ وَيَوَدُّ لَوْ كَانَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الْمُخْلِصِينَ المطيعين لله عزَّ وجلَّ، وقوله تبارك وتعالى: {وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} أَيْ إِنَّمَا كَانَ عَمَلِي فِي الدُّنْيَا عَمَلَ سَاخِرٍ مُسْتَهْزِئٍ غَيْرِ مُوقِنٍ مُصَدِّقٍ، {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي تود لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل، قال ابن عباس: أخبر الله سبحانه وتعالى مَا الْعِبَادُ قَائِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوهُ، وَعَمَلَهُمْ قبل أن يعملوه، وقال تعالى: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}، {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين} فأخبر الله عزَّ وجلَّ أَنْ لَوْ رُدُّوا لَمَا قَدَرُوا عَلَى الْهُدَى فقال: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، وفي الحديث: "كُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي فَتَكُونُ عَلَيْهِ حَسْرَةٌ، قَالَ: وَكُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، فَيَقُولُ: لولا أن هداني الله قال: فيكون له الشكر" (أخرجه أحمد والنسائي عن أبي هريرة مرفوعاً)، وَلَمَّا تَمَنَّى أَهْلُ الْجَرَائِمِ الْعَوْدَ إِلَى الدُّنْيَا، وَتَحَسَّرُوا عَلَى تَصْدِيقِ آيَاتِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أي قد جاءتك أيها العبد النادم آيَاتِي فِي الدَّارِ الدُّنْيَا وَقَامَتْ حُجَجِي عَلَيْكَ فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ عَنِ اتِّبَاعِهَا وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ بِهَا الْجَاحِدِينَ لَهَا.

- 60 - وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ - 61 - وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ تَسْوَدُّ فِيهِ وُجُوهٌ وَتَبْيَضُّ فِيهِ وُجُوهٌ، تَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ، وَتَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، قَالَ تَعَالَى {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ} أَيْ فِي دَعْوَاهُمْ لَهُ شَرِيكًا وَوَلَدًا، {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} أي بكذبهم وافترائهم. وقوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ}؟ أَيْ أَلَيْسَتْ جهنم كافية سجناً وموئلاً، لهم فيها الخزي والهوان بسبب تكبرهم عن الانقياد للحق؟ وفي الحديث: «إِنَّ الْمُتَكَبِّرِينَ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشْبَاهَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ النَّاسِ يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الصَّغَارِ، حَتَّى يَدْخُلُوا سِجْنًا مِنَ النَّارِ فِي وَادٍ يُقَالُ لَهُ (بُولَسُ) مِنْ نَارِ الْأَنْيَارِ، ويسقون من عصارة أهل النار ومن طينة الخبال» (أخرجه ابن أبي حاتم عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده مرفوعاً)، وقوله تبارك وتعالى: {وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ} أي بما سَبَقَ لَهُمْ مِنَ السَّعَادَةِ وَالْفَوْزِ عِنْدَ اللَّهِ، {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} أَيْ وَلَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، بل هو آمَنُونَ مِنْ كُلِّ فَزَعٍ، مُزَحْزَحُونَ عَنْ كُلِّ شر، نائلون كل خير.

- 62 - اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٍ - 63 - لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ - 64 - قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ - 65 - وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ - 66 - بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى أنه خالق الأشياء كلها وربها وملكيها وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، وكلٌ تَحْتَ تَدْبِيرِهِ وَقَهْرِهِ وَكَلَاءَتِهِ، قال مجاهد: المقاليد هي المفاتيح بالفارسية، وَقَالَ السُّدِّيُّ: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالْمَعْنَى عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ أن أزمَّة الأمور بيده تبارك وتعالى لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قدير، ولهذا قال جلَّ وعلا: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ} أَيْ حُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ {أولئك هُمُ الخاسرون}، وقوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}؟ ذكروا في سبب نزولها أن المشركين مِنْ جَهْلِهِمْ دَعَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ وَيَعْبُدُوا مَعَهُ إِلَهَهُ فَنَزَلَتْ: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ؟ وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما) وهذه كقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقوله عزَّ وجلَّ: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ} أَيْ أَخْلِصِ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ أَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ وَصَدَّقَكَ.

- 67 - وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يقول تبارك وتعالى: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما قَدَّرَ الْمُشْرِكُونَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حِينَ عَبَدُوا معه غيره وهو العظيم الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وكل شيء تحت قدره وَقُدْرَتِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ، وَقَالَ السدي: ما عظموه حق تعظيمه، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَوْ قَدَّرُوهُ حَقَّ قدره ما كذبوا، وقال ابن عباس: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} هُمُ الْكُفَّارُ الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عَلَيْهِمْ، فَمَنْ آمَنَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍّ قَدِيرٌ فَقَدْ قَدَرَ اللَّهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِذَلِكَ فَلَمْ يُقَدِّرِ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالطَّرِيقُ فِيهَا وَفِي أَمْثَالِهَا مَذْهَبُ السَّلَفِ، وَهُوَ إِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَحْرِيفٍ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَوْلُهُ تعالى {وَمَا قَدَرُواْ الله حق قدره}، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ حَبْر مِنَ الْأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرْضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الخلق عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة} الآية (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي)، وروى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ

فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أُبَلِّغَكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْمِلُ الْخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالسَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرْضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، والماء وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إلى آخر الآية (أخرجه أحمد ورواه البخاري ومسلم والنسائي). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَقْبِضُ الله تعالى الْأَرْضَ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الملك أين ملوك الأرض؟ " (أخرجه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قرأ هذه الآيات ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَكَذَا بِيَدِهِ يُحَرِّكُهَا يُقْبِلُ بِهَا وَيُدْبِرُ: يُمَجِّدُ الرَّبُّ نَفْسَهُ أَنَا الْجَبَّارُ، أَنَا الْمُتَكَبِّرُ، أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْعَزِيزُ، أَنَا الْكَرِيمُ"، فَرَجَفَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرُ حَتَّى قلنا: ليخرنَّ به (أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه).

- 68 - وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ - 69 - وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ - 70 - وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عملت وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يفعلون يقول تبارك وتعالى مُخْبِرًا عَنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالزَّلَازِلِ الْهَائِلَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ} هَذِهِ النَّفْخَةُ هِيَ الثَّانِيَةُ وَهِيَ (نَفْخَةُ الصَّعْقِ) وَهِيَ الَّتِي يَمُوتُ بِهَا الْأَحْيَاءُ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ، كَمَا جاء مصرحاً بِهِ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ الصُّورِ الْمَشْهُورِ، ثُمَّ يَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْبَاقِينَ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ مَنْ يَمُوتُ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَيَنْفَرِدُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي كان أولاً، وهو الباقي آخراً بالديموية والبقاء، ويقول: {لِّمَنِ الْمَلِكُ الْيَوْمَ}؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يُجِيبُ نفسه بنفسه فيقول: {لله الواحد القهار} أنا الذي كنت وحدي، وقد قهرت كل شيء، وحكمت بِالْفَنَاءِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ يُحْيِي أَوَّلَ من يحيي إسرافيل، ويأمره أن ينفخ بالصور أُخرى وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّالِثَةُ (نَفْخَةُ الْبَعْثِ) قَالَ الله عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} أَيْ أَحْيَاءٌ بَعْدَ مَا كَانُوا عِظَامًا وَرُفَاتًا صَارُوا أَحْيَاءً يَنْظُرُونَ إِلَى أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ}، وقال تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً من الأرض إذ أنتم تخرجون}. روى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عنهما، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي فَيَمْكُثُ فِيهِمْ أَرْبَعِينَ - لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا، أو أربعين عاماً، أو أربعين ليلة (الشك من الراوي وليس من لفظ النبوة فتنبه) - فيبعث الله تعالى عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام كَأَنَّهُ (عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ)، فَيَظْهَرُ فَيُهْلِكُهُ الله تعالى، ثُمَّ يَلْبَثُ النَّاسُ بَعْدَهُ سِنِينَ سَبْعًا لَيْسَ بين اثنين عدواة، ثم يرسل الله تعالى رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ

ذرة من إيمان إلا قبضته، إنَّ أحدهم لو كَانَ فِي كَبِدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْ عَلَيْهِ»، قَالَ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، قَالَ فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: أَلَا تستجيبون؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان فَيَعْبُدُونَهَا، وَهُمْ فِي ذَلِكَ دارةٌ أَرْزَاقُهُمْ، حسنٌ عشيهم، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً، وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَهُ فَيُصْعَقُ، ثُمَّ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا صُعِقَ، ثُمَّ يرسل الله تعالى - أو ينزل الله عزّ وجلَّ - مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ أَوِ الظِّلُّ - شَكَّ نُعْمَانُ - فتنبت منه الناس، ثم ينفخ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولون} قَالَ، ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ، فَيُقَالُ: كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وتسعون، فيومئذٍ تُبْعَثُ الْوِلْدَانُ شِيبًا ويومئذٍ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ" (أخرجه أحمد ورواه مسلم في صحيحه واللفظ له). وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «ما بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ»، قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أربعون يوماً؟ قال رضي الله تعالى عنه: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ، وَيَبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا عَجْب ذَنَبِهِ فِيهِ يُرَكَّبُ الخلق (أخرجه البخاري عن أبي هريرة، وعجب الذنب: العصعص). وقوله تبارك وتعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} أَيْ أَضَاءَتْ يَوْمَ القيامة إذا تجلى الحق جلَّ وعلا لِلْخَلَائِقِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} قَالَ قَتَادَةُ: كِتَابُ الْأَعْمَالِ، {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَشْهَدُونَ عَلَى الْأُمَمِ بِأَنَّهُمْ بَلَّغُوهُمْ رِسَالَاتِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، {وَالشُّهَدَاءِ} أَيِ الشُّهَدَاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْحَفَظَةِ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ} أَيْ بِالْعَدْلِ، {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}، كما قال تعالى: {فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}، وقال جلَّ وعلا: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة}، وَلِهَذَا قَالَ: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} أَيْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يفعلون}.

- 71 - وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إذا جاؤوها فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ - 72 - قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ الْكُفَّارِ، كَيْفَ يُسَاقُونَ إلى النار سَوْقًا عَنِيفًا، بِزَجْرٍ وَتَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ، كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ يُدَعّون إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} أي يدفعون إليها دفعاً وهم عطاش ظماء، كما قال جلَّ وعلا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}، وَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ صُمٌّ وَبُكْمٌ وَعُمْيٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}، وقوله تبارك وتعالى: {حتى إذا جاؤوها فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أَيْ بِمُجَرَّدِ وُصُولِهِمْ إِلَيْهَا فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُهَا سَرِيعًا لِتُعَجِّلَ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ خَزَنَتُهَا مِنَ الزَّبَانِيَةِ، الَّذِينَ هُمْ غِلَاظُ الْأَخْلَاقِ شِدَادُ الْقُوَى، عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ

وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّنْكِيلِ: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ}؟ أَيْ من جنسكم تتمكون مِنْ مُخَاطَبَتِهِمْ وَالْأَخْذِ عَنْهُمْ، {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} أَيْ يُقِيمُونَ عَلَيْكُمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى صِحَّةٍ مَا دَعَوْكُمْ إِلَيْهِ، {وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أَيْ وَيُحَذِّرُونَكُمْ مِنْ شَرِّ هَذَا الْيَوْمِ، فَيَقُولُ الْكُفَّارُ لَهُمْ: {بَلَى} أَيْ قَدْ جَاءُونَا وَأَنْذَرُونَا وَأَقَامُوا عَلَيْنَا الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ، {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} أَيْ وَلَكِنْ كَذَّبْنَاهُمْ وخالفناهم لما سبق لنا من الشقوة، كما قال عزَّ وجلَّ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضلال كبير}. وقوله تعالى: {قِيلَ ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} لَمْ يُسْنِدْ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ بَلْ أَطْلَقَهُ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْكَوْنَ شَاهِدٌ عليهم بأنهم يستحقون مَا هُمْ فِيهِ، بِمَا حَكَمَ الْعَدْلُ الْخَبِيرُ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ جلَّ وَعَلَا: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا لَا خُرُوجَ لَكُمْ مِنْهَا وَلَا زَوَالَ لَكُمْ عَنْهَا، {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أَيْ فَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَبِئْسَ الْمَقِيلُ لَكُمْ بِسَبَبِ تَكَبُّرِكُمْ فِي الدنيا وإبائكم عن اتباع الحق، فَبِئْسَ الْحَالُ وَبِئْسَ الْمَآلُ.

- 73 - وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حتى إذا جاؤوها وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ - 74 - وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِ السُّعَدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، حِينَ يُسَاقُونَ عَلَى النَّجَائِبِ وَفْدًا إِلَى الْجَنَّةِ، {زُمَراً} أَيْ جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ، الْمُقَرَّبُونَ ثُمَّ الْأَبْرَارُ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، كُلُّ طَائِفَةٍ مَعَ مَنْ يُنَاسِبُهُمْ: الْأَنْبِيَاءُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالصِّدِّيقُونَ مَعَ أشكالهم، وَالْعُلَمَاءُ مَعَ أَقْرَانِهِمْ، وَكُلُّ صِنْفٍ مَعَ صِنْفٍ، وكل زمرة تناسب بعضها بعضاً. {حتى إذا جاؤوها} أَيْ وَصَلُوا إِلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الصِّرَاطِ، حُبِسُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَاقْتَصَّ لَهُمْ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هذَّبوا وَنُقُّوا، أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ في الجنة»؛ وفي لفظ: «وأنا أول من يقرع باب الجنة» (أخرجه مسلم عن أنَس مرفوعاً). وروى الإمام أحمد عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَسْتَفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ - قَالَ - فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك" (أخرجه أحمد ورواه مسلم بنحوه)، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُوَرُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلَا يمتخطون فيها ولا يتفلون فِيهَا، آنِيَتُهُمْ وَأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَمُجَامِرُهُمُ الأَلُوَّة، ورَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ يَرَى مُخَّ سَاقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الحُسْنِ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنِهِمْ وَلَا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ يسبِّحون الله تعالى بكرة وعشياً» (أخرجه مسلم والإمام أحمد). وروى الحافظ أبو يعلى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى ضَوْءِ أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يتفلتون؟؟ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّة (الألوة: العود الذي يتبخر به)، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا في السماء". وقوله تعالى: {حتى إذا جاؤوها وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ} لم يذكر الجواب ههنا، وتقديره: إِذَا كَانَ هَذَا سَعِدُوا وَطَابُوا وَسُرُّوا وَفَرِحُوا بِقَدْرِ كُلِّ مَا يَكُونُ لَهُمْ فِيهِ نَعِيمٌ، وإذا حذف الجواب ههنا ذَهَبَ الذِّهْنُ كُلَّ مَذْهَبٍ فِي الرَّجَاءِ وَالْأَمَلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ مِنْ مَالِهِ فِي سَبِيلِ الله تعالى دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَلِلْجَنَّةِ أَبْوَابٌ، فَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ»، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا عَلَى أحدٍ مِنْ ضَرُورَةٍ دُعِيَ مِنْ أَيِّهَا دُعِيَ، فَهَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «نعم وأرجو أن تكون منهم» (أخرجه أحمد وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ بِنَحْوِهِ)، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغَ أَوْ فَيُسْبِغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ"، وعن مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ لا إله إلا الله» (أخرجه مسلم في صحيحه عن معاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حديث الشفاعة الطويل: "فيقول الله تعالى: يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِي الْأَبْوَابِ الْأُخَرِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ عِضَادَتَيِ الْبَابِ لَكُمَا بَيْنَ مكة أو هجر - وهجر مكة - وفي رواية - مكة وبصرى (أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً)، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ أَنَّهُ خَطَبَهُمْ خُطْبَةً فَقَالَ فِيهَا، وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلِيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يَوْمٌ وهو كظيظ من الزحام (أخرجه مسلم في صحيحه)، وقوله تبارك وتعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} أَيْ طابت أعمالكم وأقوالكم وطاب سعيكم وجزاؤكم، وَقَوْلُهُ: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، {وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} أَيْ يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ إِذَا عَايَنُوا فِي الْجَنَّةِ ذَلِكَ الثَّوَابَ الْوَافِرَ، وَالْعَطَاءَ الْعَظِيمَ، وَالنَّعِيمَ الْمُقِيمَ وَالْمُلْكَ الْكَبِيرَ يَقُولُونَ عِنْدَ ذَلِكَ: {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} أَيِ الَّذِي كَانَ وَعَدَنَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ الْكِرَامِ كَمَا دَعَوْا فِي الدُّنْيَا {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المعياد}، {وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ وإن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فيها لغوب}، وقوله: {وَأَوْرَثَنَا الأرض

نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين}. قال أبو العالية وقتادة والسدي: أي أرض الجنة، فهذه الآية كقوله تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون}، وَلِهَذَا قَالُوا: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} أَيْ أَيْنَ شِئْنَا حَلَلْنَا فَنِعْمَ الْأَجْرُ أَجْرُنَا على عملنا. وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ الْمِعْرَاجِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ (الجنابذ: ما ارتفع من الأرض وغيرها والمراد عقود اللؤلؤ) اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك"، وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: أَنَّ ابْنَ صَائِدٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: «درمكة بيضاء مسك خالص» (أخرجه مسلم وعبد بن حميد. الدرمك: التراب الناعم). وروى ابن أبي حاتم، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} قَالَ: سِيقُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَوَجَدُوا عِنْدَهَا شَجَرَةً يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ سَاقِهَا عَيْنَانِ، فَعَمَدُوا إِلَى إِحْدَاهُمَا فَتَطَهَّرُوا مِنْهَا، فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ، فَلَمْ تُغَيَّرْ أَبْشَارُهُمْ بَعْدَهَا أَبَدًا، ولم تشعث أشعارهم بعدها أبداً، فإنما دُهِنُوا بِالدِّهَانِ ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى الأُخْرى، كَأَنَّمَا أمروا بها فشربوا منها فأذهب مَا كَانَ فِي بُطُونِهِمْ مِنْ أَذًى أَوْ قَذًى، وَتَلَقَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ}، وتلقى كل غلمان صاحبهم يطوفون بِهِ فِعْلَ الْوِلْدَانِ بِالْحَمِيمِ جَاءَ مِنَ الْغَيْبَةِ، أَبْشِرْ قَدْ أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ مِنَ الْكَرَامَةِ كَذَا وَكَذَا، قَدْ أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ مِنَ الكرامة كذا وكذا، قال: وَيَنْطَلِقُ غُلَامٌ مِنْ غِلْمَانِهِ إِلَى أَزْوَاجِهِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فَيَقُولُ: هَذَا فُلَانٌ بِاسْمِهِ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُلْنَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ، فَيَقُولُ نَعَمْ، فَيَسْتَخِفُّهُنَّ الْفَرَحُ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَى أَسْكُفَّةِ الْبَابِ، قَالَ: فَيَجِيءُ فَإِذَا هُوَ بِنَمَارِقَ مَصْفُوفَةٍ وَأَكْوَابٍ مَوْضُوعَةٍ وَزَرَابِيِ مَبْثُوثَةٍ، قَالَ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى تَأْسِيسِ بُنْيَانِهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ أَسَّسَ عَلَى جَنْدَلِ اللُّؤْلُؤِ بَيْنَ أَحْمَرَ وَأَخْضَرَ وَأَصْفَرَ وَأَبْيَضَ، وَمِنْ كُلِّ لَوْنٍ ثُمَّ يَرْفَعُ طَرَفَهُ إِلَى سَقْفِهِ، فلولا أن الله تعالى قَدَّرَهُ لَهُ لَأَلَمَّ أَنْ يَذْهَبَ بِبَصَرِهِ إِنَّهُ لَمِثْلُ الْبَرْقِ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى أَزْوَاجِهِ مِنَ الحور العين، ثم يتكئ إلى أَرِيكَةٍ مِنْ أَرَائِكِهِ ثُمَّ يَقُولُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا نهتدي لولا أَنْ هَدَانَا الله}.

- 75 - وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حُكْمَهُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَأَنَّهُ نَزَّلَ كُلًّا فِي الْمَحِلِّ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ وَيَصْلُحُ لَهُ، وَهُوَ الْعَادِلُ فِي ذَلِكَ الَّذِي لَا يَجُورُ، أَخْبَرَ عَنْ مَلَائِكَتِهِ أَنَّهُمْ مُحْدِقُونَ مِنْ حَوْلِ العرش الْمَجِيدِ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُمَجِّدُونَهُ، وَيُعَظِّمُونَهُ وَيُقَدِّسُونَهُ وَيُنَزِّهُونَهُ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْجَوْرِ، وَقَدْ فَصَلَ الْقَضِيَّةَ وقضى الأمر وحكم بالعدل، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أَيْ بَيْنَ الْخَلَائِقِ {بِالْحَقِّ}، ثُمَّ قَالَ {وَقِيلَ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ نطق الْكَوْنِ أَجْمَعِهِ، نَاطِقِهِ وَبَهِيمِهِ، لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْحَمْدِ فِي حُكْمِهِ وَعَدْلِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُسْنِدِ الْقَوْلَ إِلَى قَائِلٍ بَلْ أَطْلَقَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ شَهِدَتْ لَهُ بِالْحَمْدِ. قَالَ قَتَادَةُ: افْتَتَحَ الْخَلْقَ بِالْحَمْدِ فِي قَوْلِهِ: {الْحَمْدُ للَّهِ الذي خلق السماوات والأرض}، واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين}.

40 - سورة غافر

- 40 - سورة غافر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - حم - 2 - تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ - 3 - غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ذي الطول لا إله إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعادته ههنا، وقوله تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، أَيْ تَنْزِيلُ هَذَا الْكِتَابِ وَهُوَ الْقُرْآنُ مِنَ اللَّهِ ذِي الْعِزَّةِ وَالْعِلْمِ فَلَا يُرَامُ جَنَابُهُ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ الذَّر وَإِنْ تَكَاثَفَ حِجَابُهُ، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} أَيْ يَغْفِرُ مَا سَلَفَ مِنَ الذَّنْبِ وَيَقْبَلُ التَّوْبَةَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لمن تاب إليه، وخضع لديه، وقوله جلَّ وعلا {شَدِيدُ الْعِقَابِ} أَيْ لِمَنْ تَمَرَّدَ وَطَغَى، وَآثَرَ الحياة الدنيا، وعتا عن أوامر الله تعالى وبغى، وهذه كقوله: {نبئ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم * وأنا عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم} يقرن هذين الوصفين كثيراً في مواقف مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لِيَبْقَى الْعَبْدُ بَيْنَ الرَّجَاءِ والخوف، وقوله تعالى: {ذِي الطَّوْلِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي السَّعَةَ والغنى (وهو قول مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ)، وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ {ذِي الطَّوْلِ} يَعْنِي الْخَيْرَ الْكَثِيرَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ذِي المن، وقال قتادة: ذِي النِّعَمِ وَالْفَوَاضِلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ الْمُتَفَضِّلُ عَلَى عباده، المتطول عليهم بما هم فِيهِ مِنَ الْمِنَنِ وَالْأَنْعَامِ الَّتِي لَا يُطِيقُونَ القيام بشكر واحدة منها، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} الآية، وقوله جلت عظمته: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أَيْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ فَلَا إِلَهَ غَيْرَهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أَيِ الْمَرْجِعُ والمآب، فيجازي كل عامل بعمله، وقال أبو بكر بن عياش: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي قتلت فهل لي من توبة؟ فقرأ عمر رضي الله عنه: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ}، وَقَالَ: اعمل ولا تيأس (أخرجه ابن أبي حاتم)، وعن يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ذُو بَأْسٍ، وَكَانَ يَفِدُ إِلَى عمر

بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَفَقَدَهُ عُمَرُ فقال: ما فعل فلان ابن فلان؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين تتابع فِي هَذَا الشَّرَابِ، قَالَ، فَدَعَا عُمَرُ كَاتِبَهُ، فَقَالَ: اكْتُبْ "مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى فلان ابن فلان: سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إِلَيْهِ الْمَصِيرُ"، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: ادْعُوَا اللَّهَ لأخيكم أن يقبل بقلبه ويتوب اللَّهُ عَلَيْهِ"، فَلَمَّا بَلَغَ الرَّجُلَ كُتَّابُ عُمَرَ رضي الله عنه جعل يقرأه وَيُرَدِّدُهُ وَيَقُولُ: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ، قَدْ حَذَّرَنِي عُقُوبَتَهُ وَوَعَدَنِي أَن يَغْفِرَ لِي، فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ بَكَى، ثُمَّ نَزَعَ فَأَحْسَنَ النَّزْعَ، فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ خبره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم آخاً لكم زل زلة فسدّدوه ووثقوه، وَادْعُوا اللَّهَ لَهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ، وَلَا تكونوا أعواناً للشيطان عليه (أخرجه ابن أبي حاتم والحافظ أبو نعيم).

- 4 - مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ - 5 - كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ - 6 - وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ يَقُولُ تَعَالَى: مَا يَدْفَعُ الْحَقَّ ويجادل فيه بعد البيان وظهرو الْبُرْهَانِ {إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيِ الْجَاحِدُونَ لِآيَاتِ اللَّهِ وَحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ، {فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} أَيْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَنَعِيمِهَا وَزَهْرَتِهَا، كَمَا قال جلَّ وعلا: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}، وقال عزَّ وجلَّ: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ، بِأَنَّ لَهُ أُسْوَةَ مَنْ سَلَفَ من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فَإِنَّهُ قَدْ كَذَّبَهُمْ أُمَمُهُمْ وَخَالَفُوهُمْ وَمَا آمَنَ بِهِمْ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، فَقَالَ: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} وَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ يَنْهَى عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ {وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِم} أَيْ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، {وهمَّت كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أَيْ حَرَصُوا عَلَى قَتْلِهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ رَسُولَهُ {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} أي ما حلوا بالشبهة ليردوا الحق الواضح الجلي، روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مِنْ أَعَانَ باطلاً ليدحض به حقاً فقد برئت منه ذمة الله تعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم» (أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما). وقوله جلت عظمته {فَأَخَذْتُهُمْ} أَيْ أَهْلَكَتْهُمْ عَلَى مَا صَنَعُوا مِنْ هَذِهِ الْآثَامِ وَالذُّنُوبِ الْعِظَامِ، {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أَيْ فَكَيْفَ بَلَغَكَ عَذَابِي لَهُمْ وَنَكَالِي بِهِمْ لقد كَانَ شَدِيدًا مُوجِعًا مُؤْلِمًا؟ قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ شديداً والله. وقوله جلَّ جلاله: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} أَيْ كَمَا حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، كَذَلِكَ حَقَّتْ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ مَن هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كذبوك وخالفوك يا محمد، بطريق الأولى، لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَكَ فَلَا وُثُوقَ لَهُ بِتَصْدِيقِ غيرك، والله أعلم.

- 7 - الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ

كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ - 8 - رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - 9 - وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ الْأَرْبَعَةِ، ومن حوله الملائكة مِنَ الْكُرُوبِيِّينَ، بِأَنَّهُمْ {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أَيْ يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائض، وَالتَّحْمِيدِ الْمُقْتَضِي لِإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْمَدْحِ، {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} أَيْ خَاشِعُونَ لَهُ أَذِلَّاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنَّهُمْ {يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أَيُّ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ ممن آمن بالغيب، فقيض الله تعالى مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ أَنْ يَدْعُوا لِلْمُؤْمِنِينَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ سَجَايَا الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا يؤمِّنون عَلَى دُعَاءِ الْمُؤْمِنِ لأخيه بظهر الغيب، كما ثبت في الصحيح: «إِذَا دَعَا الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الملك آمين ولك بمثله» (أخرجه مسلم في صحيحه). قال شهر بن حوشب رضي الله عنه: حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثَمَانِيَةٌ، أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وَأَرْبَعَةٌ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ إِذَا اسْتَغْفَرُوا لِلَّذِينِ آمَنُوا: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} أي رَحْمَتَكَ تَسَعُ ذُنُوبَهُمْ وَخَطَايَاهُمْ، وَعِلْمُكَ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ}، أَيْ فَاصْفَحْ عَنِ الْمُسِيئِينَ إِذَا تَابُوا وَأَنَابُوا، وَأَقْلَعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ، وَاتَّبَعُوا ما أمرتهم به من فعل الخير وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أَيْ وَزَحْزِحْهُمْ عَنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ وَهُوَ الْعَذَابُ الْمُوجِعُ الْأَلِيمُ، {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} أَيْ اجْمَعْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ لِتَقَرَّ بِذَلِكَ أَعْيُنُهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ فِي منازل متجاورة، كما قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} أي وساوينا بَيْنَ الْكُلِّ فِي الْمَنْزِلَةِ لِتَقَرَّ أَعْيُنُهُمْ، وَمَا نَقَصْنَا الْعَالِيَ حَتَّى يُسَاوِيَ الدَّانِيَ، بَلْ رَفَعْنَا ناقص العمل فساويناه بكثير العمل، تفضلاً منا منه. وقال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا دَخَلَ الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه اين هُمْ؟ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا طَبَقَتَكَ فِي العمل، فيقول: إني عَمِلْتُ لِي وَلَهُمْ فَيُلْحَقُونَ بِهِ فِي الدَّرَجَةِ، ثُمَّ تَلَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هَذِهِ الْآيَةَ: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم}، وقوله تبارك وتعالى {إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أَيِ الَّذِي لَا يمانع ولا يغالب، {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} أَيْ فِعْلَهَا، أَوْ وَبَالَهَا مِمَّنْ وَقَعَتْ مِنْهُ، {وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فَقَدْ رَحِمْتَهُ} أَيْ لَطَفْتَ بِهِ وَنَجَّيْتَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

- 10 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ - 11 - قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ - 12 - ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ

وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ - 13 - هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ - 14 - فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ: أَنَّهُمْ يُنَادَوْنَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ فِي غَمَرَاتِ النِّيرَانِ يَتَلَظَّوْنَ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا بَاشَرُوا من عذاب الله تعالى مَا لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِهِ، فَمَقَتُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ، وَأَبْغَضُوهَا غَايَةَ الْبُغْضِ، بِسَبَبِ مَا أَسْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ دُخُولِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَأَخْبَرَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ بأن مقت الله تعالى لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حِينَ كَانَ يُعْرَضُ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ فَيَكْفُرُونَ، أَشَدُّ مِنْ مَقْتِكُمْ أَيُّهَا الْمُعَذَّبُونَ أنفسكم في هذه الحالة، قال قتادة: المعنى لَمَقْتُ اللَّهِ أَهْلَ الضَّلَالَةِ حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ فِي الدُّنْيَا فَتَرَكُوهُ وَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوهُ، أَكْبَرُ مِمَّا مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ، حِينَ عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ (وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ومجاهد والسدي)، وَقَوْلِهِ: {قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قال ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ الْآيَةُ، كقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ الله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ ترجعون} وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ والمقصود أَنَّ الْكُفَّارَ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ وَهُمْ وُقُوفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، كما قال عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رؤوسهم عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا موقنون} فَلَا يُجَابُونَ، ثُمَّ إِذَا رَأَوُا النَّارَ وَعَايَنُوهَا وَوَقَفُوا عَلَيْهَا وَنَظَرُوا إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، سَأَلُوا الرَّجْعَةَ أَشَدَّ مِمَّا سَأَلُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَلَا يُجَابُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ من المؤمنين} فَإِذَا دَخَلُوا النَّارَ وَذَاقُوا مَسَّهَا وَحَسِيسَهَا وَمَقَامِعَهَا وَأَغْلَالَهَا، كَانَ سُؤَالُهُمْ لِلرَّجْعَةِ أَشَدَّ وَأَعْظَمَ، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نعمل} كقوله {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}، وفي هذه الآية الكريمة تلفظوا فِي السُّؤَالِ وَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ كَلَامِهِمْ مُقَدِّمَةً، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: {رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} أَيْ قُدْرَتُكَ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّكَ أَحْيَيْتَنَا بَعْدَ مَا كُنَّا أَمْوَاتًا ثُمَّ أَمَتَّنَا ثُمَّ أَحْيَيْتَنَا فَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى مَا تَشَاءُ، وَقَدِ اعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا، وَإِنَّنَا كُنَّا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِنَا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} أَيْ فَهَلْ أَنْتَ مُجِيبُنَا إِلَى أَنْ تُعِيدَنَا إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا؟ فَإِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ لِنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، فَإِنْ عُدْنَا إِلَى مَا كنا فيه فإنا ظالمون، فأجيبوا أن لا سَبِيلَ إِلَى عَوْدِكُمْ وَمَرْجِعِكُمْ إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا، ثُمَّ عَلَّلَ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّ سَجَايَاكُمْ لا تقبل الحق ولا تقتضيه بل تمجه وتنفيه، {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ} أَيْ أَنْتُمْ هَكَذَا تكونون، وإن رددتم إلى الدار الدنيا كما قال عزَّ وجلَّ {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لكاذبون}. وقوله جلَّ وعلا: {فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} أَيْ هُوَ الْحَاكِمُ فِي خَلْقِهِ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ، فَيَهْدِي من يشاء ويضل مَن يَشَآءُ، وَيَرْحَمُ من يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يشاء. وقوله جلَّ جلاله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أَيْ يُظْهِرُ قُدْرَتَهُ لِخَلْقِهِ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ فِي خَلْقِهِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ خَالِقِهَا ومبدعها ومنشئها،

{وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقاً} وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يُخْرِجُ بِهِ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ بِالْحِسِّ مِنِ اخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ وَطَعُومِهِ وَرَوَائِحِهِ وَأَشْكَالِهِ وَأَلْوَانِهِ وَهُوَ مَاءٌ وَاحِدٌ، فَبِالْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَاوَتَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، {وَمَا يَتَذَكَّرُ} أَيْ يَعْتَبِرُ وَيَتَفَكَّرُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا {إِلاَّ مَن يُنِيبُ} أَيْ مَنْ هُوَ بَصِيرٌ مُنِيبٌ إِلَى اللَّهِ تبارك وتعالى، وقوله عزَّ وجلَّ: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} أَيْ فَأَخْلِصُوا لِلَّهِ وَحْدَهُ الْعِبَادَةَ وَالدُّعَاءَ وَخَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ فِي مَسْلَكِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ، قَالَ الْإِمَامُ أحمد: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ فِي دُبُر كُلِّ صَلَاةٍ حِينَ يُسَلِّمُ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهل بهن دُبُر كل صلاة" (أخرجه أحمد ورواه مسلم والترمذي والنسائي)، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله، ولا نعبد إلا إياه» الحديث، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أَنَّ الله تعالى لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعاً).

- 15 - رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ - 16 - يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ - 17 - الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَارْتِفَاعِ عَرْشِهِ الْعَظِيمِ الْعَالِي عَلَى جَمِيعِ مخلوقاته، كالسقف لها كما قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْعَرْشَ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ اتِّسَاعُ مَا بَيْنَ قُطْرَيْهِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَارْتِفَاعُهُ عَنِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سنة، وقوله تَعَالَى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ من عباده}، كقوله جلت عظمته: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يشآء من عِبَادِهِ أَنْ أنذروا أن لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون}، وكقوله تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين}، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَوْمَ التَّلَاقِ} اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ يوم القيامة حذر الله منه عباده، يَلْتَقِي فِيهِ آدَمُ وَآخِرُ وَلَدِهِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَلْتَقِي فِيهِ الْعِبَادُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: يَلْتَقِي فِيهِ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ وَالْخَالِقُ والخلق، وقال ميمون بن مهران: يلتقي الظالم والمظلوم، وقد يقال إن يوم التلاق يَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ وَيَشْمَلُ أَنَّ كُلَّ عَامِلٍ سيلقى ما عمله مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ كَمَا قَالَهُ آخَرُونَ، وَقَوْلُهُ جلَّ جلاله: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} أَيْ ظَاهِرُونَ بَادُونَ كُلُّهُمْ، لَا شَيْءَ يُكِنُّهُمْ ولا يظلهم ولا يسترهم، {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} قَدْ تقدم في حديث ابن عمر

رضي الله عنهما أَنَّهُ تَعَالَى يَطْوِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِيَدِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْجَبَّارُ، أَنَا الْمُتَكَبِّرُ، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ وفي حديث الصور أنه عزَّ وجلَّ إِذَا قَبَضَ أَرْوَاحَ جَمِيعِ خَلْقِهِ فَلَمْ يَبْقَ سِوَاهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، حينئذٍ يَقُولُ: {لِّمَنِ الْمَلِكُ الْيَوْمَ}؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يُجِيبُ نَفْسَهُ قَائِلًا: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أَيِ الَّذِي قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَغَلَبَهُ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عباس رضي الله عنهما: يُنَادِي مُنَادٍ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ فَيَسْمَعُهَا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، قَالَ، وينزل الله عزَّ وجلَّ إلى السماء الدُّنْيَا وَيَقُولُ: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، لِلَّهِ الْوَاحِدِ القهار} (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفاً)، وقوله جلت عظمته: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، يُخْبِرُ تعالى عن عدله بَيْنَ خَلْقِهِ، أَنَّهُ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ وَلَا مِنْ شَرٍّ، بَلْ يَجْزِي بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا وَبِالسَّيِّئَةِ وَاحِدَةً، وَلِهَذَا قَالَ تبارك وتعالى: {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مسلم: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا - إِلَى أَنْ قَالَ - يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ الله تبارك وتعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه». وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أَيْ يُحَاسِبُ الْخَلَائِقَ كُلَّهُمْ كَمَا يُحَاسِبُ نَفْسًا وَاحِدَةً، كَمَا قَالَ جلَّ وعلا: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}.

- 18 - وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ - 19 - يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ - 20 - وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ البصير يوم الآزفة: اسم من أسماء يوم القيامة، وسميت بِذَلِكَ لِاقْتِرَابِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ}، وقال عزَّ وجلَّ: {اقتربت الساعة وانشق القمر}، وقال جل وعلا: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} الآية، وقوله تبارك وتعالى: {إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كَاظِمِينَ}. قَالَ قَتَادَةُ: وَقَفَتِ الْقُلُوبُ فِي الْحَنَاجِرِ مِنَ الْخَوْفِ، فَلَا تَخْرُجُ وَلَا تَعُودُ إِلَى أَمَاكِنِهَا (وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ)، وَمَعْنَى {كَاظِمِينَ} أَيْ سَاكِتِينَ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بإذنه {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً}، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ {كَاظِمِينَ} أَيْ بَاكِينَ، وَقَوْلُهُ سبحانه {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}، أي ليس للذين ظلموا من قريب يَنْفَعُهُمْ، وَلَا شَفِيعٍ يُشَفَّعُ فِيهِمْ، بَلْ قَدْ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} يُخْبِرُ عزَّ وجلَّ عَنْ عِلْمِهِ التَّامِّ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، دَقِيقِهَا وَلَطِيفِهَا لِيَحْذَرَ النَّاسُ ربهم، فيتقوه حَقَّ تَقْوَاهُ، وَيُرَاقِبُوهُ مُرَاقَبَةَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يراه، فإنه عزَّ وجلَّ يعلم العين الخائنة، ويلعم مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ خَبَايَا الصُّدُورِ مِنَ الضَّمَائِرِ والسرائر، قال ابن عباس {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور}: هو الرَّجُلُ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ، وَفِيهِمُ الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ، أَوْ تَمُرُّ بِهِ وَبِهِمُ الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ، فَإِذَا غَفَلُوا لَحَظَ إِلَيْهَا، فَإِذَا فَطِنُوا

غض بصره عنها، فإذا غفلوا لخظ، فإذا فطنوا غض، وقد اطلع الله تعالى من قلبه أنه ود ولو اطلع على فرجها، وَقَالَ الضَّحَّاكُ {خَآئِنَةَ الْأَعْيُنِ}: هُوَ الْغَمْزُ، وَقَوْلُ الرجل رأيت ولم ير، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعَيْنِ فِي نَظَرِهَا هَلْ تُرِيدُ الْخِيَانَةَ أَمْ لا؟ {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} يَعْلَمُ إِذَا أَنْتَ قَدَرْتَ عَلَيْهَا هَلْ تَزْنِي بِهَا أَمْ لَا؟ وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} أَيْ مِنَ الْوَسْوَسَةِ، وقوله عزَّ وجلَّ {والله يَقْضِي بالحق} أي يحكم بالعدل. قال ابن عباس: قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْزِيَ بِالْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ وَبِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وَهَذَا الذي فسر به ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية، كقوله تبارك وتعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أحسنوا بالحسنى}، وقوله جلَّ وعلا: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ، {لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} أَيْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَحْكُمُونَ بِشَيْءٍ، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أَيْ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ خَلْقِهِ بَصِيرٌ بِهِمْ، فَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَن يَشَآءُ، وَهُوَ الْحَاكِمُ الْعَادِلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.

- 21 - أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ - 22 - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب يقول تعالى: {أَوَلَمْ يَسيرُواْ} هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِرِسَالَتِكَ يَا مُحَمَّدُ {فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ} أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بِالْأَنْبِيَاءِ، مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْ هَؤُلَاءِ قُوَّةً {وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ} أَيْ أَثَّرُوا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْبِنَايَاتِ والمعالم ما لم يقدر هؤلاء عليه كما قال عزَّ وجلَّ، {وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عمروها} مع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد، {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} وَهِيَ كُفْرُهُمْ بِرُسُلِهِمْ، {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} أَيْ وَمَا دَفَعَ عَنْهُمْ عَذَابَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَا رَدَّهُ عَنْهُمْ رَادٌّ، وَلَا وَقَاهُمْ وَاقٍ، ثُمَّ ذَكَرَ عِلَّةَ أَخْذِهِ إِيَّاهُمْ وَذُنُوبَهُمُ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا وَاجْتَرَمُوهَا، فقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ بِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَاتِ، {فَكَفَرُواْ} أَيْ مَعَ هَذَا الْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ كَفَرُوا وَجَحَدُوا، {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} تعالى أي أهلكهم ودمر عليهم، {إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أَيْ ذُو قُوَّةٍ عَظِيمَةٍ وَبَطْشٍ شَدِيدٍ، وَهُوَ {شَدِيدُ الْعِقَابِ} أَيْ عقابه أليم شديد وجيع، أعاذنا الله تبارك وتعالى منه.

- 23 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ - 24 - إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ - 25 - فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقْتُلُوا أَبْنَآءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ - 26 - وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ إِنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ - 27 - وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ يقول تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ، ومبشراً بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ وَالنُّصْرَةَ لَهُ فِي الدُّنْيَا

والآخرة كما جرى لموسى بن عمران عليه السلام، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالدَّلَائِلِ الواضحات، ولهذا قال تعالى: {بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} وَالسُّلْطَانُ هُوَ الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ، {إلى فِرْعَوْنَ} وهو مَلِكُ الْقِبْطِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، {وَهَامَانَ} وَهُوَ وَزِيرُهُ فِي مَمْلَكَتِهِ {وَقَارُونَ} وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي زَمَانِهِ مَالًا وَتِجَارَةً، {فَقَالُواْ: سَاحِرٌ كَذَّابٌ} أَيْ كذبوه وجعلوه ساحراً مجنوناً، مموّهاً كذاباً في أن الله جلا وعلا أَرْسَلَهُ وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}، {فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ مِّنْ عِندِنَا} أَيْ بِالْبُرْهَانِ القاطع الدال على أن الله عزَّ وجلَّ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ، {قَالُواْ اقْتُلُوا أَبْنَآءَ الَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَآءَهُمْ}، وَهَذَا أَمْرٌ ثَانٍ مِنْ فِرْعَوْنَ بِقَتْلِ ذُكُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَانَ لِأَجْلِ الِاحْتِرَازِ مِنْ وُجُودِ مُوسَى، أَوْ لِإِذْلَالِ هَذَا الشَّعْبِ وَتَقْلِيلِ عَدَدِهِمْ، أَوْ لِمَجْمُوعِ الأمرين، واما الأمر الثاني فلإهانة هَذَا الشَّعْبِ، وَلِكَيْ يَتَشَاءَمُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِهَذَا قَالُوا: {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} أَيْ وَمَا مَكْرُهُمْ وَقَصْدُهُمُ الَّذِي هُوَ تَقْلِيلُ عَدَدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِئَلَّا يُنْصَرُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا ذَاهِبٌ وَهَالِكٌ فِي ضَلَالٍ {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ}، وَهَذَا عَزْمٌ مِنْ فِرْعَوْنَ - لعنة الله - على قتل موسى عليه الصلاة والسلام؛ أَيْ قَالَ لِقَوْمِهِ دَعُونِي حَتَّى أَقْتُلَ لَكُمْ هَذَا {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} أَيْ لَا أُبَالِي مِنْهُ، وهذا في غاية الجحد والعناد {إِنِّي أَخَافُ إِنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد} يَخْشَى فِرْعَوْنُ أَنْ يُضِلَّ مُوسَى النَّاسَ وَيُغَيِّرَ رُسُومَهُمْ وَعَادَاتِهُمْ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: صَارَ فِرْعَوْنُ مُذَكِّرًا، يَعْنِي وَاعِظًا، يُشْفِقُ عَلَى الناس من موسى عليه السلام، {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} أَيْ لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ فِرْعَوْنَ {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} قال موسى عليه السلام: اسْتَجَرْتُ بِاللَّهِ، وَعُذْتُ بِهِ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ أَمْثَالِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ {مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} أَيْ عَنِ الْحَقِّ مُجْرِمٍ {لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ}، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَافَ قَوْمًا قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ، وَنَدْرَأُ بِكَ فِي نُحُورِهِمْ».

- 28 - وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ - 29 - يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ الْمَشْهُورُ إنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ كَانَ (قِبْطِيًّا) مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، قَالَ السدي: كان ابن عم فرعون، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَرَدَّ قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ انْفَعَلَ لِكَلَامِهِ وَاسْتَمَعَهُ وَكَفَّ عَنْ قَتْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السلام، ولو كان إسرائيلياً لأوشك أن يعاجله بالعقوبة لأنه مِّنْهُمْ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يُؤْمَنْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ سِوَى هَذَا الرَّجُلِ وَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَالَّذِي قَالَ: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} (أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير)، وَقَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ يَكْتُمُ

إِيمَانَهُ عَنْ قَوْمِهِ الْقِبْطِ، فَلَمْ يَظْهَرْ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ حِينَ قَالَ فِرْعَوْنُ: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} فَأَخَذَتِ الرَّجُلَ غَضْبَةٌ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وأفضل الجهاد كلمة حق عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، كَمَا ثَبَتَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ، وَلَا أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}، اللَّهُمَّ إِلَّا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صحيحه عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قَالَ، قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: أخبرني بأشد شيء صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِفناء الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ (عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ) فَأَخَذَ بمنكِب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بكر رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه، ودفعه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن ربكم} (أخرجه البخاري في صحيحه)؟ وروى ابن أبي حاتم عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن سُئِلَ: مَا أَشَدُّ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا بَلَغُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: مَرَّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ تَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟ فَقَالَ: «أَنَا ذَاكَ» فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَأَخَذُوا بِمَجَامِعِ ثِيَابِهِ، فَرَأَيْتُ أَبَا بكر عند مُحْتَضِنُهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَهُوَ يَصِيحُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ، وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَيَسِيلَانِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا قَوْمِ {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ}؟ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآية كلها (أخرجه ابن أبي حاتم والنسائي)، وقوله تعالى: {وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِّن رَّبِّكُمْ} أَيْ كَيْفَ تقتلونه وَقَدْ أَقَامَ لَكُمُ الْبُرْهَانَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ؟ ثُمَّ تَنَزَّلَ مَعَهُمْ فِي الْمُخَاطَبَةِ فَقَالَ: {وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}، يَعْنِي إِذَا لَمْ يُظْهِرْ لَكُمْ صِحَّةَ ما جاءكم به، فمن العقل والرأي أَنْ تَتْرُكُوهُ وَنَفْسَهُ فَلَا تُؤْذُوهُ، فَإِنْ يَكُ كاذباً فإن الله سبحانه سيجازيه على كذبه، وإن يك صادقاً وقد أذيتموه يصبكم بعذ الَّذِي يَعِدُكُمْ، فَإِنَّهُ يَتَوَعَّدُكُمْ إِنْ خَالَفْتُمُوهُ بِعَذَابٍ في الدنيا والآخرة، فينبغي أن لا تتعرضوا له بل اتركوه وشأنه. وقوله جلَّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} أي لو كان هذا كَاذِبًا كَمَا تَزْعُمُونَ، لَكَانَ أَمْرُهُ بَيِّنًا يَظْهَرُ لكل أحد في أقواله وأفعاله، وهذا نرى أمره سديداً ومنهجه مستقمياً، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ الْكَذَّابِينَ، لَمَا هَدَاهُ اللَّهُ وَأَرْشَدَهُ إِلَى مَا تَرَوْنَ مِنِ انْتِظَامِ أَمْرِهِ وَفِعْلِهِ، ثُمَّ قَالَ الْمُؤْمِنُ مُحَذِّرًا قَوْمَهُ زَوَالَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَنْهُمْ وَحُلُولَ نِقْمَةِ اللَّهِ بِهِمْ: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} أَيْ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْمُلْكِ، وَالظُّهُورِ فِي الْأَرْضِ بِالْكَلِمَةِ النَّافِذَةِ وَالْجَاهِ الْعَرِيضِ، فَرَاعُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ بِشُكْرِ اللَّهِ تعالى وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، واحذورا نِقْمَةَ اللَّهِ إِنْ كَذَّبْتُمْ رَسُولَهُ {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا} أَيْ لَا تُغْنِي عَنْكُمْ هَذِهِ الْجُنُودُ وَهَذِهِ الْعَسَاكِرُ وَلَا تَرُدُّ عَنَّا شَيْئًا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنَا بِسُوءٍ، {قَالَ فِرْعَوْنُ} لِقَوْمِهِ رَادًّا عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ الْبَارُّ الراشد {مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى} أَيْ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُشِيرُ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا أَرَاهُ لِنَفْسِي، وَقَدْ كَذَبَ فِرْعَوْنُ فَإِنَّهُ كَانَ يَتَحَقَّقُ صدق موسى عليه السلام فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ، {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض بصائر}، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}، فَقَوْلُهُ: {مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى} كَذَبَ فيه وافترى، وخان رعيته فَغَشَّهُمْ وَمَا نَصَحَهُمْ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} أَيْ وَمَا أَدْعُوكُمْ إِلَّا إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَالرُّشْدِ، وَقَدْ كَذَبَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَوْمُهُ قَدْ أطاعوه واتبعوه، قال الله تبارك

وتعالى: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}، وقال جلَّت عظمته: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وما هدى}. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ إِمَامٍ يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لِيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خمسمائة عام».

- 30 - وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ - 31 - مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ - 32 - وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ - 33 - يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ - 34 - وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّآ جَآءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ - 35 - الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ (مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ) أَنَّهُ حَذَّرَ قَوْمَهُ بَأْسَ اللَّهِ تعالى في الدنيا والآخرة، فقال: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} أَيِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَ اللَّهِ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، كَيْفَ حَلَّ بِهِمْ بَأْسُ اللَّهِ وَمَا رَدَّهُ عَنْهُمْ رَادٌّ وَلَا صَدَّهُ عَنْهُمْ صَادٌّ {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ}، أي إنما أهلكهم الله تعالى بذنوبهم وتكذبيهم رسله ومخالفتهم أمره، فأننفذ فيهم قدره، ثم قال: {يا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} يَعْنِي يوم القيامة، وسمي بذلك لَمَّا جَاءَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ إِنَّ الْأَرْضَ إِذَا زُلْزِلَتْ وَانْشَقَّتْ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، وَمَاجَتْ وَارْتَجَّتْ، فَنَظَرَ النَّاسُ إِلَى ذَلِكَ ذَهَبُوا هاربين ينادي بعضهم بعضاً، وقال الضحاك: بل ذلك إذا جيء بجنهم ذهب الناس هراباً منهم، فَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَتَرُدُّهُمْ إِلَى مَقَامِ الْمَحْشَرِ وَهُوَ قوله تعالى: {والملك على أرجائها}، وقيل: لأن الميزان عنده ملك إذا وزن عمل العبد فرحج نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ، أَلَا قَدْ سَعِدَ فَلَانُ ابن فُلَانٌ سَعَادَةً لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا، وَإِنْ خَفَّ عَمَلُهُ نَادَى أَلَا قَدْ شَقِيَ فَلَانُ ابن فلان، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمُنَادَاةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وعدكم رَبُّكُمْ حَقّاً؟ قَالُواْ نعم}، وَمُنَادَاةُ أَهْلِ النَّارِ أَهْلَ الْجَنَّةِ {أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين}، وَلِمُنَادَاةِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَأَهْلَ النَّارِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَاخْتَارَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَجْمُوعِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ جَيِّدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تعالى: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} أي ذاهبين هاربين، {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} أَيْ لا مَانِعٌ يَمْنَعُكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أَيْ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ غَيْرُهُ، وقوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} يَعْنِي أَهْلَ مِصْرَ قَدْ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ قبل موسى عليه الصلاة

والسلام وهو (يوسف) عليه الصلاة والسلام كَانَ عَزِيزَ أَهْلِ مِصْرَ، وَكَانَ رَسُولًا يَدْعُو إلى الله تعالى أمته بالقسط، فما أطاعوه تلك الطاعة إلا بمجرد الوزارة والجاه الدنيوي، ولهذا قال تعالى: {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّآ جَآءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} أَيْ يَئِسْتُمْ فَقُلْتُمْ طَامِعِينَ {لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} وَذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} أي كحالكم هذا يكون حال من يضله الله لإسرافه في أفعاله وارتياب قلبه، ثم قال عزَّ وجلَّ: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} أَيِ الَّذِينَ يَدْفَعُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَيُجَادِلُونَ الْحُجَجَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَحُجَّةٍ مَعَهُمْ مِنَ اللَّهِ تعالى، فإن الله عزَّ وجلَّ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْمَقْتِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُواْ} أَيْ وَالْمُؤْمِنُونَ أَيْضًا يُبْغِضُونَ مَنْ تَكُونُ هَذِهِ صِفَتَهُ، فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ، فَلَا يَعْرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، وَلِهَذَا قَالَ تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ} أي على اتباع الحق {جَبَّارٍ} قال قتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق، والله تعالى أعلم.

- 36 - وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ - 37 - أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إله موسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ وَعُتُوِّهُ، وَتَمَرُّدِهِ وَافْتِرَائِهِ فِي تكذيبه موسى عليه الصلاة والسلام، إِنَّهُ أَمَرَ وَزِيرَهُ {هَامَانَ} أَنْ يَبْنِيَ لَهُ {صَرْحاً} وَهُوَ الْقَصْرُ الْعَالِي الْمُنِيفُ الشَّاهِقُ، وَكَانَ اتِّخَاذُهُ مِنَ الْآجُرِّ الْمَضْرُوبِ مِنَ الطِّينِ الْمَشْوِيِّ، كما قال تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لي صرحاً}، وَقَوْلُهُ: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} قَالَ سعيد بن جبير: أَبْوَابَ السَّمَاوَاتِ، وَقِيلَ: طُرُقَ السَّمَاوَاتِ {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً}، وَهَذَا مِنْ كفره وتمرده أنه كذب موسى عليه الصلاة والسلام فِي أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل} أي بصنعه هَذَا الَّذِي أَرَادَ أَنْ يُوهِمَ بِهِ الرَّعِيَّةَ، أَنَّهُ يَعْمَلُ شَيْئًا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى تَكْذِيبِ موسى عليه الصلاة والسلام، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} قال ابن عباس وَمُجَاهِدٌ: يَعْنِي إِلَّا فِي خَسَارٍ.

- 38 - وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ - 39 - يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ - 40 - مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ يَقُولُ الْمُؤْمِنُ لِقَوْمِهِ مِمَّنْ تَمَرَّدَ وَطَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الْأَعْلَى فَقَالَ لَهُمْ: {يَا قَوْمِ اتبعونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} لَا كَمَا كَذَبَ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ}، ثُمَّ زَهَّدَهُمْ فِي الدُّنْيَا الَّتِي قَدْ آثَرُوهَا عَلَى الْأُخْرَى، وصدتهم عن التصديق برسول الله موسى عليه الصلاة والسلام، فَقَالَ: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} أَيْ قَلِيلَةٌ زَائِلَةٌ فَانِيَةٌ عَنْ قَرِيبٍ تذهب وَتَضْمَحِلُّ، {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} أَيِ الدار التي

لا زوال وَلَا انْتِقَالَ مِنْهَا وَلَا ظَعْنَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، بَلْ إِمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا جَحِيمٌ، وَلِهَذَا قال جلت عظمته {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} أَيْ وَاحِدَةً مِثْلَهَا، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أَيْ لَا يتقدر بجزاء، بل يثيبه الله عزَّ وجلَّ ثواباً كبيراً، لا نقضاء له ولا نفاذ.

- 41 - وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ - 42 - تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ - 43 - لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ - 44 - فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ - 45 - فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ - 46 - النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ يَقُولُ لَهُمُ الْمُؤْمِنُ: مَا بَالِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ، وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَصْدِيقُ رسوله صلى الله عليه وسلم الَّذِي بَعَثَهُ {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} أي على جَهْلٌ بِلَا دَلِيلٍ {وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} أَيْ هُوَ فِي عِزَّتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ يَغْفِرُ ذنب من تاب إليه {لاَ جرم أنَّ ما تدعونني إِلَيْهِ} يقول: حقاً، قال ابن جَرِيرٍ: مَعْنَى قَوْلِهِ {لاَ جَرَمَ}: حَقًّا، وَقَالَ الضحاك {لا جَرَمَ}: لا كذب، المعنى إنَّ الَّذِي تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الآخرة} قال مجاهد: الوثن ليس له شيء، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الْوَثَنَ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يُجِيبُ دَاعِيَهُ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ} وقوله: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لكم}، وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى اللَّهِ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، وَلِهَذَا قَالَ {وَأَن الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} أَيْ خَالِدِينَ فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله عزَّ وجلَّ {فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ} أَيْ سَوْفَ تَعْلَمُونَ صِدْقَ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، وَنَصَحْتُكُمْ وَوَضَّحْتُ لَكُمْ، وَتَتَذَكَّرُونَهُ وَتَنْدَمُونَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُكُمُ النَّدَمُ {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} أَيْ وَأَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ وَأَسْتَعِينُهُ، وَأُقَاطِعُكُمْ وَأُبَاعِدُكُمْ، {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بالعباد} أي هو بصير بهم تعالى وتقدس، فَيَهْدِي مَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ، وَيُضِلُّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِضْلَالَ، وَلَهُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالْحِكْمَةُ التَّامَّةُ، وَالْقَدَرُ النافذ. وقوله تبارك وتعالى: {فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَنَجَّاهُ اللَّهُ تعالى مع موسى عليه الصلاة والسلام، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَبِالْجَنَّةِ، {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} وَهُوَ الْغَرَقُ فِي الْيَمِّ ثُمَّ النَّقْلَةُ مِنْهُ إِلَى الْجَحِيمِ، فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ تُعْرَضُ عَلَى النَّارِ صَبَاحًا وَمَسَاءً إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ اجْتَمَعَتْ أَرْوَاحُهُمْ وَأَجْسَادُهُمْ فِي النَّارِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} أَيْ أَشَدَّهُ أَلَمًا وَأَعْظَمَهُ نَكَالًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي اسْتِدْلَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى عَذَابِ الْبَرْزَخِ في القبور، وهي قوله تعالى:

{النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً}. وقد روي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَهِيَ تَقُولُ: أَشَعَرْتِ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ؟ فَارْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «إِنَّمَا يُفْتَنُ يَهُودُ»، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَبِثْنَا لَيَالِيَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ألا إنكم تفتنون في القبور»، قالت عائشة رضي الله عنها: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد، يستعيذ من عذاب القبر (أخرجه مسلم والإمام أحمد). وروى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ يَهُودِيَّةً دخلت عليها فقالت: نعوذ بالله من عذاب القبر، فسألت عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن عذاب القبر، فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم عذاب القبر حق» قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله بعدُ صلَّى صَلَاةً إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ القبر (أخرجه البخاري في صحيحه). وَأَحَادِيثُ عَذَابِ الْقَبْرِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَالَ قَتَادَةُ: {غُدُوّاً وَعَشِيّاً}: صَبَاحًا وَمَسَاءً مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، يُقَالُ لَهُمْ: يَا آلَ فِرْعَوْنَ هَذِهِ مَنَازِلُكُمْ، تَوْبِيخًا وَنِقْمَةً وَصَغَارًا لَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هم فيها يُغْدى بِهِمْ وَيُرَاحُ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، وقال ابن أبي حاتم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طيور خُضْرٍ تَسْرَحُ بِهِمْ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءُوا، وَإِنَّ أَرْوَاحَ وِلْدَانِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَجْوَافِ عَصَافِيرَ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، فَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ فِي الْعَرْشِ، وَإِنَّ أَرْوَاحَ آلِ فرعون في أجواف طيور سُودٍ تَغْدُو عَلَى جَهَنَّمَ وَتَرُوحُ عَلَيْهَا، فَذَلِكَ عرضها (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً)، وفي حديث الإسراء، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ: «ثُمَّ انْطُلِقَ بِي إِلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، رِجَالٌ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَطْنُهُ مِثْلُ الْبَيْتِ الضَّخْمِ، مُصَفَّدُونَ عَلَى سَابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَآلُ فِرْعَوْنَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوّاً وَعَشِيّاً {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} وَآلُ فِرْعَوْنَ كَالْإِبِلِ المسومة يخبطون الحجارة والشجر ولا يعقلون»، وروى ابن أبي حاتم، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا أَحْسَنَ مُحْسِنٌ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ إِلَّا أَثَابَهُ اللَّهُ تعالى قَالَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا إِثَابَةُ الْكَافِرِ؟ فَقَالَ: «إِنْ كَانَ قَدْ وَصَلَ رَحِمًا أَوْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ أَوْ عَمِلَ حَسَنَةً أَثَابَهُ الله تبارك وتعالى الْمَالَ وَالْوَلَدَ وَالصِّحَّةَ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ». قُلْنَا: فَمَا إثابته في الآخرة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «عَذَابًا دُونَ الْعَذَابِ»، وَقَرَأَ: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} (أخرجه ابن أبي حاتم والبزار). وعن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يبعثك الله عزَّ وجلَّ إليه يوم القيامة» (أخرجه الشيخان والإمام أحمد).

- 47 - وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ - 48 - قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ - 49 - وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا

رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ - 50 - قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُوا وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تحاجِّ أَهْلِ النَّارِ وَتَخَاصُمِهِمْ وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مَنْ جُمْلَتِهِمْ {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ} وَهُمُ الْأَتْبَاعُ {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وَهُمُ الْقَادَةُ وَالسَّادَةُ وَالْكُبَرَاءُ {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} أَيْ أَطَعْنَاكُمْ فِيمَا دَعَوْتُمُونَا إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ} أَيْ قِسْطًا تَتَحَمَّلُونَهُ عَنَّا {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ} أَيْ لَا نَتَحَمَّلُ عَنْكُمْ شَيْئًا كَفَى بِنَا مَا عِنْدَنَا وَمَا حَمَلْنَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حكم بين العباد} أي فقسم بَيْنَنَا الْعَذَابَ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلٌّ مِنَّا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لاَّ تَعْلَمُونَ}، {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ} لَمَّا علموا أن الله عزَّ وجلَّ لَا يَسْتَجِيبُ مِنْهُمْ، وَلَا يَسْتَمِعُ لِدُعَائِهِمْ، بَلْ قد قَالَ: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تكلمون} سألوا الخزنة وهم كالسجَّانين لأهل النار أن يدعوا لهم الله تعالى في أَنْ يُخَفِّفَ عَنِ الْكَافِرِينَ وَلَوْ يَوْمًا وَاحِدًا مِنَ الْعَذَابِ فَقَالَتْ لَهُمُ الْخَزَنَةُ رَادِّينَ عَلَيْهِمْ: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات}؟ أي أو ما قَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَجُ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ؟ {قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُوا} أَيْ أَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَنَحْنُ لَا نَدْعُو لَكُمْ وَلَا نَسْمَعُ منكم، ثم نخبركم أنه لَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ وَلَا يُخَفَّفُ عَنْكُمْ، وَلِهَذَا قَالُوا {وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} أي لا يقبل ولا يستجاب.

- 51 - إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ - 52 - يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ - 53 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ - 54 - هُدًى وَذِكْرَى لأُوْلِي الْأَلْبَابِ - 55 - فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ - 56 - إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع البصير قَدْ عُلِمَ أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ والسلام قتله قومه كيحيى وزكريا وشعيا، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ إِمَّا مُهَاجِراً إِلَى الله كَإِبْرَاهِيمَ، وَإِمَّا إِلَى السَّمَاءِ كَعِيسَى، فَأَيْنَ النُّصْرَةُ في الدنيا؟ أجاب ابن جرير على ذَلِكَ بِجَوَابَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ خَرَجَ عاماً، والمراد به البعض، وَهَذَا سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ. (الثَّانِي) أَنْ يَكُونَ المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم، كما فعل بقتلة يحيى وزكريا، سُلِّطَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ مَنْ أَهَانَهُمْ وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ النُّمْرُوذَ أَخَذَهُ اللَّهُ تعالى أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ رَامُوا صَلْبَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْيَهُودِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ تعالى عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم، وهذه نصرة عظيمة، وسنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر، أَنَّهُ يَنْصُرُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَيُقِرُّ أعينهم ممن آذاهم، ولهذا أهلك الله عزَّ وجلَّ قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ، وَقَوْمَ لُوطٍ وَأَهْلَ مَدْيَنَ وَأَشْبَاهَهُمْ وَأَضْرَابَهُمْ مِمَّنْ كَذَّبَ الرسل وخالف الحق، وأنجى الله تعالى من بينهم

الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يُهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَعَذَّبَ الْكَافِرِينَ فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدًا، قَالَ السُّدِّيُّ: "لَمْ يبعث الله عزَّ وجلَّ رَسُولًا قَطُّ إِلَى قَوْمٍ فَيَقْتُلُونَهُ أَوْ قَوْمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُونَ إِلَى الْحَقِّ فَيُقْتَلُونَ، فَيَذْهَبُ ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لَهُمْ مَنْ يَنْصُرُهُمْ، فَيَطْلُبُ بِدِمَائِهِمْ مِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَالَ: فَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ يُقْتَلُونَ فِي الدُّنْيَا وَهُمْ مَنْصُورُونَ فِيهَا"، وهكذا نصر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ كَلِمَتَهُ هِيَ الْعُلْيَا، وَدِينَهُ هُوَ الظَّاهِرَ على سائر الأديان، وأمره بالهجرة إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَجَعَلَ لَهُ فِيهَا أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا، ثُمَّ مَنَحَهُ أَكْتَافَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فنصره عليهم وخذلهم وقتل صناديدهم، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ فَتَحَ عَلَيْهِ مَكَّةَ، فقرت عينه ببلده المشرف المعظم، وَفَتَحَ لَهُ الْيَمَنَ، وَدَانَتْ لَهُ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ بِكَمَالِهَا، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، ثم قبضه الله تعالى إليه فأقام الله تبارك وتعالى أَصْحَابَهُ خُلَفَاءَ بَعْدَهُ، فَبَلَّغُوا عَنْهُ دِينَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، حَتَّى انْتَشَرَتِ الدَّعْوَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، ثُمَّ لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا مَنْصُورًا ظَاهِرًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَكُونُ النُّصْرَةُ أَعْظَمَ وَأَكْبَرَ وَأَجَلَّ، قَالَ مجاهد: الأشهاد الملائكة {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ} وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ {مَعْذِرَتُهُمْ} أَيْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ عُذْرٌ وَلَا فِدْيَةٌ {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} أَيِ الْإِبْعَادُ وَالطَّرْدُ مِنَ الرَّحْمَةِ، {ولهم سوء الدار} وهي النار، قال السدي: بئس المنزل والمقيل، وقال ابن عباس: أي سوء العاقبة. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى} وَهُوَ مَا بَعَثَهُ الله عزَّ وجلَّ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ، {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الكتاب} أي جعلنا لهم العاقبة، وأورثناهم ملك فرعون، وَفِي الْكِتَابِ الَّذِي أُورِثُوهُ وَهُوَ التَّوْرَاةُ {هُدًى وَذِكْرَى لأُوْلِي الْأَلْبَابِ} وَهِيَ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ السَّلِيمَةُ، وقوله عزَّ وجلَّ {فَاصْبِرْ} أَيْ يَا مُحَمَّدُ {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حق} أَيْ وَعَدْنَاكَ أَنَّا سَنُعْلِي كَلِمَتَكَ، وَنَجْعَلُ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَهَذَا الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ بِهِ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فيه ولا شك، وقوله تبارك وتعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} هَذَا تَهْيِيجٌ لِلْأُمَّةِ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ} أَيْ فِي أَوَاخِرِ النَّهَارِ وَأَوَائِلِ اللَّيْلِ {وَالْإِبْكَارِ} وَهِيَ أَوَائِلُ النَّهَارِ وأواخر الليل. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} أَيْ يَدْفَعُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَيَرُدُّونَ الْحُجَجَ الصَّحِيحَةَ بِالشُّبَهِ الْفَاسِدَةِ بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا حُجَّةٍ مِنَ اللَّهِ، {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} أَيْ مَا فِي صُدُورِهِم إِلَّا كِبَرٌ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَاحْتِقَارٌ لِمَنْ جَاءَهُمْ بِهِ، وَلَيْسَ مَا يَرُومُونَهُ - مِنْ إخماد الْحَقِّ وَإِعْلَاءِ الْبَاطِلِ - بِحَاصِلٍ لَهُمْ، بَلِ الْحَقُّ هُوَ الْمَرْفُوعُ، وَقَوْلُهُمْ وَقَصْدُهُمْ هُوَ الْمَوْضُوعُ {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أَيْ مِنْ حَالِ مِثْلِ هَؤُلَاءِ {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، أَوْ مِنْ شَرِّ مِثْلِ هَؤُلَاءِ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ، هذا تفسير ابن جرير.

- 57 - لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ - 58 - وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ - 59 - إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ يُعِيدُ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ سَهْلٌ عَلَيْهِ يسير لديه، بأنه خلق السماوات والأرض،

وَخَلْقُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ بَدْأَةً وَإِعَادَةً، فَمَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَا دُونَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قدير}، وقال ههنا: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} فَلِهَذَا لَا يَتَدَبَّرُونَ هَذِهِ الْحُجَّةَ وَلَا يَتَأَمَّلُونَهَا، كَمَا كَانَ كثير من العرب يعترفون بأن الله تعالى خلق السماوات وَالْأَرْضَ وَيُنْكِرُونَ الْمَعَادَ اسْتِبْعَادًا وَكُفْرًا وَعِنَادًا، وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِمَا هُوَ أَوْلَى مِمَّا أَنْكَرُوا، ثُمَّ قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ولا المسيء قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ} أَيْ كَمَا لَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى الَّذِي لَا يُبْصِرُ شَيْئًا، وَالْبَصِيرُ الَّذِي يَرَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ، بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ عَظِيمٌ، كَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْمُؤْمِنُونَ الْأَبْرَارُ، وَالْكَفَرَةُ الْفُجَّارُ {قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ} أَيْ مَا أَقَلَّ مَا يَتَذَكَّرُ كثير من الناس، ثم قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ} أَيْ لَكَائِنَةٌ وَوَاقِعَةٌ، {لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} أَيْ لَا يُصَدِّقُونَ بِهَا بَلْ يُكَذِّبُونَ بِوُجُودِهَا.

- 60 - وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ هَذَا مِنْ فَضْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَكَرَمِهِ، أَنَّهُ نَدَبَ عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة، قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: أُعْطِيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ ثَلَاثًا لم تعطهن أمة قبلها إِلَّا نَبِيٌّ: كَانَ إِذَا أَرْسَلَ اللَّهُ نَبِيًّا قال له: أنت شاهد على أمتك، وجعلكم شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: لَيْسَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وَقَالَ لِهَذِهِ الأمة: {وما جعلكم عَلَيْكُمْ فِي الدين من حرج} وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكَ، وَقَالَ لهذه الأمة: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وروى الإمام أحمد، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين} (رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح)، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدْعُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ غَضِبَ عليه» (أخرجه الإمام أحمد، قال ابن كثير: إسناده لا بأس به)، وروى الحافظ الرامهرمزي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَجَدْنَا فِي ذُؤَابَةِ سَيْفِهِ كِتَابًا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لربكم في بقية أيام دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّ دَعْوَةً أَنْ توافق رحمة فيسعد صَاحِبُهَا سَعَادَةً لَا يَخْسَرُ بَعْدَهَا أَبَدًا»، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} أَيْ عَنْ دُعَائِي وَتَوْحِيدِي، {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أَيْ صَاغِرِينَ حقيرين، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يحشر المتكبرون يوم القيامة مثال الذَّرِّ فِي صُوَرِ النَّاسِ يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الصَّغَارِ، حَتَّى يَدْخُلُوا سِجْنًا فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ (بُولَسُ) تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ عُصَارَةِ أهل النار» (أخرجه الإمام أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده مرفوعاً). وقال وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ قَالَ: كُنْتُ أَسِيرُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَرْضِ الرُّومِ، فَسَمِعْتُ هَاتِفًا مِنْ فَوْقِ رَأْسِ جَبَلٍ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَبِّ عَجِبْتُ لِمَنْ عَرَفَكَ كَيْفَ يَرْجُو أَحَدًا غَيْرَكَ، يَا رَبِّ عَجِبْتُ لِمَنْ عَرَفَكَ كَيْفَ يَطْلُبُ حَوَائِجَهُ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِكَ، قَالَ: ثُمَّ عَادَ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: يَا رَبِّ عَجِبْتُ لِمَنْ عَرَفَكَ كَيْفَ يَتَعَرَّضُ لِشَيْءٍ

من سخطك يرضي غيرك، قَالَ، فَنَادَيْتُهُ: أَجِنِّيٌّ أَنْتَ أَمْ إِنْسِيٌّ؟ قَالَ: بل إنسي، اشغل نفسك مما يعنيك عما لا يعنيك (رواه ابن أبي حاتم) وفي الحديث: «من لم يسأل الله يغضب عليه» (أخرجه أحمد والبزار).

- 61 - اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ - 62 - ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ - 63 - كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ - 64 - اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ - 65 - هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى خَلْقِهِ بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ اللَّيْلِ الذي يسكنون فيه، ويستريحون فيه مِنْ حَرَكَاتِ تَرَدُّدِهِمْ فِي الْمَعَايِشِ بِالنَّهَارِ وَجَعَلَ النَّهَارَ مُبْصِراً، أَيْ مُضِيئًا لِيَتَصَرَّفُوا فِيهِ بِالْأَسْفَارِ، وقطع الأقطار، والتكمن مِنَ الصِّنَاعَاتِ {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} أَيْ لَا يَقُومُونَ بِشُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قال عزَّ وجلَّ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أَيِ الَّذِي فَعَلَ هَذِهِ الأشياء هو الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، خَالِقُ الْأَشْيَاءِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أَيْ فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَخْلُقُ شَيْئًا بَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ مَنْحُوتَةٌ! وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أَيْ كَمَا ضَلَّ هَؤُلَاءِ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، كَذَلِكَ أُفِكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَعَبَدُوا غَيْرَهُ، بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ الْجَهْلِ والهوى، وجحدوا حجج الله وآياته، وقوله تَعَالَى: {آللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً} أَيْ جعلها لكم مستقراً، تَعِيشُونَ عَلَيْهَا وَتَتَصَرَّفُونَ فِيهَا، وَتَمْشُونَ فِي مَنَاكِبِهَا، {وَالسَّمَاءَ بِنَآءً} أَيْ سَقْفًا لِلْعَالَمِ مَحْفُوظًا، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أَيْ فَخَلَقَكُمْ فِي أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ، وَمَنَحَكُمْ أَكْمَلَ الصُّوَرِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} أَيْ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ فِي الدُّنْيَا، فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الدَّارَ وَالسُّكَّانَ وَالْأَرْزَاقَ، فهو الخالق الرزّاق، كما قال تعالى في سورة البقرة: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَآءً، وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. وقال تعالى ههنا بَعْدَ خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أَيْ فَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ وتنزه رَّبِّ العالمين، ثم قال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أَيْ هو الحي أولاً وأبداً، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أَيْ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا عَدِيلَ لَهُ {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أَيْ موحدين له مقرنين بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَلْيَقُلْ عَلَى أَثَرِهَا الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين} (رواه ابن جرير).

- 66 - قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - 67 - هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ - 68 - هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّ الله عزَّ وجلَّ يَنْهَى أَنْ يُعْبَدَ أَحَدٌ سِوَاهُ مِنَ الْأَصْنَامِ والأنداد والأوثان، وقد بيَّن تبارك وتعالى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ أَحَدٌ سِوَاهُ فِي قوله جلت عظمته: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ، ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً} أَيْ هُوَ الَّذِي يُقَلِّبُكُمْ فِي هَذِهِ الْأَطْوَارِ كُلِّهَا وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَعَنْ أَمْرِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَتَقْدِيرِهِ يَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ، {وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ} أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُوجَدَ وَيَخْرُجَ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ، بَلْ تُسْقِطُهُ أُمُّهُ سَقْطًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُتَوَفَّى صَغِيرًا وَشَابًّا وَكَهْلًا قبل الشيخوخة، كقوله تعالى: {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مسمى}، وقال عزَّ وجلَّ ههنا: {ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: تَتَذَكَّرُونَ الْبَعْثَ، ثم قال تعالى: {هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي هو التفرد بِذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ، {فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أَيْ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ بَلْ مَا شَاءَ كَانَ لَا مَحَالَةَ.

- 69 - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ - 70 - الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِالْكِتَابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ - 71 - إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ - 72 - فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ - 73 - ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ - 74 - مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ - 75 - ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ - 76 - ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ يَقُولُ تَعَالَى: إِلاَّ تَعْجَبُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بآيات الله، ويجادلون في الحق بالباطل، كَيْفَ تُصْرَفُ عُقُولُهُمْ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ؟ {الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِالْكِتَابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} أَيْ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيَانِ {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، مِنَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ لِهَؤُلَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}، وقوله عزَّ وجلَّ: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ} أَيْ مُتَّصِلَةٌ بالأغلال بأيدي الزبانية يسحبونهم على وجوهم تارة إلى الححيم، وتارة إلى الجحيم، ولهذا قال تعالى: {يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ، ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}، كما قال تبارك وتعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}، وقال تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ}، وقال عزَّ وجلَّ: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ، ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ

الحميم، ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ والتوبيخ، والتهكم والاستهزاء بهم، وقوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}؟ أَيْ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ الْأَصْنَامُ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ الْيَوْمَ؟ {قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} أَيْ ذهبوا فلم ينفعونا، {بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً} أَيْ جَحَدُوا عِبَادَتَهُمْ، كَقَوْلِهِ جلَّت عظمته: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: هَذَا الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ جَزَاءٌ عَلَى فَرَحِكُمْ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَمَرَحِكُمْ وَأَشَرِكُمْ وَبَطَرِكُمْ، {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}، أَيْ فَبِئْسَ الْمَنْزِلُ وَالْمَقِيلُ الَّذِي فِيهِ الْهَوَانُ وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ، لِمَنِ اسْتَكْبَرَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ، واتباع دلائله وحججه، والله أعلم.

- 77 - فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ - 78 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى تكذيب من كذبه من قومه، {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أَيْ فِي الدنيا وكذلك وقع، فإن الله تعالى أقر عينه يَوْمِ بَدْرٍ ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ وسائر جزيرة العرب في حياته صلى الله عليه وسلم، وقوله عزَّ وجلَّ: {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أَيْ فَنُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشديد في الآخرة، ثم قال تعالى مُسَلِّيًا لَهُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ} أَيْ مِنْهُمْ مَنْ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ خَبَرَهُمْ وَقِصَصَهُمْ مَعَ قَوْمِهِمْ كَيْفَ كَذَّبُوهُمْ، ثُمَّ كَانَتْ لِلرُّسُلِ الْعَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ، {وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} وَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ ذَكَرَ بِأَضْعَافِ أَضْعَافٍ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ولله الحمد والمنة، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} أَيْ وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن يَأْتِيَ قَوْمَهُ بِخَارِقٍ لِلْعَادَاتِ إِلَّا أَن يَأْذَنَ الله فِي ذَلِكَ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ} وَهُوَ عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين، {قُضِيَ بالحق} فينجي المؤمنين ويهلك الكافرين، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ}.

- 79 - اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ - 80 - وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ - 81 - وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يأكلون، فَالْإِبِلُ تُرْكَبُ وَتُؤْكَلُ وَتُحْلَبُ، وَيُحْمَلُ عَلَيْهَا الْأَثْقَالُ فِي الْأَسْفَارِ وَالرِّحَالِ، إِلَى الْبِلَادِ النَّائِيَةِ وَالْأَقْطَارِ الشَّاسِعَةِ، وَالْبَقَرُ تُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا وَتُحْرَثُ عَلَيْهَا الْأَرْضُ، وَالْغَنَمُ تُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا، وَالْجَمِيعُ تُجَزُّ أَصْوَافُهَا وَأَشْعَارُهَا وَأَوْبَارُهَا فَيُتَّخَذُ مِنْهَا الْأَثَاثُ وَالثِّيَابُ والأمتعة ولذا قال عزَّ وجلَّ: {لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ}، وقوله جلَّ وعلا: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أَيْ حُجَجَهُ -[253]- وَبَرَاهِينَهُ فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِكُمْ {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ}؟ أَيْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى إِنْكَارِ شَيْءٍ مِنْ آيَاتِهِ إِلَّا أَنْ تُعَانِدُوا وَتُكَابِرُوا.

- 82 - أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ - 83 - فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ - 84 - فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ - 85 - فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بِالرُّسُلِ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ، وَمَاذَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ مَعَ شِدَّةِ قُوَاهُمْ، وَمَا أَثَّرُوهُ فِي الْأَرْضِ وَجَمَعُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَا رَدَّ عَنْهُمْ ذَرَّةً مِنْ بَأْسِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ بِالْبَيِّنَاتِ، وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَاتِ، وَالْبَرَاهِينِ الدَّامِغَاتِ، لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ وَلَا أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ، وَاسْتَغْنَوْا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فِي زَعْمِهِمْ عَمَّا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُمْ لَنْ نُبْعَثَ وَلَنْ نُعَذَّبَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَرِحُوا بِمَا عندهم من العلم بحالتهم، فأتاهم من بأس الله تعالى مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ، {وَحَاقَ بِهِم} أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ، {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ يُكَذِّبُونَ وَيَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ، {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} أَيْ عَايَنُوا وُقُوعَ الْعَذَابِ بِهِمْ، {قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} أي وحدوا الله عزَّ وجلَّ وَكَفَرُوا بِالطَّاغُوتِ وَلَكِنْ حَيْثُ لَا تُقَالُ الْعَثَرَاتُ، وَلَا تَنْفَعُ الْمَعْذِرَةُ، وَهَذَا كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ حين أدرك الْغَرَقُ {آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فَلَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَجَابَ لنبيّه موسى عليه السلام، وهكذا قال تعالى ههنا: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} أَيْ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ فِي جَمِيعِ مَنْ تَابَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ، ولهذا جاء في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لم يغرغر»، ولهذا قال تعالى: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون}.

41 - سورة فصلت

- 41 - سورة فصلت

بسم الله الرحمن الرحيم. - 1 - حم - 2 - تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - 3 - كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - 4 - بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ - 5 - وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَعْنِي الْقُرْآنُ منزل مِّنَ الرحمن الرحيم، كقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ}، وَقَوْلُهُ: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} أَيْ بُيِّنَتْ مَعَانِيهِ وَأُحْكِمَتْ أَحْكَامُهُ، {قُرْآناً عَرَبِيّاً} أَيْ فِي حَالِ كونه قرآناً عَرَبِيًّا بَيِّنًا وَاضِحًا، فَمَعَانِيهِ مُفَصَّلَةٌ، وَأَلْفَاظُهُ وَاضِحَةٌ، كقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خبير} أَيْ هُوَ مُعْجِزٌ مِنْ حَيْثُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ، وقوله تعالى: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي إنما يعرف هذا الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ {بَشِيراً وَنَذِيراً} أَيْ تَارَةً يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَارَةً يُنْذِرُ الْكَافِرِينَ، {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أَيْ أَكْثَرُ قُرَيْشٍ فَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا مَعَ بَيَانِهِ وَوُضُوحِهِ، {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} أَيْ فِي غُلْفٍ مُغَطَّاةٍ، {مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ} أَيْ صَمَمٌ عَمَّا جِئْتَنَا بِهِ {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} فَلَا يَصِلُ إِلَيْنَا شَيْءٌ مِمَّا تَقُولُ، {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} أَيِ اعْمَلْ أَنْتَ عَلَى طريقتك ونحن على طريقتنا لا نتابعك، روى البغوي في تفسيره عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ يَوْمًا فَقَالُوا: انْظُرُوا أَعْلَمَكُمْ بِالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ، فَلْيَأْتِ هَذَا الرَّجُلَ الذي فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَشَتَّتَ أَمْرَنَا وَعَابَ دِينَنَا، فَلْيُكَلِّمْهُ وَلْنَنْظُرْ مَاذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا غَيْرَ (عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ)، فَقَالُوا: أَنْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ: فَأَتَاهُ عُتْبَةُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إن كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنْكَ فَقَدْ عَبَدُوا الْآلِهَةَ الَّتِي عِبْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أنك خير منهم فتكلم حتى يسمع قَوْلَكَ، إِنَّا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا سِخَلَةً قَطُّ أَشْأَمَ عَلَى قَوْمِكَ مِنْكَ، فَرَّقْتَ جَمَاعَتَنَا وَشَتَّتَّ أَمْرَنَا، وَعِبْتَ دِينَنَا، وَفَضَحْتَنَا فِي الْعَرَبِ، حَتَّى لَقَدْ طَارَ فِيهِمْ أَنَّ فِي قُرَيْشٍ سَاحِرًا، وأن في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إِلَّا مِثْلَ صَيْحَةِ الْحُبْلَى أَنْ يَقُومَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ، حَتَّى نَتَفَانَى، أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنْ كَانَ إِنَّمَا بِكَ الْحَاجَةُ، جَمَعْنَا لَكَ حتى

تكون أغنى قريش رجلاً واحداً وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا بِكَ الْبَاءَةُ فَاخْتَرْ أَيَّ نِسَاءِ قُرَيْشٍ شِئْتَ فَلْنُزَوِّجْكَ عَشْرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَرَغْتَ؟» قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - حَتَّى بَلَغَ - فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فِيهِ، وَنَاشَدَهُ بِالرَّحِمِ، وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى قُرَيْشٍ، وَاحْتَبَسَ عَنْهُمْ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا نَرَى عُتْبَةَ إِلَّا قَدْ صَبَا إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك له إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إِلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا عُتْبَةُ مَا حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه، فإن كانت بك حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا يُغْنِيكَ عن طعام محمد، فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمد أَبَدًا، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، وَلَكِنِّي أَتَيْتُهُ وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَأَجَابَنِي بِشَيْءٍ وَاللَّهِ مَا هُوَ بِشِعْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ وَلَا سِحْرٍ، وَقَرَأَ السُّورَةَ إِلَى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فَأَمْسَكْتُ بِفِيهِ وَنَاشَدْتُهُ بِالرَّحِمِ أَنْ يَكُفَّ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَكْذِبْ، فَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ العذاب. وروى محمد بن إسحاق في كتاب السيرة عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنْ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَكَانَ سَيِّدًا، قَالَ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَلَا أَقُومُ إِلَى مُحَمَّدٍ فَأُكَلِّمَهُ وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أُمُورًا، لَعَلَّهُ أن يَقْبَلُ بَعْضَهَا فَنُعْطِيَهُ أَيَّهَا شَاءَ وَيَكُفَّ عَنَّا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه، وَرَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُونَ وَيَكْثُرُونَ، فَقَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ، فَقُمْ إِلَيْهِ فَكَلِّمْهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّكَ منا حيث علمت من السلطة فِي الْعَشِيرَةِ وَالْمَكَانِ فِي النَّسَبِ، وَإِنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ فَرَّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ، وَسَفَّهْتَ بِهِ أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وكفَّرت بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنِّي أَعْرِضْ عَلَيْكَ أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلَّكَ تقبل منها بَعْضَهَا، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعْ»، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالَنَا حَتَّى تَكُونَ أكثرنا مالاً، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يأتيك رِئياً تراه لا تسطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الأطباء وَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتَّى نُبَرِّئَكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَ التَّابِعُ عَلَى الرجُل حَتَّى يُدَاوَى مِنْهُ أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ عُتْبَةُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ مِنْهُ قَالَ: «أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاسْتَمِعْ مِنِّي»، قَالَ: أَفْعَلُ، قَالَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم، حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}، ثُمَّ مَضَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا وهو يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها يستمع منه، حتى انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّجْدَةِ مِنْهَا فَسَجَدَ، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ، فَأَنْتَ وَذَاكَ»، فَقَامَ عُتْبَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لبعض: نحلف بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ إِلَيْهِمْ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ: وَرَائِي أني سَمِعْتُ قَوْلًا وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالسِّحْرِ، وَلَا بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالْكِهَانَةِ. يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا لِي، خَلُّوا بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ، فَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ نَبَأٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ وكنتم

أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، قَالُوا: سَحَرَكَ وَاللَّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ، قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ. وَهَذَا السِّيَاقُ أَشْبَهُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

- 6 - قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ - 7 - الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ - 8 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُشْرِكِينَ {إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إله وَاحِدٌ} لا ما تَعْبُدُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَرْبَابِ الْمُتَفَرِّقِينَ، إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} أَيْ أَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ عَلَى مِنْوَالِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، {وَاسْتَغْفِرُوهُ} أَيْ لِسَالِفِ الذُّنُوبِ، {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} أَيْ دَمَارٌ لَهُمْ وَهَلَاكٌ عَلَيْهِمْ {الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ أَنْ لا إله إلا الله، كقوله تبارك وتعالى: {فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أن تزكى} والمراد بالزكاة هنا طَهَارَةُ النَّفْسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَمِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ طَهَارَةُ النَّفْسِ مِنَ الشِّرْكِ، وَزَكَاةُ الْمَالِ إِنَّمَا سُمِّيَتْ زَكَاةً، لِأَنَّهَا تُطَهِّرُهُ مِنَ الْحَرَامِ، وتكون سبباً لزيادته وبركته وكثرة نفعه، واستعماله فِي الطَّاعَاتِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزكاة}: أي لا يؤدون الزَّكَاةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَمْنَعُونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَاخْتَارَهُ ابن جرير، ثم قال جلَّ جلاله بَعْدَ ذَلِكَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: غير مقطوع ولا مجبوب، كقوله تعالى: {ماكثين فيها أبداً}، وكقوله عزَّ وجلَّ: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} وَقَالَ السُّدي: غَيْرَ مَمْنُونٍ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ رَدَّ عليه بعض الأئمة، فإن المنة لله تعالى عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ}، وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم}، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ».

- 9 - قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ - 10 - وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ - 11 - ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ - 12 - فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ العليم هذا إنكار من الله تعالى عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ، وَهُوَ الخالق لكل شيء، المقتدر على كل شيء {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً} أَيْ نُظَرَاءَ وَأَمْثَالًا تَعْبُدُونَهَا مَعَهُ، {ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أَيِ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ، وَهَذَا الْمَكَانُ فيه تفصيل لقوله تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ

والأرض في ستة أيام} ففصل ههنا مَا يَخْتَصُّ بِالْأَرْضِ مِمَّا اخْتَصَّ بِالسَّمَاءِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا لِأَنَّهَا كَالْأَسَاسِ، وَالْأَصْلُ أن يبدأ بالأساس، ثم بعد بالسقف، كما قال عزَّ وجلَّ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سماوات} الآية، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بناها} إلى قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا ومرعاها}، ففي هذه الآية إِنَّ دحو الأرض كان بعد خلق السماء، فالدحو مُفَسَّرٌ بِقَوْلِهِ: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا} وَكَانَ هَذَا بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، فَأَمَّا خَلْقُ الْأَرْضِ فَقَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ بِالنَّصِّ، وَبِهَذَا أَجَابَ ابْنُ عباس فيما ذكره البخاري عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ، قَالَ رَجُلٌ لابن عباس رضي الله عنهما: إني لأجد فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عليَّ، قَالَ: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ}، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بعض يتساءلون}، {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حديثاً}، {والله رَبِّنَا مَا كنا مشركين} فقد كتموا في هذه الآية، وقال تَعَالَى: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا - إلى قوله - والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ، ثُمَّ قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ - إِلَى قَوْلِهِ - طَآئِعِينَ} فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خلق الأرض قبل خلق السماء، قال: {وَكَانَ الله غَفُوراً رحيماً}، {عزيزاً حكيماً}، {سميعاً بصيراً} فكأنه كان ثم مضى، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ اليوم ولا يتساءلون} في النفخة الأولى، كما قال تعالى: {فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ الله}، وفي النَّفْخَةِ الأُخرى {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}. وأما قوله: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}، فإن الله تعالى يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول الْمُشْرِكُونَ: تَعَالَوْا نَقُولُ: لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ، فَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُعْرَفُ أن الله تعالى لا يكتم الله حديثاً، وعنده {يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} الآية، وَخَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، ثُمَّ دَحَى الْأَرْضَ وَدَحْيُهَا أَنْ أَخْرَجَ منها الماء والمرعى وخلق الجبال والرمال وَالْجَمَادَ وَالْآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، فذلك قوله تعالى: {دَحَاهَا}، وقوله: {خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} فخلق الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أيام وخلق السَّمَاوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيمًا} سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْ لَمْ يزل كذلك، فإن الله تعالى لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ فَلَا يَخْتَلِفَنَّ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ كُلًّا من عند الله عزَّ وجلَّ. وقوله تعالى: {خَلَقَ الْأَرْضَ، فِي يَوْمَيْنِ} يَعْنِي يَوْمَ الْأَحَدِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ، {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا} أَيْ جَعَلَهَا مُبَارَكَةً قَابِلَةً لِلْخَيْرِ والبدر وَالْغِرَاسِ، وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا، وَهُوَ مَا يَحْتَاجُ أَهْلُهَا إِلَيْهِ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي تُزْرَعُ وَتُغْرَسُ يَعْنِي يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ، فَهُمَا مَعَ اليومين السابقين أربعة ولهذا قال: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} أَيْ لِمَنْ أراد السؤال، عن ذلك ليعلمه. وقال عكرمة ومجاهد في قوله عزَّ وجلَّ: {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} جَعَلَ فِي كُلِّ أَرْضٍ مَا لَا يَصْلُحُ فِي غَيْرِهَا، وَمِنْهُ الْعَصَبُ باليمن، والسابوري بِسَابُورَ، وَالطَّيَالِسَةُ بِالرَّيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} أَيْ لِمَنْ أَرَادَ السُّؤَالَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ زبد: {وقدر فيها أقواتها} أي على وفق مراده، مَنْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى رِزْقٍ أَوْ حَاجَةٍ، فإن الله تعالى قَدَّرَ لَهُ مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَهَذَا القول يشبه قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} والله أعلم. وقوله تبارك وتعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} وَهُوَ بُخَارُ الْمَاءِ الْمُتَصَاعِدُ مِنْهُ حِينَ خُلِقَتِ الْأَرْضُ، {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً

أَوْ كَرْهاً} أي استجيبا لأمري طائعتين أو مكرهتين، قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} قال الله تبارك وتعالى للسماوات أَطْلِعِي شَمْسِي وَقَمَرِي وَنُجُومِي، وَقَالَ لِلْأَرْضِ: شَقِّقِي أنهارك وأخرجي ثمارك، {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} واختاره ابن جرير، وَقِيلَ تَنْزِيلًا لَهُنَّ مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ بِكَلَامِهِمَا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَوْ أَبَيَا عَلَيْهِ أَمْرَهُ لعذبهما عذاباً يجدان ألمه {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات فِي يَوْمَيْنِ} أي ففرغ في تسويتهن سبع سماوات {فِي يَوْمَيْنِ} أَيْ آخَرَيْنِ وَهُمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ وَيَوْمُ الْجُمْعَةِ، {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} أَيْ وَرَتَّبَ مُقَرِّرًا فِي كُلِّ سَمَاءٍ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ، {وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ} وهي الْكَوَاكِبُ الْمُنِيرَةُ الْمُشْرِقَةُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، {وَحِفْظاً} أَيْ حَرَسًا مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ تَسْتَمِعَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أَيِ الْعَزِيزُ الَّذِي قَدْ عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ فَغَلَبَهُ وقهره، {العليم} بجميع حركات المخلوقات وسكناتهم. روي أَنَّ الْيَهُودَ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَتْهُ عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "خلق الله تعالى الْأَرْضَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَمَا فِيهِنَّ مِنْ مَنَافِعَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الشَّجَرَ وَالْمَاءَ وَالْمَدَائِنَ وَالْعُمْرَانَ وَالْخَرَابَ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} لمن سأله، قَالَ: وَخَلَقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ النُّجُومَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْمَلَائِكَةَ إِلَى ثَلَاثِ ساعات بقيت منه وَفِي الثَّانِيَةِ أَلْقَى الْآفَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ وَأَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ"، ثُمَّ قَالَتِ الْيَهُودُ: ثك مَاذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ»، قَالُوا: قَدْ أَصَبْتَ لَوْ أَتْمَمْتَ، قَالُوا: ثُمَّ اسْتَرَاحَ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم غضباً شديداً فنزل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فَاصْبِرْ على مَا يقولون} (أخرجه ابن جرير عن ابن عباس، قال ابن كثير: وهذا الحديث فيه غرابة).

- 13 - فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ - 14 - إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ - 15 - فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ - 16 - فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ - 17 - وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ - 18 - وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، إِنْ أَعْرَضْتُمْ عَمَّا جِئْتُكُمْ به من عند الله تعالى، فَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ حُلُولَ نِقْمَةِ اللَّهِ بِكُمْ، كَمَا حلَّت بالأُمم الْمَاضِينَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْمُرْسَلِينَ {صَاعِقَةً

مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} أَيْ وَمَنْ شَاكَلَهُمَا مِمَّنْ فَعَلَ كَفِعْلِهِمَا، {إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ}، كقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفه} أي مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِأَعْدَائِهِ مِنَ النِّقَمِ، وَمَا أَلْبَسَ أَوْلِيَاءَهُ مِنَ النِّعَمِ، وَمَعَ هَذَا مَا آمَنُوا وَلَا صَدَّقُوا بَلْ كَذَّبُوا وَجَحَدُوا وَقَالُواْ: {لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً} أَيْ لَوْ أَرْسَلَ اللَّهُ رُسُلًا لَكَانُوا مَلَائِكَةً مِنْ عِنْدِهِ {فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أَيْ أَيُّهَا الْبَشَرُ {كَافِرُونَ} أَيْ لَا نَتَّبِعُكُمْ وَأَنْتُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرض} أَيْ بَغَوْا وَعَتَوْا وَعَصَوْا {وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}؟ أي منوا بشدة تركبيهم وقواهم واعتقدوا أنهم يمتنعون بها مِنْ بَأْسِ اللَّهِ، {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أَيْ أفما يتفكرون فيمن يبارزون بالعدواة، فَإِنَّهُ الْعَظِيمُ الَّذِي خَلَقَ الْأَشْيَاءَ وَرَكَّبَ فِيهَا قواها الحاملة لها، وأن بطشه شديد فَلِهَذَا قَالَ: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} قَالَ بعضهم: وهي شديدة الْهُبُوبِ، وَقِيلَ الْبَارِدَةُ، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي لَهَا صَوْتٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا مُتَّصِفَةٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا كانت ريحاً شديدة قوية، وكانت باردة شديدة البرد جداً، وكانت ذات صوت مزعج، وقوله تعالى: {فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} أي متتابعات كقوله: {فِي يَوْمِ نحس مستمر} أَيِ ابتُدِئوا بِهَذَا الْعَذَابِ فِي يَوْمِ نَحْسٍ عَلَيْهِمْ وَاسْتَمَرَّ بِهِمْ هَذَا النَّحْسُ {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أيام حسوماً} حَتَّى أَبَادَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَاتَّصَلَ بِهِمْ خِزْيُ الدنيا بعذاب الآخرة، ولهذا قال: {لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى} أَشَدُّ خِزْيًا لَهُمْ، {وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} أَيْ فِي الأُخرى كَمَا لَمْ يُنْصَرُوا فِي الدُّنْيَا، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} قال ابن عباس: بيّنّا لهم (وهو قول سعيد بن جبير وقتادة والسدي وابن زيد)، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: دَعَوْنَاهُمْ {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} أَيْ بَصَّرْنَاهُمْ وَبَيَّنَّا لَهُمْ ووضَّحنا لَهُمُ الْحَقَّ على لسان نبيّهم صالح عليه الصلاة والسلام، فخالفوه وكذبوه وعقروا ناقة الله تعالى الَّتِي جَعَلَهَا آيَةً وَعَلَامَةً عَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِمْ، {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} أَيْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَرَجْفَةً، وَذُلًّا وَهَوَانًا، وَعَذَابًا وَنَكَالًا {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أَيْ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْجُحُودِ، {وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ} أَيْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ لَمْ يَمَسَّهُمْ سُوءٌ، وَلَا نَالَهُمْ مِنْ ذَلِكَ ضَرَرٌ، بَلْ نَجَّاهُمُ الله تعالى مع نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام بِإِيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ.

- 19 - وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يوزعون - 20 - حتى إذا ما جاؤوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ - 21 - وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ - 22 - وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ - 23 - وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ - 24 - فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} أَيِ اذْكُرْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ يَحْشُرُونَ

إِلَى النَّارِ {يُوزَعُونَ} أَيْ تَجْمَعُ الزَّبَانِيَةُ أَوَّلَهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} أَيْ عِطَاشًا وقوله عزَّ وجلَّ: {حتى إذا ما جاؤوها} أَيْ وَقَفُوا عَلَيْهَا {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أَيْ بِأَعْمَالِهِمْ مِمَّا قَدَّمُوهُ وَأَخَّرُوهُ لَا يُكْتَمُ مِنْهُ حَرْفٌ، {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} أَيْ لَامُوا أَعْضَاءَهُمْ وَجُلُودَهُمْ حِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَجَابَتْهُمُ الْأَعْضَاءُ {قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، أَيْ فَهُوَ لا يخالف ولا يمانع وإليه ترجعون، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يوم وتبسم، فقال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا تَسْأَلُونِي عَنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتُ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "عَجِبْتُ مِنْ مُجَادَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: أي ربي أليس وعدتني أن لا تظلمني، قال: بلى، فيقول: فإنني لَا أَقْبَلُ عليَّ شَاهِدًا إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَوَ لَيْسَ كَفَى بي شهيداً والملائكة الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ - قَالَ - فَيُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ مِرَارًا - فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَتَتَكَلَّمُ أَرْكَانُهُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ، فَيَقُولُ: بُعْدًا لكُنَّ وَسُحْقًا، عَنْكُنَّ كُنْتُ أجادل" (أخرجه الحافظ البزار، ورواه مسلم والنسائي بنحوه)، وقال أبو موسى: "يدعى الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ لِلْحِسَابِ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَبُّهُ عزَّ وجلَّ عَمَلَهُ، فَيَجْحَدُ، وَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ وَعَزَّتِكَ لَقَدْ كَتَبَ عليَّ هَذَا الْمَلَكُ مَا لَمْ أَعْمَلْ، فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ: أَمَا عَمِلْتَ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا فِي مَكَانِ كَذَا؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، أَيْ رَبِّ مَا عَمِلْتُهُ، قَالَ: فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ خُتِمَ عَلَى فِيهِ، قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فَإِنِّي لَأَحْسَبُ أَوَّلَ مَا يَنْطِقُ مِنْهُ فخذه اليمنى" (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري)، وروى الحافظ أبو يعلى، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عُرِفَ الْكَافِرُ بِعَمَلِهِ فجحد وخاصم، فيقول: هَؤُلَاءِ جِيرَانُكَ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ، فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيَقُولُ: أَهْلُكَ وَعَشِيرَتُكَ، فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيَقُولُ: احْلِفُوا، فَيَحْلِفُونَ، ثُمَّ يُصْمِتُهُمُ الله تعالى، وتشهد عليهم ألسنتهم ويدخلهم النار" (أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْهُ حِينٌ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يَعْتَذِرُونَ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ، حتى يُؤْذَنُ لَهُمْ، فَيَخْتَصِمُونَ، فَيَجْحَدُ الْجَاحِدُ بِشِرْكِهِ بِاللَّهِ تعالى، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ فَيَبْعَثُ اللَّهُ تعالى عَلَيْهِمْ حِينَ يَجْحَدُونَ شُهَدَاءَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، جُلُودَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُمُ الْأَفْوَاهَ، فَتُخَاصِمُ الْجَوَارِحَ، فَتَقُولُ: {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فَتُقِرُّ الْأَلْسِنَةُ بَعْدَ الجحود (رواه ابن أبي حاتم). وقوله تَعَالَى: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ} أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الْأَعْضَاءُ وَالْجُلُودُ حِينَ يَلُومُونَهَا عَلَى الشَّهَادَةِ عليهم: مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ مِنَّا الَّذِي كُنْتُمْ تَفْعَلُونَهُ، بَلْ كُنْتُمْ تُجَاهِرُونَ اللَّهَ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَلَا تُبَالُونَ مِنْهُ فِي زَعْمِكُمْ لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَعْلَمُ جميع أفعالكم، ولهذا قال تعالى: {وَلَكِنْ ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} أَيْ هَذَا الظَّنُّ الْفَاسِدُ وَهُوَ اعْتِقَادُكُمْ أن الله تعالى لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ، هُوَ الَّذِي أَتْلَفَكُمْ وَأَرْدَاكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أَيْ فِي مَوَاقِفِ

القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم، روى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مُسْتَتِرًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قُرَشِيٌّ وَخَتَنَاهُ ثَقَفِيَّانِ - أَوْ ثَقَفِيٌّ وَخَتَنَاهُ قُرَشِيَّانِ - كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَتَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ لَمْ أَسْمَعْهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ كَلَامَنَا هَذَا؟ فَقَالَ الْآخَرُ: إِنَّا إِذَا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا سَمِعَهُ وَإِذَا لَمْ نَرْفَعْهُ لَمْ يَسْمَعْهُ، فَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا سَمِعَهُ كُلَّهُ، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ - إِلَى قَوْلِهِ - مِّنَ الخاسرين} (أخرجه أحمد ورواه مسلم والترمذي عن عبد الله بن مسعود بنحوه). وروى الإمام أحمد، عن جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَمُوتَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ، فَإِنَّ قَوْمًا قَدْ أَرْدَاهُمْ سُوءُ ظَنِّهِمْ بِاللَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فأصبحتم من الخاسرين} " (أخرجه الإمام أحمد في المسند)، وقوله تعالى: {فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} أَيْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ صبروا أَمْ لَمْ يَصْبِرُوا، هُمْ فِي النَّارِ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا، وَلَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا، وَإِنْ طَلَبُوا أَنْ يَسْتَعْتِبُوا وَيُبْدُوا أَعْذَارًا فَمَا لَهُمْ أَعْذَارٌ، وَلَا تُقَالُ لَهُمْ عَثَرَاتٌ، قَالَ ابن جرير: ومعنى قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُواْ} أَيْ يَسْأَلُوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا فَلَا جَوَابَ لَهُمْ، قَالَ: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ: {قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ * رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تكلمون}.

- 25 - وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ - 26 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ - 27 - فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ - 28 - ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ - 29 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَضَلَّ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَكَوْنِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ بِمَا قَيَّضَ لَهُمْ مِنَ الْقُرَنَاءِ مِنْ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أَيْ حَسَّنُوا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَلَمْ يَرَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا مُحْسِنِينَ، كَمَا قَالَ تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}، وقوله: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أَيْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ كَمَا حق على أمم خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ، مِمَّنْ فَعَلَ كَفِعْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، {إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ} أَيِ اسْتَوَوْا هُمْ وَإِيَّاهُمْ فِي الْخَسَارِ وَالدَّمَارِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ} أي تواصوا فيما بينهم أن لا يطيعوا القرآن وَلَا يَنْقَادُوا لِأَوَامِرِهِ، {وَالْغَوْا فِيهِ} أَيْ إِذَا تُلِيَ لَا تَسْمَعُوا لَهُ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ {وَالْغَوْا فِيهِ} يَعْنِي بِالْمُكَاءِ وَالصَّفِيرِ وَالتَّخْلِيطِ فِي الْمَنْطِقِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إذا قرأ القرآن وكانت قُرَيْشٌ تَفْعَلُهُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالْغَوْا فِيهِ} عِيبُوهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: اجْحَدُوا بِهِ وأنكروه وعادوه،

{لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} هَذَا حَالُ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةِ مِنَ الْكُفَّارِ وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بخلاف ذلك، فقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، ثم قال عزَّ وجلَّ: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً} أَيْ فِي مقابلة ما اعتقدوه فِي الْقُرْآنِ وَعِنْدَ سَمَاعِهِ، {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي بشر أعمالهم وسيء أَفْعَالِهِمْ، {ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ * وَقَالَ الذين كَفَرُواْ ربنا أرنا اللذين أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين}. عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {اللذين أَضَلاَّنَا} قَالَ: إِبْلِيسُ وَابْنُ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ آخاه، فإبليس الدَّاعِي إِلَى كُلِّ شَرٍّ مِنْ شِرْكٍ فَمَا دُونَهُ، وَابْنُ آدَمَ الْأَوَّلُ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سن القتل» (أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي)، وقولهم: {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} أَيْ أَسْفَلَ مِنَّا فِي الْعَذَابِ لِيَكُونَا أَشَدَّ عَذَابًا مِنَّا، وَلِهَذَا قَالُوا {لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} أَيْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ من النار، كما تقدم في الأعراف في سؤال الأتباع من الله تعالى أَنْ يُعَذِّبَ قَادَتَهُمْ أَضْعَافَ عَذَابِهِمْ {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لاَّ تَعْلَمُونَ} أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلًّا مِنْهُمْ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ بِحَسَبِ عَمَلِهِ وإفساده، كما قال تعالى: {اللذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ}.

- 30 - إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ - 31 - نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ - 32 - نُزُلاً مِّنْ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أَيْ أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ، وَعَمِلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ، قَالَ الْحَافِظُ أبو يعلى الموصلي، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قَدْ قَالَهَا نَاسٌ ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ، فَمَنْ قَالَهَا حَتَّى يَمُوتَ فقد استقام عليها" (أخرجه ابن جرير عن سعيد ابن عمران)، وعن سعيد بن عمران قال: " قرأت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُشْرِكُوا بالله شيئاً" (أخرجه النسائي والبزار وابن جرير). وقال عكرمة: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَيُّ آية في كتاب الله تبارك وتعالى أرخص؟ قال، قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} عليَّ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ الزهري: تلا عمر رضي الله عنه هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ: اسْتَقَامُوا وَاللَّهِ لِلَّهِ بِطَاعَتِهِ وَلَمْ يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثَّعَالِبِ. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: {ثُمَّ استقاموا} على أداء فرائضه، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّنَا فَارْزُقْنَا الِاسْتِقَامَةَ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أَخْلَصُوا له الدين والعمل، وعن سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قال صلى الله عليه وسلم: «قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطرف لسان نفسه، ثم قال: «هذا» (أخرجه أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صحيح)، وفي

رواية: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قال صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله ثم استقم» (أخرجه مسلم والنسائي). وقوله تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة} قال مجاهد والسدي: يعني عند الموت قائلين: {أَلاَّ تَخَافُواْ} أَيْ مِمَّا تُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ {وَلاَ تَحْزَنُواْ} عَلَى مَا خَلَّفْتُمُوهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا مِنْ وَلَدٍ وَأَهْلٍ وَمَالٍ أَوْ دَيْنٍ، فَإِنَّا نَخْلُفُكُمْ فِيهِ، {وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} فَيُبَشِّرُونَهُمْ بذهاب الشر وحصول الخير، وهذا كما جاء في حديث البراء رضي الله عنه قال: "أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ لِرُوحِ الْمُؤْمِنِ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرنيه، اخْرُجِي إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ"، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ (حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عباس والسدي)، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: يُبَشِّرُونَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وفي قبره وحين يبعث، وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا وَهُوَ حَسَنٌ جداً، وقوله تبارك وتعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} أَيْ تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ: نَحْنُ كُنَّا أَوْلِيَاءَكُمْ، أَيْ قُرَنَاءَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، نُسَدِّدُكُمْ وَنُوَفِّقُكُمْ وَنَحْفَظُكُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ نَكُونُ مَعَكُمْ فِي الْآخِرَةِ نُؤْنِسُ مِنْكُمُ الْوَحْشَةَ فِي الْقُبُورِ، وَعِنْدَ النَّفْخَةِ فِي الصُّورِ، وَنُؤَمِّنُكُمْ يَوْمَ البعث والنشور، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسَكُمْ} أَيْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ جَمِيعِ مَا تَخْتَارُونَ مِمَّا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ وَتَقَرُّ بِهِ الْعُيُونُ {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} أَيْ مَهْمَا طَلَبْتُمْ وَجَدْتُمْ وَحَضَرَ بَيْنَ أيديكم كَمَا اخْتَرْتُمْ {نُزُلاً مِّنْ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أَيْ ضيافة وعطاء {مِّنْ غَفُورٍ} لذنوبكم {رَّحِيمٍ} بكم حيث غفر وستر، ورحم ولطف، وفي الحديث: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: كُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ، قال صلى الله عليه وسلم: "ليس ذلك كراهية المرت، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حُضِرَ جَاءَهُ الْبَشِيرُ مِنَ الله تعالى بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَقِيَ اللَّهَ تعالى، فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، قَالَ: وَإِنَّ الْفَاجِرَ، أَوِ الْكَافِرَ، إِذَا حُضِرَ جَاءَهُ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ أَوْ مَا يَلْقَى مِنَ الشَّرِّ، فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ فَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ" (أخرجه الإمام أحمد عن أنَس رضي الله عنه).

- 33 - وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ - 34 - وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ - 35 - وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ - 36 - وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم يقول عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ} أَيْ دَعَا عِبَادَ اللَّهِ إِلَيْهِ {وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أَيْ وَهُوَ فِي نفسه مهتد فنفعه لنفسه ولغيره، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يأتونه، بل يأتمر

بالخير ويترك الشر، وَهَذِهِ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ دَعَا إِلَى خير، وهو في نفسه مهتد، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْمُؤَذِّنُونَ الصُّلَحَاءُ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يوم القيامة»، وقال عمر رضي الله عنه: لَوْ كُنْتُ مُؤَذِّنًا لَكَمُلَ أَمْرِي، وَمَا بَالَيْتُ أن لا أَنْتَصِبَ لِقِيَامِ اللَّيْلِ وَلَا لِصِيَامِ النَّهَارِ، سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ» ثَلَاثًا، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَرَكْتَنَا وَنَحْنُ نَجْتَلِدُ عَلَى الْأَذَانِ بالسيوف، قال صلى الله عليه وسلم: «كلا يا عمر، إنه سيأتي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتْرُكُونَ الْأَذَانَ عَلَى ضُعَفَائِهِمْ، وتلك لحوم حرمها الله عزَّ وجلَّ على النار لحوم المؤذنين» (أخرجه ابن أبي حاتم). وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قَالَتْ: فَهُوَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فَقَدْ دَعَا إِلَى اللَّهِ، وَهَكَذَا قَالَ ابن عمر رضي الله عنهما وعكرمة: إنها نزلت في المؤذنين، والصَّحيح أن الآية عامة في المؤذنين وغيرهم، فَأَمَّا حَالُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْأَذَانُ مَشْرُوعًا بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَالْأَذَانُ إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة، وقوله تعالى: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ} أَيْ فَرْقٌ عظيم بين هذه وبين هذه، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أَيْ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ فَادْفَعْهُ عَنْكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا عَاقَبْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فيه. وقوله عزَّ وجلَّ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} وَهُوَ الصَّدِيقُ أَيْ إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى من أساء إليك قادته الْحَسَنَةُ إِلَيْهِ إِلَى مُصَافَاتِكَ وَمَحَبَّتِكَ وَالْحُنُوِّ عَلَيْكَ حتى يصير {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أَيْ قَرِيبٌ إِلَيْكَ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَيْكَ والإحسان إليك، ثم قال عزَّ وجلَّ: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ} أَيْ وَمَا يَقْبَلُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ وَيَعْمَلُ بِهَا إِلَّا مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ، {وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أَيْ ذُو نَصِيبٍ وَافِرٍ مِنَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا والآخرة، قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ، وَالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وقوله تعالى: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أَيْ إِنَّ شَيْطَانَ الْإِنْسِ رُبَّمَا يَنْخَدِعُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَأَمَّا شَيْطَانُ الْجِنِّ فَإِنَّهُ لَا حِيلَةَ فِيهِ إِذَا وَسْوَسَ، إِلَّا الِاسْتِعَاذَةَ بِخَالِقِهِ الَّذِي سلطه عليك، فإذا استعذت بالله والْتَجَأْت إِلَيْهِ كَفَّهُ عَنْكَ ورَدّ كَيْدَهُ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ ونفثه» (رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن).

- 37 - وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ - 38 - فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ - 39 - وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا على قدرته العظيمة، وأنه لَا نَظِيرَ لَهُ وَأَنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ

وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أَيْ أَنَّهُ خَلَقَ اللَّيْلَ بظلامه، والنهار بضيائه، وهما متعاقبان لا يفتران، والشمس ونورها وإشراقها والقمر وضياءه وتقديره مَنَازِلِهِ فِي فَلَكِهِ، وَاخْتِلَافَ سَيْرِهِ فِي سَمَائِهِ، لِيُعْرَفَ بِاخْتِلَافِ سَيْرِهِ وَسَيْرِ الشَّمْسِ مَقَادِيرُ اللَّيْلِ والنهار، والشهور والأعوام، ويتبين بذلك حلول أوقات الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أَحْسَنَ الْأَجْرَامِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُمَا مَخْلُوقَانِ عَبْدَانِ مِنْ عبيده، تحت قهره وتسخيره فقال: {لاتسجدوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أَيْ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ فَمَا تَنْفَعُكُمْ عِبَادَتُكُمْ لَهُ مَعَ عِبَادَتِكُمْ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، ولهذا قال تعالى: {فَإِنِ استكبروا} أي عن إفراده الْعِبَادَةِ لَهُ وَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يُشْرِكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ، {فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} كَقَوْلِهِ عزَّ وجلَّ: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين}. وروى الحافظ أبو يعلى، عن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا اللَّيْلَ وَلَا النَّهَارَ وَلَا الشَّمْسَ وَلَا الْقَمَرَ وَلَا الرِّيَاحَ فَإِنَّهَا تُرْسَلُ رَحْمَةً لِقَوْمٍ وَعَذَابًا لِقَوْمٍ» وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ} أَيْ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ الْمَوْتَى {أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} أَيْ هَامِدَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا بَلْ هِيَ مَيْتَةٌ، {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أَيْ أخرجت من جميع أَلْوَانِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

- 40 - إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ - 41 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ - 42 - لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ - 43 - مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِلْحَادُ وَضْعُ الْكَلَامِ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهِ، وقال قتادة: هو الكفر والعناد، وقوله عزَّ وجلَّ: {لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ} فِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَنْ يُلْحِدُ فِي آيَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَسَيَجْزِيهِ عَلَى ذَلِكَ بِالْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ، وَلِهَذَا قال تَعَالَى: {أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؟ أَيْ أَيَسْتَوِي هَذَا وَهَذَا؟ لَا يَسْتَوِيَانِ، ثُمَّ قَالَ عزَّ وجلَّ تَهْدِيدًا لِلْكَفَرَةِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}، قَالَ مجاهد {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} وَعِيدٌ أَيْ مِنْ خَيْرٍ أو شر إنه عالم بِكُمْ وَبَصِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، ثم قال جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ} قَالَ الضحاك هو الْقُرْآنُ، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} أَيْ مَنِيعُ الْجَنَابِ لَا يُرَامُ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدٌ بِمِثْلِهِ، {لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} أَيْ لَيْسَ لِلْبُطْلَانِ إِلَيْهِ سَبِيلٌ، لِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ، وَلِهَذَا قَالَ: {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} أَيْ حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، حَمِيدٌ بِمَعْنَى مَحْمُودٍ أَيْ فِي جَمِيعِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، ثم قال عزَّ وجلَّ: {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ}، قال قتادة والسدي: مَّا يُقَالُ لَكَ مِنَ التَّكْذِيبِ إِلَّا كَمَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ من قبلك فكما كذبت كُذِّبُوا، وَكَمَا صَبَرُوا عَلَى أَذَى قَوْمِهِمْ لَهُمْ فَاصْبِرْ أَنْتَ عَلَى أَذَى قَوْمِكَ لَكَ، وَهَذَا اختيار ابن جرير، وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} أَيْ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ، {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ لِمَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ

وطغيانه، وعناده وشقاقه ومخالفته. قال سعيد بن المسيب: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا عَفْوُ اللَّهِ وَتَجَاوُزُهُ مَا هَنَّأَ أَحَدًا الْعَيْشَ، وَلَوْلَا وَعِيدُهُ وَعِقَابُهُ لَاتَّكَلَ كُلُّ أَحَدٍ» (أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب مرفوعاً).

- 44 - وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ - 45 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ لَمَّا ذكر تعالى القرآن وفصاحته وبلاغته وَمَعَ هَذَا لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ بِهِ كُفْرُ عِنَادٍ وَتَعَنُّتٍ، كما قال عزَّ وجلَّ: {ولو أنزلناه عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم، مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} الآيات، وَكَذَلِكَ لَوْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ لَقَالُوا عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ {لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} أَيْ لَقَالُوا هلاَّ أُنْزِلَ مفصلاً بلغة العرب ولأنكروا ذلك، فقالوا {أأعجمي وَعَرَبِيٌّ} أَيْ كَيْفَ يَنْزِلُ كَلَامٌ أَعْجَمِيٌّ عَلَى مخاطب عربي لا يفهمه؟ (رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وعكرمة وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ) وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ {لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أعجمي وَعَرَبِيٌّ} أي هل أُنْزِلَ بَعْضُهَا بِالْأَعْجَمِيِّ وَبَعْضُهَا بِالْعَرَبِيِّ؟ هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَكَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ بِلَا اسْتِفْهَامٍ في قوله أعجمي، وهو في التعنت والعناد أبلغ، ثم قال عزَّ وجلَّ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ} أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ: هَذَا الْقُرْآنُ لِمَنْ آمَنَ به هدى لقلبه، وشفاء، شفاء لِّمَا فِي الصدور من الشكوك والريب، ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} أَيْ لَا يَفْهَمُونَ مَا فِيهِ، {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} أَيْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ البيان كما قال سُبْحَانَهُ وتعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خساراً}، {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يعني بعيد مِنْ قُلُوبِهِمْ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ كَأَنَّ مَنْ يُخَاطِبُهُمْ يُنَادِيهِمْ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ لَا يَفْهَمُونَ مَا يَقُولُ، قُلْتُ: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُنَادَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَشْنَعِ أَسْمَائِهِمْ، وقوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} أَيْ كذب وأوذي، {ولولا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} بِتَأْخِيرِ الْحِسَابِ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أَيْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ، بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلًا، {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} أَيْ وَمَا كَانَ تَكْذِيبُهُمْ لَهُ عَنْ بَصِيرَةٍ مِنْهُمْ لِمَا قَالُوا، بَلْ كانوا شاكين فيما قالوه غَيْرَ مُحَقِّقِينَ لِشَيْءٍ كَانُوا فِيهِ، هَكَذَا وَجَّهَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

- 46 - مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ - 47 - إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ - 48 - وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ من محيص

يَقُولُ تَعَالَى: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} أَيْ إِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، {وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} أَيْ إِنَّمَا يَرْجِعُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أَيْ لَا يعاقب أحداً إلا بذنبه، وَلَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وإرسال الرسول إليه، ثم قال جلَّ وعلا: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} أَيْ لَا يَعْلَمُ ذلك أحد سواه، كما قال سيد البشر لجبريل عليه السلام حين سأله عن الساعة، فقال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل»، وكما قال عزَّ وجلَّ: {إلى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ}، وقال جلَّ جلاله: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إلا هو}، وقوله تبارك وتعالى: {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} أَيِ الْجَمِيعُ بِعِلْمِهِ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، كقوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا}، وقال تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، وقوله جلَّ وعلا: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ينادي الله المشركين على رؤوس الْخَلَائِقِ، أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ مَعِي؟ {قَالُوا آذَنَّاكَ} أَيْ أَعْلَمْنَاكَ، {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} أي ليس أحد منا يشهد اليوم أَنَّ مَعَكَ شَرِيكًا، {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ} أَيْ ذَهَبُوا فَلَمْ يَنْفَعُوهُمْ، {وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} أي وأيقن المشركون يَوْمَ القيامة {مَا لَهُمْ مِن مَّحِيصٍ} أَيْ لَا مَحِيدَ لهم من عَذَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا}.

- 49 - لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشر فيؤوس قَنُوطٌ - 50 - وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ - 51 - وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ يَقُولُ تَعَالَى: لَا يمل الإنسان من دعاء رَبَّهُ بِالْخَيْرِ وَهُوَ الْمَالُ وَصِحَّةُ الْجِسْمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ {وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ} وَهُوَ الْبَلَاءُ أَوِ الفقر {فيؤوس قَنُوطٌ} أَيْ يَقَعُ فِي ذِهْنِهِ أَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ بَعْدَ هَذَا خَيْرٌ، {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} أَيْ إِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ وَرِزْقٌ بَعْدَ مَا كَانَ فِي شِدَّةٍ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي إِنِّي كُنْتُ أَسْتَحِقُّهُ عِنْدَ رَبِّي {وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً} أَيْ يَكْفُرُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، أي لأجل أنه خوّل نعمة يبطر ويفخر وَيَكْفُرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}، {وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى} أَيْ وَلَئِنْ كَانَ ثَمَّ مَعَادٌ فَلَيُحْسِنَنَّ إليَّ رَبِّي كَمَا أَحْسَنَ إليَّ فِي هَذِهِ الدَّارِ، يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ مَعَ إساءته العمل وعدم اليقين، قال الله تبارك وتعالى: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} يتهدد تعالى من كان هذاعمله واعتقاده بالعقاب والنكال، ثم قال تعالى: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أَيْ أَعْرَضَ عَنِ الطَّاعَةِ وَاسْتَكْبَرَ عَنِ الِانْقِيَادِ لأوامر الله عزَّ وجلَّ، كقوله جلَّ جلاله: {فتولى بركنه}، {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} أَيِ الشِّدَّةُ {فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} أَيْ يُطِيلُ الْمَسْأَلَةَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَالْكَلَامُ الْعَرِيضُ مَا طَالَ لَفْظُهُ وَقَلَّ مَعْنَاهُ، والوجيز عكسه وهو ما قال وَدَلَّ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} الآية.

- 52 - قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ - 53 - سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ - 54 - أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ {أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ} هَذَا الْقُرْآنُ {مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} أَيْ كَيْفَ تَرَوْنَ حَالَكُمْ عِنْدَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ؟ ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}؟ أَيْ فِي كُفْرٍ وَعِنَادٍ وَمُشَاقَّةٍ لِلْحَقِّ وَمَسْلَكٍ بعيد من الهدى، ثم قال جلَّ جلاله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} أَيْ سنظهر لهم دلالالتنا وَحُجَجَنَا عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ حَقًّا مُنَزَّلًا مِنْ عند اللَّهُ، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بِدَلَائِلَ خَارِجِيَّةٍ {فِي الْآفَاقِ} مِنَ الْفُتُوحَاتِ وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْأَقَالِيمِ وَسَائِرِ الْأَدْيَانِ. قَالَ مُجَاهِدٌ والحسن والسدي: {وفي أَنفُسِهِمْ} قَالُوا: وَقْعَةُ بَدْرٍ وَفَتْحُ مَكَّةَ وَنَحْوُ ذلك، من الوقائع التي نصر الله فيها محمداً صلى الله عليه وسلم وَصَحْبَهُ، وَخَذَلَ فِيهَا الْبَاطِلَ وَحِزْبَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون المراد ما الإنسان مركب منه، مِنَ الْمَوَادِّ وَالْأَخْلَاطِ وَالْهَيْئَاتِ الْعَجِيبَةِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي عِلْمِ التَّشْرِيحِ، الدَّالِّ عَلَى حِكْمَةِ الصانع تبارك وتعالى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}؟ أَيْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً عَلَى أَفْعَالِ عباده وأقوالهم، وهو يشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} الآية، وقوله تعالى: {إِلاَّ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ} أَيْ فِي شَكٍّ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَلِهَذَا لا يتفركون فيه ولا يعملون له وهو كائن لا محالة وواقع لا ريب فيه، ثم قال تعالى مقرراً إِنَّهُ على كُلِّ شيء قدير {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} أَيِ الْمَخْلُوقَاتُ كلها تحت قهره وفي قبضته، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا كُلِّهَا بِحُكْمِهِ فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.

42 - سورة الشورى

- 42 - سورة الشورى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - حم - 2 - عسق - 3 - كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ العزيز الحكيم - 4 - لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ العلي العظيم - 5 - تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - 6 - وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، وقوله عزَّ وجلَّ: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أَيْ كَمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ هذا القرآن كذلك أنزل على الأنبياء قبلك، وقوله تعالى: {آللَّهُ الْعَزِيزُ} أَيْ فِي انْتِقَامِهِ، {الْحَكِيمُ} فِي أقواله وأفعاله، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أَنَّ (الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ) سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي وقد وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَأْتِينِي المَلك رَجُلًا، فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ». قَالَتْ عائشة رضي الله عنها: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جبينه صلى الله عليه وسلم ليتفصد عرقاً" (أخرجاه في الصحيحين واللفظ للبخاري. ومعنى يتفصد: أي يتصبب عرقاً). وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ تُحِسُّ بِالْوَحْيِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْمَعُ صَلَاصِلَ، ثُمَّ أَسْكُتُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَمَا مِنْ مَرَّةٍ يُوحَى إليَّ إِلَّا ظَنَنْتُ أن نفسي تقبض» (أخرجه الإمام أحمد). وقوله تبارك وتعالى: {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أَيِ الْجَمِيعُ عَبِيدٌ لَهُ وَمِلْكٌ لَهُ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَصْرِيفِهِ {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الكبير المتعال}، {وهو العلي الكبير}، والآيات في هذا كثيرة. وقوله عزَّ وجلَّ: {تَكَادُ السماوات والأرض يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} قال ابن عباس والسدي: أَيْ فَرَقاً مِنَ الْعَظَمَةِ، {وَالْمَلَائِكَةُ يسبِّحون بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} كقوله عزَّ وجلَّ: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ ربهم

وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً}، وقوله جلَّ جلاله: {أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} إِعْلَامٌ بذلك وتنويه به، وقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أَيْ شَهِيدٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ يُحْصِيهَا وَيَعُدُّهَا عَدًّا، وَسَيَجْزِيهِمْ بِهَا أَوْفَرَ الْجَزَاءِ، {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أَيْ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.

- 7 - وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ - 8 - وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ {أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً} أَيْ وَاضِحًا جَلِيًّا بيِّناً {لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} وَهِيَ مَكَّةُ، {وَمَنْ حَوْلَهَا} أَيْ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ شَرْقًا وَغَرْبًا؛ وَسُمِّيَتْ مَكَّةُ (أُمَّ الْقُرَى) لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ البلاد لأدله كثيرة منها قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ ما خرجت» (أخرجه أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صحيح). وقوله عزَّ وجلَّ: {وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي لاشك في وقوعه وأنه كائن لا محالة، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}، كَقَوْلِهِ تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} أَيْ يَغْبِنُ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ، وَكَقَوْلِهِ عزَّ وجلَّ: {يوم يأتي لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وسعيد}. روى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي يديه كتابان، فقال: «أتدرون ما هذان الكتابان؟» قُلْنَا: لَا، إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا يَا رَسُولَ الله، قال صلى الله عليه وسلم للذي في يمينه: "هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِأَسْمَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ لَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أبداً، ثم قال صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي فِي يَسَارِهِ: «هَذَا كِتَابُ أَهْلِ النَّارِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ»، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ لَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: فلأي شيء نعمل إِن كَانَ هذا أمر قد فرغ منه؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بعمل أهل الْجَنَّةِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النار يختم له بعمل أهل النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ»، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ فَقَبَضَهَا، ثُمَّ قَالَ: "فَرَغَ رَبُّكُمْ عزَّ وجلَّ مِنَ الْعِبَادِ، ثُمَّ قَالَ بِالْيُمْنَى فَنَبَذَ بِهَا فَقَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَنَبَذَ بِالْيُسْرَى وقال فريق في السعير" (أخرجه أحمد والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب). وقوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أَيْ إِمَّا عَلَى الْهِدَايَةِ أَوْ عَلَى الضَّلَالَةِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى فَاوَتَ بَيْنَهُمْ، فَهَدَى مَنْ يَشَاءُ إِلَى الْحَقِّ، وَأَضَلَّ مَنْ يَشَاءُ عَنْهُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ والحجة البالغة، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} وَقَالَ ابن جرير: أن موسى عليه الصلاة

والسلام قَالَ: يَا رَبِّ خَلْقُكَ الَّذِينَ خَلَقْتَهُمْ، جَعَلْتَ مِنْهُمْ فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقًا فِي النَّارِ، لَوْ مَا أَدْخَلْتَهُمْ كُلَّهُمُ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: يَا موسى أرفع درعك، فَرَفَعَ، قَالَ: قَدْ رَفَعْتُ، قَالَ: ارْفَعْ، فَرَفَعَ، فَلَمْ يُتْرَكْ شَيْئًا، قَالَ يَا رَبِّ قَدْ رَفَعْتُ، قَالَ: ارْفَعْ، قَالَ: قَدْ رَفَعْتُ، إِلَّا مَا لَا خَيْرَ فِيهِ، قَالَ: كَذَلِكَ أُدْخِلُ خَلْقِي كُلَّهُمُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَا لَا خَيْرَ فيه (أخرجه ابن جرير من حديث عمرو بن أبي سويد).

- 9 - أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 10 - وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أنيب - 11 - فاطر السماوات وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير - 12 - له مقاليد السماوات وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، ومخبراً أنه الْوَلِيُّ الْحَقُّ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وحده، فإنه هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ثُمَّ قَالَ عزَّ وجلَّ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أَيْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أَيْ هُوَ الْحَاكِمُ فِيهِ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ نبيّه صلى الله عليه وسلم، كقوله جلَّ وعلا: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرسول}، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} أَيِ الْحَاكِمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أَيْ أَرْجِعُ في جميع الأمور. وقوله جلَّ جلاله: {فَاطِرُ السماوات وَالْأَرْضِ} أَيْ خَالِقُهُمَا وَمَا بَيْنَهُمَا {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} أَيْ مِنْ جِنْسِكُمْ وَشَكْلِكُمْ، منَّة عليكم وتفضيلاً، جَعَلَ مِنْ جِنْسِكُمْ ذَكَرًا وأُنثى، {وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْواجاً} أَيْ وَخَلَقَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أزواج، وقوله تبارك وتعالى {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أي يخلقكم فيه عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، لَا يَزَالُ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ذكوراً وإناثاً خلقاً بعد خلق، وجيلاً بعد جيل، وقال البغوي {يَذْرَؤُكُمْ} أي في الرحم، وَقِيلَ: فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْخِلْقَةِ، قَالَ مجاهد: نسلاً بَعْدَ نَسْلٍ مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ، وَقِيلَ: «فِي» بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ يَذْرَؤُكُمْ بِهِ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أَيْ لَيْسَ كَخَالِقِ الْأَزْوَاجِ كُلِّهَا شَيْءٌ، لِأَنَّهُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ {وَهُوَ السميع البصير}، وقوله تعالى: {لَّهُ مقاليد السماوات وَالْأَرْضِ} تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ، وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ الْحَاكِمُ فِيهِمَا، {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} أَيْ يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ وَالْعَدْلُ التَّامُّ، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.

- 13 - شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ - 14 - وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ

مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ يَقُولُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ}، فَذَكَرَ أَوَّلَ الرُّسُلِ بَعْدَ آدَمَ وَهُوَ (نُوحٌ) عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَآخِرَهُمْ وَهُوَ مُحَمَّدٌ (صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم)، ثم ذكر ما بين ذلك من أولي العزم، وهو: إبراهيم وموسى وعيسى بن مريم، وَهَذِهِ الْآيَةُ انْتَظَمَتْ ذِكْرَ الْخَمْسَةِ، كَمَا اشْتَمَلَتْ آية الآحزاب عليهم في قوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى بن مريم} الآية. وَالدِّينُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ، هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قال عزَّ وجلَّ: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون}، وَفِي الْحَدِيثِ: «نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ، دِينُنَا وَاحِدٌ» أَيِ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمْ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنْ اختلفت شرائعهم ومناهجهم، كقوله جلَّ جلاله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شرعة ومنهاجاً}، ولهذا قال تعالى ههنا: {أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} أَيْ أوصى الله تَعَالَى جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِالِائْتِلَافِ وَالْجَمَاعَةِ، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف. وقوله عزَّ وجلَّ: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} أَيْ شَقَّ عَلَيْهِمْ، وَأَنْكَرُوا مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يَا محمد من التوحيد، ثم قال جلَّ جلاله: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} أَيْ هُوَ الَّذِي يُقَدِّرُ الْهِدَايَةَ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَيَكْتُبُ الضَّلَالَةَ عَلَى مَنْ آثَرَهَا على طريق الرشد، ولهذا قال تعالى: {وما اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} أَيْ إِنَّمَا كَانَ مُخَالَفَتُهُمْ لِلْحَقِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَيْهِمْ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذلك إلا البغي والعناد، ثم قال عزَّ وجلَّ: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مسمى} أي لولا الكلمة السالفة من الله تعالى بإنظار العباد إلى يوم المعاد، لعجّل عليهم العقوبة في الدنيا سريعاً، وقوله جلَّت عظمته: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ} يَعْنِي الجيل المتأخر بعد القرن الْمُكَذِّبِ لِلْحَقِّ {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} أَيْ ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم، وَإِنَّمَا هُمْ مُقَلِّدُونَ لِآبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَهُمْ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَشَكٍّ مُرِيبٍ وَشِقَاقٍ بَعِيدٍ.

- 15 - فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى عَشْرِ كَلِمَاتٍ مُسْتَقِلَّاتٍ، كل منها منفصلة عن التي قبلها، حكم برأسها، قَالُوا: وَلَا نَظِيرَ لَهَا سِوَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ، فإنها أيضاً عشرة فصول كهذه، وقوله {فَلِذَلِكَ فَادْعُ} أَيْ فَلِلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الدِّينِ الَّذِي وَصَّيْنَا بِهِ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَكَ، أصحاب الشرائع المتبعة، فادع الناس إليه، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ} أَيْ وَاسْتَقِمْ أَنْتَ وَمَنِ اتبعك على عبادة الله تعالى، كما أمركم الله عزَّ وجلَّ. وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ فِيمَا اخْتَلَقُوهُ فيه وكذبوه وافتروا من عبادة الأوثان، وقوله

جلَّ وعلا: {وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ} أَيْ صَدَّقْتُ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنْزَلَةِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَقَوْلُهُ: {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أَيْ فِي الْحُكْمِ كما أمرني الله. وقوله جلَّت عظمته {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أَيْ هُوَ الْمَعْبُودُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ فَنَحْنُ نُقِرُّ بِذَلِكَ اخْتِيَارًا، وَأَنْتُمْ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوهُ اخْتِيَارًا فَلَهُ يَسْجُدُ مَن فِي العالمين طوعاً وإجباراً، وقوله تبارك وتعالى: {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أَيْ نَحْنُ بُرَآءُ مِنْكُمْ، قال سُبْحَانَهُ وتعالى: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}، وقوله تعالى: {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لَا خُصُومَةَ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ السَّيْفِ، وَهَذَا مُتَّجَهٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مكية وآية السيف بعد الهجرة، وقوله عزَّ وجلَّ: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق وَهُوَ الفتاح العليم}. وقوله جلَّ وعلا: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أَيِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ يَوْمَ الْحِسَابِ.

- 16 - وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ - 17 - اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ - 18 - يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فَي السَّاعَةِ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ {وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ} أَيْ يُجَادِلُونَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، لِيَصُدُّوهُمْ عَمَّا سَلَكُوهُ مِنْ طَرِيقِ الْهُدَى {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} أَيْ بَاطِلَةٌ عِنْدَ اللَّهِ {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} أَيْ مِنْهُ {وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: جَادَلُوا الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ مَا اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ليصدونهم عَنِ الْهُدَى، وَطَمِعُوا أَنْ تَعُودَ الْجَاهِلِيَّةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالُوا لَهُمْ: دِينُنَا خَيْرٌ مِنْ دِينِكُمْ، وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ وَأَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، وَقَدْ كَذَبُوا في ذلك. ثم قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} يَعْنِي الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، {وَالْمِيزَانَ} وَهُوَ العدل والإنصاف، وهذه كقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، وقوله: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تخسروا الميزان}. وقوله تعالى: {وما يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} فيه ترهيب منها، وتزهيد في الدنيا، وقوله عزَّ وجلَّ: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا} أَيْ يقولون متى هذا الوعد؟ وَإِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ تَكْذِيبًا وَاسْتِبْعَادًا وَكُفْرًا وَعِنَادًا، {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا} أَيْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنْ وُقُوعِهَا {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} أَيْ كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَهَا عَامِلُونَ مِنْ أجلها، وقد روي أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ، وَهُوَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوًا مِنْ صَوْتِهِ: «هاؤم»، فقال له: متى الساعة؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْحَكَ إِنَّهَا كَائِنَةٌ فَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» فَقَالَ: حب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: «أنت مع من أحببت» (أخرجه أصحاب السنن والمسانيد وله طرق تبلغ درجة التواتر كما قال ابن كثير)، فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «الْمَرْءُ مَعَ

من أحب» هذا متواتر، والغرض أنه لم يجبه أنه عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ بَلْ أَمَرَهُ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهَا، وقوله تعالى: {إِلاَّ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فَي السَّاعَةِ} أَيْ يجادلون فِي وُجُودِهَا، وَيَدْفَعُونَ وُقُوعَهَا {لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} أَيْ فِي جَهْلٍ بَيِّنٍ، لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ، قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى والأحرى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه}.

- 19 - اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ - 20 - مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ - 21 - أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 22 - تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يشاؤون عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ لُطْفِهِ بِخَلْقِهِ فِي رِزْقِهِ إياهم سواء منهم البر والفاجر، كقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} الآية، وقوله جلَّ وعلا: {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} أَيْ يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ {وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} أَيْ لَا يُعْجِزُهُ شيء، ثم قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ} أَيْ عَمَلَ الْآخِرَةِ {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} أَيْ نُقَوِّيهِ ونعينه على ما هو بصدده، وَنَجْزِيهِ بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ، {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} أي ومن كان سَعْيُهُ لِيَحْصُلَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَيْسَ له إلى الآخرة هم بالكلية، حرمه الله الآخرة وفاز بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة، كقوله تبارك وَتَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً}، وفي الحديث: «بشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالنَّصْرِ، وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمِنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نصيب» (رواه الثوري عن أبي العالية عن أبي كعب مرفوعاً) وقوله جلَّ وعلا: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} أَيْ هُمْ لَا يَتَّبِعُونَ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَكَ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ، بَلْ يَتَّبِعُونَ مَا شَرَعَ لَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، مِنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، وتحليل أكل الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْقِمَارِ، إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الضلالات والجهالات الباطلة، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رَأَيْتُ عَمْرَو بن لحي يجر قصبه (قصبه: أي أمعاءه) فِي النَّارِ"، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ أَحَدَ مُلُوكِ خُزَاعَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَهُوَ الَّذِي حَمَلَ قُرَيْشًا عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أَيْ لَعُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِنْظَارِ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ شَدِيدٌ مُوجِعٌ فِي جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ} أَيْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ}

أَيِ الَّذِي يَخَافُونَ مِنْهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا محالة، هذا حالهم يوم معادهم {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يشاؤون عِندَ رَبِّهِمْ} فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ أَيْنَ من هو في الذل والهوان، ممن هو في روضات الجنان، فيما يشاء من مآكل ومشارب وملاذ، مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خطر على قلب بشر؟ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} أي هُوَ الفوز العظيم والنعمة التامة، الشاملة العامة.

- 23 - ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ - 24 - أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ يَقُولُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ رَوْضَاتِ الحنات، لِعِبَادِهِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أَيْ هَذَا حَاصِلٌ لَهُمْ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، ببشارة الله تعالى لهم به، وقوله عزَّ وجلَّ: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى هذا البلاغ والنصح مالاً، وإنما أن تذروني أبلغ رسالات ربي، فَلَا تُؤْذُونِي بِمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ، روى البخاري: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَجِلْتَ إِنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ، فَقَالَ: «إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ من القرابة» (أخرجه البخاري، وبقول ابن عباس قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي). وروى الحافظ الطبراني، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي نَفْسِي لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة بيني وبينكم» (أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس). وروى الإمام أحمد، عن مجاهد، عن ابن عباس: «لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا آتَيْتُكُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ والهدى أجراً إلا أن توادوا الله تعالى، وأن تقربوا إليه بطاعته»، وَهَذَا كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ بِقَوْلٍ ثَانٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، أَيْ إِلَّا أَنْ تَعْمَلُوا بِالطَّاعَةِ الَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ زُلْفَى، وقول ثالث وهو ما حكاه البخاري عن سعيد بن جبير أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تَوَدُّونِي فِي قرابتي، أي تحسنوا إليهم وتبروهم، قال السدي: لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله عنه أَسِيرًا، فَأُقِيمَ عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ، قَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قتلكم، وأستأصلكم، وقطع قرن الفتنة، فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه: أَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَقَرَأْتَ آلَ حم؟ قَالَ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ وَلَمْ أَقْرَأْ آلَ حم، قَالَ: مَا قَرَأْتَ: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}؟ قَالَ: وإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم" (ذكره ابن جرير وعلى هذا القول المراد بالقربى قرابة النبي صلى الله عليه وسلم). والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حَبْرُ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ

الله عنهما، كما رواه عنه البخاري، ولا ننكر الوصية بِأَهْلِ الْبَيْتِ، وَالْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَاحْتِرَامِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ، فَإِنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةٍ طَاهِرَةٍ، مِنْ أَشْرَفِ بَيْتٍ وُجِدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَخْرًا وَحَسَبًا وَنَسَبًا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ بِغَدِيرِ خُمٍّ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي، وَإِنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عليَّ الحوض»، وفي الصحيح أن الصديق رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه: وَاللَّهِ لِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إليَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَاللَّهِ لَإِسْلَامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إليَّ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ، لَأَنَّ إسلامك كان أَحَبَّ إليَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من إسلام الخطاب. وروى الإمام أحمد، عن يزيد بن حيان قال: انطلقت أنا والحصين بْنُ مَيْسَرَةَ وَعُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ إِلَى زَيْدِ بن أرقم رضي الله عنه، فلما جلسنا إليه قال حُصَيْنٌ: لَقَدْ لَقِيتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعْتَ حَدِيثَهُ وَغَزَوْتَ مَعَهُ وصلَّيت مَعَهُ. لَقَدْ رَأَيْتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا، حَدِّثْنَا يَا زَيْدُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لقد كبر سِنِّي، وَقَدِمَ عَهْدِي، وَنَسِيتُ بَعْضَ الَّذِي كُنْتُ أَعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا حَدَّثْتُكُمْ فَاقْبَلُوهُ، وَمَا لَا فَلَا تكلفونيه، ثم قال رضي الله عنه: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطِيبًا فِينَا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وذكَّر ووعظ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أما بعد أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثقلين، أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا بِهِ» فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ. وقال صلى الله عليه وسلم: «وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي»، فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نساؤه من أهل بيته؟ قال: إن نساؤه لسن من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم عليه الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ، قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس رَّضِيَ الله عَنْهُمْ، قال: كل هؤلاء حَرَّمَ الله عَلَيهِ الصدقة؟ قال: نعم" (أخرجه أحمد ومسلم والنسائي). وروى الترمذي، عن زيد بن أبي أرقم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الْآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْآخَرُ عِتْرَتِي أهل بيتي ولن يفترقا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فيهما" (أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب). وروى الترمذي أيضاً، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَخْطُبُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بيتي» (أخرجه الترمذي أيضاً وقال: حسن غريب). وقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} أَيْ وَمَنْ يَعْمَلُ حَسَنَةً {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} أي أجراً وثواباً، كقوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أجراً عظيماً}، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}، أَيْ يَغْفِرُ الْكَثِيرَ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَيُكَثِّرُ الْقَلِيلَ مِنَ الْحَسَنَاتِ، فَيَسْتُرُ ويغفر ويضاعف فيشكر، وقوله جلَّ وعلا: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ يختم على قبلك} أَيْ لَوِ افْتَرَيْتَ

عَلَيْهِ كَذِبًا كَمَا يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ {يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} ويسلبك ما كان آتاك من القرآن، كقوله جلَّ جلاله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لقطعنا عنه الوتين * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ عاجزين}، أَيْ لَانْتَقَمْنَا مِنْهُ أَشَدَّ الِانْتِقَامِ، وَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَحْجِزَ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ جلَّت عظمته: {وَيَمْحُ الله الباطل} مرفوع على الابتداء وحذفت من كتابته الواو في رسم مصحف الْإِمَامِ كَمَا حُذِفَتْ فِي قَوْلِهِ: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}، وقوله عزَّ وجلَّ {وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي يحققه ويثبته وَيُوَضِّحُهُ {بِكَلِمَاتِهِ} أَيْ بِحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ بِمَا تُكِنُّهُ الضَّمَائِرُ، وَتَنْطَوِي عليه السرائر.

- 25 - وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ - 26 - وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ - 27 - وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ - 28 - وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ يَقُولُ تَعَالَى ممتناً على عباده بقبول توبتهم إِذَا تَابُوا وَرَجَعُوا إِلَيْهِ، أَنَّهُ مِنْ كَرَمِهِ وحلمه يعفو ويصفح، ويستر ويغفر، كقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً}، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَلّهُ تعالى أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ من أحدكم كانت راحلته بأرض الفلاة، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هُوَ بِهَا قَائِمَةٌ عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مَن شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح"، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} أَيْ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ فِي الْمَاضِي، {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَا فَعَلْتُمْ وَصَنَعْتُمْ وَقُلْتُمْ، وَمَعَ هَذَا يَتُوبُ عَلَى من تاب إليه، وقوله تَعَالَى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} قَالَ السدي: يعني يستجيب لهم، أي الدعاء لأنفسهم ولأصحابهم وإخوانهم، {وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} أَيْ يَسْتَجِيبُ دُعَاءَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ فوق ذلك، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الكِنْدي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} قيل: الشَّفَاعَةُ لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ مِمَّنْ صَنَعَ إليهم معروفاً في الدنيا" وقال إبراهيم النخعي في قوله عزَّ وجلَّ: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قَالَ: يُشَفَّعُونَ فِي إِخْوَانِهِمْ، {وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} قَالَ: يُشَفَّعُونَ في إخوان إخوانهم، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لَمَّا ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ ذَكَرَ الْكَافِرِينَ وَمَا لَهُمْ عِنْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ الْمُوجِعِ الْمُؤْلِمِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ وَحِسَابِهِمْ. وَقَوْلُهُ تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ لَوْ أَعْطَاهُمْ فَوْقَ حَاجَتِهِمْ مِنَ الرِّزْقِ لَحَمَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْبَغْيِ وَالطُّغْيَانِ، مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَشَرًا وَبَطَرًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: وكان يُقَالُ خَيْرُ الْعَيْشِ مَا لَا يُلْهِيكَ وَلَا يُطْغِيكَ، وَذَكَرَ قَتَادَةُ حَدِيثَ: «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ ما يخرج الله تعالى من زَهْرَةَ الحياة الدنيا»،

وقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} أَيْ وَلَكِنْ يَرْزُقُهُمْ مِنَ الرِّزْقِ مَا يَخْتَارُهُ، مِمَّا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، فَيُغْنِي مَنْ يَسْتَحِقُّ الْغِنَى، وَيُفْقِرُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْفَقْرَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ (المراد بالحديث المروي أي المحكي عن الله عزَّ وجلَّ وهو المشهور بالحديث القدسي): «إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عليه دينه، وإن مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عليه دينه». وقوله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ}، أي من يأس النَّاسِ مِنْ نُزُولِ الْمَطَرِ، يُنَزِّلُهُ عَلَيْهِمْ فِي وقت حاجتهم وفقرهم إليه، كقوله عزَّ وجلَّ: {وَإِنِ كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ}، وقوله جلَّ جلاله: {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} أَيْ يَعُمُّ بِهَا الْوُجُودَ عَلَى أهل ذلك القطر وتلك الناحية، وقال قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعُمَرَ بن الخطاب رضي الله عنه: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قُحِطَ الْمَطَرُ، وَقَنَطَ النَّاسُ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مُطِرْتُمْ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ لِخَلْقِهِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ الْعَاقِبَةِ فِي جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَفْعَلُهُ.

- 29 - وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ - 30 - وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ - 31 - وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ يَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ وسلطانه القاهر {خَلْقُ السماوات وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا}، أَيْ ذَرَأَ فِيهِمَا، أي في السماوات والأرض {مِن دَآبَّةٍ}، وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وَسَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ، عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ وَطِبَاعِهِمْ وَأَجْنَاسِهِمْ وَأَنْوَاعِهِمْ، وَقَدْ فَرَّقَهُمْ فِي أَرْجَاءِ أقطار السماوات والأرض، {وَهُوَ} مَعَ هَذَا كُلِّهِ {عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَسَائِرَ الْخَلَائِقِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، فَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ الحق، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي مهما أصابكم فَلَا يُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا بَلْ يَعْفُو عَنْهَا، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ}. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ حتى الشوكة يشاكها». وعن أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى (عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثٍ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَعِيَهُ؟ قَالَ، فَسَأَلْنَاهُ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} قال: ما عاقب الله تعالى بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَاللَّهُ أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، فَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أن يعود في عفوه يوم القيامة" (أخرجه ابن أبي حاتم موقوفاً، ورواه مرفوعاً من وجه آخر). وروى الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا

كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقال الحسن البصري في قوله تَعَالَى: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ خَدْشِ عُودٍ، وَلَا اخْتِلَاجِ عِرْقٍ، وَلَا عَثْرَةِ قَدَمٍ، إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ» (أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري مرسلاً). وعن الضَّحَّاكِ قَالَ: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَفِظَ الْقُرْآنَ ثم نسيه إلا بذنب، ثم قرأ: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويعفو عَن كَثِيرٍ}، ثم قال الضَّحَّاكُ: وَأَيُّ مُصِيبَةٍ أَعْظَمُ مِنْ نِسْيَانِ الْقُرْآنِ؟

- 32 - ومن آياته الجوار فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ - 33 - إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ - 34 - أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ - 35 - وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ يَقُولُ تعالى: ومن آيَاتِهِ الدالة على قدرته الباهرة وَسُلْطَانِهِ، تَسْخِيرُهُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ فِيهِ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ {كالأعلام} أي كالجبال، أي هذه فِي الْبَحْرِ كَالْجِبَالِ فِي الْبَرِّ، {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح} أي التي تسير في البحر بِالسُّفُنِ، لَوْ شَاءَ لَسَكَّنَهَا حَتَّى لَا تَتَحَرَّكَ السفن بل تبقى رَاكِدَةً لَا تَجِيءُ وَلَا تَذْهَبُ، بَلْ وَاقِفَةً {عَلَى ظَهْرِهِ} أَيْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ} أَيْ فِي الشدائد {شَكُورٍ} أي في الرخاء. وقوله عزَّ وجلَّ {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} أَيْ وَلَوْ شَاءَ لَأَهْلَكَ السُّفُنَ وَغَرَّقَهَا، بِذُنُوبِ أَهْلِهَا الَّذِينَ هُمْ راكبون فيها، {ويعفو عَن كَثِيرٍ} أَيْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَلَوْ أَخَذَهُمْ بِجَمِيعِ ذُنُوبِهِمْ لِأَهْلَكَ كُلَّ مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ، وقال بعض علماء التفسير {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} أَيْ لَوْ شَاءَ لَأَرْسَلَ الرِّيحَ قَوِيَّةً عَاتِيَةً، فَأَخَذَتِ السُّفُنَ وَأَحَالَتْهَا عَنْ سَيْرِهَا الْمُسْتَقِيمِ، فَصَرَفَتْهَا ذَاتَ الْيَمِينِ أَوْ ذَاتَ الشِّمَالِ، آبِقَةً لَا تَسِيرُ عَلَى طَرِيقٍ ولا إلى جهة مقصد؛ وهذا القول يَتَضَمَّنُ هَلَاكَهَا وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَسَكَّنَ الرِّيحَ فَوَقَفَتْ، أَوْ لَقَوَّاهُ فَشَرَدَتْ وَأَبْقَتْ وَهَلَكَتْ، وَلَكِنْ مِنْ لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنَّهُ يُرْسِلُهُ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ كَمَا يُرْسِلُ الْمَطَرَ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ، وَلَوْ أَنْزَلَهُ كَثِيرًا جِدًّا لَهَدَمَ الْبُنْيَانَ، أَوْ قَلِيلًا لَمَا أَنْبَتَ الزَّرْعَ وَالثِّمَارَ، حَتَّى إِنَّهُ يُرْسِلُ إِلَى مِثْلِ (بِلَادِ مِصْرَ) سَيْحًا مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى غَيْرِهَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى مَطَرٍ، وَلَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ لهدم بنيانهم وأسقط جدرانهم، وقوله تعالى: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أَيْ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْ بَأْسِنَا وَنِقْمَتِنَا، فَإِنَّهُمْ مَقْهُورُونَ بِقُدْرَتِنَا.

- 36 - فَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - 37 - وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ - 38 - وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ - 39 - وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ يقول تعالى محقراً لشأن الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ النعيم الفاني بقوله تعالى: {فَمَآ أُوتِيتُم مِّن

شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ مَهْمَا حَصَلْتُمْ زجمعتم فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهِيَ دَارٌ دَنِيئَةٌ فَانِيَةٌ زَائِلَةٌ لَا مَحَالَةَ، {وَمَآ عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أَيْ وثواب الله تعالى خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ بَاقٍ سَرْمَدِيٌّ، فَلَا تقدموا الفاني على الباقي، ولهذا قال تعالى {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} أَيُّ لِلَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى تَرْكِ الملاذ في الدنيا {وهم على رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أَيْ لِيُعِينَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ فِي أداء الواجبات وترك المحرمات. ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} أَيْ سَجِيَّتُهُمْ تقتضي الصفح والعفو عن النَّاسِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ». وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ المعتبة: «ما له تربت يمينه»، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} أَيِ اتَّبَعُوا رُسُلَهُ وَأَطَاعُوا أَمْرَهُ وَاجْتَنَبُوا زَجْرَهُ، {وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ} وَهِيَ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أَيْ لَا يُبْرِمُونَ أَمْرًا حَتَّى يَتَشَاوَرُوا فِيهِ، لِيَتَسَاعَدُوا بِآرَائِهِمْ فِي مِثْلِ الْحُرُوبِ وَمَا جَرَى مجراها، كما قال تبارك وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} الآية، ولهذا كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَاوِرُهُمْ فِي الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا لِيُطَيِّبَ بِذَلِكَ قُلُوبَهُمْ، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} وَذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِ الله الأقرب إليهم منهم فالأقرب، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} أَيْ فِيهِمْ قُوَّةُ الِانْتِصَارِ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ وَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ، ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين، بَلْ يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْتِقَامِ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مَعَ هَذَا إِذَا قَدَرُوا عَفَوْا، كما عَفَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أؤلئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية، وكذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عَنْ (غَوْرَثِ بْنِ الْحَارِثِ) الَّذِي أَرَادَ الْفَتْكَ به حين اخترط سيفه وهو نائم، وكذلك عفا صلى الله عليه وسلم عَنْ (لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ) الَّذِي سَحَرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَلَا عاتبه مع قدرته عليه؛ والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جداً والله سبحانه وتعالى أعلم.

- 40 - وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ - 41 - وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ - 42 - إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 43 - وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عزم الأمور قوله تبارك وتعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، وَكَقَوْلِهِ {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية فَشَرَعَ الْعَدْلَ وَهُوَ (الْقَصَاصُ) وَنَدَبَ إِلَى الْفَضْلِ وهو {العفو} كقوله جلَّ وعلا: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ له}، ولهذا قال ههنا: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أَيْ لَا يَضِيعُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا صَحَّ ذلك في الحديث: «وما زاد الله تعالى عبداً بعفو عزاً» وقوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أَيِ الْمُعْتَدِينَ وَهُوَ المبتدئ بالسيئة، ثم قال جلَّ وعلا: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ فِي الانتصار ممن ظلمهم، روى النسائي، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا عَلِمْتُ حَتَّى دَخَلَتْ عليَّ زَيْنَبُ بِغَيْرِ إِذَنٍ وَهِيَ غَضْبَى، ثُمَّ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُكَ إِذَا قلبت لك ابنة أبي بكر درعها، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عليَّ، فَأَعْرَضْتُ عَنْهَا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دُونَكِ فَانْتَصِرِي»، فأقبلت عليها حتى رأيت ريقها قد يبس فِي فَمِهَا مَا تَرُدُّ عَلَيَّ شَيْئًا فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ

وجهه" (أخرجه النسائي وابن ماجة واللفظ للنسائي) وروى البزار عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من دعا على من ظلمه فقد انتصر» (أخرجه البزار والترمذي). وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا السَّبِيلُ} أَيْ إِنَّمَا الْحَرَجُ وَالْعَنَتُ {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الحق} أي يبدأون النَّاسَ بِالظُّلْمِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «الْمُسْتَبَّانُ مَا قَالَا، فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ» {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ شديد موجع، ثم إن الله تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ الظُّلْمَ وَأَهْلَهُ وَشَرَّعَ الْقَصَاصَ قَالَ نَادِبًا إِلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ} أَيْ صَبَرَ عَلَى الْأَذَى وَسَتَرَ السَّيِّئَةَ {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} أَيْ لَمِنَ الْأُمُورِ الْمَشْكُورَةِ وَالْأَفْعَالِ الْحَمِيدَةِ، الَّتِي عليها ثواب جزيل وثناء جميل. وقال الفضيل بن عياض: "إِذَا أَتَاكَ رَجُلٌ يَشْكُو إِلَيْكَ رَجُلًا فَقُلْ: يَا أَخِي اعْفُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْعَفْوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، فَإِنْ قَالَ: لَا يَحْتَمِلُ قَلْبِي الْعَفْوَ، وَلَكِنْ أَنْتَصِرُ كَمَا أَمَرَنِي اللَّهُ عزَّ وجلَّ، فَقُلْ لَهُ: إِنْ كُنْتُ تُحْسِنُ أَنْ تَنْتَصِرَ، وَإِلَّا فَارْجِعْ إِلَى بَابِ الْعَفْوِ، فَإِنَّهُ بَابٌ وَاسِعٌ، فَإِنَّهُ {مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، وَصَاحِبُ الْعَفْوِ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهِ بِاللَّيْلِ، وصاحب الانتصار يقلب الأمور" (رواه ابن أبي حاتم من كلام الفضيل رضي الله عنه). وروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إن رجلاً شتم أبا بكر رضي الله عنه وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، فَجَعَلَ النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويبتسم، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَامَ فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ، وَقُمْتَ، قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ حَضَرَ الشَّيْطَانُ فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ»! ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ: مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عنها لله إلا أعزه الله تعالى بها ونصره، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إلا زاده الله عزَّ وجلَّ بها قلة" (أخرجه أحمد وأبو داود)، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فِي الْمَعْنَى وهو مناسب للصديق رضي الله عنه.

- 44 - وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ - 45 - وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِن الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ - 46 - وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ مَنْ هَدَاهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هادي له، كما قال عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِدًا}، ثم قال عزَّ وجلَّ مُخْبِرًا عَنِ الظَّالِمِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ {لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي يوم القيامة تمنوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا، {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ}، كما قال جلَّ

وعلا: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ من المؤمنين}، وقوله عزَّ وجلَّ {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أَيْ عَلَى النَّارِ، {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} أَيِ الَّذِي قَدِ اعْتَرَاهُمْ بِمَا أسلفوا من عصيان الله تعالى {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي ذليل، أَيْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا مُسَارِقَةً خَوْفًا مِنْهَا، وَالَّذِي يحذرون منه واقع بهم لا محالة، {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُواْ} أَيْ يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {إِنَّ الْخَاسِرِينَ} أَيِ الْخَسَارُ الْأَكْبَرُ، {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ ذَهَبَ بِهِمْ إلا النار فعدموا لذتهم في دار الأبد، وفرق بينهم وبين أحبابهم وأصحابهم فَخَسِرُوهُمْ، {أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أَيْ دَائِمٍ سَرْمَدِيٍّ أَبَدِيٍّ، لَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا وَلَا مَحِيدَ لَهُمْ عنها. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ} أَيْ يُنْقِذُونَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} أَيْ لَيْسَ لَهُ خَلَاصٌ.

- 47 - اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ - 48 - فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَكُونُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْأُمُورِ الْعِظَامِ الْهَائِلَةِ حَذَّرَ مِنْهُ وَأَمَرَ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، فَقَالَ: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} أَيْ إِذَا أَمَرَ بِكَوْنِهِ، فَإِنَّهُ كَلَمْحِ الْبَصَرِ يَكُونُ، وَلَيْسَ لَهُ دَافِعٌ وَلَا مانع، وقوله عزَّ وجلَّ: {مالكم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ ومالكم مِّن نَّكِيرٍ} أَيْ لَيْسَ لَكُمْ حِصْنٌ تَتَحَصَّنُونَ فِيهِ، وَلَا مَكَانٌ يَسْتُرُكُمْ وَتَتَنَكَّرُونَ فِيهِ، فَتَغِيبُونَ عَنْ بَصَرِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِكُمْ بِعِلْمِهِ وَبَصَرِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إلى ربك المستقر}، وقوله تعالى: {فَإِن أَعْرَضُواْ} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ {فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أَيْ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب}، وقال جلَّ وعلا ههنا: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ} أَيْ إِنَّمَا كَلَّفْنَاكَ أَنْ تُبْلِغَهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} أَيْ إِذَا أَصَابَهُ رَخَاءٌ وَنِعْمَةٌ فرح بذلك {وإن يصبهم شيئة} يَعْنِي النَّاسَ {سَيِّئَةٌ} أَيْ جَدْبٌ وَنِقْمَةٌ وَبَلَاءٌ وَشِدَّةٌ، {فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} أَيْ يَجْحَدُ مَا تقدم من النعم، وَلَا يَعْرِفُ إِلَّا السَّاعَةَ الرَّاهِنَةَ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ أَشِرَ وَبَطِرَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مِحْنَةٌ يَئِسَ وقنط، فالمؤمن كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا للمؤمن».

- 49 - للَّهِ مُلْكُ السماوات وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ - 50 - أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عليم قدير يخبر تعالى أنه خالق السماوات والأرض، ومالكهما والمتصرف فيهما، وَأَنَّهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا منع، وأنه يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً} أي يرزقه البنات فقط {وَيَهَبُ -[283]- لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} أَيْ يَرْزُقُهُ الْبَنِينَ فقط، {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} أي ويعطي لمن يشاء الزَّوْجَيْنِ (الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) أَيْ مِنْ هَذَا وَهَذَا، {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} أَيْ لَا يُولَدُ له، فَجَعَلَ النَّاسَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: مِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يعطيه من النوعين وذكوراً وَإِنَاثًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ هَذَا وَهَذَا، فَيَجَعَلُهُ عقيماً لا نسل له ولا ولد، {إِنَّهُ عَلِيمٌ} أَيْ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ كُلَّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، {قَدِيرٌ} أَيْ عَلَى مَنْ يشآء من تفاوت الناس في ذلك، فَسُبْحَانَ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ.

- 51 - وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ - 52 - وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ - 53 - صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ هَذِهِ مَقَامَاتُ الْوَحْيِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَنَابِ الرب جلَّ وعلا، فتارة يَقْذِفُ فِي رَوْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وحياً لَا يَتَمَارَى فِيهِ إِنَّهُ مِن اللَّهِ عزَّ وجلَّ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا، فَاتَّقَوُا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ»، وقوله تعالى: {أو من ورآء حِجَابٍ} أي كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام، فَإِنَّهُ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ بَعْدَ التَّكْلِيمِ فَحُجِبَ عَنْهَا. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: «مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَداً إِلاَّ مَنِ وَرَاءِ حِجَابٍ وَإِنَّهُ كلَّم أَبَاكَ كفاحاً» كذا جاء في الحديث. وكان قَدْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُد وَلَكِنَّ هَذَا فِي عَالَمِ الْبَرْزَخِ، وَالْآيَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي الدَّارِ الدنيا. وقوله عزَّ وجلَّ: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَّا يَشَآءُ} كَمَآ ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} فَهُوَ عَلِيٌّ عَلِيمٌ، خَبِيرٌ حكيم. وقوله عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} يَعْنِي الْقُرْآنَ، {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الْإِيمَانُ} أَيْ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي شُرِعَ لَكَ فِي الْقُرْآنِ، {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ} أَيِ الْقُرْآنَ {نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عمى} الآية، وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ} يَا مُحَمَّدُ {لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَهُوَ الخالق القويم، ثم فسره بقوله تعالى: {صِرَاطِ الله} أَيْ شَرْعُهُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ اللَّهِ، {الَّذِي لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي ربهما ومالكهما والمتصرف فيهما والحاكم الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، {أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمور} أي ترجع الأمور فيفضلها ويحكم فيها، سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.

43 - سورة الزخرف

- 43 - سورة الزخرف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - حم - 2 - وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ - 3 - إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ - 4 - وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ - 5 - أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ - 6 - وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ - 7 - وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ - 8 - فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ يَقُولُ تَعَالَى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} أَيِ البِّين الواضح الجلي، المنزل بلغة أهل العرب التي هي أفصح اللغات، ولهذا قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ} أَيْ أَنْزَلْنَاهُ {قُرْآناً عَرَبِيّاً} أَيْ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، فَصِيحًا وَاضِحًا، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أَيْ تفهمونه وتتدبرونه، كما قال عزَّ وجلَّ: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مبين} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} بَيَّنَ شَرَفَهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، لِيُشَرِّفَهُ وَيُعَظِّمَهُ وَيُطِيعَهُ أَهْلُ الْأَرْضِ، فَقَالَ تَعَالَى {وَإِنَّهُ} أَيِ الْقُرْآنَ {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} أَيِ اللوح المحفوظ {لَدَيْنَا} أي عندنا {لَعَلِيٌّ} أَيْ ذُو مَكَانَةٍ عَظِيمَةٍ، وَشَرَفٍ وَفَضْلٍ {حَكِيمٌ} أَيْ مُحْكَمٌ بَرِيءٌ مِنَ اللَّبْسِ وَالزَّيْغِ، وهكذا كُلُّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ، كَمَا قَالَ تبارك وتعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَا يمسه إلا المطهرون}، وقال تعالى: {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كرام بررة}، ولهذا استنبط العلماء مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، أَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يَمَسُّ المصحف، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُعَظِّمُونَ الْمَصَاحِفَ، الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْقُرْآنِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، فَأَهْلُ الْأَرْضِ بِذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى، لِأَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ، وَخِطَابُهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ أَحَقُّ أَنْ يُقَابِلُوهُ بِالْإِكْرَامِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالِانْقِيَادِ له بالقبول والتسليم، لقوله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}، وقوله عزَّ وجلَّ: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ}؟ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهَا فَقِيلَ مَعْنَاهَا: أَتَحْسَبُونَ أَنْ نَصْفَحَ عَنْكُمْ فَلَا نُعَذِّبَكُمْ، وَلَمْ تفعلوا ما أمرتم به (وهو قول مجاهد والسدي)، قاله ابن عباس واختاره ابن جرير، وقال قتادة: وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ رُفِعَ حِينَ ردته أوائل هذا الأمة لهلكوا، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عَلَيْهِمْ، وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُ قَتَادَةَ لَطِيفُ الْمَعْنَى جِدًّا، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَقُولُ

فِي مَعْنَاهُ: إِنَّهُ تَعَالَى مِنْ لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير، وإلى الذكر الْحَكِيمِ وَهُوَ (الْقُرْآنُ) وَإِنْ كَانُوا مُسْرِفِينَ مُعْرِضِينَ عنه، بل أمر ليهتدي به مَنْ قَدَّرَ هِدَايَتَهُ، وَتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ كتب شقاوته، ثم قال جلَّ وعلا مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ مَنْ كذبه من قومه {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ} أَيْ فِي شِيَع الْأَوَّلِينَ {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ يُكَذِّبُونَهُ وَيَسْخَرُونَ به، {فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً} أَيْ فَأَهْلَكْنَا الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ، وَقَدْ كَانُوا أَشَدَّ بَطْشًا مِنْ هَؤُلَاءِ المكذبين لك يا محمد، كقوله عزَّ وجلَّ: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وأشد قوة}، والآيات في ذلك كثيرة جداً. وقوله جلَّ جلاله {وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: سُنَّتُهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: عُقُوبَتُهُمْ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا: عِبْرَتُهُمْ: أَيْ جَعَلْنَاهُمْ عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ أَنْ يُصِيبَهُمْ ما أصابهم، كقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً للآخرين}، وكقوله جلَّت عظمته: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ}، وقوله: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً}.

- 9 - وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ - 10 - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ - 11 - وَالَّذِي نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ - 12 - وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ - 13 - لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ - 14 - وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ يَقُولُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَ يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ العابدين معه غيره {مَّنْ خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} أَيْ لَيَعْتَرِفُنَّ بأن الخالق لذلك هو الله وحده، وَهُمْ مَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، مِنَ الأصنام والأنداد، ثم قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} أَيْ فِرَاشًا قراراً ثابتة، تسيرون عليها وتقومون وتنامون، مَعَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ، لَكِنَّهُ أرساها بالجبال لئلا تميد، {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أَيْ طُرُقًا بَيْنَ الْجِبَالِ وَالْأَوْدِيَةِ {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أَيْ فِي سَيْرِكُمْ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَقُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، {وَالَّذِي نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أَيْ بِحَسَبِ الْكِفَايَةِ لِزُرُوعِكُمْ وَثِمَارِكُمْ، وَشُرْبِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ، {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} أَيْ أَرْضًا مَيْتَةً، فَلَمَّا جَاءَهَا الْمَاءُ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كل زوج بهيج، ثم نَّبه تعالى بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ يَوْمَ الْمَعَادِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَقَالَ: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}. ثُمَّ قَالَ عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} أَيْ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ سَائِرِ الْأَصْنَافِ، مِنْ نَبَاتٍ وَزُرُوعٍ وثمار وغير ذلك، وَمَن الْحَيَوَانَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا، وَأَصْنَافِهَا، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ} أَيِ السُّفُنِ {وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} أَيْ ذَلَّلَهَا لَكُمْ وسخَّرها وَيَسَّرَهَا، لِأَكْلِكُمْ لُحُومَهَا وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها، ولهذا قال جلَّ وعلا {لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ} أَيْ لِتَسْتَوُوا مُتَمَكِّنِينَ مُرْتَفِقِينَ {عَلَى ظُهُورِهِ} أَيْ عَلَى ظُهُورِ هَذَا الْجِنْسِ، {ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} أَيْ فِيمَا سَخَّرَ لَكُمْ {إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أَيْ مُقَاوِمِينَ، وَلَوْلَا تَسْخِيرُ اللَّهِ لَنَا هَذَا ما قدرنا عليه.

قال ابن عباس: {مُقْرِنِينَ} أَيْ مُطِيقِينَ، {وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} أَيْ لَصَائِرُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَمَاتِنَا، وَإِلَيْهِ سَيْرُنَا الْأَكْبَرُ، وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِسَيْرِ الدُّنْيَا عَلَى سَيْرِ الْآخِرَةِ، كَمَا نَبَّهَ بِالزَّادِ الدُّنْيَوِيِّ على الزاد الأخروي في قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} وَبِاللِّبَاسِ الدُّنْيَوِيِّ عَلَى الْأُخْرَوِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ}. (ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عِنْدَ رُكُوبِ الدَّابَّةِ) (حَدِيثُ علي بن أبي طالب): عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِدَابَّةٍ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَيْهَا قَالَ: الْحَمْدُ للَّهِ {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ تعالى ثَلَاثًا وَكَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لي، ثم ضحك، فقلت له: مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟ فقال رضي الله عنه: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل مثل ما فعلت، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ: مِمَّ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "يعجب الرب تبارك وتعالى مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَيَقُولُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غيري" (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح). (حديث عبد الله بن عمر): روى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: «سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ»، ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِي سَفَرِي هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللهم هوّن علينا السفر، واطوِ لنا البعد، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا وَاخْلُفْنَا فِي أهلنا». وكان صلى الله عليه وسلم إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ قَالَ: «آيِبُونَ تَائِبُونَ إن شاء الله، عابدون لربنا حامدون». (أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والإمام أحمد).

- 15 - وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عباده جزء إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ - 16 - أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ - 17 - وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ - 18 - أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ - 19 - وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ - 20 - وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا افْتَرَوْهُ وَكَذَّبُوهُ، فِي جَعْلِهِمْ بَعْضَ الأنعام لطواغيتهم، وبعضها لله تعالى، وكذلك جعلوا له من الأولاد أَخَسَّهُمَا وَأَرْدَأَهُمَا وَهُوَ الْبَنَاتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى}، وقال جلَّ وعلا ههنا: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ}، ثم قال جلَّ وعلا: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ}؟ وَهَذَا إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ تمام الإنكار

فقال جلَّت عظمته: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} أَيْ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ بِمَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ مِنَ الْبَنَاتِ، يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ غَايَةَ الْأَنَفَةِ، وَتَعْلُوهُ كَآبَةٌ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ، وَيَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ خَجَلِهِ مِنْ ذَلِكَ، يَقُولُ تبارك وتعالى: فَكَيْفَ تَأْنَفُونَ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَتَنْسُبُونَهُ إِلَى الله عزَّ وجلَّ؟ ثم قال سبحانه وتعالى: {أو من يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} أَيِ الْمَرْأَةُ نَاقِصَةٌ يَكْمُلُ نَقْصُهَا بِلُبْسِ الحلي، منذ تكون طفلة، وإذا خاصمت فهي عاجزة عَييِّة، أَوَ من يكون هكذا ينسب إلى جناب الله العظيم؟ فَالْأُنْثَى نَاقِصَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، فيكمل نقص مظاهرها وصورتها بلبس الحلي، لِيُجْبَرَ مَا فِيهَا مِنْ نَقْصٍ، كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْعَرَبِ: وَمَا الْحَلْيُ إِلَّا زِينَةٌ مِنْ نَقِيصَةٍ * يتمِّم مِنْ حُسْنٍ إِذَا الْحُسْنُ قَصَّرا وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفَّراً * كَحُسْنِكِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يُزَوّرا وَأَمَّا نَقْصُ معناها فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ وَقَدْ بُشِّرَ بِبِنْتٍ: «ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرها سرقة». وقوله تبارك وتعالى: {وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} أَيِ اعْتَقَدُوا فِيهِمْ ذَلِكَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَعَالَى قَوْلَهُمْ ذَلِكَ فَقَالَ: {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ}؟ أَيْ شَاهَدُوهُ وَقَدْ خَلَقَهُمُ اللَّهُ إِنَاثًا؟ {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} أَيْ بِذَلِكَ {وَيُسْأَلُونَ} عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} أَيْ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ لَحَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ، الَّتِي هي على صور الملائكة بنات الله، فإنه عالم بذلك وهو يقرنا عَلَيْهِ. فَجَمَعُوا بَيْنَ أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْخَطَأِ: (أحدهما): جعلهم لله تعالى وَلَدًا، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، (الثَّانِي): دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ، فَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً، (الثَّالِثُ): عِبَادَتُهُمْ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الآراء والأهواء، والتقليد للأسراف والكبراء، والخبط في الجاهلية الجهلاء، (الرابع): احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قدراً، وَقَدْ جَهِلُوا فِي هَذَا الِاحْتِجَاجِ جَهْلًا كَبِيرًا، فَإِنَّهُ مُنْذُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ يَأْمُرُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيَنْهَى عَنْ عبادة ما سواه، قال تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}؟ وقال جلَّ وعلا في هذه الآية: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِّنْ عِلْمٍ} أَيْ بِصِحَّةِ مَا قَالُوهُ وَاحْتَجُّوا بِهِ {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} أي يكذبون ويتقولون، وقال مجاهد: يعني ما يعلمون قدرة الله تبارك وتعالى على ذلك.

- 21 - أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ - 22 - بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ - 23 - وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ - 24 - قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ - 25 - فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِن

قَبْلِهِ} أَيْ مِنْ قبل شركهم، {فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} أي ليس الأمر كذلك، كقوله عزَّ وجلَّ {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يشركون} أي لم يكن ذلك، ثم قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ، سِوَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى {أُمَّةٍ} والمراد بها الدين ههنا، وفي قوله تبارك وتعالى: {أن هذه أُمتكم أُمّة واحدة}، وقولهم {وَإِنَّا على آثَارِهِم} أي وراءهم {مُّهْتَدُونَ} دَعْوَى مِنْهُمْ بِلَا دَلِيلٍ. ثُمَّ بَيَّنَ جلَّ وعلا أَنَّ مَقَالَةَ هَؤُلَاءِ قَدْ سَبَقَهُمْ إِلَيْهَا أَشْبَاهُهُمْ وَنُظَرَاؤُهُمْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فَقَالُوا مِثْلَ مَقَالَتِهِمْ {كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مجنون} وهكذا قال ههنا: {وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إننا وجدنا آبائنا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}. ثُمَّ قال عزَّ وجلَّ {قُلْ} أي يا محمد لهؤلاء المشركين {أو لو جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أَيْ وَلَوْ عَلِمُوا وَتَيَقَّنُوا صِحَّةَ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ لَمَا انقادوا لذلك لسوء قَصْدِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بِأَنْوَاعٍ من العذاب كما فصله تبارك وتعالى فِي قَصَصِهِمْ {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أَيْ كَيْفَ بَادُوا وَهَلَكُوا، وَكَيْفَ نَّجى اللَّهُ المؤمنين.

- 26 - وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ - 27 - إِلاَّ الذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ - 28 - وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ - 29 - بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ - 30 - وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ - 31 - وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ - 32 - أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ - 33 - وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ - 34 - وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ - 35 - وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد الْأَنْبِيَاءِ، الَّذِي تَنْتَسِبُ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فِي نَسَبِهَا ومذهبها، وأنه تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ فَقَالَ: {إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي هذه الكلمة وَهِيَ {لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} أَيْ جَعَلَهَا دَائِمَةً فِي ذُرِّيَّتِهِ، يَقْتَدِي بِهِ فِيهَا مَنْ هداه الله تعالى، من ذرية أبراهيم عليه الصلاة والسلام {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي إليها، قال عكرمة ومجاهد {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} يَعْنِي لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا يَزَالُ فِي ذُرِّيَّتِهِ من يقولها، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إلى ما قاله الجماعة، ثم قال جلَّ وعلا: {بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء} يعني المشركين {وَآبَآءَهُمْ} فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فِي ضَلَالِهِمْ {حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} أَيْ بَيِّنُ الرِّسَالَةِ وَالنِّذَارَةِ. {وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَذَا

سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} أَيْ كَابَرُوهُ وَعَانَدُوهُ كُفْرًا وَحَسَدًا وَبَغْيًا، {وَقَالُواْ} أَيْ كَالْمُعْتَرِضِينَ عَلَى الَّذِي أَنْزَلَهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} أَيْ هَلَّا كَانَ إِنْزَالُ هَذَا الْقُرْآنِ عَلَى رَجُلٍ عَظِيمٍ كَبِيرٍ فِي أَعْيُنِهِمْ؟ {مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ} يَعْنُونَ مكّة والطائف (قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة والسدي ومحمد القرظي وابن زيد)، وقد ذكر غير واحد من السلف أنهم أرادوا بذلك (الوليد ابن المغيرة) و (عروة بن مسعود الثَّقَفِيَّ)، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: يَعْنُونَ (عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ) بمكّة و (ابن عَبْدِ يَالِيلَ) بِالطَّائِفِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَنَوْا بِذَلِكَ (الوليد بن المغيرة) و (كنانة بن عمرو الثَّقَفِيَّ)، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ رَجُلٌ كَبِيرٌ مِنْ أي البلديتن كان، قال تعالى رداً عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الِاعْتِرَاضِ: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ}؟ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ مَرْدُودًا إِلَيْهِمْ، بَلْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُنْزِلُهَا إِلَّا عَلَى أَزْكَى الْخَلْقِ قَلْبًا وَنَفْسًا، وَأَشْرَفِهِمْ بَيْتًا، وَأَطْهَرِهِمْ أصلاً، ثم قال عزَّ وجلَّ مُبَيِّنًا أَنَّهُ قَدْ فَاوَتَ بَيْنَ خَلْقِهِ، فِيمَا أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول الفهوم، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقُوَى الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فَقَالَ: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية. وقوله جلَّت عظمته: {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} أي لِيُسَخِّرَ بعضُهم بَعْضًا فِي الْأَعْمَالِ، لِاحْتِيَاجِ هَذَا إلى هذا وهذا إلى هذا، ثم قال عزَّ وجلَّ: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} أَيْ رَحْمَةُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ، خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الأموال ومتاع الحياة الدنيا، ثُمَّ قال سُبْحَانَهُ وتعالى {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمّة وَاحِدَةً} أَيْ لَوْلَا أَنْ يَعْتَقِدَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْجَهَلَةِ، إن أعطانا الْمَالَ دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّتِنَا لِمَنْ أَعْطَيْنَاهُ، فَيَجْتَمِعُوا على الكفر لأجل المال {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ} أي سلالم ودرجاً من فضة {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} أَيْ يَصْعَدُونَ {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً} أَيْ أَغْلَاقًا عَلَى أَبْوَابِهِمْ {وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} أَيْ جَمِيعُ ذَلِكَ يَكُونُ فِضَّةً {وَزُخْرُفاً} أَيْ وَذَهَبًا، قاله ابن عباس والسدي، {وإنْ كلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، الزَّائِلَةِ الْحَقِيرَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ يُعَجِّلُ لَهُمْ بِحَسَنَاتِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا فِي الدُّنْيَا مَآكِلَ وَمَشَارِبَ، ليوافوا الآخرة وليس لهم عند الله تبارك وتعالى حسنة يجزيهم بها. ثم قال سُبْحَانَهُ وتعالى: {وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} أَيْ هِيَ لَهُمْ خَاصَّةً لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رآه على رمال الحصير، قَدْ أَثَّرَ بِجَنْبِهِ، فَابْتَدَرَتْ عَيْنَاهُ بِالْبُكَاءِ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِيمَا هم فِيهِ، وَأَنْتَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا فجلس وقال: «أو في شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟» ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا»، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لهم الدنيا ولنا الآخرة»، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلاَ تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ» وَإِنَّمَا خوَّلهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى مِنْهَا كَافِرًا شَرْبَةَ مَاءٍ أبداً» (أخرجه الترمذي وابن ماجة عن سهل بن سعد، وقال التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ).

- 36 - وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ - 37 - وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل وَيَحْسَبُونَ

أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ - 38 - حتى إِذَا جاءنا قال يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ - 39 - وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ - 40 - أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ - 41 - فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ - 42 - أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ - 43 - فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - 44 - وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ - 45 - وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ} أَيْ يَتَعَامَى وَيَتَغَافَلُ وَيُعْرِضُ {عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ}، والعشا في العين ضعف بصرها، والمراد ههنا عَشَا الْبَصِيرَةِ، {نقيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} كقوله تعالى: {فَلَمَّا أزاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} ولهذا قال تبارك وتعالى ههنا: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}، {حَتَّى إِذَا جَآءَنَا} أَيْ هَذَا الَّذِي تَغَافَلَ عن الهدى، إذا وافى الله عزَّ وجلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَتَبَرَّمُ بِالشَّيْطَانِ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ {قال يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} وَالْمُرَادُ بالمشرقين ههنا هُوَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ ههنا تغليباً كما يقال: القمران والعُمَران والأبوان، قاله ابن جرير وغيره، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} أَيْ لَا يُغْنِي عَنْكُمُ اجْتِمَاعُكُمْ فِي النَّارِ وَاشْتِرَاكُكُمْ فِي العذاب الأليم. وقوله جلَّت عظمته: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}؟ أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ، إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، ثم قال تعالى {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} أَيْ لابد أَنْ نَنْتَقِمَ مِنْهُمْ وَنُعَاقِبَهُمْ وَلَوْ ذَهَبْتَ أَنْتَ، {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} أي نحن قادرون على هذا ولم يقبض الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أَقَرَّ عَيْنَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَحَكَّمَهُ فِي نَوَاصِيهِمْ، واختاره ابن جرير، وقال قتادة: ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَتِ النقمة، ولن يُرِيَ اللهُ تبارك وتعالى نبيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمته شَيْئًا يَكْرَهُهُ، حَتَّى مَضَى وَلَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قط إلا وقد رأى الْعُقُوبَةَ فِي أُمته إِلَّا نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ مَا يُصِيبُ أُمته مِنْ بَعْدِهِ، فَمَا رُئِيَ ضَاحِكًا منبسطاً حتى قبضه الله عزَّ وجلَّ (رواه ابن جرير عن قتادة رضي الله عنه)، ثم قال عزَّ وجلَّ: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أَيْ خُذْ بِالْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى قَلْبِكَ، فَإِنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَمَا يَهْدِي إِلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ، الْمُفْضِي إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ، الْمُوصِلِ إلى جنات النعيم. ثم قال جلَّ جلاله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ}، قِيلَ مَعْنَاهُ لَشَرَفٌ لك ولقومك، وفي الحديث: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لَا يُنَازِعُهُمْ فيه أحد إلا أكبَّه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين» (أخرجه البخاري عن معاوية رضي الله عنه)، ومعناه أَنَّهُ شَرَفٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أُنْزِلَ بَلُغَتِهِمْ، فَهُمْ أَفْهَمُ النَّاسِ لَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا أَقْوَمَ النَّاسِ بِهِ، وَأَعْمَلَهُمْ بِمُقْتَضَاهُ، وَهَكَذَا كَانَ خِيَارُهُمْ وَصَفْوَتُهُمْ مِنَ الْخُلَّصِ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَمَنْ شَابَهَهُمْ وَتَابَعَهُمْ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ {وَإِنَّهُ

لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} أَيْ لَتذكيرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، وَتَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي مَنْ سِوَاهُمْ، كَقَوْلِهِ تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، وكقوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين}، {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}، أَيْ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ وَكَيْفَ كُنْتُمْ فِي الْعَمَلِ بِهِ وَالِاسْتِجَابَةِ لَهُ، وَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}؟ أَيْ جَمِيعُ الرُّسُلِ دَعَوْا إِلَى مَا دَعَوْتَ النَّاسَ إِلَيْهِ، مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.

- 46 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ - 47 - فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَضْحَكُونَ - 48 - وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ - 49 - وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ - 50 - فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ ورسوله {موسى} عليه الصلاة والسلام، أَنَّهُ ابْتَعَثَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، مِنَ الْأُمَرَاءِ والوزراء والقادة والأتباع مِنَ الْقِبْطِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ، يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُ آيَاتٍ عِظَامًا كَيَدِهِ وَعَصَاهُ، وَمَا أَرْسَلَ مَعَهُ مِنَ الطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ والقمَّل وَالضَّفَادِعِ وَالدَّمِ، وَمِنْ نَقْصِ الزُّرُوعِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِهَا وَالِانْقِيَادِ لها، وضحكوا ممن جاءهم بها، {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا}، وَمَعَ هَذَا مَا رَجَعُوا عَنْ غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَجَهْلِهِمْ وَخَبَالِهِمْ، وَكُلَّمَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ يَضَّرَّعُونَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَتَلَطَّفُونَ لَهُ فِي الْعِبَارَةِ بِقَوْلِهِمْ: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} أي العالم (قاله ابن جرير، فليس قولهم ذلك على سبيل الانتقاص، وإنما هو تعظيم في زعمهم كما قال ابن كثير)، وَكَانَ عُلَمَاءُ زَمَانِهِمْ هُمُ السَّحَرَةَ، وَلَمْ يَكُنِ السحر في زمانهم مذموماً عندهم، فَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يَعِدُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إن كشف عنهم هذا أن يؤمنوا به وَيُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ ينكثون ما عاهدوا عليه، وهذا كقوله تبارك وتعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ * فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}.

- 51 - ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ - 52 - أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ - 53 - فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ - 54 - فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ - 55 - فَلَمَّآ آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ - 56 - فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً للآخرين

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ وَتَمَرُّدِهِ وَعُتُوِّهِ، أَنَّهُ جَمَعَ قَوْمَهُ فَنَادَى فِيهِمْ مُتَبَجِّحًا مُفْتَخِرًا بِمُلْكِ مِصْرَ وَتَصَرُّفِهِ فِيهَا: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي}؟ قَالَ قتادة: قد كانت لهم جنات وَأَنْهَارُ مَاءٍ {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}؟ أَيْ أَفَلَا تَرَوْنَ مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْعَظْمَةِ وَالْمُلْكِ؟ يَعْنِي موسى وأتباعه فقراء ضعفاء، وَقَوْلُهُ: {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} قَالَ السُّدِّيُّ: يَقُولُ: بَلْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ، وَهَكَذَا قال بعض نحاة البصرة: إن (أم) ههنا بعنى (بل) يعني فرعون لعنه الله بذلك أنه خير من موسى عليه الصلاة والسلام، وَقَدْ كَذَبَ فِي قَوْلِهِ هَذَا كَذِبًا بَيِّنًا واضحاً، ويعني بقوله {مَهِينٌ} حقير، وقال قتادة: يعني ضعيف، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي لَا مُلْكَ لَهُ وَلَا سُلْطَانَ وَلَا مَالَ، {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} يعني لا يكاد يفصح عن كلامه عييّ حصر، قال السدي: أي لا يكاد يُفْهم، وقال قتادة: يَعْنِي عَيِيَّ اللِّسَانِ، وَقَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي فِي لِسَانِهِ شَيْءٌ مِنَ الْجَمْرَةِ حِينَ وَضَعَهَا فِي فمه وَهُوَ صَغِيرٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ كَذِبٌ وَاخْتِلَاقٌ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هَذَا الكفر والعناد، فهو ينظر إلى موسى بِعَيْنٍ كَافِرَةٍ شَقِيَّةٍ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْجَلَالَةِ وَالْعَظَمَةِ وَالْبَهَاءِ، فِي صُورَةٍ يبهر أبصار ذوي الْأَلْبَابِ، وَقَوْلُهُ: {مَهِينٌ} كَذِبٌ بَلْ هُوَ الْمَهِينُ الحقير، وموسى هو الشريف الصَّادِقُ الْبَارُّ الرَّاشِدُ، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} افْتِرَاءٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَ لِسَانَهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ تِلْكَ الْجَمْرَةِ، فَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ أَنْ يَحُلَّ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ لِيَفْقَهُوا قَوْلَهُ، وقد استجاب الله تبارك وتعالى له ذلك في قوله: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا موسى} وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَقِيَ شَيْءٌ لَمْ يَسْأَلْ إِزَالَتَهُ كَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِنَّمَا سَأَلَ زَوَالَ مَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْإِبْلَاغُ وَالْإِفْهَامُ، وَفِرْعَوْنُ وَإِنْ كَانَ يَفْهَمُ وَلَهُ عَقْلٌ فَهُوَ يَدْرِي هَذَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّرْوِيجَ عَلَى رَعِيَّتِهِ فإنهم كانوا جهلة أغبياء، وهكذا قوله: {فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} وَهِيَ مَا يُجْعَلُ فِي الْأَيْدِي مِنَ الحُليِّ {أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} أَيْ يَكْتَنِفُونَهُ خِدْمَةً لَهُ، وَيَشْهَدُونَ بِتَصْدِيقِهِ، نَظَرَ إِلَى الشَّكْلِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَفْهَمِ السِّرَّ الْمَعْنَوِيَّ الَّذِي هُوَ أظهر مما نظر إليه لو كان يفهم، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} أَيِ اسْتَخَفَّ عُقُولَهُمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ فَاسْتَجَابُوا لَهُ {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ}. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}، قَالَ ابن عباس: {آسفونا} أسخطونا، وعنه: أغضبونا (وهو قول مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والسدي وغيرهم من المفسرين)، روى ابن أبي حاتم، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ تبارك وتعالى يعطي العبد ما يشاء وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ منه له» ثم تلا صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} (أخرجه ابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر مرفوعاً). وقال طارق بن شهاب: كنت عند عبد الله رضي الله عنه فَذُكِرَ عِنْدَهُ مَوْتُ الْفَجْأَةِ، فَقَالَ: تَخْفِيفٌ عَلَى المؤمن وحسرة على الكافر، ثم قرأ رضي الله عنه: {فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}، وَقَالَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَجَدْتُ النِّقْمَةَ مَعَ الْغَفْلَةِ يَعْنِي قَوْلَهُ تبارك وتعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} وَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ} قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: {سَلَفاً} لمثل من عمل بعملهم، {وَمَثَلًا} أَيْ عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ.

- 57 - وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ - 58 - وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ - 59 - إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ - 60 - وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ - 61 - وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ - 62 - وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ - 63 - وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ - 64 - إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ - 65 - فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَعَنُّتِ قُرَيْشٍ فِي كُفْرِهِمْ وَتَعَمُّدِهِمُ الْعِنَادَ وَالْجَدَلَ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}. قال ابن عباس أي (يضحكون) أُعْجِبُوا بِذَلِكَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَجْزَعُونَ وَيَضْحَكُونَ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يُعْرِضُونَ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ حَيْثُ قَالَ: وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنِي يَوْمًا مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ حَتَّى جَلَسَ مَعَهُمْ، وَفِي الْمَجْلِسِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ، فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، فَكَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَفْحَمَهُ، ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لها واردون} الآيات؛ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقبل عبد الله بن الزبعري حَتَّى جَلَسَ فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لَهُ: وَاللَّهِ مَا قَامَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لِابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَمَا قَعَدَ، وَقَدْ زَعَمَ مُحَمَّدٌ أنَّا وَمَا نَعْبُدُ مِنْ آلِهَتِنَا هَذِهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ لَخَصَمْتُهُ، سَلُوا مُحَمَّدًا أَكُلُّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي جَهَنَّمَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ؟ فَنَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَالْيَهُودُ تعبد عزيراً، والنصارى تعبد المسيح ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَعَجِبَ الْوَلِيدُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى، وَرَأَوْا أَنَّهُ قَدْ احْتَجَّ وَخَاصَمَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «كُلُّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ وَمَنْ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} أَيْ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَمَنْ عُبِدَ مَعَهُمَا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الَّذِينَ مَضَوْا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فاتخذهم مِن بَعْدِهِم مِّن أَهْلِ الضَّلَالَةِ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وأنه يعبد من دون اللَّهُ {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} أَيْ يَصِدُّونَ عَنْ أَمْرِكَ بذلك من قوله، ثم ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام فَقَالَ: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} أي ما وضع عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ فَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِ السَّاعَةِ يَقُولُ: {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (ذكره ابن أبي إسحاق في السيرة، ورواه ابن جرير بنحوه). عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِيهِ خَيْرٌ» فَقَالُوا لَهُ:

أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى كَانَ نَبِيًّا وَعَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ صَالِحًا فَقَدْ كَانَ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ منه يصدون} (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما)، وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}، قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّمَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ نَعْبُدَهُ كَمَا عَبَدَ قَوْمُ عِيسَى (عِيسَى) عليه السلام، وَقَوْلُهُ: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ}؟ قَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُونَ آلِهَتُنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: قرأ ابن مسعود رضي الله عنه: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هَذَا}؟ يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم. وقوله تبارك وتعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً} أَيْ مِراءً وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَى الْآيَةِ لأنها لما لا يعقل (مراده أن «ما» في اللغة العربية لما لا يعقل، وقد قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} ولم يقل: ومن تعبدون) وهي قوله تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جهنم} ثُمَّ هِيَ خُطَّابٌ لِقُرَيْشٍ، وَهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْأَنْدَادَ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ حتى يورده فَتَعَيَّنَ أَنَّ مَقَالَتَهُمْ إِنَّمَا كَانَتْ جَدَلًا مِنْهُمْ ليسوا يعتقدون صحتها، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عليه إلا أورثوا الجدل» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خصمون} (أخرجه أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صحيح). وروى ابن جرير، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقُرْآنِ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى كَأَنَّمَا صُبَّ عَلَى وجهه الخل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَإِنَّهُ مَا ضَلَّ قَوْمٌ قَطُّ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ»، ثم تلا صلى الله عليه وسلم: "مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ خَصِمُونَ}، وقوله تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} يَعْنِي عيسى عليه الصلاة والسلام مَا هُوَ إِلَّا عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ دَلَالَةً وَحُجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى قدرتنا على ما نشاء، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ} أَيْ بَدَلَكُمْ {مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ}، وقال السدي: يخلفونكم فِيهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا يَخْلُفُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَهَذَا الْقَوْلُ يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُعَمِّرُونَ الْأَرْضَ بَدَلَكُمْ. وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ مَا بُعِثَ بِهِ عيسى عليه الصلاة والسلام من إحياء الموتى وإبراء الأكمه وغير ذلك من الأسقام وفيه نظر. والصحيح أنه عائد على عيسى عليه الصلاة والسلام، فَإِنَّ السِّيَاقَ فِي ذِكْرِهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِذَلِكَ نُزُولُهُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أَيْ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى عَلَيْهِ الصلاة والسلام، {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الْقِرَاءَةَ الأُخْرى {وَإِنَّهُ لعَلَمٌ لِّلسَّاعَةِ} أَيْ أَمَارَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ السَّاعَةِ، قال مجاهد: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ الساعة} أَيْ آيَةٌ لِلسَّاعَةِ خُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ (وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ)، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أخبر بنزول عيسى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِمَامًا عَادِلًا وحكماً مقسطاً، وقوله تعالى: {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} أَيْ لَا تَشُكُّوا فِيهَا إِنَّهَا وَاقِعَةٌ وَكَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، {واتبعونِ} أَيْ فِيمَا أُخْبِرُكُمْ بِهِ {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} أَيْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ

قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ} أَيْ بِالنُّبُوَّةِ، {وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ لَا الدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَذَا الذي قاله حسن جيد، وقوله عزَّ وجلَّ {فَاتَّقُوا اللَّهَ} أَيْ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ {وأطيعونِ} فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أَيْ وأنا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ لَهُ فُقَرَاءُ إِلَيْهِ مُشْتَرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أَيْ هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ هُوَ الصراط المستقيم وهو عبادة الرب جلَّ وعلا وحده، وقوله سبحانه وتعالى: {فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} أي اختلف الْفِرَقُ وَصَارُوا شِيَعًا فِيهِ، مِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْحَقُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ وُلَدُ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا، ولهذا قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}.

- 66 - هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ - 67 - الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين - 68 - يا عباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ - 69 - الَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ - 70 - ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ - 71 - يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - 72 - وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ - 73 - لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ يَقُولُ تَعَالَى: هَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ لِلرُّسُلِ {إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أَيْ فَإِنَّهَا كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ وَوَاقِعَةٌ، وَهَؤُلَاءِ غَافِلُونَ عَنْهَا، فَإِذَا جَاءَتْ إِنَّمَا تَجِيءُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بها، فحيئذ يَنْدَمُونَ كُلَّ النَّدَمِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يدفع عنهم، وقوله تَعَالَى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} أَيْ كُلُّ صَدَاقَةٍ وَصَحَابَةٍ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدَاوَةً إِلَّا مَا كَانَ للَّهِ عزَّ وجلَّ، فَإِنَّهُ دَائِمٌ بِدَوَامِهِ، وهذا كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لِقَوْمِهِ: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار ومالكم من ناصرين} قال ابن عباس ومجاهد: صَارَتْ كُلُّ خِلَّةٍ عَدَاوَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا المتقين. وروى الحافظ ابن عساكر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ أَحَدُهُمَا بالمشرق والآخر بالمغرب لجمع الله تعالى بَيْنَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ هَذَا الَّذِي أَحْبَبْتَهُ فيَّ» وقوله تبارك وتعالى: {يا عبادي لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} ثُمَّ بَشَّرَهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ} أَيْ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ، وَانْقَادَتْ لِشَرْعِ الله جوارحهم وظواهرهم، قال المعتمر ابن سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ النَّاسَ حِينَ يُبْعَثُونَ لَا يَبْقَى أَحَدٌ منهم إلا فزع فينادي منادٍ {يا عبادِي لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} فَيَرْجُوهَا النَّاسُ كُلُّهُمْ، قَالَ، فَيُتْبِعُهَا: {الَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ} قَالَ: فَيَيْأَسُ النَّاسُ مِنْهَا غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ {أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} أَيْ نُظَرَاؤُكُمْ {تُحْبَرُونَ} أي تتنعمون وَتَسْعَدُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ الرُّومِ. {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ} أَيْ زَبَادِيِّ آنِيَةِ الطَّعَامِ {وَأَكْوَابٍ} وَهِيَ آنِيَةُ الشَّرَابِ أَيْ مِنْ ذَهَبٍ لَا خَرَاطِيمَ لَهَا وَلَا عُرَى {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ

الأنفس}، وقرأ بعضهم تشتهي الْأَنْفُسُ: {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} أَيْ طِيبَ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ وحسن المنظر، روى عبد الرزاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الجنة منزلة وأسفلهم درجة لا يدخل بعده الجنة أَحَدٌ، يُفْسَحُ لَهُ فِي بَصَرِهِ مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ، فِي قُصُورٍ مِنْ ذَهَبٍ وَخِيَامٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ، لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا مَعْمُورٌ، يغدى عليه ويراح بسبعين ألف صفحة من ذهب ليس فيها صفحة لَوْنٌ لَيْسَ فِي الْأُخْرَى مِثْلُهُ، شَهْوَتُهُ فِي آخِرِهَا كَشَهْوَتِهِ فِي أَوَّلِهَا، لَوْ نَزَلَ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَ عَلَيْهِمْ مِمَّا أُعْطي، لا ينقص ذلك مما أوتي شيئاً» (أخرجه عبد الرزاق عن ابن عباس مرفوعاً). وقوله تعالى: {وَأَنتُمْ فِيهَا} أَيْ فِي الْجَنَّةِ {خَالِدُونَ} أَيْ لَا تَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا تَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، ثم قيل لهم على مجه التَّفَضُّلِ وَالِامْتِنَانِ: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ أَعْمَالُكُمُ الصَّالِحَةُ كَانَتْ سَبَبًا لِشُمُولِ رَحْمَةِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ، فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أحداً عملُه الجنة ولكن برحمة الله وفضله، وإنما الدرجات ينال تفاوتها بحسب الأعمال الصالحات. روى ابن أبي حاتم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَنْزِلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ فيكون له حَسْرَةً، فَيَقُولُ: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، وَكُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَرَى مَنْزِلَهُ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} فيكون له شكراً"، قال: وما مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ ومنزل في النار، الكافر يَرِثُ الْمُؤْمِنَ مَنْزِلَهُ مِنَ النَّارِ، وَالْمُؤْمِنُ يَرِثُ الكافر منزله في الجنة وذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تعملون} (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعاً)، وقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ} أَيْ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ {مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} أَيْ مهما اخترتم وأردتم، ولما ذكر الطعام والشراب ذكر بعده الفاكهة لتتمم النعمة والغبطة، والله تعالى أعلم.

- 74 - إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ - 75 - لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ - 76 - وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين - 77 - وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ - 78 - لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ - 79 - أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ - 80 - أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ ثنَّى بِذِكْرِ الْأَشْقِيَاءِ، فَقَالَ: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} أَيْ سَاعَةً وَاحِدَةً {وَهُمْ فِيهِ مُّبْلِسُونَ} أَيْ آيِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} أي بأعمالكم السيئة بعد قيام الحجة عَلَيْهِمْ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُوا وَعَصَوْا فَجُوزُوا بِذَلِكَ جَزَاءً وِفَاقًا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ، {ونادوا يا مالك} وهو خازن النار، {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي يقبض أَرْوَاحَنَا فَيُرِيحَنَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ من عذابها}، وقال عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا}، فَلَمَّا سَأَلُوا أَنْ يَمُوتُوا أَجَابَهُمْ مَالِكٌ {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَكَثَ أَلْفَ

سنة، ثم قال {إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} أَيْ لَا خُرُوجَ لَكُمْ مِنْهَا وَلَا مَحِيدَ لَكُمْ عَنْهَا، ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ شِقْوَتِهِمْ وَهُوَ مُخَالَفَتُهُمْ لِلْحَقِّ وَمُعَانَدَتُهُمْ لَهُ فَقَالَ: {لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ} أَيْ بَيَّنَّاهُ لَكُمْ وَوَضَّحْنَاهُ وَفَسَّرْنَاهُ، {ولكنَّ أكثرهم لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} أَيْ وَلَكِنْ كَانَتْ سَجَايَاكُمْ لَا تَقْبَلُهُ وَلَا تُقْبِلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَنْقَادُ لِلْبَاطِلِ وتعظمه، وتصد عن الحق وتأباه، فَعُودُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِالْمَلَامَةِ، وَانْدَمُوا حَيْثُ لَا تنفعكم الندامة، ثم قال تبارك وتعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ}، قَالَ مُجَاهِدٌ: أرادوا كيد شر فكدناهم، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَتَحَيَّلُونَ فِي رَدِّ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ بِحِيَلٍ وَمَكْرٍ يَسْلُكُونَهُ، فَكَادَهُمُ اللَّهُ تعالى وَرَدَّ وَبَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم}، أَيْ سَرَّهُمْ وَعَلَانِيَتَهُمْ {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} أَيْ نَحْنُ نَعْلَمُ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَالْمَلَائِكَةُ أَيْضًا يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا.

- 81 - قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين - 82 - سُبْحَانَ رَبُّ السماوات وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ - 83 - فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ - 84 - وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ - 85 - وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السماوات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ - 86 - وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ - 87 - وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يؤفكون - 88 - وقيله يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ - 89 - فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ {إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ ولدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَيْ لَوْ فُرِضَ هذا لعبدته على ذلك، لأني مِنْ عَبِيدِهِ مُطِيعٌ لِجَمِيعِ مَا يَأْمُرُنِي بِهِ، لَيْسَ عِنْدِي اسْتِكْبَارٌ وَلَا إِبَاءٌ عَنْ عِبَادَتِهِ، فلو فرض هذا لكان هَذَا، وَلَكِنْ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجوار أيضاً، كما قال عزَّ وجلَّ: {لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الواحد القهار}، وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} أي الآنفين، وقال ابن عباس {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الشَّاهِدِينَ، وَقَالَ قتادة: هي كلمة من كلام العرب أَيْ إِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَلَا يَنْبَغِي، وقال أبو صخر {فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَيْ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ عَبَدَهُ بِأَنْ لَا وَلَدَ لَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ وحده، وقال مجاهد: أي أول من عبده وحده وَكَذَّبَكُمْ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ {فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} الْآنِفِينَ وَهُمَا لُغَتَانِ: رَجُلٌ عَابِدٌ وَعَبِدٌ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ على شرط وجزاء ولكن هو ممتنع (قال البيضاوي: لا يلزم منه صحة وجود الولد وعبادته له، بل المراد نفيهما على أبلغ الوجوه، وإنكاره للولد ليس لعناد ومراء، بل لو كان أولى الناس بالاعتراف به، فإن النبي يكون أعلم بالله وبما يصح له وما لا يصح. انتهى وهو قول جيد)، وقال السدي: معناه ولو كَانَ لَهُ وَلَدٌ كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ عَبَدَهُ بأن له ولداً، ولكن لَا وَلَدَ لَهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، ولهذا قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبُّ السماوات وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}

أَيْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ، عَنْ أن يكون له ولد، فإنه فرد صَمَدٌ، لَا نَظِيرَ لَهُ، وَلَا كُفْءَ لَهُ، فلا ولد له، وقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ} أَيْ فِي جَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ {وَيَلْعَبُواْ} فِي دُنْيَاهُمْ {حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَيْ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ مَصِيرُهُمْ وَمَآلُهُمْ وَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وقوله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} أَيْ هُوَ إِلَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَإِلَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ يَعْبُدُهُ أَهْلُهُمَا، وَكُلُّهُمْ خَاضِعُونَ لَهُ أَذِلَّاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، {وَهُوَ الْحَكِيمُ العليم} وهذه الآية كقوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي هو المدعو الله فِي السماوات والأرض {وَتَبَارَكَ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيْ هُوَ خَالِقُهُمَا وَمَالِكُهُمَا وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا بِلَا مُدَافَعَةٍ وَلَا مُمَانَعَةٍ، فَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ الْوَلَدِ {وَتَبَارَكَ} أَيِ اسْتَقَرَّ لَهُ السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ، لِأَنَّهُ الرَّبُّ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الْمَالِكُ لِلْأَشْيَاءِ، الَّذِي بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ نَقْضًا وَإِبْرَامًا، {وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} أَيْ لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلَّا هُوَ، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ {الشَّفَاعَةَ} أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الشَّفَاعَةِ لَهُمْ {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ عَلَى بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ، فَإِنَّهُ تَنْفَعُ شَفَاعَتُهُ عنده بإذنه له، ثم قال عزَّ وجلَّ: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أَيْ وَلَئِنْ سَأَلْتَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ {مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أَيْ هُمْ يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ جَمِيعِهَا وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالسَّفَاهَةِ وَسَخَافَةِ الْعَقْلِ، ولهذا قال تعالى: {فأنى يُؤْفَكُونَ}؟ وقوله جلَّ وعلا: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} أي وقال محمد صلى الله عليه وسلم {قِيلُهُ} أَيْ شَكَا إِلَى رَبِّهِ شَكْوَاهُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى في الآية الأُخْرى: {وَقَالَ الرسول يا رب إن قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً}، وقال مجاهد في قوله: {وقيله يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} قال: يؤثر الله عزَّ وجلَّ قول مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ قَوْلُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو قَوْمَهُ إِلَى رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، وقوله تعالى {فاصفح عَنْهُمْ}، أي عن الْمُشْرِكِينَ، {وَقُلْ سَلاَمٌ} أَيْ لَا تُجَاوِبْهُمْ بِمِثْلِ ما يخاطبونك به من الكلام السيء، وَلَكِنْ تَأَلَّفْهُمْ وَاصْفَحْ عَنْهُمْ فِعْلًا وَقَوْلًا، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} هذا تهديد من الله تَعَالَى لَهُمْ، وَلِهَذَا أَحَلَّ بِهِمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، وَأَعْلَى دِينَهُ وَكَلِمَتَهُ، وَشَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ الْجِهَادَ وَالْجِلَادَ، حَتَّى دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ فِي الْمَشَارِقِ والمغارب، والله أعلم.

44 - سورة الدخان

- 44 - سورة الدخان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - حم - 2 - وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ - 3 - إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ - 4 - فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ - 5 - أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ - 6 - رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم - 7 - رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ - 8 - لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الْأَوَّلِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، إِنَّهُ أَنْزَلَهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ وَهِيَ ليلة القدر، كما قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، كَمَا قال تبارك وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} أَيْ مُعَلِّمِينَ النَّاسَ مَا يَنْفَعُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ شَرْعًا لِتَقُومَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَقَوْلُهُ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٌ} أَيْ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يُفْصَلُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى الْكَتَبَةِ أَمْرُ السَّنَةِ، وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْآجَالِ وَالْأَرْزَاقِ وَمَا يَكُونُ فِيهَا إلى آخرها، وقوله جلَّ وعلا: {حَكِيمٌ} أَيْ مُحْكَمٌ لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ، ولهذا قال جلَّ جلاله {أَمْراً مِّنْ عِندِنَا} أَيْ جَمِيعَ مَا يَكُونُ وَيُقَدِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا يُوحِيهِ فَبِأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ وَعِلْمِهِ {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أَيْ إِلَى النَّاسِ رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ، فَإِنَّ الحاجة كانت ماسة إليه، ولهذا قال تعالى: {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي الذي أنزل القرآن هو رَبُّ السماوات وَالْأَرْضِ وَخَالِقُهُمَا وَمَالِكُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُتَحَقِّقِينَ، ثُمَّ قَالَ تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الْأَوَّلِينَ} وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إليكم جميعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} الآية.

- 9 - بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ - 10 - فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ - 11 - يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ - 12 - رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ - 13 - أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ - 14 - ثُمَّ تَوَلَّوْاْ

عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مجنون - 15 - إنا كاشفوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ - 16 - يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ يَقُولُ تَعَالَى: بَلْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ أَيْ قَدْ جَاءَهُمُ الحق الْيَقِينُ، وَهُمْ يَشُكُّونَ فِيهِ وَيَمْتَرُونَ وَلَا يُصَدِّقُونَ به، ثم قال عزَّ وجلَّ متوعداً لهم ومهدداً: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} قَالَ مسروق: دخلنا المسجد، يعني مسجد الكوفة، فَإِذَا رَجُلٌ يَقُصُّ عَلَى أَصْحَابِهِ {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} تَدْرُونَ مَا ذَلِكَ الدُّخَانُ؟ ذَلِكَ دُخَانٌ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ الْمُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمْ، وَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ شِبْهُ الزُّكَامِ، قال: فأتينا ابن مسعود رضي الله عنه فذكرنا ذلك له، وكان مضطجعاً ففزع منه فَقَعَدَ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَالَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين}، إِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِمَا لَا يَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، سَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَبْطَأَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَاسْتَعْصَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمْ مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ، حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ، وَجَعَلُوا يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَا يَرَوْنَ إِلَّا الدُّخَانَ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ من الجهد، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فَأُتي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ، فإنها قد هلكت، فاستسقى صلى الله عليه وسلم لهم، فسقوا، فنزلت: {إنا كاشفوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ}، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: أفيكشف عنهم العذاب يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَلَمَّا أَصَابَهُمُ الرَّفَاهِيَةُ عَادُوا إِلَى حالهم، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} قَالَ: يعني يوم بدر. قال ابن مسعود رضي الله عنه، فَقَدْ مَضَى خَمْسَةٌ: الدُّخَانُ وَالرُّومُ وَالْقَمَرُ وَالْبَطْشَةُ واللزام (الحديث مخرج في الصحيحين، ورواه أحمد والترمذي والنسائي). وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَمْضِ الدُّخَانُ بَعْدُ، بَلْ هُوَ مِنْ أَمَارَاتِ السَّاعَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حديث حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَشْرَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عرفة، وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ السَّاعَةَ، فَقَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدُّخَانُ، وَالدَّابَّةُ، وَخُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَخُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَالدَّجَّالُ، وَثَلَاثَةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمُشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ تَسُوقُ النَّاسَ - أَوْ تَحْشُرُ النَّاسَ - تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ حيث قالوا" (أخرجه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال لابن صياد: «إِنِّي خَبَأْتُ لَكَ خَبَأً»، قَالَ: هُوَ الدُّخ (الدُّخ والدَّخ: الدخان)، فقال صلى الله عليه وسلم لَهُ: «اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ» قَالَ: وَخَبَأَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ}. وعن أبي مالك الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ رَبَّكُمْ أَنْذَرَكُمْ ثَلَاثًا: الدُّخَانَ يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَالزُّكْمَةِ، وَيَأْخُذُ الْكَافِرَ، فَيَنْتَفِخُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ كُلِّ مَسْمَعٍ منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال" (أخرجه ابن جرير ورواه الطبراني، وإسناده جيد).

وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَهِيجُ الدُّخَانُ بِالنَّاسِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَأْخُذُهُ كَالزُّكْمَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَنْفُخُهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ كُلِّ مسمع منه»، وقال ابن أبي حاتم، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمْ تَمْضِ آيَةُ الدُّخَانِ بَعْدُ، يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزكام وتنفخ الكافر حتى ينفذ، وروى ابن جرير، عن عبد الله ابن أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: غَدَوْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: مَا نِمْتُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ، قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَ، قَالُوا: طَلَعَ الْكَوْكَبُ ذُو الذَّنَبِ، فَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ الدُّخَانُ قَدْ طَرَقَ فَمَا نِمْتُ حَتَّى أصبحت، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما حَبْرِ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ، وَهَكَذَا قَوْلُ مَنْ وافقه من الصحابة والتابعين رَّضِيَ الله عَنْهُمْ أجمعين من الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ مِنَ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَغَيْرِهِمَا الَّتِي أوردوها، مِمَّا فِيهِ مَقْنَعٌ وَدَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ الدُّخَانَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُنْتَظَرَةِ مَعَ أَنَّهُ ظَاهِرُ القرآن، قال الله تبارك وتعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} أَيْ بيِّن وَاضِحٍ يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَعَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ خَيَالٌ رَأَوْهُ فِي أَعْيُنِهِمْ مِّنَ شدة الجوع والجهد، وهكذا قوله تعالى: {يَغْشَى النَّاسَ} أَيْ يَتَغَشَّاهُمْ وَيَعُمُّهُمْ، وَلَوْ كَانَ أَمْرًا خَيَالِيًّا يَخُصُّ أَهْلَ مَكَّةَ الْمُشْرِكِينَ لَمَا قيل فيه {يَغْشَى الناس}، وقوله تعالى: {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تقريعاً وتوبيخاً كقوله عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ}، أو يقول بعضهم لبعض ذلك، وقوله سبحانه وتعالى: {رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ} أَيْ يَقُولُ الْكَافِرُونَ إِذَا عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ سائلين رفعه عنهم كقوله جلت عظمته: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ من المؤمنين}، وكذا قوله جلَّ وعلا: {وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل}، وهكذا قال جلَّ وعلا ههنا {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ معَلّم مَّجْنُونٌ}. يَقُولُ: كَيْفَ لَهُمْ بِالتَّذَكُّرِ وَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رَسُولًا بِّين الرِّسَالَةِ وَالنِّذَارَةِ، وَمَعَ هَذَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَمَا وَافَقُوهُ، بَلْ كَذَّبُوهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ، وهذا كقوله جلَّت عظمته: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى}؟ وقوله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} يَحْتَمِلُ معنيين: (أحدهما): أنه يقول تَعَالَى: وَلَوْ كَشَفْنَا عَنْكُمُ الْعَذَابَ وَرَجَعْنَاكُمْ إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا، لَعُدْتُمْ إِلَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ من الكفر والتكذيب، كقوله تعالى: {وَلَوْ رودوا لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. (وَالثَّانِي): أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: إِنَّا مُؤَخِّرُو الْعَذَابِ عَنْكُمْ قَلِيلًا بَعْدَ انْعِقَادِ أَسْبَابِهِ وَوُصُولِهِ إِلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ مُسْتَمِرُّونَ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالضَّلَالِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْكَشْفِ عَنْهُمْ أَنْ يَكُونَ بَاشَرَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حين} وَلَمْ يَكُنِ الْعَذَابُ بَاشَرَهُمْ وَاتَّصَلَ بِهِمْ بَلْ كان قد انعقد سببه عَلَيْهِمْ، وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَقْلَعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ ثُمَّ عَادُوا إِلَيْهِ، قَالَ الله تعالى إخباراً عن شعيب عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ حِينَ قَالُوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قال أو لو كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله منها}، وَشُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ عَلَى مِلَّتِهِمْ وَطَرِيقَتِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّكُمْ عَائِدُونَ إِلَى عذاب الله. وقوله عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ}: فَسَّرَ ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر، وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ

ذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَإِنْ كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ يوم بطشة أيضاً، روى عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قال ابن مسعود رضي الله عنه {الْبَطْشَةُ الْكُبْرَى} يَوْمُ بَدْرٍ، وَأَنَا أَقُولُ هِيَ يوم القيامة. وهذا إسناد صحيح عن ابن عباس، والله أعلم.

- 17 - وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ - 18 - أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أمين - 19 - وَأَن لاَّ تَعْلُواْ على اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ - 20 - وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ - 21 - وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَاعْتَزِلُونِ - 22 - فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ - 23 - فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ - 24 - وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ - 25 - كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - 26 - وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ - 27 - وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ - 28 - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ - 29 - فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ - 30 - وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ - 31 - مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ - 32 - وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ - 33 - وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ يَقُولُ تَعَالَى: وَلَقَدِ اخْتَبَرْنَا قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ قوم وَهُمْ قِبْطُ مِصْرَ، {وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} يَعْنِي موسى الكليم عليه الصلاة والسلام {أَنْ أدوا إِلَيَّ عِبَادَ الله}، كقوله عزَّ وجلَّ: {إن أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ ولا تعذبهم} الآية، وقوله جلَّ وعلا: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أَيْ مَأْمُونٌ عَلَى ما أبلغكموه، وقوله تعالى: {وَإِن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ} أَيْ لَا تَسْتَكْبِرُوا عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِهِ وَالِانْقِيَادِ لِحُجَجِهِ وَالْإِيمَانِ ببراهينه، كقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين}، {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أَيْ بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ واضحة وهي ما أرسله الله تعالى به من الآيات البينات والأدلة القاطعات، {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن ترجمونِ} قَالَ ابن عباس: هُوَ الرَّجْمُ بِاللِّسَانِ وَهُوَ الشَّتْمُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ أَيْ أَعُوذُ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَنِي وَخَلَقَكُمْ مِنْ أَنْ تَصِلُوا إِلَيَّ بِسُوءٍ مِنْ قولٍ أَوْ فِعْلٍ، {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فاعتزلونِ} أي فلا تعترضوا لي ودعوا الأمر مُسَالِمَةً إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَنَا، فَلَمَّا طال مقامه صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، وأقام حجج الله تعالى عَلَيْهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ وَمَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا كُفْرًا وَعِنَادًا، دَعَا رَبَّهُ عَلَيْهِمْ دَعْوَةً نَفَذَتْ فيهم، كما قال تبارك وتعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأليم * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما}، وهكذا قال ههنا {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، مِنْ غَيْرِ أَمْرِ فرعون ومشاورته واستئذانه، ولهذا قال جلَّ جلاله: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ}، كَمَا قَالَ تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً دَرَكاً وَلاَ تخشى}، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ}، وَذَلِكَ أن موسى عليه الصلاة والسلام لَمَّا جَاوَزَ هُوَ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ أَرَادَ موسى أن

يَضْرِبَهُ بِعَصَاهُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ لِيَصِيرَ حَائِلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فِرْعَوْنَ، فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ، فأمره الله تعالى أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ سَاكِنًا، وَبَشَّرَهُ بِأَنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَخَافُ دَرَكًا وَلَا يَخْشَى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً} كَهَيْئَتِهِ وَامْضِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {رَهْواً} طَرِيقًا يَبْسًا كَهَيْئَتِهِ، يَقُولُ لَا تَأْمُرْهُ يَرْجِعُ اتْرُكْهُ حتى يرجع آخرهم، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ} وَهِيَ الْبَسَاتِينُ {وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ} وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَنْهَارُ والآبار {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} وهي المساكن الحسنة، {وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ} أَيْ عِيشَةٍ كَانُوا يَتَفَكَّهُونَ فِيهَا، فَيَأْكُلُونَ مَا شَاءُوا وَيَلْبَسُونَ مَا أَحَبُّوا، مَعَ الْأَمْوَالِ وَالْجَاهَاتِ وَالْحُكْمِ فِي الْبِلَادِ، فَسُلِبُوا ذَلِكَ جَمِيعُهُ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفَارَقُوا الدُّنْيَا، وَصَارُوا إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَاسْتَوْلَى على البلاد المصرية والممالك القبطية بنو إِسْرَائِيلَ، كما قال تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إسرائيل} وقال في الآية الأُخْرى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا}، وقال عزَّ وجلَّ ههنا: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ كما تقدم. وقوله سبحانه وتعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} أَيْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ تَصْعَدُ فِي أَبْوَابِ السَّمَاءِ فَتَبْكِي عَلَى فَقْدِهِمْ، وَلَا لَهُمْ فِي الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم، فلهذا استحقوا أن لا يُنْظَرُوا وَلَا يُؤَخَّرُوا لِكُفْرِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ، روى الحافظ الموصلي، عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ فِي السَّمَاءِ بَابَانِ: بَابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِزْقُهُ، وَبَابٌ يَدْخُلُ مِنْهُ عَمَلُهُ وَكَلَامُهُ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدَاهُ وَبَكَيَا عَلَيْهِ"، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض} (أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، ورواه ابن أبي حاتم أيضاً بنحوه) وَذَكَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَمِلُوا عَلَى الْأَرْضِ عَمَلًا صَالِحًا يَبْكِي عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَصْعَدْ لَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَلَا مِنْ عَمَلِهِمْ كَلَامٌ طَيِّبٌ وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ فَتَفْقِدَهُمْ فَتَبْكِيَ عليهم، وروى ابن أبي حاتم، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ تَبْكِي السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ عَلَى أَحَدٍ؟ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ إِلَّا لَهُ مُصَلًّى فِي الْأَرْضِ وَمَصْعَدُ عَمَلِهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنَّ آلَ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا عَمَلٌ يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ}. وقال ابن جرير، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَتَى ابنَ عباس رضي الله عنهما فقال: يا أبا العباس، أرأيتِ قول الله تعالى {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} فَهَلْ تَبْكِي السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ عَلَى أَحَدٍ؟ قال رضي الله عنه: نَعَمْ، إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ إِلَّا وَلَهُ بَابٌ فِي السَّمَاءِ مِنْهُ يَنْزِلُ رِزْقُهُ، وَفِيهِ يَصْعَدُ عَمَلُهُ، فَإِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ فَأُغْلِقَ بَابُهُ مِنَ السَّمَاءِ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ فِيهِ عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه، وإذا فقده مُصَلَّاهُ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي فِيهَا ويذكر الله عزَّ وجلَّ فِيهَا بَكَتْ عَلَيْهِ، وَإِنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ آثَارٌ صَالِحَةٌ، وَلَمْ يصعد إلى الله عزَّ وجلَّ مِنْهُمْ خَيْرٌ، فَلَمْ تَبْكِ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ (أخرجه ابن جرير عن ابن عباس موقوفاً). وقال سفيان الثوري: تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحاً، وقال مجاهد: مَا مَاتَ مُؤْمِنٌ إِلَّا بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ والأرض أربعين صباحاً، فَقُلْتُ لَهُ: أَتَبْكِي الْأَرْضُ؟ فَقَالَ: أَتَعْجَبُ؟ وَمَا لِلْأَرْضِ لَا تَبْكِي عَلَى عَبْدٍ كَانَ يُعَمِّرُهَا بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؟ وَمَا لِلسَّمَاءِ لَا تَبْكِي عَلَى عَبْدٍ كَانَ لِتَكْبِيرِهِ وَتَسْبِيحِهِ فِيهَا دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ من أن تبكي عليهم السماء والأرض.

وقوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ} يمتن عليهم بِذَلِكَ حَيْثُ أَنْقَذَهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ إِهَانَةِ فِرْعَوْنَ وَإِذْلَالِهِ لَهُمْ، وَتَسْخِيرِهِ إِيَّاهُمْ فِي الأعمال المهينة الشاقة، وقوله تعالى: {مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً} أي مستكبراً جباراً عنيداً كقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض}، وقوله جلَّت عظمته: {فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً عالين}، {مِّنَ المسرفين} أي مسرف فِي أَمْرِهِ سَخِيفَ الرَّأْيِ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَوْلُهُ جلَّ جلاله: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} قَالَ مجاهد: عَلَى مَنْ هُمْ بَيْنَ ظَهْرَيْهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: اخْتِيرُوا عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِمْ ذَلِكَ، وَكَانَ يُقَالُ: إن لكل زمان عالماً، وهذا كقوله عزَّ وجلَّ لمريم عليها السلام {واصطفاك على نِسَآءِ العالمين} أي في زمنها، فإن خديجة رضي الله عنها أفضل منها، أو مساوية لها في الفضل، وكذا آسية امرأة فرعون، وفضل عائشة رضي الله عنها عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ، وقوله جلَّ جلاله: {وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيات} الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ {مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ} أي اختيار جَلِيٌّ لِمَنِ اهْتَدَى بِهِ.

- 34 - إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ - 35 - إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ - 36 - فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 37 - أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْمَعَادَ، وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، وَلَا حَيَاةَ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَلَا بَعْثَ وَلَا نُشُورَ، وَيَحْتَجُّونَ بِآبَائِهِمُ الْمَاضِينَ الَّذِينَ ذَهَبُوا فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَإِنْ كَانَ الْبَعْثُ حَقًّا {فَأْتُواْ بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} وَهَذِهِ حُجَّةٌ باطلة وشبه فَاسِدَةٌ، فَإِنَّ الْمَعَادَ إِنَّمَا هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لا في الدار الدنيا، بَلْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا وَذَهَابِهَا وَفَرَاغِهَا يُعِيدُ اللَّهُ الْعَالَمِينَ خَلْقًا جَدِيدًا، وَيَجْعَلُ الظَّالِمِينَ لِنَارِ جَهَنَّمَ وقوداً، ثم قال تعالى متهدداً وَمُتَوَعِّدًا وَمُنْذِرًا لَهُمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، كما حل بأشباههم ونظرائهم من المشركين المنكرين للبعث، كقوم تُبَّع وهم (سبأ) حيث أهلكهم الله عزَّ وجلَّ وَخَرَّبَ بِلَادَهُمْ، وَشَرَّدَهُمْ فِي الْبِلَادِ وَفَرَّقَهُمْ شَذَرَ مَذَرَ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ سَبَأٍ.

- 38 - وَمَا خَلَقْنَا السماوات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ - 39 - مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ - 40 - إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ - 41 - يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ - 42 - إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ وَتَنْزِيهِهِ نَفْسَهُ عن اللعب والعبث والباطل {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} كقوله جلَّ وعلا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من النار}. وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ ترجعون}؟ ثم قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} وهو يوم القيامة يفصل الله تعالى فِيهِ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، فَيُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ وَيُثِيبُ الْمُؤْمِنِينَ، وقوله عزَّ وجلَّ {مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} أَيْ يَجْمَعُهُمْ كُلَّهُمْ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ {يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً} أي لا ينفع قريب قريباً كقوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يتسألون}، وكقوله جلتَّ عظمته: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ}، أَيْ لَا يسأل أخ أَخًا لَهُ عَنْ حَالِهِ وَهُوَ يَرَاهُ عِيَانًا، وقوله جلَّ وعلا:

{وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}، أَيْ لَا يَنْصُرُ الْقَرِيبُ قريبه ولا يأتيه نصر مِنْ خَارِجٍ، ثُمَّ قَالَ: {إِلَّا مَنْ رَّحِمَ الله} أي لا ينفع يومئذٍ إلاّ رحمة الله عزَّ وجلَّ بخلقه {إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم} أي عَزِيزٌ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ.

- 43 - إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ - 44 - طَعَامُ الْأَثِيمِ - 45 - كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ - 46 - كَغَلْيِ الْحَمِيمِ - 47 - خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ - 48 - ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ - 49 - ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ - 50 - إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ يَقُولُ تعالى مخبراً عما يعذب بع الْكَافِرِينَ الْجَاحِدِينَ لِلِقَائِهِ {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثيم} و {الأثيم} أَيْ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَهُوَ الْكَافِرُ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ (أَبُو جَهْلٍ)، وَلَا شَكَّ فِي دُخُولِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ خاصة به، قال هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ: أَنْ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يُقْرِئُ رَجُلًا: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} فقال: طعام اليتيم، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْفَاجِرِ، أَيْ لَيْسَ له طعام من غيرها (أخرجه ابن جرير)، قال مجاهد: ولو وقعت قطرة منها فِي الْأَرْضِ لَأَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مَعَايِشَهُمْ (تقدم نحو هذا مرفوعاً)، وقوله {كالمهل} كَعَكَرِ الزَّيْتِ {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} أي من حرارتها ورداءتها، وقوله تعالى {خُذُوهُ} أي الْكَافِرَ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا قَالَ للزبانية {خذوه} ابتدره سبعون ألفاً منهم، وقوله {فَاعْتِلُوهُ} أَيْ سُوقُوهُ سَحْبًا وَدَفْعًا فِي ظَهْرِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} أَيْ خُذُوهُ فَادْفَعُوهُ، {إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ} أَيْ وَسَطِهَا {ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} كقوله عزَّ وجلَّ: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رؤوسهم الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ}. وتقدم أن الملك يضر به بمقمعة من حديد متفتح دِمَاغَهُ، ثُمَّ يُصَبُّ الْحَمِيمُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَنْزِلُ فِي بَدَنِهِ، فَيَسْلِتُ مَا فِي بَطْنِهِ مِنْ أَمْعَائِهِ حَتَّى تَمْرُقَ مِنْ كَعْبَيْهِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ تعالى من ذلك، وقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} أَيْ قُولُوا لَهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ وَالتَّوْبِيخِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ لَسْتَ بِعَزِيزٍ وَلَا كَرِيمٍ، وَقَدْ قَالَ الْأُمَوِيُّ فِي مُغَازِيهِ، حدثنا أسباط بن محمد، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا جَهْلٍ، لَعَنَهُ اللَّهُ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ لَكَ: «أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى»، قَالَ، فَنَزَعَ ثَوْبَهُ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ: مَا تَسْتَطِيعُ لِي أَنْتَ وَلَا صَاحِبُكَ مِنْ شَيْءٍ، وَلَقَدْ عَلِمْتَ أَنِّي أَمْنَعُ أَهْلِ الْبَطْحَاءِ، وَأَنَا الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. قَالَ: فَقَتَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ وَأَذَلَّهُ، وعَّيره بِكَلِمَتِهِ، وَأَنْزَلَ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم}. وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} كَقَوْلِهِ تعالى: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ}؟

- 51 - إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ - 52 - فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - 53 - يَلْبَسُونَ مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ - 54 - كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ - 55 - يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ - 56 - لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ

إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ - 57 - فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - 58 - فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ - 59 - فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ عَطَفَ بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الْقُرْآنُ مَثَانِيَ، فَقَالَ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} أَيْ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا {فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} أي في الآخرة، وهو الجنة وقد أَمِنُوا فِيهَا مِنَ الْمَوْتِ وَالْخُرُوجِ، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ وَحُزْنٍ وَجَزَعٍ وَتَعَبٍ وَنَصَبٍ، وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَكَيْدِهِ وَسَائِرِ الْآفَاتِ وَالْمَصَائِبِ {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا أُولَئِكَ فِيهِ مِنْ شجرة الزَّقُّومِ وَشُرْبِ الْحَمِيمِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ} وَهُوَ رَفِيعُ الْحَرِيرِ، كَالْقُمْصَانِ وَنَحْوِهَا، {وَإِسْتَبْرَقٍ} وَهُوَ ما فيه بريق ولمعان، وذلك كالريش وما يلبس على عالي الْقُمَاشِ {مُّتَقَابِلِينَ} أَيْ عَلَى السُّرُرِ لَا يَجْلِسُ أحد منهم وظهره إلى غيره، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} أَيْ هَذَا الْعَطَاءُ مع ما قد منحناهم من الزوجات الحسان الحور العين اللَّاتِي {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} روى ابن أبي حاتم، عن أَنس رضي الله عنه رفعه قَالَ: لَوْ أَنَّ حَوْرَاءَ بَزَقَتْ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ لعذب ذلم الماء لعذوبة ريقها. وقوله عزَّ وجلَّ: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} أَيْ مَهْمَا طَلَبُوا مِنْ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ أُحْضِرَ لَهُمْ، وَهُمْ آمِنُونَ مِنِ انْقِطَاعِهِ وَامْتِنَاعِهِ بَلْ يَحْضُرُ إِلَيْهِمْ كلما أرادوا، وقوله: {لا يذقون فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى}، هَذَا اسْتِثْنَاءٌ يؤكد النفي، ومعناه أنهم لا يذقون فِيهَا الْمَوْتَ أَبَدًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُؤْتَى بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٌ أَمْلَحُ فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أهل النار خلود فلا موت" (أخرجاه في الصحيحين، وقد تقدم في سورة مريم). وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَعِيشُوا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تشبوا فلا تهرموا أبداً» (أخرجه مسلم في صحيحه). وقوله تعالى: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أَيْ مَعَ هَذَا النَّعِيمِ العظيم المقيم، قد وقاهم ونجاهم وزحزحهم عن العذاب الأليم، في دركات الجحيم، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أَيْ إِنَّمَا كَانَ هَذَا بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اعْمَلُوا وَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا لَنْ يُدْخِلَهُ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ»، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ منه وفضل»، وقوله تبارك وتعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أَيْ إِنَّمَا يَسَّرْنَا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ سَهْلًا وَاضِحًا بَيِّنًا جَلِيًّا بِلِسَانِكَ الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَجْلَاهَا وَأَحْلَاهَا وَأَعْلَاهَا، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أَيْ يَتَفَهَّمُونَ ويعملون، ثم لما كان مع هذا الوضوح والبيان، مِنَ النَّاسِ مَنْ كَفَرَ وَخَالَفَ وَعَانَدَ، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَلِّيًا لَهُ وَوَاعِدًا لَهُ بِالنَّصْرِ، وَمُتَوَعِّدًا لِمَنْ كذبه بالعطف وَالْهَلَاكِ {فَارْتَقِبْ} أَيِ انْتَظِرْ {إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} أَيْ فسيعلمون لمن تكون النصرة وَالظَّفَرُ، وَعُلُوُّ الْكَلِمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّهَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ وَلِإِخْوَانِكَ

مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَمَنِ اتَّبَعَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدار}.

45 - سورة الجاثية

- 45 - سورة الجاثية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - حم - 2 - تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ - 3 - إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ - 4 - وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ - 5 - وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يُرْشِدُ تَعَالَى خَلْقَهُ إلى التفكير في آلائه ونعمه، وقد رته العظيمة التي خلق بها السماوات والأرض، وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ، مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ، وَالطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ، وَمَا فِي الْبَحْرِ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي تَعَاقُبِهِمَا دَائِبَيْنِ لَا يَفْتُرَانِ، هَذَا بِظَلَامِهِ، وَهَذَا بِضِيَائِهِ، وَمَا أنزل الله تبارك وتعالى مِنَ السَّحَابِ، مِنَ الْمَطَرِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَسَمَّاهُ رِزْقًا لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الرِّزْقُ {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أَيْ بَعْدَ مَا كَانَتْ هَامِدَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا شيء، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَتَصْرِيفِ الرياح} أي جنوباً وشمالاً برية وبحرية، ليلة وَنَهَارِيَّةً، وَمِنْهَا مَا هُوَ لِلْمَطَرِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ لِلِّقَاحِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غِذَاءٌ لِلْأَرْوَاحِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَقِيمٌ لَا يَنْتِجُ، وَقَالَ سبحانه أَوَّلًا {لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} ثُمَّ {يُوقِنُونَ} ثُمَّ {يَعْقِلُونَ} وَهُوَ تَرَقٍّ مِنْ حَالٍ شَرِيفٍ إِلَى مَا هُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ وَأَعْلَى، وَهَذِهِ الْآيَاتُ شَبِيهَةٌ بآية البقرة وهي قوله تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

- 6 - تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ - 7 - وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ - 8 - يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - 9 - وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ - 10 - مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ

شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - 11 - هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ يقول تعالى {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} يَعْنِي الْقُرْآنَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} أَيْ مُتَضَمِّنَةً الْحَقَّ مِنَ الْحَقِّ، فَإِذَا كَانُوا لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَلَا يَنْقَادُونَ لَهَا {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}؟ ثم قال تعالى {ويل لكل أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} أفاك في قوله أي كذاب {أَثِيمٍ} في فعله وقلبه كَافِرٍ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ} أَيْ تُقْرَأُ عَلَيْهِ {ثُمَّ يُصِرُّ} أَيْ عَلَى كُفْرِهِ وَجُحُودِهِ، اسْتِكْبَارًا وَعِنَادًا {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} كَأَنَّهُ مَا سَمِعَهَا {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ فأخبره أن له عند الله تعالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابًا أَلِيمًا مُوجِعًا، {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً} أَيْ إِذَا حَفِظَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ كَفَرَ بِهِ، وَاتَّخَذَهُ سُخْرِيًّا وَهُزُوًا {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا اسْتَهَانَ بِالْقُرْآنِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ، ولهذا «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أن يناله العدو» (رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما)، ثُمَّ فَسَّرَ الْعَذَابَ الْحَاصِلَ لَهُ يَوْمَ مَعَادِهِ فَقَالَ {مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ} أَيْ كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ سَيَصِيرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً} أَيْ لَا تَنْفَعُهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ، {وَلاَ مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ} أَيْ وَلَا تُغْنِي عَنْهُمُ الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ شَيْئًا {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، ثُمَّ قَالَ تبارك وتعالى: {هَذَا هُدًى} يَعْنِي الْقُرْآنَ {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} وَهُوَ المؤلم الموجع، والله سبحانه وتعالى أعلم.

- 12 - اللَّهُ الَّذِي سخَّر لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - 13 - وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ - 14 - قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ - 15 - مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ يَذْكُرُ تَعَالَى نعهم عَلَى عَبِيدِهِ فِيمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الْبَحْرِ {لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} وَهِيَ السُّفُنُ فِيهِ بِأَمْرِهِ تَعَالَى فإنه هو الذي أمر البحر بحملها {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أَيْ فِي الْمَتَاجِرِ وَالْمَكَاسِبِ، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أَيْ عَلَى حُصُولِ الْمَنَافِعِ الْمَجْلُوبَةِ إِلَيْكُمْ، مِنَ الْأَقَالِيمِ النَّائِيَةِ وَالْآفَاقِ الْقَاصِيَةِ، ثُمَّ قال عزَّ وجلَّ {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أَيِ من الكواكب والجبال والبحار والأنهار، الْجَمِيعُ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَلِهَذَا قَالَ {جَمِيعاً مِّنْهُ} أَيْ مِنْ عِنْدِهِ وَحْدَهُ لَا شريك له، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، وَقَوْلُهُ تعالى: {قُلْ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله}، أي ليصفحوا عنهم، ويتحملوا الآذى منهم، وكان هذا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، أُمِرُوا أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى أذى المشركين وأهل الكتاب، ليكون ذلك

كالتأليف لهم، ثُمَّ لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ، شَرَعَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْجِلَادَ وَالْجِهَادَ (هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عباس وقتادة، وقال مجاهد: {لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} أي لا ينالون نعم الله تعالى، يريد لأنهم لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة ولا بلقاء الله)، وقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أَيْ إِذَا صَفَحُوا عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ الله عزَّ وجلَّ مُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أَيْ تَعُودُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتُعْرَضُونَ بِأَعْمَالِكُمْ عَلَيْهِ فَيَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ خيرها وشرها، والله سبحانه وتعالى أعلم.

- 16 - وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ - 17 - وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ - 18 - ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ - 19 - إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ - 20 - هَذَا بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ يَذْكُرُ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنْ إِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَجَعْلِهِ الْمُلْكَ فِيهِمْ، وَلِهَذَا قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بني لإسرائيل الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} أَيْ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أَيْ فِي زَمَانِهِمْ {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ} أَيْ حججاً وبراهين وأدلة قاطعات، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بَعْدَ قِيَامِ الحجة، وإنما كان ذلك بغياً منهم {إِنَّ رَبَّكَ} يَا مُحَمَّدُ {يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَيْ سَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ، وَهَذَا فِيهِ تَحْذِيرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، أَنْ تَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ، وَأَنْ تَقْصِدَ مَنْهَجَهُمْ، ولهذا قال جلَّ وعلا: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} أَيِ اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين، وقال جلَّ جلاله ههنا: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أَيْ وَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ وِلَايَتُهُمْ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا؟ فَإِنَّهُمْ لَا يَزِيدُونَهُمْ إِلَّا خَسَارًا وَدَمَارًا وَهَلَاكًا، {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} وَهُوَ تَعَالَى يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، ثم قال عزَّ وجلَّ: {هذا بَصَائِرُ لِّلنَّاسِ} يعني القرآن {هدى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.

- 21 - أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ - 22 - وَخَلَقَ الله السماوات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ - 23 - أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ

يَقُولُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ كَمَا قال في آية أُخْرى: {لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وأصحاب الحنة أَصْحَابُ الجنة هُمْ الفائزون} وقال تبارك وتعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} أَيْ عَمِلُوهَا وَكَسَبُوهَا {أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ}؟ أي نساويهم بها فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أَيْ سَاءَ مَا ظَنُّوا بِنَا وَبِعَدْلِنَا أَنْ نُسَاوِيَ بين الأبرار والفجار، فكما لَا يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبُ، كَذَلِكَ لَا ينال الفجار منازل الأبرار، ذكر محمد بن إسحاق أنهم وجدوا حجراً بمكة من أُسِّ الْكَعْبَةِ، مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ «تَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ وَتَرْجُونَ الحسنات، أجل كما يجنى من الشوك العنب». وعن مَسْرُوقٍ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ قَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ يُرَدِّدُ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وعملوا الصالحات} (أخرجه الطبراني عن أبي الضحى عن مسروق) وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}، وَقَالَ عزَّ وجلَّ: {وَخَلَقَ الله السماوات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أَيْ بِالْعَدْلِ، {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}، ثُمَّ قَالَ جلَّ وعلا: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أَيْ إِنَّمَا يَأْتَمِرُ بِهَوَاهُ، فَمَهْمَا رَآهُ حَسَنًا فَعَلَهُ، وَمَهْمَا رآه قبيحاً تركه، لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا عَبَدَهُ، وَقَوْلُهُ: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} يَحْتَمِلُ قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا): وَأَضَلَّهُ اللَّهُ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، (وَالْآخَرُ): وَأَضَلَّهُ اللَّهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْعِلْمِ إِلَيْهِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ وَلَا يَنْعَكِسُ، {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} أَيْ فَلَا يَسْمَعُ مَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَعِي شَيْئًا يَهْتَدِي بِهِ، وَلَا يَرَى حُجَّةً يَسْتَضِيءُ بها، ولهذا قال تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}؟ كقوله تَعَالَى: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.

- 24 - وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ - 25 - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 26 - قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الدَّهْرِيَّةِ مِنَ الْكُفَّارِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي إِنْكَارِ الْمَعَادِ {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} أَيْ مَا ثَمَّ إِلَّا هَذِهِ الدَّارُ، يَمُوتُ قَوْمٌ وَيَعِيشُ آخَرُونَ، وَمَا ثَمَّ مَعَادٌ وَلَا قِيَامَةٌ، وَهَذَا يَقُولُهُ مُشْرِكُو الْعَرَبِ الْمُنْكِرُونَ المعاد، وتقوله الفلاسفة الدهرية الْمُنْكِرُونَ لِلصَّانِعِ، الْمُعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي كُلِّ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يَعُودُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا قَدْ تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا العقول وَكَذَّبُوا الْمَنْقُولَ، وَلِهَذَا قَالُوا: {وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} أَيْ يتوهمون ويتخيلون، فأما الحديث الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقول تَعَالَى يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ»، وَفِي رواية: «لا تسبوا الدهر فإن الله تعالى هو الدهر» (أخرجاه في الصحيحين، ورواه أبو داود والنسائي) فقد قال الشافعي وأبو عبيدة في تفسير الحديث: كَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا إِذَا أَصَابَهُمْ شِدَّةٌ أَوْ بَلَاءٌ أَوْ نَكْبَةٌ، قَالُوا: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَيُسْنِدُونَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ إِلَى الدَّهْرِ، وَيَسُبُّونَهُ، وإنما فاعلها هو الله تعالى، فَكَأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَبُّوا اللَّهَ

عزَّ وجلَّ، لِأَنَّهُ فَاعِلُ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، لأن الله تعالى هُوَ الدَّهْرُ الَّذِي يَعْنُونَهُ وَيُسْنِدُونَ إِلَيْهِ تِلْكَ الْأَفْعَالَ، هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ وهو المراد، والله أعلم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي إذا بيّن لهم الحق، وأن الله تعالى قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَبْدَانِ بَعْدَ فَنَائِهَا وَتَفَرُّقِهَا {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، أَيْ أَحْيَوْهُمْ إِنْ كَانَ مَا تَقُولُونَهُ حَقًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} أَيْ كَمَا تُشَاهِدُونَ ذَلِكَ يُخْرِجُكُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يحييكم}؟ أَيِ الَّذِي قَدَرَ عَلَى الْبُدَاءَةِ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه}، {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} أَيْ لَا شَكَّ فِيهِ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ فَلِهَذَا يُنْكِرُونَ الْمَعَادَ وَيَسْتَبْعِدُونَ قِيَامَ الْأَجْسَادِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً} أَيْ يَرَوْنَ وُقُوعَهُ بَعِيدًا، وَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ ذَلِكَ سهلاً قريباً.

- 27 - وَللَّهِ مُلْكُ السماوات وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ - 28 - وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ - 29 - هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مالك السماوات والأرض، والحاكم فيهما في الدنيا والآخرة، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {يَخْسَرُ المبطلون} وهم الكافرون بالله والجاحدون بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ، مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ والدلائل الواضحات، ثم قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} أَيْ عَلَى رُكَبِهَا من الشدة والعظمة، ويقال: إن هذا إِذَا جِيءَ بِجَهَنَّمَ، فَإِنَّهَا تَزْفِرُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ، حَتَّى إِبْرَاهِيمُ الخليل عليه الصلاة والسلام، وَيَقُولُ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، لَا أَسْأَلُكَ الْيَوْمَ إلاّ نفسي، وحتى إن عيسى عليه الصلاة والسلام لَيَقُولُ: لَا أَسْأَلُكَ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي، لَا أسألك مريم التي ولدتني، قال مجاهد: {كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} أَيْ عَلَى الرُّكَبِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {جَاثِيَةً} مُتَمَيِّزَةً عَلَى نَاحِيَتِهَا، وَلَيْسَ عَلَى الركب، والأول أولى لما روي عن عبد الله بن أباه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَأَنِّي أَرَاكُمْ جَاثِينَ بِالْكَوَمِ دُونَ جَهَنَّمَ» (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ)، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا في حديث الصور: فَيَتَمَيَّزُ النَّاسُ، وَتَجْثُو الْأُمَمُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} وَهَذَا فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَلَا مُنَافَاةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} يَعْنِي كِتَابَ أعمالها كقوله جلَّ جلاله: {وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهداء}، ولهذا قال سُبْحَانَهُ وتعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ تُجَازَوْنَ بأعمالكم خيرها وشرها، كقوله عزَّ وجلَّ: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}، ولهذا قال جلَّت عظمته: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} أَيْ يَسْتَحْضِرُ جَمِيعَ أَعْمَالِكُمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، كقوله جلَّ جلاله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أحداً}، وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ

مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُ الْحَفَظَةَ أَنْ تَكْتُبَ أَعْمَالَكُمْ عَلَيْكُمْ، قَالَ ابْنُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: تَكْتُبُ الْمَلَائِكَةُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابل الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ فِي دِيوَانِ الْأَعْمَالِ عَلَى مَا بأيدي الكتبة، مِمَّا قَدْ أُبْرِزَ لَهُمْ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِمَّا كَتَبَهُ اللَّهُ فِي الْقِدَمِ عَلَى الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، فَلَا يَزِيدُ حَرْفًا وَلَا يَنْقُصُ حَرْفًا، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.

- 30 - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ - 31 - وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ - 32 - وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ - 33 - وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ - 34 - وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ - 35 - ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ - 36 - فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السماوات وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - 37 - وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السماوات وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حكمه في خلقه يوم القيامة فقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أَيْ آمَنَتْ قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة، وَهِيَ الْخَالِصَةُ الْمُوَافِقَةُ لِلشَّرْعِ {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} وَهِيَ الْجَنَّةُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ (هذا جزء من حديث أخرجه الشيخان وأوله: "تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أورثت بالمتكبرين، وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلاّ سقط الناس وضعفاؤهم؟ فأوحى الله للجنة أنت رحمتي" ... الخ) {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} أَيِ البيِّن الْوَاضِحُ، ثم قال تعالى {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ}؟ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وتوبيخاً، أما قرئت عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله تعالى، فاستكبرتم عن اتباعها وأعرضتم عن سماعها، وكنتم قوماً مجرمين فِي أَفْعَالِكُمْ، مَعَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ؟ {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا} أَيْ إِذَا قَالَ لَكُمُ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ {قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} أَيْ لَا نَعْرِفُهَا {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً} أَيْ إِنْ نَتَوَهَّمُ وُقُوعَهَا إِلَّا تَوَهُّمًا أَيْ مَرْجُوحًا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا نَحْنُ مستيقنين} أَيْ بِمُتَحَقِّقِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أَيْ وَظَهَرَ لَهُمْ عُقُوبَةُ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ {وَحَاقَ بِهِم} أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ} أَيْ نُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ النَّاسِي لَكُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، {كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أَيْ فَلَمْ تَعْمَلُوا لَهُ لأنكم لم تصدقوا به {وَمَأْوَاكُمُ النار ومالكم مِّن نَّاصِرِينَ}، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِبَعْضِ الْعَبِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: "أَلَمْ أُزَوِّجْكَ؟ أَلَمْ أُكْرِمْكَ؟ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرَبَّعُ؟

فَيَقُولُ: بَلَى يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «فَالْيَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي»، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} أَيْ إِنَّمَا جَازَيْنَاكُمْ هَذَا الْجَزَاءَ، لِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ حُجَجَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ سُخْرِيًّا تَسْخَرُونَ وَتَسْتَهْزِئُونَ بِهَا، {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أَيْ خَدَعَتْكُمْ فَاطْمَأْنَنْتُمْ إِلَيْهَا فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسرين، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا} أَيْ مِنَ النَّارِ، {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أَيْ لَا يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْعُتْبَى، بَلْ يُعَذَّبُونَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عِتَابٍ، كَمَا تَدْخُلُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عذاب ولا حساب. ثم لما ذكر تعالى حُكْمَهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ قَالَ {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السماوات وَرَبِّ الْأَرْضِ} أَيِ الْمَالِكِ لَهُمَا وَمَا فِيهِمَا، ولهذا قال: {رَبِّ العالمين}، ثم قال جلَّ وعلا: {وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات وَالْأَرْضِ}، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي السُّلْطَانَ، أَيْ هُوَ الْعَظِيمُ الْمُمَجَّدُ الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ خَاضِعٌ لَدَيْهِ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الْعَظَمَةُ إِزَارِي، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا منهما أسكنته ناري" (وفي رواية: فمن نازعني فيهما قصمته ولا أبالي، والحديث في صحيح مسلم)، وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أَيِ الَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ، {الْحَكِيمُ} فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، تعالى وتقدس لا إله إلا هو.

46 - سورة الأحقاف

- 46 - سورة الأحقاف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - حم - 2 - تَنزِيلُ الْكِتَابِ من الله العزيز الحكيم - 3 - مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ - 4 - قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - 5 - وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ - 6 - وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ أُنزِلَ الْكِتَابَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعِزَّةِ الَّتِي لَا تُرَامُ وَالْحِكْمَةِ فِي الأقوال والأفعال، ثم قال تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} أَيْ لَا عَلَى وَجْهِ الْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ، {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} أَيْ وإلى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مَضْرُوبَةٍ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ} أَيْ لَاهُونَ عما يراد بهم، وقد أنزل الله تعالى إليهم كتاباً، وأرسل إليهم رسولاً، وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَيْ وَسَيَعْلَمُونَ غب ذلك، ثم قال تعالى {قُلْ} أَيْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْعَابِدِينَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ {أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الْأَرْضِ} أَيْ أَرْشِدُونِي إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي اسْتَقَلُّوا بِخَلْقِهِ مِنَ الْأَرْضِ {أم لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات}؟ ولا شرك لهم في السماوات وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنِ الْمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ كُلُّهُ إِلَّا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَتُشْرِكُونَ بِهِ؟ مَنْ أَرْشَدَكُمْ إِلَى هَذَا؟ مَنْ دَعَاكُمْ إِلَيْهِ؟ أَهْوَ أَمَرَكُمْ بِهِ؟ أَمْ هُوَ شَيْءٌ اقْتَرَحْتُمُوهُ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ؟ وَلِهَذَا قَالَ {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا} أَيْ هَاتُوا كِتَابًا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يَأْمُرُكُمْ بِعِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} أَيْ دَلِيلٍ بَيِّنٍ عَلَى هَذَا الْمَسْلَكِ الَّذِي سَلَكْتُمُوهُ {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ لا دليل لكم لا نقلياً ولا عقلياً على ذلك، قال مجاهد {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} أَوْ أَحَدٍ يَأْثُرُ علماً، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْ بَيِّنَةٍ مِنَ الْأَمْرِ،

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: أَوْ بَقِيَّةٍ من علم، وقال ابن عباس ومجاهد {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} يَعْنِي الْخَطَّ، وَقَالَ قَتَادَةُ {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} خَاصَّةٍ مِنْ علم، وكل هذه الأقوال متقاربة، وهي راجحة إِلَى مَا قُلْنَاهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ رحمه الله، وقوله تبارك وتعالى: {ومن أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ}؟ أَيْ لَا أَضَلَّ مِمَّنْ يَدْعُو مِن دُونِ الله أَصْنَامًا، وَيَطْلُبُ مِنْهَا مَا لَا تَسْتَطِيعُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ غَافِلَةٌ عَمَّا يَقُولُ لَا تسمع ولا تبصر، لأنها جماد وحجارة صم، وقوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} كقوله عزَّ وجلَّ: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} أَيْ سَيَخُونُونَهُمْ أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار ومالكم من ناصرين}.

- 7 - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ - 8 - أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - 9 - قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ يقول عزَّ وجلَّ مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، أَنَّهُمْ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللَّهِ {بَيِّنَاتٍ} أَيْ فِي حَالِ بَيَانِهَا وَوُضُوحِهَا وَجَلَائِهَا، يَقُولُونَ: {هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أَيْ سِحْرٌ وَاضِحٌ وَقَدْ كَذَبُوا وَافْتَرَوْا وَضَلُّوا وَكَفَرُوا، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أَيْ لَوْ كَذَبْتُ عَلَيْهِ وَزَعَمْتُ أَنَّهُ أَرْسَلَنِي، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَعَاقَبَنِي أَشَدَّ الْعُقُوبَةِ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لَا أَنْتُمْ وَلَا غَيْرُكُمْ أَن يُجِيرَنِي مِنْهُ، كَقَوْلِهِ تبارك وتعالى: {قُلِ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تقوَّل عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين} ولهذا قال سُبْحَانَهُ وتعالى ههنا: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} هَذَا تَهْدِيدٌ لهم ووعيد أكيد، وترهيب شديد، وقوله جل وعلا: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} تَرْغِيبٌ لَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، أَيْ وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ إِنْ رَجَعْتُمْ وتبتم تاب الله عَلَيْكُمْ، وَعَفَا عَنْكُمْ وغفر ورحم، وهذه الآية كقوله عزَّ وجلَّ: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}، وقوله تبارك وتعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ} أَيْ لَسْتُ بِأَوَّلِ رَسُولٍ طَرَقَ الْعَالَمَ، بَلْ قَدْ جَاءَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِي، فَمَا أَنَا بِالْأَمْرِ الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدون بعثتي إليكم، فإنه قد أرسل الله جلَّ وعلا قَبْلِي جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى الْأُمَمِ، قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ} مَا أنا بأول رسول بُعث إلى الناس. وقوله تعالى: {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} قال ابن عباس: نَزَلَ بَعْدَهَا {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخر} (هكذا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تعالى {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ

ذنبك وما تأخر}، ولمل نزلت هذه الآية قَالُوا: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا لنا؟ فأنزل الله تَعَالَى: {لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}) وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي ولا بكم} أي مَا أَدْرِي بِمَاذَا أُومَرَ وَبِمَاذَا أُنْهَى بَعْدَ هذا؟ وقال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} أما في الآخرة فمعاذ الله وقد عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ، وَلَكِنْ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي الدنيا، أخرج كما أخرجت الأنبياء؟ أَمْ أُقْتل كَمَا قُتِلَتِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِي؟ وَلَا أَدْرِي أَيُخْسَفُ بِكُمْ أَوْ تُرْمَوْنَ بِالْحِجَارَةِ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ جَازِمٌ أَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى الْجَنَّةِ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ؛ وَأَمَّا فِي الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُ وَأَمْرُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، إِلَى مَاذَا أَيُؤْمِنُونَ أَمْ يَكْفُرُونَ فَيُعَذَّبُونَ، فَيُسْتَأْصَلُونَ بِكُفْرِهِمْ؟ فَأَمَّا الحديث الذي رواه ابْنِ شِهَابٍ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أم العلاء - وَكَانَتْ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: طَارَ لَهُمْ فِي السُّكْنَى حِينَ اقْتَرَعَتِ الْأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ (عُثْمَانُ بْنُ مظعون) رضي الله عنه، فاشتكى عثمان فمرَّضناه حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ أَدْرَجْنَاهُ فِي أَثْوَابِهِ، فدخل عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ شَهَادَتِي عليك، لقد أكرمك الله عزَّ وجلَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وما يدريك أن الله تعالى أَكْرَمَهُ؟» فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي، قَالَتْ، فَقُلْتُ: "وَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا، وأحزنني ذلك، فنمت فرأيت لعثمان رضي الله عنه عَيْنًا تَجْرِي، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاكَ عَمَلُهُ» (انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ) وَفِي لَفْظٍ: «مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِهِ» - وَهَذَا أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَحْفُوظُ، بدليل قولها؛ فأحزنني ذلك - ففي هَذَا وَأَمْثَالِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِمُعَيَّنٍ بِالْجَنَّةِ، إِلَّا الَّذِي نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى تعينهم كالعشرة المبشرين بالجنة، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة وما أشبههم وَقَوْلُهُ: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} أَيْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُنَزِّلُهُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الْوَحْيِ، {وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي بيّن النذارة أمري ظاهر، لكل ذي لب وعقل، والله أعلم.

- 10 - قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - 11 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ - 12 - وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ - 13 - إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ - 14 - أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْكَافِرِينَ بِالْقُرْآنِ {أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ} هَذَا الْقُرْآنُ {مِنْ عِندِ

اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ}؟ أَيْ مَا ظَنُّكُمْ أَنَّ اللَّهَ صَانِعٌ بِكُمْ، إِن كَانَ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ قَدْ أَنْزَلَهُ عَلَيَّ لِأُبَلِّغَكُمُوهُ، وَقَدْ كَفَرْتُمْ بِهِ وَكَذَّبْتُمُوهُ؟ {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} أَيْ وَقَدْ شَهِدَتْ بِصِدْقِهِ وَصِحَّتِهِ الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عليهم الصلاة والسلام قَبْلِي، بَشَّرَتْ بِهِ وَأَخْبَرَتْ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ هذا القرآن به، وقوله عزَّ وجلَّ: {فَآمَنَ} أَيْ هَذَا الَّذِي شَهِدَ بِصِدْقِهِ مِنْ بني إسرائيل لمعرفته بحقيقته، {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} أَنْتُمْ عَنِ اتِّبَاعِهِ، وَقَالَ مَسْرُوقٌ: فَآمَنَ هَذَا الشَّاهِدُ بِنَبِيِّهِ وَكِتَابِهِ وَكَفَرْتُمْ أَنْتُمْ بِنَبِيِّكُمْ وَكِتَابِكُمْ، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وَهَذَا يعم (عبد الله بن سلام) وغيره، كقوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا قبله مسلمين} وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سجداً} الآية، وروى مالك، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بن سلام رضي الله عنه، قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ بَنِي إسرائيل على مثله} (أخرجه البخاري ومسلم والنسائي)، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} أَيْ قَالُوا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ خَيْرًا مَا سبقنا هؤلاء إليه، يعنون (بلالاً) و (عمّاراً) و (صهيباً) و (خباباً) رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وأشباههم من المستضعفين والعبيد والإماء، غلطوا في ذلك غلطاً فاحشاً وأخطأوا خطأ بيّناً كما قال تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ منَّ الله عَلَيْهِم من بيننا} أَيْ يَتَعَجَّبُونَ كَيْفَ اهْتَدَى هَؤُلَاءِ دُونَنَا وَلِهَذَا قَالُوا: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ}، وَأَمَّا أَهْلُ السنَّة وَالْجَمَاعَةِ فَيَقُولُونَ فِي كُلِّ فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ: هُوَ بِدْعَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقُونَا إِلَيْهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الخير إلاّ وقد بادروا إليها، وقوله تعالى: {وإذ يَهْتَدُواْ بِهِ} أَيْ بِالْقُرْآنِ {فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} أي كذب قديم مأثور عن الناس الْأَقْدَمِينَ، فَيَنْتَقِصُونَ الْقُرْآنَ وَأَهْلَهُ، وَهَذَا هُوَ الْكِبْرُ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بطرُ الحق وغَمْطُ الناس» ((بطر الحق) أي دفعه وعدم قبوله، و (غمط الناس) أي احتقارهم وازدراءهم). ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} وَهُوَ التَّوْرَاةُ {إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {مُّصَدِّقٌ} أَيْ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ {لِّسَاناً عَرَبِيّاً} أَيْ فَصِيحًا بَيِّنًا وَاضِحًا {لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} أَيْ مُشْتَمِلٌ عَلَى النِّذَارَةِ لِلْكَافِرِينَ، وَالْبِشَارَةِ للمؤمنين، وقوله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ، وقوله تعالى: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أَيْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} عَلَى مَا خَلَّفُوا {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أَيِ الْأَعْمَالُ سَبَبٌ لِنَيْلِ الرَّحْمَةِ لَهُمْ وَسُبُوغِهَا عليهم، والله أعلم.

- 15 - وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ - 16 - أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى التَّوْحِيدَ لَهُ وَإِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ إِلَيْهِ، عَطَفَ بِالْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ، كَمَا هُوَ مَقْرُونٌ فِي غَيْرِ مَا آية من القرآن كقوله عزَّ وجلَّ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحساناً}، وقوله جلَّ جلاله: {أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَقَالَ عزَّ وجلَّ ههنا: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} أَيْ أَمَرْنَاهُ بِالْإِحْسَانِ إليهما والحنو عليهما، روى أبو داود الطيالسي، عن سعد رضي الله عنه قَالَ، قَالَتْ أُمُّ سَعْدٍ لِسَعْدٍ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ؟ فَلَا آكُلُ طَعَامًا ولا أشرب شراباً حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعَتْ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، حَتَّى جَعَلُوا يَفْتَحُونَ فَاهَا بِالْعَصَا، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إحساناً} الآية (أخرجه الطيالسي، ورواه مسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجة بإسناد نَحْوَهُ وَأَطْوَلَ مِنْهُ)، {حَمَلَتْهُ أُمّه كُرْهاً} أَيْ قَاسَتْ بِسَبَبِهِ فِي حَالِ حَمْلِهِ مَشَقَّةً وَتَعَبًا، من وَحَم وَغَشَيَانٍ وَثِقَلٍ وَكَرْبٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ مِمَّا تَنَالُ الْحَوَامِلُ مِنَ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ، {وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أَيْ بِمَشَقَّةٍ أَيْضًا مِنَ الطَّلْقِ وَشِدَّتِهِ، {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} وقد استدل بِهَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الَّتِي فِي لُقْمَانَ {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}، عَلَى أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وهو استنباط قوي صحيح، روى محمد بن إسحاق، عن معمر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ قَالَ: تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنَّا امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ لِتَمَامِ ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان رضي الله عنه، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا فَلَمَّا قَامَتْ لِتَلَبِسَ ثِيَابَهَا بَكَتْ أُخْتُهَا، فَقَالَتْ: مَا يُبْكِيكِ، فَوَاللَّهِ مَا الْتَبَسَ بِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ الله تعالى غيره قط، فيقضي الله سبحانه وتعالى فيَّ مَا شَاءَ، فَلَمَّا أُتِيَ بِهَا عُثْمَانُ رضي الله عنه أمر برجمها، فبلغ ذلك علياً رضي الله عنه، فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: مَا تَصْنَعُ؟ قَالَ: وَلَدَتْ تَمَامًا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ له علي رضي الله عنه: أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ أَمَا سمعت الله عزَّ وجلَّ يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} وقال: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} فَلَمْ نَجِدْهُ بَقَّى إِلَّا سِتَّةَ أشهر، قال، فقال عثمان رضي الله عنه: والله ما فطنت بهذا، عليَّ بِالْمَرْأَةِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ فُرِغَ مِنْهَا، قَالَ، فقال معمر: فَوَاللَّهِ مَا الْغُرَابُ بِالْغُرَابِ، وَلَا الْبَيْضَةُ بِالْبَيْضَةِ بِأَشْبَهَ مِنْهُ بِأَبِيهِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُوهُ قَالَ: ابني والله لا أشك فيه، قال، وابتلاه الله تعالى بهذه القرحة بوجهه الآكلة، فما زالت تأكله حتى مات (أخرجه ابن أبي حاتم، قال ابن كثير: وقد أوردناه من وجه آخر)، وقال ابن عباس: إِذَا وَضَعَتِ الْمَرْأَةُ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ كَفَاهُ مِنَ الرَّضَاعِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، وَإِذَا وَضَعَتْهُ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ كَفَاهُ مِنَ الرَّضَاعِ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، وإذا وضعته لستة أشهر فهولين كَامِلَيْنِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} {حتى بَلَغَ أَشُدَّهُ} أَيْ قَوِيَ وَشَبَّ وَارْتَجَلَ، {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} أَيْ تَنَاهَى عَقْلُهُ، وَكَمُلَ فَهْمُهُ وَحِلْمُهُ، وَيُقَالُ إِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ غَالِبًا عَمَّا يكون عليه ابن الأربعين، وروى الحافظ الموصلي، عن عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ إِذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً خَفَّفَ اللَّهُ حِسَابَهُ، وَإِذَا بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً رَزَقَهُ اللَّهُ الْإِنَابَةَ إِلَيْهِ، وَإِذَا بَلَغَ سَبْعِينَ سَنَةً أَحَبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَإِذَا بلغ ثمانين سنة ثَّبت الله تعالى حَسَنَاتِهِ وَمَحَا سَيِّئَاتِهِ، وَإِذَا بَلَغَ تِسْعِينَ سَنَةً غفر الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَشَفَّعَهُ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، وَكُتِبَ فِي السَّمَاءِ أَسِيرَ الله في أرضه» (أخرجه الحافظ الموصلي، وروي من غير هذا الوجه في مسند الإمام أحمد). {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} أَيْ أَلْهِمْنِي {أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عليَّ وَعَلَى والديَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ}

أَيْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أَيْ نَسْلِي وَعَقِبِي، {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وَهَذَا فِيهِ إِرْشَادٌ لِمَنْ بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ أَنْ يُجَدِّدَ التَّوْبَةَ وَالْإِنَابَةَ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ وَيَعْزِمُ عَلَيْهَا، وَقَدْ رَوَى أَبُو داود في سنته عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم كان يُعَلِّمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي التَّشَهُّدِ: «اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنِ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُلُوبِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ، مُثِنِينَ بِهَا عَلَيْكَ قَابِلِيهَا، وأتممها علينا» (أخرجه أبو داود في السنن). قال الله عزَّ وجلَّ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة} أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُتَّصِفُونَ بِمَا ذَكَرْنَا، التَّائِبُونَ إِلَى اللَّهِ الْمُنِيبُونَ إِلَيْهِ، الْمُسْتَدْرِكُونَ مَا فَاتَ بِالتَّوْبَةِ والاستغفار، هم الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ، وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ، فَيَغْفِرُ لَهُمُ الْكَثِيرَ مِنَ الزَّلَلِ، ونتقبل مِنْهُمُ الْيَسِيرَ مِنَ الْعَمَلِ {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} أَيْ هُمْ فِي جُمْلَةِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَهَذَا حكمهم عند الله كما وعد الله عزَّ وجلَّ من تاب إليه وأناب، ولهذا قال تعالى: {وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ}، روى ابن أبي حاتم، عن محمد بن حاطب قال: لقد شهدت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه، وعنده (عمار) و (صعصة) و (الأشتر) و (محمد بن أبي بكر) رَّضِيَ الله عَنْهُمْ، فذكروا عثمان رضي الله عنه فنالوا منه، فكان علي عَلَى السَّرِيرِ وَمَعَهُ عُودٌ فِي يَدِهِ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إِنْ عِندَكُمْ مِّن يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، فسألوه، فقال علي رضي الله عنه: كَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ} قال: والله عثمان وأصحاب عثمان رَّضِيَ الله عَنْهُمْ، قَالَهَا ثَلَاثًا. قَالَ يُوسُفُ: فَقُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ حاطب: آللَّهِ لَسمعتَ هَذَا مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه؟ قَالَ: آللَّهِ لَسمعتْ هَذَا مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عنه (أخرجه ابن أبي حاتم).

- 17 - وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ - 18 - أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ - 19 - وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ - 20 - وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الدَّاعِينَ لِلْوَالِدَيْنِ الْبَارِّينَ بِهِمَا، وَمَا لَهُمْ عِنْدَهُ مِنَ الْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ، عَطَفَ بِحَالِ الْأَشْقِيَاءِ الْعَاقِّينَ لِلْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ قَالَ هَذَا، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي (عَبْدِ الرحمن بن أبي بكر) رضي الله عنهما فقوله ضعيف، لأن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَكَانَ مِنْ خيار أهل زمانه، وَإِنَّمَا هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ وَكَذَّبَ بِالْحَقِّ فَقَالَ لِوَالِدَيْهِ:

أف لكمآ. روى ابن أبي حاتم، عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمَدِينِيُّ قَالَ: إِنِّي لَفِي الْمَسْجِدِ حِينَ خَطَبَ مَرْوَانُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تعالى قد أَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي يَزِيدَ رَأْيًا حَسَنًا، وَإِنْ يَسْتَخْلِفْهُ، فَقَدِ اسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ رضي الله عنهما، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: أهرقلية؟ إن أبا بكر رضي الله عنه وَاللَّهِ مَا جَعَلَهَا فِي أَحَدٍ مِنْ وَلَدِهِ، وَلَا أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَا جَعَلَهَا مُعَاوِيَةُ فِي وَلَدِهِ إِلَّا رَحْمَةً وَكَرَامَةً لِوَلَدِهِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: أَلَسْتَ الَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ: أُفٍ لكما؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه: أَلَسْتَ ابْنَ اللَّعِينِ الَّذِي لَعَنَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أباك، قال وقد سمعتهما عائشة رضي الله عنها فَقَالَتْ: يَا مَرْوَانُ! أَنْتَ الْقَائِلُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ رضي الله عنه كَذَا وَكَذَا؟ كَذَبْتَ، مَا فِيهِ نَزَلَتْ، وَلَكِنْ نزلت في فلان بن فلان، ثن انْتَحَبَ مَرْوَانُ، ثُمَّ نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ، حَتَّى أَتَى بَابَ حُجْرَتِهَا فَجَعَلَ يُكَلِّمُهَا حَتَّى انْصَرَفَ (أخرجه ابن أبي حاتم، ورواه البخاري بإسناد آخر ولفظ آخر). وروى النسائي، عن محمد بن زياد قال: قال لما بلغ معاوية رضي الله عنه لِابْنِهِ قَالَ مَرْوَانُ: سُنَّةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمْرَ رضي الله عنهما، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: سُنَّةُ هِرَقْلَ وَقَيْصَرَ، فَقَالَ مَرْوَانُ: هَذَا الَّذِي أنزل الله تعالى فيه: {والذي قال لوالديه أُفٍ لَّكُمَآ}، فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فَقَالَتْ: كَذَبَ مَرْوَانُ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِهِ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ لَسَمَّيْتُهُ، وَلَكِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ أَبَا مَرْوَانَ وَمَرْوَانُ فِي صُلْبِهِ، فمروانٌ فضَضٌ مَن لَّعَنَهُ الله (أخرجه النسائي في سننه. ومعنى (فضض): قطعة). وقوله: {أتعداني أَنْ أُخْرَجَ}؟ أي أبعث، {وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِي} آي قَدْ مَضَى النَّاسُ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ، {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} أَيْ يَسْأَلَانِ اللَّهَ فِيهِ إِنَّ يَهْدِيَهُ وَيَقُولَانِ لِوَلَدِهِمَا: {وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ} أَيْ دَخَلُوا فِي زُمْرَةِ أَشْبَاهِهِمْ وَأَضْرَابِهِمْ مِنَ الْكَافِرِينَ الْخَاسِرِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ} بَعْدَ قَوْلِهِ {وَالَّذِي قَالَ} دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ جِنْسٌ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ الْكَافِرُ الْفَاجِرُ الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ الْمُكَذِّبُ بِالْبَعْثِ، وقوله تبارك وتعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} أَيْ لِكُلٍّ عَذَابٌ بِحَسَبِ عَمَلِهِ، {وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أَيْ لَا يَظْلِمُهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فَمَا دُونَهَا، قال عبد الرحمن بن زيد: دَرَجَاتُ النَّارِ تَذْهَبُ سَفَالاً، وَدَرَجَاتُ الْجَنَّةِ تَذْهَبُ علواً، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}، أَيْ يقال لهم ذلك تقريحاً وَتَوْبِيخًا، وَقَدْ تَوَرَّعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ طيبات المآكل والمشارب وتنزه عنها وقال: إني أَخَافُ إِنْ أكون من الذين قال الله لهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}، وقوله عزَّ وجلَّ: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} جُوزوا من جنس عملهم، فكما متعوا أَنْفُسَهُمْ وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَتَعَاطَوُا الْفِسْقَ والمعاصي، جازاهم الله تبارك وتعالى بِعَذَابِ الْهُونِ، وَهُوَ الْإِهَانَةُ وَالْخِزْيُ وَالْآلَامُ الْمُوجِعَةُ، وَالْحَسَرَاتُ الْمُتَتَابِعَةُ، وَالْمُنَازِلُ فِي الدَّرَكَاتِ المفظِعة، أَجَارَنَا الله سبحانه وتعالى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.

- 21 - وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ - 22 - قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ - 23 - قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ - 24 - فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ - 25 - تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهُ {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} وهو {هود} عليه الصلاة والسلام، بعثه الله عزَّ وجلَّ إِلَى عَادٍ الْأُولَى، وَكَانُوا يَسْكُنُونَ الْأَحْقَافَ، جَمْعُ حِقْف، وهو الجبل من الرمل، وقال عكرمة: الأحقاف: الجبل والغار، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عَادًا كَانُوا حَيًّا بِالْيَمَنِ أَهْلَ رَمْلٍ مُشْرِفِينَ عَلَى الْبَحْرِ بأرض يقال لها الشِّحْر، وقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ}، يعني وقد أرسل الله تعالى من حول بلادهم في القرى مرسلين ومنذرين، كقوله عزَّ وجلَّ: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أَيْ قال لهم هود ذلك فأجاب قومه قائلين {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا}؟ أَيْ لِتَصُدَّنَا عَنْ آلِهَتِنَا، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} اسْتَعْجَلُوا عَذَابَ اللَّهِ وعقوبته، استبعاداً منهم وقوعه، كقوله جلَّت عظمته: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا}، {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ} أَيِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِتَعْجِيلِ الْعَذَابِ فسيفعل ذلك بكم، وأما أنا فمن شأني أن أُبْلِغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} أَيْ لَا تَعْقِلُونَ وَلَا تَفْهَمُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} أَيْ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ مُسْتَقْبِلَهُمْ، اعْتَقَدُوا أَنَّهُ عَارِضٌ مُمْطِرٌ فَفَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَقَدْ كَانُوا مُمْحِلِينَ مُحْتَاجِينَ إِلَى الْمَطَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي قُلْتُمْ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، {تُدَمِّرُ} أَيْ تُخَرِّبُ {كُلَّ شَيْءٍ} مِنْ بِلَادِهِمْ مِمَّا مِنْ شَأْنِهِ الْخَرَابُ، {بِأَمْرِ رَبِّهَا} أَيْ بإذن الله لها في ذلك، كقوله سبحانه وتعالى: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم} أي كالشيء البالي، ولهذا قال الله عزَّ وجلَّ: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} أَيْ قَدْ بَادُوا كُلُّهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ وَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ بَاقِيَةٌ، {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} أَيْ هَذَا حكمنا فيمن كذَّب رسلنا وخالف أمرنا. يروى أن عاداً قحطوا فبعثوا وفداً يُقَالُ لَهُ (قَيْلُ) فَمَرَّ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا يَسْقِيهِ الْخَمْرَ، وَتُغَنِّيهِ جَارِيَتَانِ، يُقَالُ لَهُمَا الْجَرَادَتَانِ، فَلَمَّا مَضَى الشَّهْرُ خَرَجَ إِلَى جِبَالِ مَهْرَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجِئْ إِلَى مَرِيضٍ فَأُدَاوِيهِ، وَلَا أَسِيرٍ فَأُفَادِيهِ، اللَّهُمَّ اسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ تَسْقِيهِ، فَمَرَّتْ بِهِ سَحَّابَاتٌ سُودُ، فَنُودِيَ مِنْهَا اختر، فأومأ إلى سحابة سوداء، فنودي منها خذها رماداً رِمْدَداً (يقال: رِمْدِدُ ورِمْدَد ورِمْديد: أي كثير دقيق جداً)، لا تبقي من عاد أحداً، فما أرسل عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا قَدْرُ

ما يجري في الخاتم حتى هلكوا، قال أبو وائل: وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ إِذَا بَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ، قالوا: لا تكن كوافد عاد (أخرجه الإمام أحمد عن الحارث البكري. وهو حديث غريب كما قال ابن كثير من غرائب الحديث وأفراده). وروى الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إنما كان يبتسم. وقالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ ذَلِكَ في وجهه. قالت: يا رسول الله إن النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ في وجهك الكراهية؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَائِشَةُ مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عذاب، قد عُذَّب قوم بالريح، وقد أرى قوم العذاب وقالوا هذا عارض ممطرنا» (أخرجه أحمد، ورواه الشيخان من حديث ابن وهب عن عائشة رضي الله عنها). وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ؛ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ ما أرسلت به». قالت: وإذا تخبَّلت السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، وإذا أمطرت سري عنه، فعرفت ذلك عائشة رضي الله عنها، فسألته، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عارض ممطرنا} " (أخرجه مسلم في صحيحه)، وقد ذكرنا قصة هلاك قوم عاد في سورة الأعراف وهود بما أغنى عن إعادته ههنا، ولله الحمد والمنة.

- 26 - وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ - 27 - وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ - 28 - فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ يقول تعالى: وَلَقَدْ مكننا الْأُمَمَ السَّالِفَةَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ مِنْهَا مَا لَمْ نُعْطِكُمْ مِثْلَهُ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، أي وحاط بِهِمُ الْعَذَابُ وَالنَّكَالُ الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ ويستعبدون وُقُوعَهُ، أَيْ فَاحْذَرُوا أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ أَنْ تَكُونُوا مثلهم فيصيبكم مثل مَآ أَصَابَكُمْ من العذاب في الدنيا والآخرة، وقوله تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى} يَعْنِي أهل مكة، وقد أَهْلَكَ اللَّهُ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ بِالرُّسُلِ مِمَّا حَوْلَهَا كَعَادٍ وَكَانُوا بِالْأَحْقَافِ بِحَضْرَمَوْتَ عِنْدَ الْيَمَنِ، وَثَمُودَ وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ، وَكَذَلِكَ سَبَأٌ وَهُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَمَدْيَنُ وَكَانَتْ فِي طَرِيقِهِمْ وَمَمَرِّهِمْ إِلَى غَزَّةَ، وَكَذَلِكَ بُحَيْرَةُ قَوْمِ لُوطٍ كانوا يمرون بها أيضاً، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَصَرَّفْنَا الآيات} أي بيناها وأوضحناها {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ} أي فهل نَصَرُوهُمْ عِنْدَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِمْ، {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} أَيْ بَلْ ذَهَبُوا عَنْهُمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إليهم،

{وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} أَيْ كَذِبُهُمْ، {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي وافتراؤهم في اتخاذ إِيَّاهُمْ آلِهَةً، وَقَدْ خَابُوا وَخَسِرُوا فِي عِبَادَتِهِمْ لها واعتمادهم عليها، والله أعلم.

- 29 - وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ - 30 - قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ - 31 - يَا قَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - 32 - وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ رُوي عَنِ الزُّبَيْرِ {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} قَالَ: بِنَخْلَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، {كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لبداً} صلى الله عليه وسلم وكانوا سبعة من جن نصيبين «(تفرد به الإمام أحمد). وروى الحافظ البيهقي في كتابه» دلائل النبوة" عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ، انْطَلَقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظَ. وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلَّا شَيْءٌ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا يَبْتَغُونَ مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بِنَخْلَةَ عَامِدًا إِلَى سُوقِ عُكَاظَ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ فَقَالُوا: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَهُنَالِكَ حِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدًا}، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجن} وإنما أوحي إليه قول الجن (أخرجه البيهقي ورواه البخاري ومسلم بنحوه). وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ: هَبَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ فَلَمَّا سَمِعُوهُ، قَالُوا: أَنْصِتُوا، قَالَ: صَهٍ، وَكَانُوا تِسْعَةً، أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضيَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ - إِلَى - ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} فَهَذَا مع رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقْتَضِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْعُرْ بِحُضُورِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، وَإِنَّمَا اسْتَمَعُوا قِرَاءَتَهُ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَفَدُوا إِلَيْهِ أَرْسَالًا، قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ، وَفَوْجًا بَعْدَ فوج، قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عباس رضي الله عنهما إنما هو أَوَّلِ مَا سمعتِ الْجِنُّ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِمَتْ حَالَهُ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَرَهُمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ دَاعِي الْجِنِّ فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ. روى الإمام مسلم، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَلْقَمَةَ: هَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ قَالَ، فَقَالَ عَلْقَمَةُ: أَنَا سَأَلْتُ ابن مسعود رضي الله عنه فَقُلْتُ: هَلْ شَهِدَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَفَقَدْنَاهُ فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقيل: اسْتُطِيرَ؟ اغْتِيلَ؟ قَالَ، فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قومٌ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا هُوَ جَاءَ مِنْ قِبَلِ حِرَاء، قَالَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْنَاكَ فَطَلَبْنَاكَ فَلَمْ نَجِدْكَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَقَالَ: «أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُمْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ»، قَالَ: فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، وَسَأَلُوهُ الزَّادَ، فَقَالَ: «كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ أَوْ رَوْثَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ»، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم» (أخرجه مسلم في صحيحه). وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بِتُّ اللَّيْلَةَ أَقْرَأُ عَلَى الْجِنِّ واقفاً بالحجون» (أخرجه ابن جرير). (طريق أُخْرى): قال ابن جرير، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ بْنِ شبة الخزاعي - وكان أهل الشام - قال: إن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: «مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ الْجِنِّ اللَّيْلَةَ فَلْيَفْعَلْ»، فَلَمْ يَحْضُرْ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرِي، قَالَ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إذا كنا بأعلى مكة خط بِرِجْلِهِ خَطًّا، ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أَجْلِسَ فِيهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَامَ، فَافْتَتَحَ الْقُرْآنَ، فَغَشِيَتْهُ أَسْوِدَةٌ كَثِيرَةٌ حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، حَتَّى مَا أَسْمَعُ صَوْتَهُ، ثُمَّ طَفِقُوا يَتَقَطَّعُونَ مِثْلَ قِطَعِ السَّحَابِ ذَاهِبِينَ، حَتَّى بَقِيَ مِنْهُمْ رَهْطٌ فَفَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْفَجْرِ، فَانْطَلَقَ فَتَبَرَّزَ، ثُمَّ أَتَانِي فَقَالَ: «مَا فَعَلَ الرَّهْطُ؟» فَقُلْتُ: هُمْ أُولَئِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُمْ عَظْمًا وَرَوْثًا زَادًا، ثُمَّ نَهَى أن يستطيب أحد بروث أو عظم (أخرجه ابن جرير، ورواه البيهقي وأبو نعيم بنحوه). وعن قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القرآن} قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ صُرِفُوا إِلَيْهِ مِنْ (نِينَوَى) وَأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَى الْجِنِّ، فَأَيُّكُمْ يَتْبَعُنِي؟» فَأَطْرَقُوا، ثُمَّ اسْتَتْبَعَهُمْ، فَأَطْرَقُوا، ثُمَّ اسْتَتْبَعَهُمُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ذَاكَ لَذُو نُدْبَةٍ، فَأَتْبَعَهُ ابْنُ مسعود رضي الله عنه أخو هزيل، قال: فدخل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعْبًا يُقَالُ لَهُ (شِعْبُ الْحَجُونِ) وَخَطَّ عَلَيْهِ، وَخَطَّ عَلَى ابْنِ مسعود رضي الله عنه خطاً لِيُثْبِتَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أُهالُ وَأَرَى أَمْثَالَ النُّسُورِ تَمْشِي فِي دَفُوفِهَا، وَسَمِعْتُ لَغَطًا شَدِيدًا حَتَّى خِفْتُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا اللَّغَطُ الَّذِي سَمِعْتُ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «اختصموا في قتيل فقضي بينهم بالحق» (أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم، وهو حديث مرسل). فهذه الطريق تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهَبَ إِلَى الْجِنِّ قَصْدًا، فَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ ودعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ، أَمَّا الْجِنُّ الَّذِينَ لَقُوهُ بِنَخْلَةَ فَجِنُّ نِينَوَى، وَأَمَّا الْجِنُّ الَّذِينَ لَقُوهُ بِمَكَّةَ فَجِنُّ نَصِيبِينَ، وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: كان أبو هريرة رضي الله عنه يَتْبَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإداوة لوضوحه وحاجته، فأدركه يوماً فقال: «ما هذا؟»، قال: أنا أبو هريرة، قال صلى الله عليه وسلم: «ائْتِنِي بِأَحْجَارٍ أَسْتَنْجِ بِهَا وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثَةٍ»، فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ فِي ثَوْبِي، فَوَضَعْتُهَا إلى جنبه، حتى فَرَغَ وَقَامَ اتَّبَعْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ما بال العظم والروثة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ

نصيبين فسألوني الزاد، فدعوت الله تعالى لهم أن لا يمروا بروثة ولا عظم، إِلَّا وَجَدُوهُ طَعَامًا» (أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ). وقال سفيان الثوري، عن ابن مسعود رضي الله عنه: كَانُوا تِسْعَةً أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ، أَتَوْهُ مِنْ أَصْلِ نخلة، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى سِتِّينَ رَاحِلَةً، وقيل كانوا ثلثمائة، فَلَعَلَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ دَلِيلٌ عَلَى تَكَرُّرِ وِفَادَتِهِمْ عليه صلى الله عليه وسلم. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ في صحيحه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال: ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشيء قط إني لأظنه هكذا، إِلَّا كَانَ كَمَا يَظُنُّ، بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الخطاب رضي الله عنه جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ، فَقَالَ: لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي، أَوْ إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ، عليَّ بِالرَّجُلِ، فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فقال: ما رأيت كاليوم أستقبل به رَجُلٌ مُسْلِمٌ، قَالَ: فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي، قَالَ: كُنْتُ كَاهِنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ؟ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِي السُّوقِ جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الْفَزَعَ، فَقَالَتْ: أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلَاسَهَا * وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا * وَلُحُوقَهَا بِالْقِلَاصِ وأحلاسها قال عمر رضي الله عنه: صَدَقَ، بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ، فَذَبَحَهُ، فَصَرَخَ بِهِ صَارِخٌ لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ، يَقُولُ: يَا جَلِيحُ، أَمْرٌ نَجِيحٌ رَجُلٌ فَصِيحٌ يقول: لا إله إلا الله، قال: فَوَثَبَ الْقَوْمُ، فَقُلْتُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا، ثُمَّ نَادَى: يَا جَلِيحُ أَمْرٌ نَجِيحٌ رَجُلٌ فَصِيحٌ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقُمْتُ فَمَا نَشِبْنَا أَنْ قِيلَ: هذا نبي" (هذا لفظ البخاري وقد رواه البيهقي بنحوه). وقوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ} أَيْ طَائِفَةً مِّنَ الْجِنِّ، {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُواْ} أَيْ اسْتَمِعُوا وَهَذَا أَدَبٌ مِنْهُمْ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: "مالي أَرَاكُمْ سُكُوتًا؟ لَلْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ مِنْكُمْ رَدًّا، مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ مَرَّةٍ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إِلَّا قَالُوا: وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ آلَائِكَ أَوْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فلك الحمد" (أخرجه الحافظ البيهقي، ورواه الترمذي وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ عن زهير). وقوله عزَّ وجلَّ: {فَلَمَّا قُضِيَ} أي فرغ كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة}، {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ}، {وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} أَيْ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَأَنْذَرُوهُمْ مَا سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كقوله جلَّ وعلا: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يحذرون}، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ فِي الجن نُذُرٌ وليس فيهم رسل، فأما قوله تبارك وتعالى في الْأَنْعَامِ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ منكم}؟ فَالْمُرَادُ مِنْ مَجْمُوعِ الْجِنْسَيْنِ فَيَصْدُقُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْإِنْسُ، كَقَوْلِهِ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} أَيْ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَ إِنْذَارَ الْجِنِّ لِقَوْمِهِمْ، فَقَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ: {قَالُواْ يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} وَلَمْ يَذْكُرُوا عِيسَى، لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أنزل عليه الإنجيل، فيه مواعظ وَقَلِيلٌ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كَالْمُتَمِّمِ لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، فَالْعُمْدَةُ هُوَ التَّوْرَاةُ، فَلِهَذَا قالوا {أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى} {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب

المنزلة على الأنبياء قبله، {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} أَيْ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْإِخْبَارِ، {وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} فِي الْأَعْمَالِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مشتمل على: خَبَرٍ وَطَلَبٍ، فَخَبَرُهُ صِدْقٌ، وَطَلَبُهُ عَدْلٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً}، وَهَكَذَا قَالَتِ الْجِنُّ {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} فِي الِاعْتِقَادَاتِ، {وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} أَيْ فِي الْعَمَلِيَّاتِ {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ} فِيهِ دَلَالَةٌ على أنه تعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين، الجن والإنس، حيث دعاهم إلى الله تعالى وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ السُّورَةَ الَّتِي فِيهَا خِطَابُ الْفَرِيقَيْنِ وَتَكْلِيفُهُمْ وَوَعْدُهُمْ وَوَعِيدُهُمْ وَهِيَ «سُورَةُ الرَّحْمَنِ»، وَلِهَذَا قَالَ: {أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ}. وَقَوْلُهُ تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} قِيلَ إِنَّ {مِّن} ههنا زائدة، وفيه نظر، وقيل إنها لِلتَّبْعِيضِ، {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ وَيَقِيكُمْ من عذابه الأليم، ومؤمنوا الجن يدخلون الجنة كمؤمني الإنس، ويدل عليه قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ ربه جنتان} فَقَدِ امْتَنَّ تَعَالَى عَلَى الثَّقَلَيْنِ بِأَنْ جَعَلَ جزاء محسنهم الجنة، ولم يرد نَصٌّ صَرِيحٌ وَلَا ظَاهِرٌ عَنِ الشَّارِعِ، أَنَّ مُؤْمِنِي الْجِنِّ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَإِنْ أُجِيرُوا من النار، ولو صح لقلنا به. وقد حكي فيهم أقوال غريبة، فَمِنَ النَّاسِ مَن زَعَمَ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ يَرَاهُمْ بنو آدم ولا يرو بني آدم، بعكس مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا يَأْكُلُونَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا يَشْرَبُونَ، وَإِنَّمَا يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ وَالتَّقْدِيسَ عِوَضًا عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، كَالْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِيهَا نَظَرٌ، وَلَا دليل عليها، ثم قال مخبراً عنهم: {وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} أَيْ بَلْ قُدْرَةُ اللَّهِ شَامِلَةٌ لَهُ وَمُحِيطَةٌ بِهِ {وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} أَيْ لَا يُجِيرُهُمْ مِنْهُ أَحَدٌ {أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} وَهَذَا مَقَامُ تَهْدِيدٍ وَتَرْهِيبٍ، فَدَعَوْا قَوْمَهُمْ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَلِهَذَا نَجَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَجَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُفُودًا وُفُودًا كَمَا تَقَدَّمَ بيانه، والله أعلم.

- 33 - أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 34 - وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ - 35 - فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون يقول تعالى: أَوَلَمْ ير هؤلاء المنكرون للبعث، المستبعدون لقيام الأجساد يوم الماد {أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} أَيْ وَلَمْ يَكْرُثْهُ خَلْقُهُنَّ بَلْ قَالَ لَهَا: كُونِي فَكَانَتْ، بِلَا مُمَانَعَةٍ وَلَا مُخَالَفَةٍ، بَلْ طَائِعَةٌ مُجِيبَةٌ خَائِفَةٌ وَجِلَةٌ، أَفَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى؟ كَمَا قال عزَّ وجلَّ فِي الْآيَةِ الأُخْرى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولكنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، ولهذا قال تعالى: {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثُمَّ قال جل جلاله مُتَهَدِّدًا وَمُتَوَعِّدًا لِمَنْ كَفَرَ بِهِ: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}؟ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ: أَمَا هَذَا حَقٌّ؟ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ؟ {قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا} أَيْ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ، {قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}، ثُمَّ قَالَ تبارك وتعالى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} أَيْ على تكذيب قومهم لهم،

{وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} أَيْ لَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ حلول العقوبة بهم كقوله تبارك وتعالى {ومهلهم قليلاً}، وكقوله تعالى: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} كقوله عزَّ وجلَّ: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}، وكقوله عزَّ وجلَّ: {ويوم نحشرهم كَأَن لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ يتعارفون بينهم} الآية، وقوله جلَّ وعلا: {بَلاَغٌ} تقديره هذا القرآن بلاغ، وقوله تعالى: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}؟ أَيْ لَا يهلك إلا هالك، وهذا من عدله عزَّ وجلَّ، أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ إِلَّا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ والله أعلم.

47 - سورة محمد

- 47 - سورة محمد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - 1 - الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ - 2 - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ - 3 - ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ يَقُولُ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ بِآيَاتِ اللَّهِ {وَصَدُّواْ} غَيْرَهُمْ {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أَيْ أبطلها وأذهبها، ولم يجعل لها ثواباً ولا جزاء، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً منثوراً}، ثم قال جلَّ وعلا {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أَيْ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وسرائرهم، وانقادت لشرع الله جوارحهم وبواطنهم، {وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، وقوله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ حَسَنَةٌ، ولهذا قال جلَّ جلاله: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ أَمْرَهُمْ؛ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَأْنَهُمْ، وَقَالَ قتادة: حالهم، والكل متقارب، وفي حَدِيثِ تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ «يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ»، ثم قال عزَّ وجلَّ: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} أَيْ إِنَّمَا أَبْطَلْنَا أَعْمَالَ الْكُفَّارِ، وَتَجَاوَزْنَا عَنْ سَيِّئَاتِ الأبرار، وأصلحنا شؤونهم؛ لِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ، أَيِ اخْتَارُوا الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ، {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أَيْ يُبَيِّنُ لَهُمْ مَآلَ أَعْمَالِهِمْ، وَمَا يصيرون إليه في معادهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

- 4 - فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ - 5 - سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ - 6 - وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ - 7 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ - 8 - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ - 9 - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ يَقُولُ تَعَالَى مُرْشِدًا لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا يَعْتَمِدُونَهُ فِي حُرُوبِهِمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أَيْ إِذَا وَاجَهْتُمُوهُمْ فَاحْصُدُوهُمْ حصداً بالسيوف، {حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ} أي أهلكتموهم قتلاً، {فَشُدُّواْ الوثاق} الْأُسَارَى الَّذِينَ تَأْسِرُونَهُمْ، ثُمَّ أَنْتُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ المعركة مخيرون في أمرهم، إن شئتم منتم عَلَيْهِمْ فَأَطْلَقْتُمْ أُسَارَاهُمْ مَجَّانًا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَادَيْتُمُوهُمْ بمال تأخذونه منهم، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بدر، فإن الله سبحانه وتعالى عَاتَبَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْأُسَارَى يومئذٍ ليأخذوا منهم الفداء فَقَالَ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض}، ثُمَّ قد ادعى بعض العلماء أن الآية مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} الآية، روي عن ابن عباس والضحاك والسدي. وقال الأكثرون: ليست بمنسوخة، والإمام مخير بين المن على الأسير ومفاداته، وله أَنْ يَقْتُلَهُ إِنْ شَاءَ لِحَدِيثِ قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ) و (عقبة بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ) مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقَالَ الشافعي رحمه الله: الْإِمَامُ مخيَّر بَيْنَ قَتْلِهِ أَوِ الْمَنِّ عَلَيْهِ أو مفادته أو استرقاقه، وقوله عزَّ وجلَّ: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} قَالَ مُجَاهِدٌ: حَتَّى ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال». وَهَذَا يُقَوِّي الْقَوْلَ بِعَدَمِ النَّسْخِ، كَأَنَّهُ شَرَّعَ هذا الحكم في الحرب إلى أن يبقى لا حَرْبٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} حَتَّى لَا يَبْقَى شِرْكٌ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله} ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا أَيْ أَوْزَارَ الْمُحَارِبِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِأَنْ يَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَقِيلَ: أَوْزَارُ أَهْلِهَا بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله تعالى، وقوله عزَّ وجلَّ: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ} أَيْ هَذَا وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَانْتَقَمَ مِنَ الْكَافِرِينَ بعقوبة ونكال من عنده {ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أَيْ وَلَكِنْ شَرَعَ لَكُمُ الْجِهَادَ وَقِتَالَ الْأَعْدَاءِ، لِيَخْتَبِرَكُمْ وَيَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ، كَمَا ذَكَرَ حكمته في شرعية الجهاد في قوله تَعَالَى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}. وَقَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مؤمنين}، ثُمَّ لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْقِتَالِ أَنْ يُقْتَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: {وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} أَيْ لَنْ يُذْهِبَهَا بَلْ يُكَثِّرُهَا وَيُنَمِّيهَا وَيُضَاعِفُهَا، وَمِنْهُمْ من يجري عليه عمله طول برزخه، كما ورد بذلك الحديث عن المقدام بن معد يكرب الكِنْدي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتَّ خِصَالٍ: أَنْ يُغْفَرَ لَهُ فِي أول دفقة مِنْ دَمِهِ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ، وَيُزَوَّجَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُجَارَ عذاب القبر، ويأمن الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ مرصع بالدر والياقوت، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، ويزوج اثنتين وسبعين مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا من أقاربه" (أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ شيء إلا الدين» (أخرجه مسلم في صحيحه). وفي الصحيح: «يُشَفَّعُ الشَّهِيدُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» (أخرجه أبو داود عن أبي الدرداء مرفوعاً)، وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِ الشَّهِيدِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَوْلُهُ تبارك وتعالى: {سَيَهْدِيهِمْ} أي إلى الجنة {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} أَيْ أَمْرَهُمْ وَحَالَهُمْ، {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} أَيْ عَرَّفَهُمْ بِهَا وَهَدَاهُمْ إِلَيْهَا، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَهْتَدِي أَهْلُهَا إِلَى بُيُوتِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ، وَحَيْثُ قَسَمَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْهَا، لَا يُخْطِئُونَ كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: يَعْرِفُونَ بُيُوتَهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ كَمَا تَعْرِفُونَ بُيُوتَكُمْ إِذَا انْصَرَفْتُمْ من الجمعة، وقال مقاتل: بَلَغَنَا أَنَّ الْمَلَكَ الَّذِي كَانَ وُكِّلَ بِحِفْظِ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْجَنَّةِ، وَيَتْبَعُهُ ابْنُ آدَمَ حَتَّى يَأْتِيَ أَقْصَى مَنْزِلٍ هُوَ لَهُ فَيُعَرِّفُهُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَاهُ الله تعالى فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى أَقْصَى مَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ دَخَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَانْصَرَفَ الملك عنه، وقد ورد في الحديث الصحيح بذلك عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بقنطرة بين الجنة والنار يتقاضون مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا ذهبوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ أَحَدَهُمْ بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ أَهْدَى مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا» (أخرجه البخاري في صحيحه)، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، كَقَوْلِهِ عزَّ وجلَّ: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن ينصره} فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ بَلَّغَ ذَا سُلْطَانٍ حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إبلاغها، ثبَّت الله تعالى قدميه على الصراط يوم القيامة»، ثم قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} عَكْسُ تَثْبِيتِ الْأَقْدَامِ للمؤمنين. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ القطيفة، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ» أَيْ فلا شفاه الله عزَّ وجلَّ، وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أَيْ أَحْبَطَهَا وَأَبْطَلَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أَيْ لَا يُرِيدُونَهُ وَلَا يُحِبُّونَهُ {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}.

- 10 - أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا - 11 - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ - 12 - إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ - 13 - وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ يَقُولُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْمُكَذِّبِينَ لِرَسُولِهِ {فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي عاقبتهم بِتَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ أَيْ ونَّجى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَيْنِ أظهرهم، ولهذا قال تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} ثُمَّ قَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ}، ولهذا لما قال

أبو سفيان رئيس المشركين يوم أُحُد: اعلُ هُبَل، اعلُ هُبَل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا تجيبوه؟» فقالوا: يا رسول الله وما نقول؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُولُوا: «اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ»، ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تُجِيبُوهُ؟»، قَالُوا: وَمَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ"، ثُمَّ قَالَ سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} أَيْ فِي دُنْيَاهُمْ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا وَيَأْكُلُونَ منها كأكل الأنعام، خضماً وقضماً ليس لَهُمْ هِمَّةٌ إِلَّا فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعَى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ»، ثُمَّ قَالَ تعالى: {وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} أَيْ يَوْمَ جَزَائِهِمْ، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} يَعْنِي مَكَّةَ {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ}، وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ، فِي تَكْذِيبِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَيِّدُ الرسل وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ قد أهلك الذين كذبوا الرسل قبله، فما ظَنَّ هَؤُلَاءِ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ بِهِمْ فِي الدنيا والأُخرى؟ وقوله تعالى: {مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} أَيِ الَّذِينَ أَخْرَجُوكَ من بين أظهرهم، روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مكة إلى الغار وأتاه، فالتفت إِلَى مَكَّةَ، وَقَالَ: «أَنْتِ أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَأَنْتِ أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ إِلَيَّ، ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك» (أخرجه ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما). فأعدى الأعداء من عدا على الله تعالى فِي حَرَمِهِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قتل بذُحول الجاهلية، فأنزل اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ}.

- 14 - أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ - 15 - مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أمعاءهم يقول تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} أَيْ عَلَى بَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَدِينِهِ، بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، وَبِمَا جَبَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِطْرَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، {كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}؟ أي ليس هذا كهذا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى}؟ ثم قال عزَّ وجلَّ: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} قَالَ عِكْرِمَةُ {مَّثَلُ الْجَنَّةِ} أَيْ نَعْتُهَا، {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ} يعني غير متغير، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَسِنَ الماءُ إِذَا تَغَيَّرَ رِيحُهُ، وفي حديث مرفوع {غَيْرِ آسِنٍ} يَعْنِي الصَّافِي الَّذِي لَا كَدَرَ فيه، وقال عبد الله رضي الله عنه: أَنْهَارُ الْجَنَّةِ تُفَجَّرُ مِنْ جَبَلٍ مِنْ مِسْكٍ {وَأَنْهَارٌ مِّن لبن لم يتغير طَعْمُهُ} بَلْ فِي غَايَةِ الْبَيَاضِ وَالْحَلَاوَةِ وَالدُّسُومَةِ، وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: «لَمْ يَخْرُجْ مِنْ ضُرُوعِ الْمَاشِيَةِ»، {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} أَيْ لَيْسَتْ كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا، بل حسنة المنظر والطعم والرائحة، {لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} {لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا ولا ينزفون}، وفي حديث مرفوع: «لم يعصرها الرجال بأقدامهم» {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} أَيْ وَهُوَ فِي غَايَةِ الصَّفَاءِ وَحُسْنِ اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ وَالرِّيحِ، وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: «لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بُطُونِ النَّحْلِ». روى الإمام

أحمد عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يَقُولُ: «فِي الْجَنَّةِ بَحْرُ اللَّبَنِ وَبَحْرُ الْمَاءِ، وَبَحْرُ الْعَسَلِ وَبَحْرُ الْخَمْرِ، ثُمَّ تَشَقَّقُ الْأَنْهَارُ منها بعد» (أخرجه أحمد، ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح). وفي الصحيح: «إذا سألتم الله تعالى فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تفجَّر أَنْهَارُ الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ»، وقال الحافظ الطبراني عن عاصم أن لقيط ابن عَامِرٍ خَرَجَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله فعلى ما نطلع من الجنة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «على أنهار من عَسَلٍ مُصَفًّى، وَأَنْهَارٍ مِنْ خَمْرٍ مَا بِهَا صداع ولا ندامة، زأنهار مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَمَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَفَاكِهَةٍ لَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا تَعْلَمُونَ، وَخَيْرٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَأَزْوَاجٍ مُطَهَّرَةٍ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أوَ لنا فِيهَا أَزْوَاجٌ مُصْلِحَاتٌ؟ قَالَ: «الصَّالِحَاتُ لِلصَّالِحِينَ تَلَذُّونَهُنَّ مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم غير أن لا توالد». وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَجْرِي فِي أُخْدُودٍ فِي الْأَرْضِ، وَاللَّهِ إِنَّهَا لَتَجْرِي سَائِحَةً عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ حَافَّاتُهَا قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ، وَطِينُهَا المسك الأذفر (أخرجه ابن أبي الدنيا موقوفاً، ورواه ابن مردويه مرفوعاً). وقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات} كقوله عزَّ وجلَّ: {يدعون فيها بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}، وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} أَيْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وقوله سبحانه وتعالى: {كَمَنْ هُوَ خالد فِي النار؟} أي هؤلاء الَّذِينَ ذَكَرْنَا مَنْزِلَتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، كَمَنْ هُوَ خالد في النار؟ ليس هؤلاء كهؤلاء، وليس مَنْ هُوَ فِي الدَّرَجَاتِ كَمَنْ هُوَ فِي الدَّرَكَاتِ، {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً} أَيْ حَارًّا شَدِيدَ الْحَرِّ لَا يُسْتَطَاعُ، {فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} أَيْ قَطَّعَ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنَ الْأَمْعَاءِ وَالْأَحْشَاءِ، عِيَاذًا بالله تعالى من ذلك.

- 16 - وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ - 17 - وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ - 18 - فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ - 19 - فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي بَلَادَتِهِمْ وَقِلَّةِ فَهْمِهِمْ، حَيْثُ كَانُوا يَجْلِسُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ويستمعون كلامه فلا يَفْهَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ {قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم} مِن الصحابة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ {مَاذَا قَالَ آنِفاً}؟ أَيِ السَّاعَةَ لَا يَعْقِلُونَ ما قال، وَلَا يَكْتَرِثُونَ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} أَيْ فَلَا فَهْمٌ صَحِيحٌ وَلَا قَصْدٌ صَحِيحٌ، ثم قال عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} أَيْ وَالَّذِينَ قَصَدُوا الهداية، وفقهم الله تعالى لَهَا، فَهَدَاهُمْ إِلَيْهَا وَثَبَّتَهُمْ عَلَيْهَا وَزَادَهُمْ مِنْهَا، {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} أي ألهمهم رشدهم. وقوله تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً}؟ أَيْ وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْهَا {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} أي أمارات اقترابها، كقوله تعالى: {أزفت الأزفة}، وكقوله جلت عظمته: {اقتربت الساعة

وانشق القمر}، وقوله سبحانه وتعالى: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}. فَبِعْثَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ لِأَنَّهُ خَاتَمُ الرُّسُلِ، الَّذِي أكمل الله تعالى بِهِ الدِّينَ، وَأَقَامَ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَى الْعَالَمِينَ، وقد أُخبر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمارات الساعة وأشراطها وهو عليه السلام الحاشر الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَالْعَاقِبُ الَّذِي ليس بعده نبي، روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بِأُصْبُعَيْهِ - هَكَذَا بِالْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا - «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ». ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}؟ أَيْ فَكَيْفَ لِلْكَافِرِينَ بِالتَّذَكُّرِ إِذَا جَاءَتْهُمُ الْقِيَامَةُ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذكرى}، وقوله عزَّ وجلَّ: {فاعلم أَنَّهُ لاَ إلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} هَذَا إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ لَا إله إلا الله، ولهذا عطف عليه قوله عزَّ وجلَّ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كان يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمْ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي»، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمْ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وعليكم بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ، فَأَكْثِرُوا مِنْهُمَا، فإن إبليس قال: إنما أَهْلَكْتُ النَّاسَ بِالذُّنُوبِ، وَأَهْلَكُونِي بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَهْلَكْتُهُمْ بِالْأَهْوَاءِ، فهم يحسبون أنهم مهتدون" (أخرجه الحافظ أبو يعلى)، وَفِي الْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ: "قَالَ إِبْلِيسُ: وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَا أَزَالُ أُغْوِيهِمْ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي"، وَالْأَحَادِيثُ فِي فضل الاستغفار كثيرة جداً، وقوله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} أَيْ يَعْلَمُ تَصَرُّفَكُمْ في نهاركم، ومستقركم في ليلكم، كقوله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار}، وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مبين} وهذا القول هو اختيار ابن جرير، وعن ابن عباس رضي الله عنهما {متقلبكم} في الدنيا و {مثواكم} فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُتَقَلَّبَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَمَثْوَاكُمْ فِي قُبُورِكُمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أعلم.

- 20 - وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ - 21 - طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ - 22 - فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ - 23 - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا شَرْعِيَّةَ الْجِهَادِ، فَلَمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ وَأَمَرَ بِهِ، نَكَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كقوله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً

وَقَالُواْ ربنا لما كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}؟ قال عزَّ وجلَّ ههنا: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ} أَيْ مشتملة على القتال {فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أَيْ مِنْ فَزَعِهِمْ وَرُعْبِهِمْ وَجُبْنِهِمْ مِنْ لِقَاءِ الْأَعْدَاءِ، ثُمَّ قال مشجعاًلهم: {فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} أَيْ وَكَانَ لهم الْأَوْلَى بِهِمْ أَنْ يَسْمَعُوا وَيُطِيعُوا، أَيْ فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} أَيْ جَدَّ الْحَالُ، وَحَضَرَ الْقِتَالُ {فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ} أَيْ أَخْلَصُوا لَهُ النِّيَّةَ {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ}، وَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ} أَيْ عَنِ الْجِهَادِ وَنَكَلْتُمْ عَنْهُ {أَن تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}؟ أَيْ تَعُودُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ الْجَهْلَاءِ، تَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ وَتُقَطِّعُونَ الْأَرْحَامَ، ولهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} وَهَذَا نَهْيٌ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ عُمُومًا، وعن قطع الأرحام خصوصاً، بل أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ وَصِلَةِ الأرحام، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، روى الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خلق الله تعالى الْخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَأَخَذَتْ بحقوي الرَّحْمَنِ عزَّ وجلَّ، فَقَالَ: مَهْ، فَقَالَتْ: هَذَا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال تعالى: إِلاَّ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكَ، وَأَقْطَعَ من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذاك لك" قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ}. وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أحرى أن يعجل الله تعالى عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لِصَاحِبِهِ في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة). وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي ذَوِي أَرْحَامٍ: أَصِلُ وَيَقْطَعُونَ، وَأَعْفُو ويظلمون، وأحسن ويسيئون، أفأكافئهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لَا، إِذَنْ تُتْرَكُونَ جَمِيعًا، ولكنْ جُدْ بِالْفَضْلِ وَصِلْهُمْ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ مَعَكَ ظَهِيرٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ مَا كُنْتَ عَلَى ذَلِكَ» (أخرجه الإمام أحمد). وقال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّحِمَ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، وَلَيْسَ الواصل بالمكافىء، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» (أخرجه البخاري والإمام أحمد)، وفي الحديث القدسي: «قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أَنَا الرَّحْمَنُ خلقتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي، فَمَنْ يَصِلْهَا أَصِلْهُ، وَمَنْ يَقْطَعْهَا أقطعه فأبُّته» (أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي)، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وما تناكر منها اختلف» وفي الحديث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ظَهَرَ الْقَوْلُ وَخُزِّنَ الْعَمَلُ وَائْتَلَفَتِ الْأَلْسِنَةُ وَتَبَاغَضَتِ الْقُلُوبُ، وَقَطَعَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ رَحِمَهُ، فعند ذلك لعنهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم» (أخرجه الإمام أحمد)، والأحاديث في هذا كثيرة، والله أعلم.

- 24 - أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا - 25 - إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى

الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ - 26 - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ - 27 - فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ - 28 - ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ يقول تعالى آمراً بتدبير الْقُرْآنِ وَتَفَهُّمِهِ، وَنَاهِيًا عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ فَقَالَ: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} أَيْ بَلْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، فَهِيَ مُطْبَقَةٌ لا يخلص إليها شيء من معانيه، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} أَيْ فَارَقُوا الْإِيمَانَ وَرَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} أَيْ زَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وحسَّنه {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي أغرهم وَخَدَعَهُمْ، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} أَيْ مالأوهم وناصحوهم عَلَى الْبَاطِلِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ يُظْهِرُونَ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أي مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُخْفُونَ، اللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، عالم به، كقوله تبارك وتعالى: {والله يَكْتُبُ مَا يبيتون}، ثم قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} أَيْ كَيْفَ حَالُهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ لِقَبْضِ أرواحهم، وتعاصت الْأَرْوَاحُ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَاسْتَخْرَجَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِالْعُنْفِ وَالْقَهْرِ والضرب، كما قال سُبْحَانَهُ وتعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} الآية، وقال تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} أَيْ بِالضَّرْبِ {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تستكبرون}، ولهذا قال ههنا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}.

- 29 - أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ - 30 - وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ - 31 - وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ والصابرين ونبلوا أَخْبَارَكُمْ يَقُولُ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ}؟ أي أيعتقد الْمُنَافِقُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَكْشِفُ أَمْرَهُمْ لِعِبَادِهِ المؤمنين؟ بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمه ذوو البصائر، وقد أنزل الله تعالى في ذلك سورة فبين فيها فضائحهم، ولهذا كَانَتْ تُسَمَّى الْفَاضِحَةَ، وَالْأَضْغَانُ جَمْعُ ضِغْنٍ وَهُوَ مَا فِي النُّفُوسِ مِنَ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ لِلْإِسْلَامِ وأهله والقائمين بنصره، وقوله تعالى: {وَلَوْ نشاء لأريناكم فلعرفتهم بسيماهم}، يقول الله عزَّ وجلَّ: وَلَوْ نَشَاءُ يَا مُحَمَّدُ لَأَرَيْنَاكَ أَشْخَاصَهُمْ فَعَرَفْتَهُمْ عِيَانًا، وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ تَعَالَى ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ، سِتْرًا مِنْهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَحَمْلًا للأمور على ظاهر السلامة، ورداً للسرئر إِلَى عَالِمِهَا {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أَيْ فِيمَا يَبْدُو مِنْ كَلَامِهِمُ الدَّالِّ عَلَى مَقَاصِدِهِمْ، يَفْهَمُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ أَيِّ الْحِزْبَيْنِ هُوَ بِمَعَانِي كَلَامِهِ وَفَحْوَاهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ لَحْنِ الْقَوْلِ، كَمَا قَالَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَبْدَاهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ

وَجْهِهِ، وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا أَسَرَّ أحد سريرة إلا كساه الله تعالى جِلْبَابَهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ»، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ تَعْيِينُ جَمَاعَةٍ مِنَ المنافقين، قال عقبة بن عمرو رضي الله عنه: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبة فحمد الله تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ مِنْكُمْ مُنَافِقِينَ فَمَنْ سَمَّيْتُ فَلْيَقُمْ - ثُمَّ قَالَ - قُمْ يَا فُلَانُ، قُمْ يَا فُلَانُ، قُمْ يَا فُلَانُ، حَتَّى سَمَّى سِتَّةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا. ثُمَّ قَالَ: - إن فيكم أو منكم - منافقين فاتقوا الله"، قال فمرّ عمر رضي الله عنه برجل ممن سمى مقنع كَانَ يَعْرِفُهُ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَحَدَّثَهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: بعداً لك سائر اليوم (أخرجه الإمام أحمد). وقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} أي لنختبرنكم بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ}، وَلَيْسَ فِي تَقَدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بما هو كائن شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ، فَالْمُرَادُ حَتَّى نَعْلَمَ وُقُوعَهُ، وَلِهَذَا يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي مِثْلِ هَذَا: إلاّ نعلم، أي لنرى.

- 32 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ - 33 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ - 34 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ - 35 - فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّنْ كَفَرَ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ، وَخَالَفَ الرَّسُولَ وَشَاقَّهُ، وَارْتَدَّ عَنِ الْإِيمَانِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، أَنَّهُ لَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَإِنَّمَا يَضُرُّ نَفْسَهُ وَيَخْسَرُهَا يَوْمَ مَعَادِهَا، وَسَيُحْبِطُ اللَّهُ عَمَلَهُ، فَلَا يُثِيبُهُ عَلَى سَالِفِ مَا تقدم من عمله مِثْقَالَ بَعُوضَةٍ مِنْ خَيْرٍ، بَلْ يُحْبِطُهُ وَيَمْحَقُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ قال أبو العالية: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يرون أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ذَنْبٌ كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلٌ فَنَزَلَتْ: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فَخَافُوا أَنْ يُبْطِلَ الذَّنْبُ الْعَمَلَ (أخرجه الإمام أحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة)، وعن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا مَعْشَرَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَرَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَسَنَاتِ إِلَّا مَقْبُولٌ، حَتَّى نَزَلَتْ: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فَقُلْنَا: مَا هَذَا الَّذِي يُبْطِلُ أَعْمَالَنَا؟ فَقُلْنَا: الْكَبَائِرُ الموجبات الفواحش، حتى نزل قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، فَلَمَّا نَزَلَتْ كَفَفْنَا عَنِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، فَكُنَّا نَخَافُ عَلَى مَنْ أَصَابَ الْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ، ونرجو لمن لم يصبها، ثم أمر تبارك وتعالى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، الَّتِي هِيَ سَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِارْتِدَادِ الذي هو مبطل للأعمال، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} أَيْ بِالرِّدَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهَا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ}، كقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} الْآيَةَ، ثم قال جلَّ وعلا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ: {فَلاَ تَهِنُوا} أَيْ لَا تَضْعُفُوا

عَنِ الْأَعْدَاءِ، {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} أَيِ الْمُهَادَنَةِ وَالْمُسَالَمَةِ وَوَضْعِ الْقِتَالِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ فِي حال قوتكم، ولهذا قال: {وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ} أَيْ فِي حَالِ عُلُوِّكُمْ عَلَى عَدُّوِكُمْ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْكُفَّارُ فِيهِمْ قُوَّةٌ وَكَثْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَرَأَى الْإِمَامُ في المهادنة والمعاهدة مَصْلَحَةً، فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، كَمَا فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين صَدَّهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَنْ مَكَّةَ وَدَعَوْهُ إِلَى الصُّلْحِ وَوَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ عَشْرَ سِنِينَ، فأجابهم صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وقوله جلت عظمته: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} فِيهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ على الأعداء، {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي لن يُحْبِطَهَا وَيُبْطِلَهَا وَيَسْلُبَكُمْ إِيَّاهَا، بَلْ يُوَفِّيكُمْ ثَوَابَهَا ولا ينقصكم منها شيئاً، والله أعلم.

- 36 - أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ - 37 - إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ - 38 - هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَنْ يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم يَقُولُ تَعَالَى تَحْقِيرًا لِأَمْرِ الدُّنْيَا وَتَهْوِينًا لِشَأْنِهَا {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لعبٌ وَلَهْوٌ} أَيْ حَاصِلُهَا ذَلِكَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْهَا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، ولهذا قال تعالى: {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} أي هوغني عَنْكُمْ لَا يَطْلُبُ مِنْكُمْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا فَرَضَ عَلَيْكُمُ الصَّدَقَاتِ مِنَ الْأَمْوَالِ، مُوَاسَاةً لِإِخْوَانِكُمْ الْفُقَرَاءِ، لِيَعُودَ نَفْعُ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ، وَيَرْجِعَ ثَوَابُهُ إِلَيْكُمْ، ثم قال جلَّ جلاله: {إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ} أَيْ يُحْرِجُكُمْ تَبْخَلُوا {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ تعالى أَنَّ فِي إِخْرَاجِ الْأَمْوَالِ إِخْرَاجُ الْأَضْغَانِ، وَصَدَقَ قَتَادَةُ، فَإِنَّ الْمَالَ مَحْبُوبٌ وَلَا يُصْرَفُ إِلَّا فِيمَا هُوَ أَحَبُّ إليَّ الشَّخْصِ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ} أَيْ لَا يُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ، {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} أَيْ إِنَّمَا نَقَصَ نَفْسَهُ مِنَ الْأَجْرِ، وَإِنَّمَا يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ} أَيْ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إليه دائماً، {وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ} أَيْ بِالذَّاتِ إِلَيْهِ، فَوَصْفُهُ بِالْغِنَى وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُ، وَوَصْفُ الْخَلْقِ بِالْفَقْرِ وَصْفٌ لازم لهم لا ينفكون عنه، وقوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} أَيْ عَنْ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ شَرْعِهِ، {يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} أَيْ وَلَكِنْ يَكُونُونَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ لَهُ وَلِأَوَامِرِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إِنْ تَوَلَّيْنَا اسْتَبْدَلَ بِنَا ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَنَا؟ قَالَ: فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي رضي الله عنه، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا وَقَوْمُهُ، وَلَوْ كَانَ الدِّينُ عند الثريا لتناوله رجال من الفرس» (أخرجه مسلم وابن أبي حاتم وابن جرير).

48 - سورة الفتح

- 48 - سورة الفتح

روى الإمام أحمد عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ يَقُولُ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فِي مَسِيرِهِ (سُورَةَ الْفَتْحِ) عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَرَجَّعَ فِيهَا، قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْلَا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَجْتَمِعَ الناس علينا لحكيت قراءته (أخرجه الإمام أحمد).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- 1 - إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً - 2 - لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً - 3 - وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزًا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، حِينَ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عن الوصول إلى المسجد الحرام، وحالوا بينه وبين العمرة، ثُمَّ مَالُوا إِلَى الْمُصَالَحَةِ وَالْمُهَادَنَةِ، وَأَنْ يَرْجِعَ عَامَهُ هَذَا ثُمَّ يَأْتِيَ مِنْ قَابِلٍ، فَأَجَابَهُمْ إلى ذلك على كره مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الخطاب رضي الله عنه، فَلَمَّا نَحَرَ هَدْيَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ وَرَجَعَ، أَنْزَلَ الله عزَّ وجلَّ هذه السورة، وَجَعَلَ ذَلِكَ الصُّلْحَ فَتْحًا بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَمَا آلَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ، كَمَا روى ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ تَعُدُّونَ الْفَتْحَ (فَتْحَ مَكَّةَ) وَنَحْنُ نعد الفتح صلح الحديبية، وروى البخاري عن البراء رضي الله عنه قَالَ: تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةٍ وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ فَنَزَحْنَاهَا، فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهَا فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِهَا، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَدَعَا ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا، فَتَرَكْنَاهَا غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ إِنَّهَا أَصْدَرَتْنَا مَا شِئْنَا نَحْنُ وَرَكَائِبُنَا (أخرجه البخاري)، وروى الإمام أحمد عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ قَالَ: فَسَأَلْتُهُ عَنْ شَيْءٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَرُدَّ عليَّ، قَالَ: فقلت في نفسي ثكلتك أمك يا ابن الخطاب،

ألححت، كررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْكَ! قَالَ: فَرَكِبْتُ راحلتي فحركت بعيري، فَتَقَدَّمْتُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فيَّ شَيْءٌ، قال: فإذا أنا بمناد: يا عُمَرُ، قَالَ: فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ نَزَلَ فيَّ شَيْءٍ، قَالَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نزل عليّ البارحة سُورَةٌ هِيَ أَحَبُّ إليَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تأخر} " (أخرجه أحمد ورواه البخاري والترمذي والنسائي من طرق). وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عليَّ الليلة آيَةٌ أَحَبُّ إليَّ مِمَّا عَلَى الْأَرْضِ» ثُمَّ قَرَأَهَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: هنيئاً مريئاً يا نبي الله، بيّن الله عزَّ وجلَّ ما يفعل بك، فما يفعل بنا؟ فنزلت عليه صلى الله عليه وسلم: {لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ - حتى بلغ - فَوْزاً عَظِيماً} (أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد). وروى الإمام أحمد عن المغيرة بن شعبة قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي حتى تورمت قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟» (أخرجه البخاري ومسلم وبقية الجماعة إلا أبا داود)، وروى الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَتَفَطَّرَ رَجُلَاهُ، فَقَالَتْ لَهُ عائشة رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟» (أَخْرَجَهُ مسلم والإمام أحمد) فقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} أَيْ بَيِّنًا ظَاهِرًا، وَالْمُرَادُ بِهِ (صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ) فَإِنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِهِ خَيْرٌ جَزِيلٌ، وَآمَنَ النَّاسُ وَاجْتَمَعَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَتَكَلَّمَ الْمُؤْمِنُ مَعَ الْكَافِرِ، وَانْتَشَرَ الْعِلْمُ النافع والإيمان، وقوله تعالى: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله ما تقدم من ذنبه وما تَأَخَّرَ} هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها غيره، وليس في حديث صحيح فِي ثَوَابِ الْأَعْمَالِ لِغَيْرِهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَهَذَا فِيهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْبِرِّ وَالِاسْتِقَامَةِ الَّتِي لَمْ يَنَلْهَا بَشَرٌ سِوَاهُ، لَا مِنَ الأولين ولا من الآخرين، وهو صلى الله عليه وسلم أَكْمَلُ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَسَيِّدُهُمْ فِي الدُّنْيَا والآخرة، ولما كان أطوع خلق الله تعالى وأشدهم تعظيماً لأوامره ونواهيه قال حين بركت فيه الناقة، حبسها حابس الفيل، ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي الْيَوْمَ شَيْئًا يُعَظِّمُونَ بِهِ حُرُمَاتِ الله إلاّ أجبتهم إليها» (أخرجه البخاري وهو جزء من حديث طويل) فَلَمَّا أَطَاعَ اللَّهَ فِي ذَلِكَ وَأَجَابَ إِلَى الصلح قال الله تعالى لَهُ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أَيْ فِي الدُّنْيَا والآخرة، {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} أي بما شرعه لَكَ مِنَ الشَّرْعِ الْعَظِيمِ وَالدِّينِ الْقَوِيمِ، {وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} أَيْ بِسَبَبِ خُضُوعِكَ لِأَمْرِ الله عزَّ وجلَّ يَرْفَعُكَ اللَّهُ وَيَنْصُرُكَ عَلَى أَعْدَائِكَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ إلاّ رفعه الله تعالى»، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال: ما عاقبتَ أَحَدًا عَصَى اللَّهَ تَعَالَى فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تطيع الله تبارك وتعالى وفيه.

- 4 - هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيمًا - 5 - لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً - 6 - وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً - 7 - وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً يَقُولُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ} أَيْ جَعَلَ الطُّمَأْنِينَةَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَنْهُ: الرَّحْمَةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْوَقَارُ في قلوب المؤمنين، الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَانْقَادُوا لِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت، زادهم إيماناً مع إيمانهم؛ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَانْتَصَرَ من الكافرين، فقال سبحانه: {ولله جنود السموات وَالْأَرْضِ} أَيْ وَلَوْ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا وَاحِدًا لَأَبَادَ خَضْرَاءَهُمْ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى شَرَّعَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الجهاد، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، والحجة القاطعة، ولهذا قال جلت عظمته: {وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً}، ثم قال عزَّ وجلَّ: {لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا، {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أَيْ خَطَايَاهُمْ وَذُنُوبَهُمْ، فَلَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهَا، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ وَيَغْفِرُ وَيَسْتُرُ، {وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً}، كَقَوْلِهِ جلَّ وعلا: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}، وقوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السوء} أي يتهمون الله تعالى في حكمه، ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ أَنْ يُقْتَلُوا وَيَذْهَبُوا بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} أَيْ أَبْعَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً}، ثم قال عزَّ وجلَّ مُؤَكِّدًا لِقُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنَ الْأَعْدَاءِ؛ أَعْدَاءِ الإسلام من الكفرة والمنافقين {ولله جنود السموات وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيمًا}.

- 8 - إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - 9 - لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا - 10 - إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} أَيْ عَلَى الْخَلْقِ، {وَمُبَشِّراً} أي للمؤمنين، {ونذيراً} أي للكافرين، {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وغير واحد: تعظموه، {وَتُوَقِّرُوهُ} مِنَ التَّوْقِيرِ، وَهُوَ الِاحْتِرَامُ وَالْإِجْلَالُ وَالْإِعْظَامُ، {وَتُسَبِّحُوهُ} أي تسبحون اللَّهَ، {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أَيْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، ثم قال عزَّ وجلَّ لرسوله تَشْرِيفًا لَهُ وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله}، كقوله جلَّ وعلا:

{مَّنْ يُطِعِ الرسول فقد أطاع الله}، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أَيْ هُوَ حَاضِرٌ مَعَهُمْ، يَسْمَعُ أَقْوَالَهُمْ وَيَرَى مَكَانَهُمْ، وَيَعْلَمُ ضَمَائِرَهُمْ وظواهرهم، فهو تعالى المبايع بواسطة رسوله، كقوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَلَّ سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ بايع الله» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي جرير مرفوعاً)، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجَرِ: «وَاللَّهِ ليبعثنه الله عزَّ وجلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يَنْظُرُ بِهِمَا وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ وَيَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِالْحَقِّ، فمن استلمه فقد بايع الله تعالى» ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس)، ولهذا قال تعالى ههنا: {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} أَيْ إِنَّمَا يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَى النَّاكِثِ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} أَيْ ثَوَابًا جَزِيلًا، وَهَذِهِ الْبَيْعَةُ هِيَ (بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ) وَكَانَتْ تَحْتَ شجرة سمرة بالحديبية، وكان الصحابة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذٍ ألفاً وأربعمائة، روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال: كنا يوم الحديبية أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَوَضَعَ يَدَهُ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، حتى رووا كلهم، وفي رواية في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه: أنهم كانوا خمس عَشْرَةَ مِائَةً. «ذِكْرُ سَبَبِ هَذِهِ الْبَيْعَةِ الْعَظِيمَةِ». قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لِيَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ، لِيُبَلِّغَ عَنْهُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مَا جَاءَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ مَنْ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا وَغِلَظِي عَلَيْهَا، وَلَكِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ أَعَزَّ بِهَا مِنِّي، عثمان بن عفان رضي الله عنه نبعثه إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ، يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لم يأت لحرب، وأنه إنما جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ وَمُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ، فَخَرَجَ عثمان رضي الله عنه إِلَى مَكَّةَ، فَلَقِيَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَجَارَهُ، حَتَّى بلَّغ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانطلق عثمان رضي الله عنه حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ، فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أرسله به، فقالوا لعثمان رضي الله عنه حِينَ فَرَغَ مِنْ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ، فَقَالَ: مَا كنتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ عثمان رضي الله عنه قَدْ قُتِلَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ الله ابن أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ: «لَا نَبْرَحُ حَتَّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ»، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ فَكَانَتْ (بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ) تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: بَايَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَوْتِ. وَكَانَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبَايِعْهُمْ عَلَى الْمَوْتِ وَلَكِنْ بَايَعَنَا على أن لا نَفِرَّ، فَبَايَعَ النَّاسُ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ مِنَ المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس فكان جابر رضي الله عنه يَقُولُ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ لَاصِقًا بِإِبِطِ ناقته قد صبأ إِلَيْهَا، يَسْتَتِرُ بِهَا مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ أَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الذي كان من أمر عثمان رضي الله عنه باطل، قال أنَس بن مالك رضي الله عنه: لَمَّا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بِبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَبَايَعَ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم إن عثمان في حاجة الله تعالى وَحَاجَةِ رَسُولِهِ» فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَكَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لعثمان رضي الله عنه خيراً من أيديهم لأنفسهم (أخرجه الحافظ البيهقي عن أَنَس بن مالك). قال البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَفَرَّقُوا فِي ظِلَالِ الشَّجَرِ، فَإِذَا النَّاسُ مُحْدِقُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يعني عمر رضي الله عنه، يَا عَبْدَ اللَّهِ انْظُرْ مَا شَأْنُ النَّاسِ قَدْ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَهُمْ يُبَايِعُونَ، فَبَايَعَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عمر رضي الله عنه فخرج فبايع (أخرجه البخاري في صحيحه)، وروى البخاري عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بن الأكوع رضي الله عنه قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قَالَ يَزِيدُ: قُلْتُ يَا أبا مسلمة عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يومئذٍ؟ قَالَ: على الموت. وثبت في الصحيحين عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: "كَانَ أُبيّ مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ قَالَ: فَانْطَلَقْنَا مِنْ قَابَلٍ حاجين، فخفي علينا مكانها" (أخرجه الشيخان عن سعيد بن المشيب)، وروى الحميدي عن جابر رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ» قَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه: لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة (أخرجه البخاري ومسلم من حديث سفيان). وروى الإمام أحمد عن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ النار أحد ممن بايع تحت الشجرة». ولهذا قال الله تَعَالَى فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عظيماً}.

- 11 - سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً - 12 - بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً - 13 - وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا - 14 - وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِمَا يَعْتَذِرُ بِهِ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ، الَّذِينَ اختاروا المقام في أهليهم، وَتَرَكُوا الْمَسِيرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَأَلُوا أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم لَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِقَادِ، بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّقِيَّةِ وَالْمُصَانَعَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} أَيْ لَا يقدر أحد أن يرد ما أراده الله فيكم، وهو العليم بسرائركم وضمائركم، وإن صانعتمونا ونافقتمونا، ولهذا قال تعالى: {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}، ثُمَّ قال تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ

إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} أَيْ اعْتَقَدْتُمْ أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ وَتُسْتَأْصَلُ شَأْفَتُهُمْ، وَتُسْتَبَادُ خَضْرَاؤُهُمْ وَلَا يَرْجِعُ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ، {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} أي هلكى، قاله ابن عباس ومجاهد، وقال قتادة: فاسدين، ثم قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَيْ مَنْ لَمْ يُخْلِصِ الْعَمَلَ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِلَّهِ، فإن الله تعالى سيعذبه في السعير، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ الْحَاكِمُ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ فِي أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} أَيْ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ وَخَضَعَ لَدَيْهِ.

- 15 - سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الأعراب، الذين تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عمرة الْحُدَيْبِيَةِ، إِذْ ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إلى خيبر يفتحوها، أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُمْ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَقَدْ تَخَلَّفُوا عَنْ وَقْتِ مُحَارَبَةِ الْأَعْدَاءِ وَمُجَالَدَتِهِمْ، فأمر اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لا يَأْذَنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، مُعَاقَبَةً لَهُمْ مِنْ جِنْسِ ذَنْبِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَ أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم، لا يشاركهم فيها غيرهم من الأعراب المتخلفين، ولهذا قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ} قَالَ مُجَاهِدٌ وقتادة: وَهُوَ الْوَعْدُ الَّذِي وُعِدَ بِهِ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ قوله تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فاقعدوا مَعَ الخالفين} وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ فِيهِ نَظَرٌ، لأن الْآيَةَ الَّتِي فِي بَرَاءَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تبوك، وهي متأخرة عن عمرة الحديبية، وقال ابن جريح: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ} يَعْنِي بِتَثْبِيطِهِمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْجِهَادِ، {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ} أَيْ وَعَدَ اللَّهُ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ سُؤَالِكُمُ الْخُرُوجَ مَعَهُمْ، {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أَيْ أَنْ نُشْرِكَكُمْ فِي الْمَغَانِمِ، {بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، وَلَكِنْ لَا فَهْمَ لهم.

- 16 - قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً - 17 - لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً اخْتَلَفَ المفسرون في هؤلاء القوم الَّذِينَ هُمْ أُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ عَلَى أَقْوَالٍ، (أحدها): أنهم هوازن، قاله سعيد بن جبير وعكرمة، (الثَّانِي): ثَقِيفٌ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، (الثَّالِثُ): بَنُو حَنِيفَةَ، قاله جويبر، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ سَعِيدٍ وَعِكْرِمَةَ، (الرَّابِعُ): هُمْ أهل فارس، قاله ابن عباس ومجاهد، وقال كعب الأحبار: هم الروم، وعن عطاء والحسن: هُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: هُمْ أَهْلُ الأوثان، وقال ابن أبي حاتم عن الزهري في قوله تعالى:

{سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قَالَ: لَمْ يَأْتِ أُولَئِكَ بعد، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا صِغَارَ الْأَعْيُنِ ذُلْفَ الأنوف كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ» قَالَ سُفْيَانُ: هُمُ الترك، وقوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} يعني شرع لَكُمْ جِهَادَهُمْ وَقِتَالَهُمْ، فَلَا يَزَالُ ذَلِكَ مُسْتَمِرًّا عَلَيْهِمْ وَلَكُمُ النُّصْرَةُ عَلَيْهِمْ، {أَوْ يُسْلِمُونَ} فَيَدْخُلُونَ فِي دِينِكُمْ بِلَا قِتَالٍ بَلْ بِاخْتِيَارٍ، ثُمَّ قال عزَّ وجلَّ: {فَإِنْ تُطِيعُوا} أَيْ تَسْتَجِيبُوا وَتَنْفِرُوا فِي الْجِهَادِ وَتُؤَدُّوا الَّذِي عَلَيْكُمْ فِيهِ {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِن قَبْلُ} يَعْنِي زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ حَيْثُ دُعِيتُمْ فَتَخَلَّفْتُمْ، {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً}. ثم ذكر تعالى الْأَعْذَارَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ فَمِنْهَا لَازِمٌ كَالْعَمَى وَالْعَرَجِ الْمُسْتَمِرِّ، وَعَارِضٌ كَالْمَرَضِ الَّذِي يَطْرَأُ أَيَّامًا ثُمَّ يَزُولُ، فَهُوَ فِي حَالِ مَرَضِهِ مُلْحِقٌ بِذَوِي الْأَعْذَارِ اللَّازِمَةِ حَتَّى يَبْرَأَ، ثُمَّ قَالَ تبارك وتعالى مُرَغِّبًا فِي الْجِهَادِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يتولَّ} أَيْ يَنْكُلُ عَنِ الْجِهَادِ وَيُقْبِلُ عَلَى الْمَعَاشِ {يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} في الدنيا بالمذلة، وفي الآخرة بالنار، والله تعالى أعلم.

- 18 - لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيبًا - 19 - وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيمًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ رِضَاهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وقد تقدم أنهم كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ كَانَتْ سَمُرَةً بأرض الحديبية، روى البخاري عن عبد الرحمن رضي الله عنه قَالَ: انْطَلَقْتُ حَاجًّا فَمَرَرْتُ بِقَوْمٍ يُصَلُّونَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا الْمَسْجِدُ؟ قَالُوا: هَذِهِ الشَّجَرَةُ حَيْثُ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، فَأَتَيْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ نَسِينَاهَا، فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمُوهَا وَعَلِمْتُمُوهَا أَنْتُمْ، فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أَيْ مِنَ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ {فأَنزل السَّكِينَةَ} وَهِيَ الطُّمَأْنِينَةُ {عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} وَهُوَ مَا أَجْرَى الله عزَّ وجلَّ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنَ الصُّلْحِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِمْ، وما حصل بذلك من الخير العام بِفَتْحِ خَيْبَرَ وَفَتْحِ مَكَّةَ، ثُمَّ فَتْحِ سَائِرِ البلاد والأقاليم، وَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْعِزِّ وَالنَّصْرِ وَالرِّفْعَةِ في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}، روى ابن أبي حاتم عن إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ قَائِلُونَ إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ: الْبَيْعَةَ البيعة، نزل روح القدس، قال: فسرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تحت الشجرة سَمُرَةٍ فَبَايَعْنَاهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} قال: فَبَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعثمان رضي الله عنه بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لابن عفان يطوف بالبيت ونحن ههنا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو مكث كذا وكذا سَنَةً مَا طَافَ حَتَّى أَطُوفَ».

- 20 - وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ

وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً - 21 - وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا - 22 - وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً - 23 - سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً - 24 - وَهُوَ الذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَن أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ تَأْخُذُونَهَا} هِيَ جَمِيعُ الْمَغَانِمِ إِلَى الْيَوْمِ {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} يَعْنِي فَتْحَ خَيْبَرَ، وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} يَعْنِي صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} أَيْ لَمْ يَنَلْكُمْ سُوءٌ مِمَّا كَانَ أَعْدَاؤُكُمْ أَضْمَرُوهُ لَكُمْ مِنَ الْمُحَارَبَةِ وَالْقِتَالِ، وَكَذَلِكَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ الَّذِينَ خلفتموهم وراء ظهوركم عَنْ عِيَالِكُمْ وَحَرِيمِكُمْ {وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ يعتبرون بذلك، فإن الله تعالى حَافِظُهُمْ وَنَاصِرُهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَعْدَاءِ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَلِيَعْلَمُوا بِصَنِيعِ اللَّهِ هَذَا بِهِمْ أَنَّهُ العالم بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَأَنَّ الْخِيَرَةَ فِيمَا يَخْتَارُهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كِرِهُوهُ فِي الظَّاهِرِ، كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} أي بسبب انقيلدكم لأمره واتباعكم طاعته وموافقتكم رسوله صلى الله عليه وسلم، وقوله تبارك وتعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} أَيْ وَغَنِيمَةً أُخْرَى وَفَتْحًا آخَرَ مُعَيَّنًا لَمْ تَكُونُوا تَقْدِرُونَ عَلَيْهَا، قَدْ يَسَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَأَحَاطَ بِهَا لَكُمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُ عِبَادَهُ المتقين مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْغَنِيمَةِ مَا الْمُرَادُ بِهَا؟ فَقَالَ ابن عباس: هي خيبر، وقال الضحاك وقتادة: هي مكة، واختاره ابن جرير، وقال الحسن الْبَصْرِيُّ: هِيَ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة، وقوله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} يقول عزَّ وجلَّ مُبَشِّرًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، بِأَنَّهُ لَوْ نَاجَزَهُمُ الْمُشْرِكُونَ لَنَصَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، وَلَانْهَزَمَ جيش الكفر فَارًّا مُدْبِرًا {لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} لِأَنَّهُمْ مُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِحِزْبِهِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قال تبارك وتعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} أَيْ هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ وَعَادَتُهُ فِي خَلْقِهِ، مَا تَقَابَلَ الكفر والإيمان في موطن فيصل، إلا نَصْرِ اللَّهِ الْإِيمَانُ عَلَى الْكُفْرِ، فَرَفَعَ الْحَقَّ وَوَضَعَ الْبَاطِلَ، كَمَا فَعَلَ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ، نَصَرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مع قلة عدد المسلمين وكثرة المشركين، وقوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَن أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} هَذَا امْتِنَانٌ من الله تعالى عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، حِينَ كَفَّ أَيْدِيَ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ سُوءٌ، وَكَفَّ أيدي المؤمنين عن الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، بَلْ صَانَ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَأَوْجَدَ بَيْنَهُمْ صُلْحًا، فِيهِ خِيَرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَعَاقِبَةٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا والآخرة، روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ هَبَطَ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة بالسلاح، مِنْ قِبَلِ جَبَلِ التَّنْعِيمِ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ، فَأُخِذُوا، قَالَ عَفَّانُ: فَعَفَا عَنْهُمْ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَهُوَ الَّذِي

كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَن أَظْفَرَكُمْ عليهم} (أخرجه أحمد ورواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي). وقال أحمد أيضاً عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَكَانَ يَقَعُ مِنْ أَغْصَانِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ عَلَى ظَهْرِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيَّ بْنُ أَبِي طالب رضي الله عنه وسهيل بْنُ عَمْرٍو بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي رضي الله عنه: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» فأخذ سهيل بِيَدِهِ، وَقَالَ: مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ، اكْتُبْ في قضيتنا ما نعرف، فقال: «اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ - وَكَتَبَ - هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَهْلَ مَكَّةَ» فَأَمْسَكَ سهيل بْنُ عَمْرٍو بِيَدِهِ، وَقَالَ: لَقَدْ ظَلَمْنَاكَ إِنْ كُنْتَ رَسُولَهُ! اكْتُبْ فِي قَضِيَّتِنَا مَا نَعْرِفُ، فَقَالَ: «اكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ» فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ، إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا ثَلَاثُونَ شَابًّا عَلَيْهِمُ السِّلَاحُ، فَثَارُوا فِي وُجُوهِنَا فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ اللَّهُ بِأَسْمَاعِهِمْ فَقُمْنَا إِلَيْهِمْ فَأَخَذْنَاهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ جِئْتُمْ فِي عَهْدِ أَحَدٍ؟ أَوْ هَلْ جَعَلَ لَكُمْ أَحَدٌ أَمَانًا؟» فَقَالُوا: لا، فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَن أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} (أخرجه أحمد والنسائي) الآية. وروى ابن إسحاق عن عكرمة مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَوْ خَمْسِينَ، وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يَطِيفُوا بِعَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصِيبُوا مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا، فَأُخِذُوا أَخْذًا، فأُتي بِهِمْ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَفَا عَنْهُمْ، وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، وَقَدْ كَانُوا رَمَوْا إِلَى عَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجَارَةِ وَالنَّبْلِ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {وَهُوَ الذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم} الآية.

- 25 - هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ ونساء مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تطؤوهم فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا - 26 - إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا يَقُولُ تَعَالَى مخبراً عن الكفار ومشركي الْعَرَبِ، مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ مَالَأَهُمْ عَلَى نُصْرَتِهِمْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ هُمُ الْكُفَّارُ دُونَ غَيْرِهِمْ {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أَيْ وَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهِ وَأَنْتُمْ أَهْلُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} أَيْ وَصَدُّوا الْهَدْيَ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَحَلِّهِ، وَهَذَا مِنْ بغيهم وعنادهم، وكان الهدي سبعين بدنة، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ} أَيْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِمَّنْ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَيُخْفِيهِ مِنْهُمْ، خِيفَةً على أنفسهم من قومهم، لكنا سلطانكم عَلَيْهِمْ فَقَتَلْتُمُوهُمْ وَأَبَدْتُمْ خَضْرَاءَهُمْ، وَلَكِنْ بَيْنَ أَفْنَائِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أَقْوَامٌ لَا تَعْرِفُونَهُمْ حَالَةَ القتل، ولهذا قال تعالى: {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تطأوهم فَتُصِيبَكُمْ

مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ} أَيْ إِثْمٌ وَغَرَامَةٌ {بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} أَيْ يُؤَخِّرُ عُقُوبَتَهُمْ لِيُخَلِّصَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَرْجِعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ تبارك وتعالى: {لَوْ تَزَيَّلُواْ} أَيْ لَوْ تَمَيَّزَ الْكُفَّارُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي لسلطناكم عليهم فقتلتموهم قتلاً ذريعاً. عن جنيد بن سبيع قال: "قَاتَلْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ النَّهَارِ كَافِرًا، وَقَاتَلْتُ مَعَهُ آخِرَ النَّهَارِ مسلماً، وفينا نزلت: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ ومؤمنات}، قَالَ: كُنَّا تِسْعَةَ نَفَرٍ سَبْعَةَ رِجَالٍ وَامْرَأَتَيْنِ" (أخرجه الحافظ الطبراني، قال ابن كثير: الصواب عن حبيب بن سباع). وقال ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} يَقُولُ: لَوْ تَزَيَّلَ الْكَفَّارُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَعَذَّبَهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا بِقَتْلِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} وَذَلِكَ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَكْتُبُوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَأَبَوْا أَنْ يَكْتُبُوا: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} وَهِيَ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إلا الله، كما قال ابن جرير عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قَالَ: «لَا إِلَهَ إلا الله» (أخرجه ابن جرير ورواه الترمذي، وقال: حديث غريب)، وقال ابن أبي حاتم عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ"، وأنزل الله عزَّ وجلَّ فِي كِتَابِهِ وَذَكَرَ قَوْمًا فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ}، وَقَالَ اللَّهُ جلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} وَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا واستكبر عنها المشركون يوم الحديبية، فكاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدة (أخرجه ابن أبي حاتم، قال ابن كثير: ورواه بهذه الزيادات ابن جرير، والظاهر أنها مدرجة من كلام الزهري)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَلِمَةَ التَّقْوَى الْإِخْلَاصُ، وَقَالَ عَطَاءُ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى شيء قدير، وقال علي رضي الله عنه: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وقال ابن عباس {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} يَقُولُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهِيَ رَأْسُ كُلِّ تَقْوَى، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَحَقَّ بِهَا وَكَانُوا أَهْلَهَا {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْخَيْرَ ممن يستحق الشر. (ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقِصَّةِ الصلح). روى الإمام أحمد عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما قَالَا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ، لَا يُرِيدُ قِتَالًا، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَكَانَ النَّاسُ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، فَكَانَتْ كُلُّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشْرَةٍ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى إِذَا كَانَ بِعَسَفَانَ، لَقِيَهُ بِشْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْكَعْبِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ سَمِعَتْ بِمَسِيرِكَ فَخَرَجَتْ مَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، قد لبست جلود النمور، يعاهدون الله تعالى أن لا تدخلها

عليها عَنْوَةً أَبَدًا، وَهَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي خَيْلِهِمْ قَدْ قَدَّمُوهُ إِلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا وَيْحَ قُرَيْشٍ قَدْ أَكَلَتْهُمُ الْحَرْبُ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ؟ فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي أَرَادُوا، وَإِنْ أَظْهَرْنِي اللَّهُ تعالى دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَهُمْ وَافِرُونَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّةٌ، فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ؟ فَوَاللَّهِ لَا أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي الله تعالى به حتى يظهرني الله عزَّ وجلَّ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ» ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ فَسَلَكُوا ذَاتَ الْيَمِينِ بَيْنَ ظَهْرَيِ الْحَمْضِ عَلَى طَرِيقٍ تُخْرِجُهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْمُرَارِ وَالْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، قَالَ: فَسَلَكَ بِالْجَيْشِ تِلْكَ الطَّرِيقَ، فلما رأت خيل قريش فترة الْجَيْشِ قَدْ خَالَفُوا عَنْ طَرِيقِهِمْ رَكَضُوا رَاجِعِينَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا سَلَكَ ثَنِيَّةَ الْمُرَارِ بَرَكَتْ نَاقَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: خَلأت، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَلَأَتْ» وَمَا ذَلِكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكَّةَ، وَاللَّهِ لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحِمِ إلا أعطيتهم إياها" ثم قال صلى الله عليه وسلم لِلنَّاسِ: «انْزِلُوا» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بِالْوَادِي مِنْ مَاءٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَأَعْطَاهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَنَزَلَ فِي قَلِيبٍ مِنْ تِلْكَ الْقُلُبِ، فَغَرَزَهُ فِيهِ، فَجَاشَ بِالْمَاءِ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ عَنْهُ بِعَطَنٍ فَلَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا (بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ) فِي رِجَالٍ مِنْ خُزَاعَةَ، فَقَالَ لَهُمْ كَقَوْلِهِ لِبِشْرِ بْنِ سُفْيَانَ، فَرَجَعُوا إِلَى قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قريش إنكم تعجلون على محمد صلى الله عليه وسلم، إن مُحَمَّدًا لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ إِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لهذا البيت معظماً لحقه فاتهموهم (هذا جزء لحديث طويل أخرجه الإمام أحمد وعبد الرزاق، وقد اقتصرنا على هذا القدر لنذكر رواية البخاري رحمه الله). وروى البخاري رحمه الله في صحيحه، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ، قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ، وأحرم منها بعمرة، وبعث عيناً مِنْ خُزَاعَةَ وَسَارَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ أَتَاهُ عَيْنُهُ فَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا وَقَدْ جَمَعُوا لَكَ الْأَحَابِيشَ، وهم مقاتلوك وصادوك ومانعوك فقال صلى الله عليه وسلم: «أَشِيرُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيَّ، أَتَرَوْنَ أَنْ نَمِيلَ عَلَى عِيَالِهِمْ وَذَرَارِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يصدونا عن البيت، أَمْ تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ»؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا البيت لا تريد قَتْلَ أَحَدٍ وَلَا حَرْبًا، فَتَوَجَّهْ لَهُ، فَمَنْ صدنا عنه قَاتَلْنَاهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فامضوا على اسم الله تعالى»، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً، فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يَهْبِطُ عَلَيْهِمْ منها بركت به راحلته، فقالت النَّاسُ: حَلِّ حَلِّ، فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ»؛ ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ تعالى إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا» ثُمَّ زَجَرَهَا، فَوَثَبَتْ، فَعَدَلَ عَنْهُمْ، حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا فَلَمْ يَلْبَثِ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ، وشُكي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع صلى الله عليه وسلم مِنْ كِنَانَتِهِ سَهْمًا، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ (بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ) الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ من قومه من

خزاعة وكانوا عبية نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا عدا مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا لم نجيء لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وإنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهَكَتْهُمُ الْحَرْبُ فَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد حموا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن اللَّهُ أَمْرَهُ» قَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَا مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَيْ قَوْمِ: أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قال: وألست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونني؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، وَدَعُونِي آتِهِ، قَالُوا: ائْتِهِ، فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ نَحَوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَصْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَإِنْ تَكُ الأُخْرى فَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لَأَرَى أَشْوَابًا مِنَ النَّاسِ خليقاً أن يفروا ويدعوك، فقال له أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ وَنَدَعُهُ؟ قَالَ: مَنْ ذَا؟ قالوا: أبا بَكْرٍ، قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يد لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ. قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما كلمه أخذ بلحيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ المغفر، وكلما أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ، وقال: أخر يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأَسَهُ، وَقَالَ: مَنْ هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة، قال: أَيْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ؟ - وَكَانَ المغيرة بن شعبة رضي الله عنه صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالُ فلست منه في شيء»، ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَّكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدَّون النَّظَرَ إِلَيْهِ تَعْظِيمًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ. فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَّكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ النَّظَرَ إِلَيْهِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا فُلَانٌ وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ»، فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، قَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ، فقام رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، فَقَالَ: دَعُونِي آتِهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هذا مكرز وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ»

فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبينما هو يكلم إذ جاءه سهيل بْنُ عَمْرٍو، وَقَالَ مَعْمَرٌ: أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ». قَالَ مُعْمَرٌ، قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ أَكْتُبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كِتَابًا، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بعلي رضي الله عنه، وقال: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال سهيل بْنُ عَمْرٍو: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم كذا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبْ بِاسْمِكِ اللَّهُمَّ» ثم قال: «هذا ما قضى عليه محمد رسول الله»، فقال سهيل: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد ابن عبد الله". (يتبع ... )

(تابع ... 1): 25 - هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ والهدي مَعْكُوفاً أَن يبلغ ... ... قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: «وَاللَّهِ لَا يَسْأَلُونِي خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وبين البيت فنطوف به»، فقال سهيل: وَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضَغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سهيل: وَعَلَى أَنْ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جاء (أبو جندل) بن سهيل بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، قَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أظهر المسلمين، فقال سهيل: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَنْ أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إليَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ»، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَا أُصَالِحُكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فأجزه لي»، قال: مَا أَنَا بِمُجِيزٍ ذَلِكَ لَكَ، قَالَ: «بَلَى فَافْعَلْ»، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ مِكْرَزٌ: بلى قد أجزناه لك، قال أبو جندي: أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا، أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَاباً شَدِيداً فِي اللَّهِ عزَّ وجلَّ، قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلَى»، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي»، قُلْتُ: أَوَلَسْتَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ ونطوف به؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بَلَى أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ»، قُلْتُ: لَا، قال صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ»، قَالَ، فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ! أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ تَأْتِيهِ وَتَطُوفُ بِهِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: قال عمر رضي الله عنه: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا»، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أحد دخل صلى الله عليه وسلم على أُمّ سلمة رضي الله عنها، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، قَالَتْ له أُم سلمة رضي الله عنها: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٍ

فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ - حَتَّى بَلَغَ - بِعِصَمِ الكوافر} فطلق عمر رضي الله عنه يومئذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ، فَتَزَوَّجَ إحدهما معاوية بن أبي سفيان، والأُخْرى صفوان ابن أُميّة، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَجَاءَهُ (أَبُو بَصِيرٍ) رَجُلٌ من قريش وهو مسلم، فأرسولا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ، حَتَّى إذا بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلَانُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ، وَفَرَّ الْآخَرُ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُ: «لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا»، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي، وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ قد رددتني إليهم، ثم نجاني الله تعالى مِنْهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أَحَدٌ»، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سَيْفَ الْبَحْرِ، قَالَ: وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّامِ، إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُنَاشِدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، لَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَمَنْ أَتَاهُ مِنْهُمْ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ الذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ - حَتَّى بَلَغَ - حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يُقِرُّوا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَحَالُوا بينهم وبين البيت (أخرجه البخاري في صحيحه) وقال الإمام أحمد، عن أنَس رضي الله عنه قال: أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وفيهم (سهيل بْنُ عَمْرٍو) فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال سهيل: لَا نَدْرِي مَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ»، قَالَ: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَاتَّبَعْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبِ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ»، واشترطوا عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ مَنْ جَاءَ منكم لا نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا، فقال: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعد الله» (أخرجه أحمد وروا مسلم في صحيحه). وروى الإمام أحمد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ سَبْعِينَ بَدَنَةً، فِيهَا جَمَلٌ لِأَبِي جَهْلٍ، فَلَمَّا صُدَّتْ عَنِ الْبَيْتِ حَنَّتْ كَمَا تحن إلى أولادها (أخرجه الإمام أحمد).

- 27 - لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رؤوسكم وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيبًا - 28 - هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً

كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رأى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ، فَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا سَارُوا عَامَ الحُدَيبية لَمْ يَشُكَّ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا تَتَفَسَّرُ هَذَا الْعَامَ، فَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ قَضِيَّةِ الصُّلْحِ وَرَجَعُوا عَامَهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَعُودُوا مِنْ قَابَلَ، وَقَعَ في نفس بعض الصحابة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، حَتَّى سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: أَفَلَمْ تَكُنْ تُخْبِرُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: «بَلَى، أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ عَامَكَ هَذَا؟» قَالَ: لَا، قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ»، وَبِهَذَا أَجَابَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه أيضاً، ولهذا قال تبارك وتعالى: {لقد صدق الله الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَن شَآءَ الله} هَذَا لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَتَوْكِيدِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الاستثناء فِي شَيْءٍ، وقوله عزَّ وجلَّ: {آمِنِينَ} أَيْ فِي حَالِ دُخُولِكُمْ، وَقَوْلُهُ: {مُحَلِّقِينَ رؤوسكم وَمُقَصِّرِينَ} حال مقدرة، لأنهم في حال دخولهم لَمْ يَكُونُوا مُحَلِّقِينَ وَمُقَصِّرِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي ثَانِي الْحَالِ، كَانَ مِنْهُمْ مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَّرَهُ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ»، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ الله؟، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ»، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ»، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «والمقصرين» في الثالثة أوالرابعة، وقوله سبحانه وتعالى: {ولا تَخَافُونَ} حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ فِي الْمَعْنَى، فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْأَمْنَ حَالَ الدُّخُولِ، وَنَفَى عَنْهُمُ الْخَوْفَ حَالَ اسْتِقْرَارِهِمْ فِي الْبَلَدِ، لَا يَخَافُونَ مِنْ أَحَدٍ، وَهَذَا كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ الحُدَيْبية فِي ذِي الْقِعْدَةِ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِهَا ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ، وَخَرَجَ فِي صِفْرَ إِلَى خَيْبَرَ، فَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بَعْضَهَا عَنْوَةً، وَبَعْضَهَا صلحاً، وَقِسَّمَهَا بَيْنَ (أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ) وَحْدَهُمْ وَلَمْ يَشْهَدْهَا أَحَدٌ غَيْرُهُمْ إِلَّا الَّذِينَ قَدِمُوا مِنَ الْحَبَشَةِ (جعفر بن أبي طالب) وأصحابه و (أبو موسى الأشعري) وأصحابه رَّضِيَ الله عَنْهُمْ ولم يغب منهم أحد، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَ فِي ذي القعدة من سنة سبع خرج النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا، هُوَ وَأَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ، قِيلَ: كان ستين بدنة، فلبى وصار أصحابه يلبُّون، فلما كان صلى الله عليه وسلم قَرِيبًا مِنْ مَرِّ الظَّهْرَانِ بَعَثَ (مُحَمَّدَ بْنَ سلمة) بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ أَمَامَهُ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُشْرِكُونَ رُعِبُوا رُعْبًا شَدِيدًا، وَظَنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُوهُمْ وَأَنَّهُ قَدْ نَكَثَ العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا، فأخبروا أهل مكة، فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ (مِكْرَزَ بْنَ حَفْصٍ) فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا عرفناك تنقض العهد، فقال صلى الله عليه وسلم: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالَ: دَخَلْتَ عَلَيْنَا بِالسِّلَاحِ وَالْقِسِيِّ والرماح، فقال صلى الله عليه وسلم: «لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَقَدْ بَعَثْنَا بِهِ إِلَى يَأْجُجَ»، فَقَالَ: بِهَذَا عَرَفْنَاكَ بِالْبِرِّ وَالْوَفَاءِ، وَخَرَجَتْ رؤوس الكفَّار مِنْ مَكَّةَ لِئَلَّا يَنْظُرُوا إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإلى أصحابه رَّضِيَ الله عَنْهُمْ غَيْظًا وَحَنَقًا. وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَهْلِ مَكَّةَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، فَجَلَسُوا فِي الطُّرُقِ وَعَلَى الْبُيُوتِ يَنْظُرُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَدَخَلَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ أَصْحَابُهُ يُلَبُّونَ، وَالْهَدْيُ قَدْ بَعَثَهُ إِلَى ذِي طُوًى وَهُوَ رَاكِبٌ (نَاقَتَهُ الْقَصْوَاءَ) الَّتِي كَانَ رَاكِبُهَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ الْأَنْصَارِيُّ آخِذٌ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُودُهَا وَهُوَ يَقُولُ: خُلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ * إِنِّي شَهِيدٌ أَنَّهُ رَسُولُهُ خَلُّوا فَكُلُّ الْخَيْرِ فِي رَسُولِهِ * يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ

نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ * كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله روى الإمام أحمد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ، وَقَدْ وَهَّنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ وَلَقُوا مِنْهَا سُوءًا، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ قوم وَهَّنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ وَلَقُوا مِنْهَا شَرًّا، وَجَلَسَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ النَّاحِيَةِ الَّتِي تَلِي الحِجْر فَأَطْلَعَ الله تعالى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالُوا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، قَالَ: فَرْمَلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْشُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ حَيْثُ لَا يَرَاهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَمْ يَمْنَعِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا إِبْقَاءً عَلَيْهِمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الحمى قد أوهنتهم؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا (أخرجه أحمد والشيخان). قال ابن عباس رضي الله عنهما: إِنَّمَا سَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبيت وبالصفا والمروة ليرى المشركون قوته، وروى البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأَسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ، وَلَا يَحْمِلَ سِلَاحًا عَلَيْهِمْ إِلَّا سُيُوفًا وَلَا يُقِيمُ بِهَا إلاَّ ما أحبوا، فاعتمر صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَدَخَلَهَا، كَمَا كَانَ صَالَحَهُمْ، فلما أن أقام بها ثلاثاً، أمروه أن يخرج فخرج صلى الله عليه وسلم (رواه البخاري ومسلم). وقوله تعالى: {فَعَلِمَ مَّا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} أي فعلم الله عزَّ وجلَّ مِنَ الْخِيَرَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فِي صَرْفِكُمْ عَنْ مَكَّةَ وَدُخُولِكُمْ إِلَيْهَا عَامَكُمْ ذَلِكَ مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ} أَيْ قَبْلَ دُخُولِكُمُ الَّذِي وُعِدْتُمْ بِهِ فِي رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْحًا قَرِيبًا، وَهُوَ الصُّلْحُ الَّذِي كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِكُمْ مِنَ المشركين. ثم قال تبارك وتعالى مبشراً للمؤمنين بنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم عَلَى عَدُوِّهِ وَعَلَى سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} أَيْ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ تَشْتَمِلُ على شيئين: علم، وعمل {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أَيْ عَلَى أَهْلِ جَمِيعِ الْأَدْيَانِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، مَنْ عَرَبٍ وَعَجَمٍ، وَمِلِّيِّينَ وَمُشْرِكِينَ {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} أي أنه رسوله وهو ناصره، والله سبحانه وتعالى أعلم.

- 29 - مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً يُخْبِرُ تَعَالَى عن محمد صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَسُولُهُ حَقًّا بِلَا شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ فقال: {مُّحَمَّدٌ رسول الله} وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى كُلِّ وَصْفٍ جَمِيلٍ، ثُمَّ ثَّنى بالثناء على أصحابه رَّضِيَ الله عَنْهُمْ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ

بَيْنَهُمْ}، كما قال عزَّ وجلَّ: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ شَدِيدًا على الكفار، رحيماً بالأخيار، عبوساً في وجه الكافر، بشوشاً في وجه المؤمن، كما قال تعالى: {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً}، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجسد بالحمى والسهر» (أخرجه الشيخان عن النعمان بن بشير). وفي الصَّحِيحِ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، وَشَبَّكَ بين أصابعه. وقوله سبحانه وتعالى: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} وصفهم بكثرة الصَّلَاةِ، وَهِيَ خَيْرُ الْأَعْمَالِ، وَوَصَفَهُمْ بِالْإِخْلَاصِ فِيهَا لله عزَّ وجلَّ، والاحتساب عند الله تعالى جَزِيلَ الثَّوَابِ، وَهُوَ (الْجَنَّةُ) الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى فَضْلِ الله عزَّ وجلَّ، وَرِضَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْأَوَّلِ، كما قال جلا وعلا: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أكبر} وقوله جل جلاله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} قَالَ ابن عباس: يعني السمت الحسن، وقال مجاهد: يعني الخشوع والتواضع، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الصَّلَاةُ تُحَسِّنُ وُجُوهَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُن وَجْهُهُ بالنهار (أسنده ابن ماجة في سننه وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ). وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ لِلْحَسَنَةِ نُورًا فِي الْقَلْبِ، وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ، وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ النَّاسِ. وَقَالَ عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إلا أبداها الله تعالى عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ» وَالْغَرَضُ أَنَّ الشَّيْءَ الْكَامِنَ فِي النَّفْسِ يَظْهَرُ عَلَى صَفَحَاتِ الْوَجْهِ، فَالْمُؤْمِنُ إِذَا كَانَتْ سَرِيرَتُهُ صَحِيحَةً مَّعَ الله تَعَالَى، أصلح الله عزَّ وجلَّ ظاهره للناس، كما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَصْلَحَ سريرته أصلح الله تعالى علانيته»، وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَسَرَّ أحد سريرة إلاّ ألبسه الله تعالى رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر» (أخرجه الطبراني عن جندب بن سفيان البجلي). وفي الحديث: «إِنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ، وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ، وَالِاقْتِصَادَ جُزْءٌ من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة» (أخرجه أحمد وأبو داود عن ابن عباس)، فَالصَّحَابَةُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خَلُصَتْ نِيَّاتُهُمْ وَحَسُنَتْ أَعْمَالُهُمْ، فَكُلُّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِمْ أَعْجَبُوهُ فِي سمتهم وهديهم، وقال مالك رضي الله عنه: بَلَغَنِي أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا إِذَا رَأَوُا الصَّحَابَةَ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ الَّذِينَ فَتَحُوا الشَّامَ يَقُولُونَ: وَاللَّهِ لَهَؤُلَاءِ خَيْرٌ من الحوارين فِيمَا بَلَغَنَا، وَصَدَقُوا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مُعَظَّمَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَعْظَمُهَا وَأَفْضَلُهَا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نوّه الله تبارك وتعالى بِذِكْرِهِمْ، فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَالْأَخْبَارِ الْمُتَدَاوَلَةِ، وَلِهَذَا قال سُبْحَانَهُ وتعالى ههنا: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}، ثُمَّ قَالَ: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أَيْ فِرَاخَهُ {فَآزَرَهُ} أَيْ شَدَّهُ {فَاسْتَغْلَظَ} أَيْ شَبَّ وَطَالَ {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع} أي فكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، آزَرُوهُ وَأَيَّدُوهُ وَنَصَرُوهُ، فَهُمْ مَعَهُ كَالشَّطْءِ مَعَ الزَّرْعِ {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ انتزع الإمام مالك رحمه الله بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ، قَالَ: لِأَنَّهُمْ يَغِيظُونَهُمْ، وَمَنْ غَاظَ الصَّحَابَةُ فَهُوَ كَافِرٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَوَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ على ذلك.

والأحاديث في فضل الصحابة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ، والنهي عن التعرض لهم بمساويهم كَثِيرَةٌ، وَيَكْفِيهِمْ ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَرِضَاهُ عَنْهُمْ، ثم قال تبارك وتعالى: {وَعَدَ الله الذيم آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم} مِنْ هَذِهِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ {مَّغْفِرَةٌ} أَيْ لِذُنُوبِهِمْ {وَأَجْراً عَظِيماً} أَيْ ثَوَابًا جَزِيلًا، وَرِزْقًا كَرِيمًا، وَوَعْدُ اللَّهِ حَقٌّ وَصِدْقٌ، لَا يُخْلَفُ وَلَا يُبَدَّلُ، وَكُلُّ مَنِ اقتفى أثر الصحابة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ فَهُوَ فِي حُكْمِهِمْ، وَلَهُمُ الْفَضْلُ وَالسَّبْقُ وَالْكَمَالُ، الَّذِي لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُمْ. روى مسلم فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ (أخرجه مسلم في صحيحه).

49 - سورة الحجرات

- 49 - سورة الحجرات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - 1 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - 2 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ - 3 - إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عظيم هذه آيات آدّب الله تعالى بِهَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، فِيمَا يُعَامِلُونَ بِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوْقِيرِ وَالِاحْتِرَامِ، والتبجيل والإعظام، فقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يدي الله وَرَسُولِهِ} أَيْ لَا تُسْرِعُوا فِي الْأَشْيَاءِ بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ قَبْلَهُ، بَلْ كُونُوا تَبَعًا لَهُ فِي جميع الأمور. قال ابن عباس: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه (وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إن المراد من الآية الكريمة {لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} لَا تقولوا خلاف الكتاب والسنة والقول الآخر هو رواية العوفي عنه وهو الأقوى والأرجح)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَفْتَاتُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَقْضِيَ الله تعالى عَلَى لِسَانِهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا تَقْضُوا أَمْرًا دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ شَرَائِعِ دِينِكُمْ، وَقَالَ الحسن البصري: لَا تَدْعُوا قَبْلَ الْإِمَامِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَاسًا كَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ أُنْزِلَ في كذا وكذا، لو صح كذا، فكره الله تعالى ذلك، {واتقوا الله} فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} أَيْ لأقوالكم {عَلِيمٌ} بنياتكم، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} هَذَا أَدَبٌ ثَانٍ أَدَّبَ الله تعالى به المؤمنين، أن لا يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوْقَ صَوْتِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نزلت في الشيخين (أبي بكر) و (عمر) رضي الله عنهما، روى البخاري عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَادَ الْخَيِّرَانِ أن يهلكا (أبو بكر) و (عمر) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ، فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالْأَقْرَعِ بْنِ حابس رضي الله عنه أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ، وِأشار الْآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ، قَالَ نَافِعٌ: لَا أَحْفَظُ اسْمَهُ،

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي، قَالَ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} قال ابن الزبير: «فما كان عمر رضي الله عنه يُسْمِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هذه الآية حتى يستفهمه» (أخرجه البخاري في صحيحه). وفي رواية أخرى له قال: قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أمرّ (القعقاع بن معبد)، وقال عمر رضي الله عنه: بَلْ أَمِّرِ (الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ)، فَقَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر رضي الله عنه: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ، فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا: فَنَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} حَتَّى انْقَضَتِ الْآيَةُ {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إليهم} الآية، أخرجه البخاري. وروى الحافظ البزار، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَا أكلمك إلاّ كأخي السرار". وروى البخاري، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَقَدَ (ثابت بن قيس) رضي الله عنه، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ، فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ فِي بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: شَرٌّ، كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ مُوسَى: فَرَجَعَ إِلَيْهِ الْمَرَّةَ الْآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقَالَ: "اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَكِنَّكَ مِنْ أهل الجنة" (أخرجه البخاري في صحيحه). وروى الإمام أحمد، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي - إلى قوله - وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}، وَكَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ رَفِيعَ الصَّوْتِ، فَقَالَ: أَنَا الَّذِي كنت أرفع صوتي على صوت رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَا من أهل النار، حبط عملي، وَجَلَسَ فِي أَهْلِهِ حَزِينًا، فَفَقَدَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ بَعْضُ الْقَوْمِ إِلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ: تفَقَّدك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَالِكَ؟ قَالَ: أَنَا الَّذِي أَرْفَعُ صَوْتِي فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْهَرُ لَهُ بِالْقَوْلِ، حَبِطَ عَمَلِي أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ بما قَالَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا، بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ». قَالَ أنَس رضي الله عنه: فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ كَانَ فِينَا بَعْضُ الِانْكِشَافِ، فَجَاءَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَقَدْ تَحَنَّطَ وَلَبِسَ كَفَنَهُ، فَقَالَ: بِئْسَمَا تُعَوِّدُونَ أَقْرَانَكُمْ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قتل رضي الله عنه (أخرجه الإمام أحمد). وفي رواية: فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا، وَتُقْتَلَ شَهِيدًا، وَتَدْخُلَ الجنة؟» فقال: رضيت ببشرى الله تعالى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَرْفَعُ صوتي أبداً على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} (ذكر هذه الرواية ابن جرير رحمة الله تعالى) الآية.

وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، كَذَلِكَ فَقَدْ نَهَى اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَنْ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه أنه سمع صوت رجلين فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَجَاءَ، فَقَالَ: أَتَدْرِيَانِ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ ثُمَّ قَالَ: مَن أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَأَوْجَعْتُكُمَا ضَرْبًا. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ عِنْدَ قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام، لأنه محترم حياً، وفي قبره صلى الله عليه وسلم دَائِمًا، ثُمَّ نَهَى عَنِ الْجَهْرِ لَهُ بِالْقَوْلِ كَمَا يَجْهَرُ الرَّجُلُ لِمُخَاطِبِهِ مِمَّنْ عَدَاهُ، بَلْ يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم، ولهذا قال تبارك وتعالى: {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}، كما قال تعالى: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً}، وقوله عزَّ وجلَّ: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} أَيْ إِنَّمَا نَهَيْنَاكُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ، خَشْيَةَ أن يغضب من ذلك، فيغضب الله تعالى لغضبه، فيحبط عَمَلَ مَنْ أَغْضَبَهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي، كَمَا جاء في الصحيح: «إن الرجل ليتكلم الكلمة من رضوان الله تعالى لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يُكْتَبُ لَهُ بِهَا بالجنة، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ تعالى لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ السماء والأرض» (رواه مسلم وأخرجه أحمد والترمذي والنسائي بنحوه)، ثم ندب الله تعالى إِلَى خَفْضِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ وَحَثَّ عَلَى ذَلِكَ ورشد إِلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} أَيْ أَخْلَصَهَا لَهَا وَجَعَلَهَا أهلاً ومحلاً {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}. وعن مُجَاهِدٍ قَالَ: كُتِب إِلَى عُمَرَ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَجُلٌ لَا يَشْتَهِي الْمَعْصِيَةَ وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَفْضَلُ، أَمْ رَجُلٌ يَشْتَهِي الْمَعْصِيَةَ وَلَا يَعْمَلُ بِهَا؟ فَكَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَهُونَ الْمَعْصِيَةَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهَا {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عظيم} (أخرجه أحمد في كتاب الزهد).

- 4 - إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ - 5 - وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ثم إنه تبارك وتعالى ذَمَّ الَّذِينَ يُنَادُونَهُ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ، وَهِيَ بُيُوتُ نِسَائِهِ كَمَا يَصْنَعُ أَجْلَافُ الْأَعْرَابِ فَقَالَ: {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}، ثم أرشد تعالى إلى الأدب في ذلك، فقال عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} أَيْ لَكَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْخِيَرَةُ، وَالْمَصْلَحَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ جلَّ ثناؤه دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَقْرَعِ بن حابس التميمي رضي الله عنه نَادَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ حَمْدِي لَزَيْنٌ، وَإِنَّ ذَمِّي لشين، فقال: «ذاك الله عزَّ وجلَّ» (أخرجه الإمام أحمد). وعن البراء في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وَذَمِّي شين، فقال صلى الله عليه وسلم: «ذاك الله عزَّ وجلَّ» (أخرجه ابن جرير)، وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قَالَ: اجْتَمَعَ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ فَقَالُوا: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ يَكُ نَبِيًّا فَنَحْنُ أَسْعَدُ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ يَكُ مَلِكًا نَعِشْ بِجَنَاحِهِ، قَالَ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ

بما قالوا، فجاءوا إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فَجَعَلُوا يُنَادُونَهُ وَهُوَ فِي حُجْرَتِهِ: يَا مُحَمَّدُ .. يا محمد، فأنزل الله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} قَالَ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُذُنِي فَمَدَّهَا، فَجَعَلَ يَقُولُ: «لقد صدّق الله تعالى يَا زَيْدُ، لِقَدْ صَدَّقَ اللَّهُ قَوْلَكَ يَا زيد» (أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير).

- 6 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ - 7 - وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّن الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ - 8 - فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يَأْمُرُ تَعَالَى بِالتَّثَبُّتِ في خبر الفاسق ليحتاط له، وقد نهى الله عزَّ وجلَّ عَنِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُفْسِدِينَ، وَمِنْ هَاهُنَا امْتَنَعَ طَوَائِفُ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَبُولِ رِوَايَةِ مَجْهُولِ الْحَالِ، لِاحْتِمَالِ فِسْقِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَقَبِلَهَا آخرون، وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي (الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبة بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ) حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وقد روي ذلك من طرق: قال الإمام أحمد، عن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي رضي الله عنه قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَدَخَلْتُ فِيهِ وَأَقْرَرْتُ بِهِ، وَدَعَانِي إِلَى الزَّكَاةِ فَأَقْرَرْتُ بِهَا، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، فَأَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَمَنِ اسْتَجَابَ لِي جَمَعْتُ زكاته، وترسل إليّ يا رسول الله رسولاً إبَّان كَذَا وَكَذَا لِيَأْتِيَكَ بِمَا جَمَعْتُ مِنَ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا جَمَعَ الْحَارِثُ الزَّكَاةَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لَهُ، وَبَلَغَ الْإِبَّانَ الَّذِي أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ، احْتُبِسَ عليه الرسول، ولم يأته، وظن الْحَارِثُ أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِيهِ سُخْطَةٌ مِنَ الله تعالى رسوله، فَدَعَا بِسَرَوَاتِ قَوْمِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَقَّتَ لِي وَقْتًا يُرْسِلُ إليَّ رَسُولَهُ، لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدِي مِنَ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُلْفُ، وَلَا أرى حبس رسوله إلاّ من سخطه، فانطلقوا بنا نأتي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبة) إِلَى الْحَارِثِ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِمَّا جَمَعَ مِنَ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا أَنْ سَارَ الْوَلِيدُ حَتَّى بَلَغَ بَعْضَ الطَّرِيقِ فَرِقَ - أي خاف - فرجع حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْحَارِثَ قد منعني الزكاة وأراد قتلي، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعث البعث إلى الحارث رضي الله عنه، وَأَقْبَلَ الْحَارِثُ بِأَصْحَابِهِ حَتَّى إِذَا اسْتَقْبَلَ الْبَعْثُ وَفَصَلَ عَنِ الْمَدِينَةِ لَقِيَهُمُ الْحَارِثُ، فَقَالُوا: هَذَا الْحَارِثُ، فَلَمَّا غَشِيَهُمْ قَالَ لَهُمْ: إِلَى مَنْ بُعِثْتُمْ؟ قَالُوا: إِلَيْكَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إِلَيْكَ (الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبة) فَزَعَمَ أَنَّكَ مَنَعْتَهُ الزكاة وأردت قتله، قال رضي الله عنه: لا والذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُهُ بَتَّةً، وَلَا أَتَانِي، فَلَمَّا دَخَلَ الْحَارِثُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنَعْتَ الزَّكَاةَ وَأَرَدْتَ قَتْلَ رَسُولِي؟» قَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُهُ وَلَا أَتَانِي، وَمَا أَقْبَلْتُ إِلَّا حِينَ احْتُبِسَ عَلَيَّ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خشيت أن يكون كونت سخطة من الله تعالى ورسوله،

قَالَ: فَنَزَلَتِ الْحُجُرَاتُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ - إِلَى قَوْلِهِ - حَكِيمٌ} (أخرجه الإمام أحمد وابن أبي حاتم والطبراني). وروى ابن جرير، عَنْ أُم سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فِي صَدَقَاتِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ بَعْدَ الْوَقِيعَةِ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ الْقَوْمُ، فَتَلَقَّوْهُ يُعَظِّمُونَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ، فَحَدَّثَهُ الشَّيْطَانُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، قَالَتْ، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: إِنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَدْ مَنَعُونِي صَدَقَاتِهِمْ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، قَالَتْ: فَبَلَغَ الْقَوْمَ رُجُوعُهُ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَفُّوا لَهُ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، فَقَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَسَخَطِ رَسُولِهِ، بَعَثْتَ إِلَيْنَا رَجُلًا مُصَدِّقًا، فسررنا بذلك، وقرت به عيننا، ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ مِنْ بَعْضِ الطَّرِيقِ، فَخَشِينَا أن يكون ذلك غضباً من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يزالوا يكلمونه، حتى جاء بلال رضي الله عنه، فَأَذَّنَ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ، قَالَتْ: وَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}؟ (أخرجه ابن جرير من حديث أُم سلمة). وقال مجاهد وقتادة: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبة) إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ لِيُصَدِّقَهُمْ، فَتَلَقَّوْهُ بِالصَّدَقَةِ فَرَجَعَ، فَقَالَ: إِنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَدْ جَمَعَتْ لَكَ لِتُقَاتِلَكَ، زَادَ قَتَادَةُ: وَإِنَّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رضي الله عنه إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَلَا يَعْجَلَ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَاهُمْ لَيْلًا. فَبَعَثَ عُيُونَهُ، فَلَمَّا جَاءُوا أخبروا خالداً رضي الله عنه أَنَّهُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَسَمِعُوا أَذَانَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ، فَلَمَّا أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فَرَأَى الَّذِي يُعْجِبُهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَأَنْزَلَ الله تعالى هذه الآية. وكذا ذكر غير واحد من السلف، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي (الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبة)، وَاللَّهُ أعلم. وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} أَيْ اعْلَمُوا أَنَّ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ رَسُولَ اللَّهِ، فَعَظِّمُوهُ وَوَقِّرُوهُ وَتَأَدَّبُوا مَعَهُ وَانْقَادُوا لِأَمْرِهِ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِكُمْ وَأَشْفَقُ عَلَيْكُمْ مِنْكُمْ، وَرَأْيُهُ فِيكُمْ أَتَمُّ مِنْ رأيكم لأنفسكم، {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّن الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} أَيْ لَوْ أَطَاعَكُمْ فِي جَمِيعِ مَا تَخْتَارُونَهُ لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى عَنَتِكُمْ وَحَرَجِكُمْ، كَمَا قَالَ سبحانه: {وَلَوِ اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض وَمَن فِيهِنَّ}، وقوله عزَّ وجلَّ: {ولكنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} أَيْ حَبَّبَهُ إِلَى نُفُوسِكُمْ، وَحَسَّنَهُ فِي قلوبكم، وعن أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةً والإيمان في القلب»، ثُمَّ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثم يقول: «التقوى ههنا، التقوى ههنا» (أخرجه الإمام أحمد)، {وكرَّه إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} أَيْ وَبَغَّضَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَهِيَ الذُّنُوبُ الْكِبَارُ، وَالْعِصْيَانَ وَهِيَ جَمِيعُ الْمَعَاصِي وَهَذَا تَدْرِيجٌ لِكَمَالِ النِّعْمَةِ، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} أَيِ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ هُمُ الرَّاشِدُونَ الَّذِينَ قَدْ آتَاهُمُ اللَّهُ رُشْدَهُمْ، عن أبي رَفَاعَةَ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُد وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي عزَّ وجلَّ»، فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ،

وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمُ الْمُقِيمُ، الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللهم أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ، وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللَّهُمَّ إِنَّى عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا، وَمِنْ شَرٍّ مَا مَنَعْتَنَا، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِنَا، وكرِّه إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يكذِّبون رُسُلَكَ، ويصدُّون عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتوا الكتاب إله الحق» (أخرجه الإمام أحمد والنسائي). وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: «مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ»، ثُمَّ قَالَ: {فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} أَيْ هَذَا الْعَطَاءُ الَّذِي مَنَحَكُمُوهُ، هُوَ فَضْلٌ مِنْهُ عَلَيْكُمْ، وَنِعْمَةٌ مِنْ لَدُنْهُ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ، مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْغَوَايَةَ، حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ.

- 9 - وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُواْ التِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - 10 - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى آمراً بالإصلاح بين الفئتين الباغيتين بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} فَسَمَّاهُمْ مُؤْمِنِينَ مَعَ الِاقْتِتَالِ، وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا يخرج عن الْإِيمَانِ بِالْمَعْصِيَةِ وَإِنْ عَظُمَتْ، لَا كَمَا يَقُولُهُ الخوارج والمعتزلة، وهكذا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمًا وَمَعَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ الْحَسَنُ بن علي رضي الله عنهما، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ مَرَّةً، وَإِلَى النَّاسِ أُخرى وَيَقُولُ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ تعالى أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المسلمين» (أخرجه البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه). فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، أصلح الله تعالى بِهِ بَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، بَعْدَ الحروب الطويلة والواقعات المهولة، وقوله تعالى: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُواْ التِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أَيْ حتى ترجع إلى أَمْرِ الله ورسوله، وَتَسْمَعَ لِلْحَقِّ وَتُطِيعَهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» قِيلَ: يَا رسول الله أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال صلى الله عليه وسلم: «تمنعه من الظلم فذاك نصرك أياه». وروى الإمام أحمد، عن أنَس رضي الله عنه قَالَ، قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبي، فَانْطَلَقَ إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَكِبَ حِمَارًا، وَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ وَهِيَ أَرْضٌ سَبْخَةٌ، فَلَمَّا انْطَلَقَ النبي صلى الله عليه وسلم إليه قَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي فَوَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي رِيحُ حِمَارِكَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: وَاللَّهِ لَحِمَارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ، قَالَ: فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، قَالَ: فَكَانَ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالْأَيْدِي

وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أَنَّهُ أُنْزَلَتْ فِيهِمْ: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} (أخرجه أحمد ورواه البخاري بنحوه). وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانَ بَيْنَهُمَا قِتَالٌ بِالسَّعَفِ وَالنِّعَالِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَمَرَ بِالصُّلْحِ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ عِمْرَانُ، كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ تُدْعَى أُمَّ زَيْدٍ، وَإِنَّ الْمَرْأَةَ أَرَادَتْ أَنْ تَزُورَ أَهْلَهَا فَحَبَسَهَا زَوْجُهَا، وَجَعَلَهَا فِي عِلْيَةٍ لَهُ، لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِنَّ الْمَرْأَةَ بَعَثَتْ إِلَى أَهْلِهَا فَجَاءَ قَوْمُهَا وَأَنْزَلُوهَا، لِيَنْطَلِقُوا بِهَا، وَإِنَّ الرجل كان قد خَرَجَ، فَاسْتَعَانَ أَهْلُ الرَّجُلِ، فَجَاءَ بَنُو عَمِّهِ لِيَحُولُوا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ أَهْلِهَا فَتَدَافَعُوا وَاجْتَلَدُوا بِالنِّعَالِ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْلَحَ بينهم وفاءوا إلى أَمْرِ الله تعالى. وقوله عزَّ وجلَّ: {فَإِنْ فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} أي اعدلوا بينهما بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، روى ابن أبي حاتم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عنهما قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ فِي الدُّنْيَا عَلَى منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن عزَّ وجلَّ بما أقسطوا في الدنيا» (أخرجه ابن أبي حاتم والنسائي). وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المقسطون عند الله تعالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَلَى يَمِينِ الْعَرْشِ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ وما ولوا» (أخرجه مسلم والنسائي وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو). وقوله تعالى: {إِنَّمَآ الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} أَيِ الْجَمِيعُ إِخْوَةٌ فِي الدِّينِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يظلمهُ وَلَا يُسْلِمُهُ»، وَفِي الصَّحِيحِ: «وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: "إِذَا دَعَا الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْمَلَكُ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلِهِ" والأحاديث في هذا كثيرة. وقوله تعالى: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} يَعْنِي الْفِئَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أَيْ فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. وَهَذَا تَحْقِيقٌ مِنْهُ تَعَالَى لِلرَّحْمَةِ لِمَنِ اتَّقَاهُ.

- 11 - يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَنْهَى تَعَالَى عَنِ السُّخْرِيَةِ بِالنَّاسِ وَهُوَ احْتِقَارُهُمْ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْكِبْرُ بطرُ الحق، وغَمْطُ النَّاسِ»، وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ احْتِقَارُهُمْ وَاسْتِصْغَارُهُمْ وَهَذَا حَرَامٌ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمُحْتَقَرُ أَعْظَمَ قدراً عند الله تعالى وأحب إليه من الساخر منه المتحقر له، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} فَنَصَّ عَلَى نَهْيِ الرِّجَالِ وَعَطَفَ بنهي النساء، وقوله تبارك وتعالى: {وَلاَ تلمزوا أنفسكم} أي لاتلمزوا النَّاسَ، وَالْهَمَّازُ اللمَّاز مِنَ الرِّجَالِ مَذْمُومٌ مَلْعُونٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}، والهمز بالفعل واللمز بالقول، كما قال عزَّ وجلَّ: {هَمَّازٍ مشاء بنميم} قال ابن عباس ومجاهد: {وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أَيْ لَا يَطْعَنْ بَعْضُكُمْ على بعض، وقوله تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُواْ

بالألقاب} أي لاتداعوا بِالْأَلْقَابِ وَهِيَ الَّتِي يَسُوءُ الشَّخْصَ سَمَاعُهَا، قَالَ الشعبي: حَدَّثَنِي أَبُو جُبَيْرَةَ بْنُ الضَّحَّاكِ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ فِي بَنِي سَلِمَةَ {وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالْأَلْقَابِ} قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَلَيْسَ فِينَا رَجُلٌ إِلَّا وَلَهُ اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا أحداً مِنْهُمْ بِاسْمٍ مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَغْضَبُ مِنْ هَذَا، فَنَزَلَتْ: {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب} (أخرجه الإمام أحمد وأبو داود)، وقوله جلَّ وعلا: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} أَيْ بِئْسَ الصِّفَةُ وَالِاسْمُ الْفُسُوقُ، وَهُوَ التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ كَمَا كان أهل الجاهلية يتناعتون بعد ما دَخَلْتُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَعَقَلْتُمُوهُ {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} أَيْ مِنْ هَذَا {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

- 12 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الظَّنِّ، وَهُوَ التهمة والتخون للأهل وَالنَّاسِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، لِأَنَّ بَعْضَ ذَلِكَ يكون إثماً محضاً، قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إِلَّا خَيْرًا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ محملاً، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ وَيَقُولُ: «مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ! مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حُرْمَةً مِنْكِ، مَالُهُ وَدَمُهُ وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ إلا خيراً» (أخرجه ابن ماجة في سننه). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» (أخرجه البخاري والإمام مالك). وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَكُونُوا عباد الله إخواناً ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» (أخرجه مسلم والترمذي وصححه). وروى الطبراني، عن حارثة بن النعمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لازمات لِأُمَّتِي: الطِّيَرَةُ وَالْحَسَدُ وَسُوءُ الظَّنِّ"، فَقَالَ رَجُلٌ: وما يُذْهِبُهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّنْ هُنَّ فِيهِ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا حَسَدْتَ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تحقق، وإذا تطيرت فامض» (رواه الطبراني). وروى أبو داود، عن زيد رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَجُلٍ فَقِيلَ لَهُ هَذَا فُلَانٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خمراً، فقال عبد الله رضي الله عنه: إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ التَّجَسُّسِ، وَلَكِنْ إِنْ يظهر لنا شيء نأخذ به" (رواه أبو داود وسماه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي رِوَايَتِهِ (الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبة)). وروى الإمام أحمد، عن أبي الهيثم عن دجين كَاتِبِ عُقْبَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعُقْبَةَ إِنَّ لَنَا جِيرَانًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ،

وَأَنَا دَاعٍ لَهُمُ الشُّرَطَ فَيَأْخُذُونَهُمْ، قَالَ: لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ عِظْهُمْ وَتَهَدَّدْهُمْ، قَالَ: فَفَعَلَ فَلَمْ ينتهوا، قال، فجاءه دجين، فقال: إني قد نهيتهم وَإِنِّي دَاعٍ لَهُمُ الشُّرَطَ، فَتَأْخُذُهُمْ، فَقَالَ لَهُ عُقْبَةُ: وَيْحَكَ لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُؤْمِنٍ فَكَأَنَّمَا اسْتَحْيَا مَوْءُودَةً مِنْ قبرها» (رواه أحمد وأبو داود والنسائي). {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} أَيْ عَلَى بَعْضِكُمْ بَعْضًا، وَالتَّجَسُّسُ غَالِبًا يُطْلَقُ فِي الشَّرِّ وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ، وَأَمَّا التَّحَسُّسُ فَيَكُونُ غَالِبًا فِي الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ إخباراً عن يعقوب: {يَا بنيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله}. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: التَّجَسُّسُ الْبَحْثُ عَنِ الشَّيْءِ، وَالتَّحَسُّسُ الاستماع إلى حديث القوم، أو يتسمع على أبوابهم، والتدابر: الصرم. وقوله تعالى: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} فِيهِ نَهْيٌ عَنِ الْغَيْبَةِ، وَقَدْ فَسّرها الشَّارِعُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ الله ما الغيبة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كان في أخي ما أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بهتّه». وعن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ، قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حسبك من صفية كذا وكذا، تعني قصيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ». قَالَتْ: وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إنساناً، وإن لي كذا وكذا» (أخرجه أبو داود والترمذي). وَالْغِيبَةُ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا رَجَحَتْ مَصْلَحَتُهُ، كَمَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالنَّصِيحَةِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْفَاجِرُ: «ائْذَنُوا له بئس أخو العشيرة»، وكقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رضي الله عنها وَقَدْ خَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ وَأَبُو الْجَهْمِ: «أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ وَأَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ»، وَكَذَا مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، ثُمَّ بَقِيَّتُهَا عَلَى التَّحْرِيمِ الشَّدِيدِ، وَقَدْ وَرَدَ فيها الزجر الأكيد ولهذا شبهها تبارك وتعالى بِأَكْلِ اللَّحْمِ مِنَ الْإِنْسَانِ الْمَيِّتِ كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} أَيْ كَمَا تَكْرَهُونَ هَذَا طَبْعًا فَاكْرَهُوا ذَاكَ شَرْعًا، فَإِنَّ عُقُوبَتَهُ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، وهذا من التنفير عنها والتحذير منها، وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ غَيْرِ وجه أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شهركم هذا، في بلدكم هذا». وروى أبو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، مَالُهُ، وَعِرْضُهُ، وَدَمُهُ، حَسْبُ امْرِئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» (رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن غريب). وعن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَسْمَعَ الْعَوَاتِقَ فِي بُيُوتِهَا، أَوْ قَالَ: فِي خُدُورِهَا، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ لَا تَغْتَابُوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عَوْرَةَ أَخِيهِ يَتْبَعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتْبَعِ الله عورته يفضحه في جوف بيته» (رواه الحافظ أبو يعلى وأبو داود بنحوه). (طريق أُخْرى): عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ يَتْبَعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتْبَعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ

يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ»، قَالَ، وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَلَلْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ الله منك. عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا عَرَجَ بي مررت بقوم لهم أظافر مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، قُلْتُ: مَنْ هولاء يا جبريل؟ قال: هولاء الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ" (أخرجه أبو داود والإمام أحمد). وروى ابن أبي حاتم، عن سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا مَا رَأَيْتَ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِكَ؟ قَالَ: "ثُمَّ انْطُلِقَ بِي إِلَى خَلْقٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَثِيرٍ، رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، مُوكَلٌ بِهِمْ رِجَالٌ يَعْمِدُونَ إِلَى عرض جنب أحدهم، فيجذون منه الجذة مثل النعل، ثم يضعونها فِي فيِّ أَحَدِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: كُلْ كَمَا أَكَلْتَ - وَهُوَ يَجِدُ مِنْ أَكْلِهِ الْمَوْتَ يَا مُحَمَّدُ لَوْ يَجِدُ الْمَوْتَ وَهُوَ يُكْرَهُ عَلَيْهِ - فقلت: يا جبرائيل من هولاء؟ قال: هولاء الْهَمَّازُونَ اللَّمَّازُونَ أَصْحَابُ النَّمِيمَةِ، فَيُقَالُ {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} وَهُوَ يكره على أكل لحمه". وروى الحافظ البيهقي، عن عبيد مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ صَامَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: يا رسول الله! إن ههنا امْرَأَتَيْنِ صَامَتَا، وَإِنَّهُمَا كَادَتَا تَمُوتَانِ مِنَ الْعَطَشِ، أَرَاهُ قَالَ بِالْهَاجِرَةِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ أَوْ سَكَتَ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُمَا وَاللَّهِ قَدْ مَاتَتَا، أَوْ كَادَتَا تَمُوتَانِ، فَقَالَ: «ادْعُهُمَا»، فجاءتا، قال، فجيء بِقَدَحٍ أَوْ عُسٍّ، فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا: «قِيئِي»، فَقَاءَتْ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ وَصَدِيدٍ، حَتَّى قَاءَتْ نِصْفَ الْقَدَحِ، ثُمَّ قَالَ للأًخْرى: «قِيئِي»، فَقَاءَتْ قَيْحًا وَدَمًا وَصَدِيدًا وَلَحْمًا وَدَمًا عَبِيطًا وَغَيْرَهُ، حَتَّى ملأت القدح، ثم قال: «إِنَّ هَاتَيْنِ صَامَتَا عَمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمَا، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، وجلست إِحْدَاهُمَا إِلَى الأُخْرى فَجَعَلَتَا تَأْكُلَانِ لُحُومَ النَّاسِ» (أخرجه الحافظ البيهقي والإمام أحمد). وروى الحافظ أبو يعلى، عن ابن عمر أَنَّ مَاعِزًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إني قد زنيت، فأعرض عنه، حتى قَالَهَا أَرْبَعًا، فَلَمَّا كَانَ فِي الْخَامِسَةِ قَالَ: «زَنَيْتَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «وَتَدْرِي مَا الزِّنَا؟» قَالَ: نَعَمْ، أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ حَلَالًا، قَالَ: «مَا تُرِيدُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ؟» قَالَ: أُريد أَنْ تُطَهِّرَنِي، قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدْخَلْتَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا، كما يغيب الميل في المكحلة والرشا فِي الْبِئْرِ؟» قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ، فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ فرُجم، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ يَقُولُ أَحَدَهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجم رجْم الْكَلْبِ؟ ثُمَّ سَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ، فَقَالَ: «أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟ انْزِلَا فَكُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ»، قَالَا: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا رَسُولَ الله، وهل يؤكل هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «فَمَا نِلْتُمَا مِنْ أَخِيكُمَا آنِفًا أَشَدُّ أَكْلًا مِنْهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ الْآنَ لَفِي أنهار الجنة ينغمس فيها» (أخرجه الحافظ أبو يعلى وإسناده صحيح). وروى الإمام أحمد، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْتَفَعَتْ رِيحُ جِيفَةٍ مُنْتِنَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَدْرُونَ مَا هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس؟» (أخرجه الإمام أحمد في مسنده) وقوله عزَّ وجلَّ: {واتقوا

اللَّهَ} أَيْ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ فراقبواه فِي ذَلِكَ وَاخْشَوْا مِنْهُ، {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} أَيْ تَوَّابٌ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ {رَّحِيمٌ} لمن رَجَعَ إِلَيْهِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ، قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: طَرِيقُ الْمُغْتَابِ لِلنَّاسِ فِي تَوْبَتِهِ أَنْ يقلع عن ذلك، ويعزم على أن لا يَعُودَ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ النَّدَمُ عَلَى مَا فَاتَ؟ فِيهِ نِزَاعٌ، وَأَنْ يَتَحَلَّلَ مِنَ الَّذِي اغْتَابَهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَتَحَّلَلَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا أَعْلَمَهُ بِذَلِكَ رُبَّمَا تَأَذَّى أَشَدَّ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ بِمَا كَانَ مِنْهُ، فَطَرِيقُهُ إِذًا أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ فِي الْمَجَالِسِ الَّتِي كَانَ يَذُمُّهُ فِيهَا، وَأَنْ يَرُدَّ عَنْهُ الغيبة بحسبه وطاقته، لتكون تلك بتلك؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حمى مؤمناً من منافق يغتابه بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بشيء يريد سبه حبسه الله تعالى عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» (أخرجه أبو داود وأحمد). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من امرئ يخذل امرءاً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فيه من عرضه، إلا خذله الله تعالى فِي مَوَاطِنَ يُحِبُّ فِيهَا نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنَ امرئ ينصر امرءاً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ في مواطن يحب فيها نصرته» (أخرجه أبو داود).

- 13 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا لِلنَّاسِ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَهُمَا (آدَمُ) و (حواء) وجعلهم شعوباً وهي أعم من القبائل، وبعدها مراتب أُخر، كالفصائل والعشائر والأفخاذ وغير ذلك، فَجَمِيعُ النَّاسِ فِي الشَّرَفِ بِالنِّسْبَةِ الطِّينِيَّةِ، إِلَى آدم وحواء عليهما السلام سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُونَ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَهِيَ طَاعَةُ الله تعالى وَمُتَابَعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْغَيْبَةِ، وَاحْتِقَارِ بَعْضِ النَّاسِ بَعْضًا، مُنَبِّهًا عَلَى تَسَاوِيهِمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا} أَيْ لِيَحْصُلَ التَّعَارُفُ بَيْنَهُمْ كُلٌّ يَرْجِعُ إِلَى قَبِيلَتِهِ، وقال مجاهد {لتعارفوا} كما يقال فلان ابن فلان من قبيلة كذا وكذا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ منسأة في الأثر» (أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب). وقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، أَيْ إِنَّمَا تتفاضلون عند الله تعالى بِالتَّقْوَى لَا بِالْأَحْسَابِ. وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: «أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ»، قَالُوا: لَيْسَ على هذا ما نَسْأَلُكَ، قَالَ: «فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ الله»، قالوا: وليس على هذا ما نَسْأَلُكَ، قَالَ: «فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي»؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارِكُمْ فِي الإسلام إذا فقهوا». (حديث آخَرَ): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ولكن ينظر إلى قلوبكم

وأعمالكم» (أخرجه مسلم وابن ماجة). (حديث آخر): وروى الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «انْظُرْ فَإِنَّكَ لَسْتَ بِخَيْرٍ مِنْ أَحْمَرَ ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله» (تفرد به أحمد). (حديث آخر): وعن حبيب بن خراش العصري أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْمُسْلِمُونَ إِخْوَةٌ لَا فَضْلَ لِأَحَدٍ على أحد إلا بالتقوى» (أخرجه الطبراني). (حديث آخر): وعن حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ وَلَيَنْتَهِيَنَّ قَوْمٌ يَفْخَرُونَ بِآبَائِهِمْ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ تعالى من الجعلان» (أخرجه البزار في مسنده). (حديث آخر): قال ابن أبي حاتم، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ بِمِحْجَنٍ فِي يَدِهِ، فَمَا وَجَدَ لَهَا مُنَاخًا فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى نَزَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ، فَخَرَجَ بِهَا إِلَى بَطْنِ الْمَسِيلِ فَأُنِيخَتْ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَهُمْ عَلَى راحلته فحمد الله تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ قال: "يا أيها الناس إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الْجَاهِلِيَّةِ وَتُعَظُّمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: رَجُلٌ بَرٌّ تقي كريم على الله تعالى، ورجل فاجر شقي هيّنٌ على الله تعالى، إن الله عزَّ وجلَّ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ". ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ» (أخرجه ابن أبي حاتم وعبد بن حميد). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ} أَيْ عَلِيمٌ بِكُمْ خَبِيرٌ بِأُمُورِكُمْ، فَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَن يَشَآءُ، وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ، وهو الحكيم العليم الخبير.

- 14 - قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ - 15 - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ - 16 - قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ - 17 - يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 18 - أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ يَقُولُ تعالى منكراً على الأعراب، الذين ادَّعَوْا لِأَنْفُسِهِمْ مَقَامَ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنِ الإِيمان فِي قُلُوبِهِمْ بَعْدُ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ}، وقد استفيد أن الإيمان أخص من الإسلام، ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام، حِينَ سَأَلَ عَنِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ عَنِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ عَنِ الْإِحْسَانِ، فَتَرَقَّى مِنَ الْأَعَمِّ، إِلَى الأخص، روى الإمام أحمد، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال:

أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالًا وَلَمْ يُعْطِ رَجُلًا مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ سعد رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا وَلَمْ تُعْطِ فُلَانًا شَيْئًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أو مسلم؟» حتى أعادها سعد رضي الله عنه ثَلَاثًا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَوْ مُسْلِمٌ؟»، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا وَأَدَعُ مَنْ هُوَ أحبُّ إليَّ مِنْهُمْ، فَلَمْ أُعْطِهِ شَيْئًا مَخَافَةَ أَنْ يُكَبُّوا فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ»، فَقَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المؤمن والمسلم، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ أَخَصُّ مِنَ الْإِسْلَامِ، ودل عَلَى أَنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ مُسْلِمًا لَيْسَ مُنَافِقًا، لِأَنَّهُ تَرَكَهُ مِنَ الْعَطَاءِ، وَوَكَلَهُ إِلَى ما هو فيه من الإسلام، فهؤلاء الأعراب المذكورون فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسُوا بِمُنَافِقِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ مُسْلِمُونَ لَمْ يَسْتَحْكِمِ الإِيمان فِي قُلُوبِهِمْ، فَادَّعَوْا لِأَنْفُسِهِمْ مَقَامًا أَعْلَى مِمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ، فَأُدِّبُوا في ذلك، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا مُنَافِقِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَلَيْسُوا كَذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بن جبير ومجاهد {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}: أَيِ اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ الْقَتْلِ والسبي، قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ امْتَنُّوا بِإِيمَانِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ أَنَّهُمْ قَوْمٌ ادَّعَوْا لِأَنْفُسِهِمْ مَقَامَ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ بَعْدُ فَأُدِّبُوا وَأُعْلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ بَعْدُ، ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا، وَإِنَّمَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ تَأْدِيبًا: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} أَيْ لَمْ تَصِلُوا إِلَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ بعد، ثم قال تعالى: {وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} أَيْ لَا يَنْقُصُكُمْ مِنْ أُجُورِكُمْ شيئاً كقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ}، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أَيْ لِمَنْ تَابَ إليه وأناب. وقوله تعالى: {إِنَّمَآ الْمُؤْمِنُونَ} أَيْ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الكُمَّل {الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} أَيْ لَمْ يَشُكُّوا وَلَا تَزَلْزَلُوا، بَلْ ثَبَتُوا عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ التَّصْدِيقُ الْمَحْضُ، {وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ وَبَذَلُوا مُهَجَهُمْ وَنَفَائِسَ أَمْوَالِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ، {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أَيْ فِي قَوْلِهِمْ إِذَا قَالُوا إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، لَا كَبَعْضِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِّن الإيمان إلا الكلمة الظاهرة، وقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} أي أتخبروه بِمَا فِي ضَمَائِرِكُمْ؟ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي لايخفى عَلَيْهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} يعني الأعراب الذين يمنُّون بإسلامهم ومتابعتهم على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى رداً عليهم: {قُلْ لاَّ تَمُنُّواْ عليَّ لإسلامكم} فَإِنَّ نَفْعَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَعُودُ عَلَيْكُمْ وَلِلَّهِ الْمِنَّةُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ فِي دَعْوَاكُمْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ يَوْمَ حُنَيْنٍ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي؟ وكنتم عالة فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟» كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: الله ورسوله أمنّ. وروى الحافظ البزار، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَتْ بَنُو أَسَدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْلَمْنَا، وَقَاتَلَتْكَ الْعَرَبُ وَلَمْ نُقَاتِلْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِقْهَهُمْ قليل، وإن الشيطان ينطلق عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ»، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عليَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، ثُمَّ كَرَّرَ الْإِخْبَارَ بِعِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، وَبَصَرِهِ بِأَعْمَالِ الْمَخْلُوقَاتِ فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تعملون}.

50 - سورة ق

- 50 - سورة ق

هذه السورة هي أول المفصل على الصحيح، وقيل من الحجرات، والدليل على ذلك مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ «بَابُ تحزيب القرآن»، ثم قال قَالَ أَوْسٌ: سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم كيف يحزبون الْقُرْآنَ؟ فَقَالُوا: ثَلَاثٌ، وَخَمْسٌ، وَسَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَثَلَاثَ عشرة، وحزب المفصل وحده (أخرجه أبو داود وابن ماجة)، بيانه: (ثلاث) البقرة وآل عمران والنساء، و (خمس) المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة، و (سبع) يُونُسُ وَهُودٌ وَيُوسُفُ وَالرَّعْدُ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحِجْرُ وَالنَّحْلُ، و (تسع) سُبْحَانَ وَالْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَطَهَ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْحَجُّ وَالْمُؤْمِنُونَ والنور والفرقان، و (إحدى عَشْرَةَ) الشُّعَرَاءُ وَالنَّمْلُ وَالْقَصَصُ وَالْعَنْكَبُوتُ وَالرُّومُ وَلُقْمَانُ والم السجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويسن، و (ثلاث عشرة) الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق وَالزُّخْرُفُ وَالدُّخَانُ وَالْجَاثِيَةُ وَالْأَحْقَافُ وَالْقِتَالُ وَالْفَتْحُ وَالْحُجُرَاتُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْحِزْبُ الْمُفَصَّلُ، كَمَا قَالَهُ الصَّحَابَةُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ أوله سورة ق، وقال الإمام أحمد عن عبد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في العيد، قال: بقاف واقتربت (أخرجه مسلم وأصحاب السنن). وعن أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ تَنُّورُنَا وَتَنُّورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةً وَبَعْضَ سَنَةٍ، وَمَا أَخَذْتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إِلَّا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا خطب الناس (أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد). وَالْقَصْدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِهَذِهِ السُّورَةِ فِي الْمَجَامِعِ الْكِبَارِ كَالْعِيدِ وَالْجُمَعِ، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ، وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْمَعَادِ وَالْقِيَامِ، وَالْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب، والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم

- 1 - ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ - 2 - بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ - 3 - أئذا مِتْنَا

وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ - 4 - قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ - 5 - بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ {ق} حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ المذكورة في أوائل السور، كقوله تعالى: {ص - ون - والم} وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ أَسْلَفْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعادته، وقوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، أَيِ الْكَرِيمُ الْعَظِيمُ الَّذِي {لَا يأتيه باطل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ مَا هُوَ؟ فَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ النحاة أنه قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} وَفِي هَذَا نَظَرٌ، بَلِ الْجَوَابُ هُوَ مَضْمُونُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقَسَمِ وَهُوَ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ وَإِثْبَاتُ الْمَعَادِ وَتَقْرِيرُهُ وَتَحْقِيقُهُ، وَإِنْ لَمْ يكن القسم يتلقى لَفْظًا، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَقْسَامِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}، وهكذا قال ههنا {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} أَيْ تَعَجَّبُوا مِنْ إِرْسَالِ رَسُولٍ إِلَيْهِمْ مِنَ البشر، كقوله جلَّ جلاله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس} أَيْ وَلَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ، فَإِنَّ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ، ثُمَّ قَالَ عزَّ وجلَّ مخبراً عنهم في تعجبهم أَيْضًا مِنَ الْمَعَادِ وَاسْتِبْعَادِهِمْ لِوُقُوعِهِ {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} أَيْ يَقُولُونَ أئذا مِتْنَا وَبَلِينَا وَتَقَطَّعَتِ الْأَوْصَالُ مِنَّا وَصِرْنَا تُرَابًا، كَيْفَ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ؟ {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} أَيْ بَعِيدُ الوقوع، والمعنى أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اسْتِحَالَتَهُ وَعَدَمَ إِمْكَانِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} أَيْ مَا تَأْكُلُ مِنْ أَجْسَادِهِمْ فِي الْبِلَى، نَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَخْفَى عَلَيْنَا أَيْنَ تَفَرَّقَتِ الْأَبْدَانُ، وَأَيْنَ ذَهَبَتْ وَإِلَى أَيْنَ صَارَتْ {وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} أَيْ حَافِظٌ لِذَلِكَ، فَالْعِلْمُ شَامِلٌ وَالْكِتَابُ أَيْضًا فِيهِ كُلُّ الْأَشْيَاءِ مضبوطة، قال ابن عباس {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} أَيْ مَا تَأْكُلُ مِنْ لُحُومِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ، وَعِظَامِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ؛ ثم بين تبارك وتعالى سَبَبَ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَاسْتِبْعَادِهِمْ مَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ، فَقَالَ: {بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} أَيْ وَهَذَا حَالُ كُلِّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْحَقِّ مَهْمَا قَالَ بَعْدَ ذلك فهو باطل، و «المريج» المختلف المضطرب المنكر، كقوله تَعَالَى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}.

- 6 - أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ - 7 - وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ - 8 - تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ - 9 - وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ - 10 - وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ - 11 - رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا لِلْعِبَادِ عَلَى قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ، الَّتِي أَظْهَرَ بِهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا تَعَجَّبُوا مُسْتَبْعِدِينَ لِوُقُوعِهِ {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا}؟ أَيْ بِالْمَصَابِيحِ، {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يعني من

شقوق، وقال غيره: فتوق، وقال غيره: صدوع، والمعنى متقارب، كقوله تبارك وتعالى: {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ}. وقوله تبارك وتعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} أَيْ وَسِعْنَاهَا وَفَرَشْنَاهَا {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} وَهِيَ الْجِبَالُ لِئَلَّا تَمِيدَ بِأَهْلِهَا وَتَضْطَرِبَ، فَإِنَّهَا مُقَرَّةٌ عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ الْمُحِيطِ بِهَا مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهَا، {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أَيْ مِنْ جَمِيعِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالنَّبَاتِ وَالْأَنْوَاعِ، {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وقوله {بَهِيجٍ} أي حسن المنظر، {تَبْصِرَةً وذكرى لكل عبد مُّنِيبٍ} أي مشاهدة خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِمَا مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ {تَبْصِرَةً} وَدَلَالَةٌ وَذِكْرَى لِكُلِّ {عَبْدٍ مُّنِيبٍ} أَيْ خَاضِعٍ خَائِفٍ وَجِلٍ، رجَّاع إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَآءً مُّبَارَكاً} أَيْ نَافِعًا {فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} أَيْ حَدَائِقَ مِنْ بَسَاتِينَ وَنَحْوِهَا {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} وَهُوَ الزَّرْعُ الَّذِي يُرَادُ لِحَبِّهِ وادخاره، {والنخل بَاسِقَاتٍ} أي طوالاً شاهقات، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة: الْبَاسِقَاتُ الطِّوَالُ، {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} أَيْ مَنْضُودٌ، {رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ} أَيْ لِلْخَلْقِ، {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ هَامِدَةً، فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهَا الْمَاءُ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، مِنْ أَزَاهِيرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مما يحار الطرف في حسنها، وذلك بعدما كَانَتْ لَا نَبَاتَ بِهَا فَأَصْبَحَتْ تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ، فَهَذَا مِثَالٌ لِلْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْهَلَاكِ، كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، وَهَذَا الْمُشَاهَدُ مِنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِالْحِسِّ، أَعْظَمُ مِمَّا أَنْكَرَهُ الْجَاحِدُونَ لِلْبَعْثِ، كقوله عزَّ وجلَّ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}، وقوله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى؟ بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قدير} وقال سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كل شيء قدير}.

- 12 - كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ - 13 - وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ - 14 - وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ - 15 - أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ يَقُولُ تَعَالَى مُتَهَدِّدًا لِكَفَّارِ قُرَيْشٍ، بما أحله بأشباههم ونظرائهم مِنَ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهُمْ مِنَ النَّقَمَاتِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ كقوم نوح، وما عذبهم الله تعالى بِهِ مِنَ الْغَرَقِ الْعَامِّ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، {وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُمْ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ، {وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ} وَهُمْ أُمَّتُهُ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ سَدُومَ، وكيف خسف الله تعالى بِهِمُ الْأَرْضَ، وَأَحَالَ أَرْضَهُمْ بُحَيْرَةً مُنْتِنَةً خَبِيثَةً، بكفرهم وطغيانهم ومخالفتهم الحق {وَأَصْحَابُ الأريكة} وهم قوم شعيب عليه الصلاة والسلام {وَقَوْمُ تُّبَّعٍ} وَهُوَ الْيَمَانِيُّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ شأنه في سورة الدخان، {كلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} أَيْ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الأمم وهؤلاء القرون كذب رسولهم، ومن كذب رسولاً فإنما كذب جميع الرسل كقوله جلَّ وعلا: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين}، {فَحَقَّ وَعِيدِ} أَيْ فَحَقَّ عَلَيْهِمْ مَا أَوْعَدَهُمُ الله تعالى عَلَى التَّكْذِيبِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، فَلْيَحْذَرِ الْمُخَاطَبُونَ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا رسولهم كما كذب أولئك، وقوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} أَيْ أَفَأَعْجَزَنَا ابْتِدَاءُ الْخَلْقِ حَتَّى هُمْ فِي شَكٍّ مِنَ الْإِعَادَةِ؟ {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}، وَالْمَعْنَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْخَلْقِ لَمْ يُعْجِزْنَا، وَالْإِعَادَةُ أَسْهَلُ منه كما قال عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه}، وقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ

بِكُلِّ خَلْقٍ عليم}، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَقُولُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بأهون عليَّ من إعادته».

- 16 - وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ - 17 - إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ - 18 - مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ - 19 - وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ - 20 - وَنُفِخَ فِي الصُّوَرِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ - 21 - وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ - 22 - لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ يخبر تعالى عن قدرته على الإنسان بأن علمه مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أُمُورِهِ، حَتَّى إِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا توسوس به نفسه مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تعالى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَقُلْ أَوْ تعمل». وقوله عزَّ وجلَّ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} يَعْنِي مَلَائِكَتُهُ تَعَالَى أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ إِلَيْهِ، وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْعِلْمِ فَإِنَّمَا فَرَّ لِئَلَّا يَلْزَمَ حُلُولٌ أَوِ اتِّحَادٌ، وَهُمَا مَنْفَيَّانِ بِالْإِجْمَاعِ تَعَالَى اللَّهُ وَتَقَدَّسَ، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِيهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقِلْ: وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَإِنَّمَا قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} كَمَا قَالَ في المختصر {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} يعني ملائكته، فالملائكة أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ إِلَيْهِ، بإقدار الله جلَّ وعلا لهم على ذلك، فللملَك لَّمة من الإنسان كما أن للشيطان لمة، ولهذا قال تعالى ههنا {إذ يتلقى الملتقيان} يَعْنِي الْمَلَكَيْنِ اللَّذَيْنِ يَكْتُبَانِ عَمَلَ الْإِنْسَانِ {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} أَيْ مُتَرَصِّدٌ، {مَّا يَلْفِظُ} أَيِ ابْنُ آدَمَ {مِن قَوْلٍ} أَيْ مَا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ {إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أي إلاّ ولها من يرقبها، معد لِذَلِكَ يَكْتُبُهَا، لَا يَتْرُكُ كَلِمَةً وَلَا حَرَكَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كاتبين * يعملون ما تفعلون} وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَكْتُبُ الْمَلَكُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ (وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وقَتَادَةَ)، أَوْ إِنَّمَا يَكْتُبُ مَا فِيهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ (وهو قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ) عَلَى قَوْلَيْنِ: وَظَاهِرُ الْآيَةِ الأول لعموم قوله تبارك وتعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}. وقد روى الإمام أحمد، عن بلال بن الحارث المزني رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَظُنُّ أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عزَّ وجلَّ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّهِ تَعَالَى مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بلغت يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه» (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة) فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ: كَمْ مِنْ كَلَامٍ قَدْ منعنيه حديث بلال بن الحارث، وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: صَاحِبُ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الخير وهو أمين عَلَى صَاحِبِ الشِّمَالِ، فَإِنْ أَصَابَ الْعَبْدُ خَطِيئَةً قَالَ لَهُ: أَمْسِكْ، فَإِنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى نهاه أن يكتبها وإن أبى كتبها، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ؛ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ}: يا ابن آدَمَ بُسِطَتْ لَكَ

صَحِيفَةٌ، وَوَكَلَ بِكَ مَلَكَانِ كَرِيمَانِ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِكَ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِكَ، فَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَمِينِكَ فَيَحْفَظُ حَسَنَاتِكَ، وَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَسَارِكَ فَيَحْفَظُ سَيِّئَاتِكَ، فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ، أَقْلِلْ أَوْ أَكْثِرْ، حَتَّى إِذَا مِتَّ طُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ وَجُعِلَتْ فِي عُنُقِكَ مَعَكَ فِي قَبْرِكَ، حَتَّى تَخْرُجَ يوم القيامة، فعند ذلك يقال لك: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} ثُمَّ يَقُولُ: «عَدَل وَاللَّهِ فِيكَ مَنْ جَعَلَكَ حسيب نفسك». وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} قَالَ: يَكْتُبُ كُلَّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَكْتُبُ قَوْلَهُ: أَكَلْتُ، شَرِبْتُ، ذَهَبْتُ، جِئْتُ، رَأَيْتُ. حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ عَرَضَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ، فأقَّر مِنْهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَأَلْقَى سَائِرَهُ، وَذَلِكَ قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب}. وَذُكِرَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَئِنُّ في مرضه، فبلغه عن طاووس أَنَّهُ قَالَ: يَكْتُبُ الْمَلَكُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْأَنِينَ، فَلَمْ يَئِنَّ أَحْمَدُ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ الله. وقوله تبارك وتعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ منه تحيد} يقول عزَّ وجلَّ: وَجَاءَتْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ أَيْ كَشَفَتْ لَكَ عَنِ الْيَقِينِ الَّذِي كُنْتَ تَمْتَرِي فِيهِ، {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أَيْ هَذَا هُوَ الَّذِي كُنْتَ تَفِرُّ مِنْهُ قَدْ جاءك، فلا محيد ولامناص ولا فكاك ولا خلاص، والصحيح أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وقيل: الكافر، وقيل غير ذلك، روي أنه لَمَّا أَنْ ثَقُلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَتَمَثَّلَتْ بِهَذَا الْبَيْتِ: لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى * إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ فكشف عن وجهه وقال رضي الله عنه: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ قَوْلِي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا تَغَشَّاهُ الْمَوْتُ جَعَلَ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ وجهه ويقول: «سبحان الله أن للموت سكرات». وَفِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} قولان: (أحدهما): أن (ما) ههنا مَوْصُولَةٌ أَيِ الَّذِي كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ بِمَعْنَى تبتعد وَتَفِرُّ، قَدْ حلَّ بِكَ وَنَزَلَ بِسَاحَتِكَ. (وَالْقَوْلُ الثَّانِي): أَنَّ (مَا) نَافِيَةٌ بِمَعْنَى: ذَلِكَ مَا كنت تقدر على الفراق منه ولا الحيد عنه. وقوله تبارك وتعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ النَّفْخِ فِي الصُّوَرِ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وحَنَى جَبْهَتَهُ وَانْتَظَرَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ». قَالُوا: يَا رسول الله كيف نقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: "قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، فَقَالَ الْقَوْمُ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} أَيْ مَلَكٌ يَسُوقُهُ إِلَى المحشر، وملك يشهد عليه بأعماله، هذه هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابن جرير، لما روي عن يحيى بن رافع قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يَخْطُبُ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} فَقَالَ: سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى الله تعالى، وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِمَا عَمِلَتْ، وَكَذَا قَالَ مجاهد وقتادة، وقال أبو هُرَيْرَةَ: السَّائِقُ الْمَلَكُ، وَالشَّهِيدُ الْعَمَلُ، وَكَذَا قَالَ الضحّاك والسدي، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: السَّائِقُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالشَّهِيدُ الْإِنْسَانُ نَفْسُهُ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ أيضاً. وقوله تعالى: {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} قيل: إن المراد بذلك الكافر، وقيل: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى

الدُّنْيَا كَالْيَقِظَةِ، وَالدُّنْيَا كَالْمَنَامِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جرير (وهو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما)، والظاهر من السياق أن الْخِطَابُ مَعَ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وَالْمُرَادُ بقوله تعالى: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا} يَعْنِي مِنْ هَذَا الْيَوْمِ، {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} أي قوي، لأن كل أحد يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ مُسْتَبْصِرًا، حَتَّى الْكُفَّارُ فِي الدُّنْيَا يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، لَكِنْ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يوم يأتوننا}، وقال عزَّ وجلَّ: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا موقنون}.

- 23 - وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ - 24 - أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ - 25 - مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ - 26 - الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ - 27 - قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ - 28 - قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ - 29 - مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الملك الموكل بعمل آدَمَ، أَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا فَعَلَ وَيَقُولُ: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} أَيْ معتد بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا كَلَامُ الْمَلَكِ السَّائِقِ يَقُولُ: هَذَا ابْنُ آدَمَ الَّذِي وَكَّلْتَنِي بِهِ قَدْ أَحْضَرْتُهُ، وَقَدِ اخْتَارَ ابن جرير أنه يَعُمَّ السَّائِقَ وَالشَّهِيدَ، وَلَهُ اتِّجَاهٌ وَقُوَّةٌ، فَعِنْدَ ذلك يحكم الله تَعَالَى فِي الْخَلِيقَةِ بِالْعَدْلِ فَيَقُولُ: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ}، وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي قَوْلِهِ: {أَلْقِيَا} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ لُغَةٌ لبعض العرب يخاطبون المفرد بالتثنية، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ مَعَ السَّائِقِ وَالشَّهِيدِ، فَالسَّائِقُ أَحْضَرَهُ إِلَى عَرْصَةِ الْحِسَابِ، فَلَمَّا أَدَّى الشَّهِيدُ عَلَيْهِ، أَمَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِإِلْقَائِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} أَيْ كَثِيرُ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ {عَنِيدٍ} مُعَانِدٌ لِلْحَقِّ مُعَارِضٌ لَهُ بِالْبَاطِلِ مَعَ علمه بذلك، {مَّنَّاعٍ للخير} أي لايؤدي ما عليه من الحقوق، لا بر وَلَا صِلَةَ وَلَا صَدَقَةَ، {مُعْتَدٍ} أَيْ فِيمَا يُنْفِقُهُ وَيَصْرِفُهُ، يَتَجَاوَزُ فِيهِ الْحَدَّ، وَقَالَ قَتَادَةُ: معتد في منطقة وسيره وَأَمْرِهِ، {مُّرِيبٍ} أَيْ شَاكٌّ فِي أَمْرِهِ، مُرِيبٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ، {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أَيْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَعَبَدَ معه غيره، {فَأَلْقِيَاهُ فِي العذاب الشديد}، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَتَكَلَّمُ يَقُولُ: وكلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد، وَمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، فَتَنْطَوِي عَلَيْهِمْ فَتَقْذِفُهُمْ في غمرات جهنم" (أخرجه الإمام أحمد في المسند). {قَالَ قرِينُهُ} قال ابن عباس ومجاهد: هُوَ الشَّيْطَانُ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ، {رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ} أَيْ يَقُولُ عَنِ الْإِنْسَانِ الَّذِي قَدْ وَافَى الْقِيَامَةَ كَافِرًا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ شَيْطَانُهُ فَيَقُولُ: {رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ} أَيْ مَا أَضْلَلْتُهُ، {وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} أَيْ بَلْ كَانَ هو في نفسه ضالاً، معانداً للحق، كما أخبر سبحانه فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} الآية. وقوله تبارك وتعالى: {قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ} يَقُولُ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ لِلْإِنْسِيِّ وَقَرِينِهِ مِنَ الْجِنِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا

يختصمان بين يدي الحق تعالى، فيقول الإنسي: يارب هَذَا أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي، وَيَقُولُ الشَّيْطَانُ: {رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} أَيْ عَنْ مَنْهَجِ الْحَقِّ، فَيَقُولُ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ لَهُمَا: {لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ} أَيْ عِنْدِي، {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ} أَيْ قَدْ أَعْذَرْتُ إِلَيْكُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، وأنزلت الكتب وقامت عليكم الحجج والبراهين، {وما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي قَدْ قَضَيْتُ مَا أَنَا قَاضٍ، {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أَيْ لَسْتُ أُعَذِّبُ أَحَدًا بِذَنْبِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ لَا أُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بِذَنْبِهِ، بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ.

- 30 - يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ - 31 - وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ - 32 - هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ - 33 - مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ - 34 - ادْخُلُوهَا بسلام ذَلِكَ يَوْمُ الخلود - 35 - لهم ما يشاؤون فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَقُولُ لجهنم يوم القيامة هل امتلأت؟ وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِن مَّزِيدٍ؟ أَيْ هَلْ بَقِيَ شَيْءٌ تَزِيدُونِي؟ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سياق الآية، وعليه تدل الأحاديث، روى البخاري عند تفسير هذه الآية، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُلْقَى فِي النَّارِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ قَدَمَهُ فِيهَا فَتَقُولُ: قَطُّ قَطُّ" وروى الإمام أحمد، عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يَلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ قَطُّ قَطُّ وَعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلَا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ حتى ينشىء الله لها خلقاً آخر فيسكنهم الله تعالى في فضول الجنة» (أخرجه أحمد ورواه مسلم في صحيحه بنحوه). (حديث آخر): وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بالمتكبرين والتمجبرين؛ وقالت الجنة: مالي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقْطُهُمْ؟ قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا. فَأَمَّا النار فلا تمتلىء حتى يضع رجله فيها فتقول: قط قط فهنالك تمتلىء وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عزَّ وجلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ ينشىء لها خلقاً آخر" (أخرجه البخاري في صحيحه). (حديث آخر): روى مسلم في صحيحه، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احْتَجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتِ النَّارُ: فِيَّ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فِيَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ، فَقَضَى بَيْنَهُمَا؛ فَقَالَ لِلْجَنَّةِ: إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها" (تفرد به الإمام مسلم). وعن عِكْرِمَةَ {وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ}: وَهَلْ فيَّ مدخل واحد؟ قد امتلأت. وقال مجاهد: لَا يَزَالُ يُقْذَفُ فِيهَا حَتَّى تَقُولَ قَدِ امتلأت، فتقول: هل فيّ مَزِيدٍ؟ وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوَ هَذَا، فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {هَلِ امْتَلَأْتِ} إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ مَا يضع عليها قدمه فتنزوي ويقول حينئذٍ: هل بقي فيَّ مَزِيدٍ يَسَعُ شَيْئًا؟ قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ حِينَ لَا يَبْقَى فِيهَا مَوْضِعٌ يسع إبرة، والله أعلم.

وقوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} قَالَ قَتَادَةُ والسدي: {وَأُزْلِفَتِ} أُدْنِيَتْ وَقُرِّبَتْ مِنَ الْمُتَّقِينَ، {غَيْرَ بَعِيدٍ} وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا محالة وكل ما هو آت قريب، {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٌ} أَيْ رجَّاع تَائِبٌ مُقْلِعٌ، {حَفِيظٍ} أَيْ يَحْفَظُ الْعَهْدَ فَلَا ينقضه ولا يَنْكُثُهُ، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: الْأَوَّابُ الْحَفِيظُ الَّذِي لَا يَجْلِسُ مَجْلِسًا فَيَقُومُ حَتَّى يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، {مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} أَيْ مَنْ خَافَ اللَّهَ فِي سِرِّهِ حَيْثُ لا يراه أحد إلا الله عزَّ وجلَّ كقوله صلى الله عليه وسلم: «ورجل ذكر الله تعالى خالياً ففاضت عيناه» (هو صنف من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة، والحديث أخرجه الشيخان) {وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} أي ولقي الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة بقلب منيب سليم إِلَيْهِ خَاضِعٍ لَدَيْهِ. {ادْخُلُوهَا} أَيِ الْجَنَّةَ {بِسَلاَمٍ} قال قتادة: سَلِموا من عذاب الله عزَّ وجلَّ، وسلّم عليهم ملائكة الله، وقوله سبحانه وتعالى: {وذلك يَوْمُ الْخُلُودِ} أَيْ يَخْلُدُونَ فِي الْجَنَّةِ فَلَا يَمُوتُونَ أَبَدًا وَلَا يَظْعَنُونَ أَبَدًا وَلَا يَبْغُونَ عنها حولاً، وقوله جلت عظمته: {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا} أَيْ مَهْمَا اخْتَارُوا وَجَدُوا مِنْ أَيِّ أَصْنَافِ الْمَلَاذِّ طَلَبُوا أُحْضِرَ لهم، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ قَالَ: "مِنَ الْمَزِيدِ أَنَّ تَمُرَّ السَّحَابَةُ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَتَقُولَ: مَاذَا تُرِيدُونَ فَأُمْطِرُهُ لَكُمْ؟ فَلَا يَدْعُونَ بِشَيْءٍ إِلَّا أمطرتهم". وفي الحديث عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ لَتَشْتَهِي الطَّيْرِ فِي الْجَنَّةِ فَيَخِرُّ بَيْنَ يَدَيْكَ مَشْوِيًّا» (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود مرفوعاً). وروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اشْتَهَى الْمُؤْمِنُ الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ فِي سَاعَةٍ واحدة» (رواه أحمد وابن ماجة والترمذي، وزاد الترمذي كما اشتهى). وقوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} كقوله عزَّ وجلَّ: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ وزيادة}، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ الرُّومِيِّ أَنَّهَا النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الله الكريم، وقد روى البزار، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ عزَّ وجلَّ {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} قَالَ: «يَظْهَرُ لَهُمُ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ في كل جمعة» (أخرجه البزار وابن أبي حاتم موقوفاً، ورواه الشافعي مرفوعاً في مسنده). وروى الإمام أحمد، عن أبي سعيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَنَّةِ لَيَتَّكِئُ فِي الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً قَبْلَ أن يتحوّل، ثم تأتيه امرأة تضرب على منكبيه فَيَنْظُرُ وَجْهَهُ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنَ الْمِرْآةِ، وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَيَرُدُّ السَّلَامَ، فَيَسْأَلُهَا: مَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أَنَا مِنَ الْمَزِيدِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ حُلَّةً أَدْنَاهَا مِثْلُ النُّعْمَانِ مِنْ طُوبَى، فَيَنْفُذُهَا بَصَرُهُ حَتَّى يَرَى مُخَّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، وَإِنَّ عَلَيْهَا مِنَ التِّيجَانِ، إنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ مِنْهَا لَتُضِيءُ مَا بين المشرق والمغرب" (أخرجه الإمام أحمد في المسند).

- 36 - وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ - 37 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ - 38 - وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ - 39 - فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ - 40 - وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وأدبار السجود

يقول تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} قبل هؤلاء المكذبين {مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً} أَيْ كانوا أكثر منهم وأشد قوة، ولهذا قال تعالى: {فَنَقَّبُواْ فِي البلاد هَلْ مِن مَّحِيصٍ}، قال مُجَاهِدٌ: {فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلَادِ} ضَرَبُواْ فِي الْأَرْضِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: فَسَارُوا فِي الْبِلَادِ أَيْ سَارُوا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب. وَيُقَالُ لِمَنْ طَوَّفَ فِي الْبِلَادِ، نَقَّبَ فِيهَا، وقوله تعالى: {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} أَيْ هَلْ مِنْ مَفَرٍّ لَهُمْ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ؟ وَهَلْ نَفَعَهُمْ ما جمعوه لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل؟ فأنتم أيضاً لامفر لكم ولا محيد، وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} أَيْ لَعِبْرَةٌ {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أَيْ لُبٌّ يَعِي بِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَقْلٌ، {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} أي استمع الكلام فوعاه، وتعقله بعقله وتفهمه بلبه، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: أَلْقَى فُلَانٌ سَمْعَهُ إذ استمع بأذنيه وهو شاهد بقلب غير غائب، وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} فِيهِ تقرير للمعاد، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَتِ الْيَهُودُ - عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ - خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَهُمْ يُسَمُّونَهُ يوم الراحة فأنزل الله تعالى تَكْذِيبَهُمْ فِيمَا قَالُوهُ وَتَأَوَّلُوهُ: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} أي من إعياء ولا تعب ولا نصب، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى؟ بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قدير} وكما قال عزَّ وجلَّ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} وقال تَعَالَى: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا}؟ وقوله عزَّ وجلَّ: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} يَعْنِي الْمُكَذِّبِينَ اصْبِرْ عَلَيْهِمْ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ المفروضة قبل الإسراء ثنتان قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ، وَقَبْلَ الْغُرُوبِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أُمَّتِهِ حَوْلًا، ثُمَّ نُسِخَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ وُجُوبُهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَسَخَ اللَّهُ تعالى كُلَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ، وَلَكِنْ مِنْهُنَّ صَلَاةُ (الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ) فَهُمَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقبل الغروب، وقد روى الإمام أحمد، عن جرير بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: «أَمَا إِنَّكُمْ سَتُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّكُمْ فَتَرَوْنَهُ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِيهِ، فَإِنِ استطعتم أن لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا»، ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغروب} (أخرجه الإمام أحمد، ورواه البخاري ومسلم وبقية الجماعة). وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أَيْ فصلِّ لَهُ كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ}، {وَأَدْبَارَ السجود} قال مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُوَ التَّسْبِيحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ المقيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نعتق، قال صلى الله عليه وسلم: «أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا إِذَا فَعَلْتُمُوهُ سَبَقْتُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُمْ؟ تُسَبِّحُونَ وَتُحَمِّدُونَ وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ» قَالَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

«ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ» (أخرجه الشيخان). والقول الثاني أن المراد بقوله تعالى: {وَأَدْبَارَ السجود} هما الركعتان بعد المغرب، وبه يقول مجاهد وعكرمة والشعبي. روى الإمام أحمد، عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى أَثَرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ، وقال عبد الرحمن: دبر كل صلاة" (أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بت لَيْلَةٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثم خرج إلى الصلاة فقال: يا ابن عَبَّاسٍ: «رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِدْبَارَ النُّجُومِ، وركعتين بعد المغرب إدبار السجود» (أخرجه ابن أبي حاتم والترمذي).

- 41 - واستمع يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ - 42 - يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ - 43 - إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ - 44 - يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ - 45 - نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ يَقُولُ تَعَالَى: {وَاسْتَمِعْ} يا محمد {يَوْمَ ينادي المنادي مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى مَلَكًا أَنْ يُنَادِيَ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ: أَيَّتُهَا العظام البالية، والأوصال المتقطعة، إن الله تعالى يأمركنَّ أَنْ تَجْتَمِعْنَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} يَعْنِي النَّفْخَةَ فِي الصُّورِ الَّتِي تَأْتِي بِالْحَقِّ الَّذِي كَانَ أَكْثَرُهُمْ فِيهِ يَمْتَرُونَ، {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} أَيْ مِنَ الْأَجْدَاثِ {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ}، أَيْ هُوَ الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وَإِلَيْهِ مَصِيرُ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ، فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَقَوْلُهُ تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعا} وَذَلِكَ أَنَّ الله عزَّ وجلَّ ينزل مطراً من السماء ينبت به أجساد الخلائق كلها فِي قُبُورِهَا كَمَا يَنْبُتُ الْحَبُّ فِي الثَّرَى بالماء، فإذا تكاملت الأجساد أمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور، فإذا نفخ خَرَجَتِ الْأَرْوَاحُ تَتَوَهَّجُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَتَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ إِلَى الْجَسَدِ الَّذِي كَانَتْ تَعْمُرُهُ، فَتَرْجِعُ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا، فَتَدِبُّ فِيهِ كَمَا يَدِبُّ السُّمُّ فِي اللَّدِيغِ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُمْ فَيَقُومُونَ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ، سِرَاعًا مُبَادِرِينَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، {مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إلا قليلاً}. وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ». وقوله عزَّ وجلَّ: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} أَيْ تِلْكَ إِعَادَةٌ سهلة علينا يسيرة لدينا، كما قال جلَّ جلاله: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر}، وقال سبحانه وتعالى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ الله سَمِيعٌ بصير}، وقوله جلَّ وعلا: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} أي علمنا محيط بما يقول لك المشركون، فلا يهولنك ذلك؛ كقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}، وقوله تبارك وتعالى: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} أَيْ وَلَسْتَ بِالَّذِي تجبر هؤلاء على الهدى، وليس ذلك مما كلفت به، وقال مجاهد والضحاك: أَيْ لَا تَتَجَبَّرُ عَلَيْهِمْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ

الْعَرَبَ تَقُولُ: جَبَرَ فُلَانٌ فُلَانًا عَلَى كَذَا بمعنى أجبره، ثم قال عزَّ وجلَّ: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} أَيْ بَلِّغْ أَنْتَ رِسَالَةَ رَبِّكَ، فَإِنَّمَا يَتَذَكَّرُ مَنْ يَخَافُ الله ووعيده كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}، وقوله جلَّ جلاله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ}. {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يشاء}، {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يشاء} ولهذا قال ههنا: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} كَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَخَافُ وَعِيدَكَ، وَيَرْجُو مَوْعُودَكَ، يَا بَارُّ يا رحيم.

51 - سورة الذاريات

- 51 - سورة الذاريات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - 1 - وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا - 2 - فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا - 3 - فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا - 4 - فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا - 5 - إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ - 6 - وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ - 7 - وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ - 8 - إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ - 9 - يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ - 10 - قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ - 11 - الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ - 12 - يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ - 13 - يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ - 14 - ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تستعجلون قوله تعالى: {والذاريات ذَرْواً} قال علي رضي الله عنه: الريح، {فالحاملات وِقْراً} قال: السحاب {فالجاريات يُسْراً} قال: السفن {فالمقسمات أَمْراً} قال: الملائكة (روي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَعِدَ مِنْبَرَ الْكُوفَةِ فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي عَنْ آية في كتاب الله تعالى، وَلاَ عن سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا أنبأتكم بذلك، فسأله ابن الكواء عن قوله تعالى {والذاريات} الخ). وقد روى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: جَاءَ صَبِيغٌ التميمي إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنِي عَنِ الذَّارِيَاتِ ذرواً، فقال رضي الله عنه: هِيَ الرِّيَاحُ، وَلَوْلَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ مَا قُلْتُهُ، قال: فأخبرني عن المقسمات أمراً، قال رضي الله عنه: هِيَ الْمَلَائِكَةُ، وَلَوْلَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ مَا قُلْتُهُ، قال: فأخبرني عن الجاريات يسراً، قال رضي الله عنه: هِيَ السُّفُنُ، وَلَوْلَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ مَا قُلْتُهُ (رواه الحافظ البزار). وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر وغير واحد، ولم يحك ابن جرير غَيْرَ ذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالذَّارِيَاتِ (الريح) وَبِالْحَامِلَاتِ وَقْرًا (السَّحَابُ) كَمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهَا تَحْمِلُ الماء، فأما {الجاريات يُسْراً} فالمشهور عن الجمهور أَنَّهَا السُّفُنُ، تَجْرِي مُيَسَّرَةً فِي الْمَاءِ جَرْيًا سَهْلًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ النُّجُومُ تَجْرِي يُسْرًا فِي أَفْلَاكِهَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ تَرَقِّيًا مِنَ الْأَدْنَى إلى الأعلى، فَالرِّيَاحُ فَوْقَهَا السَّحَابُ، وَالنُّجُومُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَالْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا، الْمَلَائِكَةُ فَوْقَ ذَلِكَ

تَنْزِلُ بِأَوَامِرِ اللَّهِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، وَهَذَا قَسَمٌ من الله عزَّ وجلَّ على وقوع المعاد، ولهذا قال تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} أَيْ لَخَبَرُ صِدْقٍ، {وَإِنَّ الدِّينَ} وَهُوَ الْحِسَابُ {لَوَاقِعٌ} أَيْ لَكَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ قَالَ تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَاتُ الجمال والبهاء، والحسن والاستواء، (وهو قول مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي وقتادة وغيرهم) وقال الضحاك: الرمل وَالزَّرْعِ إِذَا ضَرَبَتْهُ الرِّيحُ فَيَنْسِجُ بَعْضُهُ بَعْضًا طرائق طرائق، فذلك الحبك، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ {ذَاتِ الْحُبُكِ} الشِّدَّةُ، وَقَالَ خُصَيْفٌ {ذَاتِ الْحُبُكِ} ذَاتُ الصَّفَاقَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ البصري: {ذَاتِ الحبك} حبكت بالنجوم، وقال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} يَعْنِي السَّمَاءَ السَّابِعَةَ وَكَأَنَّهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَرَادَ بذلك السماء التي فيها الكواكب الثابتة. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَرْجِعُ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْحُسْنُ وَالْبَهَاءُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهَا مِنْ حُسْنِهَا مُرْتَفِعَةٌ شَفَّافَةٌ صَفِيقَةٌ، شَدِيدَةُ الْبِنَاءِ، مُتَّسِعَةُ الْأَرْجَاءِ، أَنِيقَةُ البهاء، مكللة بالنجوم الثوابت والسيارات، موشحة بالكواكب الزاهرات. وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} أَيْ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ لِلرُّسُلِ {لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} مُضْطَرِبٍ لَا يَلْتَئِمُ وَلَا يَجْتَمِعُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} مَا بَيْنَ مُصَدِّقٍ بِالْقُرْآنِ وَمُكَذِّبٍ بِهِ {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أَيْ إِنَّمَا يُرَوَّجُ عَلَى مَنْ هُوَ ضَالٌّ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ قَوْلٌ باطل، ينقاد له ويضل بسببه مَنْ هُوَ مَأْفُوكٌ ضَالٌّ، غِمْر لَا فَهْمَ له، قال ابن عباس {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يَضِلُّ عَنْهُ مَنْ ضل، وقال مجاهد: يُؤْفَنُ عَنْهُ مَنْ أُفِنَ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُصْرَفُ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ مَنْ كَذَّبَ بِهِ، وقوله تعالى: {قُتِلَ الخراصون} قال مجاهد: الكذابون، وَهِيَ مِثْلُ الَّتِي فِي عَبَسَ، {قُتِلَ الْإِنْسَانُ ما أكفره} وَالْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا نُبْعَثُ وَلَا يُوقِنُونَ، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} أَيْ لُعِنَ الْمُرْتَابُونَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْخَرَّاصُونَ أَهْلُ الْغِرَّةِ وَالظُّنُونِ، وَقَوْلُهُ تبارك وتعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: فِي الْكُفْرِ وَالشَّكِّ غَافِلُونَ لَاهُونَ {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} وَإِنَّمَا يَقُولُونَ هَذَا تَكْذِيبًا وَعِنَادًا، وَشَكًّا وَاسْتِبْعَادًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} قَالَ ابن عباس: يُعَذَّبُونَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كَمَآ يُفْتَنُ الذَّهَبُ عَلَى النار، وقال جماعة آخرون: {يُفْتَنُونَ} يُحْرَقُونَ {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: حَرِيقَكُمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: عَذَابَكُمْ {هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا، وتحقيراً وتصغيراً، والله أعلم.

- 15 - إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - 16 - آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ - 17 - كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ - 18 - وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ - 19 - وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ - 20 - وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ - 21 - وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ - 22 - وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ - 23 - فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُتَّقِينَ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، إِنَّهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ يَكُونُونَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، بِخِلَافِ مَا أُولَئِكَ الْأَشْقِيَاءُ فِيهِ من العذاب والنكال والحريق والأغلال، وقوله تعالى: {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَّبِّهِمْ}، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:

أَيْ عَامِلِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْفَرَائِضِ، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} أَيْ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِمُ الْفَرَائِضَ كَانُوا مُحْسِنِينَ فِي الأعمال أيضاً، وَالَّذِي فَسَّرَ بِهِ ابْنُ جَرِيرٍ فِيهِ نَظَرٌ، لأن قوله تبارك وتعالى {آخِذِينَ} حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} فالمتقون في حال كونهم في الجنان والعيون آخذين مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ، أَيْ مِنَ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ والغبطة. وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} أَيْ فِي الدَّارِ الدنيا، {مُحْسِنِينَ} كقوله تَعَالَى: {كُلُواْ وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الخالية}، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ إِحْسَانَهُمْ فِي الْعَمَلِ فقال جلَّ وعلا: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}. اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ (مَا) نَافِيَةٌ تَقْدِيرُهُ: كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ لَا يَهْجَعُونَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ تَكُنْ تَمْضِي عَلَيْهِمْ لَيْلَةٌ إِلَّا يَأْخُذُونَ مِنْهَا وَلَوْ شيئاً؛ وقال قتادة: قلّ ليلة تأتي عليهم إلا يُصَلُّونَ فِيهَا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، إِمَّا مِنْ أولها أو من وسطها، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قلَّ مَا يَرْقُدُونَ لَيْلَةً حَتَّى الصباح لا يتهجدون، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ تَقْدِيرُهُ: كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ هُجُوعُهُمْ وَنَوْمُهُمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}، كَابَدُوا قِيَامَ اللَّيْلِ فَلَا يَنَامُونَ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا أَقَلَّهُ، وَنَشِطُوا فَمَدُّوا إِلَى السَّحَرِ حَتَّى كَانَ الِاسْتِغْفَارُ بِسَحَرٍ، وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} كَانُوا لَا يَنَامُونَ إِلَّا قَلِيلًا، ثُمَّ يَقُولُ: لَسْتُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ لِأَبِي: يَا أَبَا أُسَامَةَ صفةٌ لَا أَجِدُهَا فِينَا ذَكَرَ الله تعالى قَوْمًا فَقَالَ: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} وَنَحْنُ وَاللَّهِ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا نَقُومُ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: «طُوبَى لِمَنْ رَقَدَ إِذَا نَعَسَ، وَاتَّقَى اللَّهَ إِذَا اسْتَيْقَظَ». وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَكُنْتُ فِيمَنِ انْجَفَلَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ وجهه صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما سمعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَأَفْشُوا السَّلَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تدخلوا إلى الجنة بسلام». وروى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا» فَقَالَ أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: لمن هي يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لِمَنْ أَلَانَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَبَاتَ لِلَّهِ قائماً والناس نيام» (أخرجه الإمام أحمد). وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، قَالَ مجاهد: يُصَلُّونَ، وَقَالَ آخَرُونَ: قَامُوا اللَّيْلَ وَأَخَّرُوا الِاسْتِغْفَارَ إلى الأسحار، كما قال تبارك وتعالى: {والمستغفرين بالأسحار}، وقد ثبت في الصحاح، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إن الله تعالى يَنْزِلُ كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَيُعْطَى سُؤْلَهُ؟ حَتَّى يطلع الفجر". وقوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ} لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالصَّلَاةِ، ثَنَّى بِوَصْفِهِمْ بِالزَّكَاةِ وَالْبَرِّ وَالصِّلَةِ، فَقَالَ {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} أَيْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ قَدْ أَفْرَزُوهُ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، أَمَّا السَّائِلُ فَمَعْرُوفٌ وَهُوَ الذي يبتدىء بالسؤال وله حق، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ» (أخرجه أحمد وأبو داود). وَأَمَّا الْمَحْرُومُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ المحارب الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ سَهْمٌ، يَعْنِي لَا سَهْمَ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا كَسْبَ لَهُ وَلَا حِرْفَةَ يَتَقَوَّتُ مِنْهَا، وَقَالَتْ أم المؤمنين عائشة

رضي الله عنها: هو المحارب الَّذِي لَا يَكَادُ يَتَيَسَّرُ لَهُ مَكْسَبُهُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ مَالٌ إلا ذهب، قضى الله تعالى له ذلك، وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء: الْمَحْرُومُ الْمَحَارِفُ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ: الْمَحْرُومُ الَّذِي لا يسأل الناس شَيْئًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عليه» (هذا الحديث أسنده الشيخان مِنْ وَجْهٍ آخَرَ). وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الَّذِي يَجِيءُ وَقَدْ قُسِّمَ الْمَغْنَمُ فَيُرْضَخُ له، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: أَعْيَانِي أَنْ أَعْلَمَ مَا الْمَحْرُومُ، واختار ابن جرير أن المحروم الَّذِي لَا مَالَ لَهُ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ وقد ذَهَبَ مَالُهُ، سَوَاءٌ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الكسب، أو قد هلك ماله بآفة أو نحوها. وقوله عزَّ وجلَّ: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} أَيْ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَةِ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا وَقُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ، مما فِيهَا مِنْ صُنُوفِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْمِهَادِ، وَالْجِبَالِ وَالْقِفَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْبِحَارِ، وَاخْتِلَافِ أَلْسِنَةِ النَّاسِ وَأَلْوَانِهِمْ، وَمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْعُقُولِ وَالْفُهُومِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَمَا فِي تَرْكِيبِهِمْ مِنَ الْحِكَمِ، فِي وَضْعِ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِمْ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِيهِ، وَلِهَذَا قال عزَّ وجلَّ: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}؟ قَالَ قَتَادَةُ: مَنْ تَفَكَّرَ فِي خَلْقِ نَفْسِهِ عَرَفَ أَنَّهُ إِنَّمَا خلق ولينت مفاصله للعبادة، ثم قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} يَعْنِي الْمَطَرَ {وَمَا تُوعَدُونَ} يَعْنِي الْجَنَّةَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ واحد، وقوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}، يُقْسِمُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْقِيَامَةِ، وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، فَلَا تَشُكُّوا فِيهِ كَمَا لَا تَشُكُّوا فِي نُطْقِكُمْ حِينَ تَنْطِقُونَ، وَكَانَ مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا حَدَّثَ بِالشَّيْءِ يَقُولُ لصاحبه إن هذا لحقٌ كما أنك ههنا. وعن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَاتَلَ اللَّهُ أَقْوَامًا أَقْسَمَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ثُمَّ لَمْ يُصَدِّقُوا» (أخرجه ابن جرير عن الحسن مرسلاً).

- 24 - هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ - 25 - إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ - 26 - فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ - 27 - فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ - 28 - فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ - 29 - فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ - 30 - قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ هَذِهِ الْقِصَّةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ في سورة هود والحجر، فقوله: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} أَيِ الَّذِينَ أَرْصَدَ لَهُمُ الْكَرَامَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ الْإِمَامُ أحمد إِلَى وُجُوبِ الضِّيَافَةِ لِلنَّزِيلِ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بذلك كما هو ظاهر التنزيل، وقوله تعالى: {قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} الرَّفْعُ أَقْوَى وَأَثْبَتُ مِنَ النَّصْبِ، فَرَدُّهُ أَفْضَلُ مِنَ التَّسْلِيمِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أو ردوها} فالخليل اختار الأفضل، وقوله تعالى: {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ}

وذلك أن الملائكة، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، قدموا عليه في صورة شُبَّانٍ حِسَانٍ عَلَيْهِمْ مَهَابَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ}. وقوله عزَّ وجلَّ: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} أَيِ انْسَلَّ خُفْيَةً فِي سُرْعَةٍ، {فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} أَيْ مِنْ خِيَارِ مَالِهِ، وَفِي الْآيَةِ الأُخْرى: {فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أَيْ مشوي على الرَّضْف (الحجارة المحماة) {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} أَيْ أَدْنَاهُ مِنْهُمْ، {قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ}؟ تَلَطُّفٌ فِي الْعِبَارَةِ وَعَرْضٌ حَسَنٌ، وَهَذِهِ الآية انتظمت آداب الضيافة فإنه جاء بطعام من حيث لا يشعرون بسرعة، وَأَتَى بِأَفْضَلِ مَا وَجَدَ مِنْ مَالِهِ وَهُوَ عجلٌ فتيٌ سَمِينٌ مَشْوِيٌّ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ لَمْ يَضَعْهُ وَقَالَ اقْتَرِبُوا، بَلْ وَضَعَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَمْرًا يَشُقُّ عَلَى سَامِعِهِ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، بَلْ قَالَ: {أَلاَ تَأْكُلُونَ}؟ عَلَى سَبِيلِ الْعَرْضِ وَالتَّلَطُّفِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ الْيَوْمَ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَتَفَضَّلَ وَتُحْسِنَ وَتَتَصَدَّقَ فَافْعَلْ. وَقَوْلُهُ تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} كقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} {قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ} البشارة له بِشَارَةٌ لَهَا، لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُمَا فَكُلٌّ مِنْهُمَا بشر به، وقوله تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} أَيْ فِي صَرْخَةٍ عظيمة ورنة (وهو قول ابن العباس ومجاهد وعكرمة والضحّاك والسدي وغيرهم)، وَهِيَ قَوْلُهَا {يَا وَيْلَتَا} {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} أَيْ ضربت بيدها على جبينها، قال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَطَمَتْ أَيْ تَعَجُّبًا، كَمَا تَتَعَجَّبُ النِّسَاءُ مِنَ الْأَمْرِ الْغَرِيبِ {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أي كيف ألد وأنا عجوز وَقَدْ كُنْتُ فِي حَالِ الصِّبَا عَقِيمًا لَا أَحْبَلُ؟ {قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} أَيْ عَلِيمٌ بِمَا تَسْتَحِقُّونَ مِنَ الْكَرَامَةِ، حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.

- 31 - قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ - 32 - قَالُوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ - 33 - لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ - 34 - مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ - 35 - فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - 36 - فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ - 37 - وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ قَالَ اللَّهُ تعالى مخبراً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ}؟ أَيْ مَا شَأْنُكُمْ، وَفِيمَ جِئْتُمْ؟ {قَالُوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} يَعْنُونَ قَوْمَ لُوطٍ، {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُسّومة} أَيْ مُعَلَّمَةً، {عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} أَيْ مُكْتَتَبَةٌ عِنْدَهُ بِأَسْمَائِهِمْ، كُلُّ حجر عليه اسم صاحبه، {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وَهُمْ لُوطٌ وَأَهْلُ بَيْتِهِ إِلَّا امْرَأَتَهُ {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ}، وقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} أي جعلناها عبرة بما أنزلنا بهم من العذاب والنكال، وَجَعَلْنَا مَحَلَّتَهُمْ بُحَيْرَةً مُنْتِنَةً خَبِيثَةً، فَفِي ذَلِكَ عبرة للمؤمنين {الذين يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}.

- 38 - وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ - 39 - فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ - 40 - فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ - 41 - وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ - 42 - مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ

عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ - 43 - وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ - 44 - فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ - 45 - فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ - 46 - وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ يقول تَعَالَى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أَيْ بِدَلِيلٍ بَاهِرٍ وَحُجَّةٍ قَاطِعَةٍ، {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أَيْ فَأَعْرَضَ فِرْعَوْنُ عَمَّا جَاءَهُ بِهِ موسى من الحق المبين استكباراً وعناداً، قال مُجَاهِدٌ: تَعَزَّزَ بِأَصْحَابِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: غَلَبَ عَدُوُّ اللَّهِ عَلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أَيْ بِجُمُوعِهِ الَّتِي مَعَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إلى ركن شديد} والمعنى الأول قوي، {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} أي لا يخلوا أَمْرُكَ فِيمَا جِئْتَنِي بِهِ، مِنْ أَنْ تَكُونَ سَاحِرًا أَوْ مَجْنُونًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ} أَيْ أَلْقَيْنَاهُمْ {فِي الْيَمِّ} وَهُوَ البحر، {وَهُوَ مُلِيمٌ} أي وهو ملوم جاحد، فاجر معاند. ثم قال عزَّ وجلَّ: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} أي المفسدة التي لا تنتج شَيْئاً ولهذا قال تعالى: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} أَيْ مِمَّا تُفْسِدُهُ الرِّيحُ {إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} أَيْ كالشيء الهالك البالي، وقد ثبت في الصحيح: «نُصِرْتُ بالصَّبا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبور» {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي إِلَى وَقْتِ فَنَاءِ آجَالِكُمْ، والظاهر أن هذه كقوله تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون}، وهكذا قال ههنا: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ} وَذَلِكَ أَنَّهُمُ انْتَظَرُوا الْعَذَابَ ثَلَاثَةَ أيام فجاءهم فِي صَبِيحَةِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ بُكْرَةَ النَّهَارِ، {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ} أَيْ مِنْ هَرَبٍ وَلَا نهوض، {وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ} أي لا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَنْتَصِرُوا مِمَّا هُمْ فِيهِ، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَقَوْمَ نوح مِن قَبْلُ} أي أهلكنا قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ}، وَكُلُّ هَذِهِ الْقِصَصِ قَدْ تَقَدَّمَتْ مَبْسُوطَةً فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ مِنْ سُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ، والله أعلم.

- 47 - وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ - 48 - وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ - 49 - وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ - 50 - فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ - 51 - وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى خَلْقِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} أَيْ جَعَلْنَاهَا سَقْفًا مَحْفُوظًا رَفِيعًا، {بِأَيْدٍ} أَيْ بِقُوَّةٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أَيْ قَدْ وَسَّعْنَا أَرْجَاءَهَا، وَرَفَعْنَاهَا بِغَيْرِ عَمِدٍ حَتَّى اسْتَقَلَّتْ كَمَا هِيَ، {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} أَيْ جَعَلْنَاهَا فِرَاشًا لِلْمَخْلُوقَاتِ، {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} أَيْ وَجَعَلْنَاهَا مَهْدًا لِأَهْلِهَا، {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} أَيْ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ أَزْوَاجٌ: سَمَاءٌ وَأَرْضٌ، وَلَيْلٌ وَنَهَارٌ، وَشَمْسٌ وَقَمَرٌ، وَبَرٌّ وَبَحْرٌ، وَضِيَاءٌ وَظَلَامٌ، وَإِيمَانٌ وَكُفْرٌ، وَمَوْتٌ وَحَيَاةٌ، وَشَقَاءٌ وسعادة، وجنة ونار، وحتى الحيوانات والنباتات ولهذا قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أَيْ لِتَعْلَمُوا أَنَّ الْخَالِقَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} أَيِ

الجأوا إليه واعتمدوا عليه فِي أُمُورِكُمْ عَلَيْهِ، {إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا {إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مبين}.

- 52 - كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ - 53 - أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ - 54 - فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ - 55 - وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ - 56 - وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ - 57 - مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ - 58 - إن اللهو الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ - 59 - فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ - 60 - فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكَمَا قَالَ لَكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، قَالَ الْمُكَذِّبُونَ الْأَوَّلُونَ لِرُسُلِهِمْ {كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} قال الله عزَّ وجلَّ: {أَتَوَاصَوْاْ بِهِ}؟ أَيْ أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ؟ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}، أَيْ لَكِنْ هُمْ قَوْمٌ طُغَاةٌ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، فَقَالَ مُتَأَخِّرُهُمْ كَمَا قَالَ مُتَقَدِّمُهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أَيْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يَا مُحَمَّدُ، {فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} يعني لا نَلُومُكَ عَلَى ذَلِكَ، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المؤمنين} أي إنما تنفع بها القلوب المؤمنة، ثم قال جلَّ جلاله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ ليعبدونِ} أَيْ إِنَّمَا خَلَقْتُهُمْ لِآمُرَهُمْ بِعِبَادَتِي، لَا لِاحْتِيَاجِي إِلَيْهِمْ، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} أَيْ إِلَّا لِيُقِرُّوا بِعِبَادَتِي طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جرير، وقال ابن جريح: إِلَّا لِيَعْرِفُونِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس إِلَّا للعبادة. وقوله تعالى: {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ يطعمونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القوة المتين}، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنِّي أنا الرزاق ذُو القوة المتين} (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ)، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ تبارك وتعالى خَلَقَ الْعِبَادَ لِيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَمَنْ أَطَاعَهُ جَازَاهُ أَتَمَّ الْجَزَاءِ، وَمِنْ عَصَاهُ عَذَّبَهُ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِمْ، بَلْ هُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم، وفي الحديث القدسي: «يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ» (أخرجه أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غريب). وقد وَرَدَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «ابْنَ آدَمَ خَلَقْتُكَ لِعِبَادَتِي فَلَا تَلْعَبْ، وَتَكَفَّلْتُ بِرِزْقِكَ فَلَا تَتْعَبْ، فَاطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شيء». وقوله تعالى: {فَإِن لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً} أَيْ نَصِيبًا مِنَ العذاب، {مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} ذلك فإنه واقع لَا مَحَالَةَ، {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ} يعني يوم القيامة.

52 - سورة الطور

- 52 - سورة الطور

عن جبير بن مطعم قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا أَوْ قِرَاءَةً منه» (أخرجه الشيخان من طريق مالك). وروى البخاري، عَنْ أُم سَلَمَةَ قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ: «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ»، فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مسطور.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- 1 - وَالطُّورِ - 2 - وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ - 3 - فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ - 4 - وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ - 5 - وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ - 6 - وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ - 7 - إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ - 8 - مَّا لَهُ مِنْ دَافِعٍ - 9 - يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً - 10 - وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً - 11 - فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ - 12 - الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ - 13 - يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا - 14 - هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ - 15 - أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ - 16 - اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يُقْسِمُ تَعَالَى بِمَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ، أَنَّ عَذَابَهُ وَاقِعٌ بِأَعْدَائِهِ وَأَنَّهُ لا دافع له عنهم، والطور هو الجبل الذي يكون فيها أَشْجَارٌ مِثْلَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَجَرٌ لَا يُسَمَّى طُورًا، إِنَّمَا يُقَالُ لَهُ جَبَلٌ، {وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} قِيلَ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقِيلَ: الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ الْمَكْتُوبَةُ، الَّتِي تُقْرَأُ عَلَى النَّاسِ جِهَارًا، وَلِهَذَا قَالَ: {فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ}، ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال في حديث الإسراء: «ثُمَّ رُفِعَ بِي إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخر ما عليهم» (هو جزء من حديث طويل في الإسراء أخرجه الشيخان) يعني يتعبدون فيه ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم، وهو كعبة أهل السماء السابعة، وَفِي كُلِّ سَمَاءٍ بَيْتٌ يَتَعَبَّدُ فِيهِ أَهْلُهَا وَيُصَلُّونَ إِلَيْهِ، وَالَّذِي فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا يُقَالُ لَهُ بَيْتُ الْعِزَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ عباس: البيت المعمور هُوَ بَيْتٌ حِذَاءَ

الْعَرْشِ تُعَمِّرُهُ الْمَلَائِكَةُ، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إليه، وكذا قال عكرمة ومجاهد وغير واحد من السلف. وقال قتادة والسدي: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ فِي السَّمَاءِ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ لَوْ خَرَّ لَخَرَّ عَلَيْهَا، يُصَلَّى فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لم يعودوا آخر ما عليهم». وقوله تعالى: {والسقف المرفوع} عن علي قال: يعني السماء، ثُمَّ تَلَا: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ}، وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: هُوَ الْعَرْشُ يَعْنِي أَنَّهُ سَقْفٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وقوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: هُوَ الْمَاءُ الَّذِي تَحْتَ الْعَرْشِ الَّذِي يُنْزِلُ اللَّهُ منه المطر الذي تحيا بِهِ الْأَجْسَادَ فِي قُبُورِهَا يَوْمَ مَعَادِهَا، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ هَذَا الْبَحْرُ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ {الْمَسْجُورِ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يُوقَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا كَقَوْلِهِ، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أي أضرمت فتصير تتأجج محيطة بأهل الموقف، وروي عن علي وابن عباس. وَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ بَدْرٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَحْرَ الْمَسْجُورَ لِأَنَّهُ لَا يُشْرَبُ مِنْهُ مَاءٌ وَلَا يُسْقَى بِهِ زَرْعٌ، وَكَذَلِكَ الْبِحَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} يَعْنِي المرسل، وقال قتادة: المسجور المملوء، واختاره ابن جرير، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَسْجُورِ الْمَمْنُوعُ الْمَكْفُوفُ عَنِ الْأَرْضِ لئلا يغمرها فيغرق أهلها، قاله ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ يَقُولُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ، وَعَلَيْهِ يدل الحديث الذي رواه الإمام أحمد عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا وَالْبَحْرُ يُشْرِفُ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَسْتَأْذِنُ الله أن ينفضح عليهم فيكفه الله عزَّ وجلَّ» (رواه الإمام أحمد في المسند). وقوله تعالى: {إن عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} هذا هو القسم عليه أي لواقع بالكافرين، {ماله مِن دَافِعٍ} أَيْ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ، إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ ذَلِكَ، قَالَ الحافظ ابن أبي الدنيا: خَرَجَ عُمَرُ يَعِسُّ الْمَدِينَةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَمَرَّ بِدَارِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَوَافَقَهُ قَائِمًا يُصَلِّي، فَوَقَفَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ فَقَرَأَ: {وَالطُّورِ - حَتَّى بَلَغَ - إِن عَذَابَ رَبِّكَ لواقع * ماله مِن دَافِعٍ} قَالَ: قَسَمٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ حَقٌّ، فَنَزَلَ عَنْ حِمَارِهِ، وَاسْتَنَدَ إِلَى حَائِطٍ، فَمَكَثَ مَلِيًّا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنْزِلِهِ، فَمَكَثَ شَهْرًا يَعُودُهُ النَّاسُ لَا يَدْرُونَ مَا مَرَضُهُ رَضِيَ الله عنه (رواه ابن أبي الدنيا عن جعفر بن زيد العبدي). وقوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تتحرك تحريكاً، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَدُورُ دَوْرًا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: اسْتِدَارَتُهَا وتحركها لِأَمْرِ اللَّهِ وَمَوْجُ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ التَّحَرُّكُ فِي اسْتِدَارَةٍ، قال وأنشد أبو عبيدة بيت الأعشى فقال: كأنَّ مِشَيتها مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا * مَوْرُ السَّحَابَةِ لَا رَيْثٌ وَلَا عَجَلُ {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} أَيْ تَذْهَبُ فَتَصِيرُ هَبَاءً مُنْبَثًّا وَتُنْسَفُ نَسْفًا، {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أَيْ وَيْلٌ لَهُمْ ذَلِكَ اليوم من عذاب الله ونكاله، {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} أَيْ هُمْ فِي الدُّنْيَا يَخُوضُونَ فِي الْبَاطِلِ وَيَتَّخِذُونَ دِينَهُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا {يَوْمَ يُدَعُّون} أَيْ يُدْفَعُونَ وَيُسَاقُونَ {إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّا}، قال مجاهد والسدي: يُدْفَعُونَ فِيهَا دَفْعًا {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الزَّبَانِيَةُ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا، {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا} أَيِ ادْخُلُوهَا دُخُولَ مَنْ تَغْمُرُهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، {فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ}، أَيْ سَوَاءٌ

صَبَرْتُمْ عَلَى عَذَابِهَا وَنَكَالِهَا أَمْ لَمْ تَصْبِرُوا، لَا مَحِيدَ لَكُمْ عَنْهَا وَلَا خَلَاصَ لَكُمْ مِنْهَا، {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ أَحَدًا بَلْ يُجَازِي كُلًّا بعمله.

- 17 - إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ - 18 - فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ - 19 - كُلُواْ وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ - 20 - مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مصفوفة وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ أخبر الله تَعَالَى عَنْ حَالِ السُّعَدَاءِ فَقَالَ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} وَذَلِكَ بِضِدِّ مَا أُولَئِكَ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أَيْ يَتَفَكَّهُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنَ النَّعِيمِ، مِنْ أَصْنَافِ الْمَلَاذِّ مِنْ مَآكِلَ وَمَشَارِبَ، وَمَلَابِسَ وَمَسَاكِنَ وَمَرَاكِبَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أَيْ وَقَدْ نَجَّاهُمْ مِنْ عَذَابِ النار، وتلك نعمة مستقلة بذاتها، مَعَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهَا مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، الَّتِي فِيهَا مِنَ السُّرُورِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خطر على قلب بشر، وقوله تعالى: {كُلُواْ وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُواْ وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الخالية} أَيْ هَذَا بِذَاكَ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا، وَقَوْلُهُ تعالى: {متكئين على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} قال ابن عباس: السرر في الحجال، وفي الحديث: «إن الرجل ليتكىء الْمُتَّكَأَ مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذات عينه» (أخرجه ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي مرفوعاً). وعن ثابت قال: "بلغنا أن الرجل ليتكىء فِي الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً عِنْدَهُ مِنْ أَزْوَاجِهِ وَخَدَمِهِ، وَمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ، فَإِذَا حَانَتْ مِنْهُ نَظْرَةٌ، فَإِذَا أَزْوَاجٌ لَهُ لَمْ يَكُنْ رَآهُنَّ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَقُلْنَ: قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ نَصِيبًا" (أخرجه ابن أبي حاتم أيضاً عن ثابت البناني موقوفاً) وَمَعْنَى {مَّصْفُوفَةٍ} أَيْ وُجُوهُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ كقوله: {على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}، {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} أي وجعلنا لهم قَرِينَاتٍ صَالِحَاتٍ، وَزَوْجَاتٍ حِسَانًا مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَزَوَّجْنَاهُمْ} أَنَكَحْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ، وَقَدْ تقدم وصفهن في غير وضع بما أغنى عن إعادته ههنا.

- 21 - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ - 22 - وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ - 23 - يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ - 24 - وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ - 25 - وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ - 26 - قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ - 27 - فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ - 28 - إنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَلُطْفِهِ بِخَلْقِهِ وَإِحْسَانِهِ، أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّاتُهُمْ فِي الْإِيمَانِ، يُلْحِقُهُمْ بِآبَائِهِمْ فِي الْمَنْزِلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا عَمَلَهُمْ لِتَقَرَّ أعين الآباء بالأبناء، فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ بِأَنْ يَرْفَعَ

النَّاقِصَ الْعَمَلِ بِكَامِلِ الْعَمَلِ، وَلَا يَنْقُصَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِ وَمَنْزِلَتِهِ لِلتَّسَاوِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَاكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ}، قال ابن عباس: إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ فِي دَرَجَتِهِ وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي الْعَمَلِ لتقرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} (أخرجه ابن جرير عن ابن عباس موقوفاً ورواه البزار عنه مرفوعاً). وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قول الله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}، قَالَ: هُمْ ذُرِّيَّةُ الْمُؤْمِنِ يَمُوتُونَ عَلَى الْإِيمَانِ، فَإِنْ كَانَتْ مَنَازِلُ آبَائِهِمْ أَرْفَعَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ أُلْحِقُوا بِآبَائِهِمْ وَلَمْ يَنْقُصُوا مِنْ أعمالهم التي عملوها شيئاً، وروى الحافظ الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَظُنُّهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ الجنة سأل أَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا دَرَجَتَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ لِي وَلَهُمْ، فَيُؤْمَرُ بِإِلْحَاقِهِمْ بِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ} الْآيَةَ، هَذَا فَضْلُهُ تَعَالَى عَلَى الْأَبْنَاءِ بِبَرَكَةِ عَمَلِ الْآبَاءِ، وَأَمَّا فَضْلُهُ عَلَى الْآبَاءِ بِبَرَكَةِ عمل الأبناء، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فيقول: باستغفار ولدك لك" (أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة، قال ابن كثير: اسناده صحيح). وعن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صدقةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ ولدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له" (أخرجه مسلم عن أبي هريرة). وقوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ مَقَامِ الْفَضْلِ وَهُوَ رَفْعُ دَرَجَةِ الذُّرِّيَّةِ إِلَى مَنْزِلَةِ الْآبَاءِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، أَخْبَرَ عَنْ مَقَامِ الْعَدْلِ، وَهُوَ أَنَّهُ لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد، فقال تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} أَيْ مُرَّتُهُنَّ بِعَمَلِهِ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ ذَنْبُ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، سَوَاءٌ كَانَ أَبَا أَوِ ابْنًا، كَمَا قال تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين فِي جنات يتسألون عن المجرمين}، وَقَوْلُهُ: {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} أَيْ وَأَلْحَقْنَاهُمْ بِفَوَاكِهَ وَلُحُومٍ مِنْ أَنْوَاعٍ شَتَّى مِمَّا يُسْتَطَابُ وَيُشْتَهَى، وَقَوْلُهُ: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} أَيْ يَتَعَاطَوْنَ فِيهَا كَأْسًا أَيْ مِنَ الْخَمْرِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ: {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} أَيْ لا يتكلمون فيها بِكَلَامٍ لَاغٍ، أَيْ هَذَيَانٍ، وَلَا إِثْمٍ، أَيْ فحش كما يتكلم به الشربة من أهل الدنيا. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّغْوُ الْبَاطِلُ، وَالتَّأْثِيمُ الْكَذِبُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَسْتَبُّونَ وَلَا يُؤَثَّمُونَ؛ وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا مَعَ الشَّيْطَانِ، فَنَزَّهَ اللَّهُ خَمْرَ الْآخِرَةِ عَنْ قَاذُورَاتِ خَمْرِ الدُّنْيَا وأذاها، فنفى عنها صُدَاعَ الرَّأْسِ وَوَجَعَ الْبَطْنِ وَإِزَالَةَ الْعَقْلِ بِالْكُلِّيَّةِ، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيء الْفَارِغِ عَنِ الْفَائِدَةِ الْمُتَضَمِّنِ هَذَيَانًا وَفُحْشًا، وَأَخْبَرَ بِحُسْنِ مَنْظَرِهَا وَطِيبِ طَعْمِهَا وَمَخْبَرِهَا فَقَالَ: {بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا ينزفون} وقال: {لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ}. وقال ههنا: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ}. وقوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} إِخْبَارٌ عَنْ خَدَمِهِمْ وَحَشَمِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ الرَّطْبُ الْمَكْنُونُ، فِي حُسْنِهِمْ وَبَهَائِهِمْ وَنَظَافَتِهِمْ وحسن ملابسهم، كما قال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ}. وقوله تعالى: {وَأَقْبَلَ

بعضهم على بعض يتسألون} أَيْ أَقْبَلُوا يَتَحَادَثُونَ وَيَتَسَاءَلُونَ عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ في الدنيا، كما يتحادث أهل الشراب على شرابهم، {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أي كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلينا خَائِفِينَ مِنْ رَبِّنَا، مُشْفِقِينَ مِنْ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ {فمنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} أَيْ فَتَصَدَّقَ عَلَيْنَا وَأَجَارَنَا مِمَّا نَخَافُ، {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ} أَيْ نَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ فَاسْتَجَابَ لنا وأعطانا سؤالنا {إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم}، عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ اشْتَاقُوا إِلَى الْإِخْوَانِ فَيَجِيءُ سَرِيرُ هَذَا حَتَّى يُحَاذِيَ سَرِيرَ هَذَا فَيَتَحَدَّثَانِ، فَيَتَّكِئُ هَذَا وَيَتَّكِئُ هَذَا فَيَتَحَدَّثَانِ بِمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: يَا فُلَانُ تَدْرِي أَيَّ يَوْمٍ غَفَرَ اللَّهُ لَنَا؟ يَوْمَ كُنَّا فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا فَدَعَوْنَا اللَّهَ عزَّ وجلَّ فغفر لنا" (أخرجه الحافظ البزار عن أنَس وقال: لا نعرفه إلا بهذا الإسناد). وعن مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَرَأَتْ هَذِهِ الْآيَةَ: {فمنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيْنَا، وَقِنَا عَذَابَ السَّمُومِ، إِنَّكَ أَنْتَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ: قِيلَ لِلْأَعْمَشِ: في الصلاة؟ قال: نعم (أخرجه ابن أبي حاتم).

- 29 - فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ - 30 - أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ - 31 - قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ - 32 - أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ - 33 - أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ - 34 - فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُبَلِّغَ رِسَالَتَهُ إِلَى عِبَادِهِ، وَأَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ نَفَى عَنْهُ مَا يَرْمِيهِ بِهِ أَهْلُ الْبُهْتَانِ وَالْفُجُورِ فَقَالَ: {فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ}، أَيْ لَسْتَ بِحَمْدِ اللَّهِ بِكَاهِنٍ كَمَا تَقَوَّلَهُ الْجَهَلَةُ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَالْكَاهِنُ الَّذِي يَأْتِيهِ الرِئي مِنَ الْجَانِّ بِالْكَلِمَةِ يَتَلَقَّاهَا مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، {وَلاَ مَجْنُونٍ} وَهُوَ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عليهم في قولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}؟ أي قوارع الدهر، والمنون الموت، يقولون: ننتظره وَنَصْبِرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} أَيِ انْتَظِرُوا، فَإِنِّي مُنْتَظِرٌ مَعَكُمْ وستعلمون لمن العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ: احتبسوه في وثاق وتربصوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، حَتَّى يَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ من كان قبله من الشعراء (زهير) و (النابغة) إنما هو كأحدهم، فأنزل الله تعالى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا} أَيْ عُقُولُهُمْ تَأْمُرُهُمْ بِهَذَا الذي يقولونه فيك من الأقاويل الْبَاطِلَةِ، الَّتِي يَعْلَمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهَا كَذِبٌ وزور {أَمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي ولكن هم قوم طاغون ضُلَّالٌ مُعَانِدُونَ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى ما قالوه فيك، وقوله تعالى: {أَمْ هم يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} أَيِ اخْتَلَقَهُ وَافْتَرَاهُ مِنْ عِنْدِ نفسه يعنون القرآن، قال تعالى: {بَل لاَ يُؤْمِنُونَ} أَيْ كُفْرُهُمْ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ، تَقَوَّلَهُ وَافْتَرَاهُ: فَلْيَأْتُوا بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ لَوِ اجْتَمَعُوا هُمْ وَجَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ، مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مَا جَاءُوا بِمِثْلِهِ وَلَا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.

- 35 - أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ - 36 - أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ - 37 - أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ - 38 - أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ - 39 - أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ - 40 - أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ - 41 - أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ - 42 - أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ - 43 - أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هَذَا الْمَقَامُ فِي إِثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}؟ أَيْ أَوُجِدُوا مِنْ غَيْرِ مُوجِدٍ؟ أَمْ هُمْ أَوْجَدُوا أَنْفُسَهُمْ؟ أَيْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَأَنْشَأَهُمْ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا شيئاً مذكوراً، روى البخاري، عن جبير بن مطعم قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المصيطرون}؟ كاد قلبي أن يطير (الحديث من رواية الشيخين، وجبير بن مطعم قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد وقعة بدر في فداء الأسرى وَكَانَ إِذْ ذَاكَ مُشْرِكًا، وَكَانَ سَمَاعُهُ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ جُمْلَةِ مَا حمله على الدخول في الإسلام). ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ}؟ أَيْ أَهُمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ وَهَذَا إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ فِي شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْخَالِقُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ}؟ أَيْ أَهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْمُلْكِ وَبِيَدِهِمْ مَفَاتِيحُ الخزائن {أَمْ هُمُ المصيطرون} أي هم المحاسبون للخلائق، بل الله عزَّ وجلَّ هو المالك التصرف الفعال لما يريد، وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ}؟ أَيْ مَرْقَاةٌ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أَيْ فَلْيَأْتِ الَّذِي يَسْتَمِعُ لَهُمْ بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ، عَلَى صِحَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْفِعَالِ والمقال، ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِيمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ من البنات، واختيارهم لأنفسهم الذكور على الإناث، وَقَدْ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ وَعَبَدُوهُمْ مَعَ اللَّهِ فَقَالَ: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ}؟! وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً}؟ أَيْ أُجْرَةٌ عَلَى إِبْلَاغِكَ إِيَّاهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ، أَيْ لستُ تَسْأَلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، {فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} أَيْ فَهُمْ مِنْ أَدْنَى شَيْءٍ يَتَبَرَّمُونَ مِنْهُ، وَيُثْقِلُهُمْ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ، {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً * فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ}، يَقُولُ تَعَالَى: أَمْ يُرِيدُ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِمْ هَذَا فِي الرَّسُولِ، وَفِي الدِّينِ غُرُورَ النَّاسِ وَكَيْدَ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ، فَكَيْدُهُمْ إِنَّمَا يَرْجِعُ وَبَالُهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ، {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وَهَذَا إِنْكَارٌ شَدِيدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ وَالْأَنْدَادَ مَعَ اللَّهِ، ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ عَمَّا يَقُولُونَ وَيَفْتَرُونَ، وَيُشْرِكُونَ، فَقَالَ: {سُبْحَانَ اللَّهِ عما يشركون}.

- 44 - وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ - 45 - فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ - 46 - يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ - 47 - وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ

أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ - 48 - وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ - 49 - وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِالْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ لِلْمَحْسُوسِ {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً} أَيْ عَلَيْهِمْ يُعَذَّبُونَ بِهِ لَمَّا صَدَقُوا وَلَمَّا أَيْقَنُوا، بَلْ يَقُولُونَ هَذَا {سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} أَيْ متراكم، وهذا كقوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ}، وقال اللَّهُ تَعَالَى {فَذَرْهُمْ} أَيْ دَعْهُمْ يَا مُحَمَّدُ {حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} أي لا ينفعهم كيدهم ولا مكرهم الذي استعملوه في الدنيا، لا يجزي عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَيْئًا، {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}. ثم قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} أَيْ قبل ذلك في الدار الدنيا كقوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لعلهم يرجعون}، ولهذا قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ نُعَذِّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَنَبْتَلِيهِمْ فِيهَا بِالْمَصَائِبِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَيُنِيبُونَ، فَلَا يَفْهَمُونَ مَا يُرَادُ بِهِمْ، بَلْ إِذَا جلي عنهم مما كانوا عليه فيه، عادوا إلى أسوأ مما كانوا كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: «إِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا مَرِضَ وَعُوفِيَ، مَثَلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ الْبَعِيرِ لَا يَدْرِي فِيمَا عَقَلُوهُ وَلَا فِيمَا أرسوله». وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أَيِ اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ وَلَا تُبَالِهِمْ فَإِنَّكَ بِمَرْأًى مِنَّا وَتَحْتَ كَلَاءَتِنَا، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، وَقَوْلُهُ تعالى {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أَيْ إِلَى الصَّلَاةِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ ولا إله غيرك (قاله الضحّاك وعبد الرحمن بن أسلم)، وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كان يقول: هذا ابتداء الصلاة، وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أَيْ مِنْ نَوْمِكَ مِنْ فِرَاشِكَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَيَتَأَيَّدُ هَذَا الْقَوْلُ بِمَا رَوَاهُ الإمام أحمد، عن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي - أَوْ قَالَ ثُمَّ دَعَا - اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ عَزَمَ فَتَوَضَّأَ ثم صلى قبلت صلاته" (أخرجه أحمد ورواه البخاري وأهل السنن). وقال مُجَاهِدٍ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قَالَ من كل مجلس، وقال الثوري {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قَالَ إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ قَالَ سبحانك اللهم وبحمدك، وهذا القول كفارة المجالس، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك" (أخرجه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح). وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أَيِ اذْكُرْهُ وَاعْبُدْهُ بِالتِّلَاوَةِ والصلاة في الليل، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً}، وقوله تعالى: {وَإِدْبَارَ النجوم} قد تقدم عن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمَا الرَّكْعَتَانِ اللَّتَانِ

قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُمَا مَشْرُوعَتَانِ عِنْدَ إِدْبَارِ النجوم أي عند جنوحها للغيبوبة، لحديث: «لَا تَدَعُوهُمَا وَإِنْ طَرَدَتْكُمُ الْخَيْلُ، يَعْنِي رَكْعَتَيِ الفجر» (رواه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً). وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فيها».

53 - سورة النجم

- 53 - سورة النجم

روى البخاري، عن عبد الله بن مسعود قَالَ: أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهَا سَجْدَةٌ {وَالنَّجْمِ}، قال: فسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ، إِلَّا رَجُلًا رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ، فَسَجَدَ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِل كَافِرًا، وهو أُمية بن خلف (أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي، وجاء في بعض الروايات أَنَّهُ (عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ)).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- 1 - وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى - 2 - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى - 3 - وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى - 4 - إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى قال الشعبي: الْخَالِقُ يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَالْمَخْلُوقُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقْسِمَ إِلَّا بِالْخَالِقِ، واختلف المفسرون في معنى قوله: {والنجم إِذَا هوى} فقال مُجَاهِدٍ: يَعْنِي بِالنَّجْمِ الثُّرَيَّا إِذَا سَقَطَتْ مَعَ الفجر، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَزَعَمَ السُّدِّيُّ: أَنَّهَا الزُّهْرَةُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} إِذَا رُمِيَ به الشياطين، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لقرآن كريم}. وقوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} هَذَا هُوَ المقسم عليه، وهو الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه راشد، تابع للحق ليس بضال، وَالْغَاوِي: هُوَ الْعَالِمُ بِالْحَقِّ الْعَادِلُ عَنْهُ قَصْدًا إلى غيره، فنزه الله رسوله عَنْ مُشَابَهَةِ أَهْلِ الضَّلَالِ، كَالنَّصَارَى وَطَرَائِقِ الْيَهُودِ، وهي عِلْمِ الشَّيْءِ وَكِتْمَانِهِ، وَالْعَمَلِ بِخِلَافِهِ، بَلْ هُوَ صلاة اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَمَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ الْعَظِيمِ، فِي غَايَةِ الِاسْتِقَامَةِ وَالِاعْتِدَالِ والسداد، ولهذا قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} أَيْ مَا يَقُولُ قَوْلًا عَنْ هَوًى وَغَرَضٍ {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} أَيْ إِنَّمَا يَقُولُ مَا أُمِرَ به، يبلغه إلى الناس كاملاً موفوراً، من غير زيادة ولا نقصان، كما روى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مني إلا الحق» (أخرجه أحمد وأبو داود وفي بعض الروايات: بشرٌ يتكلم في الرضى والغضب).

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أخبرتكم أنه مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ الَّذِي لَا شَكَّ فيه» (أخرجه الحافظ البزار). وعن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا» قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: فَإِنَّكَ تُدَاعِبُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حقاً» (أخرجه الإمام أحمد).

- 5 - عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى - 6 - ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى - 7 - وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى - 8 - ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى - 9 - فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى - 10 - فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى - 11 - مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى - 12 - أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى - 13 - وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى - 14 - عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى - 15 - عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى - 16 - إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى - 17 - مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى - 18 - لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى يقول تعالى مخبراً عن عبد وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ علَّمه {شَدِيدُ القوى} وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، كما قال تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مكين}. وَقَالَ هَاهُنَا: {ذُو مِرَّةٍ} أَيْ ذُو قُوَّةٍ، قاله مجاهد، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذُو مَنْظَرٍ حَسَنٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُو خَلْق طَوِيلٍ حَسَنٍ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذُو مَنْظَرٍ حَسَنٍ وَقُوَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصحيح: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرّة سوي»، وقوله تعالى: {فاستوى} يعني جبريل عليه السلام {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} يَعْنِي جِبْرِيلَ اسْتَوَى فِي الأفق الأعلى، قال عكرمة {الأفق الْأَعْلَى} الَّذِي يَأْتِي مِنْهُ الصُّبْحُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هو مطلع الشمس، قال ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ: أَمَّا وَاحِدَةٌ فَإِنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يَرَاهُ فِي صُورَتِهِ فَسَدَّ الأُفق، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَهُ حَيْثُ صَعِدَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ بالأُفق الأعلى} (أخرجه ابن أبي حاتم). وهذه الرُّؤْيَةَ لِجِبْرِيلَ لَمْ تَكُنْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بَلْ قَبْلَهَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ، فَهَبَطَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَدَلَّى إِلَيْهِ، فَاقْتَرَبَ مِنْهُ وَهُوَ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سدرة المنتهى يعني ليلة الإسراء، وكانت الرُّؤْيَةُ الْأُولَى فِي أَوَائِلِ الْبَعْثَةِ بَعْدَ مَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَأَوْحَى الله إليه صدر سورة اقرأ، روى الإمام أحمد، عن عبد الله أَنَّهُ قَالَ: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ، وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الأُفق يَسْقُطُ مِنْ جَنَاحِهِ مِنَ التَّهَاوِيلِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ ما الله بِهِ عَلِيمٌ» (انفرد بهذه الرواية الإمام أحمد). وقوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} أَيْ فَاقْتَرَبَ جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ لَمَّا هَبَطَ عَلَيْهِ إِلَى الْأَرْضِ، حَتَّى كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قَابَ قَوْسَيْنِ} أَيْ بِقَدْرِهِمَا إذا مدّا، قاله مجاهد وقتادة. وقوله: {أَوْ أدنى} هَذِهِ الصِّيغَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ لِإِثْبَاتِ الْمُخْبَرِ عنه، ونفي ما زاد عليه كقوله تَعَالَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كالحجارة أَوْ أشد قسوة} أَيْ مَا هِيَ بِأَلْيَنَ مِنَ الْحِجَارَةِ بَلْ مِثْلُهَا أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا فِي الشِّدَّةِ وَالْقَسْوَةِ، وكذا قوله:

{يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}، وَقَوْلُهُ: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} أَيْ لَيْسُوا أَقَلَّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِائَةُ أَلْفٍ حَقِيقَةً أَوْ يَزِيدُونَ عَلَيْهَا، فَهَذَا تَحْقِيقٌ للمخبر به لا شك، وَهَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذَا المقترب الداني إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُوَ قَوْلُ عائشة وابن مسعود وأبي ذر كَمَا سَنُورِدُ أَحَادِيثَهُمْ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى. وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ» فجعل هذه إحداهما، وجاء فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: «ثُمَّ دَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ العزة فتدلى» ولهذا قد تَكَلَّمَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي مَتْنِ هَذِهِ الرواية، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى وَقْتٍ آخَرَ وَقِصَّةٍ أُخْرَى، لَا أَنَّهَا تَفْسِيرٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ كَانَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ لَا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} فَهَذِهِ هِيَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ والأولى كانت في الأرض، وقال ابن جرير، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «رأيت جبريل له ستمائة جناح» (أخرجه ابن جرير، ورواه البخاري في صحيحه). وروى البخاري، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ زِرًّا عَنْ قَوْلِهِ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى} قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ (هو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جبريل له ستمائة جناح. فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ يَكُونُ قَوْلُهُ: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى} مَعْنَاهُ فَأَوْحَى جِبْرِيلُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ مَا أَوْحَى، أَوْ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ مَا أَوْحَى بِوَاسِطَةِ جبريل؛ وكلا المعنيين صحيح، وقوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يرى} قال مسلم، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قال: رآه بفؤاده مرتين، وقد خالفه ابن مسعود وغيره، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب، وَقَوْلُ الْبَغَوِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَهُوَ قَوْلُ أنَس وَالْحَسَنُ وعكرمة فيه نظر، والله أعلم. وروى الترمذي، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ، قُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار}؟ قَالَ: وَيْحَكَ ذَاكَ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ الَّذِي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين (أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب). وفال أيضاً: لَقِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا بِعَرَفَةَ فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَكَبَّرَ حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا بَنُو هَاشِمٍ، فَقَالَ كَعْبٌ: إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى، فَكَلَّمَ مُوسَى مَرَّتَيْنِ، وَرَآهُ مُحَمَّدٌ مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ مَسْرُوقٌ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: هَلْ رَأَى محمد ربه؟ فقالت: لقد تكلمت بشيء وقف لَهُ شَعْرِي، فَقُلْتُ: رُوَيْدًا، ثُمَّ قَرَأْتُ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}، فَقَالَتْ: أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ؟ إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، مَنْ أَخْبَرَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ، أَوْ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ، أَوْ يَعْلَمُ الْخَمْسَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} فقد أعظم على الله الْفِرْيَةَ، وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ؛ لَمْ يَرَهُ فِي صُورَتِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ومرة في أجياد، وله ستمائة جناح قد سد الأفق" (أخرجه الترمذي في سننه). وروى النسائي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَالْكَلَامُ لِمُوسَى، وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ؟ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلَتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ

وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: «نورٌ أَنَّى أَرَاهُ»؟ وَفِي رِوَايَةٍ: «رَأَيْتُ نُورًا»، وروى ابن أبي حاتم، عن عباد بن منصور قال: سألت عكرمة عن قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} فَقَالَ عِكْرِمَةُ: تُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكَ أَنَّهُ قَدْ رَآهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: قَدْ رَآهُ، ثُمَّ قَدْ رَآهُ، قال: فسألت عنه الحسن، فقال: «قد رأى جلاله وعظمته ورداءه» (أخرجه ابن أبي حاتم). فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رأيت ربي عزَّ وجلَّ»، فإنه إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، لَكِنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ حديث المنام، كما رواه أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَتَانِي رَبِّي اللَّيْلَةَ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ - أَحْسَبُهُ يَعْنِي فِي النَّوْمِ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قَالَ، قُلْتُ: لَا، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كتفيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثدييَّ - أَوْ قَالَ نَحْرِي - فَعَلِمْتُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قَالَ، قُلْتُ: نَعَمْ، يَخْتَصِمُونَ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالدَّرَجَاتِ، قَالَ: وَمَا الكفارات؟ قَالَ، قُلْتُ: الْمُكْثُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وَإِبْلَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. وَقَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إذا صليت: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ: فِتْنَةً أَنْ تقبضني إليك غير مفتون، وقال: وَالدَّرَجَاتُ، بَذْلُ الطَّعَامِ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ، وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ والناس نيام" (أخرجه الإمام أحمد). وقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} هَذِهِ هِيَ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي رَأَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا وكانت ليلة الإسراء، روى الإمام أحمد، عن عَامِرٌ قَالَ: أَتَى مَسْرُوقٌ عَائِشَةَ فَقَالَ: يَا أُم الْمُؤْمِنِينَ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ عزَّ وجلَّ؟ قَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ قفَّ شَعْرِي لِمَا قُلْتَ! أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ، مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ؟ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار}، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ من ورآء حجاب}، وَمَنْ أَخْبَرَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام} الآية، وَمَنْ أَخْبَرَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ من ربك}؛ ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين (أخرجه أحمد في المسند)، وروى الإمام أحمد أيضاً عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقُلْتُ أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ}، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخرى} فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هذه الأمة سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ» لَمْ يَرَهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ، رَآهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ سَادًّا عظم خلقه ما بين السماء والأرض" (أخرجه الشيخان والإمام أحمد). وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى} قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ في صورته مرتين، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ غَشِيَتْهَا الْمَلَائِكَةُ مِثْلَ الْغِرْبَانِ، وَغَشِيَهَا نُورُ

الرَّبِّ، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ مَا أَدْرِي مَا هِيَ. روى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا، {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قَالَ: فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: وَأُعْطِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا من أمته المقحمات (أخرجه مسلم والإمام أحمد). وعن مجاهد قَالَ: كَانَ أَغْصَانُ السِّدْرَةِ لُؤْلُؤًا وَيَاقُوتًا وَزَبَرْجَدًا، فرآها محمد صلى الله عليه وسلم وَرَأَى رَبَّهُ بِقَلْبِهِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ شَيْءٍ رَأَيْتَ يَغْشَى تِلْكَ السِّدْرَةَ؟ قَالَ: «رَأَيْتُ يَغْشَاهَا فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَرَأَيْتُ عَلَى كُلِّ وَرَقَةٍ مِنْ وَرَقِهَا مَلَكًا قَائِمًا يُسَبِّحُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ». وَقَوْلُهُ تعالى: {ما زَاغَ البصر} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا ذَهَبَ يَمِينًا وَلَا شَمَالًا، {وَمَا طَغَى} مَا جَاوَزَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَلَا سَأَلَ فَوْقَ مَا أُعْطِيَ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ النَّاظِمُ: رَأَى جَنَّةَ الْمَأْوَى وَمَا فَوْقَهَا وَلَوْ * رَأَى غَيْرُهُ مَا قَدْ رآه لتاها وقوله تَعَالَى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} كَقَوْلِهِ: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} أي الدالة على قدرتنا وعظمتنا.

- 19 - أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى - 20 - وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى - 21 - أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى - 22 - تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى - 23 - إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى - 24 - أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى - 25 - فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى - 26 - وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى يَقُولُ تَعَالَى مُقَرِّعًا لِلْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمُ الأصنام وَالْأَوْثَانَ، وَاتِّخَاذِهِمْ لَهَا الْبُيُوتَ مُضَاهَاةً لِلْكَعْبَةِ الَّتِي بناها خليل الرحمن، {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ}؟ وَكَانَتِ اللَّاتُ صَخْرَةً بَيْضَاءَ مَنْقُوشَةً، عليها بيت بالطائف، له أستار وسدنة، يَفْتَخِرُونَ بِهَا عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ بَعْدَ قُرَيْشٌ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانُوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله فَقَالُوا: اللَّاتُ يَعْنُونَ مُؤَنَّثَةً مِنْهُ، تَعَالَى اللَّهُ عن قولهم علواً كبيراً، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: {اللَّاتَ وَالْعُزَّى} قَالَ: كَانَ اللَّاتُّ رَجُلًا يَلُتُّ السويق سويق الحاج (أخرجه البخاري)، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَذَا الْعُزَّى مِنَ الْعَزِيزِ وَكَانَتْ شَجَرَةً عَلَيْهَا بِنَاءٌ وَأَسْتَارٌ بِنَخْلَةَ وَهِيَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ كَانَتْ قُرَيْشٌ يُعَظِّمُونَهَا كَمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُد: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عَزَّى لَكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُولُوا اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مولى لكم»، وروى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقامرك فليتصدق" (أخرجه البخاري أيضاً)، فهذا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ فِي ذَلِكَ كما كانت ألسنتهم قد اعتادته من زمن الجاهلية، كما قال النسائي، وأما مناة فكانت بالمشلل بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ وَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ في جاهليتها

يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة، وَإِنَّمَا أَفْرَدَ هَذِهِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشْهَرُ مِنْ غيرها، قال ابن إسحاق: كَانَتِ الْعَرَبُ اتَّخَذَتْ مَعَ الْكَعْبَةِ طَوَاغِيتَ، وَهِيَ بيوت تعظمها، كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب تطوف بها كطوافها بها وتنحر عندها، فكانت لقريش ولبني كنانة (العزى) بنخلة، وكان سَدَنَتُهَا وَحُجَّابُهَا (بَنِي شَيْبَانَ) مِنْ سُلَيْمٍ حُلَفَاءَ بَنِي هَاشِمٍ، قُلْتُ: بَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَهَدَمَهَا وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا عُزَّ كُفْرَانَكِ لَا سبحانك * إني رأيت الله قد أهانك وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرى}؟ ثم قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى}؟ أَيْ أَتَجْعَلُونَ لَهُ ولداً وتجعلون ولده أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكر، فَلَوِ اقْتَسَمْتُمْ أَنْتُمْ وَمَخْلُوقٌ مِثْلُكُمْ هَذِهِ الْقِسْمَةَ لَكَانَتْ {قِسْمَةٌ ضِيزَى} أَيْ جَوْرًا بَاطِلَةً، فَكَيْفَ تُقَاسِمُونَ رَبَّكُمْ هَذِهِ الْقِسْمَةَ، الَّتِي لَوْ كَانَتْ بَيْنَ مَخْلُوقِينَ كَانَتْ جَوْرًا وَسَفَهًا؟ ثُمَّ قَالَ تعالى منكراً عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَتَسْمِيَتِهَا آلِهَةً {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم} أَيْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} أَيْ مِنْ حُجَّةٍ {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} أي ليس له مُسْتَنَدٌ إِلَّا حُسْنَ ظَنِّهِمْ بِآبَائِهِمُ، الَّذِينَ سَلَكُوا هَذَا الْمَسْلَكَ الْبَاطِلَ قَبْلَهُمْ، وَإِلَّا حَظَّ نُفُوسِهِمْ وَتَعْظِيمِ آبَائِهِمُ الْأَقْدَمِينَ، {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَّبِّهِمُ الْهُدَى} أَيْ وَلَقَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ، بِالْحَقِّ الْمُنِيرِ وَالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَمَعَ هَذَا مَا اتبعوا ما جاءهم به ولا انقادوا له، ثم قال تعالى: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} أَيْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ تَمَنَّى خَيْرًا حَصَلَ لَهُ، {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب} وَلَا كُلُّ مَنْ وَدَّ شَيْئًا يَحْصُلُ لَهُ، كما روى: «إِذَا تَمَنَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَنْظُرْ مَا يَتَمَنَّى فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْ أُمْنِيَتِهِ» (تفرد به الإمام أَحْمَدُ). وَقَوْلُهُ: {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} أَيْ إِنَّمَا الْأَمْرُ كُلَّهُ للَّهِ، مَالِكِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْمُتَصَرِّفِ فيهما، وقوله تَعَالَى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى}، كَقَوْلِهِ: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}، {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ له} فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، فَكَيْفَ تَرْجُونَ - أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ - شَفَاعَةَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ والأنداد عِندِ الله؟ وهو تعالى لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها؟

- 27 - إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى - 28 - وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا - 29 - فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - 30 - ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فِي تَسْمِيَتِهِمُ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى، وَجَعْلِهِمْ لها أنها بنات الله، تعالى الله عن ذلك، كما قال الله تَعَالَى: {وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شهادتهم ويسألون} ولهذا قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ صَحِيحٌ يُصَدِّقُ مَا قَالُوهُ، بَلْ هُوَ كَذِبٌ وَزُورٌ

وَافْتِرَاءٌ وَكُفْرٌ شَنِيعٌ، {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} أَيْ لَا يُجْدِي شَيْئًا وَلَا يَقُومُ أَبَدًا مَقَامَ الْحَقِّ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فإن الظن أكذب الحديث»، وقوله تعالى: {فأعرض عمن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا} أَيْ أَعْرِضْ عَنِ الَّذِي أَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ وَاهْجُرْهُ، وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أَيْ وَإِنَّمَا أَكْثَرُ هَمِّهِ ومبلغ علمه الدنيا، فذاك عو غاية ما لا خير فيه، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} أَيْ طَلَبُ الدُّنْيَا وَالسَّعْيُ لَهَا هُوَ غَايَةُ مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ، وقد روي عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لا عقل له» (أخرجه الإمام أحمد ورواه الشيخان أيضاً)، وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا»، وقوله تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} أَيْ هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالْعَالَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته.

- 31 - وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ليجزي الذين أساؤوا بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى - 32 - الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ، الْحَاكِمُ فِي خَلْقِهِ بِالْعَدْلِ، وَخَلَقَ الْخَلْقَ بِالْحَقِّ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أساؤوا بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى} أَيْ يُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، ثُمَّ فَسَّرَ الْمُحْسِنِينَ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، أَيْ لَا يَتَعَاطَوْنَ المحرمات الكبائر، وَإِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ بَعْضُ الصَّغَائِرِ فَإِنَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ وَيَسْتُرُ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الأُخْرى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً}، وقال ههنا: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ}، وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ اللَّمَمَ مِنْ صَغَائِرِ الذنوب ومحقرات الأعمال. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، والنَّفْس تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يكذبه» (أخرجه الإمام أحمد ورواه الشيخان أيضاً). وقال عبد الرحمن ابن نافع: سَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {إِلاَّ اللَّمَمَ}، قَالَ: القُبْلة، وَالْغَمْزَةُ، وَالنَّظْرَةُ، وَالْمُبَاشَرَةُ، فَإِذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ وَهُوَ الزنا، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِلاَّ اللَّمَمَ} إِلَّا مَا سَلَفَ، وكذا قال زيد بن أسلم، وروى ابن جرير، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {إِلاَّ اللَّمَمَ} قَالَ: الَّذِي يُلِمُّ بِالذَّنْبِ ثُمَّ يَدَعُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جماً * وأيّ عبد لك ما ألما؟ وعن الحسن في قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} قَالَ: اللَّمَمُ مِنَ الزِّنَا، أَوِ السَّرِقَةِ، أَوْ شرب الخمر ثم لا يعود، وروى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِلاَّ اللَّمَمَ} يُلِمُّ بِهَا فِي

الْحِينِ، قُلْتُ: الزِّنَا؟ قَالَ: الزِّنَا ثُمَّ يَتُوبُ، وعنه قَالَ: اللَّمَمَ الَّذِي يُلِمُّ الْمَرَّةَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ أَبُو صَالِحٍ: سُئِلْتُ عَنْ اللَّمَمَ، فَقُلْتُ: هُوَ الرَّجُلُ يُصِيبُ الذَّنْبَ ثُمَّ يَتُوبُ، وَأَخْبَرْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهَا ملك كريم. وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} أَيْ رَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَغْفِرَتُهُ تَسَعُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا لِمَنْ تاب منها، كقوله تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. وقوله تَعَالَى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الْأَرْضِ} أَيْ هُوَ بَصِيرٌ بِكُمْ، عَلِيمٌ بِأَحْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ، حِينَ أَنْشَأَ أَبَاكُمْ آدَمَ مِنَ الْأَرْضِ، وَاسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ صُلْبِهِ أَمْثَالَ الذَّرِّ، ثُمَّ قَسَمَهُمْ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا لِلْجَنَّةِ وَفَرِيقًا لِلسَّعِيرِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} قَدْ كَتَبَ الْمَلَكُ الَّذِي يُوَكَّلُ بِهِ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وعمله وشقي أم سعيد، وقوله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} أَيْ تَمْدَحُوهَا وَتَشْكُرُوهَا وَتُمَنُّوا بِأَعْمَالِكُمْ {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} الْآيَةَ. روى مسلم في صحيحه، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ قَالَ: سَمَّيْتُ ابْنَتِي بَرَّةَ، فَقَالَتْ لِي زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ هَذَا الِاسْمِ، وَسُمِّيتُ بَرَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ»، فَقَالُوا: بِمَ نُسَمِّيهَا؟ قَالَ: «سموها زينب» (أخرجه مسلم في صحيحه). وقد ثبت أيضاً، عن أبي بكرة قَالَ: مَدَحَ رَجُلٌ رَجُلًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ - مِرَارًا - إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا صَاحِبَهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسَبُ فُلَانًا وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسَبُهُ كَذَا وَكَذَا إن كان يعلم ذلك» (أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة). وروى الإمام أحمد، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُثْمَانَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ، قَالَ: فَجَعَلَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ يَحْثُو فِي وَجْهِهِ التُّرَابَ، وَيَقُولُ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا لَقِينَا الْمَدَّاحِينَ أَنْ نَحْثُوَ في وجوههم التراب (أخرجه مسلم وأبو داود والإمام أحمد).

- 33 - أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى - 34 - وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى - 35 - أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى - 36 - أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى - 37 - وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى - 38 - أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى - 39 - وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى - 40 - وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى - 41 - ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِمَنْ تَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}، {وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَطَاعَ قليلاً ثم قطعه، قال عكرمة: كَمَثَلِ الْقَوْمِ إِذَا كَانُوا يَحْفِرُونَ بِئْرًا فَيَجِدُونَ فِي أَثْنَاءِ الْحَفْرِ صَخْرَةً تَمْنَعُهُمْ مِنْ تَمَامِ العمل، فيقولون: أكدينا ويتركون العمل، وقوله تعالى: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى}؟ أَيْ أَعِنْدَ هذا الذي أَمْسَكَ يَدَهُ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ، وَقَطَعَ مَعْرُوفَهُ، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ أَنَّهُ سَيَنْفَدُ مَا فِي يَدِهِ حتى أَمْسَكَ عَنْ مَعْرُوفِهِ فَهُوَ يَرَى ذَلِكَ عِيَانًا؟ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَنِ الصدقة وَالْبَرِّ وَالصِّلَةِ بُخْلًا

وَشُحًّا وَهَلَعًا، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنفقْ بِلَالًا، وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا» (أخرجه البخاري)، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}، وقوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى}؟ أي بلّغ جميع ما أمر به، قال ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَفَّى} لِلَّهِ بِالْبَلَاغِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {وَفَّى} مَا أُمِرَ بِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَفَّى} طَاعَةَ اللَّهِ وَأَدَّى رِسَالَتَهُ إِلَى خَلْقِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ يَشْمَلُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إبراهيمَ ربُّه بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} فَقَامَ بِجَمِيعِ الْأَوَامِرِ، وَتَرَكَ جَمِيعَ النَّوَاهِي، وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، فَاسْتَحَقَّ بِهَذَا أَنْ يكون للناس إماماً يقتدى به. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين}. روى ابن حاتم، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} قَالَ: «أَتَدْرِي مَا وَفَّى؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «وَفَّى عَمَلَ يَوْمِهِ بأربع ركعات من أول النهار». وعن سهل بن معاذ ابن أنَس، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى الله تعالى إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ الَّذِي وفَّى؟ إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وحين تصبحون} " حتى ختم الآية (أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير). ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى يُبَيِّنُ مَا كَانَ أَوْحَاهُ في صحف إبراهيم وموسى فقال: {أن لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أَيْ كُلُّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ نَفْسَهَا بِكُفْرٍ أَوْ شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا عَلَيْهَا وِزْرُهَا لَا يَحْمِلُهُ عَنْهَا أَحَدٌ، كَمَا قَالَ: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى}، {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} أَيْ كَمَا لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ وِزْرُ غَيْرِهِ، كَذَلِكَ لَا يُحَصِّلُ مِنَ الْأَجْرِ إِلَّا مَا كَسَبَ هُوَ لِنَفْسِهِ، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ اسْتَنْبَطَ الشافعي رَّحْمَةِ الله، إِنَّ الْقِرَاءَةَ لَا يَصِلُ إِهْدَاءُ ثَوَابِهَا إِلَى الْمَوْتَى، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِمْ وَلَا كَسْبِهِمْ، وَلِهَذَا لَمْ يَنْدُبْ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ وَلَا حَثَّهُمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقُونَا إليه، فَأَمَّا الدُّعَاءُ وَالصَّدَقَةُ فَذَاكَ مُجْمَعٌ عَلَى وُصُولِهِمَا وَمَنْصُوصٌ مِنَ الشَّارِعِ عَلَيْهِمَا، وَأَمَّا الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: مِنْ ولدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ، أَوْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ مِنْ بَعْدِهِ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ" فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ مِنْ سَعْيِهِ وَكَدِّهِ وَعَمَلِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ»، وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ كَالْوَقْفِ وَنَحْوِهِ هِيَ مِنْ آثَارِ عَمَلِهِ وَوَقْفِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ} الآية، والعلم الذي نشره في الناس فافتدى بِهِ النَّاسُ بَعْدَهُ هُوَ أَيْضًا مِنْ سَعْيِهِ وَعَمَلِهِ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»، وقوله تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كقوله تَعَالَى: {وَقُل اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}، فيجزيكم عَلَيْهِ أَتَمَّ الْجَزَاءِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شراً فشر، وهكذا قال ههنا {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} أَيِ الْأَوْفَرَ.

- 42 - وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى - 43 - وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى - 44 - وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا - 45 - وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر

وَالْأُنْثَى - 46 - مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى - 47 - وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى - 48 - وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى - 49 - وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى - 50 - وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى - 51 - وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَى - 52 - وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى - 53 - وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى - 54 - فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى - 55 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى يقول تعالى: {وَإِن إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} أَيِ الْمَعَادُ يَوْمَ القيامة، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ: قَامَ فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَقَالَ: يَا بَنِي أَوْدٍ! إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ، تَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَعَادَ إِلَى اللَّهِ، إِلَى الجنة أو إلى النار (أخرجه ابن أبي حاتم)، وذكر البغوي، عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} قَالَ: «لَا فِكْرَةَ فِي الرَّبِّ»، وفي الصَّحِيحِ: "يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بالله ولينته". وفي الحديث الَّذِي فِي السُّنَنِ: «تَفَكَّرُوا فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَلَا تُفَكِّرُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تعالى خَلَقَ مَلَكًا مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ» أَوْ كَمَا قَالَ، وقوله تعالى: {وإنه هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} أي خلق الضحك والبكاء وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}، كَقَوْلِهِ: {الذي خَلَقَ الموت والحياة}، {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}، كَقَوْلِهِ: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى}؟ وقوله تعالى: {وَإِن عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرى}، أَيْ كَمَا خَلَقَ الْبَدَاءَةَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَهِيَ النَّشْأَةُ الْآخِرَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} أَيْ مَلَّكَ عِبَادَهُ الْمَالَ وَجَعَلَهُ لَهُمْ (قُنْيَةً) مُقِيمًا عِنْدَهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى بَيْعِهِ، فَهَذَا تمام النعمة عليهم، وعن مجاهد {أغنى} موّل {وأقنى} أخدم، وقال ابن عباس {أغنى}: أعطى، {وأقنى}: رضّى، وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} قَالَ ابْنُ عباس: هُوَ هَذَا النَّجْمُ الْوَقَّادُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ مِرْزَمُ الْجَوْزَاءِ، كَانَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَرَبِ يَعْبُدُونَهُ، {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} وَهُمْ قَوْمُ (هُودٍ) ويُقال لهم (عاد بن إرم)، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد}؟ فَكَانُوا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ وَأَقْوَاهُمْ، وَأَعْتَاهُمْ عَلَى الله تعالى وَعَلَى رَسُولِهِ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}، وقوله تعالى: {وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَى} أَيْ دَمَّرَهُمْ فَلَمْ يُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا، {وَقَوْمَ نُوحٍ مِن قَبْلُ} أَيْ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ {إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى} أي أشد تمرداً من الذين بَعْدِهِمْ، {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} يَعْنِي مَدَائِنَ لُوطٍ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} يَعْنِي مِنَ الْحِجَارَةِ الَّتِي أَرْسَلَهَا عَلَيْهِمْ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}؟ أَيْ فَفِي أَيِّ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ تَمْتَرِي قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}؟ يَا مُحَمَّدُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَهُوَ اخْتِيَارُ ابن جرير.

- 56 - هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى - 57 - أَزِفَتِ الْآزِفَةُ - 58 - لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ - 59 - أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ - 60 - وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ - 61 - وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ - 62 - فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا

{هَذَا نَذِيرٌ} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى} أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ أُرْسِلَ كَمَا أُرْسِلُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ}، {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} أَيِ اقْتَرَبَتِ الْقَرِيبَةُ وَهِيَ الْقِيَامَةُ، {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} أَيْ لَا يَدْفَعُهَا إِذًا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَحَدٌ، ولا يطلع على علمها سواه، و {النذير} الْحَذَرُ لِمَا يُعَايِنُ مِنَ الشَّرِّ، الَّذِي يُخْشَى وقوعه فيمن أنذرهم، وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ» أَيِ الَّذِي أَعْجَلَهُ شِدَّةُ مَا عَايَنَ مِنَ الشَّرِّ عَنْ أَنْ يَلْبَسَ عَلَيْهِ شَيْئًا، بَلْ بَادَرَ إِلَى إِنْذَارِ قَوْمِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَجَاءَهُمْ عُرْيَانًا مُسْرِعًا وهو مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} أَيِ اقْتَرَبَتِ الْقَرِيبَةُ يعني يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: «مَثَلِي وَمَثَلُ السَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ» وَفَرَّقَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ الوسطى والتي تلي الإبهام، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي استماعهم القرآن وإعراضهم عنه وتلهيهم {أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ}؟ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، {وَتَضْحَكُونَ} مِنْهُ اسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً، {وَلاَ تَبْكُونَ} أَيْ كَمَا يَفْعَلُ الْمُوقِنُونَ بِهِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ، {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خشوعاً}، وقوله تعالى: {وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ {سَامِدُونَ} مُعْرِضُونَ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: غَافِلُونَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابن عباس: تستكبرون، وبه يقول السدي (في اللباب: وأخرج ابن أبي حاتم: كانوا يمرون على الرسول وهو يصلي شامخين فنزلت {وأنتم سامدون}). ثم قال تعالى آمراً لعباده بالسجود له والعبادة: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}، أَيْ فَاخْضَعُوا لَهُ وَأَخْلِصُوا ووحِّدوه. روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ والمشركون والجن والإنس (انفرد به البخاري دون مسلم).

54 - سورة القمر

- 54 - سورة القمر

قَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي وَاقِدٍ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَقْرَأُ بِقَافٍ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ، وَكَانَ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الْمَحَافِلِ الْكِبَارِ، لِاشْتِمَالِهِمَا عَلَى ذِكْرِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَبَدْءِ الْخَلْقِ وَإِعَادَتِهِ، وَالتَّوْحِيدِ، وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ العظيمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- 1 - اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ - 2 - وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ - 3 - وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ - 4 - وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ - 5 - حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ وَفَرَاغِ الدُّنْيَا وَانْقِضَائِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ الله فَلاَ تستعجلوه}، وَقَالَ: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}، وقد وردت الأحاديث بذلك، روى الحافظ أبو بكر البزار، عَنْ أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ أَصْحَابَهُ ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إلا سف يَسِيرٌ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ وما نرى من الشمس إلا يسيراً»، وقال الإمام أحمد، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بُعِثْتُ أنا والساعة هكذا» وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى (أخرجه الشيخان والإمام أحمد)، وفي لفظ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ إِنْ كادت لتسبقني» وَجَمَعَ الْأَعْمَشُ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد، عن خالد بن عمير قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فحمد الله تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بصُرْم وَوَلَّتْ حَذَّاءَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبابة كصُبابة الْإِنَاءِ يَتَصَابُّهَا صَاحِبُهَا، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ لَا زوال لها، فانتقلوا منها بخير ما يحضرنكم، فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَيَهْوِي فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا مَا يُدْرِكُ لَهَا قَعْرًا، وَاللَّهِ لَتَمْلَؤُنَّهُ أَفَعَجِبْتُمْ؟ وَاللَّهِ لَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يوم وهو كظيظ من الزحام» (أخرجه ابن جرير. معنى (صُرْم): قطيعة. و (حذاء) مدبرة لم يتعلق أهلها منها بشيء، و (صُبابة): بقية). وذكر

تمام الحديث. وعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: نَزَلْنَا الْمَدَائِنَ فَكُنَّا مِنْهَا عَلَى فَرْسَخٍ فَجَاءَتِ الْجُمُعَةُ فَحَضَرَ أَبِي وَحَضَرْتُ مَعَهُ، فَخَطَبَنَا حُذَيْفَةُ فَقَالَ: أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}، أَلَا وَإِنَّ السَّاعَةَ قَدِ اقْتَرَبَتْ، أَلَا وَإِنَّ الْقَمَرَ قَدِ انْشَقَّ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِفِرَاقٍ، أَلَا وَإِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارُ وَغَدًا السِّبَاقُ. فَقُلْتُ لِأَبِي أَيَسْتَبِقُ النَّاسُ غَدًا؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَجَاهِلٌ إِنَّمَا هُوَ السِّبَاقُ بِالْأَعْمَالِ، وقوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قَدْ كَانَ هَذَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ورد فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: "خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الرُّومُ وَالدُّخَانُ وَاللِّزَامُ وَالْبَطْشَةُ وَالْقَمَرُ"، وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أن انْشِقَاقُ الْقَمَرِ قَدْ وَقَعَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ كَانَ إِحْدَى الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ. (ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ). (رواية أنَس بن مالك): روى الإمام أحمد عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً فَانْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانشق القمر} (أخرجه مسلم وأحمد)، وعن أنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن يُرِيَهُمْ آيَةً، فَأَرَاهُمُ الْقَمَرَ شِقَّيْنِ حَتَّى رَأَوْا حِراء بينهما (أخرجاه في الصحيحين). وروى الإمام أحمد، عن جبير بن مطعم قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةٌ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ، وَفِرْقَةٌ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ، فَقَالُوا: سَحَرَنَا مُحَمَّدٌ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ سَحَرَنَا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ (تفرد به أحمد). وروى البخاري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، عن ابن عباس في قوله تعالى: {اقربت السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} قَالَ: قَدْ مَضَى ذَلِكَ، كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ انْشَقَّ الْقَمَرُ حَتَّى رَأَوْا شقيه، وقال الحافظ البيهقي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قَالَ: وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْشَقَّ فِلْقَتَيْنِ، فِلْقَةٌ مِنْ دُونِ الْجَبَلِ، وَفِلْقَةٌ مِنْ خَلْفِ الْجَبَلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» (رواه البيهقي وأخرجه مسلم والترمذي وقال: حسن صحيح). وقال الإمام أحمد، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم شقتين حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشهدوا» (أخرجه الشيخان والإمام أحمد). وعن عبد الله ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقالت قُرَيْشٌ: هَذَا سِحْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، قَالَ، فَقَالُوا: انْظُرُوا مَا يَأْتِيكُمْ بِهِ السفَّار، فَإِنَّ مُحَمَّدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ، قال: فجاء السفَّار، فقالوا ذلك (أخرجه أبو داود الطيالسي). وفي لفظ: انْظُرُوا السفَّار، فَإِنْ كَانُوا رَأَوْا مَا رَأَيْتُمْ فَقَدْ صَدَقَ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَرَوْا مِثْلَ مَا رَأَيْتُمْ فَهُوَ سِحْرٌ سَحَرَكُمْ بِهِ، قَالَ: فَسُئِلَ السُّفَّارُ، قَالَ: وَقَدِمُوا مِنْ كُلِّ وُجْهَةٍ، فقالوا: رأينا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ القمر} (أخرجه البيهقي وابن جرير). وروى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، حَتَّى رَأَيْتُ الْجَبَلَ مِنْ بَيْنِ فُرْجَتَيِ الْقَمَرِ» (أخرجه الإمام أحمد). وَقَالَ لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى

عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: «اشْهَدْ يَا أَبَا بَكْرٍ»، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: سُحِرَ الْقَمَرُ حَتَّى انْشَقَّ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ آيَةً} أَيْ دَلِيلًا وَحُجَّةً وَبُرْهَانًا {يُعْرِضُواْ} أي لا ينقاضوا له بل يعرضوا عَنْهُ، وَيَتْرُكُونَهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ {وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} أي يقولون هَذَا الَّذِي شَاهَدْنَاهُ مِنَ الْحُجَجِ سحرٌ سُحِرْنَا به، ومعنى {مُّسْتَمِرٌّ} أي ذاهب بَاطِلٌ مُضْمَحِلٌّ لَا دَوَامَ لَهُ، {وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} أَيْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ إِذْ جَاءَهُمْ، وَاتَّبَعُوا مَا أَمَرَتْهُمْ بِهِ آرَاؤُهُمْ وَأَهْوَاؤُهُمْ، مِنْ جَهْلِهِمْ وَسَخَافَةِ عَقْلِهِمْ، وَقَوْلُهُ {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْخَيْرَ وَاقِعٌ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، وَالشَّرَّ وَاقِعٌ بِأَهْلِ الشَّرِّ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مُسْتَقِرٌّ بِأَهْلِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُسْتَقِرٌّ أَيْ واقع، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الْأَنْبَاءِ} أَيْ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْ قِصَصِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ وَالنَّكَالِ وَالْعَذَابِ مِمَّا يُتْلَى عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْقُرْآنِ {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أَيْ مَا فِيهِ وَاعِظٌ لَهُمْ عَنِ الشِّرْكِ والتمادي على التكذيب، وقوله تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} أَيْ فِي هِدَايَتِهِ تَعَالَى لِمَنْ هداه وإضلاله لمن أضله {فَمَا تغني النُّذُرُ} يَعْنِي أَيُّ شَيْءٍ تُغْنِي النُّذُرُ عَمَّنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةَ وَخَتَمَ عَلَى قَلْبِهِ؟ فَمَنِ الَّذِي يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ؟ وَهَذِهِ الآية كقوله تَعَالَى: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يؤمنون}.

- 6 - فتول عنهم يَوْمَ يَدْعُ الداع إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ - 7 - خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ - 8 - مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عسر يقول تعالى: فتولى يَا مُحَمَّدُ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إِذَا رَأَوْا آية يعرضوا ويقولوا هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْهُمْ {يَوْمَ يَدْعُ الداع إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ} أَيْ إِلَى شَيْءٍ مُنْكَرٍ فَظِيعٍ، وَهُوَ مَوْقِفُ الْحِسَابِ، وَمَا فِيهِ مِنَ البلاء وَالْأَهْوَالِ، {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} أَيْ ذَلِيلَةٌ أَبْصَارُهُمْ، {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} وَهِيَ الْقُبُورُ {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} أَيْ كَأَنَّهُمْ فِي انْتِشَارِهِمْ وَسُرْعَةِ سَيْرِهِمْ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ إِجَابَةً لِلدَّاعِي، جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ فِي الْآفَاقِ، وَلِهَذَا قَالَ: {مُهْطِعِينَ} أَيْ مُسْرِعِينَ {إِلَى الداعي}، لا يخافون وَلَا يَتَأَخَّرُونَ {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} أي يوم شديد الهول عبوس قمطرير. كقوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}.

- 9 - كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ - 10 - فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ - 11 - فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ - 12 - وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ - 13 - وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ - 14 - تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ - 15 - وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ - 16 - فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ - 17 - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ يَقُولُ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ} قَبْلَ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ {قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} أَيْ صَرَّحُوا لَهُ بِالتَّكْذِيبِ وَاتَّهَمُوهُ بِالْجُنُونِ، {وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} قَالَ مجاهد: أَيْ اسْتُطِيرَ جُنُونًا، وَقِيلَ {وَازْدُجِرَ} أَيِ انْتَهَرُوهُ وزجروه

وتواعدوه، {لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَهَذَا مُتَوَجَّهٌ حَسَنٌ، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} أَيْ إِنِّي ضَعِيفٌ عَنْ هَؤُلَاءِ وَعَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ فَانْتَصِرْ أَنْتَ لِدِينِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} وهو الْكَثِيرُ، {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً} أَيْ نَبَعَتْ جَمِيعُ أَرْجَاءِ الْأَرْضِ حَتَّى التَّنَانِيرُ الَّتِي هِيَ مَحَالُّ النِّيرَانِ نَبَعَتْ عُيُوناً، {فَالْتَقَى الْمَاءُ} أَيْ مِّنَ السماء والأرض {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أَيْ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ. قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} كَثِيرٍ لَمْ تُمْطِرِ السَّمَاءُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ولا بعده إلا مِنَ السَّحَابِ، فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ بِالْمَاءِ مِنْ غَيْرِ سَحَابٍ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَالْتَقَى الْمَاءَانِ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} قال ابن عباس: هي المسامير، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الدُّسُرُ أَضْلَاعُ السَّفِينَةِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ: هُوَ صَدْرُهَا الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الْمَوْجُ. وقال الضحّاك: الدسر طرفاها وَأَصْلُهَا، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ كلكلها أي صدرها، وَقَوْلُهُ: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أَيْ بِأَمْرِنَا بِمَرْأًى مِنَّا وَتَحْتَ حِفْظِنَا وَكَلَاءَتِنَا {جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} أَيْ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَانْتِصَارًا لنوح عليه السلام، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً} قَالَ قَتَادَةُ: أَبْقَى اللَّهُ سَفِينَةَ نُوحٍ حَتَّى أَدْرَكَهَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ جِنْسُ السُّفُنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}، ولهذا قال ههنا {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أَيْ فَهَلْ مَنْ يَتَذَكَّرُ ويتعظ؟ وقوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أَيْ كَيْفَ كَانَ عَذَابِي لِمَنْ كَفَرَ بِي وَكَذَّبَ رُسُلِي وَلَمْ يَتَّعِظْ بِمَا جَاءَتْ بِهِ نُذُرِي، وَكَيْفَ انْتَصَرْتُ لَهُمْ وَأَخَذْتُ لَهُمْ بِالثَّأْرِ، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أَيْ سَهَّلْنَا لَفْظَهُ وَيَسَّرْنَا مَعْنَاهُ لِمَنْ أَرَادَهُ لِيَتَذَكَّرَ النَّاسُ، كَمَا قَالَ: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آياته وليتذكروا أولوا الألباب}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً}، قَالَ مُجَاهِدٌ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} يَعْنِي هَوَّنَّا قِرَاءَتَهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَسَّرْنَا تِلَاوَتَهُ عَلَى الألسن، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَسَّرَهُ عَلَى لِسَانِ الْآدَمِيِّينَ مَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ أن يتكلم بكلام الله عزَّ وجلَّ، وَقَوْلُهُ: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أَيْ فَهَلْ مِنْ مُتَذَكِّرٍ بِهَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي قَدْ يَسَّرَ اللَّهُ حفظه ومعناه؟ وقال القرظي: فهل من منزجر عن المعاصي؟ وروى ابن أبي حاتم، عن مطر الْوَرَّاقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} هل من طالب علم فيعان عليه (أخرجه ابن أبي حاتم وعلّقه البخاري بصيغة الجزم عن مطر الوراق).

- 18 - كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ - 19 - إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ - 20 - تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ - 21 - فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ - 22 - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَادٍ قَوْمِ (هُودٍ) إِنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ، كَمَا صَنَعَ قَوْمُ (نُوحٍ) وَأَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ {عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} وَهِيَ الْبَارِدَةُ الشَّدِيدَةُ الْبَرْدِ، {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} عَلَيْهِمْ نَحْسُهُ وَدَمَارُهُ، لِأَنَّهُ يَوْمٌ اتَّصَلَ فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي، وقوله تعالى: {تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَأْتِي أَحَدَهُمْ فَتَرْفَعُهُ حَتَّى تَغَيِّبَهُ عَنِ الْأَبْصَارِ، ثُمَّ تُنَكِّسُهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَيَسْقُطُ إِلَى الْأَرْضِ، فَتَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَبْقَى جُثَّةً بِلَا رَأْسٍ، -[411]- وَلِهَذَا قَالَ: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ}.

- 23 - كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ - 24 - فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وسعر - 25 - أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ - 26 - سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ - 27 - إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ - 28 - وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ - 29 - فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ - 30 - فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ - 31 - إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ - 32 - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ ثَمُودَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ صَالِحًا {فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} يَقُولُونَ: لَقَدْ خِبْنَا وَخَسِرْنَا إِنْ سَلَّمْنَا كُلُّنَا قِيَادَنَا لِوَاحِدٍ مِنَّا، ثُمَّ تَعَجَّبُوا مِنْ إِلْقَاءِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ خَاصَّةً مِنْ دُونِهِمْ، ثُمَّ رَمَوْهُ بِالْكَذِبِ، فَقَالُوا {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أَيْ مُتَجَاوِزٌ فِي حَدِّ الْكَذِبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ شَدِيدٌ ووعيد أكيد، ثم قال تعالى: {إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ} أَيِ اخْتِبَارًا لَهُمْ، أَخْرَجَ الله تعالى لَهُمْ نَاقَةً عَظِيمَةً عُشَرَاءَ، مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ، طِبْقَ مَا سَأَلُوا، لِتَكُونَ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَصْدِيقِ (صَالِحٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا جَاءَهُمْ به، ثم قال تعالى آمِرًا لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صَالِحٍ {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ}، أَيِ انتظر ما يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ وَاصْبِرْ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لَكَ والنصر فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُم} أَيْ يَوْمٌ لَهُمْ وَيَوْمٌ لِلنَّاقَةِ، كَقَوْلِهِ: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شربٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ معلوم}، وقوله تعالى: {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا غَابَتْ حَضَرُوا الْمَاءَ، وَإِذَا جَاءَتْ حَضَرُوا اللَّبَنَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ عَاقِرُ النَّاقَةِ وَاسْمُهُ (قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ) وَكَانَ أَشْقَى قَوْمِهِ، كَقَوْلِهِ: {إِذِ انْبَعَثَ أشقاها}، {فتعاطى} أي حسر {فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي ونُذُرِ} أَيْ فَعَاقَبْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِي لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِي وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولِي، {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} أَيْ فَبَادُوا عَنْ آخِرِهِمْ لَمْ تَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ، وَخَمَدُوا وَهَمَدُوا كَمَا يَهْمُدُ يَبِيسُ الزَّرْعِ وَالنَّبَاتِ، قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ {وَالْمُحْتَظِرُ} قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْمَرْعَى بالصحراء حين ييبس ويحترق وتسفيه الرِّيحُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ يَجْعَلُونَ حظاراً على الإبل والمواشي من يبس الشَّوْكِ، فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}.

- 33 - كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ - 34 - إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ - 35 - نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ - 36 - وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ - 37 - وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ - 38 - وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ - 39 - فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ - 40 - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ {لُوطٍ} كَيْفَ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ وَخَالَفُوهُ وَارْتَكَبُوا الْمَكْرُوهُ مِنْ إِتْيَانِ الذُّكُورِ وَهِيَ {الْفَاحِشَةَ} الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُمْ بِهَا أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ، وَلِهَذَا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ هَلَاكًا لَمْ يُهْلِكْهُ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحَمَلَ مَدَائِنَهُمْ حَتَّى وَصَلَ بِهَا إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ وَأَرْسَلَهَا وَأُتْبِعَتْ بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ، ولهذا قال ههنا: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} وَهِيَ الْحِجَارَةُ {إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} أَيْ خَرَجُوا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَنَجَوْا مِمَّا أَصَابَ قَوْمَهُمْ، وَلَمْ يؤمن بلوط من قومه أحد، حَتَّى وَلَا امْرَأَتُهُ أَصَابَهَا مَا أَصَابَ قَوْمَهَا، وخرج نبي الله لوط من بين أظهرهم سالماً لم يمسه سُوءٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} أَيْ وَلَقَدْ كَانَ قَبْلَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، قَدْ أَنْذَرَهُمْ بَأْسَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ، فَمَا الْتَفَتُوا إِلَى ذَلِكَ وَلَا أَصْغَوْا إِلَيْهِ، بَلْ شَكُّوا فِيهِ وَتَمَارَوْا بِهِ {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} وَذَلِكَ لَيْلَةَ وَرَدَ عليه الملائكة في صور شَبَابٍ مُرْدٍ حِسَانٍ، مِحْنَةً مِنَ اللَّهِ بِهِمْ، فَأَضَافَهُمْ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَعَثَتِ امْرَأَتُهُ الْعَجُوزُ السُّوءُ إِلَى قَوْمِهَا، فَأَعْلَمَتْهُمْ بِأَضْيَافِ لُوطٍ فَأَقْبَلُوا يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ مِن كُلِّ مَكَانٍ، فَأَغْلَقَ لُوطٌ دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب، ولوط عليهم السلام يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْحَالُ وَأَبَوْا إِلَّا الدُّخُولَ خَرَجَ عَلَيْهِمْ (جِبْرِيلُ) عَلَيْهِ السَّلَامُ فَضَرَبَ أَعْيُنَهُمْ بِطَرَفِ جَنَاحِهِ، فَانْطَمَسَتْ أَعْيُنُهُمْ، يُقَالُ إِنَّهَا غَارَتْ مِنْ وجوههم، وقيل: إنه لم يبق لَهُمْ عُيُونٌ بِالْكُلِّيَّةِ، فَرَجَعُوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ يَتَحَسَّسُونَ بِالْحِيطَانِ، وَيَتَوَعَّدُونَ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الصَّبَاحِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} أَيْ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ وَلَا انْفِكَاكَ لَهُمْ مِنْهُ {فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ}.

- 41 - وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ - 42 - كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ - 43 - أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزُّبُرِ - 44 - أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ - 45 - سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ - 46 - بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، إنهم جاءهم رسول (موسى) وأخوه (هارون) وَأَيَّدَهُمَا بِمُعْجِزَاتٍ عَظِيمَةٍ وَآيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَكَذَّبُوا بِهَا كُلِّهَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، أَيْ فأبادهم الله ولم يبق منهم عين ولا أثر، ثم قال تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ} أيها المشركون {خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} يَعْنِي مِنَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذكرهم، ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل، أأنتم خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ؟ {أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزُّبُرِ} أَيْ أَمْ مَعَكُمْ مِنَ اللَّهِ بَرَاءَةٌ، أن لا ينالكم عذاب ولا نكال، ثم قال تعالى مُخْبِرًا عَنْهُمْ: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} أي يعتقدون أن جَمْعَهُمْ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ أَرَادَهُمْ بِسُوءٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أَيْ سيتفرق شملهم ويغلبون، روى البخاري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ: «أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تعبد بعد اليوم في الأرض أَبَدًا» فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِيَدِهِ، وَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ، وَهُوَ يَقُولُ: "سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وأمر} (أخرجه البخاري والنسائي)، وروى

ابن أبي حاتم، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدبر} قَالَ عُمَرُ: أَيُّ جَمْعٍ يُهْزَمُ؟ أَيُّ جَمْعٍ يُغْلَبُ؟ قَالَ عُمَرُ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ وَهُوَ يَقُولُ: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدبر» فعرفت تأويلها يومئذٍ (أخرجه ابن أبي حاتم).

- 47 - إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ - 48 - يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ - 49 - إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ - 50 - وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ - 51 - وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ - 52 - وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ - 53 - وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ - 54 - إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ - 55 - فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ يُخْبِرُنَا تَعَالَى عَنِ الْمُجْرِمِينَ أَنَّهُمْ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ {وسُعُر} مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشُّكُوكِ وَالِاضْطِرَابِ فِي الْآرَاءِ، وَهَذَا يَشْمَلُ كُلَّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ مِنْ كَافِرٍ ومبتدع من سائر الفرق، ثم قال تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} أَيْ كَمَا كَانُوا فِي سُعُرٍ وَشَكٍّ وَتَرَدُّدٍ أَوْرَثَهُمْ ذلك النار، وَيُقَالُ لَهُمْ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ}، وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، كَقَوْلِهِ {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}، وكقوله تعالى {والذي قَدَّرَ فهدى} أَيْ قَدَّرَ قَدَرًا وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا يَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ، عَلَى إِثْبَاتِ قَدَرِ اللَّهِ السَّابِقِ لِخَلْقِهِ، وَهُوَ عِلْمُهُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ كَوْنِهَا، وَكِتَابَتُهُ لَهَا قَبْلَ بُرْئِهَا، وردوا بهذه الآية وبما شاكلها عَلَى الْفِرْقَةِ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ نَبَغُوا فِي أَوَاخِرِ عصر الصحابة، روى أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاصِمُونَهُ فِي الْقَدَرِ، فَنَزَلَتْ: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ على وجوههم ذوقوا عذاب مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (أخرجه مسلم وأحمد والترمذي). وعن عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ عباس وهو ينتزع مِنْ زَمْزَمَ وَقَدِ ابْتَلَّتْ أَسَافِلُ ثِيَابِهِ فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ تُكِلِّمَ فِي الْقَدَرِ، فَقَالَ: أَوَ قَدْ فَعَلُوهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا فِيهِمْ: {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أُولَئِكَ أشرار هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَلَا تَعُودُوا مَرْضَاهُمْ وَلَا تُصَلُّوا عَلَى مَوْتَاهُمْ، إِنْ رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ فَقَأْتُ عينيه بأصبعي هاتين (أخرجه ابن أبي حاتم). وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ، وَمَجُوسُ أُمَّتِي الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا قَدَرَ، إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تشهدوهم» (أخرجه الإمام أحمد). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» (رواه مسلم وأحمد عن ابن عمر مرفوعاً). وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "اسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، فَإِنْ أَصَابَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، وَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ لَكَانَ كَذَا، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ". وروى الإمام أحمد، عن الوليد بن عبادة قال: دخلت

عَلَى عُبَادَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ أَتَخَايَلَ فِيهِ الْمَوْتَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ أَوْصِنِي وَاجْتَهِدْ لِي، فَقَالَ: أَجْلِسُونِي، فَلَمَّا أَجْلَسُوهُ، قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لن تطعم الإيمان ولن تَبْلُغْ حَقَّ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ، حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ وَكَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ مَا خَيْرُ الْقَدَرِ وَشَرُّهُ؟ قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ يصيبك، وما أصابك لم يكن يخطئك، يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فجرى في تلك الساعة مما هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"، يَا بُنَيَّ إِنْ مُتَّ وَلَسْتَ عَلَى ذَلِكَ دَخَلْتَ النَّارَ (أخرجه أحمد والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب). وقد ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن الله كتب مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»، زَادَ ابْنُ وَهْبٍ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} (أخرجه مسلم والترمذي). وقوله تعالى: {وما أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كلمح البصر} وهذا إِخْبَارٌ عَنْ نُفُوذِ مَشِيئَتِهِ فِي خَلْقِهِ، كَمَا أَخْبَرَ بِنُفُوذِ قَدَرِهِ فِيهِمْ، فَقَالَ: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ} أَيْ إِنَّمَا نَأْمُرُ بِالشَّيْءِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لَا نَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ بِثَانِيَةٍ، فَيَكُونُ ذلك مَوْجُودًا كَلَمْحِ الْبَصَرِ لَا يَتَأَخَّرُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: إِذَا مَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْراً فَإِنَّمَا * يَقُولُ لَهُ: كن - قولة - فيكونوقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} يَعْنِي أَمْثَالَكُمْ وَسَلَفَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ، {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}؟ أَيْ فَهَلْ مِنْ مُتَّعِظٍ بِمَا أَخْزَى اللَّهُ أُولَئِكَ، وقدَّر لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا قَالَ تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قبل}، وقوله تعالى {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} أَيْ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمْ فِي الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} أَيْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ {مُّسْتَطَرٌ} أَيْ مَجْمُوعٌ عَلَيْهِمْ وَمُسَطَّرٌ فِي صَحَائِفِهِمْ، لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا، وقد روى الإمام أحمد، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «يَا عَائِشَةُ إِيَّاكِ وَمُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَهَا من الله طالباً» (أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة)، وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} أَيْ بِعَكْسِ مَا الْأَشْقِيَاءُ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالسُّعْرِ، وَالسَّحْبِ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، مَعَ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ والتهديد، وقوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} أَيْ فِي دَارِ كَرَامَةِ الله ورضوانه، وفضله وامتنانه، ووجوده وَإِحْسَانِهِ {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} أَيْ عِنْدَ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ، الْخَالِقِ لِلْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَمُقَدِّرِهَا، وَهُوَ مُقْتَدِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ مِمَّا يَطْلُبُونَ وَيُرِيدُونَ، وَقَدْ روى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «المقسطون عند الله عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وأهليهم وما ولوا» (أخرجه مسلم وأحمد والنسائي).

55 - سورة الرحمن

- 55 - سورة الرحمن

روى الترمذي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، فَسَكَتُوا فَقَالَ: "لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ، فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ، كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ على قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تكذبان} قالوا: لاشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد" (أخرجه الترمذي ورواه الحافظ البزار وابن جرير بنحوه).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- 1 - الرَّحْمَنُ - 2 - عَلَّمَ الْقُرْآنَ - 3 - خَلَقَ الْإِنْسَانَ - 4 - عَلَّمَهُ الْبَيَانَ - 5 - الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ - 6 - وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ - 7 - وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ - 8 - أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ - 9 - وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ - 10 - وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ - 11 - فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ - 12 - وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ - 13 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ، أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى عِبَادِهِ الْقُرْآنَ، وَيَسَّرَ حِفْظَهُ وفهمه على من رحمه، فقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} قال الحسن: يعني النطق، وقال الضحاك: يعني الخير والشر، وقول الحسن ههنا أَحْسَنُ وَأَقْوَى، لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي تَعْلِيمِهِ تَعَالَى الْقُرْآنَ وَهُوَ أَدَاءُ تِلَاوَتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِتَيْسِيرِ النُّطْقِ عَلَى الْخَلْقِ، وَتَسْهِيلِ خُرُوجِ الْحُرُوفِ من مواضعها، على اختلاف مخارجها وأنواعها، وقوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أَيْ يَجْرِيَانِ مُتَعَاقِبَيْنَ بِحِسَابٍ مُقَنَّنٍ، لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَضْطَرِبُ. {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}. وقوله تعالى: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} اختلف المفسرون

في معنى قوله {والنجم}؛ فروي عن ابن عباس {النَّجْمُ} مَا انْبَسَطَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، يَعْنِي من النبات (وهو قول سعيد بن جبير والسدي وسفيان الثوري واختاره ابن جرير)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: النَّجْمُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} الآية، وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} يَعْنِي الْعَدْلَ، كَمَا قال تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط} وهكذا قال ههنا: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ} أَيْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، لِتَكُونَ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا بِالْحَقِّ والعدل، ولهذا قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ} أَيْ لَا تَبْخَسُوا الْوَزْنَ بَلْ زِنُوا بِالْحَقِّ وَالْقِسْطِ، كما قال تعالى: {وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم}. وقوله تعالى: {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} أي السماء أرساها بالجبال الشامخات، لتستقر بما عَلَى وَجْهِهَا مِنَ الْأَنَامِ، وَهُمُ الْخَلَائِقُ الْمُخْتَلِفَةُ أنواعهم وأشكالهم وألوانهم فِي سَائِرِ أَقْطَارِهَا وَأَرْجَائِهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد وقتادة: الْأَنَامُ: الْخَلْقُ، {فِيهَا فَاكِهَةٌ} أَيْ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ، {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِ وَنَفْعِهِ رَطْبًا وَيَابِسًا، وَالْأَكْمَامُ: قَالَ ابْنُ عباس: هي أوعية الطلع، وَهُوَ الَّذِي يَطْلُعُ فِيهِ الْقِنْوُ، ثُمَّ يَنْشَقُّ عَنِ الْعُنْقُودِ فَيَكُونُ بُسْرًا ثُمَّ رُطَبًا، ثُمَّ ينضج ويتناهى ينعه واستواؤه، وَقِيلَ الْأَكْمَامُ رُفَاتُهَا، وَهُوَ اللِّيفُ الَّذِي عَلَى عُنُقِ النَّخْلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وقَتَادَةَ، {وَالْحَبُّ ذُو العصف والريحان} قال ابن عباس: {ذُو العصف} يعني التبن، وعنه: العصف ورق الزرع الأخضر الذي قطع رؤوسه، فَهُوَ يُسَمَّى الْعَصْفَ إِذَا يَبِسَ، وَكَذَا قَالَ قتادة والضحاك: عصفة: تبنه، وقال ابن عباس ومجاهد: وَالرَّيْحَانُ يَعْنِي الْوَرَقَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ رَيْحَانُكُمْ هذا، وَمَعْنَى هَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْحَبَّ كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهِمَا، لَهُ فِي حَالِ نَبَاتِهِ عَصْفٌ وَهُوَ مَا عَلَى السُّنْبُلَةِ، وَرَيْحَانٌ وَهُوَ الْوَرَقُ الْمُلْتَفُّ عَلَى سَاقِهَا، وَقِيلَ: الْعَصْفُ الْوَرَقُ أَوَّلَ مَا يُنْبِتُ الزَّرْعُ بَقْلًا، وَالرَّيْحَانُ الْوَرَقُ يَعْنِي إِذَا أَدْجَنَ وَانْعَقَدَ فِيهِ الْحَبُّ، كَمَا قَالَ زيد بن عمرو ابن نُفَيْلٍ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ: وَقُولَا لَهُ: مَنْ يُنْبِتُ الْحَبَّ فِي الثَّرَى * فَيُصْبِحُ مِنْهُ الْبَقْلُ يهتز رابيا ويخرج منه حبه في رؤوسه * فَفِي ذَاكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ وَاعِيَا وَقَوْلُهُ تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أَيْ فَبِأَيِّ الْآلَاءِ يَا مَعْشَرَ الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ تُكَذِّبَانِ؟ أَيِ النِّعَمُ ظَاهِرَةٌ عَلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ مَغْمُورُونَ بِهَا، لَا تَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَهَا وَلَا جُحُودَهَا، فَنَحْنُ نَقُولُ كما قالت الجن: «اللَّهُمَّ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ آلَائِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ» وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَا بِأَيِّهَا يَا رَبِّ، أَيْ لَا نُكَذِّبُ بِشَيْءٍ منها.

- 14 - خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ - 15 - وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ - 16 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 17 - رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ - 18 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 19 - مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ - 20 - بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ - 21 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 22 - يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ والمرجان - 23 - فَبِأَيِّ آلاء

رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 24 - وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ - 25 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَذْكُرُ تَعَالَى خَلْقَهُ الْإِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلْقَهُ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَهُوَ طَرَفُ لَهَبِهَا، قاله ابن عباس (وهو قول عكرمة ومجاهد والحسن وابن زيد)، وعنه: {مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} مِنْ لَهَبِ النَّارِ مِنْ أَحْسَنِهَا، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَّارٍ} مِنْ خَالِصِ النَّارِ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ والضحَّاك وغيرهم، وروى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُلِقت الملائكةُ مِنْ نُورٍ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخَلَقَ آدَمُ مِمَّا وصف لكم» (أخرجه مسلم والإمام أحمد). وقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؟ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} يَعْنِي مَشْرِقَيِ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، ومغربي الصيف والشتاء، وقال: {فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب} وَذَلِكَ بِاخْتِلَافِ مَطَالِعِ الشَّمْسِ وَتَنَقُّلِهَا فِي كُلِّ يوم وبروزها منه إلى الناس، وقال: {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ فاتخذوه وكيلاً}، والمراد مِنْهُ جِنْسُ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَلَمَّا كَانَ فِي اخْتِلَافِ هَذِهِ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مَصَالِحُ لِلْخَلْقِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَالَ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؟ وقوله تعالى: {مَرَجَ البحرين} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ أَرْسَلَهُمَا، وَقَوْلُهُ {يَلْتَقِيَانِ} قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيْ مَنَعَهُمَا أَنْ يَلْتَقِيَا بِمَا جَعَلَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْبَرْزَخِ الْحَاجِزِ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {الْبَحْرَيْنِ}: الْمِلْحُ وَالْحُلْوُ، فَالْحُلْوُ هذه الأنهار السارحة بين الناس (تقدم الكلام على هذا في سورة الفرقان)؛ وقد اختار ابن جرير: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَحْرَيْنِ بَحْرَ السَّمَاءِ، وَبَحْرَ الْأَرْضِ، لِأَنَّ اللُّؤْلُؤَ يَتَوَلَّدُ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَأَصْدَافِ بحر الأرض، وهذا لا يساعده اللفظ، فإنه قَدْ قَالَ {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} أَيْ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَهُوَ الْحَاجِزُ مِنَ الْأَرْضِ لِئَلَّا يَبْغِيَ هَذَا عَلَى هَذَا وَهَذَا عَلَى هذا، فيفسد كل واحد منهما الآخر، وَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يُسَمَّى بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً. وقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} أَيْ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا، فإذا وجد ذلك من أحدهما كَفَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ منكم}؟ وَالرُّسُلُ إِنَّمَا كَانُوا فِي الْإِنْسِ خَاصَّةً دُونَ الْجِنِّ، وَقَدْ صَحَّ هَذَا الْإِطْلَاقُ. وَاللُّؤْلُؤُ مَعْرُوفٌ، وَأَمَّا الْمَرْجَانُ فَقِيلَ: هُوَ صِغَارُ اللُّؤْلُؤِ (قَالَهُ مجاهد وقتادة والضحّاك)، وَقِيلَ: كِبَارُهُ وَجَيِّدُهُ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بعض السلف (منهم الربيع بن أنَس وابن عباس وَمُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ)، وَقِيلَ: هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ أحمر اللون، قال ابن مسعود: المرجان الخرز الأحمر. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمِن كلٍ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حلية تلبسونها}، فَاللَّحْمُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْأُجَاجِ وَالْعَذْبِ، وَالْحَلِيَّةُ إنما هي من المالح دُونَ الْعَذْبِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا سَقَطَتْ قَطُّ قَطْرَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فِي الْبَحْرِ فَوَقَعَتْ في صدفة إلا صار منها لؤلؤة، وَلَمَّا كَانَ اتِّخَاذُ هَذِهِ الْحِلْيَةِ نِعْمَةً عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ امْتَنَّ بِهَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؟ وقوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ} يَعْنِي السُّفُنَ الَّتِي تَجْرِي {فِي الْبَحْرِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا رَفَعَ قَلْعَهُ من السفن فهي منشآت وما لم يرفع قلعه فليس بمنشآت. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُنْشَآتُ يَعْنِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: المنشِئات بكسر الشين

يَعْنِي الْبَادِئَاتِ، {كَالْأَعْلَامِ} أَيْ كَالْجِبَالِ فِي كِبَرِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَتَاجِرِ وَالْمَكَاسِبِ الْمَنْقُولَةِ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ وَإِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ، مِمَّا فيه صلاح الناس فِي جَلْبِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ سَائِرِ أنواع البضائع، ولهذا قال: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؟ عن عمرة بن سويد قَالَ: "كُنْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ إِذْ أَقْبَلَتْ سَفِينَةٌ مَرْفُوعٌ شِرَاعُهَا فَبَسَطَ عليٌّ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَلَهُ الجوار الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} وَالَّذِي أَنْشَأَهَا تَجْرِي في بِحَوَرِهِ مَا قَتَلْتُ عُثْمَانَ وَلَا مَالَأْتُ عَلَى قتله" (أخرجه ابن أبي حاتم).

- 26 - كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ - 27 - وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ - 28 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 29 - يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ - 30 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ سَيَذْهَبُونَ وَيَمُوتُونَ أَجْمَعُونَ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ، وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ سِوَى وَجْهِهِ الكريم، فإن الرب تعالى وتقدس هُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ أَبَدًا، قَالَ قَتَادَةُ: أَنْبَأَ بِمَا خَلَقَ، ثُمَّ أَنْبَأَ أَنَّ ذلك كله فانٍ، وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، بِرَحْمَتِكَ نَسْتَغِيثُ، أصلح لنا شئننا كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا قَرَأْتَ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فَلَا تَسْكُتْ حَتَّى تَقْرَأَ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}، وَقَدْ نَعَتَ تَعَالَى وَجْهَهُ الْكَرِيمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، أَيْ هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُجل فَلَا يُعصى، وَأَنْ يُطاع فلا يُخالف، كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ وجهه}، وكقوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ذُو العظمة والكبرياء، ولما أخبر تعالى عَنْ تَسَاوِي أَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ فِي الْوَفَاةِ، وَأَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَيَحْكُمُ فِيهِمْ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ، قَالَ: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. وقوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ غِنَاهُ عما سواه، وافتقار الخلائق إليه وَأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ بِلِسَانِ حَالِهِمْ وَقَالِهِمْ، وَأَنَّهُ كُلَّ يوم هو في شأن، قال الأعمش: مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُجِيبَ دَاعِيًا أَوْ يُعْطِيَ سَائِلًا، أَوْ يَفُكَّ عَانِيًا أَوْ يَشْفِيَ سَقِيمًا، وقال مجاهد: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ يُجِيبُ دَاعِيًا وَيَكْشِفُ كَرْبًا، وَيُجِيبُ مُضْطَرًّا، وَيَغْفِرُ ذَنْبًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي حَيًّا وَيُمِيتُ مَيِّتًا، وَيُرَبِّي صَغِيرًا وَيَفُكُّ أَسِيرًا، وَهُوَ منتهى حاجات الصالحين وصريخهم ومنتهى شكواهم، وروى ابن جرير عن منيب الأزدي قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا ذَاكَ الشَّأْنُ؟ قَالَ: «أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا، وَيُفَرِّجَ كَرْبًا، ويرفع قوماً ويضع آخرين» (أخرجه ابن جرير مرفوعاً ورواه البخاري موقوفاً من كلام أبي الدرداء). وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ دَفَّتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ قَلَمُهُ نور، وكتابه نور، وعرضه مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، يَنْظُرُ فِيهِ كُلَّ يوم ثلثمائة وَسِتِّينَ نَظْرَةً، يَخْلُقُ فِي كُلِّ نَظْرَةٍ، وَيُحْيِي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء (أخرجه ابن جرير).

- 31 - سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ - 32 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 33 - يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ - 34 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 35 - يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ - 36 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ قَالَ ابن عباس في قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} قَالَ: وَعِيدٌ مِنَ الله تعالى للعباد، وليس بالله شغل وهو فارغ، وَقَالَ قَتَادَةُ: قَدْ دَنَا مِنَ اللَّهِ فَرَاغٌ لِخَلْقِهِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} أَيْ سَنَقْضِي لَكُمْ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: سَنُحَاسِبُكُمْ لَا يَشْغَلُهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ العرب، يقال: لأفرغنّ لَكَ، وَمَا بِهِ شُغْلٌ يَقُولُ: لَآخُذَنَّكَ عَلَى غرتك، وقوله تعالى: {أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} الثَّقَلَانِ: الْإِنْسُ وَالْجِنُّ كَمَا جَاءَ في الصحيح: «يسمعه كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «إِلَّا الإنس والجن»، وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ: «الثَّقَلَانِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ» {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، ثم قال تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} أَيْ لَا تَسْتَطِيعُونَ هَرَبًا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِكُمْ لَا تقدرون على التخلص من حكمه، أَيْنَمَا ذَهَبْتُمْ أُحِيطَ بِكُمْ، وَهَذَا فِي مَقَامِ الحشر، الْمَلَائِكَةُ مُحْدِقَةٌ بِالْخَلَائِقِ سَبْعَ صُفُوفٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الذَّهَابِ {إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} أَيْ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ، {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أين المفر}، ولهذا قال تعالى: {يُرسلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ} قال ابن عباس: الشواظ هو لهب النار، وعنه: الشواظ الدخان، وقال مجاهد: هو اللهب الأخضر المنقطع، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} سَيْلٌ مِنْ نار، وقوله تعالى: {ونحاس} قال ابن عباس: دخان النار، وقال ابن جرير: والعرب تسمي الدخان نحاساً. روى الطبراني عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الشُّوَاظِ فَقَالَ: هُوَ اللَّهَبُ الَّذِي لَا دُخَانَ مَعَهُ، فَسَأَلَهُ شَاهِدًا عَلَى ذلك من اللغة، فأنشده بيت أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ فِي حَسَّانَ: أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ حسانَ عَنِّي * مُغَلْغلة تَدِبُّ إِلَى عُكَاظِ أَلَيْسَ أَبُوكَ فِينَا كَانَ قَيْنًا * لَدَى الْقَيْنَاتِ فَسْلا فِي الحِفاظ يَمَانِيًّا يَظَلُّ يَشُدُّ كيراً * وينفخ دائباً لهب الشواظ (معنى مغلغلة: أي رسالة، قين: أي عبد، فَسْل: أي ضعيف عابر). قَالَ: صَدَقْتَ، فَمَا النُّحَاسُ؟ قَالَ: هُوَ الدُّخَانُ الَّذِي لَا لَهَبَ لَهُ، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ؟ قَالَ: نَعَمْ أَمَا سَمِعْتَ نَابِغَةَ بَنِي ذبيان يقول: يُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِي * طِ لَّمْ يَجْعَلِ الله فيه نحاساً (رواه الطبراني عن الضحّاك عن نافع بن الأزرق). وَقَالَ مُجَاهِدٌ: النُّحَاسُ الصُّفَّرُ يُذَابُ فَيُصَبُّ عَلَى رؤوسهم، والمعنى: لَوْ ذَهَبْتُمْ هَارِبِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَدَّتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالزَّبَانِيَةُ بِإِرْسَالِ اللَّهَبِ مِنَ النَّارِ وَالنُّحَاسِ الْمُذَابِ عَلَيْكُمْ لِتَرْجِعُوا، وَلِهَذَا قَالَ: {فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؟

- 37 - فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ - 38 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 39 - فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ - 40 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 41 - يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ - 42 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 43 - هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ - 44 - يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ - 45 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَقُولُ تَعَالَى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا دَلَّتْ عليه الآيات الواردة في معناها، كقوله تعالى: {وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهية}، وَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا}، وَقَوْلِهِ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}، وقوله تعالى: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} أَيْ تَذُوبُ كَمَا يَذُوبُ الدُّردِي (الدردي: ما يركد في أسفل كل مائع كالشراب والأدهان) وَالْفِضَّةُ فِي السَّبْكِ، وَتَتَلَوَّنُ كَمَا تَتَلَوَّنُ الْأَصْبَاغُ الَّتِي يُدْهَنُ بِهَا، فَتَارَةً حَمْرَاءَ وَصَفْرَاءَ وَزَرْقَاءَ وَخَضْرَاءَ، وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ وَهَوْلِ يَوْمِ القيامة العظيم. عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُبْعَثُ النَّاسُ يوم القيامة والسماء تطش عليهم» (رواه الإمام أحمد من حديث أنَس بن مالك) قال الجوهري: الطش المطر الضعيف، وقال ابن عباس: {وَرْدَةً كالدهان} كالأديم الأحمر، وعنه كالفرس الورد، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: كَالْبِرْذَوْنِ الْوَرِدِ، ثُمَّ كَانَتْ بعد كالدهان، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: تَكُونُ أَلْوَانًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَكُونُ كَلَوْنِ الْبَغْلَةِ الْوَرِدَةِ، وَتَكُونُ كَالْمُهْلِ كَدُرْدِيِّ الزَّيْتَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {كَالدِّهَانِ} كَأَلْوَانِ الدِّهَانِ، وَقَالَ عَطَاءٌ الخُراساني: كَلَوْنِ دُهْنِ الْوَرْدِ فِي الصُّفْرَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْيَوْمَ خَضْرَاءُ ويومئذٍِ لَوْنُهَا إِلَى الْحُمْرَةِ يَوْمَ ذِي أَلْوَانٍ، وَقَالَ أَبُو الجوزاء، في صفاء الدهن، وقال ابن جريج: تصير السماء كالدهان الذَّائِبِ، وَذَلِكَ حِينَ يُصِيبُهَا حَرُّ جَهَنَّمَ، وَقَوْلُهُ تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ}، وهذه كقوله تَعَالَى: {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} فهذا في حال، و «ثَمَّ» في حال، يسأل الخلائق عَنْ جَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، ولهذا قَالَ قَتَادَةُ {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ}، قَالَ: قَدْ كَانَتْ مَسْأَلَةٌ ثُمَّ خُتِمَ عَلَى أَفْوَاهِ الْقَوْمِ، وَتَكَلَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يعملون، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا يَسْأَلُهُمْ هَلْ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لِمَ عملتم كذا وكذا، فهذا قَوْلٌ ثَانٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يُعْرَفُونَ بِسِيمَاهُمْ، وَهَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَكَأَنَّ هَذَا بَعْدَ مَا يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ فَذَلِكَ الْوَقْتُ لَا يُسْأَلُونَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، بَلْ يُقَادُونَ إِلَيْهَا وَيُلْقَوْنَ فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} أَيْ بِعَلَامَاتٍ تَظْهَرُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ الحسن وقتادة: يعرفون بِاسْوِدَادِ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةِ الْعُيُونِ، (قُلْتُ): وَهَذَا كَمَا يُعْرَفُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ. وقوله تعالى: {فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} أي يجمع الزَّبَانِيَةُ نَاصِيَتَهُ مَعَ قَدَمَيْهِ وَيُلْقُونَهُ فِي النَّارِ كذلك، وقال ابن عباس: يؤخذ بناصيته وقدميه فَيُكْسَرُ كَمَا يُكْسَرُ الْحَطَبُ فِي التَّنُّورِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُجْمَعُ بَيْنَ نَاصِيَتِهِ وَقَدَمَيْهِ

فِي سِلْسِلَةٍ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُجْمَعُ بَيْنَ نَاصِيَةِ الْكَافِرِ وَقَدَمَيْهِ فَتُرْبَطُ نَاصِيَتُهُ بقدمه ويفتل ظهره، وقوله تَعَالَى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} أَيْ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِوُجُودِهَا، هَا هِيَ حَاضِرَةٌ تُشَاهِدُونَهَا عِيَانًا، يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً، وقوله تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} أَيْ تَارَةً يعذبون في الحجيم، وَتَارَةً يُسْقَوْنَ مِنَ الْحَمِيمِ، وَهُوَ الشَّرَابُ الَّذِي هُوَ كَالنُّحَاسِ الْمُذَابِ يُقَطِّعُ الْأَمْعَاءَ وَالْأَحْشَاءَ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}. وقوله تعالى: {إن} أي حار قد بلغ الغاية في الحرارة قال ابن عباس: قد انتهى غليه واشتد حرّه، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: يُؤْخَذُ الْعَبْدُ فَيُحَرَّكُ بِنَاصِيَتِهِ فِي ذَلِكَ الْحَمِيمِ، حَتَّى يَذُوبَ اللَّحْمُ وَيَبْقَى الْعَظْمُ وَالْعَيْنَانِ فِي الرَّأْسِ، وَهِيَ كَالَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النار يسجرون} فَقَوْلُهُ {حَمِيمٍ آنٍ} أَيْ حَمِيمٌ حَارٌّ جِدًّا، وَلَمَّا كَانَ مُعَاقَبَةُ الْعُصَاةِ الْمُجْرِمِينَ، وَتَنْعِيمُ الْمُتَّقِينَ من فضله ورحمته، وكان إنذاره لهم عن عَذَابَهُ وَبَأْسَهُ، مِمَّا يَزْجُرُهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ من الشرك والمعاصي، قَالَ مُمْتَنًّا بِذَلِكَ عَلَى بَرِيَّتِهِ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تكذبان}؟

- 46 - وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ - 47 - فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 48 - ذَوَاتَا أَفْنَانٍ - 49 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 50 - فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ - 51 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 52 - فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ - 53 - فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ قال عطاء الخُرساني: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} في أبي بكر الصديق، وقال عطية بن قيس: نَزَلَتْ فِي الَّذِي قَالَ: أَحْرِقُونِي بِالنَّارِ لَعَلِّي أُضِلُّ اللَّهَ، قَالَ تَابَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، بَعْدَ أَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا فَقَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ وَأَدْخَلَهُ الجنة (رواه ابن أبي حاتم)، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ كَمَا قَالَهُ ابن عباس وغيره، يقول الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَنَهَى النفس عَنِ الهوى} ولم يطع ولا آثر الحياة الدُّنْيَا، وَعَلِمَ أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، فَأَدَّى فَرَائِضَ اللَّهِ وَاجْتَنَبَ مَحَارِمَهُ، فَلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عند ربه جنتان، كما روى البخاري رحمه الله: عن عبد الله بن قيس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ عزَّ وجلَّ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عدن» (أخرجه البخاري وبقية أفراد الجماعة إلا أبا داود)، وقال حَمَّادٌ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَدْ رَفَعَهُ فِي قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ ربه جنتان}، وفي قوله: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}، جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَجَنَّتَانِ مِنْ وَرِقٍ لأصحاب اليمين. وقال عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ يَوْمًا هَذِهِ الْآيَةَ {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فَقُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ فَقَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فَقُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ فَقَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فَقُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «وَإِنْ ... رَغِمَ أَنْفُ أبي الدرداء» (رواه النسائي مرفوعاً وموقوفاً)، وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَهِيَ من أدل

دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِذَا آمَنُوا وَاتَّقَوْا، وَلِهَذَا امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الثَّقَلَيْنِ بِهَذَا الْجَزَاءِ فَقَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ثُمَّ نَعَتَ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ فَقَالَ: {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} أَيْ أَغْصَانٍ نَضِرَةٍ حَسَنَةٍ، تَحْمِلُ مِنْ كُلِّ ثَمَرَةٍ نضيجة، {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؟ هَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ: إِنَّ الْأَفْنَانَ أَغْصَانُ الشَّجَرِ يَمَسُّ بَعْضُهَا بعضاً، وقال عكرمة {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} يَقُولُ: ظِلُّ الْأَغْصَانِ عَلَى الْحِيطَانِ، ألم تسمع قول الشاعر: مَا هَاجَ شَوْقُكَ مِنْ هَدِيلِ حَمَامَةٍ * تَدْعُو على فنن الغصون حماما وعن ابن عباس {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ}: ذواتا ألوان، ومعنى هذا القول أن فيهما مِنَ الْمَلَاذِّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ: كُلُّ غُصْنٍ يَجْمَعُ فُنُونًا مِنَ الْفَاكِهَةِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} وَاسِعَتَا الْفِنَاءِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ صَحِيحَةٌ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا والله أعلم، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى فَقَالَ: «يَسِيرُ فِي ظِلِّ الْفَنَنِ مِنْهَا الرَّاكِبُ مِائَةَ سَنَةٍ - أَوْ قَالَ يَسْتَظِلُّ فِي ظِلِّ الْفَنَنِ مِنْهَا مِائَةُ رَاكِبٍ - فِيهَا فِرَاشُ الذَّهَبِ كأن ثمرها القلال» (أخرجه الترمذي في سننه) {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} أَيْ تَسْرَحَانِ لِسَقْيِ تِلْكَ الأشجار والأغصان، فتثمر من جميع الألوان. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِحْدَاهُمَا يُقَالُ لَهَا تَسْنِيمٌ، وَالْأُخْرَى السَّلْسَبِيلُ، وَقَالَ عَطِيَّةُ: إِحْدَاهُمَا مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَالْأُخْرَى مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} أَيْ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ، مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا فِي الدُّنْيَا ثَمَرَةٌ حُلْوَةٌ ولا مرة إلا وهي في الجنة، وليس فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الْأَسْمَاءُ، يَعْنِي أَنَّ بَيْنَ ذَلِكَ بَوْنًا عَظِيمًا وَفَرْقًا بَيِّنًا فِي التَّفَاضُلِ.

- 54 - مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ - 55 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 56 - فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ - 57 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 58 - كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ - 59 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 60 - هَلْ جَزَآءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ - 61 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَقُولُ تَعَالَى: {مُتَّكِئِينَ}، يَعْنِي أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَالْمُرَادُ بالاتكاء ههنا الاضجاع، ويقال: الجلوس على صفة التربيع {عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} وَهُوَ مَا غلظ من الديباج، وقيل: هو الديباج المزيّن بِالذَّهَبِ، فَنَبَّهَ عَلَى شَرَفِ الظِّهَارَةِ بِشَرَفِ الْبِطَانَةِ، فهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى، قال ابن مسعود: هذه البطائن فكيف لو رأيتم الظواهر؟ قال مالك بن دنيار: بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، وَظَوَاهِرُهَا مِنْ نُورٍ، وَقَالَ الثوري: بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَظَوَاهِرُهَا مِنْ نُورٍ جَامِدٍ، وقال القاسم ابن مُحَمَّدٍ: بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَظَوَاهِرُهَا مِنَ الرَّحْمَةِ {وَجَنَى الجنتين دَانٍ} أي ثمرهما قَرِيبٌ إِلَيْهِمْ مَتَى شَاءُوا تَنَاوَلُوهُ، عَلَى أَيِّ صفة كانوا كما قال تعالى: {قطوفها دانية}، وَقَالَ: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} اي لا تمتنع مِمَّنْ تَنَاوَلَهَا بَلْ تَنْحَطُّ إِلَيْهِ مِنْ أَغْصَانِهَا {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وَلَمَّا ذَكَرَ الْفُرُشَ وَعَظَمَتَهَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ {فِيهِنَّ} أَيْ فِي الْفُرُشِ {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أَيْ غَضِيضَاتٌ عَنْ غَيْرِ

أزواجهن، فلا يرين شيئاً في الجنة أحسن من أزواجهن، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُنَّ تَقُولُ لِبَعْلِهَا: وَاللَّهِ مَا أَرَى فِي الْجَنَّةِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْكَ، وَلَا فِي الْجَنَّةِ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْكَ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَكَ لِي وَجَعَلَنِي لَكَ، {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} أَيْ بَلْ هُنَّ أَبْكَارٌ عُرُبٌ أَتْرَابٌ، لَمْ يَطَأْهُنَّ أَحَدٌ قَبْلَ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَهَذِهِ أَيْضًا مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى دُخُولِ مُؤْمِنِي الجن الجنة، سُئِلَ ضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ هَلْ يَدْخُلُ الْجِنُّ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَيَنْكِحُونَ، لِلْجِنِّ جِنِّيَّاتٌ وَلِلْإِنْسِ إِنْسِيَّاتٌ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، ثُمَّ قَالَ يَنْعَتُهُنَّ لِلْخُطَّابِ {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} قَالَ مجاهد والحسن: فِي صَفَاءِ الْيَاقُوتِ وَبَيَاضِ الْمَرْجَانِ، فَجَعَلُوا الْمَرْجَانَ ههنا اللؤلؤ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن المرأة من نساء الْجَنَّةِ لَيُرَى بَيَاضُ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حلة من حرير حتى يرى مخها» وذلك قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} فَأَمَّا الْيَاقُوتُ فَإِنَّهُ حَجَرٌ لَوْ أَدْخَلْتَ فِيهِ سِلْكًا ثُمَّ اسْتَصْفَيْتَهُ لَرَأَيْتَهُ من ورائه" (رواه الترمذي مرفوعاً وموقوفاً، والموقوف أصح). وروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ زَوْجَتَانِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةً يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ الثياب» (تفرد به الإمام أحمد) وعن مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: إِمَّا تَفَاخَرُوا وَإِمَّا تذاكروا، الرِّجَالُ أَكْثَرُ فِي الْجَنَّةِ أَمِ النِّسَاءُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوَلَمْ يَقُلْ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّتِي تليها على ضوء كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زوجتان اثنتان يرى مخ ساقها مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ؟» (الحديث مخرج في الصحيحين). وروى الإمام أحمد، عَنْ أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، ولقاب قوس أحدهم أو موضع قده - يَعْنِي سَوْطَهُ - مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوِ اطَّلَعَتِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ لَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا وَلَطَابَ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خير من الدنيا وما فيها» (أخرجه أحمد ورواه البخاري بنحوه). وقوله تعالى: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} أي ليس لمن أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. روى البغوي، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} وقال: «هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ رَبُّكُمْ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة»؟ (ذكره البغوي من حديث أنَس بن مالك) وَلَمَّا كَانَ فِي الَّذِي ذُكِرَ نِعَمٌ عَظِيمَةٌ لَا يُقَاوِمُهَا عَمَلٌ، بَلْ مُجَرَّدُ تَفَضُّلٍ وَامْتِنَانٍ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تكذبان}؟

- 62 - وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ - 63 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 64 - مُدْهَامَّتَانِ - 65 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 66 - فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ - 67 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 68 - فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ - 69 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 70 - فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ - 71 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 72 - حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ

- 73 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 74 - لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ - 75 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 76 - مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ - 77 - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - 78 - تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ هَاتَانِ الْجَنَّتَانِ دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، فِي الْمَرْتَبَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْمَنْزِلَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ: «جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا». فَالْأُولَيَانِ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَالْأُخْرَيَانِ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} من دونهما في الدرجة، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ دُونِهِمَا فِي الْفَضْلِ؛ {مُدْهَآمَّتَانِ} أي سوداوان من شدة الري من الماء، قال ابن عباس {مُدْهَآمَّتَانِ} قَدِ اسْوَدَّتَا مِنَ الْخُضْرَةِ مِنْ شِدَّةِ الري من الماء، وعنه {مُدْهَآمَّتَانِ} قال: خضروان. وقال محمد بن كعب: ممتلئتان من الخضرة، وقال قتادة: خضروان مِنَ الرِّيِّ نَاعِمَتَانِ، وَلَا شَكَّ فِي نَضَارَةِ الأغصان على الأشجار المشتبكة بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَقَالَ هُنَاكَ: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تجريان} وقال ههنا: {نَضَّاخَتَانِ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ فَيَّاضَتَانِ وَالْجَرْيُ أَقْوَى مِنَ النضخ، وقال الضحّاك {نَضَّاخَتَانِ} أي ممتلئتان ولا تَنْقَطِعَانِ، وَقَالَ هُنَاكَ: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} وقال ههنا {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُولَى أَعَمُّ وَأَكْثَرُ فِي الْأَفْرَادِ وَالتَّنْوِيعِ عَلَى {فَاكِهَةٌ} وَهِيَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ لَا تعم، ولهذا ليس في قَوْلُهُ: {وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}، مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، كَمَا قَرَّرَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ النَّخْلُ وَالرُّمَّانُ بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِمَا عَلَى غَيْرِهِمَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: جَاءَ أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَفِي الْجَنَّةِ فَاكِهَةٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ»، قَالُوا: أَفَيَأْكَلُونَ كَمَا يَأْكُلُونَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَأَضْعَافٌ»، قَالُوا: فَيَقْضُونَ الْحَوَائِجَ؟ قَالَ: «لَا ولكنهم يعرقون ويرشحون فيذهب ما في بطونهم من أذى» (أخرجه عبد الحميد في مسنده). وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «نَخْلُ الْجَنَّةِ سَعَفُهَا كُسْوَةٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، مِنْهَا مُقَطَّعَاتُهُمْ وَمِنْهَا حُلَلُهُمْ، وورقها ذهب أحمر، وجذوعها زمرد أخضر، وتمرها أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ وَلَيْسَ له عجم». وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخِدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَظَرْتُ إِلَى الْجَنَّةِ فإذا الرمانة من رمانها كالبعير المقتب» (أخرجهما ابن أبي حاتم)، ثُمَّ قَالَ: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} قِيلَ: الْمُرَادُ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ حَسَنَةٌ فِي الْجَنَّةِ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقِيلَ: {خَيْرَاتٌ} جَمْعُ خَيِّرَةٍ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ الحسنة الخلق الحسنة الوجه قاله الجمهور، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي سَنُورِدُهُ فِي سُورَةِ الواقعة إن شاء الله أَنَّ الْحُورَ الْعِينَ يُغَنِّينَ: «نَحْنُ الخيِّرات الْحِسَانُ، خُلِقْنَا لِأَزْوَاجٍ كِرَامٍ» وَلِهَذَا قَرَأَ بَعْضُهُمْ: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ} بِالتَّشْدِيدِ {حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، ثُمَّ قَالَ {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}، وَهُنَاكَ قَالَ: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّتِي قَدْ قَصَرَتْ طَرْفَهَا بِنَفْسِهَا أَفْضَلُ مِمَّنْ قُصِرت وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ مُخَدَّرَاتٍ، قَالَ ابْنُ أبي حاتم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ خَيِّرَةً وَلِكُلِّ

خيرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب، تدخل عليه كُلَّ يَوْمٍ تُحْفَةٌ وَكَرَامَةٌ وَهَدِيَّةٌ، لَمْ تَكُنْ قبل ذلك لا مرحات ولا طمحات، ولا بخرات، ولا زفرات، حور عين كأنها بيض مكنون. وقوله تعالى: {فِي الخيام} قال البخاري، عن عبد الله بن قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلًا فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ مَا يَرَوْنَ الْآخَرِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المؤمنون»، ورواه مسلم بلفظ: «إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلٌ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بعضاً». وقال ابن أبي حاتم، عن أبي الدرداء قال: لُؤْلُؤَةٌ وَاحِدَةٌ فِيهَا سَبْعُونَ بَابًا مِنْ دُرٍّ (أخرجه ابن أبي حاتم). وعن ابن عباس في قوله تعالى: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام} قال: خِيَامِ اللُّؤْلُؤِ، وَفِي الْجَنَّةِ خَيْمَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ لؤلؤة واحدة أربع فراسخ في أربع فراسخ عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ)، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وهب، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً الَّذِي لَهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ خَادِمٍ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَةً وَتُنْصَبُ لَهُ قُبَّةٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ وياقوت كما بين الجابية وصنعاء» (أخرجه الترمذي في سننه). وقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} قَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ سَوَاءٌ إِلَّا أَنَّهُ زَادَ فِي وَصْفِ الْأَوَائِلِ بِقَوْلِهِ: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، وقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّفْرَفُ الْمَحَابِسُ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وعكرمة هي المحابس، وَقَالَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} يعني الوسائد وهو قول الحسن البصري، وقال سعيد بن جبير: الرفرف رياض الجنة، وقوله تعالى: {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} قال ابن عباس وَالسُّدِّيُّ: الْعَبْقَرِيُّ الزَّرَابِيُّ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ عِتَاقُ الزَّرَابِيِّ يَعْنِي جِيَادَهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: العبقري الديباج. وسأل الحسن البصري عن قوله تعالى {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} فَقَالَ: هِيَ بُسُطُ أَهْلِ الْجَنَّةِ لا أباً لكم فاطلبوها، وقال أبو العالية: العبقري الطنافس المحملة إلى الرقة ما هي، وقال القيسي: كل ثوب موشّى عند العرب عبقري، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَصِفَةُ مَرَافِقِ أَهْلِ الْجَنَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أَرْفَعُ وَأَعْلَى مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ هُنَاكَ: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ}، فَنَعَتَ بَطَائِنَ فُرُشِهِمْ وَسَكَتَ عَنْ ظهائرها اكتفاء بما مدح به البطائن وَتَمَامُ الْخَاتِمَةِ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ: {هَلْ جَزَآءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}؟ فَوَصَفَ أَهْلَهَا بِالْإِحْسَانِ وَهُوَ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ وَالنِّهَايَاتِ كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَ عَنِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ الإيمان، ثم الإحسان، فَهَذِهِ وُجُوهٌ عَدِيدَةٌ فِي تَفْضِيلِ الْجَنَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ على هاتين الأخيرتين، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ الْوَهَّابَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الْأُولَيَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} أَيْ هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُجَلَّ فَلَا يُعْصَى، وَأَنْ يُكْرَمَ فَيُعْبَدَ، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ، وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}: ذِي الْعَظَمَةِ والكبرياء. «أجلّوا الله يغفر لكم» (أخرجه الإمام أحمد). وفي الحديث الآخر: «أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام» (رواه الترمذي). وفي رواية: «أَلِظُّوا بذي الجلال

والإكرام» (رواه النسائي وأحمد). وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَلَظَّ فُلَانٌ بِفُلَانٍ إِذَا لَزِمَهُ، وقول ابن مسعود: ألظوا بياذا الجلال والإكرام: أي الزموا، يقال: الإلظاظ هو الإلحاح، وفي صحيح مسلم، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ لَا يَقْعُدُ يعني بعد الصلاة إلا بقدر مَا يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تباركت يا ذا الجلال والإكرام» (أخرجه مسلم وأصحاب السنن).

56 - سورة الواقعة

- 56 - سورة الواقعة

رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود بسنده عَنْ أَبِي ظَبْيَةَ قَالَ: مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ مَرَضَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَعَادَهُ (عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) فَقَالَ: مَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: ذُنُوبِي، قَالَ: فَمَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: رَحْمَةَ رَبِّي، قَالَ: أَلَا آمُرُ لَكَ بِطَبِيبٍ؟ قَالَ: الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي، قَالَ: أَلَا آمُرُ لَكَ بِعَطَاءٍ؟ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، قَالَ: يَكُونُ لِبَنَاتِكَ مِنْ بَعْدِكَ، قَالَ: أَتَخْشَى عَلَى بَنَاتِي الْفَقْرَ؟ إِنِّي أَمَرْتُ بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ كُلَّ لَيْلَةٍ لم تصبه فاقة أبداً» (رواه ابن عساكر وأبو يعلى، وقال بعده: فكان أبو ظبية لا يدعها). وروى أحمد عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ كَنَحْوٍ مِنْ صَلَاتِكُمُ، الَّتِي تُصَلُّونَ الْيَوْمَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُخَفِّفُ كَانَتْ صَلَاتُهُ أَخَفَّ مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَكَانَ يَقْرَأُ في الفجر الواقعة ونحوها من السور (رواه الإمام أحمد في المسند).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- 1 - إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ - 2 - لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ - 3 - خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ - 4 - إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا - 5 - وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً - 6 - فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً - 7 - وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً - 8 - فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ - 9 - وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ - 10 - وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ - 11 - أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ - 12 - فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ الْوَاقِعَةُ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَحَقُّقِ كَوْنِهَا وَوُجُودِهَا كَمَا قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة} وقوله تعالى: {لَّيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أَيْ لَيْسَ لِوُقُوعِهَا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ كَوْنَهَا صَارِفٌ يَصْرِفُهَا وَلَا دَافِعٌ يَدْفَعُهَا، كَمَا قَالَ: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله}، وَقَالَ: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دافع}، ومعنى {كَاذِبَةٌ} أي لابد أن تكون، وقال قتادة: لَّيْسَ فيها ارْتِدَادٌ وَلَا رَجْعَةٌ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:

والكاذبة مصدر كالعاقبة والعافية، وقوله تعالى: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} أي تخفض أَقْوَامًا إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ إِلَى الْجَحِيمِ، وَإِنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا أَعِزَّاءَ، وَتَرْفَعُ آخَرِينَ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ إِلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَإِنْ كَانُوا في الدنيا وضعاء، وعن ابن عباس: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} تخفض أقواماً وترفع آخرين، وقال عثمان بن سراقة: السَّاعَةُ خَفَضَتْ أَعْدَاءَ اللَّهِ إِلَى النَّارِ، وَرَفَعَتْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: تَخْفِضُ رِجَالًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُرْتَفِعِينَ، وَتَرْفَعُ رِجَالًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مَخْفُوضِينَ، وَقَالَ السدي: خفضت المتكبرين ورفعت المتواضعين، وقوله تعالى: {إِذاً رُجَّتِ الْأَرْضُ رجَّاً} أَيْ حُرِّكَتْ تَحْرِيكًا فَاهْتَزَّتْ وَاضْطَرَبَتْ بِطُولِهَا وَعَرْضِهَا، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رجَّاً} أَيْ زُلْزِلَتْ زِلْزَالًا، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: تُرَجُّ بِمَا فِيهَا كرج الغربال بما فيه، كقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زلزالها}، وقال تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ}، وقوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} أَيْ فُتِّتَتْ فَتًّا، قَالَهُ ابن عباس ومجاهد، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: صَارَتِ الْجِبَالُ كَمَا قَالَ الله تعالى {كثيباً مهيلاً}، وقوله تعالى: {فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَبَاءً مُنْبَثًّا كَرَهَجِ الْغُبَارِ يَسْطَعُ ثُمَّ يَذْهَبُ فَلَا يَبْقَى منه شيء، وقال ابن عباس: الهباء الذي يطير من النار إذا اضرمت يَطِيرُ مِنْهُ الشَّرَرُ، فَإِذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ شيئاً، وقال عكرمة: المنبث الذي قد ذَرَّتْهُ الرِّيحُ وَبَثَّتْهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {هَبَاءً مُّنبَثّاً} كيابس الشَّجَرِ الَّذِي تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَأَخَوَاتِهَا الدَّالَةِ عَلَى زَوَالِ الْجِبَالِ عَنْ أَمَاكِنِهَا يَوْمَ القيامة، وذهابها وَنَسْفِهَا أَيْ قَلْعِهَا وَصَيْرُورَتِهَا كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ. وَقَوْلُهُ تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً} أَيْ يَنْقَسِمُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: قَوْمٌ عَنْ يَمِينِ العرش، وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، وَهُمْ جُمْهُورُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَآخَرُونَ عَنْ يَسَارِ العرش، وهم الذين يؤتون كتبهم بشمالهم وَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ عَامَّةُ أَهْلِ النار، وطائفة سابقون بين يديه عزَّ وجلَّ وَهُمْ أحظى وأقرب من أصحاب اليمين، فِيهِمُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ، وَهُمْ أَقَلُّ عدداً من أصحاب اليمين، لهذا قال تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}، وَهَكَذَا قَسَّمَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فِي آخِرِ السُّورَةِ وَقْتَ احْتِضَارِهِمْ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله} الآية وَذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ كما تقدم بيانه، قال ابن عباس {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً} قَالَ: هِيَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْمَلَائِكَةِ {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية. وَقَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً} قَالَ: أَصْنَافًا ثَلَاثَةً، وقال مجاهد: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً} يَعْنِي فِرَقًا ثَلَاثَةً، وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: أفواجاً ثَلَاثَةً، اثْنَانِ فِي الْجَنَّةِ وَوَاحِدٌ فِي النَّارِ، قال مُجَاهِدٍ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} هُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ أَهْلُ عِلِّيِّينَ، وَقَالَ ابْنُ سيرين {والسابقون السابقون} الذين صلوا إلى القبلتين، وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} أَيْ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سَوْدَةَ، أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} ثُمَّ قَالَ: أَوَّلُهُمْ رَوَاحًا إِلَى الْمَسْجِدِ، وَأَوَّلُهُمْ خُرُوجًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّابِقِينَ هُمُ الْمُبَادِرُونَ إِلَى فِعْلِ الْخَيِّرَاتِ، كَمَا أُمِرُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض}، وقال تَعَالَى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء

والأرض}، فمن سابق في هَذِهِ الدُّنْيَا وَسَبَقَ إِلَى الْخَيْرِ كَانَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْكَرَامَةِ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَكَمَا تَدِينُ تُدان، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}، وقال ابن أبي حاتم، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ جَعَلْتَ لِبَنِي آدَمَ الدُّنْيَا فَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ، فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ، فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ، فَرَاجَعُوا ثَلَاثًا، فَقَالَ: لَا أَجْعَلُ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِي، كَمَنْ قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ؛ ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (رواه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو موقوفاً).

- 13 - ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ - 14 - وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ - 15 - عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ - 16 - مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ - 17 - يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ - 18 - بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ - 19 - لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ - 20 - وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ - 21 - وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ - 22 - وَحُورٌ عِينٌ - 23 - كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ - 24 - جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ - 25 - لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً - 26 - إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلَامًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ هؤلاء السابقين المقربين أَنَّهُمْ {ثُلَّةٌ} أَيْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ: وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ الأولين والآخرين فقيل: المراد بالأولين الأمم الماضية، وبالآخرين هذه الأمة، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَاسْتَأْنَسَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القيامة»، ولم يحك غيره، وَمِمَّا يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِهَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} شِقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، بَلْ أَنْتُمْ نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَوْ شَطْرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَتُقَاسِمُونَهُمُ النِّصْفَ الثَّانِي» (أخرجه ابن أبي حاتم والإمام أحمد). وهذا الذي اختاره ابن جرير فِيهِ نَظَرٌ بَلْ هُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرَّبُونَ فِي غَيْرِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَابَلَ مَجْمُوعُ الْأُمَمِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ الرَّاجِحُ، وَهُوَ أن يكون المراد بقوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ} أَيْ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، {وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} أَيْ مِنْ هَذِهِ الأمة، قال ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن أبي بَكْرٍ الْمُزَنِيُّ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} فَقَالَ: أَمَّا السَّابِقُونَ فَقَدْ مَضَوْا، وَلَكِنِ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أصحاب اليمين، ثم قَرَأَ الْحَسَنُ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جنات النعيم * ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} قال: ثلة ممن مضى من هذه الأمة. وعن محمد بن سيرين أنه قال في هذاه الْآيَةِ {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ أَوْ يَرْجُونَ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. ولاشك أَنَّ أَوَّلَ كُلِّ أُمَّةٍ خَيْرٌ مِنْ آخِرِهَا، فيحتمل أن تعم الآية جَمِيعَ الْأُمَمِ كُلُّ أُمَّةٍ بِحَسْبِهَا، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ

قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» (أخرجه الشيخان) الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخره» (أخرجه الإمام أحمد) فهذا الحديث مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الدِّينَ كَمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلى أول الأمة في إبلاغه كَذَلِكَ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْقَائِمِينَ بِهِ فِي أواخرها، والفضل للمتقدم، وكذلك الزرع هو محتاج إِلَى الْمَطَرِ الْأَوَّلِ وَإِلَى الْمَطَرِ الثَّانِي، وَلَكِنَّ الْعُمْدَةَ الْكُبْرَى عَلَى الْأَوَّلِ، وَاحْتِيَاجُ الزَّرْعِ إِلَيْهِ آكَدُ، فَإِنَّهُ لَوْلَاهُ مَا نَبَتَ فِي الْأَرْضِ وَلَا تَعَلَّقَ أَسَاسُهُ فِيهَا، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمتي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خالفهم إلى قيام الساعة» (أخرجاه في الصحيحين). وفي لفظ: «حتى يأتي أمر الله تعالى وَهُمْ كَذَلِكَ»، وَالْغَرَضُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَالْمُقَرِّبُونَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهَا وَأَعْلَى مَنْزِلَةً لِشَرَفِ دِينِهَا وَعِظَمِ نَبِيِّهَا، وَلِهَذَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَفِي لَفْظٍ: «مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا - وَفِي آخَرَ - مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعُونَ ألفاً»؛ وقد روى الحافظ الطبراني، عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «أما والذي نفسي بِيَدِهِ لَيُبْعَثَنَّ مِنْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلَ اللَّيْلِ الْأَسْوَدِ زُمْرَةٌ جَمِيعُهَا يُحِيطُونَ الْأَرْضَ تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لَمَا جَاءَ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِمَّا جَاءَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السلام» (أخرجه الحافظ الطبراني). وقوله تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مَرْمُولَةٌ بِالذَّهَبِ يَعْنِي مَنْسُوجَةٌ بِهِ (وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وقتادة والضحّاك)، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَرْمُولَةٌ بِالذَّهَبِ وَاللُّؤْلُؤِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مُشَبَّكَةٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمِنْهُ يسمى وَضِينُ النَّاقَةِ الَّذِي تَحْتَ بَطْنِهَا وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِأَنَّهُ مَضْفُورٌ وَكَذَلِكَ السُّرُرُ فِي الجنة مضفورة بالذهب واللاليء. وقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} أَيْ وُجُوهٌ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ لَيْسَ أَحَدٌ وَرَاءَ أَحَدٍ، {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} أَيْ مُخَلَّدُونَ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ لا يَشِيبُونَ وَلَا يَتَغَيَّرُونَ، {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} أَمَّا الْأَكْوَابُ فَهِيَ الْكِيزَانُ الَّتِي لَا خَرَاطِيمَ لَهَا وَلَا آذَانَ، وَالْأَبَارِيقُ الَّتِي جَمَعَتِ الوصفين، والكؤوس الْهَنَابَاتُ وَالْجَمِيعُ مِنْ خَمْرٍ مِنْ عَيْنٍ جَارِيَةٍ مَعِينٍ، لَيْسَ مِنْ أَوْعِيَةٍ تَنْقَطِعُ وَتُفْرَغُ بَلْ من عيون سارحة، وقوله تعالى: {لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ} أَيْ لَا تصدع رؤوسهم وَلَا تُنْزَفُ عُقُولُهُمْ، بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ مَعَ الشدة المطربة واللذة الحاصلة، وروى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ خِصَالٍ: «السكْر، وَالصُّدَاعُ، وَالْقَيْءُ، وَالْبَوْلُ» فَذَكَرَ اللَّهُ تعالى خَمْرَ الْجَنَّةِ وَنَزَّهَهَا عَنْ هَذِهِ الْخِصَالِ، وَقَالَ مجاهد وعكرمة {لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} يَقُولُ: لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا صُدَاعُ رَأْسٍ، وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ {وَلاَ يُنزِفُونَ} أي لا تذهب بعقولهم، وقوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أَيْ وَيَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَتَخَيَّرُونَ مِنَ الثِّمَارِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ على صفة التخير لها، روى الطبراني عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَزَعَ ثمرة من الجنة عادت مكانها

أُخرى» (أخرجه الحافظ الطبراني)، وقوله تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ طَيْرَ الْجَنَّةِ كَأَمْثَالِ الْبُخْتِ يَرْعَى فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ»، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لَطَيْرٌ ناعمة، فقال: «آكلها أَنْعَمُ مِنْهَا - قَالَهَا ثَلَاثًا - وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تكون ممن يأكل منها» (أخرجه الإمام أحمد). وقال قتادة في قوله تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} وذكر لَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إني لأرى طيرها ناعماً كأهلها ناعمون، قال: «ومن يَأْكُلُهَا وَاللَّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ أَنْعَمُ مِنْهَا وَإِنَّهَا لَأَمْثَالُ الْبُخْتِ وَإِنِّي لَأَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أن تأكل منها يا أبا بكر». وروى أبو بكر بن أبي الدنيا، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْكَوْثَرِ فَقَالَ: «نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّي عزَّ وجلَّ فِي الْجَنَّةِ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، فِيهِ طُيُورٌ أَعْنَاقُهَا يَعْنِي كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ» فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهَا لَنَاعِمَةٌ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آكِلُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا» (أخرجه ابن أبي الدنيا، ورواه الترمذي). وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ لَتَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ فِي الْجَنَّةِ فَتَشْتَهِيهِ فَيَخِرُّ بين يديك مشوياً» (رواه ابن أبي حاتم). وقوله تعالى: {وحورٌ عينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} بالرفع وتقديره: ولهم فيها حور عين، وقوله تعالى: {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أَيْ كَأَنَّهُنَّ اللُّؤْلُؤُ الرَّطْبُ في بياضه وصفائه كما تقدم، {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ}، وَلِهَذَا قَالَ: {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أَيْ هَذَا الَّذِي أَتْحَفْنَاهُمْ بِهِ مُجَازَاةً لَهُمْ عَلَى ما أحسنوا من العمل.

- 27 - وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابَ الْيَمِينِ - 28 - فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ - 29 - وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ - 30 - وَظِلٍّ مَمْدُودٍ - 31 - وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ - 32 - وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ - 33 - لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ - 34 - وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ - 35 - إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً - 36 - فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً - 37 - عُرُباً أَتْرَاباً - 38 - لأَصْحَابِ الْيَمِينِ - 39 - ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ - 40 - وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَآلَ السَّابِقِينَ وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ، عَطَفَ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَهُمُ الْأَبْرَارُ، كَمَا قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: أصحاب اليمين منزلتهم دُونَ الْمُقَرَّبِينَ، فَقَالَ {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ اليمين} أي ما حَالُهُمْ وَكَيْفَ مَآلُهُمْ؟ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ تعالى: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: هُوَ الَّذِي لَا شَوْكَ فِيهِ، وَعَنِ ابْنِ عباس: هو الموقر بالثمر، وقال قتادة: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّهُ الْمُوقَرُ الَّذِي لَا شَوْكَ فِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا وَهَذَا، فَإِنَّ سِدْرَ الدُّنْيَا كَثِيرُ الشَّوْكِ قَلِيلُ الثَّمَرِ، وَفِي الآخرة على العكس مِنْ هَذَا لَا شَوْكَ فِيهِ، وَفِيهِ الثَّمَرُ الكثير الذي أثقل أصله، كما روى الحافظ أبو بكر النجار، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَنْفَعُنَا بِالْأَعْرَابِ وَمَسَائِلِهِمْ، قَالَ: أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ يَوْمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً تُؤْذِي صَاحِبَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا هي؟» قال: السدر، فإن له شوكاً مؤذياً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أليس الله تعالى يَقُولُ: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} خَضَدَ اللَّهُ شَوْكَهُ، فَجَعَلَ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ ثَمَرَةً، فَإِنَّهَا لَتُنْبِتُ ثمراً

تَفَتَّقُ الثَّمَرَةُ مِنْهَا عَنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لَوْنًا مِنْ طَعَامٍ مَا فِيهَا لَوْنٌ يُشْبِهُ الْآخَرَ"، وَقَوْلُهُ: {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} الطَّلْحُ: شَجَرٌ عِظَامٌ يَكُونُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، مِنْ شَجَرِ الْعِضَاةِ وَاحِدَتُهُ طَلْحَةٌ، وَهُوَ شَجَرٌ كَثِيرُ الشَّوْكِ، وَأَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ لِبَعْضِ الْحُدَاةِ: بشَّرها دَلِيلُهَا وَقَالَا * غَدًا تَرَيْنَ الطلح والجبالا قال مُجَاهِدٌ {مَّنضُودٍ}: أَيْ مُتَرَاكِمُ الثَّمَرِ، يُذَكِّرُ بِذَلِكَ قُرَيْشًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْجَبُونَ مِنْ وَجٍّ وَظِلَالِهِ من طلح وسدر، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُشْبِهُ طَلْحَ الدُّنْيَا، وَلَكِنْ لَهُ ثَمَرٌ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالطَّلْحُ لُغَةٌ فِي الطَّلْعِ، (قُلْتُ) وَقَدْ رَوَى أن علياً يقول هذا الحرف في {طلح مَّنضُودٍ} قَالَ: طَلْعٌ مَنْضُودٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ صِفَةِ السِّدْرِ، فَكَأَنَّهُ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مَخْضُودٌ وَهُوَ الَّذِي لَا شَوْكَ لَهُ، وَأَنَّ طَلْعَهُ منضود، وهو كثرة ثمره والله أعلم. وعن أبي سعيد {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} قال: الموز (وهو قول ابن عباس وأبي هريرة والحسن وعكرمة وقتادة وغيرهم)، وأهل الْيَمَنِ يُسَمُّونَ الْمَوْزَ: الطَّلْحَ، وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ جرير غير هذا القول، وقوله تعالى: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} روى البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شجرة يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يقطعها، اقرأوا إن شئتم {وَظِلٍّ ممدود} (رواه البخاري ومسلم). وقال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، اقرأوا إن شئتم {وظل ممدود} (أخرجه أحمد ورواه الشيخان). وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضْمَرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يقطعها» (أخرجه الشيخان)، فَهَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وآله وَسَلَّمَ بَلْ مُتَوَاتِرٌ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ النُّقَّادِ لِتَعَدُّدِ طُرُقِهِ وَقُوَّةِ أَسَانِيدِهِ وَثِقَةِ رجاله. وقال الترمذي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا فِي الْجَنَّةِ شجرة إلا ساقها من ذهب» (أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب). وقال الضحّاك والسدي في قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} لَا يَنْقَطِعُ لَيْسَ فِيهَا شَمْسٌ وَلَا حَرٌّ مِثْلُ قَبْلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَقَالَ ابن مسعود: الجنة سَجْسَج (سَجْسَج: أي لا حر ولا برد) كَمَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وقد تقدمت الآيات كقوله تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} وقوله: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وظلها}، وقوله {فِي ظِلاَلٍ وعيون} إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى: {وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ} قال الثوري: يَجْرِي فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ} الآية، بما أغنى عن إعادته ههنا. وقوله تَعَالَى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} أَيْ وَعِنْدَهُمْ مِنَ الْفَوَاكِهِ الْكَثِيرَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ فِي الْأَلْوَانِ، مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خطر على قلب بشر، كما قال تَعَالَى: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} أَيْ يُشْبِهُ الشَّكْلُ الشَّكْلَ، وَلَكِنَّ الطَّعْمَ غَيْرُ الطَّعْمِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ

في ذكر سدرة المنتهى: فَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَنَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هجر، وروى الحافظ أبو يعلى، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ إِذْ تَقَدَّمُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقَدَّمْنَا مَعَهُ، ثُمَّ تَنَاوَلَ شَيْئًا لِيَأْخُذَهُ ثُمَّ تَأَخَّرَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ، قَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتَ الْيَوْمَ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا مَا كُنْتَ تَصْنَعُهُ، قَالَ: «إِنَّهُ عُرِضَتْ عليَّ الْجَنَّةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ وَالنَّضْرَةِ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ لِآتِيَكُمْ بِهِ فَحِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَوْ أَتَيْتُكُمْ بِهِ لَأَكَلَ مِنْهُ مِنْ بَيْنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا ينقص منه» (أخرجه الحافظ أبو يعلى وأخرجه مسلم بنحوه). وقوله تعالى: {لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} أَيْ لَا تَنْقَطِعُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا، بَلْ أُكُلُهَا دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا، مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ بقدرة الله شيء، وقال قَتَادَةُ: لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ تَنَاوُلِهَا عُودٌ وَلَا شَوْكٌ وَلَا بُعْدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا تَنَاوَلَ الرَّجُلُ الثَّمَرَةَ عَادَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى». وقوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} أي عالية وطيئة ناعمة، روى النسائي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم في قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} قَالَ: «ارْتِفَاعُهَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام» (أخرجه النسائي والترمذي وقال: حسن غريب). وعن الْحَسَنِ: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} قَالَ: ارْتِفَاعُ فِرَاشِ الرَّجُلِ من أهل الجنة مسيرة ثمانين سنة (أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري موقوفاً)، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} جَرَى الضَّمِيرُ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، لَكَنْ لَمَّا دَلَّ السِّيَاقُ وَهُوَ ذِكْرُ الْفُرُشِ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي يُضَاجِعْنَ فِيهَا اكْتَفَى بِذَلِكَ عن ذكرهَّن وعاد الضمير عليهن، قال الأخفش في قوله تعالى {أنا أنشأهن} أضمرهن ولم يذكرن قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذُكِرْنَ فِي قوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون}، فقوله تعالى: {إنا أَنشَأْنَاهُنَّ} أي أعدناهن في النشأة الأُخرى بعد ما كُنَّ عَجَائِزَ رُمْصًا، صِرْنَ {أَبْكَاراً عُرُباً} أَيْ بعد الثيوبة عدن أبكاراً عرباً، مُتَحَبِّبَاتٍ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ بِالْحَلَاوَةِ وَالظَّرَافَةِ وَالْمَلَاحَةِ، وَقَالَ بعضهم {عُرُباً} أي غنجات، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً قَالَ: نِسَاءٌ عَجَائِزُ كنَّ فِي الدُّنْيَا عمشاً رمصاً" (أخرجه الترمذي وابن أبي حاتم وقال الترمذي: غريب). وعن سَلَمَةَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً} يَعْنِي الثَّيِّبَ وَالْأَبْكَارَ اللَّاتِي كُنَّ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: أَتَتْ عَجُوزٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادع الله تعالى أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ: «يَا أُمَّ فُلَانٍ إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ» قَالَ: فَوَلَّتْ تَبْكِي، قَالَ: أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا، وَهِيَ عَجُوزٌ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنشآء فجعلناهن أبكاراً} (أخرجه التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ). وعن أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أخبرني عن قول الله تعالى: {حُورٌ عِينٌ} قَالَ: «حُورٌ» بِيضٌ «عِينٌ» ضِخَامُ الْعُيُونِ، شُفْرُ الْحَوْرَاءِ بِمَنْزِلَةِ جَنَاحِ النَّسْرِ، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قوله تعالى: {كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} قَالَ: «صَفَاؤُهُنَّ صَفَاءُ الدَّرِّ الَّذِي فِي الْأَصْدَافِ الَّذِي لَمْ تَمَسَّهُ الْأَيْدِي» قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قوله: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} قَالَ: «خَيِّرَاتُ الْأَخْلَاقِ حِسَانُ الْوُجُوهِ»، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عن قوله: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} قال:

«رِقَّتُهُنَّ كَرِقَّةِ الْجِلْدِ الَّذِي رَأَيْتَ فِي دَاخِلِ البيضة مما يلي القشر وهو الغرقيء» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ: {عُرُباً أَتْرَاباً} قَالَ: «هُنَّ اللَّوَاتِي قُبِضْنَ فِي الدار الدُّنْيَا عَجَائِزَ رُمْصًا شُمْطًا خَلَقَهُنَّ اللَّهُ بَعْدَ الْكِبَرِ، فَجَعَلَهُنَّ عَذَارَى عُرُبًا مُتَعَشِّقَاتٍ مُحَبَّبَاتٍ أَتْرَابًا عَلَى مِيلَادٍ وَاحِدٍ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نِسَاءُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ أَمِ الْحُورُ الْعِينِ؟ قَالَ: «بَلْ نِسَاءُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ كَفَضْلِ الظِّهَارَةِ عَلَى الْبِطَانَةِ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَبِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: "بِصَلَاتِهِنَّ وَصِيَامِهِنَّ وَعِبَادَتِهِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، أَلْبَسَ اللَّهُ وُجُوهَهُنَّ النُّورَ، وَأَجْسَادَهُنَّ الْحَرِيرَ، بِيضُ الْأَلْوَانِ خُضْرُ الثِّيَابِ، صُفْرُ الْحُلِيِّ، مَجَامِرُهُنَّ الدُّرُّ، وَأَمْشَاطُهُنَّ الذَّهَبُ، يَقُلْنَ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَمُوتُ أَبَدًا، وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْأَسُ أَبَدًا، وَنَحْنُ الْمُقِيمَاتُ فَلَا نَظْعَنُ أَبَدًا، أَلَا وَنَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ أَبَدًا، طُوبَى لِمَنْ كُنَّا لَهُ وَكَانَ لَنَا"، قُلْتُ: يَا رسول الله! المرأة منا تتزوج الزوجين وَالثَّلَاثَةَ وَالْأَرْبَعَةَ، ثُمَّ تَمُوتُ فَتَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَدْخُلُونَ مَعَهَا مَنْ يَكُونُ زَوْجَهَا؟ قَالَ: "يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّهَا تُخَيَّرُ فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، فَتَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ هَذَا كَانَ أَحْسَنَ خُلُقًا مَعِي فَزَوِّجْنِيهِ، يَا أُمَّ سَلَمَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الخلق بخير الدنيا والآخرة" (رواه أبو القاسم الطبراني). وفي الحديث: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا جَامَعُوا نِسَاءَهُمْ عُدْنَ أبكاراً» (أخرجه الطبراني من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً). وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَصِلُ إِلَى نِسَائِنَا فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصِلُ فِي الْيَوْمِ إِلَى مِائَةِ عذراء» (رواه الطبراني وقال الحافظ المقدسي: هو على شرط الصحيح). وقوله تعالى: {عُرُباً}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي مُتَحَبِّبَاتٍ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، أَلَمْ تَرَ إِلَى النَّاقَةِ الضُّبَعَةِ هِيَ كَذَلِكَ، وَقَالَ الضحّاك عنه: العرب العواشق لأزواجهن، وأزواجهن لهن عاشقون، وقال عكرمة: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ {عُرُباً} قَالَ: هي المَلِقة لزوجها، وقال عكرمة: هي الغنجة، وعنه: هي الشكلة، وقال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ {عُرُباً} قَالَ: الشِّكِلَةُ بِلُغَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالْغَنِجَةُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ حَذْلَمٍ: هِيَ حسن التبعل، وقوله {أَتْرَاباً} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي فِي سِنٍّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَتْرَابُ: الْمُسْتَوِيَاتُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الْأَمْثَالُ، وَقَالَ عَطِيَّةُ: الْأَقْرَانُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ {أَتْرَاباً} أَيْ فِي الْأَخْلَاقِ الْمُتَوَاخِيَاتُ بَيْنَهُنَّ، لَيْسَ بَيْنَهُنَّ تَبَاغُضٌ وَلَا تَحَاسُدٌ، يَعْنِي لَا كما كن ضرائر متعاديات، وقال ابن أبي حاتم، عَنِ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ {عُرُباً أَتْرَاباً} قَالَا: الْمُسْتَوَيَاتُ الْأَسْنَانِ يَأْتَلِفْنَ جَمِيعًا وَيَلْعَبْنَ جَمِيعًا، وَقَدْ رَوَى الترمذي، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمُجْتَمَعًا لِلْحُورِ الْعِينِ يَرْفَعْنَ أَصْوَاتًا لم تسمع الخلائق بمثلها - قال - يَقُلْنَ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَبِيدُ، وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْأَسُ، وَنَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ، طُوبَى لمن كان لنا وكنا له" (أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب). وعن أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْحُورَ الْعِينَ لَيُغَنِّينَ فِي الْجَنَّةِ يَقُلْنَ: نَحْنُ خَيِّرَاتٌ حِسَانٌ خُبِّئْنَا لِأَزْوَاجٍ كرام" (أخرجه الحافظ أبو يعلى). وقوله تعالى: {لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} أَيْ خُلِقْنَا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ أَوِ زُوِّجْنَ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: {إنآ أنشأناهن إنشآء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} فَتَقْدِيرُهُ أَنْشَأْنَاهُنَّ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَهَذَا تَوْجِيهُ ابْنِ جرير، قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَتْرَاباً

لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} أَيْ فِي أَسْنَانِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى ضَوْءِ أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لَا يَبُولُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يتفلون، ولا يتمخطون؛ أمشاطهم الذهب وريحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأرواحهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السماء» (أخرجه الشيخان). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ جرداً مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَهُمْ عَلَى خَلْقِ آدَمَ سِتُّونَ ذراعاً في عرض سبعة أذرع» (أخرجه الطبراني ورواه الترمذي بنحوه). وروى ابن وهب، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ يُرَدُّونَ بَنِي ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ فِي الْجَنَّةِ لَا يَزِيدُونَ عليها أبداً وكذلك أهل النار». وروى ابن أبي الدنيا، عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ عَلَى طُولِ آدَمَ سِتِّينَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ الْمَلِكِ! عَلَى حُسْنِ يُوسُفَ وَعَلَى مِيلَادِ عِيسَى ثَلَاثٍ وثلاثين وَعَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ جُرْدٌ مُرْدٌ مُكَحَّلُونَ»، وَقَالَ أبو بكر بن أبي داود، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُبْعَثُ أَهْلُ الجنة على صورة آدم في ميلاد عيسى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلِينَ. ثُمَّ يُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى شَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ فَيُكْسَوْنَ مِنْهَا لَا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ»، وَقَوْلُهُ تعالى: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} أَيْ جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هما جميعاً من أُمتي» (أخرجه ابن جرير).

- 41 - وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ - 42 - فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ - 43 - وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ - 44 - لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ - 45 - إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ - 46 - وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ - 47 - وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ - 48 - أَوَ آبَآؤُنَا الْأَوَّلُونَ - 49 - قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ - 50 - لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ - 51 - ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ - 52 - لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ - 53 - فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ - 54 - فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ - 55 - فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ - 56 - هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، عَطَفَ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ أَصْحَابِ الشِّمَالِ فَقَالَ: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ} أَيْ أيُّ شَيْءٍ هُمْ فِيهِ أَصْحَابُ الشِّمَالِ؟ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ: {فِي سَمُومٍ} وَهُوَ الْهَوَاءُ الْحَارُّ، {وَحَمِيمٍ} وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ، {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ظل الدخان (وبه قال مجاهد وعكرمة وقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ)، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {انْطَلِقُوا

إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللهب} ولهذا قال ههنا: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} وَهُوَ الدُّخَّانُ الْأَسْوَدُ {لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ} أَيْ لَيْسَ طَيِّبَ الْهُبُوبِ، ولا حسن المنظر {وَلاَ كَرِيمٍ} أَيْ وَلَا كَرِيمِ الْمَنْظَرِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ شَرَابٍ لَيْسَ بِعَذْبٍ فَلَيْسَ بِكَرِيمٍ، قال ابْنُ جَرِيرٍ: الْعَرَبُ تَتْبَعُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي النَّفْيِ، فَيَقُولُونَ: هَذَا الطَّعَامُ لَيْسَ بِطَيِّبٍ وَلَا كَرِيمٍ، هَذَا اللَّحْمُ لَيْسَ بِسَمِينٍ وَلَا كَرِيمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى اسْتِحْقَاقَهُمْ لِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} أَيْ كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مُنَعَّمِينَ، مُقْبِلِينَ عَلَى لَذَّاتِ أنفسهم، {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ} أي يقيمون وَلَا يَنْوُونَ تَوْبَةً {عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ}، وَهُوَ الكفر بالله، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحِنْثِ الْعَظِيمِ: الشِّرْكُ (وَكَذَا قال مجاهد وعكرمة والضحّاك وقتادة)، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ {وَكَانُواْ يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا الْأَوَّلُونَ} يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ مُكَذِّبِينَ بِهِ مُسْتَبْعِدِينَ لِوُقُوعِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} أَيْ أَخْبِرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ سَيُجْمَعُونَ إِلَى عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ لا يغادر منهم أحد، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مشهود}، ولهذا قال ههنا: {لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} أَيْ هُوَ موقت بوقت محدود لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَلَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُقْبَضُونَ وَيُسَجَّرُونَ حَتَّى يَأْكُلُوا مِنْ شجر الزقوم حتى يملأوا مِنْهَا بُطُونَهُمْ، {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} وَهِيَ الْإِبِلُ الْعِطَاشُ وَاحِدُهَا أَهْيَمُ وَالْأُنْثَى هَيْمَاءُ، وَيُقَالُ: هَائِمٌ وَهَائِمَةٌ، قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد: الهيم الإبل العطاش الظماء، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْهِيمُ دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فَلَا تَرْوَى أَبَدًا حَتَّى تَمُوتَ، فَكَذَلِكَ أَهْلُ جَهَنَّمَ لا يرون من الحميم أبداً، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} أَيْ هَذَا الَّذِي وَصَفْنَا هُوَ ضِيَافَتُهُمْ عِنْدَ ربهم يوم حسابهم، كما قال تعالى في حق المؤمنين: {كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً} أَيْ ضِيَافَةً وَكَرَامَةً.

- 57 - نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ - 58 - أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ - 59 - أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ - 60 - نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ - 61 - عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ - 62 - وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ يَقُولُ تعالى مقرراً للمعاد، وراداً على المكذبين به من أهل الزيع والإلحاد، {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} أَيْ نَحْنُ ابْتَدَأْنَا خَلْقَكُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، أَفَلَيْسَ الَّذِي قَدَرَ عَلَى الْبَدَاءَةِ، بِقَادِرٍ عَلَى الْإِعَادَةِ بِطَرِيقِ الأولى والأحرى؟ ولهذا قَالَ: {فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ}؟ أَيْ فَهَلَّا تُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ! ثم قال تعالى مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ}؟ أَيْ أَنْتُمْ تُقِرُّونَهُ فِي الْأَرْحَامِ وَتَخْلُقُونَهُ فِيهَا أَمِ اللَّهُ الْخَالِقُ لذلك؟ ثم قال تعالى {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} أَيْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَكُمْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: سَاوَى فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أَيْ وَمَا نَحْنُ بِعَاجِزِينَ {عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} أَيْ نُغَيِّرُ خلقكم يوم القيامة، {وننشئكم فيما لاَ تَعْلَمُونَ} أَيْ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ، ثُمَّ قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} أَيْ قد علمتم

أَنَّ اللَّهَ أَنْشَأَكُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، فَخَلَقَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، فَهَلَّا تَتَذَكَّرُونَ وَتَعْرِفُونَ أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى هَذِهِ النَّشْأَةِ وَهِيَ الْبَدَاءَةُ قَادِرٌ عَلَى النَّشْأَةِ الأُخرى وَهِيَ الْإِعَادَةُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه}، وقال تعالى: {أَوَلاَ يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً}، وقال تَعَالَى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}، وقال تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يحيي الموتى}؟

- 63 - أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ - 64 - أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ - 65 - لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ - 66 - إِنَّا لَمُغْرَمُونَ - 67 - بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ - 68 - أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ - 69 - أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ - 70 - لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ - 71 - أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ - 72 - أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ - 73 - نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ - 74 - فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ يَقُولُ تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ}؟ وَهُوَ شَقُّ الْأَرْضِ وَإِثَارَتُهَا وَالْبَذْرُ فِيهَا، {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ}؟ أَيْ تُنْبِتُونَهُ فِي الْأَرْضِ {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}؟ أَيْ بَلْ نَحْنُ الذي نقره قراره وننبته في الأرض، روى عَنْ حُجْرٍ الْمَدَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} وَأَمْثَالَهَا، يَقُولُ: بل أنت يا رب، وقوله تعالى: {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} أَيْ نَحْنُ أَنْبَتْنَاهُ بِلُطْفِنَا وَرَحْمَتِنَا، وَأَبْقَيْنَاهُ لَكُمْ رَحْمَةً بِكُمْ، وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً، أَيْ لَأَيْبَسْنَاهُ قَبْلَ اسْتِوَائِهِ وَاسْتِحْصَادِهِ، {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}. ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إنا لمغرومون * بل نحن محرمون} أَيْ لَوْ جَعَلْنَاهُ حُطَامًا لَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ فِي المقالة تنوعون كلامكم، فتقولون تارة {إن لمغرومون} أَيْ لَمُلْقَوْنَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: إِنَّا لَمُولَعٌ بِنَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: مُعَذَّبُونَ، وَتَارَةً تَقُولُونَ: {بَلْ نَحْنُ محرمون} أَيْ لَا يَثْبُتُ لَنَا مَالٌ وَلَا يَنْتُجُ لَنَا رِبْحٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي مجدودون يعني لا حظ لنا، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تَعْجَبُونَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تُفْجَعُونَ وَتَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ زَرْعِكُمْ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ التَّعَجُّبُ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أُصِيبُوا فِي مَالِهِمْ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تُلَاوِمُونَ، وَقَالَ الحسن وقتادة {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تَنْدَمُونَ، وَمَعْنَاهُ إِمَّا عَلَى مَا أَنْفَقْتُمْ أَوْ عَلَى مَا أَسْلَفْتُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: تَفَكَّهَ مِنَ الْأَضْدَادِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: تَفَكَّهْتُ بِمَعْنَى تَنَعَّمْتُ، وَتَفَكَّهْتُ بِمَعْنَى حَزِنْتُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أنزلمتوه مِنَ المزن}، يعني السحاب، {أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ}، يَقُولُ بَلْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} أي زعافاً مُرًّا لَا يَصْلُحُ لِشُرْبٍ وَلَا زَرْعٍ، {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} أَيْ فَهَلَّا تَشْكُرُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي إِنْزَالِهِ الْمَطَرَ عَلَيْكُمْ عَذْبًا زُلَالًا، {لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} روى ابن أبي حاتم، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا شَرِبَ الْمَاءَ قَالَ: «الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي سَقَانَا عَذْبًا فُرَاتًا بِرَحْمَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِلْحًا أُجَاجًا بذنوبنا» (أخرجه ابن أبي حاتم) ثُمَّ قَالَ: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} أَيْ

تَقْدَحُونَ مِنَ الزِّنَادِ وَتَسْتَخْرِجُونَهَا مِنْ أَصْلِهَا {أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشؤن} أَيْ بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ جَعَلْنَاهَا مُودَعَةً فِي مَوْضِعِهَا، وَلِلْعَرَبِ شَجَرَتَانِ: إِحْدَاهُمَا (الْمَرْخُ) والأُخْرى (الْعَفَارُ) إِذَا أُخِذَ مِنْهُمَا غُصْنَانِ أَخْضَرَانِ فَحُكَّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ تَنَاثَرَ مِنْ بَيْنِهِمَا شَرَرُ النَّارِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَيْ تذكر النار الكبرى، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ناركم هذه جزء من سبعين جزء مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَضُرِبَتْ بِالْبَحْرِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْفَعَةً لِأَحَدٍ» (أخرجه أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً)، وقال الإمام مالك، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَارُ بَنِي آدَمَ التي يوقدون جزء من سبعين جزء مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، فَقَالَ: «إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً»، وَفِي لَفْظٍ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا» (أخرجه مالك ورواه البخاري ومسلم). وقوله تعالى: {وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} قال ابن عباس ومجاهد: يعني بالمقوين المسافرين، واختاره ابن جرير، وقال ابن أسلم: المقوي ههنا الجائع، وقال ليث، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ}: لِلْحَاضِرِ وَالْمُسَافِرِ، لِكُلٍّ طعام لا يصلحه إلا النار، وعنه {لِّلْمُقْوِينَ} يعني المستمتعين من الناس أجمعين، وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَعَمُّ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْحَاضِرَ والبادي من غني وفقير، الجميع محتاجون إليها لِلطَّبْخِ وَالِاصْطِلَاءِ وَالْإِضَاءَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، ثم من لطف الله تعالى أَوْدَعَهَا فِي الْأَحْجَارِ وَخَالِصِ الْحَدِيدِ، بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ الْمُسَافِرُ مِنْ حَمْلِ ذَلِكَ فِي مَتَاعِهِ وَبَيْنَ ثِيَابِهِ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ فِي مَنْزِلِهِ أَخْرَجَ زَنْدَهُ وَأَوْرَى وَأَوْقَدَ نَارَهُ فَأَطْبَخَ بِهَا واصطلى بها وَاشْتَوَى وَاسْتَأْنَسَ بِهَا، وَانْتَفَعَ بِهَا سَائِرَ الِانْتِفَاعَاتِ، فَلِهَذَا أُفْرِدَ الْمُسَافِرُونَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَامًّا في حق الناس كلهم، وفي الحديث: "الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: النَّارِ وَالْكَلَأِ وَالْمَاءِ" (أخرجه أحمد وأبو داود)، وفي رواية: "ثلاثة لا يمنعن: الماء والكلأ والنار" (أخرجه ابن ماجة بإسناد حسن). وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بسم رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أَيِ الَّذِي بِقُدْرَتِهِ خَلَقَ هَذِهِ الأشياء المختلفة المتضادة، الماء الزلال العذب الْبَارِدَ، وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ مِلْحًا أُجَاجًا كَالْبِحَارِ الْمُغْرِقَةِ، وَخَلَقَ النَّارَ الْمُحْرِقَةَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْعِبَادِ، وَجَعَلَ هَذِهِ مَنْفَعَةً لَهُمْ فِي مَعَاشِ دنياهم، وزجراً لَهُمْ فِي الْمَعَادِ.

- 75 - فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ - 76 - وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ - 77 - إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ - 78 - فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ - 79 - لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ - 80 - تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ - 81 - أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ - 82 - وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ قال الضحّاك: إن الله تعالى لَا يُقْسِمُ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتِفْتَاحٌ يَسْتَفْتِحُ بِهِ كَلَامَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، وَالَّذِي عليه الجمهور أنه قسم من الله تعالى يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَظَمَتِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ:

(لا) ههنا زائدة، وتقديره: أقسم بمواقع النجوم، وَيَكُونُ جَوَابُهُ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}، وَقَالَ آخَرُونَ: ليست (لا) زائدة بَلْ يُؤْتَى بِهَا فِي أَوَّلِ الْقَسَمِ إِذَا كان مقسماً به على منفي، تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ سِحْرٌ أَوْ كِهَانَةٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ كَرِيمٌ، وَقَالَ بعضهم: مَعْنَى قَوْلِهِ {فَلاَ أُقْسِمُ}: فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تقولون، ثم استأنف القسم بعد ذلك فقيل اقسم (ذكره ابن جرير عن بعض أهل العربية)، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} فَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي نُجُومَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ نَزَلَ جُمْلَةً لَيْلَةَ الْقَدْرِ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ مُفَرَّقًا فِي السِّنِينَ بَعْدُ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَةَ، وقال مجاهد: {مواقع النجوم} في السماء ويقال مطالعها ومشارقها، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَعَنْ قَتَادَةَ: مَوَاقِعُهَا: منازلها، وعن الحسن: أن المراد بذلك انتثارها يوم القيامة، وَقَوْلُهُ {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} أَيْ وَإِنَّ هَذَا الْقَسَمَ الَّذِي أَقْسَمْتُ بِهِ لَقَسَمٌ عَظِيمٌ، لَوْ تَعْلَمُونَ عَظَمَتَهُ لَعَظَّمْتُمُ الْمُقْسِمَ بِهِ، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} أَيْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ لَكِتَابٌ عَظِيمٌ {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} أي معظم في كتاب محفوظ موقر، عن ابن عباس قال: الكتاب الذي فِي السماء، {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} يعني الملائكة، وقال ابن جرير، عَنْ قَتَادَةَ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} قَالَ: لَا يَمَسُّهُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَمَسُّهُ الْمَجُوسِيُّ النَّجِسُ، وَالْمُنَافِقُ الرجس، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} لَيْسَ أَنْتُمْ أَصْحَابَ الذُّنُوبِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: زَعَمَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يمسه إلا المطهرون، كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لمعزولون}، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلٌ جَيِّدٌ، وَهُوَ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ، وقال آخرون: ههنا الْمُصْحَفُ، كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مخافة أن يناله العدو» (أخرجه مسلم في صحيحه)، واحتجوا بما رواه الإمام مالك أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أن «لا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَرَأْتُ في صحيفة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَلَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ»، وَهَذِهِ وِجَادَةٌ جَيِّدَةٌ قَدْ قَرَأَهَا الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي الْأَخْذُ به. وقوله تعالى: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَيْسَ هُوَ كَمَا يَقُولُونَ إِنَّهُ سِحْرٌ أَوْ كِهَانَةٌ أَوْ شِعْرٌ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فيه، وليس وراءه حق نافع، وقوله تعالى: {أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} قال ابن عباس: أي مكذبون غير مصدقين، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مُّدْهِنُونَ} أَيْ تُرِيدُونَ أَنْ تُمَالِئُوهُمْ فِيهِ وَتَرْكَنُوا إِلَيْهِمْ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} قال بعضهم: معنى {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} بمعنى شكركم أنكم تكذبون بدل الشكر، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَتَجْعَلُونَ» رِزْقَكُمْ يَقُولُ: شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، تَقُولُونَ: مُطِرْنَا بنوء كذا وكذا، بنجم كذا وكذا" (أخرجه أحمد وابن أبي حاتم، ورواه الترمذي وقال: حسن غريب)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}

قَالَ: قَوْلُهُمْ فِي الْأَنْوَاءِ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَبِنَوْءِ كَذَا يَقُولُ: قُولُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ رِزْقُهُ (وَهَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ)، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَّا الْحَسَنُ فَكَانَ يَقُولُ: بِئْسَ مَا أَخَذَ قَوْمٌ لِأَنْفُسِهِمْ، لَمْ يُرْزَقُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا التَّكْذِيبَ، فَمَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ هَذَا وَتَجْعَلُونَ حَظَّكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ قَبْلَهُ: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}.

- 83 - فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ - 84 - وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ - 85 - وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ - 86 - فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ - 87 - تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ يَقُولُ تَعَالَى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ} أَيِ الرُّوحُ {الْحُلْقُومَ} أَيِ الْحَلْقَ وَذَلِكَ حِينَ الاحتضار كما قال تعالى: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}، ولهذا قال ههنا {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} أَيْ إِلَى الْمُحْتَضَرِ وَمَا يُكَابِدُهُ مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} أَيْ بِمَلَائِكَتِنَا {وَلَكِنْ لاَّ تُبْصِرُونَ} أَيْ ولكن لا ترونهم كما قال تعالى في الآية الأُخرى: {حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ}. وقوله تعالى: {فَلَوْلاَ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ} مَعْنَاهُ فَهَلَّا تَرْجِعُونَ هَذِهِ النَّفْسَ الَّتِي قَدْ بَلَغَتِ الحلقوم إلى مكانها الأول، ومقرها من الْجَسَدِ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، قَالَ ابْنُ عباس: يعني محاسبين (وهو قول مجاهد وعكرمة والحسن والضحّاك وقتادة)، وقال سعيد بن جبير {غَيْرَ مَدِينِينَ} غَيْرَ مُصَدِّقِينَ أَنَّكُمْ تُدَانُونَ وَتُبْعَثُونَ وَتُجْزَوْنَ فَرُدُّوا هَذِهِ النَّفْسَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ {غَيْرَ مَدِينِينَ} غَيْرَ مُوقِنِينَ، وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: غَيْرَ مُعَذَّبِينَ مَقْهُورِينَ.

- 88 - فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ - 89 - فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ - 90 - وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ - 91 - فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ - 92 - وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ - 93 - فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ - 94 - وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ - 95 - إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ - 96 - فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أَحْوَالُ النَّاسِ عِنْدَ احْتِضَارِهِمْ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ يَكُونَ مِمَّنْ دُونَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من المكذبين بالحق، الضَّالِّينَ عَنِ الْهُدَى، الْجَاهِلِينَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّآ إِن كَانَ} أَيِ الْمُحْتَضَرُ {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وَهُمُ الَّذِينَ فَعَلُوا الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ وَتَرَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَبَعْضَ الْمُبَاحَاتِ، {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} أَيْ فَلَهُمْ رَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَتُبَشِّرُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ تَقُولُ: أَيَّتُهَا الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، كُنْتِ تُعَمِّرِينَهُ اخرجه إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَرَوْحٌ} يَقُولُ: رَاحَةٌ {وَرَيْحَانٌ} يَقُولُ: مُسْتَرَاحَةٌ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الرَّوْحَ الِاسْتِرَاحَةُ، وقال أبو حرزة: الرَّاحَةُ مِنَ الدُّنْيَا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الرَّوْحُ الْفَرَحُ، وَعَنْ

مُجَاهِدٍ: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} جَنَّةٌ وَرَخَاءٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: فروح فرحمة. وقال ابن عباس ومجاهد {وَرَيْحَانٌ}: وَرِزْقٌ؛ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ صَحِيحَةٌ، فإن مَاتَ مُقَرَّبًا حَصَلَ لَهُ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالرَّاحَةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ {وَجَنَّةُ نَعِيمٍ}، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا يُفَارِقُ أَحَدٌ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ حَتَّى يُؤْتَى بِغُصْنٍ مِنْ رَيْحَانِ الْجَنَّةِ فَيُقْبَضَ رُوحُهُ فِيهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَعْلَمَ أَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ هُوَ أَمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَحَادِيثَ الِاحْتِضَارِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت}. وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية. روى الإمام أحمد، عن أم هانىء أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَتَزَاوَرُ إِذَا مُتْنَا وَيَرَى بَعْضُنَا بَعْضًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يكون النَّسَمُ طَيْرًا يَعْلُقُ بِالشَّجَرِ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دَخَلَتْ كُلُّ نَفْسٍ فِي جَسَدِهَا»، هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ بِشَارَةٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، وَمَعْنَى «يَعْلَق» يَأْكُلُ، وَيَشْهَدُ لَهُ بِالصِّحَّةِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، عَنِ الإمام مالك، عن كعب بْنُ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجِرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ»، وَهَذَا إِسْنَادٌ عَظِيمٌ وَمَتْنٌ قَوِيمٌ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَرْوَاحَ الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في رياض الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ معلقة بالعرش» (الحديث مخرج في الصحيحين) الحديث. وروى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» قَالَ: فَأَكَبَّ الْقَوْمُ يَبْكُونَ فَقَالَ: «مَا يُبْكِيكُمْ؟» فَقَالُوا: إِنَّا نَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، ولكنه إذا احتضر {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ}، فَإِذَا بُشِّرَ بِذَلِكَ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَاللَّهُ عزَّ وجلَّ لِلِقَائِهِ أَحَبُّ {وَأَمَّآ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} فَإِذَا بُشِّرَ بذلك كره لقاء الله، والله تعالى للقائه أكره» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أَيْ وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُحْتَضَرُ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ {فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أَيْ تُبَشِّرُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ تَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: سَلَامٌ لَكَ أَيْ لابأس عَلَيْكَ أَنْتَ إِلَى سَلَامَةٍ، أَنْتَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين، وقال قتادة: سَلِمَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وسلَّمت عَلَيْهِ مَلَائِكَةُ اللَّهِ، كَمَا قَالَ عِكْرِمَةُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ وَتُخْبِرُهُ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَهَذَا مَعْنًى حسن، ويكون ذلك كقول اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}. وقوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فنزلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أَيْ وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُحْتَضَرُ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْحَقِّ، الضَّالِّينَ عَنِ الْهُدَى {فَنُزُلٌ} أَيْ فَضِيَافَةٌ، {مِّنْ حَمِيمٍ} وَهُوَ الْمُذَابُ الَّذِي يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أَيْ وَتَقْرِيرٌ لَهُ فِي النَّارِ الَّتِي تَغْمُرُهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أَيْ إِنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ، الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا مَحِيدَ لِأَحَدٍ عنه، {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم}. قال الإمام أحمد، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: لمْا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ»، وَلَمَّا نَزَلَتْ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجعلوها في سجودكم» (أخرجه الإمام أحمد في المسند)

وفي الحديث: «من قال سبحان ربي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ» (رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن غريب). وروى البخاري في آخر صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم".

57 - سورة الحديد

- 57 - سورة الحديد

عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ الْمُسَبِّحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ وَقَالَ: «إِنَّ فِيهِنَّ آيَةً أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن غريب)، وَالْآيَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ هِيَ وَاللَّهُ أعلم قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شيء عليم}.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- 1 - سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - 2 - لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 3 - هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يُسَبِّحُ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الأُخْرَى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ، وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} وقوله تعالى {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أَيِ الَّذِي قَدْ خَضَعَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، {الْحَكِيمُ} فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَشَرْعِهِ، {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أَيْ هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ، فَيُحْيِي وَيُمِيتُ، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أَيْ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وقوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سارية أنها أفضل من ألف آية، روى أبو داود، عن أبي زُمَيْلٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: مَا شَيْءٌ أَجِدُهُ فِي صَدْرِي؟ قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَتَكَلَّمُ بِهِ. قَالَ، فَقَالَ لِي: أَشَيْءٌ مِنْ شَكٍّ؟ قَالَ، وَضَحِكَ، قَالَ: مَا نَجَا مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ، قَالَ: حَتَّى أنزل الله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يقرأون الكتاب مِن قَبْلِكَ} الآية، قَالَ، وَقَالَ لِي: إِذَا وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا فَقُلْ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شيء عليم} (أخرجه أبو داود)، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ المفسِّرين فِي هَذِهِ الْآيَةِ،

وَأَقْوَالُهُمْ عَلَى نحوٍ مِنْ بِضْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ، قَالَ يَحْيَى: الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَالْبَاطِنُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، روى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو عِنْدَ النَّوْمِ: «اللَّهُمَّ رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، ربنا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخذ بناصيته، أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عنا الدين، وأغننا من الفقر» (وأخرجه مسلم بلفظ: كَانَ أَبُو صَالِحٍ يَأْمُرُنَا إِذَا أَرَادَ أَحَدُنَا أَنْ يَنَامَ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثم يقول: اللهم رب السماوات ... الخ). وعن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِفِرَاشِهِ، فَيُفْرَشُ لَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَإِذَا أَوَى إِلَيْهِ تَوَسَّدَ كَفَّهُ الْيُمْنَى ثُمَّ هَمَسَ، مَا يُدْرَى مَا يَقُولُ، فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ العظيم، إله كُلِّ شَيْءٍ وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عنا الدين، وأغننا من الفقر» (أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي). وروى الترمذي، عن أبي هريرة قال: بينما نبي اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَأَصْحَابُهُ إِذْ أَتَى عَلَيْهِمْ سَحَابٌ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «هَذَا الْعَنَانُ، هَذِهِ رَوَايَا الْأَرْضِ تَسُوقُهُ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْكُرُونَهُ وَلَا يَدْعُونَهُ»، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَكُمْ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قال: «فإنها الرفيع سَقْفٌ مَحْفُوظٌ وَمَوْجٌ مَكْفُوفٌ»، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ»، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّ فَوْقَ ذَلِكَ سَمَاءٌ بُعْدُ مَا بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ - حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ - مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّ فَوْقَ ذَلِكَ الْعَرْشَ وبينه وبين السماء مثل مَا بَيْنَ السَّمَاءَيْنِ»، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا الَّذِي تَحْتَكُمْ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهَا الْأَرْضُ»، ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا الَّذِي تَحْتَ ذَلِكَ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّ تَحْتَهَا أَرْضًا أُخْرى بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ - حَتَّى عَدَّ سَبْعَ أَرَضِينَ - بَيْنَ كُلِّ أَرْضَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ»، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّكُمْ دليتم حبلاً إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى لَهَبَطَ عَلَى اللَّهِ»، ثُمَّ قَرَأَ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شيء عليم} (أخرجه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً وقال: حديث غريب من هذا الوجه). وفسَّر بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالُوا: إِنَّمَا هَبَطَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَعِلْمُ اللَّهِ وَقَدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا وَصَفَ فِي كِتَابِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا الحديث بسنده، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فذكره، وعنده: «وبعد مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ»، وَقَالَ: «لَوْ دَلَّيْتُمْ أَحَدَكُمْ بِحَبْلٍ إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى السَّابِعَةِ لَهَبَطَ عَلَى اللَّهِ»،

ثُمَّ قَرَأَ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْتَقَى أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَرْسَلَنِي رَبِّي عزَّ وجلَّ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَتَرَكْتُهُ ثَمّ، قَالَ الْآخَرُ: أَرْسَلَنِي رَبِّي عزَّ وجلَّ مِنَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ وَتَرَكْتُهُ ثَمّ، قَالَ الْآخَرُ: أَرْسَلَنِي رَبِّي مِنَ الْمَشْرِقِ وَتَرَكْتُهُ ثَمّ، قَالَ الْآخَرُ: أَرْسَلَنِي ربي من المغرب وتركته ثَمّ (أخرجه ابن جرير، قال ابن كثير: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَقَدْ يَكُونُ الْحَدِيثُ الأول موقوفاً على قتادة كما هنا).

- 4 - هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ - 5 - لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ - 6 - يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ خَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثم أخبر تعالى بِاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ خَلْقِهِنَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَأَشْبَاهِهَا فِي سُورَةِ الأعراف بما أغنى عن إعادته ههنا، وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} أَيْ يَعْلَمُ عَدَدَ مَا يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ حَبٍّ وَقَطْرٍ، {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من نبات وزرع وثمار، كما قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}، وقوله تعالى: {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} أَيْ مِنَ الْأَمْطَارِ، وَالثُّلُوجِ وَالْبَرَدِ وَالْأَقْدَارِ، وَالْأَحْكَامِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ، وقوله تعالى: {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَآ} أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَعْمَالِ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ»، وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أَيْ رَقِيبٌ عليكم شهيد على أعمالكم، حيث كنتم وَأَيْنَ كُنْتُمْ مِنْ بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ، فِي ليل أو نهار، في البيوت أو في القفار، الجميع في علمه على السواء، فَيَسْمَعُ كَلَامَكُمْ وَيَرَى مَكَانَكُمْ، وَيَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَنَجْوَاكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور}، وَقَالَ تَعَالَى: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}، فَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ لِجِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْإِحْسَانُ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنه يراك»، وفي الحديث، قال رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَزْكِيَةُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ: «يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كان» (أخرجه أبو نعيم من حديث عبد الله العامري مرفوعاً). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَفْضَلَ الْإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ معك حيثما كنت» (أخرجه أبو نعيم عن عبادة بن الصامت). وكان الإمام أحمد رحمة الله تعالى يُنْشِدُ هَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ: إِذَا مَا خلوتَ الدَّهْرَ يَومًا فَلَا تَقُلْ * خلوتُ وَلَكِنْ قُلْ عليَّ رقيبُ وَلَا تحسبنَّ اللَّهَ يَغْفُلُ سَاعَةً * وَلَا أن ما تخفي عليه يغيب

وقوله تعالى: {لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}، أَيْ هُوَ الْمَالِكُ لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قال تعالى: {وإن لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى} وهو المحمود على ذلك، كما قال تَعَالَى: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد في الأولى والآخرة}، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الحكيم الخبير}، فَجَمِيعُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ، وَأَهْلُهُمَا عَبِيدٌ أَرِقَّاءُ أَذِلَّاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِ الرحمن عبداً}، وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أَيْ إِلَيْهِ الْمَرْجِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَحْكُمُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَهُوَ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ ولا يظلم مثقال ذرة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حاسبين}، وقوله تَعَالَى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْخَلْقِ، يُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَيُقَدِّرُهُمَا بِحِكْمَتِهِ كَمَا يَشَاءُ، فَتَارَةً يُطَوِّلُ اللَّيْلَ وَيُقَصِّرُ النَّهَارَ، وَتَارَةً بِالْعَكْسِ، وَتَارَةً يَتْرُكُهُمَا مُعْتَدِلَيْنَ، وَتَارَةً يَكُونُ الْفَصْلُ شِتَاءً ثُمَّ رَبِيعًا ثُمَّ قَيْظًا ثُمَّ خَرِيفًا، وَكُلُّ ذَلِكَ بِحِكْمَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ لِمَا يُرِيدُهُ بِخَلْقِهِ {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ يَعْلَمُ السَّرَائِرَ وَإِنْ دَقَّتْ أو خفيت.

- 7 - آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ - 8 - وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ - 9 - هُوَ الذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلَمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لرؤوف رَحِيمٌ - 10 - وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ - 11 - مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أمر تبارك وتعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل، وَحَثَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ {مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أَيْ مِمَّا هُوَ مَعَكُمْ عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي أَيْدِي مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ صَارَ إِلَيْكُمْ، فَأَرْشَدَ تَعَالَى إِلَى اسْتِعْمَالِ ما استخلفكم فيه من المال في طاعته، وقوله تعالى: {مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ مُخَلَّفًا عَنْكَ، فَلَعَلَّ وَارِثَكَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ فَيَكُونَ أَسْعَدَ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ مِنْكَ، أَوْ يَعْصِيَ اللَّهَ فِيهِ فَتَكُونَ قَدْ سَعَيْتَ فِي مُعَاوَنَتِهِ عَلَى الإثم والعدوان. روى مسلم، عن عبد الله بن الشخير قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ؟ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ؟ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ للناس" (أخرجه مسلم والإمام أحمد). وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} تَرْغِيبٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَةِ، ثُمَّ قال تَعَالَى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ

وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ}؟ أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالرَّسُولُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ يَدْعُوكُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَيُبَيِّنُ لَكُمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَكُمْ بِهِ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ: «أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيمَانًا؟» قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ، قَالَ: «وَمَا لَهُم لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟» قَالُوا: فَالْأَنْبِيَاءُ، قَالَ: «وَمَا لَهُم لَا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ؟» قَالُوا: فَنَحْنُ، قَالَ: «وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ وَلَكِنْ أَعْجَبُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا قَوْمٌ يَجِيئُونَ بَعْدَكُمْ يَجِدُونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بما فيها» (أخرجه البخاري في كتاب الإيمان). وقوله تعالى: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وَيَعْنِي بِذَلِكَ بَيْعَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وقوله تَعَالَى: {هُوَ الذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أَيْ حُجَجًا وَاضِحَاتٍ وَدَلَائِلَ بَاهِرَاتٍ وَبَرَاهِينَ قَاطِعَاتٍ، {لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أَيْ مِنْ ظلمات الجهل والكفر، إلى نور الهدى والإيمان، {وَإِنَّ الله بِكُمْ لرؤوف رَّحِيمٌ} أَيْ فِي إِنْزَالِهِ الْكُتُبَ وَإِرْسَالِهِ الرُّسُلَ لهداية الناس، وَلَمَّا أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِالْإِيمَانِ وَالْإِنْفَاقِ، ثُمَّ حَثَّهُمْ على الأيمان، حَثَّهُمْ أَيْضًا عَلَى الْإِنْفَاقِ، فَقَالَ: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؟ أَيْ أَنْفَقُوا وَلَا تَخْشَوْا فَقْرًا وَإِقْلَالًا، فَإِنَّ الَّذِي أَنْفَقْتُمْ فِي سَبِيلِهِ هُوَ مالك السماوات والأرض، وَهُوَ الْقَائِلُ: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}، {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ}، فمن توكل على الله أنفق وعلم أن الله سيخلفه عليه، وقوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} أَيْ لَا يَسْتَوِي هَذَا وَمَنْ لم يفعل كفعله، وذلك أنه قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ كَانَ الْحَالُ شَدِيدًا، فَلَمْ يَكُنْ يُؤْمِنُ حِينَئِذٍ إِلَّا الصِّدِّيقُونَ، وَأَمَّا بَعْدَ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ ظُهُورًا عَظِيمًا، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}، وَالْجُمْهُورُ على أن المراد بالفتح ههنا (فتح مكة)، وعن الشعبي: أن المراد (صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ). وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا قال الإمام أحمد، عَنْ أنَس قَالَ: كَانَ بَيْنَ (خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ) وَبَيْنَ (عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) كَلَامٌ، فَقَالَ خَالِدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: تَسْتَطِيلُونَ عَلَيْنَا بِأَيَّامٍ سَبَقْتُمُونَا بِهَا، فَبَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «دَعُوا لِي أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقْتُمْ مِثْلَ أحُد أَوْ مِثْلَ الْجِبَالِ ذَهَبًا مَا بَلَغْتُمْ أَعْمَالَهُمْ». وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْلَامَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ كان بين صلح الحُدَيبية وفتح مكة. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخِدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ تُحَقِّرُونَ أَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ»، قُلْنَا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُرَيْشٌ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ أَهْلُ الْيَمَنِ لِأَنَّهُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا»، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، أَلَا إِنَّ الْإِيمَانَ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةَ يَمَانِيَةٌ»، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُمْ خَيْرٌ مِنَّا؟ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ جَبَلٌ مِنْ ذَهَبٍ يُنْفِقُهُ مَا أَدَّى مُدَّ أَحَدِكُمْ وَلَا نَصِيفَهُ»، ثُمَّ جَمَعَ أَصَابِعَهُ وَمَدَّ خِنْصَرَهُ وَقَالَ: «أَلَا إِنَّ هَذَا فَضْلُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ، وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خبير}» (أخرجه ابن جرير). وقوله تعالى: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} يَعْنِي الْمُنْفِقِينَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَبَعْدَهُ كُلُّهُمْ لَهُمْ

ثَوَابٌ عَلَى مَا عَمِلُوا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ تفاوت في تفاضل الجزاء، كما قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} الآية، وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ، وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وفي كل خير». فَلِهَذَا عَطَفَ بِمَدْحِ الْآخَرِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، مَعَ تفضيل الأول عليه، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أَيْ فَلِخِبْرَتِهِ فَاوَتَ بَيْنَ ثَوَابِ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدِ ذَلِكَ، وَمَآ ذاك إِلَّا لِعِلْمِهِ بِقَصْدِ الْأَوَّلِ وَإِخْلَاصِهِ التَّامِّ وَإِنْفَاقِهِ فِي حَالِ الْجُهْدِ وَالْقِلَّةِ وَالضِّيقِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «سبق درهم مائة ألف». ولا شك أَنَّ الصِّدِّيقَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ أَنْفَقَ مَالَهُ كُلَّهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ نِعْمَةٌ يَجْزِيهِ بها. وقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هُوَ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقِيلَ: هُوَ النَّفَقَةُ عَلَى الْعِيَالِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَكُلُّ مَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ، وَعَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ دَخَلَ فِي عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِهَذَا قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الأُخْرى {أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أَيْ جَزَاءٌ جَمِيلٌ وَرِزْقٌ بَاهِرٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ يوم القيامة. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ قَالَ: «نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ»، قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ، فَنَاوَلَهُ يَدَهُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي، وَلَهُ حَائِطٌ فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ، وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ فِيهِ وَعِيَالُهَا، قَالَ، فَجَاءَ أَبُو الدَّحْدَاحِ، فَنَادَاهَا: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ، قَالَتْ: لَبَّيْكَ، قَالَ: اخْرُجِي فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي عزَّ وجلَّ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: رَبِحَ بَيْعُكَ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ، وَنَقَلَتْ مِنْهُ مَتَاعَهَا وَصِبْيَانَهَا، وَإِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كَمْ مِنْ عِذْق رَدَاح فِي الْجَنَّةِ لِأَبِي الدحداح» (أخرجه ابن أبي حاتم. معنى (العذق): القنو من النخل، والعنقود من العنب، و (رداح): ضخم، مخصب).

- 12 - يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - 13 - يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ - 14 - يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ - 15 - فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَصَدِّقِينَ، أَنَّهُمْ يوم القيامة يسعى نُورُهُم بَيْنَ أيديهم بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا قَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} قَالَ: عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ،

مِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ الْجَبَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نوره مثل النخلة، ومنهم نُورُهُ مِثْلُ الرَّجُلِ الْقَائِمِ، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ نُورُهُ فِي إِبْهَامِهِ يَتَّقِدُ مَرَّةً وَيُطْفَأُ مَرَّةً (رواه ابن أبي جرير)، وقال الضحّاك: ليس أحداً إِلَّا يُعْطَى نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا انْتَهَوْا إلى الصراط طفىء نُورُ الْمُنَافِقِينَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ أَشْفَقُوا أن يطفأ نورهم كما طفىء نُورُ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالُوا: رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا، وقال الحسن {يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}: يَعْنِي عَلَى الصِّرَاطِ. وقد روى ابن أبي حاتم، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالسُّجُودِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِرَفْعِ رَأْسِهِ فَأَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ يَدِي وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَأَعْرِفُ أُمتي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ»، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ تَعْرِفُ أُمّتك مِنْ بَيْنِ الأُمم؟ فقال: «أَعْرِفُهُمْ، مُحَجَّلُونَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ الأُمم غَيْرِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ يُؤْتَونَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ بِنُورِهِمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» (أخرجه ابن أبي حاتم). وَقَوْلُهُ: {وَبِأَيْمَانِهِم}، قَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ وَبِأَيْمَانِهِمْ كُتُبُهُمْ كما قال تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بيمينه}، وَقَوْلُهُ: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ: بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ، أَيْ لَكُمُ الْبِشَارَةُ بِجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى عَمَّا يَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَرَصَاتِ مِنَ الْأَهْوَالِ الْمُزْعِجَةِ، وَالزَّلَازِلِ الْعَظِيمَةِ، وَالْأُمُورِ الْفَظِيعَةِ، وَإِنَّهُ لَا يَنْجُو يومئذٍ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَمِلَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَتَرَكَ مَا عَنْهُ زجر. روى ابن أبي حاتم، عن سليم بن عامر قل: خرجن على جنازة في بب دِمَشْقَ، وَمَعَنَا (أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ) فَلَمَّا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ، وَأَخَذُوا فِي دَفْنِهَا، قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ قَدْ أَصْبَحْتُمْ وَأَمْسَيْتُمْ فِي مَنْزِلٍ تَقْتَسِمُونَ فِيهِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَتُوشِكُونَ أَنْ تَظْعَنُوا مِنْهُ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ، وَهُوَ هَذَا - يُشِيرُ إِلَى الْقَبْرِ - بَيْتُ الْوَحْدَةِ، وَبَيْتُ الظُّلْمَةِ، وَبَيْتُ الدُّودِ، وَبَيْتُ الضِّيقِ، إِلَّا مَا وسع الله، ثم تَنْتَقِلُونَ مِنْهُ إِلَى مُوَاطِنِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّكُمْ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ حَتَّى يَغْشَى النَّاسَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فتبيَضّ وُجُوهٌ، وتسوَدّ وُجُوهٌ، ثُمَّ تَنْتَقِلُونَ منه إلى منزل آخر، فيغشى النَّاسَ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ يُقَسَّمُ النُّورُ، فَيُعْطَى الْمُؤْمِنُ نُورًا، وَيُتْرَكُ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ، فَلَا يُعْطَيَانِ شيئاً، وهو المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه فقال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} فَلَا يَسْتَضِيءُ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ بِنُورِ الْمُؤْمِنِ، كَمَا لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، ويقول الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً}، وَهِيَ خَدْعَةُ اللَّهِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ قال: {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ}، فَيَرْجِعُونَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي قُسِّمَ فِيهِ النُّورُ فَلَا يَجِدُونَ شَيْئًا فَيَنْصَرِفُونَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ ضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وظاهره فيه الْعَذَابُ} الْآيَةَ، يَقُولُ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَمَا يَزَالُ الْمُنَافِقُ مُغْتَرًّا حَتَّى يُقَسَّمَ النُّورُ، وَيُمَيِّزَ الله بين المنافق والمؤمن (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: بَيْنَمَا النَّاسُ فِي ظُلْمَةٍ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ نُورًا، فَلَمَّا رَأْي الْمُؤْمِنُونَ النُّورَ تَوَجَّهُوا نَحْوَهُ، وَكَانَ النُّورُ دَلِيلًا مِنَ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ، فَلَمَّا رَأَى الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ قَدِ انطلقوا

اتَّبَعُوهُمْ، فَأَظْلَمَ اللَّهُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فَقَالُوا حينئذٍ: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ} فَإِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ في الدنيا قال المؤمنون {ارجعوا وَرَآءَكُمْ} مِنْ حَيْثُ جِئْتُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ فَالْتَمِسُوا هُنَالِكَ النور، وروى الطبراني عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَدْعُو النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِهِمْ سِتْرًا مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَمَّا عِنْدَ الصِّرَاطِ، فَإِنَّ اللَّهَ تعالى يُعْطِي كُلَّ مُؤْمِنٍ نُورًا وَكُلَّ مُنَافِقٍ نُورًا، فَإِذَا اسْتَوَوْا عَلَى الصِّرَاطِ سَلَبَ اللَّهُ نُورَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ، وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا فَلَا يَذْكُرُ عِنْدَ ذَلِكَ أَحَدٌ أَحَدًا". وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ فيه الْعَذَابُ} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ حَائِطٌ بَيْنَ الجنة والنار، وقال عبد الرحمن بن زيد: هُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ}، وهكذا روي عن مجاهد وَهُوَ الصَّحِيحُ {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} أَيِ الْجَنَّةُ وما فيها {وظاهره فيه العذاب} أي النار، والمراد بِذَلِكَ سُورٌ يُضْرَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَحْجِزَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ دَخَلُوهُ مِنْ بَابِهِ، فَإِذَا اسْتَكْمَلُوا دُخُولَهُمْ أُغْلِقَ الْبَابُ، وبقي المنافقين مِنْ وَرَائِهِ فِي الْحَيْرَةِ وَالظُّلْمَةِ وَالْعَذَابِ، كَمَا كانوا في الدار الدنيا في كفر وَشَكٍّ وَحَيْرَةٍ، {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} أَيْ ينادي المنافقين الْمُؤْمِنِينَ: أَمَا كُنَّا مَعَكُمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا نَشْهَدُ مَعَكُمُ الْجُمُعَاتِ؟ وَنُصَلِّي مَعَكُمُ الْجَمَاعَاتِ؟ وَنَقِفُ مَعَكُمْ بِعَرَفَاتٍ؟ وَنَحْضُرُ مَعَكُمُ الْغَزَوَاتِ؟ وَنُؤَدِّي مَعَكُمْ سَائِرَ الْوَاجِبَاتِ؟ قَالُواْ: بَلَى، أَيْ فَأَجَابَ الْمُؤْمِنُونَ النافقين قَائِلِينَ: بَلَى قَدْ كُنْتُمْ مَعَنَا {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ}، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَيْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاللَّذَّاتِ وَالْمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ {وَتَرَبَّصْتُمْ} أَيْ أَخَّرْتُمُ التَّوْبَةَ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وقت، وقال قتادة: {تربصتم} بِالْحَقِّ وَأَهْلِهِ، {وَارْتَبْتُمْ} أَيْ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، {وغوتكم الأماني} أي قلتم: سيغفر لنا، وقبل غَرَّتْكُمُ الدُّنْيَا {حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ} أَيْ ما زلتم في هذا حتى جاءكم الموت، {وَغَرَّكُم بالله الغرور} أي الشيطان، وقال قَتَادَةُ: كَانُوا عَلَى خَدْعَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ وَاللَّهِ مَا زَالُوا عَلَيْهَا حَتَّى قَذَفَهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُنَافِقِينَ: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ مَعَنَا أَيْ بِأَبْدَانٍ لَا نِيَّةَ لَهَا وَلَا قُلُوبَ مَعَهَا، وَإِنَّمَا كُنْتُمْ فِي حَيْرَةٍ وَشَكٍّ فَكُنْتُمْ تُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا تَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُنَافِي قَوْلَهُمُ الذي أخبر الله تعالى به عنهم حيث يقول: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سقر}؟ فَهَذَا إِنَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ لهم والتوبيخ؛ ثم قَالَ تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ لَوْ جَاءَ أَحَدُكُمُ الْيَوْمَ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَمِثْلِهِ مَعَهُ لِيَفْتَدِيَ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا قُبِلَ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ تعالى: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ} أَيْ هِيَ مَصِيرُكُمْ وَإِلَيْهَا مُنْقَلَبُكُمْ، وقوله تعالى: {هِيَ مَوْلاَكُمْ} أَيْ هِيَ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ كُلِّ مَنْزِلٍ، عَلَى كُفْرِكُمْ وَارْتِيَابِكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.

- 16 - أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ - 17 - اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

يقول تَعَالَى: أَمَا آنَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، أَيْ تَلِينَ عِنْدَ الذِّكْرِ وَالْمَوْعِظَةِ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ، فَتَفْهَمَهُ وَتَنْقَادَ لَهُ وَتَسْمَعَ لَهُ وتطيعه، قال ابن عباس: أن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فَعَاتَبَهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} الْآيَةَ (رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم). وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} الْآيَةَ إِلَّا أَرْبَعُ سنين (رواه مسلم والنسائي)، وقوله تعالى: {وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} نَهَى اللَّهُ تعالى المؤمنين، أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قَبْلَهُمْ، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمَّا تَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ الَّذِي بِأَيْدِيهمْ، وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قليلاً، ونبذوه وراء ظهورهم، وَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، فَلَا يَقْبَلُونَ مَوْعِظَةً، وَلَا تَلِينُ قُلُوبُهُمْ بِوَعْدٍ وَلَا وَعِيدٍ، {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أَيْ فِي الْأَعْمَالِ، فَقُلُوبُهُمْ فَاسِدَةٌ وأعمالهم باطلة، كما قال تَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عن مواضعه} أَيْ فَسَدَتْ قُلُوبُهُمْ فَقَسَتْ، وَصَارَ مِنْ سَجِيَّتِهِمْ تَحْرِيفُ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَتَرَكُوا الْأَعْمَالَ الَّتِي أُمروا بِهَا، وَارْتَكَبُوا مَا نُهُوا عَنْهُ، وَلِهَذَا نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي شيء من الأمور الأصلية والفرعية. روى أبو جعفر الطبري، عن ابن مسعود قَالَ: "إِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وَقَسَتْ قُلُوبُهُمُ، اخْتَرَعُوا كِتَابًا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمُ اسْتَهْوَتْهُ قُلُوبُهُمْ وَاسْتَحَلَّتْهُ أَلْسِنَتُهُمْ، وَقَالُوا: نعرض بني إسرائيل على هَذَا الْكِتَابَ، فَمَنْ آمَنَ بِهِ تَرَكْنَاهُ، وَمَنْ كَفَرَ بِهِ قَتَلْنَاهُ، قَالَ: فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ كِتَابَ اللَّهِ فِي قَرْنٍ، ثُمَّ جَعَلَ الْقَرْنَ بَيْنَ ثَنْدُوَتَيْهِ فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِهَذَا؟ قَالَ: «آمَنْتُ بِهِ وَيُومِئُ إِلَى الْقَرْنِ بَيْنَ ثَنْدُوَتَيْهِ، وَمَالِي لَا أُؤْمِنُ بِهَذَا الْكِتَابِ؟ فَمِنْ خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن» (أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود موقوفاً)، وقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فِيهِ إشارة إلى أن الله يُلِينُ الْقُلُوبَ بَعْدَ قَسْوَتِهَا، وَيَهْدِي الْحَيَارَى بَعْدَ ضَلَّتِهَا، وَيُفَرِّجُ الْكُرُوبَ بَعْدَ شِدَّتِهَا، فَكَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ الْمَيِّتَةَ الْمُجْدِبَةَ الْهَامِدَةَ بِالْغَيْثِ الْهَتَّانِ الْوَابِلِ، كَذَلِكَ يَهْدِي الْقُلُوبَ الْقَاسِيَةَ بِبَرَاهِينِ الْقُرْآنِ وَالدَّلَائِلِ، ويولج إليها النور بعد أن كَانَتْ مُقْفَلَةً لَا يَصِلُ إِلَيْهَا الْوَاصِلُ، فَسُبْحَانَ الهادي لمن يشاء بعد الضلال، وَالْمُضِلِّ لِمَنْ أَرَادَ بَعْدَ الْكَمَالِ، الَّذِي هُوَ لما يشاء فعال، وهو الحكيم الْعَدْلُ فِي جَمِيعِ الْفِعَالِ، اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الْكَبِيرُ المتعال.

- 18 - إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ - 19 - وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا يُثِيبُ بِهِ {المُصَّدِقين والمُصَّدِقات} بأموالهم على أهل الحاجة والفكر وَالْمَسْكَنَةِ {وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} أَيْ دَفَعُوهُ بنية خالصة ابتغاء مرضاة اللَّهِ، لَا يُرِيدُونَ جَزَاءً مِمَّنْ أَعْطَوْهُ وَلَا شُكُورًا، وَلِهَذَا قَالَ: {يُضَاعَفُ لَهُمْ} أَيْ يُقَابِلُ لهم الحسنة بعشر أمثالها، ويزاد إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَفَوْقَ ذَلِكَ، {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي ثواب جزيل ومآب كريم، وقوله تعالى: {والذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولَهُ أولئك هُمُ الصديقون} هذا تمام الجملة، وصف المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون، وقال ابن عباس: {أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} هَذِهِ مَفْصُولَةٌ، {وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ}، وَقَالَ أَبُو الضُّحَى {أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ}. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْكَلَامَ، فَقَالَ: {والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ}، عن ابن مسعود قَالَ: هُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ يَعْنِي: (المُصَدقين، وَالصِّدِّيقِينَ، والشهداء) كما قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الذين أنعم عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} فَفَرَّقَ بَيْنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا صنفان، ولا شك أن الصديق أعلى مقام من الشهيد، كما روى الإمام مالك، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ الجنة ليترءون أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بينهم» قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: «بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بالله وصدقوا المرسلين» (أخرجه الشيخان والإمام مالك). وقال آخرون: بل المراد من قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ} فَأَخْبَرَ عن المؤمنين بالله ورسوله بأنهم صديقون وشهداء، وقوله تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ} أَيْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حيث شاءت» الحديث. وقوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي لهم عند الله أَجْرٌ جَزِيلٌ، وَنُورٌ عَظِيمٌ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَتَفَاوَتُونَ بِحَسَبِ مَا كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "الشُّهَدَاءُ أَرْبَعَةٌ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ، لَقِيَ العدو فصدق الله فقتل، فذاك الَّذِي يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهِ هَكَذَا «وَرَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى سَقَطَتْ قَلَنْسُوَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وقلنسوة عُمَرَ،» وَالثَّانِي مُؤْمِنٌ لَقِيَ الْعَدُوَّ فَكَأَنَّمَا يَضْرِبُ ظَهْرَهُ بِشَوْكِ الطَّلْحِ جَاءَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثُ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا لَقِيَ الْعَدُوَّ فصدق الله فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، وَالرَّابِعُ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ إِسْرَافًا كَثِيرًا لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الرابعة" (أخرجه أحمد والترمذي، وقال: حسن غريب). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} لَمَّا ذَكَرَ السُّعَدَاءَ وَمَآلَهُمْ، عَطَفَ بِذِكْرِ الْأَشْقِيَاءِ وبين حالهم.

- 20 - اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ - 21 - سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ العظيم

يقول تعالى موهناً أمر الحياة وَمُحَقِّرًا لَهَا: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} أَيْ إِنَّمَا حَاصِلُ أَمْرِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا هَذَا، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآب}، ثُمَّ ضَرَبَ تَعَالَى مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي أَنَّهَا زَهْرَةٌ فَانِيَةٌ وَنِعْمَةٌ زَائِلَةٌ فَقَالَ: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَ قُنُوطِ الناس، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ}، وقوله تعالى: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} أَيْ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ نَبَاتُ ذَلِكَ الزَّرْعِ الَّذِي نَبَتَ بِالْغَيْثِ، وَكَمَا يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ذَلِكَ، كَذَلِكَ تُعْجِبُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا الْكُفَّارَ، فَإِنَّهُمْ أَحْرَصُ شَيْءٍ عَلَيْهَا وَأَمْيَلُ النَّاسِ إِلَيْهَا، {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} أَيْ يَهِيجُ ذَلِكَ الزَّرْعُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا بَعْدَ مَا كَانَ خَضِرًا نَضِرًا، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلُّهُ حُطَامًا، أَيْ يَصِيرُ يَبِسًا مُتَحَطِّمًا، هَكَذَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، تَكُونُ أَوَّلًا شَابَّةً، ثُمَّ تكتهل، ثم تكون عجوزاً شوهاء، والإنسان يكون كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ عُمْرِهِ وَعُنْفُوَانِ شَبَابِهِ غَضًّا طرياً لين الأعطاف، بهي المنظر، ثُمَّ يَكْبَرُ فَيَصِيرُ شَيْخًا كَبِيرًا ضَعِيفَ الْقُوَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قوة ضغفاً وشيبة}، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَثَلُ دَالًّا عَلَى زَوَالِ الدُّنْيَا وَانْقِضَائِهَا وَفَرَاغِهَا لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، حَذَّرَ مِنْ أَمْرِهَا وَرَغَّبَ فِيمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، فَقَالَ: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} أَيْ وَلَيْسَ فِي الْآخِرَةِ الْآتِيَةِ الْقَرِيبَةِ إِلَّا عذاب شديد، أو مغفرة من الله ورضوان، وقوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} أَيْ هي متاع فانٍ، يغتر بها من يَعْتَقِدَ أَنَّهُ لَا دَارَ سِوَاهَا وَلَا مَعَادَ وَرَاءَهَا، وَهِيَ حَقِيرَةٌ قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّارِ الآخرة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما فيها، اقرأوا: {وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} " (أخرجه ابن جرير، وهو في الصحيح ثابت بدون الزيادة). وروى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَلْجنَّة أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ» (أخرجه البخاري في الرقاق والإمام أحمد) فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اقْتِرَابِ الْخَيْرِ والشر من الإنسان، فلهذا حثه الله تعالى على المبادرة إلى الخيرات فقال الله تَعَالَى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وَالْمُرَادُ جِنْسُ السَّمَاءِ والأرض كما قال تعالى في الآية الأُخْرى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، وقال ههنا: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، أَيْ هَذَا الَّذِي أَهَّلَهُمُ اللَّهُ لَهُ هو من فضله عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، قَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ قَالَ: «أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ سَبَقْتُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ»، قَالَ، فَرَجَعُوا فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ مَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ».

- 22 - مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ - 23 - لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ - 24 - الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قَدَرِهِ السَّابِقِ فِي خَلْقِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ الْبَرِيَّةَ فَقَالَ: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ} أَيْ فِي الْآفَاقِ وَفِي نُفُوسِكُمْ، {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نخلق الخليقة ونبرأ النسمة، وقال بعضهم: الضمير عَائِدٌ عَلَى النُّفُوسِ، وَقِيلَ عَائِدٌ عَلَى الْمُصِيبَةِ، وَالْأَحْسَنُ عَوْدُهُ عَلَى الْخَلِيقَةِ وَالْبَرِيَّةِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عليها، كما روي عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ الْحَسَنِ فَقَالَ رَجُلٌ: سَلْهُ عَنْ قوله تعالى: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَّبْرَأَهَآ}، فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَمَنْ يَشُكُّ فِي هَذَا؟ كُلُّ مُصِيبَةٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَفِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْرَأَ النَّسَمَةَ، وَقَالَ قَتَادَةُ {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ} قَالَ: هِيَ السُّنُونَ يَعْنِي الْجَدْبَ {وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ} يَقُولُ: الْأَوْجَاعُ وَالْأَمْرَاضُ، قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُصِيبُهُ خدش عود، ولا نكبة قدم، ولا خلخال عَرَقٍ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ نُفَاةِ الْعِلْمِ السَّابِقِ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ -. روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَدَّرَ اللَّهُ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سنة» (أخرجه مسلم وأحمد ورواه الترمذي بالزيادة، وقال: حسن صحيح)، وزاد ابن وهب: {وكان عرشه على الماء}، وقوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أَيْ أَنَّ علمه تعالى الأشياء قبل كونها سهل عليه عزَّ وجلَّ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يكون، وقوله تعالى: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَآ آتَاكُمْ} أَيْ أَعْلَمْنَاكُمْ بِتَقَدُّمِ عِلْمِنَا وَسَبْقِ كِتَابَتِنَا لِلْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا، وَتَقْدِيرِنَا الْكَائِنَاتِ قَبْلَ وُجُودِهَا لِتَعْلَمُوا أَنَّ مَا أَصَابَكُمْ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكُمْ وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تيأسوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ {وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} أَيْ لَا تَفْخَرُوا عَلَى النَّاسِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسَعْيِكُمْ ولا بكدكم، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَرِزْقِهِ لَكُمْ، فَلَا تَتَّخِذُوا نِعَمَ اللَّهِ أَشَرًا وَبَطَرًا تَفْخَرُونَ بها على الناس، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أَيْ مُخْتَالٍ فِي نَفْسِهِ مُتَكَبِّرٍ فَخُورٍ، أَيْ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: «لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَفْرَحُ وَيَحْزَنُ، وَلَكِنِ اجْعَلُوا الْفَرَحَ شُكْرًا وَالْحُزْنَ صبراً»، ثم قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أَيْ يَفْعَلُونَ الْمُنْكَرَ وَيَحُضُّونَ النَّاسَ عَلَيْهِ، {وَمَن يَتَوَلَّ} أَيْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الغني الحميد}، كما قال: {إِنَّ تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حميد}.

- 25 - لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ

يَقُولُ تَعَالَى: {لَّقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَالْحُجَجِ الْبَاهِرَاتِ، وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب} وهو النقل الصدق {والميزان} وهو العدل الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ، الْمُخَالِفَةُ للآراء السقيمة كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ}، وقال تعالى: {فطرة الله التي فَطَرَ الناس عليها}، وقال تعالى: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان}، وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} أَيْ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الرُّسُلِ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَطَاعَتُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا بِهِ، ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوأوا غرف الجنات، والمنازل العاليات، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق}، وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أَيْ وَجَعَلْنَا الْحَدِيدَ رَادِعًا لِمَنْ أَبَى الْحَقَّ وَعَانَدَهُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً تُوحَى إِلَيْهِ السُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ وَكُلُّهَا جِدَالٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَبَيَانٌ وَإِيضَاحٌ لِلتَّوْحِيدِ، وبينات ودلالات، فَلَمَّا قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ خَالَفَ، شَرَعَ اللَّهُ الْهِجْرَةَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقِتَالِ بِالسُّيُوفِ وَضَرْبِ الرِّقَابِ، وقد روى الإمام أحمد، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجَعَلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تشبه بقوم فهو منهم» (أخرجه أحمد وأبو داود) وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} يَعْنِي السلاح كالسيوف والحراب والسنان وَنَحْوِهَا {وَمَنَافِعُ لِّلنَّاسِ} أَيْ فِي مَعَايِشِهِمْ كَالسِّكَّةِ والفأس والمنشار وَالْآلَاتِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا فِي الْحِرَاثَةِ وَالْحِيَاكَةِ والطبخ وغير ذلك، قال ابن عباس: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ نَزَلَتْ مَعَ آدَمَ: السَّنْدَانُ، وَالْكَلْبَتَانِ، والميقعة يعني المطرقة، وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} أَيْ من نيته في حمل السلاح ونصرة الله ورسوله {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أَيْ هُوَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ يَنْصُرُ مَنْ نَصَرَهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ مِنْهُ إِلَى النَّاسِ، وَإِنَّمَا شَرَعَ الْجِهَادَ لِيَبْلُوَ بعضكم ببعض.

- 26 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ - 27 - ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مُنْذُ بَعَثَ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يُرْسِلْ بَعْدَهُ رَسُولًا وَلَا نَبِيًّا إِلَّا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، لَمْ يرسل رسولاً إلا وهو من سلالته، كما قال تعالى في الآية الأُخْرَى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب} حَتَّى كَانَ آخِرُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ {عِيسَى بن مَرْيَمَ} الَّذِي بَشَّرَ مِنْ بَعْدِهِ بِمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وقفينا بعيسى بن مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ} وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} وهم الحواريون {رَأْفَةً} أي رقة وَهِيَ الْخَشْيَةُ {وَرَحْمَةً}

بالخلق، وقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} أي ابتدعها أُمَّةُ النَّصَارَى، {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أَيْ مَا شرعناها وَإِنَّمَا هُمُ الْتَزَمُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَوْلُهُ تعالى: {إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} فِيهِ قَوْلَانِ (أَحَدُهُمَا): أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، قاله سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ، (وَالْآخَرُ): مَا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ إِنَّمَا كَتَبْنَا عَلَيْهِمُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ الله، وقوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أَيْ فَمَا قَامُوا بِمَا الْتَزَمُوهُ حَقَّ الْقِيَامِ، وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ من وجهين: (أحدهما): الِابْتِدَاعِ فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ اللَّهُ، (وَالثَّانِي): فِي عَدَمِ قِيَامِهِمْ بِمَا الْتَزَمُوهُ مِمَّا زَعَمُوا أَنَّهُ قُرْبَةٌ يُقَرِّبُهُمْ إِلَى الله عزَّ وجلَّ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا ابْنَ مَسْعُودٍ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «هَلْ علمت أن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؟ لَمْ يَنْجُ مِنْهَا إِلَّا ثَلَاثُ فِرَقٍ، قَامَتْ بَيْنَ الْمُلُوكِ وَالْجَبَابِرَةِ بَعْدَ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَعَتْ إِلَى دِينِ اللَّهِ ودين عيسى بن مَرْيَمَ، فَقَاتَلَتِ الْجَبَابِرَةَ فَقُتِّلَتْ فَصَبَرَتْ وَنَجَتْ، ثُمَّ قامت طائفة أُخْرَى لم تكن لَهَا قُوَّةٌ بِالْقِتَالِ فَقَامَتْ بَيْنَ الْمُلُوكِ وَالْجَبَابِرَةِ، فدعوا إلى دين الله ودين عيسى بن مَرْيَمَ فَقُتِّلَتْ وَقُطِّعَتْ بِالْمَنَاشِيرِ وَحُرِّقَتْ بِالنِّيرَانِ فَصَبَرَتْ وَنَجَتْ، ثُمَّ قَامَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يَكُنْ لها قوة وَلَمْ تُطِقِ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ فَلَحِقَتْ بِالْجِبَالِ فَتَعَبَّدَتْ وترهبت وهم الذين ذكر الله تعالى {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عليهم}» (أخرجه ابن أبي حاتم، ورواه ابن جرير بطريق أُخْرَى ولفظ آخر). وروى الإمام أحمد، عن إياس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ رَهْبَانِيَّةٌ، وَرَهْبَانِيَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ». وفي رواية: «لِكُلِّ أُمَّةٍ رَهْبَانِيَّةٌ، وَرَهْبَانِيَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْجِهَادُ في سبيل الله» (أخرجه أحمد والحافظ أبو يعلى). وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ فَقَالَ: أَوْصِنِي، فَقَالَ: سَأَلْتَ عَمَّا سَأَلْتُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْلِكَ، أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ رَأَسُ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ روحك في السماء وذكرك في الأرض" (أخرجه الإمام أحمد).

- 28 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ - 29 - لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الفضل العظيم عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حقَّ اللَّهِ وحقَّ مَوَالِيهِ فَلَهُ أَجْرَانِ، ورجل أدّب أَمَتَهُ فأحسن تأيبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران" (أخرجه البخاري ومسلم). وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا افْتَخَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى عليه هَذِهِ الْآيَةَ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} أي ضعفين {مِن رَّحْمَتِهِ}، وَزَادَهُمْ {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} يَعْنِي هُدًى يُتَبَصَّرُ بِهِ مِنَ الْعَمَى وَالْجَهَالَةِ {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ففضلهم بالنور والمغفرة. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ

سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثلكم وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ أَلَا فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَن يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ الظهر إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ أَلَا فَعَمِلَتِ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَن يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين عَمِلْتُمْ، فَغَضِبَتِ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ، وَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً، قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مَنْ أَجْرِكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنَّمَا هُوَ فضلي أوتيه من أشاء" (أخرجه الإمام أحمد). وروى البخاري، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كمثل رجل استعمل قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا، يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ عَلَى أَجْرٍ مَعْلُومٍ، فَعَمِلُوا إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِي أَجْرِكَ الَّذِي شَرَطْتَ لَنَا وَمَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ وَخُذُوا أَجْرَكُمْ كَامِلًا، فَأَبَوْا وَتَرَكُوا، وَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ بِعْدَهُمْ، فَقَالَ: أكملوا يَوْمِكُمْ وَلَكُمُ الَّذِي شَرَطْتُ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ صَلَّوُا الْعَصْرَ، قَالُوا: مَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ وَلَكَ الْأَجْرُ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ، فإنما بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ شَيْءٌ يَسِيرٌ فَأَبَوْا، فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا أَنْ يَعْمَلُوا لَهُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ، فَعَمِلُوا بقية يومهم حتى غابت الشمس فاستكملوا أجرة الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَذَلِكَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ مَا قَبِلُوا من هذا النور" (رواه البخاري في صحيحه). وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ} أَيْ لِيَتَحَقَّقُوا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى رَدِّ ما أعطاه الله ولا إِعْطَاءِ مَا مَنَعَ اللَّهِ. {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ العظيم}. قال ابن جرير: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} أي ليعلم، وعن ابن مسعود أنه قرأها: لكي يعلم لِأَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ (لَا) صِلَةً فِي كُلِّ كلام دخل أوله أو آخره جَحْدٌ غَيْرُ مُصَرَّحٍ، فَالسَّابِقُ كَقَوْلِهِ: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ}، {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.

58 - سورة المجادلة.

- 58 - سورة المجادلة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُكَلِّمُهُ، وَأَنَا فِي ناحية البيت ما أسمع ماتقول، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إِلَى آخَرِ الآية (أخرجه البخاري تعليقاً، ورواه النسائي وابن ماجه) وفي رواية عنها أَنَّهَا قَالَتْ: تَبَارَكَ الَّذِي أَوْعَى سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ، إِنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ (خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ) وَيَخْفَى عليَّ بَعْضُهُ، وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ تقول: يا رسول الله أكل مالي، وأفنى شَبَابِي، وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي، حَتَّى إِذَا كبرتْ سِنِّي وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ، قَالَتْ: فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}، قالت: وزوجها أوس بن الصامت (أخرجه ابن أبي حاتم من حديث عائشة رضي الله عنها) وروى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد قَالَ: "لقيتْ امرأةٌ عُمَرَ يُقَالُ لَهَا (خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ) وَهُوَ يَسِيرُ مَعَ النَّاسِ، فَاسْتَوْقَفَتْهُ، فَوَقَفَ لَهَا وَدَنَا مِنْهَا وَأَصْغَى إِلَيْهَا رَأْسَهُ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْهَا، حَتَّى قَضَتْ حَاجَتَهَا وَانْصَرَفَتْ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَبَسْتَ رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ، قَالَ: وَيْحَكَ وَتَدْرِي مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ لَا، قَالَ: هَذِهِ امْرَأَةٌ سَمِعَ اللَّهُ شَكْوَاهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، وَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَنْصَرِفْ عَنِّي إِلَى اللَّيْلِ مَا انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها، إلا أَنْ تَحْضُرَ صَلَاةٌ فَأُصَلِّيَهَا، ثُمَّ أَرْجِعَ إِلَيْهَا حتى تقضي حاجتها" (أخرجه ابن أبي حاتم وهو مُنْقَطِعٌ بَيْنَ أَبِي يَزِيدَ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كما قاله ابن كثير) وعن عَامِرٍ قَالَ: الْمَرْأَةُ الَّتِي جَادَلَتْ فِي زَوْجِهَا خولة امرأة (أوس بن الصامت) وأمها معاذة.

- 2 - الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ - 3 - وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ - 4 - فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ روى الإمام أحمد، عن خولة بنت ثغلبة، قَالَتْ: فِيَّ وَاللَّهِ وَفِي أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ أَنْزَلَ اللَّهُ صَدْرَ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَهُ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ سَاءَ خُلُقُهُ، فدخل عليّ يوماً فراجعته بشئ فَغَضِبَ، فَقَالَ: أنتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، قَالَتْ: ثم خرج فلبس فِي نَادِي قَوْمِهِ سَاعَةً، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ، فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَنْ نَفْسِي، قَالَتْ، قُلْتُ: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ لَا تَخْلُصُ إِلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ حَتَّى يَحْكُمَ الله ورسوله فينا بحكمه، قالت فواثبني فامتنعت بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ، فَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي، قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ جَارَاتِي فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابًا، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ مَا لَقِيتُ مِنْهُ وَجَعَلْتُ أَشْكُو إِلَيْهِ مَا أَلْقَى مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ، قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا خُوَيْلَةُ ابْنُ عَمِّكِ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَاتَّقِي اللَّهَ فِيهِ» قَالَتْ: فوالله ما برحت، حتى نزل فيّ قرآن، فتغشى رسول الله ماكان يَتَغَشَّاهُ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ لِي: «يَا خُوَيْلَةُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ قرآناً» ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} إلى قوله تعالى {وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قَالَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً»، قَالَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَهُ مَا يُعْتِقُ، قَالَ: «فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ»، قَالَتْ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لشيخ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ، قَالَ: «فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ»، قَالَتْ، فَقُلْتُ: والله يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا ذَاكَ عِنْدَهُ، قَالَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فإنا سنعينه بفرق مِنْ تَمْرٍ" قَالَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وأنا سأعينه بفرق آخر، قال: «قد أَصَبْتِ وَأَحْسَنْتِ فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي بِهِ عَنْهُ ثُمَّ استوصي بابن عمك خيراً» قالت: ففعلت (أخرجه أحمد وأبو داود) هذا هو الصحيح في سبب نزول هذه السورة، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَنْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ (أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ) أَخُو عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَامْرَأَتُهُ (خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكٍ) فَلَمَّا ظَاهَرَ مِنْهَا خَشِيَتْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ طَلَاقًا، فأتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَوْسًا ظَاهَرَ مِنِّي، وَإِنَّا إِنِ افْتَرَقْنَا هَلَكْنَا، وَقَدْ نَثَرْتُ بَطْنِي مِنْهُ وَقَدُمَتْ صُحْبَتُهُ، وَهِيَ تَشْكُو ذَلِكَ وَتَبْكِي، وَلَمْ يَكُنْ جَاءَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، فأنزل الله تَعَالَى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله} إلى قوله تعالى {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَتَقْدِرُ عَلَى رَقَبَةٍ تُعْتِقُهَا»؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا، قَالَ، فَجَمَعَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَعْتَقَ عتقه، ثم راجع أهله (رواه ابن جرير، قال ابن كثير: وإلى ماذكرناه ذهب ابن عباس والأكثرون). وقوله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ} أَصْلُ الظِّهَارِ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كانوا إذا ظاهر أحدهم مِنِ امْرَأَتِهِ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أمي، وَكَانَ الظِّهَارُ عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ طَلَاقًا فَأَرْخَصَ اللَّهُ لهذه

الْأُمَّةِ وَجَعَلَ فِيهِ كَفَّارَةً وَلَمْ يَجْعَلْهُ طَلَاقًا كَمَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، هَكَذَا قَالَ غير واحد من السلف، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ الْإِيلَاءُ وَالظِّهَارُ مِنْ طَلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ فَوَقَّتَ اللَّهُ الْإِيلَاءَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَجَعَلَ فِي الظِّهَارِ الْكَفَّارَةَ (رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم)، وقوله تعالى: {ما هن أمهاتكم إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} أَيْ لَا تَصِيرُ الْمَرْأَةُ بِقَوْلِ الرَّجُلِ أَنْتِ عَلَيَّ كأُمّي، أَوْ مِثْلُ أُمي، أَوْ كَظَهْرِ أُمي وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لَا تَصِيرُ أُمه بِذَلِكَ إِنَّمَا أمه التي ولدته، ولهذا قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} أَيْ كَلَامًا فَاحِشًا بَاطِلًا، {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أَيْ عَمَّا كَانَ مِنْكُمْ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَكَذَا أَيْضًا عَمَّا خَرَجَ مِنْ سَبْقِ اللِّسَانِ ولم يقصد إليه المتكلم، كما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُختي، فَقَالَ: «أُختك هي زوجتك؟» (رواه أبو داود) فَهَذَا إِنْكَارٌ، وَلَكِنْ لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ، وَلَوْ قَصَدَهُ لَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ عَلَى الصَّحِيحِ بَيْنَ الأُم وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْمَحَارِمِ مِنْ أُخت وعمَّة وَخَالَةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تعالى {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْعَوْدُ هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى لَفْظِ الظِّهَارِ فَيُكَرِّرَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حزم، وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد المظاهرة زَمَانًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِيهِ فَلَا يُطَلِّقَ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْجِمَاعِ أَوْ يَعْزِمَ عَلَيْهِ فَلاَ تَحِلُّ لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ بِهَذِهِ الْكَفَّارَةِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْجِمَاعِ أَوِ الْإِمْسَاكِ وَعَنْهُ أَنَّهُ الْجِمَاعُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الظِّهَارِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ وَرَفْعِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَتَى ظاهر الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ فَقَدْ حَرَّمَهَا تَحْرِيمًا لَا يرفعه إلا الكفارة، وعن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} يَعْنِي يُرِيدُونَ أَنْ يَعُودُوا فِي الْجِمَاعِ الَّذِي حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي الْغِشْيَانَ فِي الْفَرْجِ وَكَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يُغْشَى فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ قَبْلَ أَنْ يكفر. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا} وَالْمَسُّ النِّكَاحُ (وَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ)، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَبِّلَهَا وَلَا يَمَسَّهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ، فَقَالَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟» قَالَ: رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، قَالَ: «فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أمرك الله عزَّ وجلَّ» (أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه) وقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أَيْ فَإِعْتَاقُ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ مِنْ قبل أن يتمآسا، فههنا الرَّقَبَةُ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِالْإِيمَانِ، وَفِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مُقَيَّدَةٌ بِالْإِيمَانِ، فَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ما أطلق ههنا عَلَى مَا قُيِّدَ هُنَاكَ لِاتِّحَادِ الْمُوجَبِ، وَهُوَ عتق الرقبة، وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أَيْ تُزْجَرُونَ بِهِ، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أَيْ خَبِيرٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ {عَلِيمٌ} بأحوالكم، وقوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} قد تقدمت الأحاديث الآمرة بِهَذَا عَلَى التَّرْتِيبِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ الَّذِي جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي رَمَضَانَ {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَيْ شَرَعْنَا هَذَا لهذا، وقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أَيْ مَحَارِمُهُ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا. وقوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَا الْتَزَمُوا بِأَحْكَامِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، لَا تَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ نَاجُونَ مِنَ الْبَلَاءِ، كَلَّا لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، بَلْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

- 5 - إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ - 6 - يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ - 7 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّنْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَعَانَدُوا شَرْعَهُ {كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ أُهِينُوا وَلُعِنُوا وَأُخْزُوا كَمَا فُعِلَ بِمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ، {وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} أي واضحات لا يعاندها ولا يخالفها إلاّ كافر فاجر مكابر، {وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ شَرْعِ اللَّهِ، وَالِانْقِيَادِ لَهُ وَالْخُضُوعِ لَدَيْهِ، ثُمَّ قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} وَذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يجمع الله الأولين الآخرين فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} أَيْ فيخبرهم بِالَّذِي صَنَعُوا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} أَيْ ضَبَطَهُ اللَّهُ وَحَفِظَهُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ قد نسوا ما كانوا عملوا، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أَيْ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَخْفَى وَلَا يَنْسَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِخَلْقِهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِمْ وَسَمَاعِهِ كَلَامَهُمْ وَرُؤْيَتِهِ مَكَانَهُمْ حيث كانوا وأين كانوا، فقال تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ} أي من سر ثلاثة {إلاهو رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ، وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أينما كَانُواْ}، أي مطلع عَلَيْهِمْ يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ وَسِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ، وَرُسُلُهُ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ تَكْتُبُ مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ مَعَ علم الله به وسمعه له، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب}، وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم. بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يكتبون}، وَلِهَذَا حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ المراد بهذه معية علمه تَعَالَى، وَلَا شَكَّ فِي إِرَادَةِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ سَمْعَهُ أَيْضًا مَعَ عِلْمِهِ مُحِيطٌ بِهِمْ وَبَصَرَهُ نافذ فيهم، فهو سبحانه وتعالى مُطَّلِعٌ عَلَى خَلْقِهِ لَا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْ أمورهم شيء، ثم قال تعالى: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: افتتح الآية واختتمها بالعلم.

- 8 - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاؤوك حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ - 9 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالْإِثْمِ والعدوان ومعصية الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ - 10 - إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ

الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْيَهُودِ مُوَادَعَةٌ، وَكَانُوا إِذَا مَرَّ بِهِمْ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسُوا يَتَنَاجَوْنَ بَيْنَهُمْ، حَتَّى يَظُنَّ الْمُؤْمِنُ أَنَّهُمْ يَتَنَاجَوْنَ بِقَتْلِهِ أَوْ بِمَا يَكْرَهُ الْمُؤْمِنُ، فَإِذَا رأى ذَلِكَ خَشِيَهُمْ فَتَرَكَ طَرِيقَهُ عَلَيْهِمْ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّجْوَى، فَلَمْ ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عنه} (روي هذا عن مجاهد ومقاتل بن حيان) وقوله تعالى: {وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان ومعصية الرَّسُولِ} أَيْ يَتَحَدَّثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالْإِثْمِ وَهُوَ ما يختص بهم، {العدوان} وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِمْ، وَمِنْهُ مَعْصِيَةُ الرَّسُولِ ومخالفته، يصرون عليها ويتواصون بها، وقوله تَعَالَى: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله}. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودُ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَعَلَيْكُمُ السام، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ياعائشة إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ»، قُلْتُ: أَلَا تَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ: السَّامُ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أو سمعتِ ما أقول وعليكم؟»، فأنزل الله تَعَالَى: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} (أخرجه ابن أبي حاتم). وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُمْ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَالذَّامُ وَاللَّعْنَةُ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ يُسْتَجَابُ لَنَا فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِينَا» وروى ابن جرير، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ أَتَى عَلَيْهِمْ يَهُودِيٌّ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ؟» قَالُوا: سَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "بَلْ قَالَ: سَامٌ عَلَيْكُمْ" أَيْ تُسَامُونَ دِينَكُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ردوه»، فردوه عَلَيْهِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقُلْتَ سَامٌ عَلَيْكُمْ؟» قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُولُوا: عَلَيْكَ" (أصله في الصحيحين، وهذا الحديث روي عن عائشة في الصحيح بنحوه)، أي عليك ما قلت. وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} أي يفعلون هذا وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْ كَانَ هَذَا نبِيًّا لَعَذَّبَنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ لَهُ فِي الْبَاطِنِ لَأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا نُسِرُّهُ، فَلَوْ كَانَ هَذَا نبياً حقاً لأوشك الله أن يعاجلنا بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} أَيْ جَهَنَّمُ كِفَايَتُهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ {يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير}، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَامٌ عَلَيْكَ. ثُمَّ يَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ: لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ * حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (أخرجه الإمام أحمد). وقال ابن عباس: كان المنافقون يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حيوه: سام عليك، قال الله تعالى: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، ثُمَّ قَالَ تعالى مؤدبا عباده المؤمنين أن لا يَكُونُوا مِثْلَ الْكَفَرَةِ وَالْمُنَافِقِينَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ومعصية الرَّسُولِ} أَيْ كَمَا يَتَنَاجَى بِهِ الْجَهَلَةُ مِنْ كَفَرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ مَالَأَهُمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، {وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى

وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أَيْ فَيُخْبِرُكُمْ بجميع أعمالكم وأقوالكم التي قد أحصاها عليكم وسيجزيكم بها، روى الإمام أحمد عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِيَدِ ابْنِ عُمَرَ إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عليه كتفه وَيَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ وَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنْ قَدْ هَلَكَ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الْأَشْهَادِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ). ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أَيْ إِنَّمَا النَّجْوَى وَهِيَ الْمُسَارَّةُ حَيْثُ يَتَوَهَّمُ مُؤْمِنٌ بِهَا سُوءًا، {مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُواْ} يَعْنِي إِنَّمَا يَصْدُرُ هَذَا مِنَ الْمُتَنَاجِينَ عَنْ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ وَتَزْيِينِهِ {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُواْ} أَيْ لِيَسُوءَهُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ {بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَمَنْ أَحَسَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلِيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَةُ بِالنَّهْي عَنِ التَّنَاجِي حَيْثُ يَكُونُ فِي ذَلِكَ تَأَذٍّ عَلَى مؤمن، كما روى ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه» (أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود).

- 11 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يَقُولُ تَعَالَى مُؤَدِّبًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَآمِرًا لَهُمْ أَنْ يُحْسِنَ بَعْضُهُمْ إِلَى بعض في المجلس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ}، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»، قَالَ قَتَادَةُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا رَأَوْا أَحَدَهُمْ مُقْبِلًا ضَنُّوا بِمَجَالِسِهِمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرهم الله تعالى أَنْ يُفْسِحَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يوم الجمعة، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذٍ فِي الصُّفَّةِ، وَفِي الْمَكَانِ ضِيقٌ، وَكَانَ يُكْرِمُ أَهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَقَدْ سَبَقُوا إِلَى الْمَجَالِسِ، فَقَامُوا حِيَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم عليهم، ثُمَّ سَلَّمُوا عَلَى الْقَوْمِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ، فَقَامُوا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُوَسَّعَ لَهُمْ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْقِيَامِ، فَلَمْ يُفْسَحْ لَهُمْ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ بَدْرٍ: «قُمْ يَا فُلَانُ وَأَنْتَ يَا فُلَانُ» فَلَمْ يَزَلْ يُقِيمُهُمْ بِعِدَّةِ النَّفَرِ الَّذِينَ هُمْ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ المهاجرين والأنصار أَهْلِ بَدْرٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَن أُقِيمَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَرَاهَةَ فِي وُجُوهِهِمْ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ؟ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَاهُ قَبْلُ عَدَلَ عَلَى هَؤُلَاءِ، إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيّهم، فَأَقَامَهُمْ، وَأَجْلَسَ مَنْ أَبْطَأَ عَنْهُ، فَبَلَغَنَا أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله رجلاً يفسح لأخيه»، فجعلوا يقومون بعد ذلك

سراعاً فيفسح الْقَوْمُ لِإِخْوَانِهِمْ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ (رواه ابن أبي حاتم). وقد ورد عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُقِمِ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ فَيَجْلِسَ فِيهِ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وتوسعوا» (أخرجه الشيخان وأحمد). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لايقم الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسْ فِيهِ، ولكن افسحوا يفسح الله لكم» (أخرجه الإمام أَحْمَدُ). وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْقِيَامِ لِلْوَارِدِ إِذَا جَاءَ عَلَى أَقْوَالٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِحَدِيثِ: "قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِحَدِيثِ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ فَقَالَ: يَجُوزُ عِنْدَ الْقُدُومِ مِنْ سَفَرٍ، وَلِلْحَاكِمِ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قِصَّةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَإِنَّهُ لِمَا اسْتَقْدَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاكِمًا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَرَآهُ مُقْبِلًا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيَكُونَ أَنْفَذَ لِحُكْمِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَأَمَّا اتِّخَاذُهُ دَيْدَنًا فَإِنَّهُ مِنْ شِعَارِ الْعَجَمِ، وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَنِ أنه لم يكن شخص أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ إِذَا جَاءَ لَا يَقُومُونَ لَهُ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي السُّنَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْلِسُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ، وَلَكِنْ حَيْثُ يَجْلِسُ يَكُونُ صَدْرُ ذَلِكَ المجلس؛ فكان الصَّحَابَةُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَجْلِسُونَ مِنْهُ عَلَى مراتبهم، فالصديق رضي الله عنه يُجْلِسُهُ عَنْ يَمِينِهِ وَعُمَرُ عَنْ يَسَارِهِ؛ وَبَيْنَ يَدَيْهِ غَالِبًا عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ لِأَنَّهُمَا كَانَا مِمَّنْ يكتب الوحي، وكان يأمرهما بذلك؛ كما روى مسلم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم كان يقول: «ليلني مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثم الذين يلونهم» (أخرجه مسلم في صحيحه)، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيَعْقِلُوا عَنْهُ مَا يَقُولُهُ صلوات الله وسلامه عليهم، وفي الحديث الصحيح: بينا رسول الله جَالِسٌ إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَأَمَّا أَحَدُهُمْ فَوَجَدَ فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَدَخَلَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ وَرَاءَ النَّاسِ، وَأَدْبَرَ الثَّالِثُ ذَاهِبًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَبَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أَمَّا الْأَوَّلُ فَآوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ الله عنه». وروى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلَّا بإذنهما» (أخرجه الإمام أحمد). وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قِيلَ لَكُمُ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ} يَعْنِي فِي مَجَالِسِ الْحَرْبِ، قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وإذا قيل لكم انْشُزُوا فَانشُزُواْ} أَيِ انْهَضُوا لِلْقِتَالِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَإِذَا قِيلَ لكم انْشُزُوا فَانشُزُواْ} أَيْ إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى خَيْرٍ فأجيبوا، وقال مقاتل: إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا إليها، وقوله تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أَيْ لَا تَعْتَقِدُوا أَنَّهُ إِذَا فَسَحَ أَحَدٌ مِنْكُمْ لأخيه أن ذلك يكون نقصاً في حقه، بل هو رفعة ورتبة عِنْدَ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُضَيِّعُ ذَلِكَ لَهُ، بَلْ يَجْزِيهِ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ مَنْ تَوَاضَعَ لِأَمْرِ اللَّهِ رَفَعَ اللَّهُ قدره ونشر ذكره، ولهذا قَالَ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ

الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، أَيْ خَبِيرٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ وَبِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ، روى الإمام أحمد، عن أبي الطفيل أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَنِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ قَالَ: اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمُ ابْنَ أَبْزَى رجل من موالينا، فقال عمر: اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ، قَاضٍ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين» (أخرجه أحمد ورواه مسلم من غير وجه عن الزهريّ)، وَقَدْ ذَكَرْتُ فَضْلَ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مُسْتَقْصَاةً فِي «شَرْحِ كِتَابِ الْعِلْمِ» مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

- 12 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ - 13 - أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُنَاجِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ يُسَارُّهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُ وَتُزَكِّيهِ وَتُؤَهِّلُهُ لأن يصلح لهذا المقام، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ}، ثم قال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ} أَيْ إِلَّا مِنْ عَجَزَ عن ذلك لفقره، {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فَمَا أَمَرَ بِهَا إلاّ من قدر عليها، ثم قال تعالى: {ءَأَشفقتم أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} أَيْ أَخِفْتُمْ مِنَ اسْتِمْرَارِ هَذَا الْحُكْمِ عَلَيْكُمْ مِنْ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ، {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وتاب عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فَنُسَخَ وُجُوبُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ نَسْخِهَا سِوَى عَلِيِّ بْنِ أبي طالب رضي الله عنه، قال مجاهد: نُهُوا عَنْ مُنَاجَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَتَصَدَّقُوا فَلَمْ يُنَاجِهِ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَدَّمَ دِينَارًا صَدَقَةً تَصَدَّقَ بِهِ، ثُمَّ نَاجَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ عَشْرِ خِصَالٍ، ثُمَّ أُنْزِلَتِ الرخصة، وقال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، كَانَ عِنْدِي دِينَارٌ فَصَرَفْتُهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَكُنْتُ إِذَا نَاجَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصَدَّقْتُ بِدِرْهَمٍ، فَنُسِخَتْ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} (هذه رواية ليث بن أبي سليم عن مجاهد) الآية. وقال ابن عباس {فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُوا الْمَسَائِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى شَقُّوا عَلَيْهِ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فلما قال ذلك جبن كثير من المسلمين، وَكَفُّوا عَنِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وتاب عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} فَوَسَّعَ اللَّهُ عليهم ولم يضيق، وقال قتادة ومقاتل: سَأَلَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حتى أحفوه بالمسألة، ففطمهم اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذا كَانَتْ لَهُ الْحَاجَةُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْضِيَهَا، حَتَّى يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ صَدَقَةً، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ بَعْدَ ذَلِكَ: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

- 14 - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ - 15 - أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ - 16 - اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ - 17 - لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - 18 - يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ - 19 - اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ يقول الله تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي مُوَالَاتِهِمُ الْكُفَّارَ فِي الْبَاطِنِ، وَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا مَعَهُمْ وَلَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَلاَ إِلَى هؤلاء}، وقال ههنا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} يَعْنِي الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يمالئونهم ويوالونهم في الباطن، ثم قال تعالى: {مَّا هُم مِّنكُمْ ولامنهم} أي هؤلاء المنافقون ليسوا في الحقيقة منكم أيها المؤمنون، وَلاَ مِنَ الذين يوالونهم وهم اليهود، ثم قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا حَلَفُوا وَهِيَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَلَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ حَالِهِمُ اللَّعِينِ عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا، وإذا جاءوا الرسول حلفوا لَهُ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ فِيمَا حَلَفُوا بِهِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ صِدْقَ مَا قَالُوهُ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُطَابِقًا، وَلِهَذَا شَهِدَ اللَّهُ بِكَذِبِهِمْ في أيمانهم وشهادتهم لذلك، ثم قال تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أَيْ أَرْصَدَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ وَهِيَ مُوَالَاةُ الْكَافِرِينَ وَنُصْحُهُمْ وَمُعَادَاةُ الْمُؤْمِنِينَ وَغِشُّهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ وَاتَّقَوْا بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ، فَظَنَّ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ صِدْقَهُمْ فَاغْتَرَّ بِهِمْ فَحَصَلَ بِهَذَا صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِبَعْضِ النَّاسِ {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}، أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا امْتَهَنُوا مِنَ الْحَلِفِ بِاسْمِ اللَّهِ الْعَظِيمِ فِي الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ الْحَانِثَةِ، ثُمَّ قَالَ تعالى: {لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً}، أَيْ لَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ بَأْسًا إِذَا جَاءَهُمْ: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} أَيْ يَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ آخِرِهِمْ فَلَا يُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَدًا، {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} أَيْ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ عزَّ وجلَّ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى وَالِاسْتِقَامَةِ كَمَا كَانُوا يَحْلِفُونَ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ مَنْ عَاشَ عَلَى شَيْءٍ مَاتَ عَلَيْهِ وَبُعِثَ عَلَيْهِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا كَانَ يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ النَّاسِ فَيُجْرُونَ عَلَيْهِمُ الْأَحْكَامَ الظَّاهِرَةَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} أَيْ حَلِفُهُمْ ذَلِكَ لِرَبِّهِمْ عَزَّ وجلَّ، ثُمَّ قَالَ تعالى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ حُسْبَانَهُمْ {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فأكد الخبر عنهم بالكذب، روى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حدَّثه أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي ظِلِّ حُجْرَةٍ مِنْ حُجَرِهِ وَعِنْدَهُ نفر من المسلمين، قد كاد يَقْلِصُ عَنْهُمُ الظِّلَّ، قَالَ: «إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إِنْسَانٌ يَنْظُرُ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ فَإِذَا أَتَاكُمْ فَلَا تُكَلِّمُوهُ». فجاء

رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ» نَفَرٌ دَعَاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ، فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَدَعَاهُمْ فَحَلَفُوا لَهُ وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجلَّ: {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه أحمد وابن جرير)، ثم قال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} أَيِ اسْتَحْوَذَ عَلَى قُلُوبِهِمُ الشَّيْطَانُ حَتَّى أَنْسَاهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ عزَّ وجلَّ، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ بِمَنِ استحوذ عليه، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لاتقام فيهم الصلاة إلاّ وقد اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذئب القاصية» (أخرجه أبو داود عن أبي الدرداء مرفوعاً). قَالَ السَّائِبُ: يَعْنِي الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} يَعْنِي الَّذِينَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخاسرون}.

- 20 - إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ - 21 - كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ - 22 - لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ يَعْنِي الَّذِينَ هُمْ فِي حَدٍّ وَالشَّرْعُ فِي حَدٍّ، أَيْ مُجَانِبُونَ لِلْحَقِّ مُشَاقُّونَ لَهُ، هُمْ فِي نَاحِيَةٍ وَالْهُدَى فِي نَاحِيَةٍ {أُولَئِكَ فِي الأذلين} أي في الأشقياء المبعدين الْأَذَلِّينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي} أَيْ قَدْ حَكَمَ وَكَتَبَ فِي كتابه الأول، وقدره الذي لايخالف ولايمانع ولايبدل، بأن النصرة له ولكُتُبه وَرُسُلِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِّلْمُتَّقِينَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}، وقال ههنا: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أَيْ كَتَبَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ أَنَّهُ الْغَالِبُ لِأَعْدَائِهِ، وَهَذَا قَدْرٌ مُحْكَمٌ وَأَمْرٌ مُبْرَمٌ أَنَّ الْعَاقِبَةَ وَالنُّصْرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} أَيْ لَا يُوَادُّونَ الْمُحَادِّينَ وَلَوْ كَانُوا مِنَ الْأَقْرَبِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} أنزلت هذه الآية {لاتجد قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إِلَى آخِرِهَا، في (أبي عبيدة بْنِ الْجَرَّاحِ) حِينَ قَتَلَ أَبَاهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ جُعِلَ الْأَمْرُ شُورَى بَعْدَهُ فِي أولئك الستة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ: ولم كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ حَيًّا لَاسْتَخْلَفْتُهُ، وَقِيلَ: فِي قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا آبَآءَهُمْ} نَزَلَتْ فِي أَبِي عُبَيْدَةَ قَتَلَ أَبَاهُ يَوْمَ بَدْرٍ،

{أَوْ أَبْنَآءَهُمْ} فِي الصِّدِّيقِ، همَّ يومئذٍ بِقَتْلِ ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ {أَوْ إِخْوَانَهُمْ} فِي مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ قَتَلَ أَخَاهُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يومئذٍ، {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} فِي عُمَرَ قَتَلَ قَرِيبًا لَهُ يومئذٍ أَيْضًا، وَفِي حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ وَعُبَيْدَةَ بن الحارث، قتلوا عتبة وشيبة والوليد ابن عتبة يومئذٍ، والله أعلم. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} أَيْ مَنِ اتَّصَفَ بِأَنَّهُ لَا يُوَادُّ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانَ أَبَاهُ أَوْ أَخَاهُ فَهَذَا مِمَّنْ كَتَبَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانَ، أَيْ كَتَبَ لَهُ السَّعَادَةَ وَقَرَّرَهَا في قلبه، وزين الإيمان في بصيرته، قال السُّدِّيُّ: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} أي قواهم، وقوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَّضِيَ الله عَنْهُمْ ررضوا عَنْهُ} كُلُّ هَذَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وفي قوله تعالى: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} سِرٌّ بَدِيعٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا سَخِطُوا عَلَى الْقَرَائِبِ وَالْعَشَائِرِ في الله تعالى عَوَّضَهُمُ اللَّهُ بِالرِّضَا عَنْهُمْ، وَأَرْضَاهُمْ عَنْهُ بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ، وَالْفَضْلِ العميم، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيْ هَؤُلَاءِ حِزْبُ اللَّهِ أَيْ عباد الله وأهل كرامته، وقوله تعالى: {إِلاَّ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تَنْوِيهٌ بفلاحهم وسعادتهم ونصرتهم في الدنيا والآخرة. وفي الحديث: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَخْفِيَاءَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَبْرِيَاءَ الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةٍ»، فَهَؤُلَاءِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المفلحون} (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقال الْحَسَنُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ وَلَا لِفَاسِقٍ عِنْدِي يَدًا وَلَا نِعْمَةً، فَإِنِّي وَجَدْتُ فِيمَا أَوْحَيْتَهُ إِلَيَّ: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} " (أخرجه أبو أحمد العسكري).

59 - سورة الحشر.

- 59 - سورة الحشر.

(وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سُورَةُ بَنِي النَّضِيرِ)

روى البخاري، عن سعيد بن جابر قَالَ، قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ الْحَشْرِ؟ قَالَ: سورة بني النضير.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - 2 - هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ - 3 - وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ - 4 - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ - 5 - مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأرض يسبّح له ويمجِّده، ويقدِّسه ويوحِّده كقوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع ومن فيهن إن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاتفقهون تسبيحهم}، وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أَيْ مَنِيعُ الْجَنَابِ {الْحَكِيمُ} فِي قدره وشرعه، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} يعني يهود بني النضير، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ هَادَنَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ عَهْدًا وَذِمَّةً على أن لا يُقَاتِلَهُمْ وَلَا يُقَاتِلُوهُ، فَنَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بينهم وبينه، فَأَجْلَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْرَجَهُمْ من حصونهم الحصينة التي ظنوا أَنَّهَا مَانِعَتُهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ، فَمَا أَغْنَى عنهم من الله شيئا، وجاءهم من الله مَا لَمْ يَكُنْ بِبَالِهِمْ، وَسَيَّرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَجْلَاهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ذَهَبُوا إِلَى (أذرِعات) مِنْ أَعَالِي الشَّامِ، وَهِيَ أَرْضُ المحشر

وَالْمَنْشَرِ، وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ ذَهَبُوا إِلَى (خَيْبَرَ) وَكَانَ قَدْ أَنْزَلَهُمْ مِنْهَا عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَّا حَمَلَتْ إِبِلُهُمْ، فَكَانُوا يُخَرِّبُونَ مَا فِي بُيُوتِهِمْ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ مَعَهُمْ، ولهذا قال تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أَيْ تَفَكَّرُوا فِي عَاقِبَةِ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَخَالَفَ رَسُولَهُ، وَكَذَّبَ كِتَابَهُ، كَيْفَ يَحِلُّ بِهِ مِنْ بَأْسِهِ الْمُخْزِي لَهُ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُهُ لَهُ فِي الآخرة من العذاب الأليم، روى أبو داود، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَتَبُوا إِلَى (ابن أبي) ومن معه يعبد الأوثان وَالْخَزْرَجِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذٍ بالمدينة قبل رجعة بدر إنكم أدنيتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لنخرجنكم، أَوْ لَنَسِيرَنَّ إِلَيْكُمْ بِأَجْمَعِنَا حَتَّى نَقْتُلَ مُقَاتِلَتَكُمْ ونسبي نِسَاءَكُمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ) وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ أجمعوا لِقِتَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهُمْ فَقَالَ: «لَقَدْ بَلَغَ وَعِيدُ قُرَيْشٍ مِنْكُمُ الْمَبَالِغَ، مَا كَانَتْ تَكِيدُكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُ أن تكيدوا به أنفسكم، يريدون أن يقاتلوا أَبْنَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ»، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَرَّقُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ كَفَّارَ قُرَيْشٍ، فَكَتَبَتْ كَفَّارُ قُرَيْشٍ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ إِلَى الْيَهُودِ، إِنَّكُمْ أَهْلُ الْحَلْقَةِ وَالْحُصُونِ وَإِنَّكُمْ لَتُقَاتِلُّنَ مَعَ صَاحِبِنَا أَوْ لَنَفْعَلَنَّ كَذَا وكذا، ولايحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء، وهو الْخَلَاخِيلُ، فَلَمَّا بَلَغَ كِتَابُهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أيقنت بَنُو النَّضِيرِ بِالْغَدْرِ، فَأَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْرُجْ إِلَيْنَا فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ لِيَخْرُجَ مِنَّا ثَلَاثُونَ حَبْرًا، حتى نلتقي بمكان النصف، وليسمعوا مِنْكَ، فَإِنْ صَدَّقُوكَ وَآمَنُوا بِكَ آمَنَّا بِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ غَدَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالكتائب فحصرهم فقال لهم: «إنكم والله لا تؤمنون عِنْدِي إِلَّا بِعَهْدٍ تُعَاهِدُونِي عَلَيْهِ»، فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُ عَهْدًا، فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ غَدَا من الْغَدُ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ بِالْكَتَائِبِ، وَتَرَكَ بَنِي النَّضِيرِ وَدَعَاهُمْ إِلَى أَنْ يُعَاهِدُوهُ فَعَاهَدُوهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ، وَغَدَا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ بِالْكَتَائِبِ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْجَلَاءِ فَجَلَتْ بَنُو النَّضِيرِ، وَاحْتَمَلُوا مَا أَقَلَّتِ الْإِبِلُ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ وَأَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ وَخَشَبِهَا، وَكَانَ نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً أَعْطَاهُ الله إياها وخصه بِهَا، فقال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خيل ولا ركاب} نقول بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَأَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَهَا لِلْمُهَاجِرِينَ قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ، وَقَسَّمَ مِنْهَا لِرَجُلَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَا ذَوَيْ حَاجَةٍ وَلَمْ يُقَسَّمْ مِنَ الْأَنْصَارِ غَيْرُهُمَا، وَبَقِيَ مِنْهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي في أيدي بني فاطمة. وقوله تعالى: {ما طننتم أَن يَخْرُجُواْ} أي في مدة حصاركم كهم وَكَانَتْ سِتَّةَ أَيَّامٍ مَعَ شِدَّةِ حُصُونِهِمْ وَمَنَعَتِهَا، ولهذا قال تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} أَيْ جَاءَهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ في بال كما قال تعالى في الآية الأُخْرَى {وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لا يشعرون}، وقوله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} أَيِ الْخَوْفَ وَالْهَلَعَ وَالْجَزَعَ، وَكَيْفَ لَا يحصِّلُ لَهُمْ ذَلِكَ وَقَدْ حَاصَرَهُمُ الَّذِي نُصِرَ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين} هو نقض ما استحسنوه من سقوفهم وأبوابهم وحملها على الإبل، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُهُمْ، فَإِذَا ظَهَرَ عَلَى دَرْبٍ أَوْ دَارٍ هُدِمَ حِيطَانُهَا لِيَتَّسِعَ الْمَكَانُ لِلْقِتَالِ، وَكَانَ الْيَهُودُ إِذَا عَلَّوْا مَكَانًا أَوْ غَلَبُوا عَلَى دَرْبٍ أَوْ دَارٍ نَقَبُوا مِنْ أَدْبَارِهَا، ثُمَّ حَصَّنُوهَا وَدَرَّبُوهَا، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}، وَقَوْلُهُ: {وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا} أي لولا أن كتب عَلَيْهِمْ هَذَا الْجَلَاءَ وَهُوَ النَّفْيُ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، لَكَانَ لَهُمْ عِنْدَ

اللَّهِ عَذَابٌ آخَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَنَحْوُ ذلك، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ سَيُعَذِّبُهُمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مَعَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ في الدار الآخرة من العذاب في نار جهنم، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: "ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ بَنِي النَّضِيرِ، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَكَانَ مَنْزِلُهُمْ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزلوا على الْجَلَاءِ وَأَنَّ لَهُمْ مَا أَقَلَّتِ الْإِبِلُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ إِلَّا الْحَلْقَةَ وَهِيَ السِّلَاحُ، فَأَجْلَاهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الشَّامِ، قَالَ: وَالْجَلَاءُ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَيْهِمْ فِي آيٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَكَانُوا مِنْ سِبْطٍ لَمْ يصبهم الجلاء قبل ما سلط عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ - إِلَى قَوْلِهِ وَلِيُخْزِيَ الفاسقين} (أخرجه ابن أبي حاتم)، قال قَتَادَةُ: الْجَلَاءُ خُرُوجُ النَّاسِ مِنَ الْبَلَدِ إِلَى الْبَلَدِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَجْلَاهُمْ إِلَى الشَّامِ وَأَعْطَى كُلَّ ثَلَاثَةٍ بَعِيرًا وَسِقَاءً فَهَذَا الْجَلَاءُ، وَقَدْ روى الحافظ أبو بكر البيهقي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَاصَرَهُمْ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ، فَأَعْطَوْهُ مَا أَرَادَ مِنْهُمْ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ، وَأَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ وَمِنْ دِيَارِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ، وَأَنْ يُسَيِّرَهُمْ إِلَى أذرِعات الشَّامِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ بَعِيرًا وَسِقَاءً، وَالْجَلَاءُ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ إلى أرض أُخْرَى. وعن مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة أيام. وقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} أَيْ حَتْمٌ لازم لا بد منه، وقوله تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أَيْ إِنَّمَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ ذَلِكَ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَكَذَّبُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْبِشَارَةِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} اللِّينُ نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ وَهُوَ جَيِّدٌ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَهُوَ مَا خَالَفَ الْعَجْوَةَ وَالْبَرْنِيَّ مِنَ التَّمْرِ، وَقَالَ كَثِيرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: اللِّينَةُ أَلْوَانُ التَّمْرِ سِوَى الْعَجْوَةِ، قَالَ ابْنُ جرير: هو جميع النخل، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَاصَرَهُمْ أَمَرَ بِقَطْعِ نَخِيلِهِمْ إِهَانَةً لهم وإرعاباً لقلوبهم، فبعث بنو قريظة يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ، فَمَا بَالُكَ تَأْمُرُ بِقَطْعِ الْأَشْجَارِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، أي ما قطعتم من لينة وما تركتم من الأشجار فالجميع بإذنه ومشيئته وقدره وَرِضَاهُ، وَفِيهِ نِكَايَةٌ بِالْعَدُوِّ وَخِزْيٌ لَهُمْ، وَإِرْغَامٌ لأنوفهم. روى الإمام أحمد، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وحرّق (أخرجه أحمد ورواه الشيخان بنحوه). ولفظ البخاري، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَارَبَتِ النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ فَأَجْلَى بَنِي النَّضِيرِ، وَأَقَرَّ قُرَيْظَةَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ حتى حاربت قريظة، فقتل من رجالهم وسبى وقسم نساءهم وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بَعْضَهُمْ لَحِقُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّنَهُمْ وَأَسْلَمُوا، وَأَجْلَى يَهُودَ الْمَدِينَةِ كُلَّهُمْ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَهُمْ رَهْطُ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ) وَيَهُودَ بَنِي حَارِثَةَ وكل يهود بالمدينة (أخرجه البخاري)، وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ، وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجلَّ: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} (أخرجه الشيخان). وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَانَ عَلى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ * حَرِيقٌ بالبويرة مستطير

قال أبو إِسْحَاقَ: كَانَتْ وَقْعَةُ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُد وَبَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ وَقْعَةُ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ.

- 6 - وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 7 - مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب الفيء كل مال أخذ من الكفار من غير قِتَالٍ وَلَا إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، كَأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ هَذِهِ، فَإِنَّهَا مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بَخِيلٍ وَلَا رِكَابٍ، أَيْ لَمْ يُقَاتِلُوا الْأَعْدَاءَ فِيهَا بِالْمُبَارَزَةِ وَالْمُصَاوَلَةِ، بَلْ نَزَلَ أُولَئِكَ مِنَ الرُّعْبِ الَّذِي أَلْقَى اللَّهُ فِي قلوبهم، فَأَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَلِهَذَا تَصَرَّفَ فِيهِ كما يشاء فَرَدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْمَصَالِحِ، الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ عَزَّ وجلَّ فِي هَذِهِ الآيات فقال تعالى: {وَمَا أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} أَيْ مَنْ بَنِي النَّضِيرِ، {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} يَعْنِي الْإِبِلَ، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أَيْ هُوَ قَدِيرٌ لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ بَلْ هُوَ الْقَاهِرُ لِكُلِّ شيء، ثم قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى} أَيْ جَمِيعِ الْبُلْدَانِ الَّتِي تُفْتَحُ هَكَذَا فحكمها حكم بني النضير، ولهذا قال تعالى: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} إِلَى آخِرِهَا وَالَّتِي بَعْدَهَا، فَهَذِهِ مَصَارِفُ أَمْوَالِ الفيء ووجوهه. روى الإمام أحمد، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ أموال بني النضير مما أفآء الله على رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بَخِيلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِصَةً، فَكَانِ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ منها نفقة سَنَتِهِ، وَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الكُرَاع وَالسِّلَاحِ في سبيل الله عزّ وجلَّ. وقوله تعالى: {كيلا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} أَيْ جَعَلْنَا هذه المصارف لمال الفيء، كيلا يَبْقَى مَأْكَلَةً يَتَغَلَّبُ عَلَيْهَا الْأَغْنِيَاءُ، وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بِمَحْضِ الشَّهَوَاتِ وَالْآرَاءِ، وَلَا يَصْرِفُونَ مِنْهُ شَيْئًا إلى الفقراء. وقوله تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} أَيْ مَهْمَا أَمَرَكُمْ بِهِ فَافْعَلُوهُ، وَمَهْمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ، وإنما ينهى عن شر. عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَنْهَى عَنِ الْوَاشِمَةِ والواصلة أَشيء وجدته في كتاب الله تعالى أَوْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: بَلَى شَيْءٌ وَجَدْتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتِ: وَاللَّهِ لَقَدْ تَصَفَّحْتُ مَا بَيْنَ دَفَّتَيِ الْمُصْحَفِ، فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ الَّذِي تَقُولُ، قَالَ: فَمَا وجدتِ فِيهِ: {وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}؟ قَالَتْ بَلَى، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنِ الْوَاصِلَةِ وَالْوَاشِمَةِ وَالنَّامِصَةِ، قَالَتْ: فَلَعَلَّهُ فِي بَعْضِ أَهْلِكَ، قَالَ: فَادْخُلِي فَانْظُرِي، فَدَخَلَتْ فَنَظَرَتْ، ثُمَّ خَرَجَتْ، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ بَأْسًا، فَقَالَ لَهَا: أَمَا حَفِظْتِ وَصِيَّةَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: {وَمَآ أُرِيدُ

أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}؟ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ). وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عن عبد الله بن مَسْعُودٍ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ للحُسْن، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ. قال: فبلغ امرأة من بني أسد فِي الْبَيْتِ يُقَالُ لَهَا أُم يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ، قال: مالي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي كتاب الله تعالى؟ فَقَالَتْ: إِنِّي لَأَقْرَأُ مَا بَيْنَ لَوْحَيْهِ فَمَا وجدته، فقال: إن كنت قرأيته فَقَدْ وَجَدْتِيهِ، أَمَا قَرَأْتِ: {وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، قَالَتْ: بَلَى؟ قال: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ، قَالَتْ: إِنِّي لَأَظُنُّ أَهْلَكَ يَفْعَلُونَهُ، قَالَ: اذْهَبِي فَانْظُرِي، فَذَهَبَتْ فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئًا، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، قال: لو كان كذا لم تجامعنا (أخرجه الشيخان وأحمد). وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَائْتُوا مِنْهُ مَا استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» (أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة). وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أَيِ اتَّقُوهُ فِي امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ، فَإِنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ وَأَبَاهُ، وَارْتَكَبَ مَا عَنْهُ زَجَرَهُ وَنَهَاهُ.

- 8 - لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أولئك هُمُ الصادقون - 9 - والذين تبوؤا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - 10 - والذين جاؤوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رَّحِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى مُبَيِّنًا حَالَ الْفُقَرَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِمَالِ الْفَيْءِ أَنَّهُمْ {الَّذِينَ أُخرجوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً}، أَيْ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَخَالَفُوا قَوْمَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ، {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صَدَّقُوا قَوْلَهُمْ بِفِعْلِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ سَادَاتُ الْمُهَاجِرِينَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مَادِحًا لِلْأَنْصَارِ وَمُبَيِّنًا فَضْلَهُمْ وَشَرَفَهُمْ وَكَرَمَهُمْ وَعَدَمَ حسدهم وإيثارهم مع الحاجة، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ تبؤأوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} أَيْ سَكَنُوا دَارَ الْهِجْرَةِ مِنْ قَبْلِ الْمُهَاجِرِينَ وَآمَنُوا قَبْلَ كَثِيرٍ منهم، قال عمر: «وأوصي الخليفة بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ وَيَحْفَظَ لَهُمْ كَرَامَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا الَّذِينَ تبوأوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلُ، أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ مُسِيئِهِمْ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عند تفسير هذه الآية). وقوله تعالى: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} أَيْ مِنْ كَرَمِهِمْ وشرف أنفسهم، يحبون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم، روى الإمام أحمد، عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ الْمُهَاجِرُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قَوْمٍ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ، أَحْسَنَ مُوَاسَاةً فِي قَلِيلٍ وَلَا أَحْسَنَ بَذْلًا فِي كَثِيرٍ، لَقَدْ كَفَوْنَا

الْمُؤْنَةَ وَأَشْرَكُونَا فِي الْمُهَنَّإِ، حَتَّى لَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ، قَالَ: «لَا، مَا أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم» (أخرجه أحمد في المسند). ودعا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْصَارَ أَنْ يُقْطِعَ لَهُمُ الْبَحْرَيْنِ، قَالُوا: لَا، إِلَّا أَنْ تُقْطِعَ لِإِخْوَانِنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَهَا، قَالَ: «إِمَّا لا، فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة» (أخرجه البخاري). وقال البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَتِ الْأَنْصَارُ: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ: «لَا»، فَقَالُوا: أتكفونا الْمُؤْنَةَ ونُشْرِكُكُمْ فِي الثَّمَرَةِ؟ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ} أَيْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَسَدًا لِلْمُهَاجِرِينَ، فِيمَا فَضَّلَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ وَالشَّرَفِ وَالتَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ وَالرُّتْبَةِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} يَعْنِي الْحَسَدَ {مِّمَّآ أُوتُواْ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي فِيمَا أَعْطَى إخوانهم، وقال عبد الرحمن بن زيد في قوله تعالى: {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ} يَعْنِي مِمَّا أُوتُوا الْمُهَاجِرُونَ، قَالَ: وَتَكَلَّمَ فِي أموال بني النضير بعض من تكلم في الأنصار فعاتبهم الله في ذلك فقال تعالى: {وَمَا أَفَآءَ الله على رسوله فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قَالَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم؛ «إن إِخْوَانَكُمْ قَدْ تَرَكُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ وَخَرَجُوا إِلَيْكُمْ»، فَقَالُوا: أَمْوَالُنَا بَيْنَنَا قَطَائِعُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ غَيْرُ ذَلِكَ؟» قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «هُمْ قَوْمٌ لَا يَعْرِفُونَ الْعَمَلَ فَتَكْفُونَهُمْ وَتُقَاسِمُونَهُمُ الثَّمَرَ»، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يعني حاجة، أي يقدموا المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدأون بِالنَّاسِ قَبَلَهُمْ فِي حَالِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى ذَلِكَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أفضلُ الصدقة جهد المقل»، وَمِنْ هَذَا الْمَقَامِ تَصَدَّقَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟» فقال رضي الله عنه: أبقيت لهم الله ورسوله، وهكذا الْمَاءُ الَّذِي عُرِضَ عَلَى عِكْرِمَةَ وَأَصْحَابِهِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ يَأْمُرُ بِدَفْعِهِ إِلَى صَاحِبِهِ وَهُوَ جَرِيحٌ مُثْقَلٌ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَى الْمَاءِ، فَرَدَّهُ الْآخَرُ إِلَى الثَّالِثِ، فَمَا وَصَلَ إِلَى الثَّالِثِ حَتَّى مَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَمْ يَشْرَبْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، وقال البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَنِي الْجُهْدُ، فَأَرْسَلَ إِلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا رَجُلٌ يُضَيِّفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ»، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَهَبَ إِلَى أهله، فقال لامرأته هذا ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَدَّخِرِيهِ شَيْئًا، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عِنْدِي إِلَّا قُوتُ الصِّبْيَةِ، قَالَ: فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ العشاء فنوميهم وتعالي فأطفيء السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ، فَفَعَلَتْ، ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ عَزَّ وجلَّ - أَوْ ضَحِكَ - مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانَةٍ»، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (أخرجه البخاري، ورواه مسلم والترمذي والنسائي بنحوه). وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ تَسْمِيَةُ هَذَا الْأَنْصَارِيِّ بِأَبِي طلحة رضي الله عنه. وقوله تَعَالَى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيْ مَنْ سَلِمَ مِنَ الشُّحِّ فَقَدْ أَفْلَحَ وأنجح، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ

مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دماءهم واستحلوا محارهم» (أخرجه مسلم والإمام أحمد). وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الْفُحْشَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ، وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا، وَأَمَرَهُمْ بالقطيعة فقطعوا» (أخرجه أحمد وأبو داود). وقال ابن أبي حاتم، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّي أَخَافُ إِنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَأَنَا رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا أكاد أُخْرِجَ مِنْ يَدِي شَيْئًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَيْسَ ذَلِكَ بِالشُّحِّ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، إِنَّمَا الشُّحُّ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ أَنْ تَأْكُلَ مَالَ أَخِيكَ ظُلْمًا، وَلَكِنَّ ذاك البخل، وبئس الشيء البخل (رواه ابن أبي حاتم)، وعن أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَرَأَيْتُ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي، لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهُ: فَقَالَ: إِنِّي إِذَا وُقِيتُ شُحَّ نَفْسِي لَمْ أَسْرِقْ وَلَمْ أَزْنِ وَلَمْ أَفْعَلْ، وَإِذَا الرَّجُلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (رَوَاهُ ابن جرير). وفي الحديث: «بَرِيءٌ مِنَ الشُّحِّ مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ وَقَرَى الضيف وأعطى في النائبة» (أخرجه ابن جرير عن أنَس مرفوعاً). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رؤوف رَّحِيمٌ} هَؤُلَاءِ هُمُ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ فُقَرَاؤُهُمْ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ، وَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ ثُمَّ الأنصار ثم التابعون لهم بِإِحْسَانٍ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ بَرَاءَةٌ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عنه}، فَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ هُمُ الْمُتَّبِعُونَ لِآثَارِهِمُ الْحَسَنَةِ، وَأَوْصَافِهِمُ الْجَمِيلَةِ، الدَّاعُونَ لَهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، ولهذا قال تعالى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ} أَيْ قَائِلِينَ {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ} أَيْ بُغْضًا وَحَسَدًا {لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ربنا إنك رؤوف رَّحِيمٌ}، وَمَا أَحْسَنَ مَا اسْتَنْبَطَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رحمه الله مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الرَّافِضِيَّ الَّذِي يَسُبُّ الصَّحَابَةَ لَيْسَ لَهُ فِي مَالِ الْفَيْءِ نَصِيبٌ لِعَدَمِ اتِّصَافِهِ بِمَا مَدَحَ اللَّهُ بِهِ هؤلاء، وقال ابن أبي حاتم، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لَهُمْ فَسَبُّوهُمْ، ثُمَّ قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان} الآية (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقال ابن جرير: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ والمساكين} حتى بلغ {عَلِيمٌ حليم}، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ولذي القربى} الآية، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ لِهَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ: {مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى} حتى بلغ {والذين تبوأوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ - والذين جاؤوا مِن بَعْدِهِمْ} ثم قال: استوعبت هذه المسلمين عامة، وليس أحد إلا وله فِيهَا حَقٌّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ عِشْتُ لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِيَ وَهُوَ بِسَرْوِ حِمْيَرَ نَصِيبُهُ فِيهَا لَمْ يعرق فيها جبينه (أخرجه ابن جرير).

- 11 - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ - 12 - لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ - 13 - لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ - 14 - لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ - 15 - كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 16 - كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ - 17 - فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَضْرَابِهِ، حِينَ بُعِثُوا إِلَى يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ، يَعِدُونَهُمُ النَّصْرَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي لكاذبون فيما وعدوهم به، ولهذا قال تعالى: {وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ} أَيْ لَا يُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ، {وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ} أَيْ قَاتَلُوا مَعَهُمْ {لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ}، وَهَذِهِ بِشَارَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنْ اللَّهِ} أَيْ يَخَافُونَ مِنْكُمْ أكثر من خوفهم من الله، كقوله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خشية}، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}، ثُمَّ قَالَ تعالى: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} يَعْنِي أَنَّهُمْ مِنْ جُبْنِهِمْ وَهَلَعِهِمْ، لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مُوَاجَهَةِ جَيْشِ الإسلام، بَلْ إِمَّا فِي حُصُونٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ مُحَاصَرِينَ، فَيُقَاتِلُونَ لِلدَّفْعِ عَنْهُمْ ضَرُورَةً، ثُمَّ قال تعالى: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أَيْ عَدَاوَتُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ شديدة كما قال تعالى: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بعض}، ولهذا قال تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} أَيْ تَرَاهُمْ مُجْتَمِعِينَ فَتَحْسَبُهُمْ مُؤْتَلِفِينَ، وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ غَايَةَ الِاخْتِلَافِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ}، ثم قال تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: يَعْنِي كَمَثَلِ مَا أَصَابَ كَفَّارَ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قبلهم يعني يهود بني قينقاع، وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، فَإِنَّ يَهُودَ بَنِي قَيْنُقَاعَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أجلاهم قبل هذا. وقوله تَعَالَى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} يَعْنِي مَثَلُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ فِي اغْتِرَارِهِمْ بِالَّذِينِ وَعَدُوهُمُ النَّصْرَ من المنافقين، كَمَثَلِ الشيطان إِذْ سوّل للإنسان الكفر ثم تَبَرَّأَ مِنْهُ وَتَنَصَّلَ، وَقَالَ: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العالمين}. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} قَالَ: كَانَتْ امْرَأَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ، وَكَانَ لَهَا

أَرْبَعَةُ إِخْوَةٍ، وَكَانَتْ تَأْوِي بِاللَّيْلِ إِلَى صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ، قَالَ: فَنَزَلَ الرَّاهِبُ ففجَر بِهَا، فَحَمَلَتْ، فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهُ اقْتُلْهَا ثُمَّ ادْفِنْهَا، فَإِنَّكَ رَجُلٌ مُصَدَّقٌ يُسْمَعُ قَوْلُكَ، فَقَتَلَهَا ثُمَّ دفنها، وقال: فَأَتَى الشَّيْطَانُ إِخْوَتَهَا فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الرَّاهِبَ صَاحِبَ الصَّوْمَعَةِ فجَر بأُختكم فَلَمَّا أَحْبَلَهَا قَتَلَهَا ثُمَّ دَفَنَهَا فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ رُؤْيَا مَا أَدْرِي أَقُصُّهَا عليكم أم أترك؟ قالوا: بَلْ قُصَّهَا عَلَيْنَا، قَالَ، فَقَصَّهَا؛ فَقَالَ الْآخَرُ: وأنا والله قد رأيت ذلك، فقال الآخر: وأنا والله رأيت ذلك، قالوا فَوَاللَّهِ مَا هَذَا إِلَّا لِشَيْءٍ. قَالَ، فَانْطَلَقُوا، فاستَعْدُوا مَلِكَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الرَّاهِبِ، فَأَتَوْهُ فَأَنْزَلُوهُ، ثُمَّ انْطَلَقُوا بِهِ، فَلَقِيَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: إِنِّي أَنَا الَّذِي أَوْقَعْتُكَ فِي هَذَا وَلَنْ يُنْجِيَكَ منه غيري، فاسجد لي وَاحِدَةً وَأُنْجِيكَ مِمَّا أَوْقَعْتُكَ فِيهِ، قَالَ، فَسَجَدَ لَهُ، فَلَمَّا أَتَوْا بِهِ مَلِكَهُمْ تَبَرَّأَ مِنْهُ وأخذ فقتل، وَاشْتُهِرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّ هَذَا العابد هو (برصيصا) فالله أعلم. وقوله تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا} أي فكان عاقبة الأمر بالكفر مصيرهما إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا {وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ} أَيْ جَزَاءُ كُلِّ ظَالِمٍ.

- 18 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ - 19 - وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - 20 - لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الجنة هُمْ الفائزون عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ قَالَ، فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ، مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، قَالَ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} - إلى آخر الآية، وَقَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ - {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} - تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثوبه، من صاع بر، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، - حَتَّى قَالَ - وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ. قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجَزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ، كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أن ينقص من أوزارهم شيء» (أخرجه مسلم والإمام أحمد)، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ} أمر بتقواه وهو يشمل فِعْلَ مَا بِهِ أُمِرَ، وَتَرْكِ مَا عَنْهُ زُجِرَ، وقوله تعالى: {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أَيْ حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَانْظُرُوا مَاذَا ادَّخَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَوْمِ مَعَادِكُمْ وَعَرْضِكُمْ عَلَى رَبِّكُمْ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} تَأْكِيدٌ ثَانٍ {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أَيِ اعْلَمُوا أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ وَأَحْوَالِكُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ، وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْ أُمُورِكُمْ جليل ولا حقير، وقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} أي لا تنسوا ذكر الله تعالى فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ،

ولهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أَيِ الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، الْهَالِكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْخَاسِرُونَ يَوْمَ مَعَادِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. خطب أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ تَغْدُونَ وَتَرُوحُونَ لِأَجَلٍ مَعْلُومٍ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْضِيَ الْأَجَلَ، وَهُوَ فِي عَمَلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فَلْيَفْعَلْ، وَلَنْ تَنَالُوا ذَلِكَ إِلَّا بِاللَّهِ عزَّ وجلَّ، إِنَّ قَوْمًا جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم الله عزَّ وجلَّ إن تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}، أَيْنَ مَنْ تَعْرِفُونَ مِنْ إِخْوَانِكُمْ؟ قَدِمُوا عَلَى مَا قَدِمُوا فِي أَيَّامِ سَلَفِهِمْ، وَخَلَوْا بِالشِّقْوَةِ وَالسَّعَادَةِ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ بَنَوُا الْمَدَائِنَ وَحَصَّنُوهَا بِالْحَوَائِطِ؟ قَدْ صَارُوا تَحْتَ الصَّخْرِ وَالْآبَارِ، هَذَا كِتَابُ اللَّهِ لَا تَفْنَى عجائبه، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، واستضيئوا بسنائه وبيانه، إن الله تعالى أثنى على زكريا وأهل بيته فقال لهم: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لنا خاشعين}، لاَّ خَيْرَ فِي قَوْلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، وَلَا خَيْرَ فِي مَالٍ لَا يُنْفَقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ يَغْلِبُ جَهْلُهُ حِلْمَهُ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ يَخَافُ في الله لومة لائم" (أخرجه الحافظ الطبراني، قال ابن كثير: إسناده جيد ورجاله كلهم ثقات). وقوله تَعَالَى: {لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} أَيْ لَا يَسْتَوِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي حكم الله تعالى يوم القيامة كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كالفجار}، ولهذا قال تعالى ههنا: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ} أَيِ النَّاجُونَ المسلَّمون مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.

- 21 - لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ - 22 - هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ - 23 - هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ - 24 - هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَقُولُ تَعَالَى مُعَظِّمًا لِأَمْرِ الْقُرْآنِ، وَمُبَيِّنًا عُلُوَّ قَدْرِهِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَخْشَعَ لَهُ الْقُلُوبُ، وَتَتَصَدَّعَ عِنْدَ سَمَاعِهِ لما فيه من الوعد الحق وَالْوَعِيدِ الْأَكِيدِ: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي فإذا كَانَ الْجَبَلُ فِي غِلْظَتِهِ وَقَسَاوَتِهِ، لَوْ فَهِمَ هَذَا الْقُرْآنَ فَتَدَبَّرَ مَا فِيهِ لَخَشَعَ وَتَصَدَّعَ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بكم يا أيها البشر أن لا تَلِينَ قُلُوبُكُمْ، وَتَخْشَعَ وَتَتَصَدَّعَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَقَدْ فَهِمْتُمْ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَتَدَبَّرْتُمْ كِتَابَهُ؟ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} قال ابن عباس في قوله تَعَالَى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً} إِلَى آخِرِهَا، يَقُولُ: لَوْ أَنِّي أَنْزَلْتُ هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ حَمَّلْتُهُ إِيَّاهُ لَتَصَدَّعَ وَخَشَعَ مِنْ ثِقَلِهِ وَمِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ النَّاسَ إِذَا نَزَّلَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ أَنْ يَأْخُذُوهُ بالخشية الشديدة والتخشع،

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وقال الحسن البصري: إِذَا كَانَتِ الْجِبَالُ الصُّمُّ لَوْ سَمِعَتْ كَلَامَ اللَّهِ وَفَهِمَتْهُ لَخَشَعَتْ وَتَصَدَّعَتْ مَنْ خَشْيَتِهِ، فَكَيْفَ بِكُمْ وَقَدْ سَمِعْتُمْ وَفَهِمْتُمْ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} الآية، وقد تقدم أن المعنى ذلك أي لكان هذا القرآن، ثم قال تعالى: {هُوَ الله لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَلَا رَبَّ غَيْرُهُ وَلَا إِلَهَ لِلْوُجُودِ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ فَبَاطِلٌ، وَأَنَّهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَيْ يَعْلَمُ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ الْمُشَاهِدَاتِ لَنَا وَالْغَائِبَاتِ عَنَّا، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ مِنْ جَلِيلٍ وَحَقِيرٍ وَصَغِيرٍ وكبير حتى الذر في الظلمات، وقوله تعالى: {هُوَ الرحمن الرحيم} المراد أَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَهُوَ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمُهُمَا، وَقَدْ قَالَ تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شيء}، وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} وقال تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ} أَيِ الْمَالِكُ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا بِلَا مُمَانَعَةٍ وَلَا مُدَافَعَةٍ. وقوله تعالى: {الْقُدُّوسُ} قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَيِ الطَّاهِرُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَيِ الْمُبَارَكُ، وَقَالَ ابْنُ جريح: تُقَدِّسُهُ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ، {السَّلَامُ} أَيْ مِنْ جَمِيعِ العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله، وقوله تعالى: {المؤمن} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ أَمَّنَ خَلْقَهُ مِنْ أَنْ يَظْلِمَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَّنَ بِقَوْلِهِ إِنَّهُ حَقٌّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: صَدَّقَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي إيمانهم به، وقوله تعالى: {الْمُهَيْمِنُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَيِ الشَّاهِدُ عَلَى خَلْقِهِ بِأَعْمَالِهِمْ، بِمَعْنَى هُوَ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ، كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ}، وَقَوْلُهُ: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} الآية، وقوله تعالى: {الْعَزِيزُ} أَيِ الَّذِي قَدْ عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ فَقَهَرَهُ، وَغَلَبَ الْأَشْيَاءَ فَلَا يُنَالُ جَنَابُهُ لِعِزَّتِهِ وعظمته وجبروته وكبريائه، ولهذا قال تعالى: {الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} أَيِ الَّذِي لَا تَلِيقُ الْجَبْرِيَّةُ إِلَّا لَهُ، وَلَا التَّكَبُّرُ إِلَّا لِعَظَمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ: «الْعَظَمَةُ إِزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ»، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْجَبَّارُ الَّذِي جَبَرَ خَلْقَهُ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْجَبَّارُ الْمُصْلِحُ أُمور خَلْقِهِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُتَكَبِّرُ يَعْنِي عَنْ كُلِّ سُوءٍ، ثُمَّ قَالَ تعالى: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ}. وقوله تعالى: {هُوَ الله الخالق البارىء المصور} الخلق: التقدير، والبرء: التَّنْفِيذُ وَإِبْرَازُ مَا قَدَّرَهُ وَقَرَّرَهُ إِلَى الْوُجُودِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَدَّرَ شَيْئًا وَرَتَّبَهُ يَقْدِرُ عَلَى تَنْفِيذِهِ وَإِيجَادِهِ سِوَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ. قَالَ الشَّاعِرُ يَمْدَحُ آخَرَ: وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْضُ * الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي أَيْ أَنْتَ تُنَفِّذُ مَا خَلَقْتَ، أَيْ قَدَّرْتَ بخلاف غيرك؛ فإنه لا يستطيع ما يريده فَالْخَلْقُ: التَّقْدِيرُ، وَالْفَرْيُ: التَّنْفِيذُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: قَدَّرَ الْجَلَّادُ ثُمَّ فَرَى، أَيْ قَطَعَ عَلَى مَا قَدَّرَهُ بِحَسَبِ مَا يُرِيدُهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} أَيِ الَّذِي إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً قَالَ لَهُ: كُن فَيَكُونُ، عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يريد، والصورة التي يختار، كقوله تعالى: {في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ ركبك}، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَوِّرُ أَيِ الَّذِي يُنَفِّذُ مَا يُرِيدُ إِيجَادَهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يُرِيدُهَا. وَقَوْلُهُ تعالى: {لَّهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، ونذكر الحديث المروي

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر، هو الله لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ، الرَّحِيمُ، الْمَلِكُ، الْقُدُّوسُ، السَّلَامُ، الْمُؤْمِنُ، الْمُهَيْمِنُ، الْعَزِيزُ، الْجَبَّارُ، الْمُتَكَبِّرُ، الخالق، البارىء، الْمُصَوِّرُ، الْغَفَّارُ، الْقَهَّارُ، الْوَهَّابُ، الرَّزَّاقُ، الْفَتَّاحُ، الْعَلِيمُ، الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الْخَافِضُ، الرَّافِعُ، الْمُعِزُّ، الْمُذِلُّ، السَّمِيعُ، الْبَصِيرُ، الْحَكَمُ، الْعَدْلُ، اللَّطِيفُ، الْخَبِيرُ، الْحَلِيمُ، الْعَظِيمُ، الْغَفُورُ، الشَّكُورُ، الْعَلِيُّ، الْكَبِيرُ، الْحَفِيظُ، الْمَقِيتُ، الْحَسِيبُ، الْجَلِيلُ، الْكَرِيمُ، الرَّقِيبُ، الْمُجِيبُ، الْوَاسِعُ، الْحَكِيمُ، الْوَدُودُ، الْمَجِيدُ، الْبَاعِثُ، الشَّهِيدُ، الْحَقُّ، الْوَكِيلُ، الْقَوِيُّ، الْمَتِينُ، الحميد، المحصي، المبدىء، الْمُعِيدُ، الْمُحْيِي، الْمُمِيتُ، الْحَيُّ، الْقَيُّومُ، الْوَاجِدُ، الْمَاجِدُ، الْوَاحِدُ، الصَّمَدُ، الْقَادِرُ، الْمُقْتَدِرُ، الْمُقَدِّمُ، الْمُؤَخِّرُ، الْأَوَّلُ، الْآخَرُ، الظَّاهِرُ، الْبَاطِنُ، الْوَالِي، الْمُتَعَالِي، الْبَرُّ، التَّوَّابُ، الْمُنْتَقِمُ، العفو، الرؤوف، مَالِكُ الْمُلْكِ، ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، الْمُقْسِطُ، الْجَامِعُ، الغني، المغني، المعطي، الْمَانِعُ، الضَّارُّ، النَّافِعُ، النُّورُ، الْهَادِي، الْبَدِيعُ، الْبَاقِي، الوارث، الرشيد، الصبور» (أخرج بعضه الشيخان واللفظ للترمذي). وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}، وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أَيْ فَلَا يُرَامُ جَنَابُهُ، {الْحَكِيمُ} في شرعه وقدره، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ، وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيدًا، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ" (رواه الترمذي والإمام أحمد).

60 - سورة الممتحنة.

- 60 - سورة الممتحنة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ - 2 - إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ - 3 - لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ كَانَ سَبَبُ نُزُولِ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ قِصَّةَ (حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ)، وَذَلِكَ أَنَّ حَاطِبًا هَذَا كَانَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَكَانَ مِنْ أهلَّ بَدْرٍ أَيْضًا، وَكَانَ لَهُ بِمَكَّةَ أَوْلَادٌ وَمَالٌ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قريش أنفسهم، فَلَمَّا عَزْمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ لَمَّا نَقَضَ أَهْلُهَا العهد، أمر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّجْهِيزِ لِغَزْوِهِمْ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عمِّ عَلَيْهِمْ خبرَنا»، فَعَمَدَ حَاطِبٌ هَذَا فَكَتَبَ كِتَابًا، وَبَعَثَهُ مَعَ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُعْلِمُهُمْ بِمَا عَزْمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غزوهم ليتخذ بذلك عندهم يداً. روى الإمام أحمد، عن علي رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ، فَخُذُوهُ مِنْهَا»، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، قُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، قَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، قُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ، أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، قَالَ: فَأَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَخَذْنَا الْكِتَابَ، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أناس مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بِمَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟» قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ بِمَكَّةَ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسلام،

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ صَدَقَكُمْ»، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ». وَنَزَلَتْ فِيهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} (أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه). وهكذا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ} يعني المشركون والكفّار الذين هم محاربون لله ولرسوله، نهى الله أن يتخذوهم أولياء وأصدقاء وأخلاء، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، وقوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} وَلِهَذَا قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُذْرَ حَاطِبٍ، لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مُصَانَعَةً لِقُرَيْشٍ، لِأَجْلِ مَا كَانَ له عندهم من الأموال والأولاد. وقوله تعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} هَذَا مَعَ مَا قَبْلَهُ من التهييج على عدواتهم وَعَدَمِ مُوَالَاتِهِمْ لِأَنَّهُمْ أَخْرَجُوا الرَّسُولَ وَأَصْحَابَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، كَرَاهَةً لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} أَيْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ عِنْدَهُمْ ذَنْبٌ إِلَّا إِيمَانَكُمْ بِاللَّهِ رَبُّ العالمين، كقوله تَعَالَى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ العزيز الحميد}، وكقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبَّنَا الله}، وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} أَيْ إِنْ كُنْتُمْ كَذَلِكَ فَلَا تَتَّخِذُوهُمْ أولياء، إن كنت خرجتم مجاهدين في سبيلي فلا توالوا أعدائي، وَقَدْ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، حَنَقًا عَلَيْكُمْ وسخطاً لدينكم، وقوله تعالى: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ} أَيْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَأَنَا الْعَالِمُ بِالسَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ وَالظَّوَاهِرِ، {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ * إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} أَيْ لَوْ قَدَرُوا عَلَيْكُمْ لَمَا اتَّقَوْا فِيكُمْ مِنْ أذى ينالوكم بِهِ بِالْمَقَالِ وَالْفِعَالِ، {وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} أَيْ ويحرصون على أن لا تنالوا خيراً، فعداوتهم لَكُمْ كَامِنَةٌ وَظَاهِرَةٌ فَكَيْفَ تُوَالُونَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ؟ وهذا تهييج على عدواتهم أيضاً، وقوله تعالى: {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أَيْ قَرَابَاتُكُمْ لَا تَنْفَعُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِكُمْ سُوءًا، وَنَفْعُهُمْ لَا يَصِلُ إِلَيْكُمْ إِذَا أَرْضَيْتُمُوهُمْ بِمَا يُسْخِطُ اللَّهَ، وَمَنْ وَافَقَ أَهْلَهُ عَلَى الْكُفْرِ لِيُرْضِيَهُمْ، فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ وَضَلَّ عَمَلُهُ، وَلَا يَنْفَعُهُ عِنْدَ اللَّهِ قَرَابَتُهُ من أحد.

- 4 - قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ

- 5 - رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - 6 - لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ يَقُولُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وَالتَّبَرِّي مِنْهُمْ: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أَيْ وَأَتْبَاعُهُ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، {إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِّنْكُمْ} أَيْ تَبَرَّأْنَا مِّنْكُمْ {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} أَيْ بِدِينِكُمْ وَطَرِيقِكُمْ {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً} يَعْنِي وقد شرعت العدواة والبغضاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، مَا دُمْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ فَنَحْنُ أَبَدًا نَتَبَرَّأُ مِنْكُمْ وَنُبْغِضُكُمْ {حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ} أَيْ إِلَى أَنْ تُوَحِّدُوا اللَّهَ فَتَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَخْلَعُوا مَا تَعْبُدُونَ معه من الأوثان والأنداد، وقوله تعالى: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} أَيْ لَكُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، تَتَأَسَّوْنَ بِهَا إِلَّا فِي اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ؛ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَدْعُونَ لِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِيهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}. وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أَيْ لَيْسَ لَكُمْ فِي ذَلِكَ أُسْوَةٌ أَيْ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، حِينَ فَارَقُوا قَوْمَهُمْ وتبرأوا منهم، فَقَالُوا: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أَيْ تَوَكَّلْنَا عَلَيْكَ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَسَلَّمْنَا أُمُورَنَا إِلَيْكَ وَفَوَّضْنَاهَا إِلَيْكَ، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أَيِ الْمَعَادُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ لَا تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِيهِمْ وَلَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَيَقُولُوا: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ عَلَى حَقٍّ مَا أصابهم هذا، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا تُظْهِرْهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتَتِنُوا بِذَلِكَ، يَرَوْنَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا ظَهَرُوا عَلَيْنَا لِحَقٍّ هُمْ عليه، واختاره ابن جرير. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَا، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أَيْ وَاسْتُرْ ذُنُوبَنَا عَنْ غَيْرِكَ، وَاعْفُ عَنْهَا فيما بيننا وبينك {إِنَّكَ أَنتَ العزيز} أي الذي لا يضام من لاذ بجانبك، {الْحَكِيمُ} فِي أَقْوَالِكَ وَأَفْعَالِكَ وَشَرْعِكَ وَقَدَرِكَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}، وهذا تأكيد لما تقدم، وقوله تَعَالَى: {لَّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} تَهْيِيجٌ إلى ذلك لكل مؤمن بالله والمعاد، وقوله تعالى {وَمَن يَتَوَلَّ} أَيْ عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، {فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد}، كقوله تعالى {إِنَّ تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حميد}، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {الْغَنِيُّ} الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي غناه، وهو الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، و {الْحَمِيدُ} الْمُسْتَحْمَدُ إِلَى خَلْقِهِ، أَيْ هُوَ الْمَحْمُودُ في جميع أقواله وأفعاله، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.

- 7 - عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ - 8 - لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ

الْمُقْسِطِينَ - 9 - إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَقُولُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ أمرهم بعدواة الْكَافِرِينَ: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} أَيْ مَحَبَّةً بَعْدَ الْبِغْضَةِ، وَمَوَدَّةً بَعْدَ النَّفْرَةِ، وَأُلْفَةً بَعْدَ الْفُرْقَةِ، {وَاللَّهُ قَدِيرٌ} أَيْ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ الجمع بين الأشياء المتنافرة والمختلفة، فيؤلف بين القلوب بعد العدواة وَالْقَسَاوَةِ، فَتُصْبِحُ مُجْتَمِعَةً مُتَّفِقَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى الْأَنْصَارِ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخواناً}، وَكَذَا قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فألَّفَكُمُ اللَّهُ بِي؟»، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حكيم}، وَفِي الْحَدِيثِ: «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا، فَعَسَى أَن يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا فَعَسَى أَن يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا ما». وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أَيْ يَغْفِرُ لِلْكَافِرِينَ كُفْرَهُمْ، إِذَا تَابُوا مِنْهُ وَأَنَابُوا إِلَى رَبِّهِمْ وَأَسْلَمُوا لَهُ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ بِكُلُّ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ، وعن ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم استعمل أبا سفيان صخر بْنَ حَرْبٍ عَلَى بَعْضِ الْيَمَنِ، فَلَمَّا قَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ، فَلَقِيَ ذَا الْخِمَارِ مُرْتَدًّا، فَقَاتَلَهُ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَاتَلَ فِي الرِّدَّةِ وَجَاهَدَ عَنِ الدِّينِ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَهُوَ مِمَّنْ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مودة} (أخرجه ابن أبي حاتم) الآية، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ}، أَيْ لَا يَنْهَاكُمْ عَنِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْكَفَرَةِ، الَّذِينَ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ فِي الدِّينِ كَالنِّسَاءِ وَالضَّعَفَةِ مِنْهُمْ {أَن تَبَرُّوهُمْ} أَيْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ، {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} أَيْ تَعْدِلُوا، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: قَدِمَتْ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدُوا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ صِلِي أُمك» (أخرجه الشيخان والإمام أحمد). وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَارِمٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن المبارك، حدثنا مصعب ابن ثابت، حدثنا عن عبد الله بن الزبير قَالَ: قَدِمَتْ قُتَيْلَةُ عَلَى ابْنَتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أبي بكر بهدايا ضباب وقرظ وَسَمْنٌ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَأَبَتْ أَسْمَاءُ أَنْ تَقْبَلَ هديتها وتدخلها بَيْتَهَا، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَأَمَرَهَا أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها (رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم)، وقوله تعالى: {إن الله يُحِبُّ المقسطين} في الْحَدِيثَ الصَّحِيحِ: «الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ وما ولوا». وقوله تعالى: {إِنَّمَآ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ} أَيْ إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ عَنْ مُوَالَاةِ هؤلاء الذين ناصبوكم بالعداوة فَقَاتَلُوكُمْ وَأَخْرَجُوكُمْ وَعَاوَنُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ، يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عزَّ ووجلَّ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ وَيَأْمُرُكُمْ بِمُعَادَاتِهِمْ، ثُمَّ أَكَّدَ الْوَعِيدَ عَلَى مُوَالَاتِهِمْ، فَقَالَ: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظالمون}، كقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القوم الظالمين}.

- 10 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - 11 - وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ ذِكْرُ صُلْحِ الحُدَيبية، الَّذِي وَقَعَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَكَانَ فِيهِ: على أن لَا يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مخصِّصة للسنة، وَعَلَى طَرِيقَةِ بَعْضِ السَّلَفِ نَاسِخَةٌ، فَإِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ أَمَرَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا جَاءَهُمُ النِّسَاءُ مُهَاجِرَاتٍ أَنْ يَمْتَحِنُوهُنَّ، فَإِنْ عَلِمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا يَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ {لاَ هنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}، وسبب النزول ما روي أنه لنا هَاجَرَتْ (أُم كُلْثُومِ) بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، خرج أخواها (عمارة) و (الوليد) حَتَّى قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَاهُ فِيهَا أَنْ يَرُدَّهَا إِلَيْهِمَا، فَنَقَضَ اللَّهُ الْعَهْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي النساء خاصة، فمنعهم أن يردوهن إلى المشركين وأنزل الله آية الامتحان (ذكره في المسند الكبير في ترجمة عبد الله بن جحش)، روى ابن جرير، عَنْ أَبِي نَصْرٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَيْفَ كَانَ امْتِحَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ، قَالَ: كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِاللَّهِ مَا خَرَجْتِ مِنْ بُغْضِ زَوْجٍ، وَبِاللَّهِ مَا خَرَجْتِ رَغْبَةً عَنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ، وَبِاللَّهِ مَا خَرَجْتِ الْتِمَاسَ دُنْيَا، وَبِاللَّهِ مَا خرجت إلاّ حباً لله ولرسوله (رواه ابن جرير ورواه البزار من طريقه وذكر أَنَّ الَّذِي كَانَ يُحَلِّفُهُنَّ عَنْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر بن الخطاب). وقال ابن عباس فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} كَانَ امْتِحَانُهُنَّ أَنْ يَشْهَدْنَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} فَاسْأَلُوهُنَّ عَمَّا جاء بهن، فإن كان جاء بِهِنَّ غَضَبٌ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ أَوْ سَخْطَةٌ أَوْ غَيْرُهُ وَلَمْ يؤمنَّ فَارْجِعُوهُنَّ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يُقَالُ لَهَا مَا جَاءَ بِكِ إِلَّا حَبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا جَاءَ بِكِ عِشْقُ رَجُلٍ مِنَّا، وَلَا فِرَارٌ مِنْ زَوْجِكِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ {فَامْتَحِنُوهُنَّ}، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ مِحْنَتُهُنَّ أَنْ يُسْتَحْلَفْنَ بِاللَّهِ مَا أَخْرَجَكُنَّ النُّشُوزُ، وَمَا أَخْرَجَكُنَّ إِلَّا حَبُّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَحِرْصٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا قلن ذلك قبل ذلك منهن. وقوله تعالى: {فَإِن عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عليه يقيناً، وقوله تَعَالَى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي حَرَّمَتِ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ كَانَ جَائِزًا فِي ابْتِدَاءِ الإسلام أن يتزوج المشرك مؤمنة، ولهذا كان أمر (أبي الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ) زَوْجُ ابْنَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَقَدْ كَانَتْ مُسْلِمَةً وَهُوَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، فَلَمَّا وَقَعَ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ بَعَثَتِ

امْرَأَتُهُ زَيْنَبُ فِي فِدَائِهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ لأمها خديخة، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً وَقَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: «إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا فَافْعَلُوا»، فَفَعَلُوا، فَأَطْلَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَن يَبْعَثَ ابْنَتَهُ إِلَيْهِ، فَوَفَّى لَهُ بِذَلِكَ، وَصَدَقَهُ فِيمَا وَعَدَهُ، وَبَعَثَهَا إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَقَامَتْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ بَعْدِ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَكَانَتْ سَنَةَ (اثنتين) إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة (ثمان) فردها إليه بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُحْدِثْ لَهَا صَدَاقًا؛ كَمَا روى الإمام أحمد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أبي العاص، وَكَانَتْ هِجْرَتُهَا قَبْلَ إِسْلَامِهِ بِسِتِّ سِنِينَ عَلَى النكاح، ولم يحدث شهادة ولا صداقاً (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه). وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَدَّ ابْنَتَهُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بمهر جديد ونكاح جديد (أخرجه عبد بن حميد والعمل عليه عند أهل العلم)، والذي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهَا مَتَى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَلَمْ يُسْلِمِ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا مِنْهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ هِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ عَلَى النِّكَاحِ وَاسْتَمَرَّتْ، وَإِنْ شَاءَتْ فَسَخَتْهُ وَذَهَبَتْ فَتَزَوَّجَتْ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ والله أعلم، وقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَّآ أَنفَقُواْ} يَعْنِي أَزْوَاجَ الْمُهَاجِرَاتِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ادْفَعُوا إِلَيْهِمُ الَّذِي غَرِمُوهُ عَلَيْهِنَّ مِنَ الأصدقة (قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغير واحد)، وقوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} يعني إذا أعطيتموهن أصدقتهن فأنكحوهن بِشَرْطِهِ، مِنِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالْوَلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وقوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} تَحْرِيمٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ والاستمرار معهن، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَاهَدَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ يَوْمَ الحديبية جاءه نِسَاءٌ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} إِلَى قَوْلِهِ {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فَطَلَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يومئذٍ امْرَأَتَيْنِ تَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا (مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ) والأُخْرَى (صَفْوَانُ بْنُ أُميّة)، وقال الزُّهْرِيِّ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِأَسْفَلَ الْحُدَيْبِيَةِ، حِينَ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَتَاهُ مِنْهُمْ رده إليهم، فلما جاء النِّسَاءُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرُدَّ الصَّدَاقَ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَحَكَمَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِثْلَ ذَلِكَ إِذَا جَاءَتْهُمُ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَنْ يردوا الصداق إلى أزواجهن وقال: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} وَإِنَّمَا حَكَمَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ بِذَلِكَ لِأَجْلِ مَا كان بينهم وبينهم من العهد، وقوله تعالى: {وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} أَيْ وَطَالِبُوا بِمَا أَنْفَقْتُمْ عَلَى أَزْوَاجِكُمُ، اللَّاتِي يَذْهَبْنَ إِلَى الْكُفَّارِ إِنْ ذَهَبْنَ، وَلْيُطَالِبُوا بِمَا أَنْفَقُوا عَلَى أَزْوَاجِهِمُ اللَّاتِي هَاجَرْنَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَوْلُهُ تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أَيْ فِي الصُّلْحِ وَاسْتِثْنَاءِ النِّسَاءِ مِنْهُ، وَالْأَمْرُ بِهَذَا كُلِّهِ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بِهِ بَيْنَ خَلْقِهِ، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ عَلِيمٌ بِمَا يُصْلِحُ عباده حكيم في ذلك، ثم قال تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هَذَا فِي الْكُفَّارِ لَيْسَ لَهُمْ عَهْدٌ، إِذَا فَرَّتْ إِلَيْهِمُ امْرَأَةٌ، وَلَمْ يَدْفَعُوا إِلَى زَوْجِهَا شَيْئًا، فَإِذَا جَاءَتْ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ لَا يُدْفَعُ إِلَى زَوْجِهَا شَيْءٌ، حَتَّى يَدْفَعَ إِلَى زَوْجِ الذَّاهِبَةِ إِلَيْهِمْ مِثْلَ نفقته عليها، وقال ابن عباس في هذه الآية: يعني إذا لَحِقَتِ امْرَأَةُ رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بِالْكُفَّارِ، أَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يعطي مثل ما أنفق من الغنيمة،

وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ {فَعَاقَبْتُمْ} أَصَبْتُمْ غَنِيمَةً مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ غَيْرِهِمْ {فَآتُواْ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ} يعني مهر مثلها، وَهَذَا لَا يُنَافِي الْأَوَّلَ، لِأَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ الأول فهو الأولى، وَإِلَّا فَمِنَ الْغَنَائِمِ اللَّاتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ، وَهَذَا أَوْسَعُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ (في اللباب، أخرج ابن أبي حاتم: {وإن فاتكم} نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت فتزوجها ثقفي).

- 12 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إن الله غفور رحيم روى البخاري، عن عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} إِلَى قَوْلِهِ {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، قَالَ عُرْوَةُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قد بَايَعْتُكِ» كَلَامًا، وَلَا وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يد امرأة في المبايعة قط، مَا يُبَايِعُهُنَّ إِلَّا بِقَوْلِهِ: «قَدْ بَايَعْتُكِ عَلَى ذلك» هذا لفظ البخاري. وروى الإمام أحمد، عن أمية بنت رقيقة (قوله (أمية بنت رقيقة) هي أخت السيدة خديخة وخالة فاطمة الزهراء) قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِسَاءٍ لِنُبَايِعَهُ، فَأَخَذَ عَلَيْنَا مَا في القرآن {أن لا نشرك بِاللَّهِ شَيْئًا} الْآيَةَ، وَقَالَ: {فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ"، قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تُصَافِحُنَا؟ قَالَ: «إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ إِنَّمَا قَوْلِي لِامْرَأَةٍ واحدة قولي لمائة امرأة» (أخرجه أحمد والترمذي والنسائي). وعن (سَلْمَى بِنْتِ قَيْسٍ) - وَكَانَتْ إِحْدَى خَالَاتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم - وقد صلت معه القبلتين، قَالَتْ: جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نُبَايِعُهُ فِي نِسْوَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا شرط علينا أَن لاَّ نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِي، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، قَالَ: «وَلَا تَغْشُشْنَ أَزْوَاجَكُنَّ» قَالَتْ: فَبَايَعْنَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا، فَقُلْتُ لِامْرَأَةٍ مِنْهُنَّ: ارْجِعِي فَسَلِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا غِشُّ أَزْوَاجِنَا؟ قَالَ، فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ: «تَأْخُذُ مَالَهُ فَتُحَابِي به غيره» (أخرجه الإمام أحمد). وقال الإمام أحمد، عن عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ - يَعْنِي ابْنَ مَظْعُونٍ - قَالَتْ: أنا مع أمي رائطة بنة سُفْيَانَ الْخُزَاعِيَّةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النِّسْوَةَ وَيَقُولُ: «أُبَايِعُكُنَّ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقْنَ وَلَا تَزْنِينَ وَلَا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنَّ، وَلَا تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ، وَلَا تَعْصِينَنِي فِي مَعْرُوفٍ - قُلْنَ نَعَمْ - فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ» فَكُنَّ يَقُلْنَ وَأَقُولُ معهن وأمي تقول لي: أي بنية نعم، فكنت أقول كما يقلن" (أخرجه الإمام أحمد أيضاً. وقال البخاري، عَنْ أُم عَطِيَّةَ قَالَتْ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ علينا {ولا تشركن بِاللَّهِ شَيْئًا}، وَنَهَانَا عَنِ النِّيَاحَةِ فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ يدها، وقالت: أسعدتني فلانة، فأريد أَنْ أَجْزِيَهَا، فَمَا قَالَ لَهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَانْطَلَقَتْ وَرَجَعَتْ فبايعها، وَفِي رِوَايَةٍ: فَمَا وَفَّى مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا وغير أم سليم بنة ملحان (أخرجه البخاري ومسلم).

وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَاهَدُ النِّسَاءَ بِهَذِهِ الْبَيْعَةِ يَوْمَ الْعِيدِ، كما روى البخاري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: شَهِدْتُ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْفِطْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدُ، فَنَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجْلِسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ مَعَ بِلَالٍ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ كُلِّهَا، ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ: «أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ؟» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ الله، ولا يدري حسن مَنْ هِيَ، قَالَ: فَتَصَدَّقْنَ، قَالَ: وَبَسَطَ بِلَالٌ ثَوْبَهُ، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بلال (أخرجه البخاري). وعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ فقال: «تبايعوني على أن لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ - قَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَى النِّسَاءِ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ - فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ له وإن شاء عذبه» (أخرجه البخاري ومسلم). وقد روى ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فقال: «قل لهن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعكن على أن لا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا» وَكَانَتْ (هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بن ربيعة) التي شقت بطن حمزة متنكرة في النساء، فقالت هند وهي متنكرة: كَيْفَ تَقْبَلُ مِنَ النِّسَاءِ شَيْئًا لَمْ تَقْبَلْهُ من الرجال؟ فنظر إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال لعمر: "قل لهن: ولا يسرقن"، قَالَتْ هِنْدٌ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُصِيبُ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ الْهَنَاتِ مَا أَدْرِي أَيُحِلُّهُنَّ لِي أَمْ لَا، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا أَصَبْتِ مِنْ شَيْءٍ مَضَى أَوْ قَدْ بَقِيَ فَهُوَ لَكِ حَلَالٌ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعرفها، فَقَالَ: «وَلَا يَزْنِينَ»، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وهل تزني امرأة حرة، قال: «لا والله ما تزني الحرة» قال: «وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ». قَالَتْ هِنْدٌ: أَنْتَ قَتَلْتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَأَنْتَ وَهُمْ أَبْصَرُ، قَالَ: {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} قَالَ: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قَالَ: مَنَعَهُنَّ أَنْ يَنُحْنَ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُمَزِّقْنَ الثِّيَابَ، وَيَخْدِشْنَ الوجوه، ويقطعن الشعور، ويدعون بالويل والثبور (أخرجه ابن جرير قال ابن كثير: في بعضه نكارة وهو أثر غريب). وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يوم الفتح، بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجال على الصفا، وعمر بايع النساء يحلفهن عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ بَقِيَّتَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَزَادَ: فَلَمَّا قَالَ: «ولا تقتلن أولادكن» قَالَتْ هِنْدٌ: رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا فَقَتَلْتُمُوهُمْ كِبَارًا، فَضَحِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى اسْتَلْقَى (رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم). فقوله تعالى: {يِا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} أَيْ مَنْ جَاءَكَ مِنْهُنَّ يُبَايِعُ عَلَى هَذِهِ الشُّرُوطِ فَبَايِعْهَا، عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا يسرقن أموال الناس الأجانب، وقوله تعالى: {وَلاَ يَزْنِينَ} كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً}. وقال الإمام أحمد، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ (فَاطِمَةُ بِنْتُ عُتْبَةَ) تُبَايِعُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ عَلَيْهَا {أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ} الْآيَةَ قال: فوضعت

يَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا حَيَاءً، فَأَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْهَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَقِرِّي أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ، فَوَاللَّهِ مَا بَايَعْنَا إِلَّا عَلَى هَذَا، قَالَتْ: فَنَعَمْ إذاً، فبايعها بالآية (رواه الإمام أحمد)، وقوله تعالى: {وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} وَهَذَا يَشْمَلُ قَتْلَهُ بَعْدَ وُجُودِهِ، كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَوْلَادَهُمْ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ، وَيَعُمُّ قَتْلَهُ وَهُوَ جَنِينٌ، كَمَا قَدْ يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنَ النِّسَاءِ، تَطْرَحُ نَفْسَهَا لِئَلَّا تَحْبَلَ إِمَّا لِغَرَضٍ فَاسِدٍ أَوْ ما أشبهه، وقوله تعالى: {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي لَا يُلْحِقْنَ بِأَزْوَاجِهِنَّ غير أولادهم وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُلَاعَنَةِ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شيء ولن يدخلها الله الجنة» وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين" (أخرجه أبو داود). وقوله تعالى: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} يَعْنِي فِيمَا أَمَرْتَهُنَّ بِهِ مِنْ مَعْرُوفٍ، وَنَهَيْتَهُنَّ عَنْهُ مِنْ مُنْكَرٍ، عن ابن عباس قَالَ: إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ شَرَطَهُ اللَّهُ لِلنِّسَاءِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَةِ رَسُولِهِ وَهُوَ خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ فِي الْمَعْرُوفِ، وقد قال غير واحد: نهاهن يومئذٍ عن النوح، وعن الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ فِيمَا أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلَّا تُحَدِّثْنَ الرِّجَالَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتَ مَحْرَمٍ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ يُحَدِّثُ الْمَرْأَةَ حَتَّى يَمْذِيَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقال ابن جرير، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: كَانَ فِيمَا اشترط عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المعروف حين بايعناه أن لا نَنُوحَ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ: إِنَّ بَنِي فُلَانٍ أَسْعَدُونِي، فَلَا حَتَّى أَجْزِيَهُمْ، فَانْطَلَقَتْ فَأَسْعَدَتْهُمْ، ثُمَّ جَاءَتْ فَبَايَعَتْ، قَالَتْ: فَمَا وَفَّى مِنْهُنَّ غَيْرُهَا وَغَيْرُ أُمِّ سُلَيْمٍ ابْنَةِ مِلْحَانَ أم أنَس بن مالك (أخرجه ابن جرير ورواه البخاري بنحوه). وعن امْرَأَةٍ مِنَ الْمُبَايِعَاتِ قَالَتْ: «كَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ أَنْ لَا نخمش وجهاً، وَلَا نَنْشُرَ شَعْرًا، وَلَا نَشُقَّ جَيْبًا وَلَا ندعو ويلاً» (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ). وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ نِسَاءَ الْأَنْصَارِ فِي بَيْتٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَامَ عَلَى الْبَابِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَرَدَدْنَ، أَوْ فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ السَّلَامَ ثُمَّ قَالَ: أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم إليكن، فقالت، فَقُلْنَا: مَرْحَبًا بِرَسُولِ اللَّهِ وَبِرَسُولِ رَسُولِ اللَّهِ، فقال: تبايعن عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقْنَ وَلَا تَزْنِينَ، قَالَتْ: فَقُلْنَا: نَعَمْ، قَالَتْ، فَمَدَّ يَدَهُ مِنْ خَارِجِ الْبَابِ أَوِ الْبَيْتِ وَمَدَدْنَا أَيْدِيَنَا مِنْ دَاخِلِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، قَالَتْ: وَأَمَرَنَا فِي الْعِيدَيْنِ أَنْ نُخْرِجَ فِيهِ الْحُيَّضَ وَالْعَوَاتِقَ وَلَا جُمُعَةَ عَلَيْنَا، ونهى عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ: فَسَأَلْتُ جَدَّتِي عن قوله تعالى: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قالت: النياحة (رواه ابن جرير). وفي الصحيحن عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بدعوى الجاهلية» (أخرجه الشيخان). وعن أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول الله تعالى: {وَلاَ يَعْصِينَكَ في معروف}، قال: النوح.

- 13 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ يَنْهَى تبارك وتعالى عن مولاة الْكَافِرِينَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، كَمَا نَهَى عنها في أولها فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَسَائِرَ الْكُفَّارِ، مِمَّنْ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ، وَاسْتَحَقَّ مِنَ اللَّهِ الطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ، فَكَيْفَ تُوَالُونَهُمْ وَتَتَّخِذُونَهُمْ أصدقاء وأخلاء {قد يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} أَيْ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَنَعِيمِهَا فِي حُكْمِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَقَوْلُهُ تعالى: {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ الْأَحْيَاءُ مِنْ قَرَابَاتِهِمُ، الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ إِنْ يَجْتَمِعُوا بِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ بَعْثًا وَلَا نُشُورًا، فَقَدِ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ مِنْهُمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَهُ، قال ابن عباس: يَعْنِي مَنْ مَاتَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ، فَقَدْ يَئِسَ الْأَحْيَاءُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِمْ أَوْ يَبْعَثَهُمُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَقَالَ الحسن البصري الكفار لأحياء قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْأَمْوَاتِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ أَصْحَابُ الْقُبُورِ الذين ماتوا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَعْنَاهُ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ هُمْ فِي القبور من كل خير (وهو قول مجاهد وعكرمة ومقاتل وابن زيد الكلبي)، قال ابْنِ مَسْعُودٍ: {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} قَالَ: كَمَا يَئِسَ هَذَا الْكَافِرُ إِذَا مات وعاين ثوابه واطلع عليه، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله.

61 - سورة الصف.

- 61 - سورة الصف.

روى الترمذي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: قَعَدْنَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَذَاكَرْنَا، فَقُلْنَا: لَوْ نَعْلَمُ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ لَعَمِلْنَاهُ، فأنزل الله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أخرجه الترمذي والإمام أحمد).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - 2 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ - 3 - كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ - 4 - إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بنيان مرصوص قد تقدم الكلام على قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} غَيْرَ مَرَّةٍ بِمَا أغنى عن إعادته، وقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} إنكاراً على من يعد وعداً، أو يقول قولاً لا يفي به، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا وعد أخلف، وإذا أحدث كذب، وإذا اؤتمن خان"، وَلِهَذَا أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} نزلت حين تمنوا فريضة الْجِهَادِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا فُرِضَ نَكَلَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ، كقوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}، وقال تعالى: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت} الآية، وهكذا هذه الآية كما قال ابن عباس: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْجِهَادُ يَقُولُونَ: لَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ دَلَّنَا عَلَى أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ فَنَعْمَلَ بِهِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِيمَانٌ بِهِ لَا شَكَّ فِيهِ، وَجِهَادُ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ الذين خالفوا بالإيمان وَلَمْ يُقِرُّوا بِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْجِهَادُ كَرِهَ ذلك ناس من المؤمنينن وشق عليهم أمره، فقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ)؟ وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: قَالَ الْمُؤْمِنُونَ لَوْ نَعْلَمُ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَا بِهِ، فَدَلَّهُمُ اللَّهُ عَلَى أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} فَبَيَّنَ لَهُمْ، فَابْتُلُوا يَوْمَ أُحُد بِذَلِكَ فَوَلَّوْا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدْبِرِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ تَوْبِيخًا لِقَوْمٍ كَانُوا يَقُولُونَ: قَتَلْنَا، ضَرَبْنَا، طَعَنَّا، وَفَعَلْنَا؛ وَلَمْ يَكُونُوا فعلوا ذلك. وقال ابن زيد: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَعِدُونَ الْمُسْلِمِينَ النَّصْرَ وَلَا يَفُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَقَالَ مجاهد: نزلت فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فِيهِمْ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ)، قَالُوا فِي مَجْلِسٍ: لَوْ نَعْلَمُ أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به حتى نموت؟ فأنزل الله تعالى هَذَا فِيهِمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: لا أبرح حبيساً في سبيل الله أموت فقتل شهيداً. ولهذا قال تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} فَهَذَا إِخْبَارٌ من الله تعالى بمحبته عبادة المؤمنين، إذا صفوا مُوَاجِهِينَ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ فِي حَوْمَةِ الْوَغَى، يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَدِينُهُ هُوَ الظَّاهِرُ العالي على سائر الأديان، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "ثلاثة يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَيْهِمُ: الرَّجُلُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ، وَالْقَوْمُ إِذَا صَفُّوا لِلصَّلَاةِ، وَالْقَوْمُ إِذَا صَفُّوا للقتال" (أخرجه ابن ماجه والإمام أحمد). وقال مُطَرِّفٌ: كَانَ يَبْلُغُنِي عَنْ أَبِي ذَرٍّ حَدِيثٌ كُنْتُ أَشْتَهِي لِقَاءَهُ، فَلَقِيتُهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا ذَرٍّ كَانَ يَبْلُغُنِي عَنْكَ حَدِيثٌ فَكُنْتُ أَشْتَهِي لِقَاءَكَ، فَقَالَ: لِلَّهِ أَبُوكَ، فَقَدْ لَقِيتَ فَهَاتِ، فَقُلْتُ: كَانَ يَبْلُغُنِي عَنْكَ أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَكُمْ أن الله يبغض ثلاثة ويحب ثَلَاثَةً، قَالَ: أَجَلْ فَلَا إِخَالُنِي أَكْذِبُ عَلَى خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: فَمَنْ هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عزَّ وجلَّ؟ قَالَ: رَجُلٌ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَرَجَ مُحْتَسِبًا مُجَاهِدًا، فَلَقِيَ الْعَدُوَّ فَقُتِلَ، وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مرصوص} (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الترمذي والنسائي بنحوه) وذكر الحديث. وقال سعيد بن جبير في قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَاتِلُ الْعَدُوَّ إِلَّا أَنْ يُصَافَّهُمْ، وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وقوله تعالى: {كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} أي مُلْتَصِقٌ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ، مِنَ الصَّفِّ فِي القتال، وقال مقاتل بن حيان: مُلْتَصِقٌ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} مُثَبَّتٌ لَا يَزُولُ مُلْصَقٌ بعضه ببعض، وقال ابن جرير، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ الطَّائِيِّ، عَنْ أَبِي بَحْرِيَّةَ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ عَلَى الْخَيْلِ، وَيَسْتَحِبُّونَ الْقِتَالَ عَلَى الْأَرْضِ لِقَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} قَالَ، وَكَانَ أَبُو بَحْرِيَّةَ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمُونِي الْتَفَتُّ فِي الصف فجأوا (فجأوا: أي اضربوا (من: وجأ عنقه أو في عنقه) ضربه) في لحيي.

- 5 - وَإِذْ قَالَ موسى لقومه يا قوم لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ - 6 - وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم

مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ (مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ) عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ}، أَيْ لِمَ تُوصِلُونَ الْأَذَى إليَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ صِدْقِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ؟ وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فيما أصابه مِّنَ الكفَّار. وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} أَيْ فَلَمَّا عَدَلُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ، أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْهُدَى، وَأَسْكَنَهَا الشَّكَّ والحيرة والخذلان، كما قال تعالى: {وَنَذَرُهُمْ في طيغانهم يعمهون}، وقال تَعَالَى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مصيرا}، ولهذا قال تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين}، وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يديَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً برسولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} يعني التوراة، وقد بَشَّرَتْ بِي وَأَنَا مِصْدَاقُ مَا أَخْبَرَتْ عَنْهُ، وأما مُبَشِّرٌ بِمَنْ بَعْدِي وَهُوَ الرَّسُولُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ العربي المكي (أحمد) فعيسى عليه السلام هو خَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ أَقَامَ فِي مَلَإِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَشِّرًا بِمُحَمَّدٍ وَهُوَ أَحْمَدُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ الَّذِي لَا رِسَالَةَ بَعْدَهُ وَلَا نُبُوَّةَ. وَمَا أَحْسَنَ مَا أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ لِي أَسْمَاءٌ، أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قدمي، وأنا العاقب» (أخرجه البخاري ورواه مسلم بنحوه). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ، لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيَتَّبِعَنَّهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أُمّته لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ ليتبعنه وينصرنه. وقال محمد بن إسحاق، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ، قَالَ: «دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وبًشْرى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمي حِينَ حَمَلَتْ بِي كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ» (رواه ابن إسحاق، قال ابن كثير: إسناده جيد وله شواهد من وجوه آخر). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني عند الله لخاتم النبين، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنْبِئُكُمْ بِأَوَّلِ ذلك دعوة أبي إبراهيم، وبُشْرى عيسى، ورؤيا أمي التي رأت أُمّي الَّتِي رَأَتْ وَكَذَلِكَ أُمَّهات النَّبِيِّينَ يَرَيْنَ» (أخرجه الإمام أحمد عن العرباض بن سارية مرفوعاً). وروى أحمد عن أبي أُمَامَةَ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ بَدْءِ أَمْرِكَ؟ قَالَ: «دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ» (أخرجه الإمام أحمد). وقال عبد الله بن مسعود: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيِّ وَنَحْنُ نحوٌ مَنْ ثَمَانِينَ رَجُلًا، منهم (عبد الله بن مسعود) و (جعفر) و (عبد الله بن رواحة) و (عثمان بن مظعون) و (أبو مُوسَى) فَأَتَوُا النَّجَاشِيَّ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ (عَمْرَو بْنَ العاص) و (عمارة

بْنَ الْوَلِيدِ) بِهَدِيَّةٍ، فَلَمَّا دَخَلَا عَلَى النَّجَاشِيِّ سَجَدَا لَهُ، ثُمَّ ابْتَدَرَاهُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَا لَهُ: إِنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي عَمِّنَا نَزَلُوا أَرْضَكَ وَرَغِبُوا عَنَّا، وَعَنْ مِلَّتِنَا، قَالَ: فَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَا: هُمْ فِي أرضك فابعث إليهم، فبعث إليهم، قال جَعْفَرٌ: أَنَا خَطِيبُكُمُ الْيَوْمَ، فَاتَّبَعُوهُ، فَسَلَّمَ وَلَمْ يسجد، فقالوا له: مالك لَا تَسْجُدُ لِلْمَلِكِ؟ قَالَ: إِنَّا لَا نَسْجُدُ إِلَّا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولَهُ، فَأَمَرَنَا أن لا نسجد لأحد إلا الله عزَّ وجلَّ، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، قَالَ عَمْرُو بن العاص: فإنهم يخالفونك في عيسى بن مَرْيَمَ، قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مريم وأُمّه؟ قال: نَقُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ، وَرُوحُهُ أَلْقَاهَا إِلَى الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ التي لم يمسها بشر، ولم يعترضها وَلَدٌ، قَالَ، فَرَفَعَ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَبَشَةِ وَالْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ، وَاللَّهِ مَا يَزِيدُونَ عَلَى الَّذِي نَقُولُ فِيهِ مَا يُسَاوِي هَذَا، مَرْحَبًا بِكُمْ وَبِمَنْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِهِ، أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ الَّذِي نجده فِي الْإِنْجِيلِ، وَأَنَّهُ الَّذِي بَشّر بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، انْزِلُوا حَيْثُ شِئْتُمْ، وَاللَّهِ لَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ لَأَتَيْتُهُ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أَحْمِلُ نَعْلَيْهِ، وَأُوَضِّئُهُ، وَأَمَرَ بِهَدِيَّةِ الآخرين فرُدَّتْ إليهما (رواه أحمد وأصحاب السير). وَالْمَقْصِدُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَمْ تَزَلْ تَنْعَتُهُ وَتَحْكِيهِ فِي كُتُبِهَا عَلَى أُممها، وَتَأْمُرُهُمْ باتباعه ونصره وموازرته إذا بُعث، وكان أول مَا اشْتَهَرَ الْأَمْرُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ، عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَالِدِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ، حِينَ دَعَا لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رسولاً منهم، وكذا على لسان عيسى بن مريم، ولهذا قال: «دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بن مَرْيَمَ، وَرُؤْيَا أُمي الَّتِي رَأَتْ» أَيْ ظَهَرَ في أهل مكة أثر ذلك، والإرهاص، فذكره صلوات الله وسلامه عليه. وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} قال ابن جريج، {فَلَمَّا جَاءَهُم} أَحْمَدُ أَيِ الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَقَادِمَةِ الْمُنَوَّهُ بِذِكْرِهِ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ، لَمَّا ظَهَرَ أَمْرُهُ وَجَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ الْكَفَرَةُ وَالْمُخَالِفُونَ {هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}.

- 7 - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - 8 - يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ - 9 - هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ}، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ يَفْتَرِي الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَيَجْعَلُ لَهُ أَنْدَادًا وَشُرَكَاءَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى التوحيد والإخلاص، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، ثُمَّ قَالَ تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} أَيْ يُحَاوِلُونَ أن يردوا الحق بالباطل، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

- 10 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - 11 - تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - 12 - يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - 13 - وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وفتح قريب وبشر المؤمنين فسَّر الله تعالى هذه التجارة العظيمة التي لا تبور، التي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، أَيْ مِنْ تِجَارَةِ الدُّنْيَا وَالْكَدِّ لَهَا والتصدي لها وحدها، ثم قال تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أَيْ إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَدَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِ، غَفَرْتُ لَكُمُ الزَّلَّاتِ، وأدخلتكم الجنات، والمساكن الطيبات، ولهذا قال تعالى: {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، ثم قال تعالى: {وأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} أَيْ وَأَزِيدُكُمْ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةً تُحِبُّونَهَا، وَهِيَ {نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أَيْ إِذَا قَاتَلْتُمْ فِي سَبِيلِهِ وَنَصَرْتُمْ دِينَهُ، تكفل الله بنصركم، قال الله تعالى: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عزيز}، وقوله تعالى: {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أَيْ عَاجِلٌ، فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ هِيَ خَيْرُ الدُّنْيَا مَوْصُولٌ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ، لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَنَصَرَ اللَّهَ وَدِينَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وبشر المؤمنين}.

- 14 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ يَكُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَأَنْ يَسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا اسْتَجَابَ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى، حِينَ قَالَ: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} أي من مُعِينِي فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} وَهُمْ أَتْبَاعُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} أَيْ نَحْنُ أَنْصَارُكَ عَلَى ما أرسلت به، وموازروك على ذلك، وَهَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ: «مَنْ رَجُلٌ يُؤْوِينِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي» حَتَّى قَيَّضَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لَهُ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَبَايَعُوهُ وَوَازَرُوهُ وَشَارَطُوهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنَ الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ إِنْ هُوَ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَيْهِمْ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفَّوْا لَهُ بِمَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (الْأَنْصَارَ) وَصَارَ ذَلِكَ عَلَمًا عَلَيْهِمْ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. وَقَوْلُهُ تعالى: {فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ} أي لما بلغ عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام رِسَالَةَ رَبِّهِ إِلَى قَوْمِهِ، وَوَازَرَهُ مَنْ وَازَرَهُ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، اهْتَدَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ وَضَلَّتْ طَائِفَةٌ، فَخَرَجَتْ عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ، وَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَرَمَوْهُ وَأُمَّهُ بِالْعَظَائِمِ، وَهُمُ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ

إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَغَلَتْ فِيهِ طَائِفَةٌ مِمَّنِ اتَّبَعَهُ حَتَّى رَفَعُوهُ فَوْقَ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَافْتَرَقُوا فِرَقًا وَشِيَعًا، فَمِنْ قَائِلٍ منهم: إنه ابن الله، وقائل: إنه ثالت ثلاثة (الأب والابن والروح الْقُدُسِ) وَمِنْ قَائِلٍ: إِنَّهُ اللَّهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الأقوال مفصلة في سورة النساء. وقوله تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَى عَدُوِّهِمْ} أَيْ نَصَرْنَاهُمْ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ مِنْ فِرَقِ النَّصَارَى {فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} أَيْ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: {فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ} يَعْنِي الطَّائِفَةَ الَّتِي كَفَرَتْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ عِيسَى، وَالطَّائِفَةَ الَّتِي آمَنَتْ فِي زَمَنِ عِيسَى {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} بِإِظْهَارِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم دينهم على دين الكفار، فأُمّة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ، وَحَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الدَّجَّالَ مع المسيح عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصحاح، والله أعلم.

62 - سورة الجمعة.

- 62 - سورة الجمعة.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ - 2 - هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ - 3 - وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - 4 - ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يُسَبِّحُ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، أَيْ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ نَاطِقِهَا وَجَامِدِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، ثم قال تعالى {الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ} أَيْ هُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، المتصرف فيها بحكمه، وهو المقدس أَيِ الْمُنَزَّهِ عَنِ النَّقَائِصِ، الْمَوْصُوفِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، {العزيز الحكيم}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ}، الْأُمِّيُّونَ: هُمُ الْعَرَبُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ}؟ وَتَخْصِيصُ الْأُمِّيِّينَ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي مَنْ عَدَاهُمْ، ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ ولقومك} وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به، وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ مِصْدَاقُ إِجَابَةِ اللَّهِ لِخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، حِينَ دَعَا لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَبْعَثَ الله فيهم رسولاً منهم، فبعثه الله تعالى عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ، وَطُمُوسٍ مِنَ السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَبَدَّلُوهُ وغيّروه. وَاسْتَبْدَلُوا بِالتَّوْحِيدِ شِرْكًا، وَبِالْيَقِينِ شَكًّا، وَابْتَدَعُوا أَشْيَاءَ لم يأذن بها الله، وكذلك أَهْلَ الكتاب قَدْ بَدَّلُوا كُتُبَهُمْ وَحَرَّفُوهَا، وَغَيَّرُوهَا وَأَوَّلُوهَا، فَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بِشَرْعٍ عظيم كامل شامل، فيه هدايته والبيان لجميع ما يحتاج الناس إليه من أمر معاشهم ومعادهم، وجمع له تعالى

جَمِيعَ الْمَحَاسِنِ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَأَعْطَاهُ مَا لم يعط أحداً من الأولين ولا يعيطه أَحَدًا مِنَ الْآخَرِينَ، فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحكيم}. روى الإمام الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُمْ حَتَّى سُئِلَ ثَلَاثًا، وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ على سلمان الفارسي، ثُمَّ قَالَ: «لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لناله رجال - أو رجل - من هؤلاء» (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي). ففي هذا الحديث دليل على عُمُومِ بَعْثَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جميع الناس، لأنه فسَّر قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} بفارس، ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} قَالَ: هُمُ الْأَعَاجِمُ وَكُلُّ مَنْ صَدَّقَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ العرب، وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أَيْ ذُو الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ في شرعه وقدره، وقوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} يَعْنِي مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النُّبُوَّةِ العظيمة. وما خص به أُمته من بعثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ.

- 5 - مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - 6 - قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 7 - وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ - 8 - قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِلْيَهُودِ، الَّذِينَ أُعطوا التَّوْرَاةَ وَحَمَلُوهَا لِلْعَمَلِ بها، ثم لم يَعْمَلُوا بِهَا، مَثَلُهُمْ فِي ذَلِكَ {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} أَيْ كَمَثَلِ الْحِمَارِ إِذَا حُمِّلَ كُتُبًا لَا يَدْرِي مَا فِيهَا، فَهُوَ يَحْمِلُهَا حَمْلًا حِسِّيًّا وَلَا يَدْرِي مَا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ فِي حَمْلِهِمُ الْكِتَابَ الَّذِي أُوتُوهُ، حَفِظُوهُ لفظاً ولم يتفهموه، ولا عملوا بمقتضاه، فهم أسوأ حالاً من الحمار، لِأَنَّ الْحِمَارَ لَا فَهْمَ لَهُ، وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ فهوم لم يستعملوها، كما قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغافلون}، وقال تعالى ههنا: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ، والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَالَّذِي يَقُولُ لَهُ: أَنْصِتْ لَيْسَ لَهُ جمعة" (أخرجه الإمام أحمد)، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ عَلَى هُدًى، وَأَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَادْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى الضَّالِّ مِنَ الْفِئَتَيْنِ {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي فِيمَا تَزْعُمُونَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أَيْ بِمَا يَعْمَلُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفُجُورِ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} وقد قدمنا الكلام في سورة البقرة عَلَى هَذِهِ الْمُبَاهَلَةِ لِلْيَهُودِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ

اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} كَمَا تَقَدَّمَتْ مُبَاهَلَةُ النَّصَارَى فِي آلِ عِمْرَانَ {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ} الآية. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: إِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ، قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا، وَلَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ أهلاً ولا مالاً» (رواه البخاري والترمذي والنسائي)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، كَقَوْلِهِ تعالى في سورة النساء: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يدركم الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}، وفي معجم الطبراني عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: "مَثَلُ الَّذِي يَفِرُّ مِنَ الْمَوْتِ كَمَثَلِ الثَّعْلَبِ تَطْلُبُهُ الْأَرْضُ بِدَيْنٍ، فَجَاءَ يَسْعَى حَتَّى إِذَا أَعْيَا وَانْبَهَرَ دخل حجره: فَقَالَتْ لَهُ الْأَرْضُ، يَا ثَعْلَبُ دَيْنِي، فَخَرَجَ لَهُ حِصَاصٌ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى تَقَطَّعَتْ عُنُقُهُ فمات" (رواه الحافظ الطبراني).

- 9 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - 10 - فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تفلحون إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْجُمُعَةُ جُمُعَةً لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً بِالْمَعَابِدِ الْكِبَارِ، وَفِيهِ كَمُلَ جميع الخلائق، وفيه خلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيخ أُخرج منها، وفيه تقوم الساعة، كما ثبت بذلك الأحاديث الصحاح، وقد كان يقال له (يَوْمُ الْعُرُوبَةِ)، وَثَبَتَ أَنَّ الْأُمَمَ قَبْلَنَا أُمروا بِهِ فَضَلُّوا عَنْهُ، وَاخْتَارَ الْيَهُودُ يَوْمَ السَّبْتِ الذي لم يقع فيه خلق آدم، وَاخْتَارَ النَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ الَّذِي ابْتُدِئَ فِيهِ الْخَلْقُ، وَاخْتَارَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الَّذِي أَكْمَلَ اللَّهُ فِيهِ الْخَلِيقَةَ، كَمَا أَخْرَجَهُ البخاري ومسلم. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قبلنا، ثم إن هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد» (هذا لفظ البخاري) ولمسلم: «أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتَ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الأحد، فجاء الله بها فَهَدَانَا اللَّهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالْأَحَدَ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ القيامة، المقضي بينهم قبل الخلائق» (أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم). وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاجْتِمَاعِ لِعِبَادَتِهِ يَوْمَ الجمعة فقال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي اقصدوا واعمدوا واهتموا في سيركم إليها، وليس المراد بالسعي ههنا الْمَشْيُ السَّرِيعُ وَإِنَّمَا هُوَ الِاهْتِمَامُ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مؤمن}، فَأَمَّا الْمَشْيُ السَّرِيعُ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ لِمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَلَا تُسْرِعُوا فَمَا أَدْرَكْتُمْ فصلوا وما فاتكم

فأتموا». وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ؟» قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: «فَلَا تفعلوا. إذا أتيتم الصلاة فامشكوا وَعَلَيْكُمُ السِّكِينَةُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلَّوْا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» (أَخْرَجَاهُ في الصحيحين). وفي رواية: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ وَلَكِنِ ائْتُوهَا تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فصلوا وما فاتكم فأتموا» (رواه الترمذي)، قَالَ الْحَسَنُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالسَّعْيِ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَلَقَدْ نُهُوا أَنْ يَأْتُوا الصَّلَاةَ إِلَّا وَعَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَلَكِنْ بِالْقُلُوبِ وَالنِّيَّةِ والخشوع، وقال قتادة في قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} يَعْنِي أَنْ تَسْعَى بِقَلْبِكَ وَعَمَلِكَ وَهُوَ الْمَشْيُ إِلَيْهَا، وَكَانَ يَتَأَوَّلُ قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي} أي المشي معه. ويستحب لمن جاء إلى الْجُمُعَةَ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ مَجِيئِهِ إِلَيْهَا، لِمَا ثبت في الصحيحين عن عبد الله ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ». وَلَهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَقٌّ الله عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). وعن أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: من غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ وَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ أَجْرُ سَنَةٍ صيامها وقيامها" (قال ابن كثير: هذا الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ وَأَلْفَاظٌ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ جنابة ثم راح في الساعة الأولى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذكر» (أخرجه الشيخان)، ويستحب أَنْ يَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَيَتَطَيَّبَ وَيَتَسَوَّكَ وَيَتَنَظَّفَ ويتطهر. لما روى الإمام أحمد عن أبي أيوب الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَمَسَّ مِنْ طِيبِ أَهْلِهِ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ فَيَرْكَعَ إِنْ بَدَا لَهُ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا، ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ إِمَامُهُ حَتَّى يُصَلِّيَ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى» (أخرجه الإمام أحمد). وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَرَأَى عَلَيْهِمْ ثِيَابَ النِّمَارِ، فَقَالَ: «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ سَعَةً أَنْ يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوب مِهْنَتِهِ» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذاً نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة} الْمُرَادُ بِهَذَا النِّدَاءِ هُوَ (النِّدَاءُ الثَّانِي) الَّذِي كَانَ يُفْعَلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِنَّهُ كَانَ حينئذٍ يُؤَذَّنُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ، فَأَمَّا النِّدَاءُ الْأَوَّلُ الَّذِي زَادَهُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّمَا كَانَ هَذَا لِكَثْرَةِ النَّاسِ، كما رواه البخاري رحمه الله، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ

قَالَ: «كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلَهُ إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بَعْدَ زَمَنٍ وَكَثُرَ الناس، زاد النداء على الزوراء» (رواه البخاري) يعني يؤذن به على الدار التي تسمة بِالزَّوْرَاءِ، وَكَانَتْ أَرْفَعَ دَارٍ بِالْمَدِينَةِ بِقُرْبِ الْمَسْجِدِ. وذلك النداء الذي يحرم عنده الشراء والبيع إِذَا نُودِيَ بِهِ، فَأَمَرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُنَادَى قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِحُضُورِ الْجُمُعَةِ الرِّجَالُ الأحرار دون العبيد والنساء والصبيان، ويعذر المسافر والمريض وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ كَمَا هُوَ مقرر في كتب الفروع. وقوله تعالى: {وَذَرُواْ الْبَيْعَ} أَيِ اسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَاتْرُكُوا الْبَيْعَ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ الْبَيْعِ بعد النداء الثاني، وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ تَرْكُكُمُ الْبَيْعَ وَإِقْبَالُكُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَإِلَى الصَّلَاةِ {خَيْرٌ لَّكُمْ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} أَيْ فُرِغَ مِنْهَا {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} لَمَّا حجر عليهم من التَّصَرُّفِ بَعْدَ النِّدَاءِ، وَأَمَرَهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ، أَذِنَ لَهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ فِي الِانْتِشَارِ فِي الْأَرْضِ وَالِابْتِغَاءِ مِن فَضْلِ اللَّهِ، كَمَا كَانَ (عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ). وَرُوِي عَنْ بَعْضِ السلف أنه قال: من باع واشترع فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ سَبْعِينَ مَرَّةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ الله}، وقوله تعالى: {واذكروا الله كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي في حال بيعكم وشرائكم وأخذكم وإعطائكم، اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَلَا تَشْغَلْكُمُ الدُّنْيَا عَنِ الَّذِي يَنْفَعُكُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مَنْ دَخَلَ سُوقًا مِنَ الْأَسْوَاقِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ حسنة ومحا عَنْهُ أَلْفُ أَلْفِ سَيِّئَةٍ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا حَتَّى يَذْكُرَ اللَّهَ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمُضْطَجِعًا.

- 11 - وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ يعاتب تبارك وتعالى على ما كان من وَقَعَ مِنْ الِانْصِرَافِ عَنِ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى التِّجَارَةِ الَّتِي قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ يومئذٍ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} أَيْ عَلَى الْمِنْبَرِ تَخْطُبُ، عن جابر رضي الله عنه قال: قدمت عير مرة الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَخَرَجَ النَّاسُ، وَبَقِيَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَنَزَلَتْ: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} (أخرجاه في الصحيحين). وروى الحافظ أبو يعلى، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَدِمَتْ عِيرٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَابْتَدَرَهَا أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَتَابَعْتُمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْكُمْ أَحَدٌ لَسَالَ بِكُمُ الْوَادِي نَارًا» وَنَزَلَتْ

هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً}، وَقَالَ: كَانَ فِي الاثني عشر للذين ثَبَتُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (رواه الحافظ الموصلي)، وفي قوله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صحيحه عن جابر بن سمرة قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَتَانِ يَجْلِسُ بينهما يقرأ القرآن ويذكّر الناس، ولكن ههنا شَيْءٌ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَدْ قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَدِّمُ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْخُطْبَةِ، كَمَا رَوَاهُ أبو داود في كتاب المراسيل، عن مُقَاتِلَ بْنَ حَيَّانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ مِثْلَ الْعِيدَيْنِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ وَقَدْ صَلَّى الْجُمُعَةَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ دَحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ قَدْ قَدِمَ بِتِجَارَةٍ، يَعْنِي فَانْفَضُّوا، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ (أخرجه أبو داود)، وقوله تعالى: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ} أَيِ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ {خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أَيْ لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَطَلَبَ الرِّزْقَ فِي وقته.

63 - سورة المنافقون.

- 63 - سورة المنافقون.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لِرَسُولِهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ - 2 - اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - 3 - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ - 4 - وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ المنافقين، أنهم إنما يتفهون بالإسلام ظاهراً فَأَمَّا فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ بَلْ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} أَيْ إِذَا حَضَرُوا عِنْدَكَ وَاجَهُوكَ بِذَلِكَ، وأظهروا لك ذلك، وليس كَمَا يَقُولُونَ وَلِهَذَا اعْتَرَضَ بِجُمْلَةٍ مُخْبِرَةٍ أَنَّهُ رسول الله فقال: {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}. ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} أَيْ فِيمَا أخبروا به لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ صِحَّةَ مَا يَقُولُونَ وَلَا صِدْقَهُ، وَلِهَذَا كَذَّبَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِهِمْ، وقوله تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة لِيُصَدَّقُوا فِيمَا يَقُولُونَ فَاغْتَرَّ بِهِمْ مَنْ لَا يعرف جلية أمرهم، فاعتقدوا أنهم مسلمون، وَهُمْ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْبَاطِنِ لا يألون الإسلام وأهله خيالاً، فَحَصَلَ بِهَذَا الْقَدْرِ ضَرَرٌ كَبِيرٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وقوله تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ، ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} أَيْ إِنَّمَا قُدِّرَ عَلَيْهِمُ النِّفَاقُ لِرُجُوعِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرَانِ، واستبدالهم الضلالة بالهدى، {فَطُبِعَ الله عَلَى قُلُوبِهمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} أَيْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى قُلُوبِهِمْ هُدًى، وَلَا يَخْلُصُ إِلَيْهَا خير فلا تعي ولا تهتدي. وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} أي وكانوا أشكالاً حسنة وذوي فصاحة وألسنة، وإذا سَمِعَهُمُ السَّامِعُ يُصْغِي إِلَى قَوْلِهِمْ لِبَلَاغَتِهِمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي

غاية الضعف والخور والهلع والجزع، ولهذا قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أَيْ كُلَّمَا وَقَعَ أمر أَوْ خَوْفٌ، يَعْتَقِدُونَ لِجُبْنِهِمْ أَنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ، كما قال تعالى: {فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الموت} فَهُمْ جَهَامَاتٌ وَصُوَرٌ بِلَا مَعَانِي، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أَيْ كَيْفَ يُصرَفُونَ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، وفي الحديث: "إِنَّ لِلْمُنَافِقِينَ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا: تَحِيَّتُهُمْ لَعْنَةٌ، وَطَعَامُهُمْ نُهْبَةٌ، وَغَنِيمَتُهُمْ غُلُولٌ، وَلَا يَقَرَبُونَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا هَجْرًا، وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا دَبْرًا، مُسْتَكْبِرِينَ، لَا يَأْلَفُونَ وَلَا يُؤْلَفُونَ، خُشُبٌ بِاللَّيْلِ صُخب بالنهار" (أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً، وقال يزيد بن مرة: سُخُب بالنهار أي بالسين).

- 5 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رؤوسهم وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مستكبرون - 6 - سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ - 7 - هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تنفقوا على من عند رسول الله حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ - 8 - يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُنَافِقِينَ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ أنهم {إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رؤوسهم} أَيْ صَدُّوا وَأَعْرَضُوا عَمَّا قِيلَ لَهُمُ اسْتِكْبَارًا عَنْ ذَلِكَ وَاحْتِقَارًا لِمَا قِيلَ لَهُمْ، وَلِهَذَا قال تعالى: {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} ثُمَّ جَازَاهُمْ عَلَى ذلك فقال تعالى: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين}. عن سفيان {لوّوا رؤوسهم} حَوَّلَ سُفْيَانُ وَجْهَهُ عَلَى يَمِينِهِ، وَنَظَرَ بِعَيْنِهِ شزراً، ثم قال هو هذا (رواه عنه ابن أبي حاتم)، وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ كُلَّهُ نَزَلَ فِي (عَبْدِ اللَّهِ بن أبي سَلُولٍ) كَمَا سَنُورِدُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى. قال قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي، وَذَلِكَ أَنَّ غُلَامًا مِنْ قَرَابَتِهِ انْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَدَّثَهُ بِحَدِيثٍ عَنْهُ وَأَمْرٍ شَدِيدٍ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ وَيَتَبَرَّأُ مِنْ ذَلِكَ، وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام فلاموه وعزلوه وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مَا تَسْمَعُونَ، وَقِيلَ لِعَدُوِّ اللَّهِ: لَوْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَلْوِي رَأْسَهُ، أَيْ لَسْتُ فاعلاً. وقال أبو إسحاق فِي قِصَّةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمٌ هُنَاكَ اقْتَتَلَ عَلَى الْمَاءِ (جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ الْغِفَارِيُّ) وَكَانَ أَجِيرًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ و (سنان بن يزيد)، فَقَالَ سِنَانٌ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْجَهْجَاهُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَنَفَرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عِنْدَ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي) فَلَمَّا سَمِعَهَا قَالَ: قَدْ ثَاوَرُونَا فِي بِلَادِنَا وَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَجَلَابِيبُ قُرَيْشٍ هَذِهِ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: سمِّن كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، وَاللَّهِ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ

الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، ثُمَّ أَقْبَلُ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَقَالَ: هَذَا مَا صَنَعْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ، وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ، أَمَا وَاللَّهِ لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بِلَادِكُمْ إِلَى غَيْرِهَا، فَسَمِعَهَا (زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ) رضي الله عنه فَذَهَبَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وهو غليم عنده عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مُرْ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَضْرِبْ عُنُقُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَكَيْفَ إِذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ يَا عُمَرُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، لَا، وَلَكِنْ نَادِ يا عمر: الرَّحِيلِ"، فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبي أَنَّ ذَلِكَ قَدْ بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَاهُ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، وَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قَالَ، مَا قَالَ عَلَيْهِ (زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ) وَكَانَ عِنْدَ قَوْمِهِ بِمَكَانٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَسَى أَن يَكُونَ هَذَا الْغُلَامُ أَوْهَمَ وَلَمْ يُثْبِتْ مَا قَالَ الرَّجُلُ، وَرَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَجِّرًا فِي سَاعَةٍ كَانَ لَا يَرُوحُ فِيهَا، فلقيه (أسيد بن الحضير) رضي الله عنه، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِتَحِيَّةِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لقد رحت في ساعة مبكرة مَا كُنْتَ تَرُوحُ فِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكَ ابْنُ اُبي؟ زَعَمَ أَنَّهُ إِذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ سَيُخْرِجُ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ»، قَالَ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْعَزِيزُ وَهُوَ الذَّلِيلُ، ثم قال: ارفق به يا رسول الله، فَوَاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِكَ، وَإِنَّا لَنَنْظِمُ لَهُ الْخَرَزَ لِنُتَوِّجَهُ، فَإِنَّهُ لَيَرَى أَنْ قَدِ سلبته مُلْكًا، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ حتى أمسوا وليلته حَتَّى أَصْبَحُوا، وَصَدَرَ يَوْمَهُ حَتَّى اشْتَدَّ الضُّحَى، ثُمَّ نَزَلَ بِالنَّاسِ لِيَشْغَلَهُمْ عَمَّا كَانَ مِنَ الْحَدِيثِ، فَلَمْ يَأْمَنِ النَّاسُ أَنْ وَجَدُوا مَسَّ الْأَرْضِ فَنَامُوا، وَنَزَلَتْ سُورَةُ الْمُنَافِقِينَ، وَقَالَ الْحَافِظُ أبو بكر البيهقي، عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رجُلاً مِنَ الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجرين: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»، وَقَالَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي بْنِ سَلُولَ) وَقَدْ فَعَلُوهَا: وَاللَّهِ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأذل، قال جَابِرٌ: وَكَانَ الْأَنْصَارُ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ كَثُرَ الْمُهَاجِرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ لَا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» (رواه البيهقي، ورواه أحمد والبخاري ومسلم بنحوه). وروى الإمام أحمد، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي: لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. قَالَ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ، فَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ، فَلَامَنِي قَوْمِي وَقَالُوا: مَا أَرَدْتَ إِلَى هَذَا؟ قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَنِمْتُ كَئِيبًا حَزِينًا، قَالَ، فَأَرْسَلَ إليَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ عُذْرَكَ وَصَدَّقَكَ»، قَالَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ} حَتَّى بَلَغَ {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأذل} (أخرجه الإمام أحمد ورواه البخاري عند هذه الآية). طريق أُخْرَى: قال الإمام أحمد رحمه الله، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عَمِّي فِي غَزَاةٍ فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبي بْنِ سَلُولٍ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَئِنْ رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَهُ عَمِّي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ إليَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثْتُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى عبد الله بن أُبي ابن سلول وأصحابه، فحلفوا بالله مَا قَالُوا، فكذَّبني رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصدَّقه، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ

يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ، وَجَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ عَمِّي: مَا أَرَدْتَ إِلَّا أَنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَقَتَكَ! قَالَ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ {إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ}، قَالَ، فَبَعَثَ إليَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليَّ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ» (أخرجه الإمام أحمد). وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي لَمَّا بَلَغَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِيهِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي فِيمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ، فَأَنَا أَحْمِلُ إِلَيْكَ رَأْسَهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرَّ بِوَالِدِهِ مِنِّي، إِنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غيري فيقتله فلا تدعني أَنْظُرُ إِلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي يَمْشِي فِي النَّاسِ، فَأَقْتُلُهُ فَأَقْتُلُ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ فَأَدْخُلُ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ نَتَرَفَّقُ بِهِ وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ ما بقي معنا» (رواه محمد بن إسحاق بن يسار)، وذكر عكرمة أَنَّ النَّاسَ لَمَّا قَفَلُوا رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ وقف (عبد الله بن عبد الله) عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ وَاسْتَلَّ سَيْفَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ أَبُوهُ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي) قَالَ لَهُ ابْنُهُ: وَرَاءَكَ، فَقَالَ: مالك ويلك؟ فقال: والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ الْعَزِيزُ وَأَنْتَ الذَّلِيلُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شكا إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي ابْنَهُ، فَقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لا يدخلها حتى تأذن له، فأذنه لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أما إذا أَذِنَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجز الآن، وقال الحميدي في مسنده: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي بْنِ سَلُولٍ لِأَبِيهِ: وَاللَّهِ لَا تَدْخُلِ الْمَدِينَةَ أَبَدًا حَتَّى تَقُولَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعَزُّ وَأَنَا الْأَذَلُّ، قَالَ: وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا رسول الله إنه قد بلغني أنك تريد قتل أبي، فوالذي بعثل بالحق لئن شئت أو آتيك برأسه لأتيتك، فإني أكره أن أرى قاتل أبي (رواه الحميدي في مسنده).

- 9 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذلك فأولئك هُمُ الخاسرون - 10 - وأنفقوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ - 11 - وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ، وَنَاهِيًا لَهُمْ عَنْ أَنْ تَشْغَلَهُمُ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ عَنْ ذَلِكَ، وَمُخْبِرًا لَهُمْ بِأَنَّهُ مَنِ التهى بمتاع الدنيا وزينتها عن طَاعَةِ رَبِّهِ وَذِكْرِهِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ يَخْسَرُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ حَثَّهُمْ على الإنفاق في طاعته فقال: {وأنفقوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ}، فَكُلُّ مُفَرِّطٍ يَنْدَمُ عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ليستعتب ويستدرك ما فاته وهيهات، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل}، وقال تعالى: {حتى إِذَا جاءهم أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تركت}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}

أَيْ لَا يَنْظُرُ أَحَدًا بَعْدَ حُلُولِ أَجْلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ وَأَخْبَرُ بِمَنْ يَكُونُ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ وَسُؤَالِهِ، مِمَّنْ لَوْ رُدَّ لَعَادَ إِلَى شر مما كان عليه، ولهذا قال تعالى: {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. روى الترمذي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ رَبِّهِ، أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ فَلَمْ يَفْعَلْ، سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ الْكُفَّارُ، فَقَالَ: سَأَتْلُو عَلَيْكَ بِذَلِكَ قُرْآنًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخاسرون * وأنفقوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} إلى قوله: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قَالَ: فَمَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ؟ قَالَ: إِذَا بَلَغَ الْمَالُ مِائَتَيْنِ فَصَاعِدًا، قَالَ: فَمَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالْبَعِيرُ (أخرجه الترمذي عن الضحاك عن ابن عباس، قال ابن كثير: ورواية الضحاك عن ابن عباس فيها انقطاع). وروى ابن أبي حاتم، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذَكَرْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزِّيَادَةَ فِي الْعُمْرِ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُؤَخِّرُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجْلُهَا، وَإِنَّمَا الزِّيَادَةُ فِي الْعُمْرِ أَنْ يَرْزُقَ اللَّهُ الْعَبْدَ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً يَدْعُونَ لَهُ، فَيَلْحَقُهُ دُعَاؤُهُمْ فِي قبره» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء).

64 - سورة التغابن.

- 64 - سورة التغابن.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 2 - هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ - 3 - خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ - 4 - يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ هَذِهِ السُّورَةُ هِيَ آخِرُ الْمُسَبِّحَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَسْبِيحِ الْمَخْلُوقَاتِ لِبَارِئِهَا وَمَالِكِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تعالى {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، الْمَحْمُودُ عَلَى جَمِيعِ مَا يخلقه ويقدره. وقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أَيْ مَهْمَا أَرَادَ كَانَ بِلَا مُمَانِعٍ وَلَا مُدَافِعٍ، وَمَا لم يشأ لم يكن، وقوله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ}، أَيْ هُوَ الْخَالِقُ لَكُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَهُوَ الْبَصِيرُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الضَّلَالَ، ولهذا قال تعالى: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، ثم قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أَيْ بِالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أَيْ أَحْسَنَ أَشْكَالَكُمْ، كَقَوْلِهِ تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ ركبك}، وكقوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} الْآيَةَ، وقوله تعالى: {وَإِلَيْهِ المصير} أي المرجع والمآل. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ السمائية والأرضية والنفسية فقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.

- 5 - أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 6 - ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ -[509]- يقول تعالى مخبراً عن الأُمم الماضيين، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، فِي مُخَالَفَةِ الرسل والتكذيب بالحق، فقال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ قَبْلُ} أي أخبرهم وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ {فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أَيْ وَخِيمَ تَكْذِيبِهِمْ وَرَدِيءَ أَفْعَالِهِمْ، وَهُوَ مَا حَلَّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالْخِزْيِ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ فَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ، {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أَيِ اسْتَبْعَدُوا أَنْ تَكُونَ الرِّسَالَةُ فِي الْبَشَرِ، وَأَنْ يَكُونَ هُدَاهُمْ عَلَى يَدَيْ بَشَرٍ مِثْلِهِمْ، {فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ} أَيْ كَذَّبُوا بالحق ونكلوا عن العمل، {واستغنى} أَيْ عَنْهُمْ، {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.

- 7 - زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ - 8 - فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ - 9 - يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - 10 - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الكفار والمشركين والملحدين أنهم يزعمون أنمهم لَا يُبْعَثُونَ {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عملتم} (هذه هي الآية الثالثة التي أُمر رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقسم بربه على وقوع المعاد، فالأولى في يونس: {قُلْ إِي وربي إنه لحق} والثانية في سَبَأٍ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بلى وَرَبِّي لتأتينكم}، والثالثة هي هذه: {زَعَمَ الذين كفروا} الآية) أَيْ لَتُخْبَرُنَّ بِجَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أَيْ بَعْثُكُمْ ومجازاتكم، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} يَعْنِي الْقُرْآنَ {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أَيْ فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ خافية، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مشهود}، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يوم معلوم}، وقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ أهل الجنة يغبنون أهل النار، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَا غَبْنَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُدْخَلَ هَؤُلَاءِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيُذْهَبَ بأولئك إلى النار.

- 11 - مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ - 12 - وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ - 13 - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون

يقول تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِأَمْرِ اللَّهِ يَعْنِي عَنْ قَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يهدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أَيْ وَمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَعَلِمَ أَنَّهَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، فَصَبَرَ واحتسب عوّضه عَمَّا فَاتَهُ مِنَ الدُّنْيَا، هُدًى فِي قَلْبِهِ ويقيناً صادقاً، قال ابن عباس: يَعْنِي يهدِ قَلْبَهُ لِلْيَقِينِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يكن ليصيبه، وقال الأعمش عن علقمة: {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} قال: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عند الله فيرضى ويسلّم، وقال سعيد بن جبير: يَعْنِي يَسْتَرْجِعُ يَقُولُ: {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ راجعون}، وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا للمؤمن» (أخرجه الشيخان)، وقوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} أَمْرٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهُ فِيمَا شَرَعَ، وَفِعْلُ مَا بِهِ أَمَرَ، وَتَرْكُ مَا عَنْهُ نَهَى وَزَجَرَ، ثُمَّ قَالَ تعالى: {فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} أَيْ إِنْ نَكَلْتُمْ عَنِ الْعَمَلِ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ مِنَ الْبَلَاغِ، وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: مِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ، وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ، ثُمَّ قال تعالى مخبراً أنه الأحد الصمد: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أَيْ وَحِّدُوا الْإِلَهِيَّةَ لَهُ وَأَخْلِصُوهَا لَدَيْهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً}.

- 14 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ - 15 - أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ - 16 - فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - 17 - إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ - 18 - عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ، إِنَّ مِنْهُمْ مَن هُوَ عدوّ الزوج والولد، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُلْتَهَى بِهِ عَنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، كقوله تعالى: {لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، ولهذا قال تعالى ههنا {فَاحْذَرُوهُمْ} قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي عَلَى دِينِكُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ} قَالَ: يَحْمِلُ الرَّجُلَ عَلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، أَوْ مَعْصِيَةِ رَبِّهِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ مَعَ حُبِّهِ إِلَّا أَنْ يُطِيعَهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَأَلَهُ رجُل عَنْ هَذِهِ الآية: {يَا أيها الناس آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} قَالَ: فَهَؤُلَاءِ رِجَالٌ أَسْلَمُوا مِنْ مَكَّةَ، فَأَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَى أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ أَنْ يَدَعُوهُمْ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَأَوُا النَّاسَ قَدْ فَقِهُوا فِي الدِّينِ، فهمُّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله تعالى هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِنْ تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رحيم} (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الترمذي، وقال: حسن صحيح). وقوله تَعَالَى: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ

أَجْرٌ عَظِيمٌ}. يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ {فِتْنَةٌ} أي اختبار وابتلاء من الله تعالى لِخَلْقِهِ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {أَجْرٌ عَظِيمٌ} كما قال تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآب}. رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان يَخْطُبُ، فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا، فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ {أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ أَصْبِرْ حتى قطعت حديثي ورفعتهما» (رواه أحمد وأهل السنن عن أبي بريدة). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَدُ ثَمَرَةُ الْقُلُوبِ، وَإِنَّهُمْ مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَحْزَنَةٌ» (أخرجه الحافظ البزار). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} أَيْ جهدكم وطاقتكم كما ثبت في الصحيحين: «إذا أمرتكم بشيء فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فاجتنبوه»، وهذه الآية نَاسِخَةٌ لِلَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ}، قال: لما نزلت هذه الْآيَةُ اشْتَدَّ عَلَى الْقَوْمِ الْعَمَلُ، فَقَامُوا حَتَّى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم، فأنزل الله تعالى هذه الآية تَخْفِيفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فنسخت الآية الأولى، وقوله تعالى: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} أَيْ كُونُوا مُنْقَادِينَ لِمَا يَأْمُرُكُمُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَلَا تَحِيدُوا عَنْهُ يَمْنَةً ولا يسرة، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ} أَيْ وَابْذُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وأحسنوا إلى خلق الله كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكُمْ، يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وقوله تَعَالَى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تقدم تفسيره في سورة الحشر، وقوله تعالى: {إِنْ تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أَيْ مَهْمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وَمَهْمَا تَصَدَّقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْقَرْضِ لَهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: «مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ مظلوم ولا عديم» (أخرجه في الصحيحين)، ولهذا قال تعالى: {يُضَاعِفْهُ لَكُمْ}، كما قال تعالى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} {وَيَغْفِرْ لَكُمْ}، أي ويكفر عنكم السيئات، {وَاللَّهُ شَكُورٌ} أَيْ يَجْزِي عَلَى الْقَلِيلِ بِالْكَثِيرِ، {حليم} أي يصفح ويغفر ويستر، ويتجاوز عن الذنوب والزلات، {عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الحكيم} (في اللباب: أخرج ابن جرير: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، فكان إذا أراد الغزو بكوا إليه حتى يرق ويقيم) تقدم تفسيره غير مرة.

65 - سورة الطلاق.

- 65 - سورة الطلاق.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا خُوطِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا، ثُمَّ خاطب الأمة تبعاً فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وعن أنَس قَالَ: "طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَةَ فَأَتَتْ أَهْلَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فَقِيلَ لَهُ: رَاجِعْهَا، فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة" (أخرجه ابن أبي حاتم). وروى البخاري أن عبد الله بن عمر طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَغَيَّظَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قَالَ: «لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ التي أمر بها الله عزَّ وجلَّ» (كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ومجاهد وعكرمة وغيرهم). وفي رواية لهم: «فتلك عدة الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». وقال عبد الله في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قَالَ: الطُّهْرُ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وقال ابن عباس: لَا يُطَلِّقْهَا وَهِيَ حَائِضٌ، وَلَا فِي طُهْرٍ قد جامعها فيه، ولكن يتركها حَتَّى إِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} الْعِدَّةُ الطُّهْرُ، وَالْقُرْءُ الْحَيْضَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا حُبْلَى مُسْتَبِينًا حَمْلَهَا وَلَا يُطَلِّقَهَا وَقَدْ طَافَ عَلَيْهَا وَلَا يَدْرِي حُبْلَى هِيَ أم لا؟ ومن ههنا أَخَذَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الطَّلَاقِ، وَقَسَّمُوهُ إِلَى طَلَاقِ سُنّة، وَطَلَاقِ بِدْعَةٍ، فَطَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طاهرة مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، أَوْ حَامِلًا قَدِ اسْتَبَانَ حملها، والبدعي أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي حَالِ الحيضِ، أَوْ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ، وَلَا يَدْرِي أَحَمَلَتْ أَمْ لَا؛ وَطَلَاقٌ ثَالِثٌ لَا سُنَّةَ فِيهِ وَلَا بِدْعَةَ وَهُوَ طَلاق الصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ وَغَيْرِ المدخول بها، وتحرير الكلام مستقصى في كتب الفروع.

وقوله تعالى: {وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ} أَيِ احْفَظُوهَا وَاعْرِفُوا ابْتِدَاءَهَا وَانْتِهَاءَهَا لِئَلَّا تَطُولَ الْعِدَّةُ عَلَى الْمَرْأَةِ فَتَمْتَنِعَ مِنَ الْأَزْوَاجِ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبُّكُمْ} أَيْ فِي ذَلِكَ، وقوله تعالى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ} أَيْ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ لَهَا حَقُّ السُّكْنَى عَلَى الزَّوْجِ مَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً مِنْهُ، فَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُخْرِجَهَا وَلَا يَجُوزَ لَهَا أَيْضًا الْخُرُوجُ لأنها متعلقة لحق الزوج أيضاً، وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} أَيْ لَا يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ إِلَّا أَنْ تَرْتَكِبَ الْمَرْأَةُ فاحشة مبينة، وَالْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ تَشْمَلُ الزِّنَا (كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٌ وعكرمة وَغَيْرُهُمْ)، وَتَشْمَلُ مَا إِذَا نَشَزَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ بَذَتْ عَلَى أَهْلِ الرَّجُلِ وَآذَتْهُمْ فِي الْكَلَامِ وَالْفِعَالِ (كَمَا قَالَهُ أُبي بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عباس وعكرمة وغيرهم)، وقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أَيْ شَرَائِعُهُ وَمَحَارِمُهُ {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} أَيْ يَخْرُجُ عَنْهَا وَيَتَجَاوَزُهَا إِلَى غَيْرِهَا وَلَا يَأْتَمِرُ بِهَا {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أي بفعل ذلك، وقوله تعالى: {لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} أي لَعَلَّ الزَّوْجَ يَنْدَمُ عَلَى طَلَاقِهَا وَيَخْلُقُ اللَّهُ تعالى في قلبه رجعتها، قال الزهري عن فاطمة بنت قيس في قوله تعالى: {لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} قالت: هي الرجعة (وكذا قال الشعبي وعطاء والضحّاك وقتادة ومقاتل بن حيان)، ومن ههنا ذهب من ذهب من السلف إلى أنه لا تجب السكنى للمبتوتة أي المقطوعة، وَكَذَا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَاعْتَمَدُوا أَيْضًا عَلَى حديث (فاطمة بِنْتِ قَيْسٍ) حِينَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا (أَبُو عَمْرُو بْنُ حَفْصٍ) آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، وَكَانَ غَائِبًا عَنْهَا بِالْيَمَنِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ يَعْنِي نَفَقَةً فَتَسَخَّطَتْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَيْسَ لَكِ عَلَيْنَا نَفَقَةٌ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَيْسَ لكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ»، وَلِمُسْلِمٍ: «وَلَا سُكْنَى»، وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُم شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ: «تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك» (قصة طلاق فاطمة بنت قيس ذكرها الإمام أحمد والنسائي والطبراني وغيرهم) الحديث.

- 2 - فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً - 3 - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً يَقُولُ تَعَالَى: فَإِذَا بَلَغَتِ الْمُعْتَدَّاتُ أَجَلَّهُنَّ، أَيْ شَارَفْنَ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَقَارَبْنَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمْ تَفْرُغِ الْعِدَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ، فحينئذٍ إِمَّا أَنْ يَعْزِمَ الزَّوْجُ عَلَى إِمْسَاكِهَا، وَهُوَ رَجْعَتُهَا إِلَى عِصْمَةِ نِكَاحِهِ وَالِاسْتِمْرَارُ بِهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ عِنْدَهُ {بِمَعْرُوفٍ} أَيْ مُحْسِنًا إِلَيْهَا فِي صُحْبَتِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَعْزِمَ عَلَى مُفَارَقَتِهَا {بِمَعْرُوفٍ} أَيْ مِنْ غَيْرِ مُقَابَحَةٍ وَلَا مُشَاتَمَةٍ وَلَا تَعْنِيفٍ، بَلْ يُطَلِّقُهَا عَلَى وَجْهٍ جميل وسبيل حسن، وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنْكُمْ} أَيْ عَلَى الرَّجْعَةِ إذا عزمتم عليها، كما روي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرجل يطلق المرأة، ثُمَّ يَقَعُ بِهَا وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَلَا عَلَى رَجْعَتِهَا، فَقَالَ: طَلَّقْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ، وَرَجَعْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ، أَشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَعَلَى رجعتها ولا تعد (أخرجه أبو داود وابن ماجة)،

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنْكُمْ} قَالَ: لَا يَجُوزُ فِي نِكَاحٍ وَلَا طَلَاقٍ وَلَا رِجَاعٍ إِلَّا شَاهِدَا عَدْلٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ إِلَّا أن يكون من عذر، وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أَيْ هَذَا الَّذِي أَمَرْنَاكُمْ بِهِ مِنَ الْإِشْهَادِ وَإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ، إِنَّمَا يَأْتَمِرُ بِهِ مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر، وَمَنْ يَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وقوله تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} أَيْ وَمَن يَتَّقِ الله فيما أمره به، وترك عما نَهَاهُ عَنْهُ، يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ مَخْرَجاً {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} أَيْ مِنْ جهة لا تخطر بباله. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بالعدل والإحسان}، وإن أكبر آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَرَجًا: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} (رواه ابن أبي حاتم). وفي المسند، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَمَنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حيث لا يحتسب» (رواه أحمد في المسند). وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} يَقُولُ يُنْجِيهِ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}، وقال الربيع بن خيثم: {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ضاق على الناس، {مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} أَيْ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، وَقَالَ قَتَادَةُ {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} أَيْ مِنْ شُبُهَاتِ الْأُمُورِ وَالْكَرْبِ عِنْدَ الْمَوْتِ، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} من حيث يرجو ولا يَأْمُلُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ} يُطَلِّقْ لِلسُّنَّةِ، وَيُرَاجِعْ لِلسُّنَّةِ، وَزَعَمَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يُقَالُ لَهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، كَانَ لَهُ ابْنٌ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَسَرُوهُ فَكَانَ فِيهِمْ، وَكَانَ أَبُوهُ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَشْكُو إِلَيْهِ مَكَانَ ابْنِهِ وَحَالِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا وَحَاجَتَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُ بِالصَّبْرِ، وَيَقُولُ لَهُ: «إِنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لَكَ فَرَجًا»، فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا يَسِيرًا أَنِ انْفَلَتَ ابْنُهُ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ، فَمَرَّ بِغَنَمٍ مِنْ أَغْنَامِ الْعَدُوِّ فَاسْتَاقَهَا، فَجَاءَ بِهَا إِلَى أَبِيهِ وجاء معه بغنم قد أصابه من المغنم، فَنَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَمِنَ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يحتسب} (رواه ابن جرير). وروى الإمام أحمد، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا البر» (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه). وعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ انْقَطَعَ إِلَى الله كفاه الله كل مؤنة وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَمَنِ انْقَطَعَ إلى الدنيا وكله إليها» (رواه ابن أبي حاتم). وقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} روى الإمام أحمد، عن ابن عباس: أَنَّهُ رَكِبَ خَلْفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا غُلَامُ إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بشيء قد كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف" (رواه أحمد والترمذي، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ). وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَزَلَ بِهِ حَاجَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ كَانَ قَمِنًا أَنْ لَا تسهل حاجته، ومن أنزلها بالله تعالى أَتَاهُ اللَّهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ بِمَوْتٍ آجِلٍ» (أخرجه الإمام أحمد).

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} أَيْ مُنْفِذٌ قَضَايَاهُ وَأَحْكَامَهُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يُرِيدُهُ وَيَشَاؤُهُ {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} كقوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}.

- 4 - وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا - 5 - ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً يَقُولُ تَعَالَى مُبَيِّنًا لِعِدَّةِ الْآيِسَةِ، وَهِيَ الَّتِي قد انقطع عنها المحيض لِكِبَرِهَا، أَنَّهَا {ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} عِوَضًا عَنِ الثَّلَاثَةِ قروء في حق من تحيض، وَكَذَا الصِّغَارُ اللَّائِي لَمْ يَبْلُغْنَ سِنَّ الْحَيْضِ، أَنَّ عِدَّتَهُنَّ كَعِدَّةِ الْآيِسَةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَلِهَذَا قال تعالى: {واللائي لَمْ يَحِضْنَ}. وقوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ (كَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ) أَيْ إِنْ رَأَيْنَ دَمًا وَشَكَكْتُمْ فِي كَوْنِهِ حَيْضًا أَوِ اسْتِحَاضَةً وَارْتَبْتُمْ فِيهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أن ارتبتم في حكم عدتهن ولن تعرفوه فهو ثلاثة أَشْهُرٍ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ أَظْهَرُ فِي المعنى لما روي عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ قَالَ، قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْبَقَرَةِ فِي عِدَّةِ النِّسَاءِ قَالُوا: لَقَدْ بَقِيَ مِنْ عِدَّةِ النِّسَاءِ عِدَدٌ لَمْ يُذْكَرْنَ في البقرة: الصغار والكبار اللائي قد انقطع منهن الْحَيْضُ، وَذَوَاتُ الْحَمْلِ، قَالَ، فَأُنْزِلَتِ الَّتِي فِي النِّسَاءِ الْقُصْرَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لم يحضن} (أخرجه ابن أبي حاتم، ورواه ابن جرير بنحوه). وقوله تعالى: {وَأُوْلاَتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} يَقُولُ تَعَالَى وَمَنْ كَانَتْ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَوِ الْمَوْتِ بِفُوَاقِ نَاقَةٍ، في قوله جمهور العلماء كما هو نص هذه الآية الكريمة، وكا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ (علي) و (ابن عباس) رضي الله عنهم أنها تعتد بأبعد الأجلين من الوضع والأشهر، عملاً بهذه الآية والتي في سورة البقرة، روى البخاري، عن أبي سَلَمَةَ قَالَ: جَاءَ رجُل إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ - فَقَالَ: أَفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ" آخِرُ الْأَجَلَيْنِ، قُلْتُ: أَنَا {وَأُوْلاَتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي - يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ - فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ غُلَامَهُ كُرَيْبًا إِلَى أُم سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا، فَقَالَتْ: قُتِل زَوْجُ (سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ) وَهِيَ حُبْلَى، فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فخطِبتْ فَأَنْكَحَهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو السَّنَابِلِ فِيمَنْ خَطَبَهَا" (هَكَذَا أورد البخاري هذا الحديث مُخْتَصَرًا، وَقَدْ رَوَاهُ هُوَ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ الْكُتُبِ مطولاً من وجوه أُخر). وروى البخاري ومسلم: أن سبيعة كَانَتْ تَحْتَ (سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ) وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ، فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاكِ مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلَّكِ تَرْجِينَ النِّكَاحَ! إِنَّكِ وَاللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ، جَمَعْتُ عليَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إِنْ بَدَا لِي. هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا، ثم قال البخاري بعد روايته الحديث الأول عند هذه الآية، وقال أبو سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو النُّعْمَانِ، حدَّثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ قَالَ: كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا عبد الرحمن بن أبي ليلى، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُعَظِّمُونَهُ فَذَكَرَ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ، فَحَدَّثْتُ بِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عتبة قال: فضمز لي بعض أصحابه، قال مُحَمَّدٌ: فَفَطِنْتُ لَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي لَجَرِيءٌ أَنْ أَكْذِبَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ فِي نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ، قَالَ: فَاسْتَحْيَا وَقَالَ: لَكِنَّ عَمَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، فَلَقِيتُ أَبَا عَطِيَّةَ مَالِكَ بْنَ عَامِرٍ، فَسَأَلْتُهُ فَذَهَبَ يُحَدِّثُنِي بِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ، فقلت: هل سمعت عن عبد الله فيها شَيْئًا؟ فَقَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلَا تَجْعَلُونَ عَلَيْهَا الرُّخْصَةَ؟ فنزلت سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى: {وَأُوْلاَتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. وروى ابن جرير عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ شَاءَ لَاعَنْتُهُ، مَا نَزَلَتْ: {وَأُوْلاَتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} إِلَّا بَعْدَ آيَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، قَالَ: وَإِذَا وَضَعَتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَقَدْ حَلَّتْ يريد بآية المتوفى عنها {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعشرا} (رواه ابن جرير والنسائي). وقال ابن أبي حاتم، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: بَلَغَ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ آخِرُ الْأَجَلَيْنِ، فَقَالَ: مَنْ شَاءَ لَاعَنْتُهُ إِنَّ الَّتِي فِي النِّسَاءِ الْقُصْرَى نَزَلَتْ بَعْدَ الْبَقَرَةِ {وَأُوْلاَتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (أخرجه ابن أبي حاتم، ورواه أبو داود وابن ماجه). وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} أَيْ يُسَهِّلُ لَهُ أَمْرَهُ وَيُيَسِّرُهُ عَلَيْهِ، وَيَجْعَلُ لَهُ فَرَجًا قَرِيبًا وَمَخْرَجًا عَاجِلًا، ثُمَّ قال تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} أَيْ حُكْمُهُ وَشَرْعُهُ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ بِوَاسِطَةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} أَيْ يُذْهِبْ عَنْهُ الْمَحْذُورَ، وَيُجْزِلْ لَهُ الثَّوَابَ عَلَى الْعَمَلِ اليسير.

- 6 - أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى - 7 - لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ، إِذَا طَلَّقَ أَحَدُهُمُ الْمَرْأَةَ أَنْ يُسْكِنَهَا فِي مَنْزِلٍ، حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَقَالَ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} أَيْ عِنْدَكُمْ {مِّن وُجْدِكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يعني سعتكم، وقال قَتَادَةُ: إِنْ لَمْ تَجِدْ إِلَّا جَنْبَ بَيْتِكَ فأسكنها فيه، وقوله تعالى: {وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ} قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: يَعْنِي يُضَاجِرُهَا لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَالِهَا أَوْ تخرج من مسكنه، وقال الثوري: يطلقها فإذا بقي يومان راجعها، وقوله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قال كثير من العلماء: هَذِهِ فِي الْبَائِنِ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا أَنْفَقَ عَلَيْهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، قَالُوا: بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ تَجِبُ نَفَقَتُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ السِّيَاقُ كُلُّهُ فِي

الرجعيات، وإنما نص على الإنفاق على أن الْحَامِلِ وَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً، لِأَنَّ الْحَمْلَ تَطُولُ مُدَّتُهُ غَالِبًا، فَاحْتِيجَ إِلَى النَّصِّ عَلَى وُجُوبِ الْإِنْفَاقِ إِلَى الْوَضْعِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ إِنَّمَا تجب النفقة بمقدار مدة العدة، وقوله تعالى: {فَإِن أَرْضَعْنَ لَكُمْ} أَيْ إِذَا وَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وهن طوالق فقد بنَّ بانقضاء عدتهن، فإن أرضعت استحقت أجر مثلها، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجورهن}، وقوله تعالى: {وائتمروا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أَيْ وَلْتَكُنْ أُموركم فِيمَا بَيْنَكُمْ بِالْمَعْرُوفِ، مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ وَلَا مُضَارَّةٍ، كَمَا قال تعالى: {ولا تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ}، وقوله تعالى: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى} أَيْ وَإِنِ اختلف الرجل والمرأة، فطلبت المرأة في أُجْرَةَ الرَّضَاعِ كَثِيرًا وَلَمْ يُجِبْهَا الرَّجُلُ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ بَذَلَ الرَّجُلُ قَلِيلًا وَلَمْ تُوَافِقْهُ عَلَيْهِ، فَلْيَسْتَرْضِعْ لَهُ غَيْرَهَا، فَلَوْ رَضِيَتِ الْأُمُّ بما استؤجرت به الأجنبية فهي أحق بولدها، وقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} أَيْ لِيُنْفِقْ عَلَى الْمَوْلُودِ وَالِدُهُ أَوْ وَلِيُّهُ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ، {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا}، كقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وسعها}، روى ابن جرير، عَنْ أَبِي سِنَانٍ قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ يَلْبَسُ الْغَلِيظَ مِنَ الثِّيَابِ، وَيَأْكُلُ أَخْشَنَ الطَّعَامِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: انْظُرْ مَا يَصْنَعُ بِهَا إِذَا هُوَ أَخَذَهَا؟ فَمَا لَبِثَ أَن لَبِسَ اللَّيِّنَ مِنَ الثِّيَابِ، وَأَكَلَ أَطْيَبَ الطَّعَامِ فَجَاءَهُ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله}، وقوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} وَعْدٌ مِنْهُ تَعَالَى، وَوَعْدُهُ حَقٌّ لَا يُخْلِفُهُ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يسراً}، وقد روى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى أَهْلِهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِّن الْحَاجَةِ خَرَجَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَلَمَّا رَأَتِ امْرَأَتُهُ قَامَتْ إِلَى الرَّحَى فَوَضَعَتْهَا وَإِلَى التَّنُّورِ فَسَجَرَتْهُ، ثُمَّ قَالَتِ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا، فَنَظَرَتْ، فَإِذَا الْجَفْنَةُ قَدِ امْتَلَأَتْ، قَالَ، وَذَهَبَتْ إِلَى التَّنُّورِ فَوَجَدَتْهُ مُمْتَلِئًا، قال، فرجع الزوج فقال: أَصَبْتُمْ بَعْدِي شَيْئًا؟ قَالَتِ امْرَأَتُهُ: نَعَمْ مِنْ ربنا، فأمّ إِلَى الرَّحَى فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُ لَوْ لَمْ تَرْفَعْهَا لَمْ تزل تدور إلى يوم القيامة» (أخرجه الإمام أحمد).

- 8 - وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً - 9 - فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً - 10 - أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا - 11 - رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، وكذَّب رُسُلَهُ وَسَلَكَ غَيْرَ مَا شَرَعَهُ، ومخبراً عما حل بالألم السابقة بسبب

ذلك فقال تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} أَيْ تَمَرَّدَتْ وَطَغَتْ وَاسْتَكْبَرَتْ عَنِ اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ وَمُتَابَعَةِ رُسُلِهِ، {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وعذَّبناها عَذَاباً نُّكْراً} أي منكراً قطيعاً، {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} أَيْ غِبَّ مُخَالَفَتِهَا وَنَدِمُوا حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ، {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مَعَ مَا عجَّل لَهُمْ من العذاب في الدنيا، ثم قال تعالى بَعْدَ مَا قَصَّ مِنْ خَبَرِ هَؤُلَاءِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} أَيِ الْأَفْهَامِ الْمُسْتَقِيمَةِ لَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ فَيُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، {الَّذِينَ آمَنُواْ} أَيْ صَدَّقُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً} يَعْنِي القرآن، كقوله تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وقوله تَعَالَى: {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ}، قال بعضهم: {رَّسُولاً} بدل اشتمال؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي بَلَّغَ الذِّكْرَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الصَّوَابُ أَنَّ الرَّسُولَ تَرْجَمَةٌ عَنِ الذِّكْرِ يَعْنِي تَفْسِيرًا لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهَا بَيِّنَةً وَاضِحَةً جَلِيَّةً، {لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النور}، وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أَيْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ، إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْوَحْيَ الَّذِي أَنْزَلَهُ {نُوراً} لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْهُدَى، كَمَا سَمَّاهُ {رُوحاً} لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} الآية، وقوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} قَدْ تَقَدَّمَ تفسير مثل هذا ولله الحمد والمنة.

- 12 - اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ بَاعِثًا عَلَى تَعْظِيمِ مَا شَرَعَ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}، كَقَوْلِهِ تعالى: {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً}؟، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أَيْ سَبْعًا أَيْضًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «مَنْ ظَلَمَ قيد شبر في الْأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ». وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «خُسِفَ بِهِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ». وَقَدْ تقدم في سورة الحديد ذَكَرَ الْأَرَضِينَ السَّبْعَ وَبُعْدَ مَا بَيْنَهُنَّ وَكَثَافَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ»، وَقَالَ ابن جرير، عن ابن عباس في قوله تعالى: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} قَالَ: لَوْ حدثتكم بتفسيرها لكفرتم، وكفركم تذيبكم بها" (رواه ابن جرير عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما).

66 - سورة التحريم.

- 66 - سورة التحريم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ - 2 - قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ - 3 - وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ - 4 - إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ - 5 - عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا أُختلف فِي سَبَبِ نُزُولِ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ (مَارِيَةَ) وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَرَّمَهَا فَنَزَلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لك} الآية، روى النسائي، عَنْ أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ أَمَة يَطَؤُهَا فَلَمْ تَزَلْ بِهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، حَتَّى حَرَّمَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إِلَى آخِرِ الآية (أخرجه النسائي في سننه)، وروى ابن جرير، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَ أُم إِبْرَاهِيمَ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي وَعَلَى فِرَاشِي؟ فَجَعَلَهَا عَلَيْهِ حَرَامًا، فَقَالَتْ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَحْرُمُ عَلَيْكَ الْحَلَالُ؟ فَحَلَفَ لَهَا بِاللَّهِ لَا يُصِيبُهَا، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لك} (رواه ابن جرير)؟! وعن مَسْرُوقٍ قَالَ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وحرم، فعوقب في التحريم، وأُمر بالكفارة باليمين (رواه ابن جرير أيضاً)، وعن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ

كَانَ يَقُولُ فِي الْحَرَامِ يَمِينٌ تُكَفِّرُهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} يَعْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حرم جاريته، فقال الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إِلَى قَوْلِهِ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فَكَفَّرَ يَمِينَهُ فَصَيَّرَ الْحَرَامَ يميناً (أخرجه ابن جرير، ورواه البخاري عن ابن عباس بنحوه)، ومن ههنا قال بعض الفقهاء بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ حَرَّمَ جَارِيَتَهُ، أَوْ زوجته، أو طعاماً أو شراباً، أَوْ شَيْئًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أحمد، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِيمَا عَدَا الزَّوْجَةَ وَالْجَارِيَةَ إِذَا حَرَّمَ عَيْنَيْهِمَا، فَأَمَّا إِنْ نَوَى بِالتَّحْرِيمِ طَلَاقَ الزَّوْجَةِ أَوْ عتق الأمَة نفذ فيهما، والآية نزلت في تحريمه العسل كما روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ (زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ) وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا، فَتَوَاطَأْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ: أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، قَالَ: «لَا وَلَكِنِّي كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ لَا تخبري بذلك أحداً» {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} (أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري). وقال البخاري في «كتاب الطلاق» عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ، وَكَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَغِرْتُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةَ عَسَلٍ، فَسَقَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ شَرْبَةً، فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لنحتالنَّ لَهُ، فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زمعة: إنه سيدنو منك، فإذا دنا فقولي: أكلت مغافير، فإنه سيقول لَا، فَقُولِي لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أجد؟ سَيَقُولُ لَكِ سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِي: جرست نحله العرفط وسأقول ذلك، وقولي له أنت يا صفية ذلك، قالت، تقول سودة: فوالله مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَامَ عَلَى الْبَابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُنَادِيَهُ بِمَا أَمَرْتِنِي فَرَقًا مِنْكِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا، قَالَتْ لَهُ سَوْدَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: «لَا»، قَالَتْ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ؟ قَالَ: «سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ»، قَالَتْ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، فَلَمَّا دَارَ إليَّ، قُلْتُ نَحْوَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَارَ إِلَى صَفِيَّةَ قَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَارَ إِلَى حَفْصَةَ قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَسْقِيَكَ مِنْهُ؟ قَالَ: «لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ»، قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ وَاللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ، قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي. هَذَا لفظ البخاري ولمسلم، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ، يَعْنِي الرِّيحَ الْخَبِيثَةَ، وَلِهَذَا قُلْنَ لَهُ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ لِأَنَّ رِيحَهَا فِيهِ شَيْءٌ، فَلَمَّا قَالَ: «بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا» قُلْنَ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، أي رعث نَحْلُهُ شَجَرَ الْعُرْفُطَ الَّذِي صَمْغُهُ الْمَغَافِيرُ، فَلِهَذَا ظَهَرَ رِيحُهُ فِي الْعَسَلِ الَّذِي شَرِبْتَهُ، قَالَ الجوهري: جرست النحل العرفط إذا أكلته، ومنه قيل للنحل جوارس، وفي رواية عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ (زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ) هِيَ التي سقته الْعَسَلَ، وَأَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ تَوَاطَأَتَا وَتَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ يُقَالُ إِنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ، وَلَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ كَوْنَهُمَا سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُمَا الْمُتَظَاهِرَتَانِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ

صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} حتى جح عُمَرُ وَحَجَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ عُمَرُ، وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ، فَتَبَرَّزَ ثُمَّ أَتَانِي، فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: مَنِ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}؟ فَقَالَ عُمَرُ: وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عباس، قال الزهري: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه، قال: هي (عائشة وحفصة). قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ، قَالَ: كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، قَالَ: وَكَانَ مَنْزِلِي فِي دار أُميَّة بن زيد بالعوالي، فَغَضِبْتُ يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أراجعك فوالله إِنَّ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَتُرَاجِعِينَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتِ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَتَهْجُرُهُ إحداكنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَ، أَفَتَأْمَنُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ، لَا تُرَاجِعِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تَسْأَلِيهِ شَيْئًا، وَسَلِينِي مِنْ مَالِي مَا بَدَا لَكِ، وَلَا يَغُرَّنَّكِ إِنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْسَمُ (أي أجمل) وَأَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْكِ - يُرِيدُ عَائِشَةَ -، قَالَ: وَكَانَ لِي جار من الأنصار، وكنا نتتاوب النُّزُولَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَيَأْتِينِي بِخَبَرِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ وَآتِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، قَالَ: وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِتَغْزُوَنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي يَوْمًا، ثُمَّ أَتَى عِشَاءً، فَضَرَبَ بَابِي، ثُمَّ نَادَانِي، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ، أَجاءت غَسَّانُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَطْوَلُ، طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ، فَقُلْتُ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ، قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا كَائِنًا، حَتَّى إِذَا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ شَدَدْتُ عليَّ ثِيَابِي، ثُمَّ نَزَلْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ وَهِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ: أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي، هُوَ هَذَا مُعْتَزِلٌ فِي هَذِهِ الْمَشْرُبَةِ، فَأَتَيْتُ غُلَامًا لَهُ أَسْوَدُ، فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ الْغُلَامُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ فَقَالَ: ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَتَيْتُ الْمِنْبَرَ، فَإِذَا عِنْدَهُ رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست عنده قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَأَتَيْتُ الْغُلَامَ، فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ فَخَرَجْتُ فَجَلَسْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَأَتَيْتُ الْغُلَامَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا، فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي، فَقَالَ: ادْخُلْ قَدْ أَذِنَ لَكَ، فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ على رمال حصير وقد أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْتُ: أَطَلَّقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ، وَقَالَ: «لَا»، فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَوْ رَأَيْتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومهم تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، فَغَضِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللَّهِ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ، فَقُلْتُ قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ منكن وخسرت، أَفَتَأْمَنُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رسول الله قد دخلت عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْسَمُ أَوْ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكِ، فَتَبَسَّمَ أُخْرى، فَقُلْتُ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فَجَلَسْتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فِي الْبَيْتِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِي الْبَيْتِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إلاّ أهب مقامه، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمتك، فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَاسْتَوَى جَالِسًا وقال:

«أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»، فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَانَ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مُوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ، حَتَّى عَاتَبَهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ. وروى البخاري عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ عُمَرُ: اجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ وَافَقَ الْقُرْآنَ فِي أَمَاكِنَ مِنْهَا فِي نُزُولِ الْحِجَابِ وَمِنْهَا فِي أُسَارَى بَدْرٍ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَأَنْزَلَ الله تعالى: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مصلى} (أخرجه البخاري في صحيحه). وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا أَوْرَدْنَاهُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ} ظاهر، وقوله تعالى: {سَائِحَاتٍ} أي صائمات قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد، وتقدم فيه حديث مرفوع، وَلَفْظُهُ «سِيَاحَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصِّيَامُ»، وَقَالَ زَيْدُ بن أسلم {سَائِحَاتٍ} أي مهاجرات، وتلا {السائحون} أَيْ الْمُهَاجِرُونَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقوله تعالى: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} أَيْ مِنْهُنَّ ثَيِّبَاتٍ، وَمِنْهُنَّ أَبْكَارًا، ليكون ذلك أشهى إلى النفس، فَإِنَّ التَّنَوُّعَ يَبْسُطُ النَّفْسَ، وَلِهَذَا قَالَ: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} أي منهن ثيبات، ومنهن أبكار، ليكون ذلك أشهى إلى النفس، فَإِنَّ التَّنَوُّعَ يَبْسُطُ النَّفْسَ، وَلِهَذَا قَالَ: {ثَيِّبَاتٍ وأبكار} قَالَ: وَعَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَالثَّيِّبُ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَبِالْأَبْكَارِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ (رواه الحافظ الطبراني في المعجم الكبير)، وذكر الحافظ ابن عساكر، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فمرت خديجة فقال: «إن الله يقرؤها السَّلَامَ وَيُبَشِّرُهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، بَعِيدٍ مِنَ اللَّهَبِ لَا نَصَبَ فِيهِ وَلَا صَخَبَ، مِنْ لُؤْلُؤَةٍ جَوْفَاءَ بَيْنَ بَيْتِ مَرْيَمَ بنت عمران وأسية بنت مزاحم» (أخرجه ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ).

- 6 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ - 7 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - 8 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ على كل شيء قدير قال عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُوْا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} يقول أدبوهم وعلموهم، وقال ابن عباس: اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله وأمروا أَهْلِيكُمْ بِالذِّكْرِ يُنْجِيكُمُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، وَقَالَ مجاهد: اتَّقُوا اللَّهَ وَأَوْصُوا أَهْلِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَقَالَ قتادة: تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله وتساعدهم عليه، فإذا رأيت معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها، وقال الضحاك: حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُعَلِّمَ أَهْلَهُ مِنْ قرابته

وَإِمَائِهِ وَعَبِيدِهِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَمَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الحديث الشريف: «مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي)، قَالَ الْفُقَهَاءُ: وَهَكَذَا فِي الصَّوْمِ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَمْرِينًا لَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ لِكَيْ يَبْلُغَ، وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ وَمُجَانَبَةِ الْمَعْصِيَةِ وَتَرْكِ المنكر، وقوله تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وَقُودُهَا: أَيْ حَطَبُهَا الَّذِي يُلْقَى فِيهَا جُثَثُ بَنِي آدَمَ، {وَالْحِجَارَةُ} قِيلَ: المراد بها الأصنام التي تعبد لقوله تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}، وقال ابن مسعود ومجاهد: هي حجارة من كبريت، أنتن من الجيفة، وقوله تعالى: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ} أَيْ طِبَاعُهُمْ غَلِيظَةٌ قَدْ نُزِعَتْ مِنْ قُلُوبِهِمُ الرَّحْمَةُ بِالْكَافِرِينَ بِاللَّهِ {شِدَادٌ} أي تركبيهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر المزعج، كما روى ابن حاتم، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا وَصَلَ أَوَّلُ أَهْلِ النَّارِ إِلَى النَّارِ، وَجَدُوا عَلَى الْبَابِ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ سُودٌ وُجُوهُهُمْ، كَالِحَةٌ أَنْيَابُهُمْ، قَدْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمُ الرَّحْمَةَ، لَيْسَ فِي قَلْبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الرَّحْمَةِ، لَوْ طُيِّرَ الطَّيْرُ مِنْ مَنْكِبِ أَحَدِهِمْ لَطَارَ شَهْرَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَنْكِبَهُ الْآخَرَ، ثُمَّ يَجِدُونَ عَلَى الْبَابِ التِّسْعَةَ عَشَرَ، عَرْضُ صَدْرِ أَحَدِهِمْ سَبْعُونَ خَرِيفًا، ثُمَّ يَهْوُونَ مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ يَجِدُونَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْهَا مِثْلَ مَا وَجَدُوا عَلَى الْبَابِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَنْتَهُوا إلى آخرها (أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة موقوفاً)، وَقَوْلُهُ: {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أَيْ مَهْمَا أَمَرَهُمْ بِهِ تَعَالَى يُبَادِرُوا إِلَيْهِ، لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى فِعْلِهِ لَيْسَ بِهِمْ عَجْزٌ عنه، وهؤلاء هم الزبانية. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ يُقَالُ لِلْكَفَرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تَعْتَذِرُوا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ، وَإِنَّمَا تُجْزَوْنَ الْيَوْمَ بِأَعْمَالِكُمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} أَيْ تَوْبَةً صَادِقَةً جَازِمَةً تَمْحُو مَا قَبْلَهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَتَلُمُّ شَعَثَ التَّائِبِ وَتَجْمَعُهُ وَتَكُفُّهُ عَمَّا كَانَ يَتَعَاطَاهُ من الدناءات، قال عمر (التَّوْبَةُ النَّصُوحُ) أَنْ يَتُوبَ مِنَ الذَّنْبِ، ثُمَّ لا يعود فيه أو لا يريد أن يعود فيه، وقال أبو الأحوص: سُئِلَ عُمَرَ عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، فَقَالَ: أَنْ يتوب الرجل من العمل السيء، ثم لا يعود إليه أبداً، وقال ابن مسعود {تَوْبَةً نَصُوحًا} قَالَ: يَتُوبُ ثُمَّ لَا يَعُودُ، وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ هُوَ أَنْ يُقْلِعَ عَنِ الذَّنْبِ فِي الْحَاضِرِ، وَيَنْدَمَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ فِي الْمَاضِي، وَيَعْزِمَ عَلَى أن لا يَفْعَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْحَقُّ لآدمي رده إليه بطريقه، وفي الحديث الصحيح: «الندم توبة» (أخرجه أحمد وابن ماجة عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً)، وعن أُبيّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قِيلَ لَنَا أَشْيَاءُ تَكُونُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عِنْدَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ: مِنْهَا نِكَاحُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فِي دُبُرِهَا، وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ، وَمِنْهَا نِكَاحُ الرَّجُلِ الرَّجُلَ، وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ، وَمِنْهَا نِكَاحُ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ، وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ، وَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ صَلَاةٌ مَا أَقَامُوا عَلَى هَذَا حَتَّى يَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا، قَالَ زِرٌّ: فَقُلْتُ لأُبي بْنِ كَعْبٍ: فَمَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ؟ فَقَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فَقَالَ: «هُوَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ حِينَ يَفْرُطُ مِنْكَ فَتَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بِنَدَامَتِكَ مِنْهُ عِنْدَ الْحَاضِرِ ثم لا تعود إليه أبداً» (أخرجه ابن أبي حاتم).

وقال الحسن: «التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ تُبْغِضَ الذَّنْبَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ، وتستغفر منه إذا ذكرته» فأما إذا جزم بِالتَّوْبَةِ وَصَمَّمَ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تجبُّ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْخَطِيئَاتِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «الْإِسْلَامُ يجبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّوْبَةُ تجبُّ مَا قَبْلَهَا»، وَهَلْ مِنْ شَرْطِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْمَمَاتِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ وفي الأثر - ثم لَا يَعُودُ فِيهِ أَبَدًا، أَوْ يَكْفِي الْعَزْمُ على أن لا يَعُودَ فِي تَكْفِيرِ الْمَاضِي بِحَيْثُ لَوْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ الذَّنْبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ ضَارًّا فِي تَكْفِيرِ مَا تَقَدَّمَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «التَّوْبَةُ تجبُّ مَا قَبْلَهَا»؟ وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَحْتَجَّ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عمل في الجاهلية، ومن أساء بالإسلام أُخذ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ» فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ التَّوْبَةِ، فَالتَّوْبَةُ بطريق الأولى، والله أعلم. وقوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جنات تجري من تحتها الأنهار} وعسى مِنَ اللَّهِ مُوجِبَةٌ {يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ} أَيْ وَلَا يُخْزِيهِمْ مَعَهُ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم}، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: {يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ والضحّاك: هَذَا يَقُولُهُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَ يَرَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نور المنافقين قد طفئ. روى الإمام أحمد عن يحيى بن غسان عَنْ رجُل مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قَالَ: صلَّيت خَلْفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَا تُخْزِنِي يوم القيامة» (رواه الإمام أحمد). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ فِي السُّجُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِرَفْعِ رَأْسِهِ، فَأَنْظُرُ بَيْنَ يَدِي فَأَعْرِفُ أُمّتي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ وَأَنْظُرُ عَنْ يَمِينِي فَأَعْرِفُ أُمّتي من بني الْأُمَمِ، وَأَنْظُرُ عَنْ شِمَالِي فَأَعْرِفُ أُمّتي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَكَيْفَ تَعْرِفُ أُمّتك مِنْ بَيْنِ الأُمم؟ قَالَ: «غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الطُّهُورِ، وَلَا يَكُونُ أحد من الأمم كذلك غَيْرِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ يُؤْتَونَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، وَأَعْرِفُهُمْ بِنُورِهِمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» (رواه محمد بن نصر المروزي عن أبي ذر وأبي الدرداء).

- 9 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ - 10 - ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ هَؤُلَاءِ بِالسِّلَاحِ وَالْقِتَالِ، وَهَؤُلَاءِ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} أَيْ فِي الدُّنْيَا، {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أَيْ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ فِي مُخَالَطَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَمُعَاشَرَتِهِمْ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يجدي عنهم شيئاً، إذ لم يكن الإيمان خالصاً فِي قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَثَلَ فَقَالَ: {امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} أَيْ نَبِيَّيْنِ رَسُولَيْنِ عِنْدَهُمَا فِي صحبتهما ليلاً ونهاراً، يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشد العشر والاختلاط،

{فَخَانَتَاهُمَا} أَيْ فِي الْإِيمَانِ لَمْ يُوَافِقَاهُمَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَا صَدَّقَاهُمَا فِي الرِّسَالَةِ، فَلَمْ يُجْدِ ذَلِكَ كُلُّهُ شَيْئًا وَلَا دَفَعَ عَنْهُمَا مَحْذُورًا، ولهذا قال تعالى: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أَيْ لِكُفْرِهِمَا، {وَقِيلَ} أَيْ لِلْمَرْأَتَيْنِ {ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الداخلين}، وليس المراد بقوله {فَخَانَتَاهُمَا} فِي فَاحِشَةٍ بَلْ فِي الدِّينِ، فَإِنَّ نِسَاءَ الْأَنْبِيَاءِ مَعْصُومَاتٌ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْفَاحِشَةِ لِحُرْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النُّورِ، قال ابن عباس {فَخَانَتَاهُمَا} قال: ما زنتا، أما خيانة امْرَأَةُ نُوحٍ فَكَانَتْ تُخْبِرُ أَنَّهُ مَجْنُونٌ، وَأَمَّا خِيَانَةُ امْرَأَةِ لُوطٍ فَكَانَتْ تَدُلُّ قَوْمَهَا عَلَى أضيافه، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ إِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتُهُمَا فِي الدين (وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وغيرهم وهو الصحيح كما قال ابن عباس: خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما).

- 11 - وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين - 12 - وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهُمْ لَا تَضُرُّهُمْ مُخَالَطَةُ الْكَافِرِينَ إِذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إليهم، كما قال تعالى: {إلا أن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ فِرْعَوْنُ أَعْتَى أَهْلِ الْأَرْضِ وأكفرهم، فَوَاللَّهِ مَا ضَرَّ امْرَأَتَهُ كُفْرُ زَوْجِهَا حِينَ أطاعت ربها، ليعلموا إن الله تعالى حَكَمٌ عَدْلٌ لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا إِلَّا بِذَنْبِهِ، وروى ابن جرير، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تُعَذَّبُ فِي الشَّمْسِ، فَإِذَا انْصَرَفَ عَنْهَا أَظَلَّتْهَا الْمَلَائِكَةُ بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة، فَقَوْلُهَا: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} قَالَ الْعُلَمَاءُ: اخْتَارَتِ الْجَارَ قَبْلَ الدَّارِ، {وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} أَيْ خَلِّصْنِي مِنْهُ فَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ عَمَلِهِ {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ (آسِيَةُ بِنْتُ مزاحم) رضي الله عنها، عذَّبها فرعون فشدَّ يديها ورجليها بالأوتاد وهي صابرة، فرأت بيتها في الجنة فضحكت حين رأته، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ جُنُونِهَا! إِنَّا نعذّبها وهي تضحك، فقبض الله روحها في الجنة رضي الله عنها. وقوله تَعَالَى: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أَيْ حَفِظَتْهُ وَصَانَتْهُ، وَالْإِحْصَانُ: هُوَ الْعَفَافُ وَالْحُرِّيَّةُ {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} أَيْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ وَهُوَ (جِبْرِيلُ) فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ إِلَيْهَا فَتَمَثَّلَ لَهَا فِي صُورَةِ بَشَرٍ سَوِيٍّ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَنْفُخَ فيه بفِيهِ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ فَوَلَجَتْ فِي فَرْجِهَا، فَكَانَ مِنْهُ الْحَمْلُ بِعِيسَى عَلَيْهِ السلام، ولهذا قال تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وصدَّقت بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} أَيْ بِقَدَرِهِ وَشَرْعِهِ، {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» (أخرجه الشيخان).

67 - سورة الملك.

- 67 - سورة الملك.

ما ورد في فضلها: روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ سُورَةً فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثِينَ آيَةً شَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ له: تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك" (أخرجه أحمد وأهل السنن الأربعة وقال الترمذي: حديث حسن). وَعَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ خَاصَمَتْ عَنْ صَاحِبِهَا حَتَّى أَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الملك" (رواه الطبراني والحافظ المقدسي). وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَرَبَ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِبَاءَهُ عَلَى قَبْرٍ، وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قَبْرُ إِنْسَانٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْمُلْكِ حَتَّى خَتَمَهَا، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ضَرَبْتُ خِبَائِي عَلَى قَبْرٍ، وَأَنَا لَا أَحْسَبُ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَإِذَا إِنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْمُلْكِ: تَبَارَكَ، حَتَّى خَتَمَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ الْمَانِعَةُ، هِيَ الْمُنْجِيَةُ تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» (رواه الترمذي، وقال غريب من هذا الوجه). وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ: «{الم تنزيل}، و {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ المُلْك}» (أخرجه الترمذي). وقال ليث، عن طاووس: يَفْضُلَانِ كُلَّ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ بِسَبْعِينَ حَسَنَةً، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لرَجُل: أَلَا أُتْحِفُكَ بِحَدِيثٍ تَفْرَحُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: اقْرَأْ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْك} وَعَلِّمْهَا أَهْلَكَ وَجَمِيعَ وَلَدِكَ وَصِبْيَانَ بَيْتِكَ وَجِيرَانَكَ، فَإِنَّهَا الْمُنْجِيَةُ، وَالْمُجَادِلَةُ تُجَادِلُ أَوْ تُخَاصِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّهَا لقارئها، وتطالب لَهُ أَنْ يُنْجِيَهُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَيُنْجِي بِهَا صَاحِبَهَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوَدِدْتُ أَنَّهَا فِي قَلْبِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أُمّتي» (أخرجه عبد بن حميد في مسنده).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 2 - الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ - 3 - الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ

تَرَى مِن فُطُورٍ - 4 - ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ - 5 - وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ يُمَجِّد تَعَالَى نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ، وَيُخْبِرُ أَنَّهُ {بيَدِهِ المُلْكُ} أَيْ هُوَ المتصرف في جميع المخلوقات، بما يشاء، لامعقب لِحُكْمِهِ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، لِقَهْرِهِ وَحِكْمَتِهِ وعدله، ولهذا قال تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، ثُمَّ قَالَ تعالى: {الذي خَلَقَ الموت والحياة} وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ أَوْجَدَ الْخَلَائِقَ مِنَ الْعَدَمِ ليبلوهم، أي يختبرهم أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً. عن قتادة قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ أَذَلَّ بَنِي آدَمَ بِالْمَوْتِ، وَجَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ حَيَاةٍ ثُمَّ دَارَ مَوْتٍ، وَجَعَلَ الْآخِرَةَ دَارَ جَزَاءٍ ثُمَّ دَارَ بقاء» (رواه ابن أبي حاتم)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أَيْ خيرعملاً كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، وَلَمْ يَقُلْ أكثر عملاً، ثم قال تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} أَيْ هُوَ الْعَزِيزُ الْعَظِيمُ، المنيع الجناب، وهو غفور لمن تاب إليه وأناب، بعد ما عصاه وخالف أمره، فهو مع ذلك يرحم ويصفح ويتجاوز، ثم قال تعالى: {الذي خَلَقَ سَبْعَ سموات طِبَاقاً} أي طبقة بعد طبقة، وقوله تعالى: {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} أي ليس فيه اختلاف ولا تنافر، وَلَا نَقْصٌ وَلَا عَيْبٌ وَلَا خَلَلٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} أي انْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ فَتَأَمَّلْهَا، هَلْ تَرَى فِيهَا عَيْبًا أَوْ نَقْصًا أَوْ خَلَلًا أَوْ فُطُورًا؟ قال ابن عباس ومجاهد: {هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} أَيْ شُقُوقٍ، وَقَالَ السدي: أي من خروق، وقال قتادة: أَيْ هَلْ تَرَى خَلَلًا يَا ابْنَ آدَمَ؟ وقوله تعالى: {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} مَرَّتَيْنِ، {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً} قَالَ ابْنُ عباس: ذليلاً، وقال مجاهد: صاغراً، {وَهُوَ حَسِيرٌ} يعني وهو كليل، وقال مجاهد: الْحَسِيرُ الْمُنْقَطِعُ مِنَ الْإِعْيَاءِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّكَ لَوْ كَرَّرْتَ الْبَصَرَ مَهْمَا كَرَّرْتَ، لَانْقَلَبَ إِلَيْكَ أَيْ لَرَجَعَ إِلَيْكَ البَصَرُ {خَاسِئاً} عَنْ أَنْ يَرَى عَيْبًا أَوْ خَلَلًا، {وَهُوَ حَسِيرٌ} أَيْ كَلِيلٌ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ الْإِعْيَاءِ، مِنْ كَثْرَةِ التَّكَرُّرِ وَلَا يَرَى نَقْصًا، وَلَمَّا نَفَى عَنْهَا فِي خَلْقِهَا النَّقْصَ، بَيَّنَ كَمَالَهَا وَزِينَتَهَا فَقَالَ: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} وَهِيَ الْكَوَاكِبُ التي وضعت فيها السيارات والثوابت، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهَآ رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} عَادَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ {وَجَعَلْنَاهَا} عَلَى جِنْسِ الْمَصَابِيحِ لَا عَلَى عَيْنِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَرْمِي بِالْكَوَاكِبِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ، بَلْ بِشُهُبٍ مِنْ دُونِهَا، وَقَدْ تَكُونُ مُسْتَمَدَّةً منها، والله أعلم. {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} أَيْ جَعَلْنَا لِلشَّيَاطِينِ هَذَا الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا، وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير في الآخرى كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا خُلِقَتْ هَذِهِ النُّجُومُ لِثَلَاثِ خِصَالٍ: خَلَقَهَا اللَّهُ زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ بِرَأْيِهِ، وَأَخْطَأَ حَظَّهُ، وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ).

- 6 - وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ - 7 - إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ - 8 - تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ - 9 - قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا

مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ - 10 - وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ - 11 - فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ يَقُولُ تعالى: {وأعتدنا لِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أَيْ بِئْسَ الْمَآلُ وَالْمُنْقَلَبُ، {إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً} يَعْنِي الصِّيَاحَ، {وَهِيَ تَفُورُ} قَالَ الثَّوْرِيُّ: تَغْلِي بِهِمْ كَمَا يَغْلِي الحَبُ الْقَلِيلُ فِي الْمَاءِ الكثير، وقوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} أي تكاد يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، مِنْ شِدَّةِ غَيْظِهَا عَلَيْهِمْ وَحَنَقِهَا بِهِمْ، {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ}. يَذْكُرُ تَعَالَى عَدْلَهُ فِي خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، وقال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا؟ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ على الكافرين}، وَهَكَذَا عَادُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ، وَنَدِمُوا حَيْثُ لَا تَنْفَعُهُمُ النَّدَامَةُ، فَقَالُوا: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، أَيْ لَوْ كَانَتْ لَنَا عُقُولٌ نَنْتَفِعُ بِهَا لَمَا كُنَّا عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ، مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالِاغْتِرَارِ بِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَنَا فَهْمٌ نَعِي بِهِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَا كَانَ لَنَا عَقْلٌ يُرْشِدُنَا إِلَى اتِّبَاعِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير}. وفي الحديث: «لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (رواه الإمام أحمد من حديث أبي البختر الطائي)، وفي حديث آخر: «لايدخل أَحَدٌ النَّارَ إِلَّا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ النَّارَ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ».

- 12 - إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ - 13 - وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ - 14 - أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ - 15 - هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ يَقُولُ تَعَالَى: مُخْبِرًا عمن يخاف مقام ربه، فَيَنْكَفُّ عَنِ الْمَعَاصِي وَيَقُومُ بِالطَّاعَاتِ، حَيْثُ لَا يراه أحد إلا الله تعالى، بأنه له {مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} أي تكفّر عَنْهُ ذُنُوبَهُ، وَيُجَازَى بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّهِ» فَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلًا تصدَّق بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تنفق يمينه، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى الضَّمَائِرِ وَالسَّرَائِرِ {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ بِمَا يخطر فِي الْقُلُوبِ {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} أَيْ أَلَا يَعْلَمُ الْخَالِقُ؟ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ مَخْلُوقَهُ؟ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ثُمَّ ذَكَرَ نِعْمَتَهُ عَلَى خَلْقِهِ فِي تَسْخِيرِهِ لَهُمُ الْأَرْضَ، وَتَذْلِيلِهِ إِيَّاهَا لَهُمْ، بِأَنْ جعلها قارة ساكنة لا تميد وَلَا تَضْطَرِبُ، بِمَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ، وَأَنْبَعَ فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ، وَسَلَكَ فِيهَا مِنَ السبل، وهيأ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَمَوَاضِعِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَقَالَ تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أَيْ فَسَافِرُوا حَيْثُ شِئْتُمْ مِنْ أقطارها، وترددوا

فِي أَقَالِيمِهَا وَأَرْجَائِهَا فِي أَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ وَالتِّجَارَاتِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ سَعْيَكُمْ لَا يُجْدِي عَلَيْكُمْ شَيْئاً إِلاَّ أَن يُيَسِّرَهُ اللَّهُ لَكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ} فَالسَّعْيُ فِي السَّبَبِ لَا ينافي التوكل، كما قال رسول الله: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بطاناً» (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عمر بن الخطاب مرفوعاً) فَأَثْبَتَ لَهَا رَوَاحًا وَغُدُوًّا لِطَلَبِ الرِّزْقِ مَعَ تَوَكُّلِهَا عَلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَهُوَ الْمُسَخِّرُ الْمُسَيِّرُ الْمُسَبِّبُ {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أَيِ الْمَرْجِعُ يَوْمَ القيامة، قال ابن عباس ومجاهد: مناكبها: أطرافها وفجاجها ونواحيها.

- 16 - أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ - 17 - أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ - 18 - وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ - 19 - أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ وَهَذَا أَيْضًا مَنْ لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ، أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ بسبب كفر بعضهم، وَهُوَ مَعَ هَذَا يَحْلُمُ وَيَصْفَحُ، وَيُؤَجِّلُ وَلَا يعجل، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} الآية، وقال ههنا: {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} أَيْ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَتَضْطَرِبُ، {أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} أَيْ رِيحًا فِيهَا حَصْبَاءُ تدمغكم كما قال تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وكيلاً}، وهكذا توعدهم ههنا بِقَوْلِهِ: {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} أَيْ كَيْفَ يَكُونُ إِنْذَارِي، وَعَاقِبَةُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ وَكَذَّبَ بِهِ، ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أَيْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، {فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} أَيْ فَكَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ وَمُعَاقَبَتِي لَهُمْ؟ أَيْ عَظِيمًا شَدِيدًا أَلِيماً، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} أَيْ تَارَةً يُصَفِّفْنَ أَجْنِحَتَهُنَّ فِي الْهَوَاءِ، وَتَارَةً تَجْمَعُ جَنَاحًا وَتَنْشُرُ جَنَاحًا، {مَا يُمْسِكُهُنَّ} أَيْ فِي الْجَوِّ {إِلاَّ الرَّحْمَنُ} أَيْ بِمَا سَخَّرَ لَهُنَّ مِنَ الْهَوَاءِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} أَيْ بِمَا يُصْلِحُ كُلَّ شيء من مخلوقاته، وهذه كقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لقوم يؤمنون}.

- 20 - أَمْ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ - 21 - أَمْ مِّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ - 22 - أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أم من يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - 23 - قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ - 24 - قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ - 25 - وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - 26 - قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ - 27 - فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ

يقول تعالى للمشركين الذين عبدوا معه غَيْرَهُ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ نَصْرًا وَرِزْقًا مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِن دُونِ الرَّحْمَنِ}؟ أَيْ لَيْسَ لَكُمْ مَنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ، وَلَا نَاصِرَ لكم غيره، ولهذا قال تعالى: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ}. ثُمَّ قَالَ تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ}؟ أَيْ مَنْ هَذَا الَّذِي إِذَا قَطَعَ اللَّهُ عنكم رزقه يَرْزُقُكُمْ بَعْدَهُ؟ أَيْ لَا أَحَدَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، ويخلق ويرزق إلا الله وحده لا شريك له، قال تعالى: {بَلْ لَّجُّواْ} أَيِ اسْتَمَرُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ وَإِفْكِهِمْ وضلالهم، {فِي عُتُوٍّ} أي في معاندة واستكبار {وَنُفُورٍ} على أدبارهم عن الحق، لَا يَسْمَعُونَ لَهُ وَلَا يَتَّبِعُونَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}؟ وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَالْكَافِرُ مَثَلُهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ كَمَثَلِ مَنْ يَمْشِي {مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ} أَيْ يَمْشِي مُنْحَنِيًا لَا مُسْتَوِيًا {عَلَى وَجْهَهُ} أَيْ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَسْلُكُ وَلَا كَيْفَ يَذْهَبُ، بَلْ تَائِهٌ حَائِرٌ ضَالٌّ، أَهَذَا أَهْدَى {أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً} أَيْ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؟ أَيْ عَلَى طَرِيقٍ وَاضِحٍ بيّن، هَذَا مَثَلُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ يَكُونُونَ فِي الْآخِرَةِ، فَالْمُؤْمِنُ يُحْشَرُ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مستقيم، مفض بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ الْفَيْحَاءِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَمْشِي عَلَى وَجْهِهِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ {فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم}. عن أنَس بن مالك قال، قيل: يارسول اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ فَقَالَ: «أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرًا عَلَى أن يمشيهم على وجوههم»؟ (الحديث أخرجه أحمد وأصله في الصحيحين عن أنَس بن مالك). وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ} أَيِ ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} أَيِ الْعُقُولَ وَالْإِدْرَاكَ، {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي قلّما تَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ الْقُوَى، الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فِي طَاعَتِهِ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ. {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ بثكم ونشركم في أقطار الأرض، مع اختلاف ألسنتكم ولغاتكم وألوانكم، {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي تجتمعون بعد هذا التفرق والشتات، يَجْمَعُكُمْ كَمَا فَرَّقَكُمْ وَيُعِيدُكُمْ كَمَا بَدَأَكُمْ، ثُمَّ قال تعالى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ، الْمُنْكِرِينَ لِلْمَعَادِ، الْمُسْتَبْعِدِينَ وُقُوعَهُ {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}؟ أي متى يقع هذا الذي تخبرنا عنه، {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ} أَيْ لَا يَعْلَمُ وَقْتَ ذَلِكَ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، لَكِنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ أُخْبِرَكُمْ أَنَّ هَذَا كَائِنٌ وَوَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ فَاحْذَرُوهُ {وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي وَإِنَّمَا عليَّ الْبَلَاغُ وَقَدْ أَدَّيْتُهُ إِلَيْكُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ لَمَّا قَامَتِ الْقِيَامَةُ وَشَاهَدَهَا الكفّار، ورأَوا أن الأمر كان قريباً، فَلَمَّا وَقَعَ مَا كَذَّبُوا بِهِ سَاءَهُمْ ذَلِكَ، وَجَاءَهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي بَالٍ وَلَا حِسَابٍ، {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يحتسبون}، وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ {هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أَيْ تَسْتَعْجِلُونَ.

- 28 - قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - 29 - قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ - 30 - قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَعِينٍ

يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْجَاحِدِينَ لِنِعَمِهِ {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ خَلِّصُوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّهُ لَا مُنْقِذَ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا التَّوْبَةُ والإنابة، وَلَا يَنْفَعُكُمْ وُقُوعُ مَا تَتَمَنَّوْنَ لَنَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، فَسَوَاءٌ عَذَّبَنَا اللَّهُ أَوْ رَحِمَنَا، فَلَا مَنَاصَ لَكُمْ مِنْ نَكَالِهِ وَعَذَابِهِ الْأَلِيمِ الواقع بكم، ثم قال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} أَيْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَعَلَيْهِ توكلنا في جميع أُمورنا، كما قال تعالى: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}، ولهذا قال تعالى: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أَيْ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَلِمَنْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا والآخرة؟ ثم قال تعالى إظهاراً للرحمة في خلقه {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً} أَيْ ذَاهِبًا فِي الْأَرْضِ إِلَى أَسْفَلَ، فَلَا يُنَالُ بالفؤوس الْحِدَادِ وَلَا السَّوَاعِدِ الشِّدَادِ، وَالْغَائِرُ عَكْسُ النَّابِعِ، ولهذا قال تعالى: {فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} أَيْ نَابِعٍ سَائِحٍ جار على وجه الأرض، أي لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، فَمِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ أَنْ أَنْبَعَ لَكُمُ الْمِيَاهَ، وَأَجْرَاهَا فِي سَائِرِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، بِحَسَبِ مَا يَحْتَاجُ الْعِبَادُ إِلَيْهِ مِنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فلله الحمد والمنة.

68 - سورة القلم.

- 68 - سورة القلم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ - 2 - مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ - 3 - وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ - 4 - وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عظيم - 5 - فستبصر ويبصرون - 6 - بأيكم الْمَفْتُونُ - 7 - إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ههنا، وقيل: المراد بقوله {ن} حوت عظيم وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {ن} لَوْحٌ مِنْ نُورٍ، وقيل: المراد بقوله {ن} الدواة، {والقلم} القلم، روي عَنِ الْحَسَنِ وقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {ن} قَالَا: هي الدواة، وقوله تعالى: {وَالْقَلَمِ} الظَّاهِرُ أَنَّهُ جِنْسُ الْقَلَمِ الَّذِي يُكْتَبُ به كقوله تعالى: {الَّذِي علَّم بِالْقَلَمِ * علَّم الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يعلم} فَهُوَ قَسَمٌ مِنْهُ تَعَالَى، وَتَنْبِيهٌ لِخَلْقِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، مِنْ تَعْلِيمِ الْكِتَابَةِ التي تنال بها الْعُلُومُ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا يَسْطُرُونَ} قَالَ ابْنُ عباس: يعني وما يكتبون، وقال أبو الضحى عنه {وَمَا يَسْطُرُونَ} أَيْ وَمَا يَعْمَلُونَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ {وَمَا يَسْطُرُونَ} يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ وَمَا تَكْتُبُ مِنْ أعمال العباد، وقال آخرون: بل المراد ههنا بِالْقَلَمِ الَّذِي أَجْرَاهُ اللَّهُ بِالْقَدَرِ، حِينَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ بخمسين ألف عام، روى ابن أبي حاتم عن الْوَلِيدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: دَعَانِي أَبِي حِينِ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ فَقَالَ: اُكتب، قال: يا رب وما أنا أكتب؟ قال اُكتب القدر وما هو كائن إلى الأبد" (أخرجه ابن أبي حاتم، ورواه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح غريب). وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يحدِّث أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ فَأَمَرَهُ فَكَتَبَ كل شيء» (رواه ابن جرير). وقال مُجَاهِدٍ {وَالْقَلَمِ} يَعْنِي الَّذِي كُتِبَ بِهِ الذِّكْرُ، وقوله تعالى: {وَمَا يَسْطُرُونَ} أَيْ يَكْتُبُونَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ تعالى: {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} أَيْ لَسْتَ ولله الحمد بمجنون، كما يَقُولُهُ الْجَهَلَةُ مَنْ قَوْمِكَ،

المكذبون بما جئتهم به من الهدى حيث نسبوك إِلَى الْجُنُونِ، {وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي إن لَكَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ وَلَا يَبِيدُ، عَلَى إِبْلَاغِكَ رِسَالَةَ رَبِّكَ إِلَى الْخَلْقِ، وَصَبْرِكَ عَلَى أَذَاهُمْ، وَمَعْنَى {غَيْرُ ممنون} أي غيرمقطوع، كقوله: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أَيْ غَيْرُ مَقْطُوعٍ عَنْهُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {غَيْرَ مَمْنُونٍ}: أَيْ غَيْرُ مَحْسُوبٍ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قال ابن عباس: وإنك لعلى دين عظيم وهو الإسلام، وقال عطية: لعلى أدب عظيم، وقال قتادة: ذكر لنا أن سعيد بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان كالقرآن، وروى الإمام أحمد عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: كان خلقه القرآن (أخرجه الإمام أحمد)، وقال ابن جرير، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أمّ المؤمنين رضي الله عنها فقلت لها: أخبريني بخلق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ كالقرآن، أَما تقرأ: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}؟ (رواه ابن جرير واللفظ له ورواه أبو داود والنسائي بنحوه) ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن سجية له وخلقاً، وَتَرَكَ طَبْعَهُ الْجِبِلِّيَّ، فَمَهْمَا أَمَرَهُ الْقُرْآنُ فَعَلَهُ، وَمَهْمَا نَهَاهُ عَنْهُ تَرَكَهُ، هَذَا مَعَ مَا جَبَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ، مِنَ الْحَيَاءِ وَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ وَالصَّفْحِ وَالْحِلْمِ، وَكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنس، قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرٌ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُّ، وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فعلتُه لِمَ فعلتَه؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ أَلاَ فَعَلْتَهُ؟ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلقاً وَلَا مَسِسْتُ خَزًّا وَلَا حَرِيرًا وَلَا شَيْئًا كَانَ أَلين مِنْ كَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا شَمَمْتُ مِسْكًا وَلَا عِطْرًا كَانَ أَطيب مِنْ عَرَقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أخرجه الشيخان عن أنَس رضي الله عنه)، وروى البخاري، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَحْسَنَ النَّاسِ خَلقاً ليس بالطويل ولا بالقصير (أخرجه البخاري)، وروى الإمام أحمد، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ خادماً قط، ولا ضرب امْرَأَةً، وَلَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ قَطُّ إِلَّا كَانَ أَحَبُّهُمَا إِلَيْهِ أَيْسَرَهُمَا حَتَّى يَكُونَ إِثْمًا، فَإِذَا كَانَ إِثماً كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الْإِثْمِ، وَلَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ، فَيَكُونُ هُوَ يَنْتَقِمُ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ (أخرجه الإمام أحمد وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلِأَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ كتاب سّماه (الشمائل)). وقوله تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} أَيْ فَسَتَعْلَمُ يَا مُحَمَّدُ وَسَيَعْلَمُ مُخَالِفُوكَ وَمُكَذِّبُوكَ، مَنِ الْمَفْتُونُ الضَّالُّ مِنْكَ وَمِنْهُمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: سَتَعْلَمُ ويعلمون يوم القيامة، {بأيكم المفتون} أي المجنون، وقال قتادة: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} أَيْ أَوْلَى بِالشَّيْطَانِ، وَمَعْنَى الْمَفْتُونِ ظاهر أي الذي افْتُتِنَ عَنِ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الباء في قوله: {بأيكم} لِتَدُلَّ عَلَى تَضْمِينِ الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} وتقديره: فستعلم ويعلمون، أي فَسَتُخْبَرُ وَيُخْبَرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أَيْ هُوَ يَعْلَمُ تَعَالَى أَيَّ الْفَرِيقَيْنِ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ هُوَ الْمُهْتَدِي، وَيَعْلَمُ الْحِزْبَ الضَّالَّ عَنِ الْحَقِّ.

- 8 - فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ - 9 - وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ - 10 - وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ - 11 - هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ - 12 - مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ - 13 - عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ - 14 - أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ - 15 - إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ - 16 - سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ يَقُولُ تَعَالَى: كَمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ وَأَعْطَيْنَاكَ الشَّرْعَ الْمُسْتَقِيمَ، وَالْخُلُقَ الْعَظِيمَ، {فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ تُرَخِّصُ لَهُمْ فَيُرَخِّصُونَ، وَقَالَ مجاهد: تَرْكَنُ إِلَى آلِهَتِهِمْ وَتَتْرُكُ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} وَذَلِكَ أَنَّ الْكَاذِبَ لِضَعْفِهِ ومهانته، يجترئ على أسماء الله تعالى، باستعمالها فِي كُلِّ وَقْتٍ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، قَالَ ابن عباس: المهين الكاذب، وقال الْحَسَنُ: {كُلَّ حَلاَّفٍ} مُكَابِرٍ {مَّهِينٍ} ضَعِيفٍ، وَقَوْلُهُ تعالى: {هَمَّازٍ} يَعْنِي الِاغْتِيَابَ، {مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ} يَعْنِي الَّذِي يَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ وَيُحَرِّشُ بَيْنَهُمْ، وَيَنْقُلُ الْحَدِيثَ لِفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَهِيَ الْحَالِقَةُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فكان لا يستبرئ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» (رواه الشيخان وبقية الجماعة). وعن هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى حُذَيْفَةَ فَقِيلَ: إِنَّ هَذَا يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى الْأُمَرَاءِ، فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ» (أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود. والقتات: النمام). وعن أَبِي وَائِلٍ قَالَ: بَلَغَ حُذَيْفَةَ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ يَنُمُّ الْحَدِيثَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الجنة نمام» (أخرجه أحمد)، وروى الإمام أحمد عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قال: «الذين إذا رؤوا ذُكِرَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ»، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الباغون للبرآء العَنَت» (أخرجه أحمد وابن ماجه). وقوله تعالى: {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} أَيْ يَمْنَعُ مَا عَلَيْهِ وَمَا لَدَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ {مُعْتَدٍ} فِي تناول مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ، يَتَجَاوَزُ فِيهَا الْحَدَّ المشروع، {أَثِيمٍ} أي يتناول المحرمات، وقوله تعالى: {عتُل بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} أَمَّا الْعُتُلُّ فَهُوَ الفظ الغليظ، الجموع المنوع. روى الإمام أحمد، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ألا أنبئكم بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَّا أُنَبِّئُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كل عتل جواظ مستكبر» وفي رواية: «كل جواظ جعظري مستكبر» (أخرجه الشيخان والإمام أحمد). وفي أُخْرى لأحمد: "كل جعظري، جواظ (قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْجَعْظَرِيُّ: الْفَظُّ الْغَلِيظُ، وَالْجَوَّاظُ: الجموع المنوع)، مستكبر، جمّاع، منّاع" وفي الحديث: «تَبْكِي السَّمَاءُ مِنْ عَبْدٍ أَصَحَّ اللَّهُ جِسْمَهُ، وأرحب جوفه، وأعطاه من الدنيا هضما، فكان للناس

ظلوماً، فذلك العتل الزنيم» (أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم مرفوعاً)، فالعتل هو الشَّدِيدُ الْقَوِيُّ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكَحِ وَغَيْرِ ذلك، وأما الزنيم في لغة العرب فهو الدعي في القوم، ومنه قول (حسان بن ثابت) يَذُمُّ بَعْضَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ * كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القدح الفرد وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {زَنِيمٍ} قَالَ الدَّعِيُّ الفاحش اللئيم، وأنشد: زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرِّجَالُ زِيَادَةً * كَمَا زِيدَ فِي عرض الأديم الأكارع والمراد به (الأخنس بن شريق)، وقال مجاهد عن ابن عباس: {الزنيم} الملحق النسب، وقال سعيد ابن المسيب: هو الملصق بالقوم ليس منهم، وسئل عكرمة عن الزنيم فقال: هو ولد الزنا، وقال سعيد بن جبير: الزَّنِيمُ الَّذِي يُعْرَفُ بِالشَّرِّ، كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بزنمتها، والزنيم الملصق، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَتْ لَهُ زَنَمَةٌ فِي أَصْلِ أُذُنِهِ، وَيُقَالُ: هُوَ اللَّئِيمُ الْمُلْصَقُ فِي النَّسَبِ، وَالْأَقْوَالُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَتَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ الزَّنِيمَ هُوَ الْمَشْهُورُ بِالشَّرِّ، الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، وَغَالِبًا يَكُونُ دَعِيًّا وَلَدُ زِنًا، فَإِنَّهُ فِي الْغَالِبِ يَتَسَلَّطُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ مَا لَا يَتَسَلَّطُ عَلَى غيره، وقوله تعالى: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} يَقُولُ تَعَالَى هَذَا مُقَابَلَةُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ المال والبنين، كفر بآيات الله عزَّ وجلَّ وَأَعْرَضَ عَنْهَا، وَزَعَمَ أَنَّهَا كَذِبٌ مَأْخُوذٌ مِنْ أساطير الأولين، كقوله تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عنيداً}. {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: سَنَبِينُ أَمْرَهُ بَيَانًا وَاضِحًا، حَتَّى يَعْرِفُوهُ وَلَا يَخْفَى عليهم، كما لا نخفي عليهم السمة على الخراطيم، وقال قَتَادَةُ {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}: شَيْنٌ لَا يُفَارِقُهُ آخر ما عليه، وعنه: سيما على أنفه، وقال ابن عباس: يقاتل يوم بدر فيخطم السيف فِي الْقِتَالِ، وَقَالَ آخَرُونَ: {سَنَسِمُهُ} سِمَةَ أَهْلِ النَّارِ، يَعْنِي نُسَوِّدُ وَجْهَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَبَّرَ عن الوجه بالخرطوم، ولا مَانِعَ مِنَ اجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا والآخرة وفي الحديث: «من مَاتَ هَمَّازًا لَمَّازًا مُلَقِّبًا لِلنَّاسِ كَانَ عَلَامَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَسِمَهُ اللَّهُ عَلَى الْخُرْطُومِ من كلا الشفتين» (أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً وهو جزء من حديث).

- 17 - إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ - 18 - وَلاَ يَسْتَثْنُونَ - 19 - فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ - 20 - فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ - 21 - فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ - 22 - أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ - 23 - فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ - 24 - أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ - 25 - وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ - 26 - فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ - 27 - بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ - 28 - قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ - 29 - قَالُواْ سُبْحَانَ رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ - 30 - فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ

- 31 - قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ - 32 - عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ - 33 - كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وهو بِعْثَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَقَابَلُوهُ بِالتَّكْذِيبِ والرد والمحاربة، ولهذا قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} أَيِ اخْتَبَرْنَاهُمْ {كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} وَهِيَ الْبُسْتَانُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعِ الثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ، {إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} أَيْ حَلَفُوا لَيَجُذُّنَّ ثَمَرَهَا لَيْلًا، لِئَلَّا يَعْلَمَ بِهِمْ فَقِيرٌ ولا سائل، وَلَا يَتَصَدَّقُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ، {وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} أَيْ فيما حلفوا به، {فطاف عليهم طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ} أَيْ أَصَابَتْهَا آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ، {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أي كالليل الأسود، وقال السدي: مِثْلَ الزَّرْعِ إِذَا حُصِدَ أَيْ هَشِيمًا يَبَسًا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالْمَعَاصِيَ، إِنَّ الْعَبْدَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُحْرَمُ بِهِ رِزْقًا قَدْ كان هيء لَهُ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كالصريم} (أخرجه ابن أبي حاتم). قَدْ حُرِمُوا خَيْرَ جَنَّتِهِمْ بِذَنْبِهِمْ، {فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ} أي وَقْتُ الصُّبْحِ نَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِيَذْهَبُوا إِلَى (الجذاذ) أي القطع، {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ} أَيْ تُرِيدُونَ الصِرَامَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ حَرْثُهُمْ عِنَبًا، {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} أَيْ يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، بِحَيْثُ لَا يُسْمِعُون أَحَدًا كَلَامَهُمْ، ثُمَّ فسر عَالِمُ السِّرِّ وَالنَّجْوَى مَا كَانُوا يَتَخَافَتُونَ بِهِ، فقال تعالى: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ} أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَا تمكنوا اليوم فقيراً يدخلها عليكم، قال تَعَالَى: {وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ} أَيْ قُوَّةٍ وَشِدَّةٍ، وقال مجاهد: على جد، وقال عكرمة: على غيظ، {قَادِرِينَ} أَيْ عَلَيْهَا فِيمَا يَزْعُمُونَ وَيَرُومُونَ، {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَآلُّونَ} أَيْ فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا وَأَشْرَفُوا عَلَيْهَا، وَهِيَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، قَدِ اسْتَحَالَتْ عَنْ تلك النضارة والزهوة وَكَثْرَةِ الثِّمَارِ، إِلَى أَنْ صَارَتْ سَوْدَاءَ مُدْلَهِمَّةً لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ قَدْ أخطأوا الطَّرِيقَ، وَلِهَذَا قَالُوا: {إِنَّا لَضَآلُّونَ} أَيْ قَدْ سلكنا إليها غير الطريق فتهنا عنها، ثم تيقنوا أَنَّهَا هِيَ فَقَالُوا {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أَيْ بل هي هذه، وَلَكِنْ نَحْنُ لَا حَظَّ لَنَا وَلَا نَصِيبَ. وقال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ}، أي أعدلهم وخيرهم (قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة) {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ}! قَالَ مُجَاهِدٌ والسدي: أي لولا تستثنون، وَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ تَسْبِيحًا، وَقَالَ ابن جرير: هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ)، وَقِيلَ: {لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} أَيْ هَلَّا تُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتَشْكُرُونَهُ على ما أعطاكم وأنعم به عليكم {وقالوا سُبْحَانَ رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أَتَوْا بِالطَّاعَةِ حَيْثُ لَا تَنْفَعُ، وَنَدِمُوا وَاعْتَرَفُوا حَيْثُ لَا يَنْجَعُ، وَلِهَذَا قَالُوا: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} أَيْ يَلُومُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، عَلَى مَا كَانُوا أَصَرُّوا عَلَيْهِ مِنْ منع المساكين، فَمَا كَانَ جَوَابَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِلَّا الِاعْتِرَافَ بِالْخَطِيئَةِ وَالذَّنْبِ، {قَالُواْ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} أي اعتدينا وبغينا وَجَاوَزْنَا الْحَدَّ حَتَّى أَصَابَنَا مَا أَصَابَنَا {عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} قيل: راغبون فِي بَذْلِهَا لَهُمْ فِي

الدُّنْيَا، وَقِيلَ: احْتَسَبُوا ثَوَابَهَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، والله أعلم. ذَكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ كَانُوا من أهل اليمن، وَقِيلَ: كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ وَكَانَ أَبُوهُمْ قد خلف لهم هذه الجنة، وكان يسير فيها سيرة حسنة، فكان ما يستغل منها يرد فيها ما تحتاج إليه، وَيَدَّخِرُ لِعِيَالِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَاضِلِ، فَلَمَّا مات وورثه بَنُوهُ قَالُوا: لَقَدْ كَانَ أَبُونَا أَحْمَقَ، إِذْ كَانَ يَصْرِفُ مِنْ هَذِهِ شَيْئًا لِلْفُقَرَاءِ، وَلَوْ أَنَّا مَنَعْنَاهُمْ لَتَوَفَّرَ ذَلِكَ عَلَيْنَا، فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ عُوقِبُوا بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ ما بأيديهم بالكلية (رأس الْمَالِ وَالرِّبْحَ وَالصَّدَقَةَ) فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَيْءٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} أَيْ هَكَذَا عَذَابُ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ، وَبَخِلَ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ حَقَّ المسكين والفقير، وَبَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أَيْ هَذِهِ عُقُوبَةُ الدُّنْيَا وعذاب الآخرة أشق.

- 34 - إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ النَّعِيمِ - 35 - أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ - 36 - مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ - 37 - أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ - 38 - إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ - 39 - أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ - 40 - سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ - 41 - أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَمَا أَصَابَهُمْ فِيهَا مِنَ النِّقْمَةِ حِينَ عَصَوُا اللَّهَ عزَّ وجلَّ، بَيَّنَ أَنَّ لِمَنِ اتَّقَاهُ وَأَطَاعَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، الَّتِي لَا تَبِيدُ وَلَا تفرغ ولا ينقضي نعيمها، ثم قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}؟ أَيْ أَفَنُسَاوِي بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْجَزَاءِ؟ كَلَّا وَرَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، ولهذا قال: {مالكم كَيْفَ تَحْكُمُونَ}! أَيْ كَيْفَ تَظُنُّونَ ذَلِكَ، ثُمَّ قال تعالى: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} يقول تعالى أَفَبِأَيْدِيكُمْ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّمَاءِ، تَدْرُسُونَهُ وَتَحْفَظُونَهُ وَتَتَدَاوَلُونَهُ، بِنَقْلِ الْخَلَفِ عَنِ السَّلَفِ، مُتَضَمِّنٌ حُكْمًا مُؤَكَّدًا كَمَا تَدَّعُونَهُ؟ {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} أَيْ أَمَعَكُمْ عُهُودٌ مِنَّا وَمَوَاثِيقُ مُؤَكَّدَةٌ؟ {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} أَيْ إِنَّهُ سَيَحْصُلُ لَكُمْ مَا تُرِيدُونَ وَتَشْتَهُونَ، {سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} أَيْ قُلْ لَهُمْ مَنْ هُوَ الْمُتَضَمِّنُ الْمُتَكَفِّلُ بِهَذَا! قال ابن عباس: أيهم بذلك كفيل {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ {فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ}.

- 42 - يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ - 43 - خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ - 44 - فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ - 45 - وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ - 46 - أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ - 47 - أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ لَمَّا ذَكَرَ تعالى أن للمتقين عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ النَّعِيمِ، بَيَّنَ مَتَى ذَلِكَ كَائِنٌ وَوَاقِعٌ فقال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ للسجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا يَكُونُ فيه من الأهوال، والبلاء والامتحان

والأمور العظام، روى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا» (أخرجه الشيخان وغيرهما من طرق وألفاظ وهو حديث مشهور). وقال ابن عباس: هُوَ يَوْمَ القيامة يوم كرب وشدة. وعن ابن مسعود {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} قَالَ: عَنْ أَمْرٍ عظيم كقول الشاعر: شالت الحرب عن ساق (رواه عنهما ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ). وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} قَالَ: شدة الأمر وجده، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} هو الأمر الشديد الفظيع مِنَ الْهَوْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} يَقُولُ: حِينَ يُكْشَفُ الْأَمْرُ وَتَبْدُو الْأَعْمَالُ، وَكَشْفُهُ دخول الآخرة، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن ساق} يعني عن نور عظيم يخرون له سجداً» (أخرجه ابن جرير عن أبي بردة بن أبي موسى مرفوعاً، ورواه أبو يعلى وفيه رجل بهم)، وقوله تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِإِجْرَامِهِمْ وَتَكَبُّرِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَعُوقِبُوا بِنَقِيضِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَمَّا دُعُوا إِلَى السُّجُودِ فِي الدُّنْيَا فَامْتَنَعُوا مِنْهُ مَعَ صِحَّتِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ، كَذَلِكَ عُوقِبُوا بِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، إِذَا تَجَلَّى الرَّبُّ عزَّ وجلَّ فَيَسْجُدُ لَهُ المؤمنون، ولا يستطيع أحد من الكافرين أو الْمُنَافِقِينَ أَنْ يَسْجُدَ، بَلْ يَعُودُ ظَهْرُ أَحَدِهِمْ طَبَقًا وَاحِدًا، كُلَّمَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَسْجُدَ خرّ لقفاه، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ أَيْ دعني وإياه أنا أعلم كيف أستدرجه ثُمَّ آخُذُهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ كَرَامَةٌ، وَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِهَانَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ}، ولهذا قال ههنا: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي أؤخرهم وَأَمُدُّهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ كَيْدِي وَمَكْرِي بِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أَيْ عَظِيمٌ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَكَذَّبَ رُسُلِي، وَاجْتَرَأَ عَلَى مَعْصِيَتِي، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (أخرجه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً). وقوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ}! المعنى أَنَّكَ يَا مُحَمَّدُ تَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ بِلَا أَجْرٍ تَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، بَلْ تَرْجُو ثواب ذلك عند الله تعالى، وَهُمْ يُكَذِّبُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ، بِمُجَرَّدِ الْجَهْلِ والكفر والعناد.

- 48 - فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ - 49 - لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ - 50 - فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ - 51 - وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ - 52 - وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين يقول تعالى: {فاصبر} يامحمد عَلَى أَذَى قَوْمِكَ لَكَ وَتَكْذِيبِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سيحكم لك وَيَجْعَلُ الْعَاقِبَةَ لَكَ

وَلِأَتْبَاعِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} يَعْنِي ذَا النُّونِ وَهُوَ (يُونُسُ بْنُ مَتَّى) عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ ذَهَبَ مُغَاضِبًا عَلَى قَوْمِهِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ مِنْ رُكُوبِهِ فِي الْبَحْرِ، وَالْتِقَامِ الْحُوتِ لَهُ، وَشُرُودِ الحوت به في البحار، وَسَمَاعِهِ تَسْبِيحَ الْبَحْرِ بِمَا فِيهِ لِلْعَلِيِّ الْقَدِيرِ، فَحِينَئِذٍ نَادَى فِي الظُّلُمَاتِ: {أَن لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، قال الله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي المؤمنين}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، وقال ههنا: {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد: وهو مغموم، وقال عطاء مَكْرُوبٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ {لاَّ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} خرجت الكلمة تحنّ حَوْلَ الْعَرْشِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، هَذَا صَوْتٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلَادٍ غَرِيبَةٍ، فَقَالَ الله تبارك وتعالى: أَمَا تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: هَذَا يُونُسُ، قَالُوا: يَا رَبُّ عَبْدُكُ الَّذِي لَا يَزَالُ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ وَدَعْوَةٌ مُجَابَةٌ، قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: أَفَلَا تَرْحَمُ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ فِي الرَّخَاءِ فَتُنْجِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْحُوتَ فَأَلْقَاهُ بِالْعَرَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى» (أخرجه الشيخان وأحمد عن أبي هريرة). وقوله تعالى: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} قَالَ ابن عباس ومجاهد {ليزلقونك} لينفذونك {بِأَبْصَارِهِم} أي يَحْسُدُونَكَ لِبُغْضِهِمْ إِيَّاكَ، لَوْلَا وِقَايَةُ اللَّهِ لَكَ وَحِمَايَتُهُ إِيَّاكَ مِنْهُمْ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ إِصَابَتُهَا وَتَأْثِيرُهَا حَقٌّ بِأَمْرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ المروية، روى أبو داود عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَّةٍ أَوْ دَمٍ لَا يُرْقَأُ» (رواه أبو داود). وروى ابن ماجه، عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَّةٍ» (أخرجه ابن ماجة ورواه البخاري والترمذي عن عمر بن حصين موقوفاً). وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شيء سابق القدر سبقت العين وإذا استغسلتم فاغسلوا» (أخرجه مسلم). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ يَقُولُ: «أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مَنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمَنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ» وَيَقُولُ: «هَكَذَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يُعَوِّذُ إِسْحَاقَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ» (أخرجه البخاري وأهل السنن). وروى الإمام أحمد، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَكَى، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شيء يؤذيك، من كل حاسد وعين والله يشفيك (أخرجه الإمام أحمد)، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن العين حق» (أخرجاه في الصحيحين). حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ رَفَاعَةَ الزُرَقِيِّ قَالَ، قَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَنِي جَعْفَرٍ تُصِيبُهُمُ الْعَيْنُ أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟ قَالَ: «نَعَمْ. فَلَوْ كان شيء يسبق القدر لسبقته العين» (أخرجه أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ). حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ الله

عنها: روى ابن ماجه، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تسترقي من العين (أخرجه الشيخان وابن ماجة). وعن عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ فَإِنَّ النَّفْسَ حَقٌّ» (أخرجه ابن ماجة)، وقال أبو داود عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يُؤْمَرُ الْعَائِنُ فَيَتَوَضَّأُ ويغسل منه المعين (رواه أبو داود وأحمد). حديث سهل ابن حنيف: قال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَسَارُوا مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَرَارِ مِنَ (الجحفة) اغتسل سهل بن الأحنف، وَكَانَ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ، فَلُبِطَ سَهْلٌ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي سَهْلٍ؟ وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَلَا يُفِيقُ، قَالَ: «هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ؟» قَالُوا: نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: «عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ هَلَّا إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ؟ - ثُمَّ قَالَ - اغتسل له» فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبته وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ، ثُمَّ صبَّ ذلك الماء عليه، فصبه رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ يُكْفَأُ الْقَدَحُ وَرَاءَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَرَاحَ سَهْلٌ مع الناس ليس به بأس (أخرجه الإمام أحمد ورواه ابن ماجة بنحوه). حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عَدْوَى وَلَا طِيرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا حَسَدَ والعين حق» (تفرد به الإمام أحمد). وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} أَيْ يَزْدَرُونَهُ بِأَعْيُنِهِمْ، وَيُؤْذُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَيَقُولُونَ {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} أَيْ لِمَجِيئِهِ بِالْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ}.

69 - سورة الحاقة.

- 69 - سورة الحاقة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - الْحَاقَّةُ - 2 - مَا الْحَاقَّةُ - 3 - وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ - 4 - كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ - 5 - فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ - 6 - وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ - 7 - سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ - 8 - فَهَلْ تَرَى لَهُم مِنْ بَاقِيَةٍ - 9 - وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ - 10 - فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً - 11 - إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ - 12 - لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ {الحاقَّةُ} مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ فِيهَا يَتَحَقَّقُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَلِهَذَا عظَّم الله أَمْرَهَا فَقَالَ: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحاقَّة}، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى إِهْلَاكَهُ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبِينَ بِهَا فَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ} وَهِيَ الصَّيْحَةُ الَّتِي أَسْكَتَتْهُمْ وَالزَّلْزَلَةُ الَّتِي أَسْكَنَتْهُمْ، هَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ {الطَّاغِيَةُ}: الصَّيْحَةُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وقال مجاهد: {الطاغية} الذنوب، وكذا قال ابن زيد إنها الطغيان، وقرأ: {كَذَّبَتْ ثمود بطغوها}، {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} أَيْ بَارِدَةٍ، قال قتادة والسدي: {عَاتِيَةٍ} أي شديدة الهبوب، عَتَتْ عَلَيْهِمْ حَتَّى نَقَّبَتْ عَنْ أَفْئِدَتِهِمْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {صَرْصَرٍ} بَارِدَةٍ {عَاتِيَةٍ} عَتَتْ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ رحمة ولا بركة، وقال علي: عَتَتْ عَلَى الْخَزَنَةِ فَخَرَجَتْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} أي سلطها عليهم {سَبْعَ ليالي وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} أَيْ كَوَامِلَ مُتَتَابِعَاتٍ مَشَائِيمَ، قال ابن مسعود: {حُسُوماً} مُتَتَابِعَاتٍ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَالرَّبِيعِ: مَشَائِيمَ عَلَيْهِمْ كقوله تعالى: {في أَيَّامٍ نحسات} وَيُقَالُ: إِنَّهَا الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّاسُ الْأَعْجَازَ، وَكَأَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}. وقيل: لأنها تكون في عجز الشتاء، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {خَاوِيَةٍ} خَرِبَةٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَالِيَةٍ، أَيْ جَعَلَتِ الرِّيحُ تَضْرِبُ بِأَحَدِهِمُ الْأَرْضَ فيخرّ ميتاً على أمِّ رَأْسه، فينشدح رَأْسُهُ، وَتَبْقَى جُثَّتُهُ هَامِدَةً، كَأَنَّهَا قَائِمَةُ النَّخْلَةِ إذا خرت بلا إغصان، وقد ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «نُصِرْتُ بالصَّبا وَأُهْلِكَتْ

عاد بالدَّبور» (أخرجاه في الصحيحين). وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى عاد من الريح التي هلكوا بها إِلَّا مِثْلَ مَوْضِعِ الْخَاتَمِ، فَمَرَّتْ بِأَهْلِ الْبَادِيَةِ فَحَمْلَتْهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَجَعَلَتْهُمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عادٍ، الريحَ وَمَا فِيهَا قَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، فَأَلْقَتْ أَهْلَ الْبَادِيَةِ وَمَوَاشِيَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرَةِ" (رواه ابن أبي حاتم) {فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ}؟ أَيْ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ من أحد من بقاياهم أو مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِمْ؟ بَلْ بَادُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُمْ خَلَفًا، ثُمَّ قَالَ تعالى: {وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ} أَيْ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأُمَمِ الْمُشْبِهِينَ لَهُ، وقوله تعالى: {والمؤتفكات} وهم الأمم المكذبون بالرسل، {بِالْخَاطِئَةِ} وَهِيَ التَّكْذِيبُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، قَالَ الرَّبِيعُ {بِالْخَاطِئَةِ} أَيْ بِالْمَعْصِيَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْخَطَايَا، وَلِهَذَا قال تعالى: {فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ} أَيْ كُلٌّ كَذَّبَ رَسُولَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ كَمَا قال تعالى: {إن كلٌ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل فحق وعيد}، ومن كذب برسول فقد كذب بالجميع، كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين}، {كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين} وَإِنَّمَا جَاءَ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ وَاحِدٌ، ولهذا قال ههنا: {فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} أَيْ عَظِيمَةً شَدِيدَةً أَلِيمَةً، قَالَ مُجَاهِدٌ {رَّابِيَةً}: شَدِيدَةً، وقال السدي: مهلكة. ثم قال تعالى: {إِنَّا لمّا طغى المآء} أي ازداد على الحد، وقال ابن عباس: {طَغَى الْمَاءُ} كَثُرَ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ دَعْوَةِ نُوحٍ عليه السلام، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وعمَّ أَهْلَ الْأَرْضَ بِالطُّوفَانِ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، فالناس كلهم من سلالة نوح وذريته، قال علي بن أبي طالب: لَمْ تَنْزِلْ قَطْرَةٌ مِنْ مَاءٍ إِلَّا بِكَيْلٍ عَلَى يَدَيْ مَلَكٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ نُوحٍ أُذِنَ لِلْمَاءِ دُونَ الْخَزَّانِ، فَطَغَى الْمَاءُ عَلَى الخزان، فخرج، فذلك قوله تَعَالَى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} أَيْ زَادَ على الحد بإذن الله، {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} وَلَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا بِكَيْلٍ عَلَى يَدَيْ مَلَكٍ إِلَّا يَوْمَ عَادٍ فَإِنَّهُ أُذِنَ لَهَا دُونَ الْخَزَّانِ فخرجت، فذلك قوله تعالى: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} (رواه ابن جرير)، ولهذا قال تعالى ممتناً على الناس {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} وَهِيَ السَّفِينَةُ الْجَارِيَةُ عَلَى وجه الماء، {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} أَيْ وَأَبْقَيْنَا لَكُمْ مِنْ جِنْسِهَا مَا تَرْكَبُونَ عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ فِي الْبِحَارِ، كَمَا قَالَ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يركبون} وَقَالَ قَتَادَةُ: أَبْقَى اللَّهُ السَّفِينَةَ حَتَّى أَدْرَكَهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أَيْ وَتَفْهَمَ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَتَذْكُرَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَافِظَةٌ سَامِعَةٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} عَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ فَانْتَفَعَتْ بِمَا سَمِعَتْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} سَمِعَتْهَا أُذُنٌ وَوَعَتْ، أَيْ مَنْ لَهُ سَمْعٌ صَحِيحٌ وَعَقْلٌ رجيح، وهذا عام في كل من فهم ووعي.

- 13 - فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ - 14 - وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً - 15 - فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ - 16 - وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ - 17 - وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَآئِهَآ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ

يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ - 18 - يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ (نَفْخَةُ الْفَزَعِ)، ثُمَّ يَعْقُبُهَا (نَفْخَةُ الصَّعْقِ) حِينَ يُصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ، ثم بعدها (نفخة القيام) لرب العالمين، وقد أكدها ههنا بِأَنَّهَا وَاحِدَةٌ لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ لَا يُخَالَفُ ولا يمانع، ولا يحتاج إلى تكرار ولا تأكيد، قال الرَّبِيعُ: هِيَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ، وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَاهُ، ولهذا قال ههنا: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} أَيْ فمدت مد الأديم، وتبدلت الأرض غير الأرض، {فيومئذ وقعة الْوَاقِعَةُ} أَيْ قَامَتِ الْقِيَامَةُ، {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}. عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: تَنْشَقُّ السَّمَاءُ مِنَ الْمَجَرَّةِ، وقال ابن جرير: هي كقوله: {وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً}، {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَآئِهَآ} الْمَلَكُ اسْمُ جِنْسٍ أَيِ الملائكة. على أرجاء السماء: أي حافاتها، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَطْرَافُهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَبْوَابُهَا، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس فِي قَوْلِهِ: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَآئِهَآ} يَقُولُ: عَلَى مَا اسْتَدَقَّ مِنَ السماء ينظرون إلى أهل الأرض، وقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ ربك فوقهم ثَمَانِيَةٌ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ الْعَرْشَ ثَمَانِيَةٌ من الملائكة، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُذِنَ لي أن أحدث عن ملك من الملائكة الله تعالى مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ أَنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سبعمائة عام» (رواه أبو داود). وعن سعيد بن جبير في قوله تَعَالَى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} قَالَ: ثمانية صفوف من الملائكة. وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} أَيْ تُعْرَضُونَ عَلَى عَالِمِ السِّرِّ وَالنَّجْوَى، الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِكُمْ، بَلْ هُوَ عَالِمٌ بِالظَّوَاهِرِ وَالسَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}، وقد قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، فَإِنَّهُ أَخَفُّ عَلَيْكُمْ فِي الحساب غداً، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} (أخرجه ابن أبي الدنيا عن ثابت بن الحجّاج)، وروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ: فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَطِيرُ الصُّحُفُ فِي الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله" (أخرجه أحمد والترمذي).

- 19 - فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقرؤوا كِتَابيَهْ - 20 - إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ - 21 - فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٌ - 22 - فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ - 23 - قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ - 24 - كُلُواْ وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ سَعَادَةِ مَنْ يؤتى كِتَابَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِيَمِينِهِ، وَفَرَحِهِ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ يَقُولُ لِكُلِّ مَنْ لَقِيَهُ: {هَآؤُمُ اقرأوا كِتَابيَهْ} أي خذوا اقرأوا كِتَابِيَهْ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي فِيهِ خَيْرٌ وَحَسَنَاتٌ مَحْضَةٌ، لِأَنَّهُ مِمَّنْ بَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حسنات، وعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ (غسيل الملائكة) قال: إن الله يوقف عبده يوم القيامة فيبدي أي يظهر سَيِّئَاتِهِ فِي ظَهْرِ صَحِيفَتِهِ، فَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ عَمِلْتَ هَذَا فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ لَهُ: إِنِّي لَمْ

أَفْضَحْكَ بِهِ وَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكَ، فَيَقُولُ عند ذلك: {هاؤم اقرأوا كِتَابيَهْ}، {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} حِينَ نجا من فضيحته يوم القيامة (أخرجه ابن أبي حاتم)، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ حين سئل عن النجوى فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يُدْنِي اللَّهُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ كُلِّهَا، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنَّهُ قد هلك، قال الله تعالى: إِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ بِيَمِينِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ الْأَشْهَادِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظالمين"، وقوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} أَيْ قَدْ كُنْتُ مُوقِنًا فِي الدُّنْيَا، أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ كائن لا محالة، كما قال تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}، قَالَ تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} أَيْ مُرْضِيَّةٍ، {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أَيْ رَفِيعَةٌ قُصُورُهَا، حِسَانٌ حُورُهَا، نعيمة دُورها، دائم حبورها، روى ابن أبي حاتم، عن أبي أُمَامَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ يَتَزَاوَرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ. إِنَّهُ لَيَهْبِطُ أَهْلُ الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا إِلَى أَهْلِ الدَّرَجَةِ السُّفْلَى فَيُحَيُّونَهُمْ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَهْلُ الدَّرَجَةِ السُّفْلَى يَصْعَدُونَ إِلَى الأعلين تقصر بهم أعمالهم» (رواه ابن أبي حاتم)، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «إِنَّ الْجَنَّةَ مِائَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض». وقوله تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: أَيْ قَرِيبَةٌ يَتَنَاوَلُهَا أَحَدُهُمْ وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى سَرِيرِهِ، وكذا قال غير واحد، روى الطبراني، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا بِجَوَازٍ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية" (رواه الطبراني)، وفي رواية: "يُعْطَى الْمُؤْمِنُ جَوَازًا عَلَى الصِّرَاطِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِفُلَانٍ، أَدْخِلُوهُ جَنَّةً عَالِيَةً قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ" (أخرجه الضياء في صفة الجنة)، وقوله تَعَالَى: {كُلُواْ وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَفَضُّلًا عَلَيْهِمْ وَامْتِنَانًا، وَإِنْعَامًا وَإِحْسَانًا، وَإِلَّا فَقَدَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اعْمَلُوا وَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يُدْخِلَهُ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ منه وفضل».

- 25 - وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ - 26 - وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ - 27 - يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ - 28 - مَآ أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ - 29 - هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ - 30 - خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - 31 - ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ - 32 - ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ - 33 - إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ - 34 - وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ - 35 - فَلَيْسَ لَهُ اليوم هاهنا حَمِيمٌ - 36 - وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ - 37 - لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ إِذَا أُعْطِيَ أَحَدُهُمْ كِتَابَهُ فِي الْعَرَصَاتِ بشماله فحينئذٍ يندم غاية الندم، {فيقول لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} قَالَ الضَّحَّاكُ: يعني موتة لا حياة بعدها،

وَقَالَ قَتَادَةُ: تَمَنَّى الْمَوْتَ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ فِي الدُّنْيَا أَكْرَهُ إِلَيْهِ مِنْهُ، {مَآ أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} أَيْ لَمْ يَدْفَعْ عَنِّي مَالِي وَلَا جَاهِي عَذَابَ اللَّهِ وَبَأْسَهُ، بَلْ خَلُصَ الْأَمْرُ إِلَيَّ وَحْدِي، فَلَا مُعِينَ لِي وَلَا مُجِيرَ فَعِنْدَهَا يَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} أَيْ يَأْمُرُ الزَّبَانِيَةَ أَنْ تَأْخُذَهُ عُنْفًا مِنَ الْمَحْشَرِ فَتَغُلُّهُ، أَيْ تَضَعُ الْأَغْلَالَ فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ تُورِدُهُ إِلَى جَهَنَّمَ فَتُصِلِيهِ إِيَّاهَا، أَيْ تغمره فيها. عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِذَا قَالَ الله تعالى: خُذُوهُ، ابْتَدَرَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِنَّ الْمَلَكَ مِنْهُمْ لَيَقُولُ: هَكَذَا، فَيُلْقِي سَبْعِينَ أَلْفًا فِي النار (رواه ابن أبي حاتم)، وقال الفضيل بن عِيَاضٍ إِذَا قَالَ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} ابْتَدَرَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ أَيُّهُمْ يَجْعَلُ الْغُلَّ فِي عُنُقِهِ، {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} أَيِ أغمروه فيها، وقوله تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارُ: كُلُّ حَلْقَةٍ مِنْهَا قَدْرُ حديد الدنيا، وقال ابن عباس: بذراع الملك، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُسْلَكُ فِي دُبُرِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ مَنْخِرَيْهِ حَتَّى لَا يقوم على رجليه، روى الإمام أحمد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أن رضاضة مثل هذه - وأشار إلى جُمْجُمَةٍ - أُرْسِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَهِيَ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ لَبَلَغَتِ الْأَرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَلَوْ أَنَّهَا أُرْسِلَتْ مِنْ رَأْسِ السِّلْسِلَةِ لَسَارَتْ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ قعرها أو أصلها» (أخرجه أحمد والترمذي، وقال: حديث حسن). وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أَيْ لَا يَقُومُ بِحَقِّ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَلَا يَنْفَعُ خَلْقَهُ وَيُؤَدِّي حَقَّهُمْ، فَإِنَّ لِلَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَلِلْعِبَادِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَقُّ الْإِحْسَانِ وَالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَقُبِضَ النَّبَيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم»، وقوله تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ اليوم ههنا حَمِيمٌ * وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ * لايأكله إِلاَّ الْخَاطِئُونَ} أَيْ لَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ مَنْ ينقذه من عذاب الله تعالى، لَا {حَمِيمٌ} وَهُوَ الْقَرِيبُ، وَلَا {شَفِيعٍ} يُطَاعُ، ولا طعام له ههنا {إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ شَرُّ طعام أهل النار، وقال الضحّاك: هو شجرة في جهنم، وقال ابن عباس: مَا أَدْرِي مَا الْغِسْلِينُ؟ وَلَكِنِّي أَظُنُّهُ الزَّقُّومَ (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقال عكرمة عنه: الغسلين: الدم والماء يسيل من لحومهم، وعنه الْغِسْلِينُ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ.

- 38 - فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ - 39 - وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ - 40 - إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ - 41 - وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ - 42 - وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ - 43 - تَنزِيلٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ تَعَالَى مُقْسِمًا لِخَلْقِهِ، بِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ آيَاتِهِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِهِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا غَابَ عَنْهُمْ مِمَّا لَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ عَنْهُمْ، إِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيلُهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ، الَّذِي اصْطَفَاهُ لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فقال تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، أضافه إليه على معنى التبليغ، {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً

مَّا تَذَكَّرُونَ} فأضافه الله تارة إلى (جبريل) الرسول الملكي، وتارة إلى {محمد} الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُبَلِّغٌ عَنِ الله، ما استأمنه عليه وحيه وكلامه، ولهذا قال تعالى: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين} قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: خَرَجْتُ أَتَعَرَّضُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ أُسْلِمَ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ فَقُمْتُ خَلْفَهُ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ، قَالَ، فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ شَاعِرٌ كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ، قَالَ: فَقَرَأَ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ} قَالَ، فَقُلْتُ: كَاهِنٌ، قَالَ: فَقَرَأَ {وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، قَالَ فَوَقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي كُلَّ مَوْقِعٍ. فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مُؤَثِّرَةً فِي هِدَايَةِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

- 44 - وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ - 45 - لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ - 46 - ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ - 47 - فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ - 48 - وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ - 49 - وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ - 50 - وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ - 51 - وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ - 52 - فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} أَيْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ كَانَ كَمَا يَزْعُمُونَ مُفْتَرِيًا عَلَيْنَا، فَزَادَ فِي الرِّسَالَةِ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا، أَوْ قَالَ شَيْئًا من عنده، فنسبه إلينا لعاجلناه بالعقوبة، ولهذا قال تعالى: {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} قِيلَ: مَعْنَاهُ لَانْتَقَمْنَا مِنْهُ باليمين لأنها أشد في البطش، وقيل: لأخذناه بيمينه، {ثم قطعنا مِنْهُ الْوَتِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ نِيَاطُ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْعِرْقُ الَّذِي الْقَلْبُ مُعَلَّقٌ فِيهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هُوَ الْقَلْبُ وَمَرَاقُّهُ وما يليه، وقوله تعالى: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} أَيْ فَمَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ يَحْجِزَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، إِذَا أَرَدْنَا بِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى فِي هَذَا بَلْ هُوَ صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ، لِأَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ مُقَرِّرٌ لَهُ مَا يُبَلِّغُهُ عَنْهُ، وَمُؤَيِّدٌ لَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الباهرات والدلالات القاطعات، ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ}. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ}، ثم قال تعالى: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ} أَيْ مَعَ هَذَا الْبَيَانِ وَالْوُضُوحِ، سَيُوجَدُ مِنْكُمْ مَنْ يُكَذِّبُ بالقرآن، ثم قال تعالى: {وإنه لحسرة عالى الْكَافِرِينَ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّ التَّكْذِيبَ لَحَسْرَةٌ على الكافرين يوم القيامة، وَيُحْتَمَلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ وَإِنَّ القرآن والإيمان بِهِ لَحَسْرَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى الْكَافِرِينَ، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ به}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}، ولهذا قال ههنا: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين} أي الخبر الصادق الْحَقُّ، الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ ولا ريب، ثم قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أَيِ الَّذِي أَنْزَلَ هذا القرآن العظيم.

70 - سورة المعارج.

- 70 - سورة المعارج.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ - 2 - لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ - 3 - مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ - 4 - تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ - 5 - فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً - 6 - إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً - 7 - وَنَرَاهُ قَرِيبًا {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} أي استعجل سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، كقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وعده}. قال النسائي، عن ابن عباس في قوله تعالى: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}، قَالَ (النَّضْرُ بْنُ الحارث) وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} قَالَ: ذَلِكَ سُؤَالُ الْكُفَّارِ عَنْ عذاب الله وهو واقع بهم، وقال مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَأَلَ سَآئِلٌ} دَعَا دَاعٍ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ يَقَعُ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أليم}، وقوله تعالى: {لِّلْكَافِرِينَ} أي مرصد معد لِّلْكَافِرِينَ، {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} أَيْ لَا دَافِعَ لَهُ إذا أراد الله كونه، ولهذا قال تعالى: {من الله ذي المعارج} قال ابن عباس: ذو الدرجات، وعنه: ذو الْعُلُوُّ وَالْفَوَاضِلُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {ذِي الْمَعَارِجِ} مَعَارِجِ السَّمَاءِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذِي الْفَوَاضِلِ وَالنِّعَمِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ} قال قتادة {تَعْرُجُ} تصعد، وأما الروح فيحتمل أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ جِبْرِيلَ، وَيَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ لِأَرْوَاحِ بَنِي آدَمَ، فَإِنَّهَا إِذَا قُبِضَتْ يُصْعَدُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، كَمَا دل عليه حديث البراء، في قبض الروح الطيبة وفيه: «فَلَا يَزَالُ يُصْعَدُ بِهَا مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا الله». وقوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فيه أربعة أقوال: أحدها: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَسَافَةُ مَا بَيْنَ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، وَهُوَ قَرَارُ الْأَرْضِ السابعة، وذلك مسيرة خمسين ألف سنة. عن ابن عباس في قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قَالَ: مُنْتَهَى أَمْرِهِ مِنْ أَسْفَلِ الْأَرَضِينَ، إِلَى منتهى أمره

من فوق السماوات خمسين ألف سنة (رواه ابن أبي حاتم). الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مُدَّةُ بَقَاءِ الدُّنْيَا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ هَذَا الْعَالَمَ إِلَى قيام الساعة، قَالَ: الدُّنْيَا عُمْرُهَا خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَذَلِكَ عمرها يوم سماها الله عزَّ وجلَّ يوماً. وعن عِكْرِمَةَ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قَالَ: الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مِقْدَارُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ لَا يَدْرِي أَحَدٌ كَمْ مَضَى وَلَا كَمْ بَقِيَ إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ (أخرجه عبد الرزاق عن عكرمة). الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْيَوْمُ الْفَاصِلُ بَيْنَ الدُّنْيَا والآخرة وهو قول غريب جداً، روي عن محمد بن كعب قَالَ: هُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (رواه ابن أبي حاتم). الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وبه قال الضحّاك وابن زيد وعكرمة، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قَالَ: هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْكَافِرِينَ مِقْدَارَ خمسين ألف سنة، رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} مَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لِيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ مكتوبة يصليها في الدنيا» (أخرجه أحمد وابن جرير). وقال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ صَاحِبٍ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُ إِلَّا جُعِلَ صَفَائِحَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ حهنم، فَتُكْوَى بِهَا جَبْهَتُهُ وَجَنْبُهُ وَظَهْرُهُ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تُعِدُّونَ ثُمَّ يُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» (أخرجه الإمام أحمد). وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} أَيِ اصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِكَ لَكَ، وَاسْتِعْجَالِهِمُ الْعَذَابَ اسْتِبْعَادًا لوقوعه كقوله تَعَالَى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ}، ولهذا قَالَ: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً} أَيْ وُقُوعَ الْعَذَابِ، وَقِيَامَ السَّاعَةِ يَرَاهُ الْكَفَرَةُ بَعِيدَ الْوُقُوعِ بِمَعْنَى مُسْتَحِيلَ الْوُقُوعِ {وَنَرَاهُ قَرِيباً} أَيِ الْمُؤْمِنُونَ يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ قَرِيبًا وَإِنْ كَانَ لَهُ أَمَدٌ لَا يعلمه إلا الله عزَّ وجلَّ، ولكن كُلُّ مَا هُوَ آتٍ فَهُوَ قَرِيبٌ وَوَاقِعٌ لا محالة.

- 8 - يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ - 9 - وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ - 10 - وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا - 11 - يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابٍ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ - 12 - وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ - 13 - وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ - 14 - وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ - 15 - كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى - 16 - نَزَّاعَةً للشوى - 17 - تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى - 18 - وَجَمَعَ فَأَوْعَى يَقُولُ تَعَالَى الْعَذَابُ وَاقِعٌ بِالْكَافِرِينَ {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ}، قال ابن عباس ومجاهد: أي كَدُرْدِيِّ الزَّيْتِ، {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} أَيْ كَالصُّوفِ المنفوش، قاله مجاهد وقتادة، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَكُونُ

الجبال كالعهن المنفوش}، وقوله تعالى: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ} أَيْ لَا يسأل القريب قريبه عَنْ حَالِهِ، وَهُوَ يَرَاهُ فِي أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ فتشغله نفسه عن غيره. قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَفِرُّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بَعْدَ ذَلِكَ، يقول الله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}، وَهَذِهِ الآية الكريمة كقوله تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا}، وكقوله تَعَالَى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}، وقوله تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابٍ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلاَّ} أَيْ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ فِدَاءً وَلَوْ جَاءَ بِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَبِأَعَزِّ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْمَالِ، وَلَوْ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، أَوْ مِنْ وَلَدِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا حُشَاشَةَ كَبِدِهِ، يَوَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا رَأَى الْأَهْوَالَ أَنْ يَفْتَدِيَ مِنْ عذاب الله بِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: {فَصِيلَتِهِ} قَبِيلَتِهِ وَعَشِيرَتِهِ، وَقَالَ عكرمة: فخذه الذي هو منهم، وقوله: تعالى: {إِنَّهَا لَظَى} يَصِفُ النَّارَ وَشِدَّةَ حَرِّهَا {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: جِلْدَةُ الرَّأْسِ، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} الْجُلُودِ وَالْهَامِ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} يَعْنِي أَطْرَافَ الْيَدَيْنِ والرجلين، وقال الحسن البصري: تَحْرِقُ كُلَّ شَيْءٍ فِيهِ وَيَبْقَى فُؤَادُهُ يَصِيحُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَبْرِي اللَّحْمَ وَالْجِلْدَ عَنِ الْعَظْمِ حتى لا تترك منه شيئاً، وقوله تعالى: {تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} أَيْ تَدْعُو النَّارُ إِلَيْهَا أَبْنَاءَهَا الَّذِينَ خَلَقَهُمُ اللَّهُ لَهَا، فَتَدْعُوهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِسَانٍ طَلِقٍ ذَلِقٍ، ثُمَّ تَلْتَقِطُهُمْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْمَحْشَرِ، كَمَا يَلْتَقِطُ الطير الحب، وذلك أنهم كَانُوا مِمَّنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى، أَيْ كَذَّبَ بِقَلْبِهِ وَتَرَكَ الْعَمَلَ بِجَوَارِحِهِ {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} أَيْ جَمَعَ الْمَالَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَأَوْعَاهُ أَيْ أَوْكَاهُ وَمَنَعَ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ، مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَاتِ وَمِنْ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ»، وكان عبد الله ابن عكيم لا يربط له كيساً، يقول، سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى}، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَا ابْنَ آدَمَ سَمِعْتَ وَعِيدَ اللَّهِ ثُمَّ أَوْعَيْتَ الدُّنْيَا، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ {وَجَمَعَ فأوعى} قال: كان جموعاً قموعاً للخبيث.

- 19 - إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً - 20 - إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً - 21 - وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً - 22 - إِلَّا الْمُصَلِّينَ - 23 - الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ - 24 - وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ - 25 - لِّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ - 26 - وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ - 27 - وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ - 28 - إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ - 29 - وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - 30 - إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ - 31 - فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ - 32 - وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ - 33 - وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ - 34 - وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ - 35 - أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْإِنْسَانِ، وَمَا هُوَ مَجْبُولٌ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الدَّنِيئَةِ {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً}، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً} أَيْ إِذَا مسه الضُّرُّ فَزِعَ وَجَزِعَ، وَانْخَلَعَ قَلْبُهُ مِنْ شِدَّةِ الرعب، أيس أن يحصله

لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرٌ {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} أَيْ إِذَا حَصَلَتْ لَهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بَخِلَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَمَنَعَ حَقَّ الله تعالى فيها. وفي الحديث: {شر ما في الرجُل: شح هالع وجُبن خالع" (رواه أبو داود). ثم قال تعالى: {إِلاَّ المصلين} أي إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَوَفَّقَهُ وَهَدَاهُ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَسَّرَ لَهُ أَسْبَابَهُ وَهُمُ الْمُصَلُّونَ {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} قِيلَ: مَعْنَاهُ يُحَافِظُونَ على أوقاتها وواجباتها، قاله ابن مسعود، وقيل: المراد بالدوام ههنا السكون والخشوع كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} قاله عقبة بن عامر، ومنه الماء الدائم وهو الساكن الراكد؛ وهذا يدل على وجوب الطمأنينة في الصلاة؛ فإن الذي لا يطمئن في ركوعه وسجوده لم يسكن فيها ولم يدم، بل ينقرها نقر الغراب، فلا يفلح في صلاته؛ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الَّذِينَ إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا دَاوَمُوا عَلَيْهِ، وَأَثْبَتُوهُ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ»، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا عمل عملاً داوم عليه، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ} أَيْ فِي أَمْوَالِهِمْ نَصِيبٌ مُقَرِّرٌ لِذَوِي الْحَاجَاتِ، {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أَيْ يُوقِنُونَ بِالْمَعَادِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، فَهُمْ يَعْمَلُونَ عَمَلَ مَنْ يَرْجُو الثواب ويخاف العقاب، ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ} أَيْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ، {إِنَّ، عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} أي لا يأمنه أحد إِلَّا بِأَمَانٍ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} أَيْ يَكُفُّونَهَا عَنِ الْحَرَامِ، وَيَمْنَعُونَهَا أَنْ تُوضَعَ فِي غَيْرِ مَا أذن الله فيه، ولهذا قال تعالى: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أَيْ مِنَ الْإِمَاءِ، {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وَقَدْ تقدم تفسير هذا بما أغنى عن إعادته ههنا (تقدم تفسيره في أول سورة {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون})، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أَيْ إِذَا اؤْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا، وَإِذَا عَاهَدُوا لَمْ يَغْدِرُوا، {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ} أَيْ مُحَافِظُونَ عَلَيْهَا لَا يَزِيدُونَ فِيهَا، وَلَا يَنْقُصُونَ مِنْهَا وَلَا يكتمونها {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}، ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أَيْ عَلَى مَوَاقِيتِهَا وَأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَمُسْتَحِبَّاتِهَا، فَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِذِكْرِ الصَّلَاةِ، وَاخْتَتَمَهُ بِذِكْرِهَا، فَدَلَّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِهَا والتنويه بشرفها، {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} أَيْ مُكْرَمُونَ بِأَنْوَاعِ الملاذ والمسار.

- 36 - فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ - 37 - عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ - 38 - أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ - 39 - كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ - 40 - فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ - 41 - عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ - 42 - فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ - 43 - يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ - 44 - خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم مشاهدون لما أيده الله به من العجزات

الباهرات، ثم هم شاردون يميناً وشمالاً فرقاً فرقاً، {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ من قسورة}، قال تعالى: {فَمَا للذين كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} أَيْ فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ عِنْدَكَ يَا مُحَمَّدُ {مُهْطِعِينَ} أَيْ مُسْرِعِينَ نافرين منك، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ {مُهْطِعِينَ}، أَيْ مُنْطَلِقِينَ، {عَنِ اليَمين وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} وَاحِدُهَا عِزَةٌ أَيْ متفرقين، وقال ابن عباس: {فما للذين كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} قَالَ: قَبِلَكَ يَنْظُرُونَ {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ} الْعِزِينُ: الْعَصَبُ مِّنَ النَّاسِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ معرضين يستهزئون به، وعن الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} أي مُتَفَرِّقِينَ يَأْخُذُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا يَقُولُونَ: مَا قَالُ هذا الرجل؟ وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خرج على أصحابه وهم حلق فقال: «مالي أراكم عزين؟» (أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة، ورواه أحمد ومسلم والنسائي بنحوه). وقوله تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ} أَيْ أَيُطْمِعُ هَؤُلَاءِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ مِنْ فِرَارِهِمْ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنِفَارِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، أَنْ يَدْخُلُوا جَنَّاتِ النَّعِيمِ؟ كَلَّا بل مأواهم جهنم، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُقَرِّرًا لِوُقُوعِ الْمَعَادِ وَالْعَذَابِ بهم مستدلاً عليهم بالبداءة: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} أَيْ مِنَ الْمَنِيِّ الضعيف، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَاءٍ مهين}، وقال: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مما خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب}، ثم قال تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} أَيِ الَّذِي خلق السماوات والأرض، وسخَّر الْكَوَاكِبَ تَبْدُو مِنْ مَشَارِقِهَا وَتَغِيبُ فِي مغاربها، {إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُعِيدُهُمْ بِأَبْدَانٍ خَيْرٍ مِنْ هَذِهِ فَإِنَّ قُدْرَتَهُ صَالِحَةٌ لِذَلِكَ، {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أَيْ بِعَاجِزِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أن نسوي بنانه}، وَقَالَ تَعَالَى: {نَّحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فيما لا تعلمون}، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ {عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ} أَيْ أُمَّةً تُطِيعُنَا وَلَا تَعْصِينَا وَجَعَلَهَا كَقَوْلِهِ: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم}، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِدَلَالَةِ الْآيَاتِ الْأُخَرِ عَلَيْهِ، والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم قال تعالى: {فَذَرْهُمْ} أي يامحمد {يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ} أَيْ دَعْهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، {حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} أَيْ فَسَيَعْلَمُونَ غِبَّ ذَلِكَ وَيَذُوقُونَ وَبَالَهُ، {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} أَيْ يَقُومُونَ مِنَ الْقُبُورِ، إِذَا دَعَاهُمُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِمَوْقِفِ الْحِسَابِ، يَنْهَضُونَ سِرَاعاً {كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} قال ابن عباس: إلى علَم يسعون، وقال أبو العالية: إلى غاية يسعون إليها. {نُصُب} بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِّ وَهُوَ الصَّنَمُ، أَيْ كَأَنَّهُمْ فِي إِسْرَاعِهِمْ إِلَى الْمَوْقِفِ، كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُهَرْوِلُونَ إِلَى النُّصُبِ إِذَا عَايَنُوهُ، {يُوفِضُونَ} يَبْتَدِرُونَ أَيُّهُمْ يَسْتَلِمُهُ أَوَّلَ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عن مجاهد وقتادة والضحّاك وغيرهم، وقوله تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} أَيْ خَاضِعَةً {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا اسْتَكْبَرُوا فِي الدُّنْيَا عَنِ الطاعة {ذَلِكَ اليوم الذي كانوا يوعدون}.

71 - سورة نوح.

- 71 - سورة نوح.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - 2 - قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ - 3 - أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ - 4 - يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ أَرْسَلَهُ إِلَى قَوْمِهِ، آمِرًا لَهُ أَنْ يُنْذِرَهُمْ بَأْسَ اللَّهِ قَبْلَ حُلُولِهِ بِهِمْ، فَإِنْ تَابُوا وأنابوا رفع عنهم، ولهذا قال تعالى: {أَنْ أَنذِرْ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أَيْ بَيِّنُ النِّذَارَةِ، ظَاهِرُ الْأَمْرِ وَاضِحُهُ {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} أَيِ اتْرُكُوا مَحَارِمَهُ وَاجْتَنِبُوا مَآثِمَهُ، {وأطيعونِ} فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْهُ، {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} أَيْ إذا فعلتم ما آمركم بِهِ وَصَدَّقْتُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ غَفَرَ الله لكم ذنوبكم، {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أَيْ يَمُدُّ فِي أعماركم ويدرأ عنكم العذاب، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الطَّاعَةَ وَالْبِرَّ وَصِلَةَ الرَّحِمِ يُزَادُ بِهَا فِي الْعُمْرِ حَقِيقَةً، كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ: «صِلَةُ الرحم تزيد في العمر»، وقوله تَعَالَى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ بَادِرُوا بِالطَّاعَةِ قَبْلَ حلول النقمة، فإنِّ أمره تعالى لَا يُرَدُّ وَلَا يُمَانَعُ، فَإِنَّهُ الْعَظِيمُ الَّذِي قد قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، الْعَزِيزُ الَّذِي دَانَتْ لِعِزَّتِهِ جميع المخلوقات.

- 5 - قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً - 6 - فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا - 7 - وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا - 8 - ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا - 9 - ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً - 10 - فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً - 11 - يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا - 12 - وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً - 13 - مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً - 14 - وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً - 15 - أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً - 16 - وَجَعَلَ الْقَمَرَ

فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً - 17 - وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا - 18 - ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا - 19 - وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ بِسَاطًا - 20 - لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (نُوحٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ اشْتَكَى إِلَى ربه عزَّ وجلَّ، مالقي من تِلْكَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي هِيَ أَلْفُ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَمَا بَيَّنَ لِقَوْمِهِ وَوَضَّحَ لهم فَقَالَ: {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} أَيْ لَمْ أَتْرُكْ دُعَاءَهُمْ فِي لَيْلٍ وَلَا نهار، وامتثالاً لِأَمْرِكَ وَابْتِغَاءً لِطَاعَتِكَ، {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً} أَيْ كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِيَقْتَرِبُوا مِنَ الْحَقِّ، فَرُّوا مِنْهُ وَحَادُوا عَنْهُ، {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} أَيْ سَدُّوا آذَانَهُمْ لِئَلَّا يَسْمَعُوا مَا أَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تغلبون}، {واستغشوا ثِيَابَهُمْ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: تَنَكَّرُوا لَهُ لِئَلَّا يَعْرِفَهُمْ، وَقَالَ السدي: غطوا رؤوسهم لِئَلَّا يَسْمَعُوا مَا يَقُولُ، {وَأَصَرُّواْ} أَيْ اسْتَمَرُّوا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْكُفْرِ الْعَظِيمِ الْفَظِيعِ، {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} أَيْ وَاسْتَنْكَفُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} أَيْ جَهْرَةً بَيْنَ النَّاسِ، {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} أَيْ كَلَامًا ظَاهِرًا بِصَوْتٍ عَالٍ {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} أَيْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فنوّع عَلَيْهِمُ الدَّعْوَةَ لِتَكُونَ أَنْجَعَ فِيهِمْ، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} أَيِ ارْجِعُوا إِلَيْهِ وَارْجِعُوا عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ وَتُوبُوا إِلَيْهِ مِنْ قريب، فإنه من تاب إليه تاب الله عليه، {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} أَيْ مُتَوَاصِلَةَ الْأَمْطَارِ، قال ابن عباس: يتبع بعضه بعضاً، وقوله تعالى: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} أَيْ إِذَا تُبْتُمْ إِلَى اللَّهِ وَأَطَعْتُمُوهُ، كَثُرَ الرِّزْقُ عَلَيْكُمْ وَأَسْقَاكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وَأَمَدَّكُمْ {بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} أَيْ أَعْطَاكُمُ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ، وَجَعَلَ لَكُمْ جَنَّاتٍ فِيهَا أَنْوَاعَ الثِّمَارِ وَخَلَّلَهَا بِالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهَا، هَذَا مَقَامُ الدَّعْوَةِ بِالتَّرْغِيبِ، ثُمَّ عَدَلَ بِهِمْ إِلَى دَعْوَتِهِمْ بِالتَّرْهِيبِ، فَقَالَ: {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً}؟ أَيْ عظمة قال ابن عباس: لم لَا تُعَظِّمُونَ اللَّهَ حَقَّ عَظَمَتِهِ، أَيْ لَا تَخَافُونَ مِنْ بَأْسِهِ وَنِقْمَتِهِ {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} قِيلَ: مَعْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مضغة قاله ابن عباس وقتادة. وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} أي واحدة فوق واحدة، وَمَعَهَا يَدُورُ سَائِرُ الْكَوَاكِبِ تَبَعًا، وَلَكِنْ لِلسَّيَّارَةِ حَرَكَةٌ مُعَاكِسَةٌ لِحَرَكَةِ أَفْلَاكِهَا، فَإِنَّهَا تَسِيرُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَكُّلٌ يَقْطَعُ فَلَكَهُ بِحَسْبِهِ فَالْقَمَرُ يَقْطَعُ فَلَكَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، وَالشَّمْسُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَزُحَلُ فِي كل ثلاثين سنة مرة، وإنما المقصود أن الله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} أَيْ فَاوَتَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِنَارَةِ، فَجَعَلَ كُلًّا مِنْهُمَا أُنْمُوذَجًا عَلَى حِدَةٍ، لِيُعْرَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ بِمَطْلَعِ الشَّمْسِ وَمَغِيبِهَا، وَقَدَّرَ للقمر مَنَازِلَ وَبُرُوجًا، وَفَاوَتَ نُورَهُ، فَتَارَةً يَزْدَادُ حَتَّى يَتَنَاهَى، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي النَّقْصِ حَتَّى يَسْتَسِرَّ، لِيَدُلَّ عَلَى مُضِيِّ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، كَمَا قَالَ تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ لكم الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} الآية، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} هَذَا اسْمُ مصدر والإيتان به ههنا أَحْسَنُ، {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} أَيْ إِذَا مُتُّمْ {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعِيدُكُمْ كَمَا بَدَأَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ بِسَاطاً} أي بسطها ومهدها وَثَبَّتَهَا بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ الشُّمِّ الشَّامِخَاتِ، {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} أَيْ

خَلَقَهَا لَكُمْ لِتَسْتَقِرُّوا عَلَيْهَا، وَتَسْلُكُوا فِيهَا أَيْنَ شئتم من نواحيها وأرجائها، ينبههم نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْمَنَافِعِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، فَهُوَ الْخَالِقُ الرَّزَّاقُ جَعَلَ السَّمَاءَ بِنَاءً، وَالْأَرْضَ مِهَادًا، وَأَوْسَعَ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ رِزْقِهِ، فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ وَيُوَحَّدَ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ أحد.

- 21 - قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا - 22 - وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً - 23 - وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا - 24 - وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا يَقُولُ تَعَالَى: مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أنهم عصوه وخالفوه وكذبوه، واتبعوا من غَفَلَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَمُتِّعَ بِمَالٍ وَأَوْلَادٍ، وهي في نفس الأمر استدراج لَا إِكْرَامٌ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً}، وقوله تعالى: {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً} قَالَ مُجَاهِدٌ: {كُبَّاراً} أَيْ عظيماً، وقال ابن يزيد: {كُبَّاراً} أَيْ كَبِيرًا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَمْرٌ عَجِيبٌ وعجاب وعجّاب، بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد، {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً} أي باتباعهم لهم وهم على الضلال، كَمَا يَقُولُونَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً}، ولهذا قال ههنا: {وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} وَهَذِهِ أَسْمَاءُ أَصْنَامِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ الله، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صَارَتِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ، أَمَّا (وَدٌّ) فَكَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا (سُواع) فكانت لهديل، وَأَمَّا (يَغُوثُ) فَكَانَتْ لِمُرَادَ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بالجرف عند سبأ، وأما (يَعُوقُ) فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا (نَسْرٌ) فَكَانَتْ لحِمْيَر لِآلِ ذِي كَلَاعٍ، وَهِيَ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا، وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أولئك ونسخ العلم عبدت (رواه البخاري عن ابن عباس، وكذا روي عن عكرمة وقتادة والضحّاك). وقال ابن جرير، عن محمد بن قيس {ويغوث وَيَعُوقَ وَنَسْراً} قَالَ: كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، وَكَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ أَصْحَابُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِهِمْ، لَوْ صَوَّرْنَاهُمْ كَانَ أَشْوَقَ لَنَا إِلَى العبادة فَصَوَّرُوهُمْ، فَلَمَّا مَاتُوا وَجَاءَ آخَرُونَ دَبَّ إِلَيْهِمْ إبليس فقال: إنما كانوا يعبدوهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم (رواه ابن جرير عن محمد ابن قيس). وقوله تعالى: {وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً} يَعْنِي الْأَصْنَامَ الَّتِي اتَّخَذُوهَا أَضَلُّوا بِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، فَإِنَّهُ اسْتَمَرَّتْ عِبَادَتُهَا إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، فِي الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَسَائِرِ صُنُوفِ بَنِي آدَمَ، وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دُعَائِهِ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَعْبُدَ الأصنام}. وقوله تعالى: {وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً} دُعَاءٌ مِنْهُ عَلَى قَوْمِهِ لِتَمَرُّدِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، كَمَا دَعَا موسى على فرعون وملئه فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأليم} وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنَ النَّبِيَّيْنِ فِي قَوْمِهِ، وَأَغْرَقَ أُمَّتَهُ بِتَكْذِيبِهِمْ لِمَا جَاءَهُمْ بِهِ.

- 25 - مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا - 26 - وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا - 27 - إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا - 28 - رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا يَقُولُ تَعَالَى: {مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ} أَيْ مِنْ كَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ، وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَمُخَالَفَتِهِمْ رَسُولَهُمْ، {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} أي نقلوا من الْبِحَارِ إِلَى حَرَارَةِ النَّارِ، {فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً} أَيْ لَمْ يَكُنْ لهم معين وَلَا مُجِيرٌ، يُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ من رحم}. {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} أَيْ لَا تَتْرُكْ عَلَى وجه الأرض منهم أحداً، ولا {دَيَّاراً} وَهَذِهِ مِنْ صِيَغِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ، قَالَ الضَّحَّاكُ {دَيَّاراً} وَاحِدًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الدَّيَّارُ الَّذِي يَسْكُنُ الدَّارَ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ فَأَهْلَكَ جَمِيعَ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ، حَتَّى وَلَدَ نُوحٍ لِصُلْبِهِ الَّذِي اعْتَزَلَ عَنْ أَبِيهِ. وَقَالَ: {سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء} عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ أَحَدًا لَرَحِمَ امْرَأَةً لَمَّا رَأَتِ الْمَاءَ حَمَلَتْ وَلَدَهَا، ثُمَّ صَعِدَتِ الْجَبَلَ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ صَعِدَتْ بِهِ مَنْكِبَهَا، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ مَنْكِبَهَا وَضَعَتْ وَلَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ رَأْسَهَا رَفَعَتْ وَلَدَهَا بِيَدِهَا، فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَحَدًا لِرَحِمِ هَذِهِ المرأة» (أخرجه ابن أبي حاتم، قال ابن كثير: حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ)، وَنَجَّى اللَّهُ أَصْحَابَ السَّفِينَةِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُمُ الَّذِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِحَمْلِهِمْ مَعَهُ، وَقَوْلُهُ تعالى: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} أَيْ إِنَّكَ إِنْ أَبْقَيْتَ مِنْهُمْ أَحَدًا، أَضَلُّوا عِبَادَكَ أَيِ الَّذِينَ تَخْلُقُهُمْ بَعْدَهُمْ {وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} أَيْ فَاجِرًا فِي الْأَعْمَالِ كَافِرَ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ لِخِبْرَتِهِ بِهِمْ وَمُكْثِهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، ثُمَّ قَالَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} قَالَ الضَّحَّاكُ يَعْنِي مَسْجِدِي، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَهُوَ أَنَّهُ دَعَا لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي)، وقوله تعالى: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} دُعَاءٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَذَلِكَ يَعُمُّ الْأَحْيَاءَ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ مِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ اقْتِدَاءً بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِمَا جَاءَ فِي الْآثَارِ، وَالْأَدْعِيَةِ الْمَشْهُورَةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً} قَالَ السُّدِّيُّ: إِلَّا هَلَاكًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إَلاَّ خَسَاراً أَيْ في الدنيا والآخرة.

72 - سورة الجن.

- 72 - سورة الجن.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً - 2 - يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدًا - 3 - وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا - 4 - وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا - 5 - وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا - 6 - وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا - 7 - وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يُخْبَرَ قَوْمَهُ أَنَّ الْجِنَّ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ، فَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ وَانْقَادُوا لَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أُوحِيَ إليَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} أَيْ إِلَى السَّدَادِ وَالنَّجَاحِ {فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} كقوله تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القرآن}، وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا} قال ابن عباس {جَدُّ رَبِّنَا} ألاؤه وقدرته ونعمته على خلقه، وقال مجاهد: جَلَالُ رَبِّنَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: تَعَالَى جَلَالُهُ وَعَظَمَتُهُ وأمره، وقال السدي: تعالى أمر ربنا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} أي تعالى ربنا، وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً} أَيْ تَعَالَى عن اتخاذ الصاحبة والأولاد، أي قالت الجن: تنزه الرب جلَّ جلاله عَنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، ثُمَّ قَالُوا: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً}، قَالَ مجاهد {سَفِيهُنَا} يعنون إبليس، {شَطَطاً} أي جوراً، وقال ابن زيد: أي ظُلْمًا كَبِيرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: سَفِيهُنَا اسْمَ جِنْسٍ لِكُلِّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لِلَّهِ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا، وَلِهَذَا قَالُوا: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} أَيْ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، {عَلَى الله شَطَطاً} أي باطلاً وزوراً، ولهذا قالوا: {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أَيْ مَا حَسِبْنَا أَنَّ الإنس والجن، يتمالأون على الكذب على الله تعالى، فِي نِسْبَةِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعْنَا هَذَا الْقُرْآنَ وَآمَنَّا بِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يكذبون على الله في ذلك. وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً}، كانت عَادَةُ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا يَعُوذُونَ بِعَظِيمِ ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنَ الْجَانِّ، أَنْ يُصِيبَهُمْ بِشَيْءٍ يَسُوؤُهُمْ، فَلَمَّا رَأَتِ الْجِنُّ أَنَّ الْإِنْسَ يَعُوذُونَ

بهم من خوفهم منهم {زَادُوهُمْ رَهَقاً} أي خوفاً وإرهاباً وذعراً، حتى بقوا أَشَدَّ مِنْهُمْ مَخَافَةً وَأَكْثَرَ تَعَوُّذًا بِهِمْ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} أَيْ إِثْمًا، وَازْدَادَتِ الجن عليهم بذلك جراءة، وقال الثوري {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} أَيِ ازْدَادَتِ الْجِنُّ عَلَيْهِمْ جُرْأَةً، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الرَّجُلُ يَخْرُجُ بِأَهْلِهِ فَيَأْتِي الْأَرْضَ فَيَنْزِلُهَا فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي من الجن أن أضر أنا فيه ومالي أو ولدي أو ماشيتي، قال قتادة: فَإِذَا عَاذَ بِهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ رَهِقَتْهُمُ الجن الأذى عند ذلك، وعن عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ الْجِنُّ يَفْرَقُونَ مِنَ الْإِنْسِ كما يفرق الإنس منهم أو أشد، فكان الْإِنْسُ إِذَا نَزَلُوا وَادِيًا هَرَبَ الْجِنُّ، فَيَقُولُ سَيِّدُ الْقَوْمِ: نَعُوذُ بِسَيِّدِ أَهْلِ هَذَا الْوَادِي، فَقَالَ الْجِنُّ: نَرَاهُمْ يَفْرَقُونَ مِنَّا كَمَا نَفْرَقُ مِنْهُمْ، فَدَنَوْا مِنَ الْإِنْسِ، فَأَصَابُوهُمْ بِالْخَبَلِ وَالْجُنُونِ، فذلك قول الله عزَّ وجلَّ: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} أي إثماً (أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة)، وقال أبو العالية {رَهَقاً} أي خوفاً، وقال ابن عباس: أي إثماً، وقال مجاهد: زاد الكفار طغياناً. روى ابن أبي حاتم، عَنْ كَرْدِمِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي مِنَ الْمَدِينَةِ فِي حَاجَةٍ، وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَآوَانَا الْمَبِيتُ إِلَى راعي غنم، فلما انتهى صف اللَّيْلُ جَاءَ ذِئْبٌ، فَأَخَذَ حَمَلًا مِنَ الْغَنَمِ، فَوَثَبَ الرَّاعِي، فَقَالَ: يَا عَامِرَ الْوَادِي جَارَكَ فَنَادَى مُنَادٍ لَا نَرَاهُ، يَقُولُ: يَا سِرْحَانُ أَرْسِلْهُ، فَأَتَى الْحَمَلُ يَشْتَدُّ حَتَّى دَخَلَ فِي الْغَنَمِ لَمْ تُصِبْهُ كَدْمَةٌ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ بِمَكَّةَ: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (أخرجه ابن أبي حاتم). وقوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} أَيْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ بَعْدَ هذه المدة رسولاً.

- 8 - وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً - 9 - وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً - 10 - وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْجِنِّ حِينَ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَكَانَ مِنْ حِفْظِهِ لَهُ أَنَّ السَّمَاءَ مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا، وَحُفِظَتْ مِنْ سَائِرِ أَرْجَائِهَا، وطردت الشياطين عن مقاعدها لئلا يسترقون شيئاً من القرآن، وهذا من لطف الله تعالى بِخَلْقِهِ، وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، وَحِفْظِهِ لِكِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَلِهَذَا قَالَ الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} أَيْ مَنْ يَرُومُ أَنْ يَسْتَرِقَ السَّمْعَ الْيَوْمَ، يَجِدْ لَهُ شِهَاباً مُرْصِدًا لَهُ، لَا يَتَخَطَّاهُ وَلَا يَتَعَدَّاهُ بَلْ يَمْحَقُهُ وَيُهْلِكُهُ، {وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} أَيْ مَا نَدْرِي هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي قَدْ حَدَثَ فِي السَّمَاءِ، لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً، وَهَذَا مِنْ أَدَبِهِمْ فِي الْعِبَارَةِ حَيْثُ أَسْنَدُوا الشَّرَّ إِلَى غَيْرِ فَاعِلٍ، وَالْخَيْرَ أَضَافُوهُ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: «وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» وَقَدْ كَانَتِ الْكَوَاكِبُ يُرْمَى بها قبل ذلك، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى تَطَلُّبِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ، فَأَخَذُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِأَصْحَابِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَعَرَفُوا أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي حُفِظَتْ مِنْ أَجْلِهِ السَّمَاءُ، فَآمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ،

وَتَمَرَّدَ فِي طُغْيَانِهِ مَنْ بَقِيَ، كَمَا تَقَدَّمَ حديث ابن عباس عِنْدَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} الْآيَةَ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمَّا حَدَثَ هَذَا الْأَمْرُ، وَهُوَ كَثْرَةُ الشُّهُبِ فِي السَّمَاءِ وَالرَّمْيُ بِهَا، هال ذلك الإنس والجن وانزعجوا له، وظنوا أن ذلك لخراب العالم، فَأَتَوْا إِبْلِيسَ فحدَّثوه بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَقَالَ: ائْتُونِي مِنْ كُلِّ أَرْضٍ بِقَبْضَةٍ مِنْ تُرَابٍ أَشُمُّهَا، فَأَتَوْهُ، فَشَمَّ فَقَالَ: صَاحِبُكُمْ بِمَكَّةَ فَبَعَثَ سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ جِنِّ نُصَيْبِينَ فَقَدِمُوا فوجدوا نبي اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَدَنَوْا مِنْهُ حِرْصًا عَلَى الْقُرْآنِ حَتَّى كَادَتْ كَلَاكِلُهُمْ تُصِيبُهُ، ثم أسلموا فأنزل اللَّهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (هذه بعض رواية ذكرها السدي).

- 11 - وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً - 12 - وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُعْجِزَهُ هَرَبًا - 13 - وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقًا - 14 - وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا - 15 - وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا - 16 - وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً - 17 - لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عذابا صعدا يقول تعالى مخبراً عن الْجِنُّ {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أَيْ غَيْرُ ذَلِكَ، {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} أَيْ طَرَائِقَ مُتَعَدِّدَةً مُخْتَلِفَةً وَآرَاءَ مُتَفَرِّقَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} أَيْ مِنَّا الْمُؤْمِنُ وَمِنَّا الكافر، وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ أَحْمَدَ الدِّمَشْقِيِّ قَالَ، سَمِعْتُ بَعْضَ الْجَنِّ وَأَنَا فِي مَنَزَلٍ لِي بِاللَّيْلِ يُنْشِدُ: قُلُوبٌ بَرَاهَا الْحُبُّ حَتَّى تَعَلَّقَتْ * مَذَاهِبُهَا فِي كُلِّ غَرْبٍ وَشَارِقِ. تَهِيمُ بِحُبِّ اللَّهِ وَاللَّهُ رَبُّهَا * معلقة بالله دون الخلائق. وقوله تعالى: {وَإِنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} أَيْ نَعْلَمُ أَنَّ قدرة الله حاكمة علينا، وأنا لانعجزه وَلَوْ أَمْعَنَّا فِي الْهَرَبِ، فَإِنَّهُ عَلَيْنَا قَادِرٌ لَا يُعْجِزُهُ أَحَدٌ مِنَّا، {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} يَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ وَهُوَ مَفْخَرٌ لَهُمْ وَشَرَفٌ رَفِيعٌ، وَصِفَةٌ حَسَنَةٌ، وَقَوْلُهُمْ: {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} قال ابن عباس وقتادة: فَلَا يَخَافُ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ حَسَنَاتِهِ أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ غَيْرَ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هضماً}، {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} أَيْ مِنَّا الْمُسْلِمُ وَمِنَّا الْقَاسِطُ، وَهُوَ الْجَائِرُ عَنِ الْحَقِّ النَّاكِبُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْمُقْسِطِ، فَإِنَّهُ الْعَادِلُ، {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً} أَيْ طَلَبُوا لِأَنْفُسِهِمُ النَّجَاةَ، {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} أَيْ وقوداً تسعر بهم، {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً * لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا): وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامَ القاسطون على طريقة الإسلام، وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهَا {لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً} أَيْ كَثِيرًا، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ سِعَةُ الرِّزْقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ

مِّنَ السمآء والأرض}، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي لنختبرهم مَنْ يَسْتَمِرُّ عَلَى الْهِدَايَةِ مِمَّنْ يَرْتَدُّ إِلَى الغواية، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنَّ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} يعني بالاستقامة الطاعة، وقال مجاهد: يعني الإسلام (وكذا قال سعيد بن جبير وعطاء والسدي وابن المسيب وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ). وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} يَقُولُ: لَوْ آمَنُوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا. قال مقاتل: نزلت فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ حِينَ مُنِعُوا الْمَطَرَ سَبْعَ سِنِينَ، (وَالْقَوْلُ الثَّانِي): {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطريقة} الضلال {لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً} أَيْ لَأَوْسَعْنَا عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ استدراجاً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} وهذا من قول أبي مجلز، وحكاه البغوي عن الربيع، وزيد بن أسلم، والكلبي، وَلَهُ اتِّجَاهٌ وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِهِ {لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}، وَقَوْلُهُ: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} أي عذاباً مشقاً موجعاً مؤلماً، قال ابن عباس ومجاهد {عَذَاباً صَعَداً} أَيْ مَشَقَّةً لَا رَاحَةَ مَعَهَا، وعن ابن عباس: جبل في جهنم.

- 18 - وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا - 19 - وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا - 20 - قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ أَحَدًا - 21 - قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَدًا - 22 - قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً - 23 - إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً - 24 - حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وأقل عددا قال قتادة في قوله تعالى: {وَإِن الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً} قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى إِذَا دَخَلُوا كَنَائِسَهُمْ وَبِيَعَهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَحْدَهُ، وقال ابن عباس: لَمْ يَكُنْ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَرْضِ مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَمَسْجِدَ إِيلِيَّا بيت المقدس (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ)، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ، قَالَتِ الْجِنُّ لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَ الْمَسْجِدَ ونحن ناؤون؟ أي بعيدون عنك، وكيف نشهد الصلاة ونحن ناؤون عَنْكَ؟ فَنَزَلَتْ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أحداً} (أخرجه ابن جرير). وقال عكرمة: نزلت في المساجد كلها، وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} قال ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَمَّا سَمِعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو الْقُرْآنَ، كَادُوا يَرْكَبُونَهُ مِنَ الْحِرْصِ لَمَّا سَمِعُوهُ يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَدَنَوْا مِنْهُ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ حَتَّى أَتَاهُ الرَّسُولُ فَجَعَلَ يُقْرِئُهُ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجن} يَسْتَمِعُونَ القرآن، وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى رَبِّهِمْ كَادَتِ الْعَرَبُ تلبد عليه جميعا، وقال قتادة: تَلَبَّدَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ لِيُطْفِئُوهُ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَنْصُرَهُ وَيُمْضِيَهُ وَيُظْهِرَهُ على من ناوأه (هذا القول مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وهو اختيار ابْنِ جَرِيرٍ)، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: {قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ أَحَداً} أَيْ قَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَمَّا آذَوْهُ وَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ، وَتَظَاهَرُوا عَلَيْهِ لِيُبْطِلُوا مَا جَاءَ بِهِ

من الحق واجتمعوا على عداوته {إنما أدعوا رَبِّي} أَيْ إِنَّمَا أَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَسْتَجِيرُ بِهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ {وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ أَحَداً}. وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً} أي إنما أنا عبد مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، لَيْسَ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ فِي هِدَايَتِكُمْ وَلَا غَوَايَتِكُمْ، بَلِ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُجِيرُهُ مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، أَيْ لَوْ عَصَيْتُهُ، فإنه لا يقدر أحد على إنقاذي ممن عَذَابِهِ {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} قَالَ مجاهد: لا ملجأ، وقال قتادة: أَيْ لَا نَصِيرَ وَلَا مَلْجَأَ، وَفِي رِوَايَةٍ: لا ولي ولا مؤئل، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ} مستثنى من قوله: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً إلا بلاغاً} ويحتمل أن يمون اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ: {لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} أَيْ لَا يُجِيرُنِي مِنْهُ وَيُخَلِّصُنِي إِلَّا إِبْلَاغِي الرِّسَالَةَ الَّتِي أَوْجَبَ أَدَاءَهَا عَلَيَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يِا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رسالته}، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أي أنا رسول الله أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ فَمَنْ يعصِ بَعْدَ ذَلِكَ فله جزاء {نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أَيْ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا وَلَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا، وقوله تعالى: {حتى إذا رأى المشركون مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} أَيْ حَتَّى إِذَا رَأَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مَا يُوعِدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَسَيَعْلَمُونَ يومئذٍ {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} هُمْ أَمِ الْمُؤْمِنُونَ الموحدون لله تعالى، أَيْ بَلِ الْمُشْرِكِينَ لَا نَاصِرَ لَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُمْ أَقَلُّ عَدَدًا مِنْ جُنُودِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ.

- 25 - قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا - 26 - عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً - 27 - إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا - 28 - لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِوَقْتِ السَّاعَةِ، وَلَا يَدْرِي أَقَرِيبٌ وَقْتُهَا أَمْ بَعِيدٌ {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} أي مدة طويلة، {عَالِمُ الغيب والشهادة فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} هَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} وَهَذَا يَعُمُّ الرَّسُولَ الْمَلَكِيَّ وَالْبَشَرِيَّ، ثُمَّ قَالَ تعالى: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} أي يخصه بِمَزِيدِ مُعَقِّبَاتٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَيُسَاوِقُونَهُ عَلَى مَا مَعَهُ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِّيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: {لِيَعْلَمَ} إِلَى مَنْ يَعُودُ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، روى ابن جرير، عن سعيد بن جبير في قوله: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} قَالَ: أَرْبَعَةُ حَفَظَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ جِبْرِيلَ {لِيَعْلَمَ} مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وأحصى كُلَّ شيء عدداً} (حكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير)، وقال قَتَادَةَ: {لِّيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} قَالَ: لِيَعْلَمَ نَبِيُّ اللَّهِ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ

بَلَّغَتْ عَنِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ حَفِظَتْهَا وَدَفَعَتْ عنها (رواه عبد الرزاق عن معمر بن قتادة، واختاره ابن جرير)، وقيل المراد لِيَعْلَمَ أَهْلُ الشِّرْكِ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ ربهم، قال مجاهد: لِيَعْلَمَ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رسالات ربهم، وفي هذا نظر، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ (حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي (زَادِ الْمَسِيرِ))، وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْفَظُ رُسُلَهُ بِمَلَائِكَتِهِ ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما ينزله إِلَيْهِمْ مِنَ الْوَحْيِ لِيَعْلَمَ أَنَّ قَدْ أَبْلَغُوا رسالات ربهم، ويكون ذلك كقوله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ التِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عقبيه}، وكقوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين} إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ كَوْنِهَا قَطْعًا لَا مَحَالَةَ، ولهذا قال بعد ذلك: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}.

73 - سورة المزمل.

- 73 - سورة المزمل.

[مقدمة] عن جابر رضي الله عنه قَالَ: اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ فِي دَارِ النَّدْوَةِ فَقَالُوا: سموا هذا الرجل اسماً يصد النَّاسُ عَنْهُ، فَقَالُوا: كَاهِنٌ، قَالُوا: لَيْسَ بِكَاهِنٍ، قَالُوا: مَجْنُونٌ، قَالُوا: لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، قَالُوا: سَاحِرٌ، قَالُوا: لَيْسَ بِسَاحِرٍ، فَتَفَرَّقَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتزمَّل فِي ثِيَابِهِ وَتَدَثَّرَ فِيهَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}، {يَا أيها المدثر} (أخرجه الحافظ البراز).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ - 2 - قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً - 3 - نِّصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً - 4 - أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً - 5 - إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا - 6 - إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلًا - 7 - إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً - 8 - وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً - 9 - رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً يَأْمُرُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْرُكَ التَّزَمُّلَ، وَهُوَ التَّغَطِّي، وَيَنْهَضَ إِلَى الْقِيَامِ لِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً}، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً}، قال ابن عباس {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} يَعْنِي يَا أَيُّهَا النَّائِمُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُزَّمِّلُ فِي ثِيَابِهِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النخعي: نزلت وهو متزمل بقطيفة، وقوله تعالى: {نِّصْفَهُ} بَدَلٌ مِنَ اللَّيْلِ {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أَيْ أَمَرْنَاكَ أَنْ تَقُومَ نِصْفَ اللَّيْلِ بِزِيَادَةٍ قَلِيلَةٍ، أَوْ نُقْصَانٍ قَلِيلٍ، لَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} أَيِ اقْرَأْهُ عَلَى تَمَهُّلٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَوْنًا عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَأُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ يَقْرَأُ السُّورَةَ فَيُرَتِّلُهَا، حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلِ مِنْهَا، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أنَس أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ

قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَانَتْ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ: {بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ الرَّحْمَنِ ويمد الرحيم (أخرجه البخاري)، وعن أُمّ سلمة رضي الله عنها أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: كَانَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدين} (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي)، وفي الحديث: "يقال لقارئ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تقرؤها" (أخرجه أحمد ورواه الترمذي والنسائي). وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّرْتِيلِ، وَتَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» وَ «ليس منا من لم يتغنى بالقرآن». وقال ابن مسعود: لَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الرَّمْلِ، وَلَا تَهُذُّوهُ هَذَّ الشِّعْرِ، قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ (رَوَاهُ البغوي عن ابن مسعود موقوفاً)، وقوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَيِ الْعَمَلُ بِهِ، وَقِيلَ: ثَقِيلٌ وَقْتَ نُزُولِهِ مِنْ عَظَمَتِهِ، كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ ثابت رضي الله عنه: أُنزل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَكَادَتْ تَرُضُّ فَخِذِي، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث ابن هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف يأتيك الوحي؟ فقال: «أحياناً يأتي في مثل صلصلة الجرس، وهو أشد عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جبينه ليتفصد عرقاً (أخرجه البخاري في أول صحيحه). وروى الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنْ كَانَ لِيُوحَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فتضرب بجرانها (الجران: باطن العنق). وقوله تعالى: {إن ناشئة الليل هي أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً} قال عمر: الليل كله ناشئة، وقال مجاهد: نَشَأَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، وَفِي رِوَايَةٍ عنه: بعد العشاء، وَالْغَرَضُ أَنَّ {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} هِيَ سَاعَاتُهُ وَأَوْقَاتُهُ، وكل ساعة منه تسمى ناشئة، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ هُوَ أَشَدُّ مُوَاطَأَةً بَيْنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَأَجْمَعُ عَلَى التِّلَاوَةِ، وَلِهَذَا قال تعالى: {هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً} أَيْ أَجْمَعُ لِلْخَاطِرِ فِي أَدَاءِ الْقِرَاءَةِ وَتَفَهُّمِهَا مِنْ قِيَامِ النَّهَارِ، لِأَنَّهُ وَقْتُ انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً}، قَالَ أبو العالية ومجاهد: فراغاً طويلاً، وقال قتادة: فراغاً وبغية ومتقلباً، وَقَالَ السُّدِّيُّ: {سَبْحَاً طَوِيلاً} تَطَوُّعًا كَثِيرًا، وَقَالَ عبد الرحمن بن زيد {سَبْحَاً طَوِيلاً} قَالَ: لِحَوَائِجِكَ فَأَفْرِغْ لِدِينِكَ اللَّيْلَ، وَهَذَا حِينَ كَانَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَرِيضَةً، ثُمَّ إن الله تبارك وتعالى منَّ على عباده فخففها، ووضعها. روى الإمام أحمد، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ هشام قال، قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتِ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان كالقرآن، فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ، ثُمَّ بَدَا لِي قِيَامُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتِ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ

قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه حَوْلًا حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا فِي السَّمَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ التَّخْفِيفَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَصَارَ قيام الليل تطوعاً من بعد فريضة (أخرجه الإمام أحمد، وهو جزء من حديث طويل، وقد رواه مسلم في صحيحه بنحوه). وروي عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أَجْعَلُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصِيرًا يُصَلِّي عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَتَسَامَعَ النَّاسُ بِهِ فَاجْتَمَعُوا فَخَرَجَ كَالْمُغْضَبِ وَكَانَ بِهِمْ رَحِيمًا فَخَشِيَ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِمْ قِيَامُ اللَّيْلِ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ اكْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنَ الْعَمَلِ وَخَيْرُ الْأَعْمَالِ مَا دِيمَ عَلَيْهِ» وَنَزَلَ الْقُرْآنُ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَرْبِطُ الْحَبْلَ وَيَتَعَلَّقُ، فَمَكَثُوا بِذَلِكَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ فَرَأَى اللَّهُ مَا يَبْتَغُونَ مِنْ رِضْوَانِهِ فَرَحِمَهُمْ فَرَدَّهُمْ إِلَى الْفَرِيضَةِ وَتَرَكَ قِيَامَ الليل. وقال ابن جرير: لَمَّا نَزَلَتْ {يِا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} قَامُوا حَوْلًا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت: {فاقرأوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} قال: فاسترح الناس. وقوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} أَيْ أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِهِ، وَانْقَطِعْ إِلَيْهِ، وَتَفَرَّغْ لِعِبَادَتِهِ إذا فرغت من أشغالك، كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب} أي إذا فرغت من أشغالك فَانْصَبْ فِي طَاعَتِهِ، وَعِبَادَتِهِ لِتَكُونَ فَارِغَ الْبَالِ، {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} أَيْ أَخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَةَ، وقال الحسن: اجتهد وابتل إِلَيْهِ نَفْسَكَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يُقَالُ لِلْعَابِدِ متبتل، ومنه الحديث المروي (نَهَى عَنِ التَّبَتُّلِ) يَعْنِي الِانْقِطَاعَ إِلَى الْعِبَادَةِ وترك التزوج، وقوله تَعَالَى: {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} أَيْ هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ في المشارق والمغارب الذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَكَمَا أَفْرَدْتَهُ بِالْعِبَادَةِ فأفرده بالتوكل فاتخذه وكيلاً، كما قال تعالى: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}، وكقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نستعين}.

- 10 - وَاصْبِرْ عَلَى مَآ يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا - 11 - وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً - 12 - إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيمًا - 13 - وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً - 14 - يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلًا - 15 - إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً - 16 - فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا - 17 - فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا - 18 - السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ، على ما يقوله سُفَهَاءِ قَوْمِهِ، وَأَنْ يَهْجُرَهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا، وَهُوَ الَّذِي لَا عِتَابَ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ متهدداً لكفار قومه: {وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة} أي والمكذبين المترفين أصحاب الأموال، {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} أي رويداً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}، ولهذا قال ههنا: {إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً} وَهِيَ الْقُيُودُ، قَالَهُ ابْنُ عباس وعكرمة والسدي وَغَيْرُ وَاحِدٍ، {وَجَحِيمًا} وَهِيَ السَّعِيرُ الْمُضْطَرِمَةُ، {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَنْشَبُ فِي الْحَلْقِ فَلَا يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ، {وَعَذَاباً أَلِيماً * يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ

وَالْجِبَالُ} أَيْ تُزَلْزَلُ، {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً} أي تصير ككثبان الرمال بَعْدَ مَا كَانَتْ حِجَارَةً صَمَّاءَ، ثُمَّ إِنَّهَا تُنْسَفُ نَسْفًا فَلَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا ذَهَبَ، حَتَّى تَصِيرَ الْأَرْضُ {قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجًا} أَيْ وَادِيًا {وَلَا أَمْتًا} أَيْ رَابِيَةً، وَمَعْنَاهُ لَا شَيْءَ يَنْخَفِضُ وَلَا شَيْءَ يَرْتَفِعُ، ثُمَّ قَالَ مُخَاطِبًا لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْمُرَادُ سَائِرُ النَّاسِ: {إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ} أَيْ بِأَعْمَالِكُمْ، {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً}، قال ابن عباس {أَخذاً وَبِيلاً} أي شديداً، فَاحْذَرُوا أَنْتُمْ أَنْ تُكَذِّبُوا هَذَا الرَّسُولَ، فَيُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ فِرْعَوْنَ حَيْثُ أَخَذَهُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخرة والأولى}، وقوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يوماً يجعل الوالدان شِيباً} أي فَكَيْفَ تَخَافُونَ أَيُّهَا النَّاسُ يَوْماً يَجْعَلُ الْوَلَدَانَ شِيبًا إِنْ كَفَرْتُمْ بِاللَّهِ وَلَمْ تُصَدِّقُوا بِهِ؟ وكيف يَحْصُلُ لَكُمْ أَمَانٌ مِنْ يَوْمِ هَذَا الْفَزَعِ العظيم إن كفرتم؟ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} أَيْ مِنْ شَدَّةِ أَهْوَالِهِ وَزَلَازِلِهِ وَبَلَابِلِهِ، وَذَلِكَ حِينَ يقول الله تعالى لِآدَمَ: ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، فَيَقُولُ: مِنْ كَمْ؟ فَيَقُولُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النار وواحد إلى الجنة، وقوله تعالى: {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَيْ بسببه من شدته وهوله، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} أَيْ كَانَ وَعْدُ هَذَا الْيَوْمِ مَفْعُولًا، أَيْ وَاقِعًا لَا مَحَالَةَ وَكَائِنًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ.

- 19 - إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً - 20 - إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فاقرؤوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندِ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى: {إنَّ هذِهِ} أَيِ السُّورَةَ {تَذْكِرَةٌ} أَيْ يَتَذَكَّرُ بِهَا أُولُو الْأَلْبَابِ، وَلِهَذَا قال تعالى: {فَمَن شَآءَ اتخذ لى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي ممن شاء الله تعالى هدايته، ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ} أَيْ تَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْكُمْ، وَلَكِنْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أَيْ تَارَةً يعتدلان، وتارة يأخذ هذا من هذا، وهذا مِنْ هَذَا، {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} أَيِ الفرض الذي أوجبه عليكم {فاقرأوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} أَيْ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِوَقْتٍ، أَيْ وَلَكِنْ قُومُوا مِّن اللَّيْلِ مَا تَيَسَّرَ، وَعَبَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْقِرَاءَةِ كَمَا قال: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} أَيْ بِقِرَاءَتِكَ {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا}، وقد استدل أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: {فاقرأوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} عَلَى أَنَّهُ لَا يجب تعين قراءة الفاتحة في الصلاة، واعتضد

بحديث المسيء صلاته: «ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» (جزء من حديث مشهور رواه الشيخان)، وقد أجاب الجمهور بحديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (أخرجه البخاري ومسلم). وعن أبي هريرة مرفوعاً: «لا تجزىء صلاة من لم يقرأ بأُمّ القرآن» (أخرجه ابن خزيمة في صحيحة). وقوله تَعَالَى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ عَلِمَ أَنْ سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار، من مرضى لا يستطيعون القيام ومسافرين يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ فِي الْمَكَاسِبِ وَالْمَتَاجِرِ، وآخرين مشغولين بالغزو في سبيل الله، ولهذا قال تعالى: {فاقرأوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أَيْ قُومُوا بِمَا تَيَسَّرَ عليكم منه، روى ابن جرير، عن أبي رجاء قَالَ، قُلْتُ لِلْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَدِ اسْتَظْهَرَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ، وَلَا يَقُومُ بِهِ إِنَّمَا يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ؟ قَالَ: يَتَوَسَّدُ الْقُرْآنَ لَعَنَ اللَّهُ ذاك، قال تَعَالَى لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا علمناه}، {وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ}، قلت: يا أبا سعيد قال الله تعالى {فاقرأوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}، قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْ خَمْسَ آيَاتٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنْ مَذْهَبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يَرَى حَقًّا وَاجِبًا عَلَى حَمَلَةِ الْقُرْآنِ، أَنْ يَقُومُوا وَلَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ فِي اللَّيْلِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ نَامَ حَتَّى أَصْبَحَ؟ فَقَالَ: «ذَاكَ رجُل بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذنه» فَقِيلَ مَعْنَاهُ نام عن الصلاة المكتوبة، وقيل عن قيام الليل. وقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} أَيْ أَقِيمُوا صَلَاتَكُمُ الْوَاجِبَةَ عَلَيْكُمْ وَآتُوا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ لمن قال بأن فَرْضَ الزَّكَاةِ نَزَلَ بِمَكَّةَ، لَكِنَّ مَقَادِيرَ النُّصُبِ وَالْمَخْرَجِ لَمْ تُبَيَّنْ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وقد قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ قَدْ أَوْجَبَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا مِنْ قِيَامِ الليل، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ»، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنَّ تَطَوَّعَ»، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} يَعْنِي مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُجَازِي عَلَى ذَلِكَ أحسن الجزاء وأوفره كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَنًا قيضاعفه لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}، وقوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} أَيْ جَمِيعُ ما تقدموه بين أيديكم فهو لَكُمْ حَاصِلٌ، وَهُوَ خَيْرٌ مِمَّا أَبْقَيْتُمُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ في الدنيا، عن عبد الله بن مسعود قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّكُمْ مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مَنْ مَالِ وَارِثِهِ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ، قَالَ: «اعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ»، قَالُوا: مَا نَعْلَمُ إِلَّا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِنَّمَا مَالُ أَحَدِكُمْ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ ما أخر» (أخرجه الحافظ الموصلي، ورواه البخاري والنسائي بنحوه)، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أَيْ أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ فِي أُمُورِكُمْ كُلِّهَا، فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لِمَنِ استغفره.

74 - سورة المدثر.

- 74 - سورة المدثر.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - 1 - يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - 2 - قُمْ فَأَنذِرْ - 3 - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - 4 - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - 5 - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ - 6 - وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ - 7 - وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ - 8 - فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ - 9 - فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ - 10 - عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ روى البخاري، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي، هَبَطْتُ فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شَمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ شَيْئًا، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عليَّ مَاءً بَارِدًا - قَالَ - فَدَثَّرُونِي وصبُّوا عليَّ مَاءً بَارِدًا، قَالَ، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ * وربك فكبِّر} (رواه البخاري). وعن أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يحدِّث عن فترة الوحي فقال في حديثه: "فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إذْ سمعتُ صَوْتًا مِنَ السماء، فرفعت بصري قبَل السماء، فإذا الملك الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَثَثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَجِئْتُ إِلَى أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي. زَمِّلُونِي. فزملوني، فأنزل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ - إِلَى - فَاهْجُرْ}، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَالرُّجْزُ: الْأَوْثَانُ، «ثُمَّ حَمِيَ الوحي وتتابع» (أخرجه البخاري ومسلم). وهذا السياق يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ الْوَحْيُ قَبْلَ هَذَا لقوله: «فإذا الملك الذي كان بِحِرَاءٍ،» وَهُوَ جِبْرِيلُ حِينَ أَتَاهُ بِقَوْلِهِ: {اِقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ الذي خلق}، ثُمَّ إِنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ هَذَا فَتْرَةٌ ثُمَّ نزل الملك بعد هذا، كما قال الإمام أحمد، عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِّي فَتْرَةً، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبَل السماء فإذا الملك الذي جاءني قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَثَثْتُ مِنْهُ فَرَقًا حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي، فَقُلْتُ لَهُمْ: زَمِّلُونِي. زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُونِي، فَأَنْزَلَ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فكبِّر * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وتتابع" (أخرجه أحمد والشيخان). وروى الطبراني، عن ابن عباس قال: إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ صَنَعَ لِقُرَيْشٍ طَعَامًا فلما أكلوا منه قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَاحِرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِسَاحِرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَاهِنٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِكَاهِنٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: شَاعِرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِشَاعِرٍ، وَقَالَ بعضهم: بل ساحر يُؤْثَرْ، فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنَّهُ سِحْرٌ يُؤْثَرُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحزن وقنّع رأسه وتدثر، فأنزل الله تعالى: {يِا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *

قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فكبِّر * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فاهجر * وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * ولربك فاصبر} وقوله تعالى: {قُمْ فَأَنذِرْ} أَيْ شَمِّرْ عَنْ سَاقِ الْعَزْمِ وأنذر الناس {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي عظّم {وَثِيَابَكَ فطهِّر} سئل ابن عباس عن هذه الآية: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} فقال: لَا تَلْبَسْهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ وَلَا عَلَى غَدْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ: فَإَنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فاجر * لبست ولا من غدرة أتقنع. وفي رواية عنه: فطهر من الذنوب، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قَالَ: نَفْسَكَ لَيْسَ ثيابه، وفي رواية عنه: أي عملك فأصلح، وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أَيْ طَهِّرْهَا مِنَ المعاصي، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أَيِ اغْسِلْهَا بِالْمَاءِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَتَطَهَّرُونَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَأَنْ يُطَهِّرَ ثِيَابَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ تَشْمَلُ الْآيَةُ جَمِيعَ ذَلِكَ مَعَ طَهَارَةِ القلب، فإن العرب تطلق الثياب عليه. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وَقَلْبَكَ ونيتك فطهر. وقوله تعالى: {والرجز فاهجر} قال ابن عباس: والرجز وهو الأصنام فاهجر (وهو قول مجاهد وعكرمة وقتادة والزهري وابن زيد أن الرجز يراد به الأوثان)، وقال الضحّاك {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}: أَيِ اتْرُكِ الْمَعْصِيَةَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَلَا يَلْزَمُ تَلَبُّسُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين}. وقوله تعالى: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تعط العطية تلتمس أكثر منها، وقال الحسن البصري: لا تمتن بعملك على ربك تستكثره، واختاره ابن جرير، وقال مجاهد: لَا تَضْعُفْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ مِنَ الْخَيْرِ، قَالَ: تَمْنُنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَضْعُفُ، وَقَالَ ابْنُ زيد: لاتمنن بِالنُّبُوَّةِ عَلَى النَّاسِ تَسْتَكْثِرُهُمْ بِهَا تَأْخُذُ عَلَيْهِ عِوَضًا مِنَ الدُّنْيَا، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، وَالْأَظْهَرُ القول الأول، والله أعلم. وقوله تعالى: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} أَيِ اجْعَلْ صَبْرَكَ عَلَى أَذَاهُمْ لِوَجْهِ رَبِّكَ عزَّ وجلَّ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ إبراهيم النخعي: اصبر عطيتك لله عزَّ وجلَّ. وقوله تَعَالَى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد: {النَّاقُورِ} الصُّورِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ كَهَيْئَةِ الْقَرْنِ، وفي الْحَدِيثِ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ؟» فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا» (أخرجه أحمد وابن أبي حاتم)، وقوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} أَيْ شَدِيدٌ، {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} أَيْ غَيْرُ سَهْلٍ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ (زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى)

قَاضِي الْبَصْرَةِ أَنَّهُ صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ فَقَرَأَ هذه السورة، فلما وصل إلى قوله تَعَالَى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} شَهِقَ شَهْقَةً، ثم خرّ ميتاً رحمة الله تعالى.

- 11 - ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً - 12 - وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً - 13 - وَبَنِينَ شُهُوداً - 14 - وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً - 15 - ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ - 16 - كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا - 17 - سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا - 18 - إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ - 19 - فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ - 20 - ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ - 21 - ثُمَّ نَظَرَ - 22 - ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ - 23 - ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ - 24 - فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ - 25 - إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ - 26 - سَأُصْلِيهِ سَقَرَ - 27 - وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ - 28 - لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ - 29 - لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ - 30 - عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِهَذَا الْخَبِيثِ، الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِنِعَمِ الدُّنْيَا، فَكَفَرَ بِأَنْعُمِ اللَّهِ وَبَدَّلَهَا كُفْرًا، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وَقَدْ عَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعَمَهُ حَيْثُ قَالَ تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} أَيْ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَحْدَهُ لَا مَالَ لَهُ وَلَا ولد، ثم رزقه الله تعالى: {مَالاً مَّمْدُوداً} أَيْ وَاسِعًا كَثِيرًا، قِيلَ: أَلْفُ دِينَارٍ، وَقِيلَ: مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقِيلَ أَرْضًا يستغلها، وقيل غير ذلك، وجعل له {بنين شُهُوداً} قال مجاهد: لايغيبون، أي حضوراً عنده لا يسافرون، وَهُمْ قُعُودٌ عِنْدَ أَبِيهِمْ يَتَمَتَّعُ بِهِمْ وَيَتَمَلَّى بهم، وكانوا فيما ذكره السدي ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: كَانُوا عَشْرَةً، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي النِّعْمَةِ، وَهُوَ إِقَامَتُهُمْ عِنْدَهُ، {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} أَيْ مَكَّنْتُهُ مِنْ صُنُوفِ الْمَالِ وَالْأَثَاثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً} أَيْ مُعَانِدًا وَهُوَ الْكُفْرُ عَلَى نِعَمِهِ بَعْدَ العلم. قال الله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً}. روى ابن أبي حاتم، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} قَالَ: «هُوَ جَبَلٌ فِي النَّارِ مِنْ نَارٍ يُكَلَّفُ أَنْ يَصْعَدَهُ، فَإِذَا وَضَعَ يَدَهُ ذَابَتْ، وَإِذَا رَفَعَهَا عَادَتْ» (رواه ابن أبي حاتم والبزار وابن جرير)، وقال ابن عباس {صَعُوداً} صخرة في جهنم يُسْحَبُ عَلَيْهَا الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: {صَعُوداً}: صَخْرَةً مَلْسَاءَ فِي جَهَنَّمَ يُكَلَّفُ أَنْ يَصْعَدَهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} أَيْ مَشَقَّةً مِنَ الْعَذَابِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: عَذَابًا لَا رَاحَةَ فيه، واختاره ابن جرير، وقوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} أَيْ إِنَّمَا أَرْهَقْنَاهُ صُعُودًا لِبُعْدِهِ عَنِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ فَكَّرَ {وَقَدَّرَ} أَيْ تَرَوَّى مَاذَا يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْقُرْآنِ فَفَكَّرَ مَاذَا يَخْتَلِقُ مِنَ الْمَقَالِ {وَقَدَّرَ} أَيْ تَرَوَّى {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} دُعَاءٌ عَلَيْهِ {ثُمَّ نَظَرَ} أَيْ أَعَادَ النَّظْرَةَ وَالتَّرَوِّيَ {ثُمَّ عَبَسَ} أَيْ قَبَضَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَطَّبَ {وَبَسَرَ} أَيْ كَلَحَ زكره، ومنه قول توبة بن حمير: وَقَدْ رَابَنِي مِنْهَا صُدُودٌ رَأَيْتُهُ * وَإِعْرَاضُهَا عَنْ حاجتي وبُسُورها. وقوله تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} أَيْ صُرِفَ عَنِ الْحَقِّ، وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى مُسْتَكْبِرًا عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْقُرْآنِ {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أَيْ هَذَا سحر ينقله محمد عن غيره ممن قَبْلَهُ وَيَحْكِيهِ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ هَذَا

إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} أَيْ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ، وَهَذَا الْمَذْكُورُ فِي هَذَا السِّيَاقِ هُوَ (الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) الْمَخْزُومِيُّ، أَحَدُ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ لَعَنَهُ الله، قال ابن عباس: "دَخَلَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَلَى أَبِي بَكْرِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ خَرَجَ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا عَجَبًا لِمَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ بِشِعْرٍ، وَلَا بِسَحْرٍ، وَلَا بِهَذْيٍ مِنَ الْجُنُونِ، وَإِنَّ قَوْلَهُ لِمَنْ كَلَامِ اللَّهِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ النَّفَرُ من قريش ائتمروا، وقالوا: والله لئن صبا الوليد لتصبو قُرَيْشٌ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: أَنَا وَاللَّهِ أَكْفِيكُمْ شَأْنَهُ، فَانْطَلَقَ حتى دخل عليه بيته، فقال الوليد: أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْمَكَ قَدْ جَمَعُوا لَكَ الصَّدَقَةَ؟ فَقَالَ: أَلَسْتُ أكثرهم مالاً وولداً؟ فقال أَبُو جَهْلٍ: يَتَحَدَّثُونَ أَنَّكَ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ لِتُصِيبَ مِنْ طَعَامِهِ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: أَقَدْ تَحَدَّثَ بِهِ عَشِيرَتِي؟ فَلَا وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ وَلَا عُمَرَ وَلَا ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ، وَمَا قَوْلُهُ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} إلى قوله {لاَ تُبْقِي وَلاَ تذر} (أخرجه العوفي عن ابن عباس) وَقَالَ قَتَادَةُ: زَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ نَظَرْتُ فِيمَا قَالَ الرَّجُلُ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ بِشِعْرٍ وَإِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةٌ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةٌ، وإنه ليعلو وما يعلى عليه وَمَا أَشُكُّ أَنَّهُ سِحْرٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} الْآيَةَ، {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} قَبَضَ ما بين عينيه وكلح، وروى ابن جرير عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَيْ عَمُّ إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا، قَالَ: لمَ؟ قَالَ: يُعْطُونَكَهُ، فَإِنَّكَ أَتَيْتَ محمداً تعرض لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي أَكْثَرُهَا مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يُعْلِمُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لِمَا قَالَ، وَأَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ، قَالَ: فَمَاذَا أَقُولُ فِيهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي وَلَا أَعْلَمُ بِرَجْزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقوله لَحَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وما يعلى قال: وَاللَّهِ لَا يَرْضَى قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ، قال فدعني حتى أتفكر فيه، فلما فكر قال: إِنْ هذا إِلاَّ سحر يؤثره عَنْ غَيْرِهِ، فَنَزَلَتْ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} حتى بلغ {تِسْعَةَ عشر} (رواه ابن جرير). وَقَدْ زَعَمَ السُّدِّيُّ أَنَّهُمْ لَمَّا اجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ لِيُجْمِعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى قَوْلٍ يَقُولُونَهُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِمْ وُفُودُ الْعَرَبِ للحج ليصدونهم عَنْهُ، فَقَالَ قَائِلُونَ: شَاعِرٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: سَاحِرٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: كَاهِنٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: مَجْنُونٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سبيلا}، كُلُّ هَذَا وَالْوَلِيدُ يُفَكِّرُ فِيمَا يَقُولُهُ فِيهِ، فَفَكَّرَ وَقَدَّرَ، وَنَظَرَ وَعَبَسَ وَبَسَرَ، فَقَالَ: (إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} أَيْ سَأَغْمُرُهُ فِيهَا مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، ثُمَّ قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}؟ وَهَذَا تَهْوِيلٌ لِأَمْرِهَا وتفخيم، ثم فسر ذلك بقوله تعالى: {لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ} أَيْ تَأْكُلُ لُحُومَهُمْ وَعُرُوقَهُمْ وَعَصَبَهُمْ وَجُلُودَهُمْ، ثُمَّ تُبَدَّلُ غَيْرَ ذَلِكَ وَهُمْ فِي ذَلِكَ لَا يَمُوتُونَ وَلَا يَحْيَوْنَ. وقوله تعالى: {لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لِلْجِلْدِ، وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: تَلْفَحُ الْجِلْدَ لَفْحَةً فَتَدَعُهُ أَسْوَدَ من الليل، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَحْرِقُ بَشْرَةَ الْإِنْسَانِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} أَيْ مِنْ مُقَدِّمِي الزَّبَانِيَةِ، عظيم خلقهم، غليظ خُلُقهم، روى ابن أبي حاتم، عن البراء في قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قَالَ: إِنَّ رَهْطًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلُوا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَأَخْبَرَ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ ساعتئذٍ {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} فَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ (رواه ابن أبي حاتم). وروى الحافظ البراز عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، غُلِبَ أَصْحَابُكَ الْيَوْمَ، فَقَالَ: «بِأَيِّ شَيْءٍ»؟ قَالَ: سَأَلَتْهُمْ يَهُودُ: هَلْ أَعْلَمَكُمْ نَبِيُّكُمْ عِدَّةَ خَزَنَةِ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالُواْ: لَا نَعْلَمُ حَتَّى نَسْأَلَ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أفغلب قوم يسألون عما لا يعلمون فقالوا: لَا نَعْلَمُ، حَتَّى نَسْأَلَ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم؟ عليَّ بأعداء الله، لكنهم قد سَأَلُوا نَبِيَّهُمْ أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهَ جَهْرَةً"، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَدَعَاهُمْ، قَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ كَمْ عدة خَزَنَةِ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: «هَكَذَا» وَطَبَّقَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ طَبَّقَ كَفَّيْهِ مَرَّتَيْنِ وَعَقَدَ وَاحِدَةً، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: «إِنْ سُئِلْتُمْ عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ فَهِيَ الدَّرْمَكُ» فَلَمَّا سَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِعِدَّةِ خَزَنَةِ أَهْلِ النَّارِ، قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تُرْبَةُ الْجَنَّةِ» فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا: خُبْزَةٌ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فقال: «الخبز من الدرمك» (رواه البزار وأحمد والترمذي).

- 31 - وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ - 32 - كَلاَّ وَالْقَمَرِ - 33 - وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ - 34 - وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ - 35 - إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ - 36 - نَذِيراً لِّلْبَشَرِ - 37 - لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَآ جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ} أَيْ خُزَّانُهَا {إِلاَّ مَلاَئِكَةً} أَيْ زَبَانِيَةً غِلَاظًا شِدَادًا، وَذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ حِينَ ذَكَرَ عَدَدَ الْخَزَنَةِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا يَسْتَطِيعُ كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْكُمْ لِوَاحِدٍ منهم فتغلبونهم، فقال الله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً} أَيْ شَدِيدِي الْخَلْقِ لَا يُقَاوَمُونَ وَلَا يُغَالَبُونَ، وَقَدْ قيل: إن (أبا الأشدين) قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اكْفُونِي مِنْهُمُ اثْنَيْنِ، وَأَنَا أَكْفِيكُمْ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ إِعْجَابًا مِنْهُ بنفسه، وكان قد بلغ من القوة فبما يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ عَلَى جِلْدِ الْبَقَرَةِ، ويجاذبه عشرة لينزعوه مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ، فَيَتَمَزَّقُ الْجِلْدُ، وَلَا يَتَزَحْزَحُ عَنْهُ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهُوَ الَّذِي دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُصَارَعَتِهِ، وَقَالَ: إِنْ صَرَعْتَنِي آمَنْتُ بِكَ، فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا فَلَمْ يُؤْمِنْ (نَسَبَ ابْنُ إِسْحَاقَ خَبَرَ الْمُصَارَعَةِ إِلَى رُكَانَةَ بن عبد يزيد، قال ابن كثير وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَا ذَكَرَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ)، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ إِنَّمَا ذَكَرْنَا عِدَّتَهُمْ أَنَّهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ اخْتِبَارًا مِنَّا لِلنَّاسِ، {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ حَقٌّ، فَإِنَّهُ نَطَقَ بِمُطَابَقَةِ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ المنزلة على الأنبياء قبله، وقوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} أَيْ إِلَى إِيمَانِهِمْ بما يشهدون من صدق أخبار نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أَيْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، {وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً}؟

أَيْ يَقُولُونَ مَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا ههنا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ، وقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} أَيْ مَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ وَكَثْرَتَهُمْ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، لئلا يتوهم أنهم تسعة عشر فقط، وقد ثبت في حديث الإسراء فِي صِفَةِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ: «فَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ فِي كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ ما عليهم» (أخرجه في الصحيحين). وروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ، لَوْ عَلِمْتُمْ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ، وَلَخَرَجْتُمْ إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى» فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تعضد (أخرجه أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غريب)، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ مَوْضِعُ قَدَمٍ وَلَا شِبْرٍ وَلَا كَفٍّ، إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ مَلَكٌ رَاكِعٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالُوا جَمِيعًا سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ إِلَّا أَنَّا لَمْ نُشْرِكْ بِكَ شَيْئًا» (أخرجه الحافظ الطبراني). وعن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مِنَ السَّمَاوَاتِ سَمَاءً مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ جبهة ملك أو قدماه قائم، ثُمَّ قَرَأَ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} (أخرجه مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ). وروى محمد بن نصر، عن عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ أَرْطَاةَ وَهُوَ يَخْطُبُنَا عَلَى مِنْبَرِ الْمَدَائِنِ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَائِكَةً ترعد فرائضهم مِنْ خِيفَتِهِ، مَا مِنْهُمْ مَلَكٌ تَقْطُرُ مِنْهُ دَمْعَةٌ مِنْ عَيْنِهِ إِلَّا وَقَعَتْ عَلَى مَلَكٍ يُصَلِّي، وَإِنَّ مِنْهُمْ مَلَائِكَةً سُجُودًا مُنْذُ خَلَقَ السماوات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم وَلَا يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا رَفَعُوا رؤوسهم نَظَرُوا إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ قَالُواْ: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك" (أخرجه محمد بن نصر، قال ابن كثير: إسناده لا بأس به). وقوله تعالى: {وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ} أَيِ النَّارُ الَّتِي وُصِفَتْ {إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}، ثم قال تعالى: {كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} أَيْ وَلَّى {وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ} أَيْ أَشْرَقَ {إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ} أَيِ الْعَظَائِمِ يَعْنِي النَّارَ، قَالَهُ ابْنُ عباس ومجاهد، {نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} أَيْ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَقْبَلَ النِّذَارَةَ وَيَهْتَدِيَ لِلْحَقِّ، أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا وَيُوَلِّيَ ويردها.

- 38 - كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ - 39 - إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ - 40 - فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ - 41 - عَنِ الْمُجْرِمِينَ - 42 - مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ - 43 - قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ - 44 - وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - 45 - وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ - 46 - وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ - 47 - حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ - 48 - فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ - 49 - فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ - 50 - كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ - 51 - فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ - 52 - بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً - 53 - كَلاَّ بَل لاَّ يخافون

الْآخِرَةَ - 54 - كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ - 55 - فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ - 56 - وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا أَنَّ {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أَيْ معتقلة بعملها يوم القيامة {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} فَإِنَّهُمْ {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ} أَيْ يَسْأَلُونَ الْمُجْرِمِينَ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ، وَأُولَئِكَ فِي الدِّرْكَاتِ قَائِلِينَ لَهُمْ {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلِّين * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} أَيْ مَا عندنا رَبَّنَا وَلَا أَحْسَنَّا إِلَى خَلْقِهِ مِنْ جِنْسِنَا، {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} أَيْ نَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا نَعْلَمُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كُلَّمَا غَوِيَ غاوٍ غَوَيْنَا مَعَهُ، {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} يعني الموت كقوله تعالى: {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين}، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا هُوَ - يَعْنِي عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ - فَقَدْ جاءه اليقين مِن رَّبِّهِ» قال تَعَالَى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} أَيْ مَنْ كان متصفاً بمثل هذه الصِّفَاتِ، فَإِنَّهُ لَا تَنْفَعُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفَاعَةُ شافع فيه، لأن الشفاعة إنما تنجح إِذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا، فَأَمَّا مَنْ وَافَى الله كافراً، فإن لَهُ النَّارُ لَا مَحَالَةَ خَالِدًا فِيهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} أي فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك عما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ وَتُذَكِّرُهُمْ بِهِ مُعْرِضِينَ {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} أَيْ كَأَنَّهُمْ فِي نِفَارِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ، حُمُرٌ مِنْ حُمُرِ الْوَحْشِ إِذَا فَرَّتْ مِمَّنْ يُرِيدُ صَيْدَهَا من أسد (قاله أبو هريرة وابن عباس وزيد بن أسلم، وهو قول الجمهور) وقوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} أَيْ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ من هؤلاء المشركين أَن يُنَزَّلَ عليه كتاب كما أنزل اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ مجاهد وغيره كقوله تَعَالَى: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى يؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رسل الله}، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ قَتَادَةَ: يُرِيدُونَ أَنْ يُؤْتُوا براءة بغير عمل، فقوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ لاَّ يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} أَيْ إِنَّمَا أَفْسَدَهُمْ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ بِهَا وَتَكْذِيبُهُمْ بِوُقُوعِهَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} أَيْ حَقًّا أَنَّ الْقُرْآنَ تَذْكِرَةٌ، {فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} كَقَوْلِهِ: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله}، وقوله تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} أَيْ هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُخَافَ مِنْهُ، وَهُوَ أَهْلٌ أَنْ يغفر ذنب من تاب إليه وأناب. عن أنَس ابن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الْآيَةَ {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} وَقَالَ: «قَالَ رَبُّكُمْ أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى فَلَا يُجْعَلْ مَعِي إِلَهٌ، فَمَنِ اتَّقَى أَنْ يَجْعَلَ مَعِي إِلَهًا كَانَ أَهْلًا أَنْ أَغْفِرَ لَهُ» (رواه التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ الحباب).

75 - سورة القيامة.

- 75 - سورة القيامة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ - 2 - وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ - 3 - أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ - 4 - بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ - 5 - بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ - 6 - يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ - 7 - فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ - 8 - وَخَسَفَ الْقَمَرُ - 9 - وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ - 10 - يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ - 11 - كَلاَّ لاَ وَزَرَ - 12 - إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ - 13 - يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ - 14 - بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ - 15 - وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ قد تقدم أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُنْتَفِيًا جَازَ الإيتان بلا قبل القسم لتأكيد النفي، والمقسم عليه ههنا هو إثبات المعاد، والرد على ما يزعمه الجهلة مِنْ عَدَمِ بَعْثِ الْأَجْسَادِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامة} قَالَ الْحَسَنُ: أَقْسَمَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يُقْسِمْ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلْ أَقْسَمَ بهما جميعاً، والصحيح أنه أقسم بهما معاً وهو المروي عن ابن عباس وسعيد ابن جُبَيْرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، فَأَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فمعروف، وأما النفس اللوامة فقال الحسن البصري: إِنَّ الْمُؤْمِنَ وَاللَّهِ مَا نَرَاهُ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ: مَا أَرَدْتُ بِكَلِمَتِي، مَا أَرَدْتُ بِأَكْلَتِي، مَا أَرَدْتُ بِحَدِيثِ نَفْسِي، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَمْضِي قدماً قدماً ما يعاتب نفسه، وعن سِمَاكٍ أَنَّهُ سَأَلَ عِكْرِمَةَ عَنْ قَوْلِهِ {وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} قَالَ: يَلُومُ عَلَى الْخَيْرِ والشر: لو فعلت كذا وكذا، وعن سعيد بن جبير قال: تلوم على الخير والشر، وقال مُجَاهِدٍ: تَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ وَتَلُومُ عَلَيْهِ، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: اللَّوَّامَةُ الْمَذْمُومَةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {اللَّوَّامَةِ} الْفَاجِرَةِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ متقاربة المعنى، والأشبه بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ أَنَّهَا الَّتِي تَلُومُ صَاحِبَهَا عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَتَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ. وَقَوْلُهُ تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنسان أن لن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ}؟ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَيُظَنُّ أَنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى إِعَادَةِ عِظَامِهِ وَجَمْعِهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا الْمُتَفَرِّقَةِ؟ {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} قال ابن عباس:

أَنْ نَجْعَلَهُ خُفًّا أَوْ حَافِرًا (وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ، قال ابن جرير: أي في الدنيا لو شاء لجعل ذلك)، والظاهر من الآية أن قوله تعالى: {قَادِرِينَ} حال من قوله تعالى {نَّجْمَعَ} أَيْ أَيُظَنُّ الْإِنْسَانُ أَنَا لَا نَجْمَعُ عِظَامَهُ؟ بَلَى سَنَجْمَعُهَا قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ، أَيْ قُدْرَتُنَا صَالِحَةٌ لِجَمْعِهَا، وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَاهُ أَزْيَدَ مِمَّا كَانَ، فَنَجْعَلُ بَنَانَهُ وَهِيَ أَطْرَافُ أَصَابِعِهِ مُسْتَوِيَةً، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجِ، وَقَوْلُهُ: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} قال ابن عباس: يعني يمضي قدماً، وعنه: يَقُولُ الْإِنْسَانُ: أَعْمَلُ ثُمَّ أَتُوبُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ: هُوَ الْكُفْرُ بِالْحَقِّ بَيْنَ يَدَيِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}: لِيَمْضِيَ أَمَامَهُ راكباً رأسه، وقال الحسن: لا يلفى ابْنُ آدَمَ إِلَّا تَنْزِعُ نَفْسَهُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ قُدُمًا قُدُمًا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تعالى، وروي عن غير وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: هُوَ الَّذِي يَعْجَلُ الذُّنُوبَ ويسوّف التوبة، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الْكَافِرُ يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْمُرَادِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}؟ أَيْ يَقُولُ مَتَى يَكُونُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا سُؤَالُهُ سُؤَالُ اسْتِبْعَادٍ لِوُقُوعِهِ وَتَكْذِيبٌ لِوُجُودِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً ولا تستقدمون}، وقال تعالى ههنا: {فَإِذَا بَرِقَ البصر} بكسر الراء أي حار كقوله تعالى: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ}، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَبْصَارَ تَنْبَهِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَخْشَعُ وَتَحَارُ وَتَذِلُّ مِنْ شِدَّةِ الْأَهْوَالِ، وَمَنْ عِظَمِ مَا تُشَاهِدُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأُمُورِ. وَقَوْلُهُ تعالى: {وَخَسَفَ القمر} أي ذهب ضوؤه، {وَجُمِعَ الشمس والقمر} قال مجاهد: كوّرا، كقوله {إِذَا الشمس كوّرت}، وقوله تعالى: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} أَيْ إِذَا عَايَنَ ابْنُ آدَمَ هَذِهِ الْأَهْوَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حينئذٍ يُرِيدُ أَنْ يَفِرَّ وَيَقُولُ: {أَيْنَ الْمَفَرُّ}؟ أَيْ هَلْ مِنْ مَلْجَأٍ أَوْ مَوْئِلٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: أي لا نجاة، وهذه الآية كقوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ} أَيْ لَيْسَ لَكُمْ مَكَانٌ تَتَنَكَّرُونَ فِيهِ، وَكَذَا قال ههنا: {لاَ وَزَرَ} أَيْ لَيْسَ لَكُمْ مَكَانٌ تَعْتَصِمُونَ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} أَيِ الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} أَيْ يُخْبَرُ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِ قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا، أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أحداً}، وهكذا قال ههنا: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} أَيْ هُوَ شَهِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ عَالِمٌ بِمَا فَعَلَهُ وَلَوِ اعْتَذَرَ وَأَنْكَرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} يقول: سمعه وبصره ويديه ورجليه وَجَوَارِحُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: إِذَا شِئْتَ وَاللَّهِ رَأَيْتَهُ بَصِيرًا بِعُيُوبِ النَّاسِ وَذُنُوبِهِمْ، غَافِلًا عَنْ ذُنُوبِهِ وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّ فِي الْإِنْجِيلِ مَكْتُوبًا: يَا ابْنَ آدَمَ تُبْصِرُ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَتَتْرُكُ الجذع فِي عَيْنِكَ لَا تُبْصِرُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} وَلَوْ جَادَلَ عَنْهَا فَهُوَ بَصِيرٌ عَلَيْهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} وَلَوِ اعْتَذَرَ يومئذٍ بِبَاطِلٍ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَقَالَ السدي: {وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ} حجته، واختاره ابن جرير، وقال الضحّاك: ولو ألقى سُتُورَهُ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ يُسَمَّوْنَ السِّتْرَ الْمِعْذَارَ، وَالصَّحِيحُ قول مجاهد وأصحابه، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، وكقوله تَعَالَى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ

لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون}، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} هِيَ الِاعْتِذَارُ ألم تسمع أنه قال: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين معذرتهم}؟

- 16 - لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ - 17 - إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ - 18 - فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ - 19 - ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ - 20 - كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ - 21 - وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ - 22 - وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ - 23 - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ - 24 - وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ - 25 - تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ هَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَيْفِيَّةِ تَلَقِّيهِ الْوَحْيِ مِنَ الْمَلَكِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُبَادِرُ إِلَى أَخْذِهِ، وَيُسَابِقُ الْمَلَكَ فِي قِرَاءَتِهِ، فأمره الله عزَّ وجلَّ أن يستمع له، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره، وأن يبينه له وَيُوَضِّحَهُ، فَالْحَالَةُ الْأُولَى جَمْعُهُ فِي صَدْرِهِ، وَالثَّانِيَةُ تِلَاوَتُهُ، وَالثَّالِثَةُ تَفْسِيرُهُ وَإِيضَاحُ مَعْنَاهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} أَيْ بالقرآن كما قال تعالى: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} الآية، ثم قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} أَيْ فِي صَدْرِكَ، {وَقُرْآنَهُ} أَيْ أَنْ تَقْرَأَهُ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أَيْ إِذَا تلاه عليك الملك عن الله تعالى {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أَيْ فَاسْتَمَعْ لَهُ ثُمَّ اقْرَأْهُ كَمَا أَقْرَأَكَ، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أَيْ بَعْدَ حِفْظِهِ وَتِلَاوَتِهِ نُبَيِّنُهُ لَكَ وَنُوَضِّحُهُ وَنُلْهِمُكَ معناه على ما أردنا وشرعنا. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شدة فكان يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ: جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ، ثُمَّ تقرأه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} أي فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ كما أقرأه (أخرجه أحمد ورواه البخاري ومسلم بنحوه). وفي رواية للبخاري: فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ فَإِذَا ذَهَبَ قرأه كما وعده الله عزَّ وجلَّ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَلْقَى مِنْهُ شِدَّةٌ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ عُرِفَ فِي تَحْرِيكِهِ شَفَتَيْهِ، يَتَلَقَّى أَوَّلَهُ وَيُحَرِّكُ بِهِ شَفَتَيْهِ، خَشْيَةَ أَنْ يَنْسَى أَوَّلَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ مِنْ آخِرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (أخرجه ابن أبي حاتم). وقال ابن عباس: كان لا يفتر من القرآن مخافة أن ينساه، فقال الله تَعَالَى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إنا عَلَيْنَا جَمْعَهُ} أَنْ نَجْمَعَهُ لَكَ {وَقُرْآنَهُ} أَنْ نُقْرِئَكَ فَلَا تنسى، وقال ابن عباس {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} تَبْيِينَ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وكذا قال قتادة. وقوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} أَيْ إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة، إِنَّهُمْ إِنَّمَا هِمَّتُهُمْ إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا الْعَاجِلَةِ، وَهُمْ لَاهُونَ مُتَشَاغِلُونَ عَنِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} مِنَ النَّضَارَةِ أَيْ حَسَنَةٌ بَهِيَّةٌ مُشْرِقَةٌ مَسْرُورَةٌ، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي تراه عياناً، كما رواه البخاري فِي صَحِيحِهِ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَانًا» وَقَدْ ثَبَتَتْ رُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا ولا منعها، لحديث أبي هريرة وهما فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْسَ دونهما سحاب؟»

قالوا: لا، قال: «إنكم ترون ربكم كذلك» (أخرجه الشيخان). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا ترون هذا القمر، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا قبل غروبها فافعلوا» (أخرجاه في الصحيحين)، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ ينظروا إلى الله عزَّ وجلَّ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عدن» (رواه البخاري ومسلم). وفي مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ - قَالَ - يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا! أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ! قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ وَهِيَ الزِّيَادَةُ"، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (رواه مسلم)، فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ عزَّ وجلَّ فِي الْعَرَصَاتِ وَفِي رَوْضَاتِ الجنات، وروى الإمام أحمد، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَيَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَيْ سَنَةٍ يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ، يَنْظُرُ إِلَى أزواجه وخدمه، وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرتين» (أخرجه أحمد والترمذي)، قال الْحَسَنِ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} قَالَ: حَسَنَةٌ، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قَالَ: تَنْظُرُ إِلَى الْخَالِقِ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَنْضُرَ وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى الْخَالِقِ، وقوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} هَذِهِ وُجُوهُ الْفُجَّارِ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَاسِرَةٌ، قَالَ قَتَادَةُ: كَالِحَةٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَغَيَّرَ أَلْوَانُهَا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ {بَاسِرَةٌ} أَيْ عَابِسَةٌ {تَظُنُّ} أَيْ تَسْتَيْقِنُ {أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ: دَاهِيَةٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: شَرٌّ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَسْتَيْقِنُ أَنَّهَا هَالِكَةٌ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: تَظُنُّ أنها ستدخل النار، وهذا المقام كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، وكقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ}، وكقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عالية} وأشباه ذلك من الآيات الكريمة.

- 26 - كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ - 27 - وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ - 28 - وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ - 29 - وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ - 30 - إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ - 31 - فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى - 32 - وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى - 33 - ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى - 34 - أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى - 35 - ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى - 36 - أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى - 37 - أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَنِيٍّ يُمْنَى - 38 - ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى - 39 - فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى - 40 - أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالَةِ الِاحْتِضَارِ، وَمَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَهْوَالِ، ثَبَّتَنَا اللَّهُ هُنَالِكَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، فَقَالَ تَعَالَى: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} إِنْ جَعْلَنَا (كَلَّا) رَادِعَةً فَمَعْنَاهَا: لَسْتَ يَا ابْنَ آدم هناك تكذب بِمَا أُخْبِرْتَ بِهِ، بَلْ صَارَ ذَلِكَ عِنْدَكَ عياناً، وإن جعلناها بمعنى (حقاً) فظاهرأي حَقًّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ أَيِ انْتُزِعَتْ رُوحُكَ مِنْ جَسَدِكَ وَبَلَغْتَ تَرَاقِيَكَ، وَالتَّرَاقِي جَمْعُ (تَرْقُوَةٍ) وَهِيَ الْعِظَامُ الَّتِي بَيْنَ ثَغْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ كقوله تعالى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ}، {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}؟ قال ابن عباس: أي من راق يرقي؟ وقال أبو قلابة؟ أَيْ مَنْ طَبِيبٌ شَافٍ (وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ والضحّاك وابن زيد). وعن ابن عباس: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} قِيلَ: مَنْ يَرْقَى بِرُوحِهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَمْ ملائكة العذاب (ذكره ابن أبي حاتم عن ابن عباس)؟ فعلى هذا يكون من كلام الملائكة، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} قال: التفت عليه الدنيا والآخرة، وعنه {والتفت الساق بالساق} يقول: آخر يوم من أيام الدُّنْيَا وَأَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، فَتَلْتَقِي الشدة بالشدة إلاّ من رحمة اللَّهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} الْأَمْرُ الْعَظِيمُ بِالْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَلَاءٌ بِبَلَاءٍ، وقال الحسن البصري: هما ساقاك إذا التفتا، وكذا قال السدي عَنِ الْحَسَنِ: هُوَ لَفُّهُمَا فِي الْكَفَنِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: النَّاسُ يُجَهِّزُونَ جَسَدَهُ، وَالْمَلَائِكَةُ يُجَهِّزُونَ رُوحَهُ. وَقَوْلُهُ تعالى: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} أَيِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَ تُرْفَعُ إِلَى السَّمَاوَاتِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: رُدُّوا عَبْدِي إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أَخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخرى، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ الطويل، وقوله جلَّ وعلا: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَكِنْ كذَّب وَتَوَلَّى} هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْكَافِرِ الَّذِي كَانَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مُكَذِّبًا لِلْحَقِّ بِقَلْبِهِ، مُتَوَلِّيًا عَنِ الْعَمَلِ بِقَالَبِهِ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ بَاطِنًا وَلَا ظاهراً، ولهذا قال تَعَالَى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى} أي جذلان أشراً بطراً، لَا هِمَّةَ لَهُ وَلَا عَمَلَ، كَمَا قَالَ تعالى: {وإذا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فكهين}، وقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} أي يرجع، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} أي يختال، وقال قتادة: يَتَبَخْتَرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ من الله تعالى للكافر، المتبختر في مشيه، أَيْ يَحِقُّ لَكَ أَنْ تَمْشِيَ هَكَذَا وَقَدْ كفرت بخالقك وبارئك، وذلك على سبيل التكهم والتهديد، كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم}، وكقوله تعالى: {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مجرمون} وكقوله جلَّ جلاله: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} إلى غير ذلك، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}؟ قَالَ: قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي جهل، ثم أنزله الله عزَّ وجلَّ (أخرجه النسائي). وقال قتادة في قَوْلُهُ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وَعِيدٌ عَلَى أَثَرِ وَعِيدٍ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَزَعَمُوا أَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ أَبَا جَهْلٍ أَخَذَ نبيُ الله صلى الله عليه وسلم بِمَجَامِعِ ثِيَابِهِ ثُمَّ قَالَ: «أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى»، فَقَالَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ: أَتُوعِدُنِي يَا مُحَمَّدُ؟ وَاللَّهِ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْتَ وَلَا رَبُّكَ شَيْئًا، وَإِنِّي لَأَعَزُّ من مشى بين جبليها (أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة).

وقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى}؟ قَالَ السُّدِّيُّ: يعني لا يبعث، وقال مجاهد: يَعْنِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الآية تعم الحالتين، أَيْ لَيْسَ يُتْرَكُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مُهْمَلًا، لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، وَلَا يُتْرَكُ فِي قبره سدى لايبعث، بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ مَنْهِيٌّ فِي الدُّنْيَا مَحْشُورٌ إِلَى اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا إثبات المعاد، ولهذا قال تعالى مستدلاً على الإعادة بالبداءة {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى} أَيْ أَمَا كَانَ الْإِنْسَانُ نُطْفَةً ضَعِيفَةً مِنْ مَاءٍ مهين {يمنى} أي يُرَاقُ مِنَ الْأَصْلَابِ فِي الْأَرْحَامِ {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} أَيْ فَصَارَ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ شُكِّلَ وَنُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فَصَارَ خَلْقًا آخَرَ سَوِيًّا، سَلِيمَ الْأَعْضَاءِ ذَكَرًا أَوْ أُنثى بإذن الله وتقديره: ولهذا قال تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}، ثُمَّ قَالَ تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِي الْمَوْتَى}؟ أَيْ أَمَا هَذَا الَّذِي أَنْشَأَ هَذَا الْخَلْقَ السَّوِيَّ مِنْ هَذِهِ النُّطْفَةِ الضَّعِيفَةِ، بِقَادِرٍ عَلَى أَن يعيده كما بدأه؟ كقوله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه}، روى أبو داوود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فَلْيَقُلْ: بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ؛ وَمَنْ قَرَأَ {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} فانتهى إلى قَوْلُهُ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَمَنْ قَرَأَ: {وَالْمُرْسَلَاتِ} فَبَلَغَ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}؟ فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ" (أخرجه أبو داود وأحمد، ورواه الترمذي بنحوه). وعن قتادة قوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَهَا قَالَ: «سُبْحَانَكَ وبلى» (أخرجه ابن جرير). وكان ابن عباس إذا مَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى}؟ قال: سبحانك فبلى (أخرجه ابن أبي حاتم).

76 - سورة الإنسان.

- 76 - سورة الإنسان.

[مقدمة] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: {الم تَنْزِيلُ} السَّجْدَةَ وَ {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} (أخرجه مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ)؟

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَذْكُورًا - 2 - إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً - 3 - إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْإِنْسَانِ، أَنَّهُ أَوْجَدَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا يُذْكَرُ لِحَقَارَتِهِ وضعفه، فقال تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً؟} ثُمَّ بيَّن ذَلِكَ فقال جلَّ جلاله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} أَيْ أخلاط، والمشج والمشيج، الشيء المختلط بعضه فِي بَعْضٍ، قال ابن عباس: يَعْنِي مَاءَ الرَّجُلِ وَمَاءَ الْمَرْأَةِ إِذَا اجْتَمَعَا وَاخْتَلَطَا، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بَعْدُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طور، وحال إلى حال، وقال عكرمة ومجاهد: الْأَمْشَاجُ هُوَ اخْتِلَاطُ مَاءِ الرَّجُلِ بِمَاءِ الْمَرْأَةِ، وقوله تعالى: {نَّبْتَلِيهِ} أي نختبره كقوله جلَّ جلاله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عملاً}، {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} أَيْ جَعَلَنَا لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا يَتَمَكَّنُ بِهِمَا مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَقَوْلُهُ جلَّ وعلا: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أَيْ بَيَّنَّاهُ لَهُ وَوَضَّحْنَاهُ وبصرناه به كقوله جلَّ وعلا: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}، وكقوله جلَّ وعلا: {وهديناه النجدين} أَيْ بَيَّنَّا لَهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَطَرِيقَ الشَّرِّ، وهذا قول عكرمة ومجاهد والجمهور، وروي عن الضحّاك والسدي {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} يَعْنِي خُرُوجَهُ مِنَ الرَّحِمِ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ تعالى: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ الْهَاءِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} تَقْدِيرُهُ: فَهُوَ فِي ذَلِكَ إِمَّا شَقِيٌّ وَإِمَّا سعيد، كما جاء في الحديث الصحيح: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمَوْبِقُهَا أَوْ معتقها» (رواه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري)، وقد تقدم من رِوَايَةُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ

تعالى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حتى يعرب لسانه إما شاكراً وإما كفوراً» (أخرجه أحمد، وقد تقدم في سورة الروم)، وروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ خَارِجٍ يَخْرُجُ إِلَّا بِبَابِهِ رَايَتَانِ: رَايَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ، وَرَايَةٌ بِيَدِ شَيْطَانٍ، فَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُحِبُّ اللَّهُ اتَّبَعَهُ الْمَلَكُ بِرَايَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الْمَلَكِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ، وَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُسْخِطُ اللَّهَ اتَّبَعَهُ الشَّيْطَانُ بِرَايَتِهِ فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الشَّيْطَانِ حتى يرجع إلى بيته" (أخرجه الإمام أحمد).

- 4 - إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا - 5 - إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا - 6 - عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا - 7 - يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا - 8 - وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً - 9 - إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً - 10 - إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيرًا - 11 - فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا - 12 - وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جنة وحريرا يخبرتعالى عما أرصده للكافرين من خلقه، مِنَ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ وَالسَّعِيرِ وَهُوَ اللَّهَبُ، وَالْحَرِيقُ في نار جهنم كما قال تَعَالَى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ}، وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَعَدَّهُ لِهَؤُلَاءِ الْأَشْقِيَاءِ مِنَ السَّعِيرِ قَالَ بَعْدَهُ: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً}، وَقَدْ عُلِمَ مَا فِي الْكَافُورِ مِنَ التَّبْرِيدِ وَالرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ، مَعَ مَا يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنَ اللَّذَاذَةِ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ الْحَسَنُ: بَرْدُ الْكَافُورِ فِي طِيبِ الزَّنْجَبِيلِ، وَلِهَذَا قَالَ: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} أَيْ هَذَا الَّذِي مُزِجَ لِهَؤُلَاءِ الْأَبْرَارِ مِنَ الْكَافُورِ، هُوَ عَيْنٌ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ صَرْفًا بِلَا مزج ويروون بها، قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الشَّرَابُ فِي طِيبِهِ كَالْكَافُورِ، وقال بعضهم: هو من عين كافور، وقوله تعالى: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} أي يتصرفون فيها حيث شاءوا وأين شاءوا، مِنْ قُصُورِهِمْ وَدُورِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَمَحَالِّهِمْ، وَالتَّفْجِيرُ هُوَ الاتباع، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض ينبوعاً}، وقال: {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} وقال مجاهد: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} يقودونها حيث شاءوا، وقال الثوري: يصرفونها حيث شاءوا، وقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} أي يتعبدون الله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر، وفي الحديث: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (أخرجه الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ)، وَيَتْرُكُونَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي نَهَاهُمْ عَنْهَا خِيفَةً مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ يَوْمَ المعاد وهو اليوم الذي يكون {شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} أي منتشراً عاماً على

النَّاسِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاشِيًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَطَارَ وَاللَّهِ شَرُّ ذلك اليوم حتى ملأ السماوات والأرض. وقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} قِيلَ: عَلَى حُبِّ الله تعالى لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الطَّعَامِ، أَيْ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ فِي حَالِ مَحَبَّتِهِمْ وَشَهْوَتِهِمْ لَهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حبه}، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}، وروى البيهقي عَنْ نَافِعٍ قَالَ: مَرِضَ ابْنُ عُمَرَ فَاشْتَهَى عِنَبًا أَوَّلَ مَا جَاءَ الْعِنَبُ، فَأَرْسَلَتْ صَفِيَّةُ يَعْنِي امْرَأَتَهُ فَاشْتَرَتْ عُنْقُودًا بِدِرْهَمٍ، فَاتَّبَعَ الرَّسُولَ سائل، فَلَمَّا دَخَلَ بِهِ قَالَ السَّائِلُ: السَّائِلَ، فَقَالَ ابن عمر: أعطوه إياه فأعطوه إياه (أخرجه البيهقي عن نافع وفيه أنها أرسلت بدرهم آخر فاشترت به فأعطاه للسائل ثم بدرهم ثالث)، وَفِي الصَّحِيحِ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تصدَّق وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمَلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ» أَيْ فِي حَالِ مَحَبَّتِكَ لِلْمَالِ وَحِرْصِكَ عَلَيْهِ وَحَاجَتِكَ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} أَمَّا الْمِسْكِينُ وَالْيَتِيمُ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمَا وَصِفَتُهُمَا، وَأَمَّا الْأَسِيرُ فَقَالَ الحسن وَالضَّحَّاكُ: الْأَسِيرُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَقَالَ ابْنُ عباس: كان أسراؤهم يومئذٍ مشركين، يشهد لِهَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ بَدْرٍ أَنْ يُكْرِمُوا الأسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغذاء، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمُ الْعَبِيدُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لعموم الآية للمسلم والمشرك، وَقَدْ وَصَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بالإحسان إلى الأرقاء حتى كان آخر ما أوصى به أَنْ جَعَلَ يَقُولُ: «الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» قال مجاهد: هو المحبوس، أي يطعمون الطعام لهؤلاء، وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ قَائِلِينَ بِلِسَانِ الْحَالِ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} أَيْ رَجَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ وَرِضَاهُ {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً} أي لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بِهَا وَلَا أَنْ تَشْكُرُونَا عِنْدَ النَّاسِ، قَالَ مجاهد: أَمَا وَاللَّهِ مَا قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَلَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ، لِيَرْغَبَ فِي ذَلِكَ رَاغِبٌ {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} أَيْ إِنَّمَا نَفْعَلُ هَذَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَنَا وَيَتَلَقَّانَا بِلُطْفِهِ في اليوم العبوس القمطرير، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {عَبُوساً} ضَيِّقًا {قَمْطَرِيراً} طَوِيلًا، وَقَالَ عكرمة: يَعْبَسُ الْكَافِرُ يومئذٍ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ عَرَقٌ مِثْلُ الْقَطْرَانِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {عَبُوساً} العابس الشفتين، {قَمْطَرِيراً} قال: يقبض الوجه باليسور، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: تَعْبَسُ فِيهِ الوجوه من الهول {قَمْطَرِيراً} تقلص الْجَبِينِ وَمَا بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ مِنَ الْهَوْلِ، وَقَالَ ابن زيد: العبوس الشر، والقمطرير الشديد، وقال ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْقَمْطَرِيرُ هُوَ الشَّدِيدُ، يُقَالُ: هُوَ يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَيَوْمٌ قُمَاطِرُ، وَيَوْمٌ عَصِيبٌ وَعَصَبْصَبٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّجَانُسِ الْبَلِيغِ، {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} أَيْ آمَنَهُمْ مِمَّا خَافُوا مِنْهُ، {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً} أَيْ فِي وُجُوهِهِمْ، {وَسُرُوراً} أَيْ فِي قُلُوبِهِمْ وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ الْوَجْهُ. قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سر استنار وجهه حتى كأنه فلقة قمر، وقالت عائشة رضي الله عنها: «دَخَلَ عليَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ» الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} أَيْ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ أَعْطَاهُمْ وَنَوَّلَهُمْ وَبَوَّأَهُمْ {جَنَّةً وَحَرِيراً} أَيْ مَنْزِلًا رَحْبًا، وعيشاً رغداً، ولباساً حسناً.

- 13 - مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً - 14 - وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً - 15 - وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانت قواريرا - 16 - قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا - 17 - وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً - 18 - عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا - 19 - وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً - 20 - وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيرًا - 21 - عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُورًا - 22 - إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا يُخْبَرُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وما أسبغ عليهم من الفضل العظيم فقال تعالى: {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرائك} تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ، وَأَنَّ الْأَرَائِكَ هِيَ السُّرُرُ تَحْتَ الْحِجَالِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} أَيْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ حَرٌّ مُزْعِجٌ، وَلَا بَرْدٌ مُؤْلِمٌ، {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا} أَيْ قَرِيبَةٌ إِلَيْهِمْ أَغْصَانُهَا، {ذلّلت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} أَيْ مَتَى تَعَاطَاهُ دَنَا الْقَطْفُ إليه، تدلى مِنْ أَعْلَى غُصْنِهِ كَأَنَّهُ سَامِعٌ طَائِعٌ، كَمَا قال تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} قال مجاهد: إن قام ارتفعت معه بقدر، وإن قعد تذلّلت له حتى ينالها، وإن اضجع تذلّلت له حتى ينالها فذلك قوله تعالى: {تَذْلِيلاً}، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَرُدُّ أَيْدِيَهُمْ عَنْهَا شوك ولا بعد، وقوله جلَّت عظمته: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ} أَيْ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْخَدَمُ بِأَوَانِي الطَّعَامِ، وَهِيَ مِّن فِضَّةٍ، وَأَكْوابٍ الشراب وهي الَّتِي لَا عُرَى لَهَا وَلَا خَرَاطِيمَ، وَقَوْلُهُ: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} فَالْأَوَّلُ مَنْصُوبٌ بِخَبَرِ كَانَ، أَيْ كَانَتْ قَوَارِيرَ، وَالثَّانِي مَنْصُوبٌ إِمَّا عَلَى البدلية أو تمييز، قال ابن عباس: بَيَاضُ الْفِضَّةِ فِي صَفَاءِ الزُّجَاجِ، وَالْقَوَارِيرُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ زُجَاجٍ، فَهَذِهِ الْأَكْوَابُ هِيَ مِنْ فِضَّةٍ، وَهِيَ مَعَ هَذَا شَفَّافَةٌ يُرَى مَا فِي بَاطِنِهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، وَهَذَا مِمَّا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ إِلَّا قَدْ أُعْطِيتُمْ فِي الدُّنْيَا شَبَهُهُ إِلَّا قَوَارِيرَ مِنْ فضة، وقوله تعالى: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} أَيْ عَلَى قَدْرِ رِيِّهِمْ لَا تَزِيدُ عَنْهُ وَلَا تَنْقُصُ، بَلْ هِيَ مُعَدَّةٌ لذلك مقدرة بحسب ري صاحبها، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الِاعْتِنَاءِ وَالشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ، وَقَالَ ابن عباس: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} قدرت للكف، وقال الضحّاك: على قدر كف الخادم، وَهَذَا لَا يُنَافِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ في القدر والري. وقوله تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} أَيْ وَيُسْقَوْنَ - يَعْنِي الْأَبْرَارَ أَيْضًا - فِي هَذِهِ الْأَكْوَابِ {كَأْساً} أَيْ خَمْرًا، {كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} فَتَارَةً يُمْزَجُ لَهُمُ الشَّرَابُ بِالْكَافُورِ وَهُوَ بَارِدٌ، وَتَارَةً بِالزَّنْجَبِيلِ وَهُوَ حَارٌّ لِيَعْتَدِلَ الْأَمْرُ، وَهَؤُلَاءِ يُمْزَجُ لَهُمْ مِنْ هَذَا تَارَةً وَمِنْ هَذَا تَارَةً، وَأَمَّا الْمُقَرَّبُونَ فَإِنَّهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا صِرْفًا كَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَدْ تقدم قوله جل وعلا: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله}، وقال ههنا: {عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} أَيِ الزَّنْجَبِيلُ عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا، قَالَ عِكْرِمَةُ، اسْمُ عَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لسلاسة مسيلها وحدة جريها، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} أَيْ يَطُوفُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ لِلْخِدْمَةِ وِلْدَانٌ مِنْ وِلْدَانِ الْجَنَّةِ {مُّخَلَّدُونَ} أَيْ عَلَى حَالَةٍ

وَاحِدَةٍ، مُخَلَّدُونَ عَلَيْهَا لَا يَتَغَيَّرُونَ عَنْهَا لَا تزيد أعمارهم عن تلك السن، وقوله تعالى: {إِذاً رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} أَيْ إِذَا رأيتهم في صباحة وُجُوهِهِمْ، وَحُسْنِ أَلْوَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ وَحُلِيِّهِمْ {حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} وَلَا يَكُونُ فِي التَّشْبِيهِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا، وَلَا فِي الْمَنْظَرِ أَحْسَنُ مِنَ اللُّؤْلُؤِ المنثور على المكان الحسن، قال قتادة: ما من أهل الجنة من أحد يسعى إلا عَلَيْهِ أَلْفُ خَادِمٍ كُلُّ خَادِمٍ عَلَى عَمَلٍ ما عليه صاحبه، وقوله جلَّ وعلا: {وَإِذَا رَأَيْتَ} أَيْ وَإِذَا رَأَيْتَ يَا مُحَمَّدُ {ثمَّ} أَيْ هُنَاكَ يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا، وَسَعَتِهَا وَارْتِفَاعِهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَبْرَةِ وَالسُّرُورِ {رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} أَيْ مَمْلَكَةً لِلَّهِ هُنَاكَ عَظِيمَةً، وَسُلْطَانًا بَاهِرًا، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِآخَرِ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخَرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا إِلَيْهَا: «إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها»، وفي الحديث عن ابن عمر مرفوعاً: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفَيْ سَنَةٍ يَنْظُرُ إِلَى أَقْصَاهُ كَمَا يَنْظُرُ إِلَى أَدْنَاهُ» فَإِذَا كَانَ هَذَا عَطَاؤُهُ تَعَالَى لِأَدْنَى مَنْ يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا هُوَ أَعْلَى مَنْزِلَةً وأحظى عنده تعالى؟ وقوله جلَّ جلاله: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} أَيْ لِبَاسُ أهل الجنة فيها الحرير (السندس) وَهُوَ رَفِيعُ الْحَرِيرِ كَالْقُمْصَانِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَلِي أبدانهم، و (الاستبرق) وهو مَا فِيهِ بَرِيقٌ وَلَمَعَانٌ وَهُوَ مِمَّا يَلِي الظَّاهِرَ، كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي اللِّبَاسِ، {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وَهَذِهِ صِفَةُ الْأَبْرَارِ، وَأَمَّا المقربون فكما قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حرير} وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى زِينَةَ الظَّاهِرِ بِالْحَرِيرِ وَالْحُلِيِّ قَالَ بَعْدَهُ: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} أَيْ طَهَّرَ بَوَاطِنَهُمْ مِنَ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ، وَالْغِلِّ وَالْأَذَى وسائر الأخلق الرديئة، كَمَا رَوَيْنَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أنه قال: إذ انْتَهَى أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَجَدُوا هُنَالِكَ عَيْنَيْنِ فَكَأَنَّمَا أُلْهِمُوا ذَلِكَ فَشَرِبُوا مِنْ إِحْدَاهُمَا، فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ أَذًى، ثُمَّ اغْتَسَلُوا مِنَ الأُخرى، فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ نضرة النعيم، فأخبر سبحانه وتعالى بحالهم الظاهر وجمالهم الباطن، وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَكْرِيمًا لَهُمْ وأحساناً إليهم كما قال تَعَالَى: {كُلُواْ وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الخالية}، وكقوله تعالى: {وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقوله تعالى: {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} أي جزاكم الله تعالى عَلَى الْقَلِيلِ بِالْكَثِيرِ.

- 23 - إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا - 24 - فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً - 25 - وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا - 26 - وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلًا - 27 - إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا - 28 - نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا - 29 - إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً - 30 - وما تشاؤون إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً - 31 - يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أنزله عليه من القرآن الكريم، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أَيْ كَمَا أَكْرَمْتُكَ بِمَا أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ فَاصْبِرْ عَلَى قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سَيُدَبِّرُكَ بِحُسْنِ تَدْبِيرِهِ، {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}

أَيْ لَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنْ أَرَادُوا صَدَّكَ عَمًّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، بَلْ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فَالْآثِمُ هُوَ الفاجر في أفعاله والكفور هو الكافر قلبه، {واذكر اسم رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أَيْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً}، كقوله تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} الآية، وكقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قليلاً}، ثم قال تعالى منكراً على الكفّار ومن أشبههم حب الدنيا والإقبال عليها، وَتَرْكِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} يَعْنِي يوم القيامة، ثم قال تعالى: {نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد: يَعْنِي خَلْقَهُمْ {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} أَيْ وَإِذَا شِئْنَا بَعَثْنَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبَدَّلْنَاهُمْ فَأَعَدْنَاهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْبُدَاءَةِ عَلَى الرجعة، وقال ابن جَرِيرٍ: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} أَيْ وَإِذَا شِئْنَا أَتَيْنَا بِقَوْمٍ آخَرِينَ غَيْرِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ويأتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله على ذلك قديراً}، وكقوله تَعَالَى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ويأتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ}، ثم قال تعالى: {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ} يَعْنِي هَذِهِ السُّورَةَ تَذْكِرَةٌ، {فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أَيْ طَرِيقًا وَمَسْلَكًا، أَيْ من شاء اهتدى بالقرآن، {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} أَيْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَهْدِيَ نَفْسَهُ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ وَلَا يُجْرِ لِنَفْسِهِ نَفْعًا {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} أَيْ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ فَيُيَسِّرُهَا لَهُ وَيُقَيِّضُ لَهُ أَسْبَابَهَا، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْغَوَايَةَ فَيَصْرِفُهُ عَنِ الْهُدَى، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}، ثُمَّ قَالَ: {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أعدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أَيْ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يشاء، فمن يَهْدِهِ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ له.

77 - سورة المرسلات.

- 77 - سورة المرسلات.

[مقدمة] روى البخاري، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ بِمِنًى، إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: {وَالْمُرْسَلَاتِ} فَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا وَإِنِّي لِأَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ، وَإِنَّ فاه لرطب بها، إذا وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْتُلُوهَا» فَابْتَدَرْنَاهَا، فَذَهَبَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وقيتم شرها» (أخرجه البخاري، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ بِهِ). وَقَالَ الإمام أحمد: ثّنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ في المغرب بالمرسلات عُرفاً، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُمّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ يَقْرَأُ: {والمرسلات عُرفاً} فقالت: يا بني أذكرتني بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، أَنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ من رسول الله يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ من طريق مالك عن الزهري).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا - 2 - فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً - 3 - وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً - 4 - فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً - 5 - فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً - 6 - عُذْراً أَوْ نُذْراً - 7 - إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ - 8 - فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ - 9 - وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ - 10 - وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ - 11 - وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ - 12 - لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ - 13 - لِيَوْمِ الْفَصْلِ - 14 - وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل - 15 - وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ للمكذبين روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة {والرسلات عُرفاً} قال: هي الملائكة (وهو قول مسروق وأبي الضحى والسدي والربيع بن أنَس)، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ الرسل. وقال الثوري، عن أبي العبدين قال: سألت ابن مسعود عن المرسلات عُرفاً، قال: الريح: وكذا قال في: {العاصفات عَصْفاً وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً} إِنَّهَا الرِّيحُ، وَكَذَا قَالَ ابن عباس ومجاهد وقتادة، وتوقف ابن جرير في: {المرسلات عُرْفاً} هَلْ هِيَ الْمَلَائِكَةُ إِذَا أُرْسِلَتْ بِالْعُرْفِ، أَوْ كَعُرْفِ الْفَرَسِ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ هي

الرِّيَاحُ إِذَا هَبَّتْ شَيْئًا فَشَيْئًا؟ وَقَطَعَ بِأَنَّ {العاصفات عَصْفاً} الرياح، وتوقف في {الناشرات نَشْراً} هَلْ هِيَ الْمَلَائِكَةُ أَوِ الرِّيحُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّ {النَّاشِرَاتِ نَشْراً} هي الْمَطَرُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ {الْمُرْسَلَاتِ} هِيَ الرِّيَاحُ، كَمَا قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، وهكذا {العاصفات} هي الرياح، يُقال: عصفت الرياح إِذَا هَبَّتْ بِتَصْوِيتٍ، وَكَذَا {النَّاشِرَاتُ} هِيَ الرِّيَاحُ الَّتِي تَنْشُرُ السَّحَابَ فِي آفَاقِ السَّمَاءِ كَمَا يشاء الرب عزَّ وجلَّ. وقوله تعالى: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً} يعني الملائكة فَإِنَّهَا تَنْزِلَ بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى الرُّسُلِ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالْغَيِّ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَتُلْقِي إِلَى الرُّسُلِ وَحْيًا فِيهِ إِعْذَارٌ إِلَى الْخَلْقِ، وَإِنْذَارٌ لَهُمْ عِقَابَ اللَّهِ إِنْ خَالَفُوا أمره، وقوله تعالى: {إِنَّمَآ تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ أَيْ مَا وُعِدْتُمْ بِهِ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ وَالنَّفْخِ فِي الصُّوَرِ وَبَعْثِ الْأَجْسَادِ وَجَمْعِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَمُجَازَاةِ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، إِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَوَاقِعٌ أَيْ لَكَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ قَالَ تعالى: {فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ} أي ذهب ضوءها كقوله تعالى: {وَإِذَا النجوم انكدرت}، وقوله: {وَإِذَا السمآء فُرِجَتْ} أي فطرت وَانْشَقَّتْ وَتَدَلَّتْ أَرْجَاؤُهَا وَوَهَتْ أَطْرَافُهَا، {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} أَيْ ذُهِبَ بِهَا فَلَا يَبْقَى لَهَا عين ولا أثر، كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فلم يغادر منهم أحداً}، وقوله تعالى: {وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ} قال ابن عباس: جمعت، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} وقال مجاهد: {أُقِّتَتْ} أجلت، ثم قال تعالى: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يومئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ} يَقُولُ تَعَالَى: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتِ الرُّسُلُ وَأُرْجِئَ أَمْرُهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتقام} وذلك في يوم الفصل كما قال تعالى: {لِيَوْمِ الفصل} ثم قال تعالى مُعَظِّمًا لِشَأْنِهِ: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ}؟ {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أَيْ وَيْلٌ لَهُمْ مِنْ عذاب الله غداً.

- 16 - أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ - 17 - ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ - 18 - كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ - 19 - وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ - 20 - أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَاءٍ مَهِينٍ - 21 - فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ - 22 - إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ - 23 - فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ - 24 - وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ - 25 - أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً - 26 - أَحْيَآءً وَأَمْواتاً - 27 - وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً - 28 - وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ يَقُولُ تَعَالَى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين} يعني الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ الْمُخَالِفِينَ لِمَا جَاءُوهُمْ بِهِ، {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} أَيْ مِمَّنْ أَشْبَهَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}، ثم قال تعالى مُمْتَنًّا عَلَى خَلْقِهِ وَمُحْتَجًّا عَلَى الْإِعَادَةِ بِالْبُدَاءَةِ: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} أَيْ ضَعِيفٍ حقير بالنسبة إلى قدرة الباري عزَّ وجلَّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يس: «ابْنَ آدَمَ أنَّى تُعْجِزُنِي، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مثل هذه؟» (أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه). {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ

مَّكِينٍ} يعني جمعناه في الرحم، وهو حَافِظٌ لِمَا أُوْدِعَ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ} يَعْنِي إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، وَلِهَذَا قال تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}، ثُمَّ قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَآءً وَأَمْواتاً} قَالَ مُجَاهِدٌ: يُكْفَتُ الْمَيِّتُ فَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ، وقال الشعبي: بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم، {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} يعني الجبال رسى بِهَا الْأَرْضَ لِئَلَّا تَمِيدَ وَتَضْطَرِبَ، {وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً} أي عَذْبًا زُلَالًا مِنَ السَّحَابِ، أَوْ مِمَّا أَنْبَعَهُ مِنْ عُيُونِ الْأَرْضِ، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أَيْ وَيْلٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، الدَّالَّةَ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا يَسْتَمِرُّ عَلَى تكذيبه وكفره.

- 29 - انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ - 30 - انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ - 31 - لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ - 32 - إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ - 33 - كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ - 34 - وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ - 35 - هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ - 36 - وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ - 37 - وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ - 38 - هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ - 39 - فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ - 40 - وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ يقول تعالى مخبراً عن الكفار المكذبين بالمعاد والجزاء أَنَّهُمْ يُقال لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} يَعْنِي لَهَبُ النَّارِ إِذَا ارْتَفَعَ وَصَعِدَ مَعَهُ دُخَانٌ، فَمِنْ شِدَّتِهِ وَقُوَّتِهِ أَنَّ لَهُ ثَلَاثِ شُعَبٍ، {لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} أَيْ ظِلُّ الدُّخَانِ الْمُقَابِلُ لِلَّهَبِ لَا ظَلِيلٌ هُوَ فِي نَفْسِهِ {وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} يَعْنِي وَلَا يَقِيهِمْ حَرَّ اللهب، وقوله تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} أَيْ يَتَطَايَرُ الشَّرَرُ مِنْ لَهَبِهَا كَالْقَصْرِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَالْحُصُونِ، وقال ابن عباس ومجاهد: يَعْنِي أُصول الشَّجَرِ {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} أَيْ كالإبل السود، قاله مجاهد والحسن واختاره ابن جرير، وعن ابن عباس {جمالة صُفْرٌ} يعني حبال السفن، وعنه {جمالة صُفْرٌ}: قطع نحاس، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ: قَالَ: سَمِعْتُ ابن عباس رضي الله عنهما: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} قَالَ: كُنَّا نَعْمِدُ إِلَى الْخَشَبَةِ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ، وَفَوْقَ ذَلِكَ فَنَرْفَعُهُ للبناء، فَنُسَمِّيهِ الْقَصَرَ {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} حِبَالُ السُّفُنِ تجمع حتى تكون كأوساط الرجال (أخرجه البخاري) {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} أَيْ لَا يَتَكَلَّمُونَ، {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْكَلَامِ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فِيهِ لِيَعْتَذِرُوا بَلْ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ، وَعَرَصَاتُ الْقِيَامَةِ حَالَاتٌ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يُخْبِرُ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ تارة وعن هذه الحال تَارَةً، لِيَدُلَّ عَلَى شِدَّةِ الْأَهْوَالِ وَالزَّلَازِلِ يومئذٍ، وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْدَ كُلِّ فَصْلٍ مِنْ هَذَا الكلام {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}، وقوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ * فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} وَهَذِهِ مُخَاطَبَةٌ مِنَ الْخَالِقِ تعالى لِعِبَادِهِ يَقُولُ لَهُمْ: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} يَعْنِي أَنَّهُ جَمَعَهُمْ بِقُدْرَتِهِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وقوله تعالى:

{فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ}، تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ أَيْ إِنْ قَدَرْتُمْ عَلَى أَنْ تَتَخَلَّصُوا مِنْ قَبْضَتِي، وَتَنْجُوا مِنْ حُكْمِي فَافْعَلُوا، فَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ}. عن عبادة بن الصامت أنه قال: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ والآخرين في صعيد واحد ينفذهم وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَقُولُ اللَّهُ: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ * فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} الْيَوْمَ لَا يَنْجُو مِنِّي جَبَّارٌ عَنِيدٌ، وَلَا شيطان مريد (أخرجه ابن أبي حاتم).

- 41 - إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ - 42 - وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ - 43 - كُلُواْ وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ - 44 - إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - 45 - وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ - 46 - كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ - 47 - وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ - 48 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ - 49 - وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ - 50 - فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ يقول تعالى مخبراً عن عبادة المتقين، إِنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُونَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أَيْ بِخِلَافِ مَا أُولَئِكَ الْأَشْقِيَاءُ فِيهِ مِنْ ظل اليحموم وهو الدخان الأسود المنتن، وقوله تعالى: {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي ومن سَائِرِ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا، {كُلُواْ وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قال تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي هذا جزاؤنا لِمَنْ أَحْسَنَ الْعَمَلَ، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}، وَقَوْلُهُ تعالى: {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} خِطَابٌ لِلْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَأَمَرَهُمْ أَمْرَ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ، فَقَالَ تَعَالَى {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً} أَيْ مُدَّةً قَلِيلَةً قَرِيبَةً قَصِيرَةً، {إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} أَيْ ثُمَّ تُسَاقُونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}، وقال تعالى: {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}، وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ} أَيْ إِذَا أَمَرَ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةَ مِنَ الْكُفَّارِ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمَصَلِّينِ مَعَ الْجَمَاعَةِ امْتَنَعُوا مِنْ ذلك واستكبروا عنه ولهذا قال تعالى: {ويل يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}، ثم قال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}؟ أَيْ إِذَا لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَبِأَيِّ كَلَامٍ يُؤْمِنُونَ بِهِ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}؟ روي عن أبي هريرة: «إِذَا قَرَأَ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرفاً} فَقَرَأَ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}؟ فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِمَا أَنْزَلَ» (أخرجه ابن أبي حاتم).

78 - سورة النبأ.

- 78 - سورة النبأ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ - 2 - عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ - 3 - الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ - 4 - كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ - 5 - ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ - 6 - أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا - 7 - وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا - 8 - وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا - 9 - وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً - 10 - وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً - 11 - وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً - 12 - وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَادًا - 13 - وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً - 14 - وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا - 15 - لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتًا - 16 - وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي تَسَاؤُلِهِمْ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنْكَارًا لِوُقُوعِهَا: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} أي: عن أي شيء يتساءلون عن أَمْرِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ النَّبَأُ الْعَظِيمُ: يَعْنِي الْخَبَرَ الهائل المفظع الباهر، قال قتادة: النَّبَأُ الْعَظِيمُ: الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ، لِقَوْلِهِ: {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} يعني الناس فيه مُؤْمِنٌ بِهِ وَكَافِرٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِمُنْكِرِي الْقِيَامَةِ: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، ثُمَّ شَرَعَ تبارك وَتَعَالَى يُبَيِّنُ قُدْرَتَهُ الْعَظِيمَةَ عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْغَرِيبَةِ وَالْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} أَيْ مُمَهَّدَةٌ لِلْخَلَائِقِ ذَلُولًا لَهُمْ، قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} أَيْ جَعَلَهَا لَهَا أَوْتَادًا، أَرْسَاهَا بِهَا وَثَبَّتَهَا وَقَرَّرَهَا، حَتَّى سَكَنَتْ وَلَمْ تَضْطَرِبْ بِمَنْ عَلَيْهَا، ثم قال تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} يعني ذكراً وأنثى، يتمتع كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَيَحْصُلُ التَّنَاسُلُ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أَيْ قَطْعًا لِلْحَرَكَةِ لِتَحْصُلَ الرَّاحَةُ مِنْ كَثْرَةِ التَّرْدَادِ، وَالسَّعْيِ فِي الْمَعَايِشِ في عرض النهار، {وجعلنا الليل لِبَاساً} إي يغشى الناس بظلامه وسواده، كما قال: {والليل إِذَا يَغْشَاهَا}، وقال قتادة: {وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً} أي سكناً، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} أي جعلناه مشرقاً نيراً مُضِيئًا لِيَتَمَكَّنَ النَّاسُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَالذِّهَابِ والمجيء للمعايش والتكسب والتجارات وغير ذلك. وقوله تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} يَعْنِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ في اتساعها وارتفاعها، وإحكامها وإتقانها

وتزينها بالكواكب الثوابت والسيارات، ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} يَعْنِي الشَّمْسَ الْمُنِيرَةَ عَلَى جميع العالم التي يتوهج ضوءها لأهل الأرض كلهم، وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً} قال ابن عباس: المعصرات: الرياح، تَسْتَدِرُّ الْمَطَرَ مِنَ السَّحَابِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنَ الْمُعْصِرَاتِ أي من السحاب (وهو قول عكرمة والضحاك والحسن والربيع بن أنَس الثوري، واختاره ابن جرير وهو الأظهر كما قال ابن كثير)، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ السَّحَابُ الَّتِي تَتَحَلَّبُ بِالْمَطَرِ وَلَمْ تُمْطِرْ بَعْدُ، كَمَا يُقَالُ امْرَأَةٌ مُعْصِرٌ إِذَا دَنَا حَيْضُهَا وَلَمْ تَحِضْ، وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: {مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} يَعْنِي السَّمَاوَاتِ وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُعْصِرَاتِ السَّحَابُ، كَمَا قال تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} أي من بينه، وقوله جلَّ وعلا: {مَآءً ثَجَّاجاً} قال مجاهد: {ثَجَّاجاً}: مُنْصَبًّا، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: مُتَتَابِعًا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَثِيرًا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي صِفَةِ الْكَثْرَةِ الثَّجُّ، وَإِنَّمَا الثَّجُّ الصَّبُّ الْمُتَتَابِعُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ والثج» يعني صب دماء البدن. قلت: وفي حديث المستحاضة: «إِنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا» وَهَذَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الثَّجِّ فِي الصَّبِّ الْمُتَتَابِعِ الْكَثِيرِ، وَاللَّهُ أعلم. وقوله تعالى: {لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} أَيْ لِنَخْرِجَ بِهَذَا الْمَاءِ الْكَثِيرِ الطَّيِّبِ النَّافِعِ الْمُبَارَكِ {حَبّاً} يُدَّخَرُ لِلْأَنَاسِيِّ وَالْأَنْعَامِ، {وَنَبَاتاً} أَيْ خَضِرًا يؤكل رطبه، {وَجَنَّاتٍ} أَيْ بَسَاتِينَ وَحَدَائِقَ مِنْ ثَمَرَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَطَعُومٍ وَرَوَائِحَ مُتَفَاوِتَةٍ، وَإِنْ كَانَ ذلك في بقعة واحدة من مِنَ الْأَرْضِ مُجْتَمَعًا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَلْفَافًا مُجْتَمِعَةً، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

- 17 - إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا - 18 - يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً - 19 - وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا - 20 - وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا - 21 - إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا - 22 - لِلطَّاغِينَ مَآبًا - 23 - لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً - 24 - لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً - 25 - إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً - 26 - جَزَاءً وِفَاقًا - 27 - إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا - 28 - وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً - 29 - وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا - 30 - فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَوْمِ الْفَصْلِ، وَهُوَ (يَوْمُ الْقِيَامَةِ) أَنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِأَجَلٍ مَعْدُودٍ، لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَهُ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} أنه {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} قَالَ مجاهد زمراً زُمَرًا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي تَأْتِي كُلُّ أمة مع رسولها، كقوله تعالى: {يَوْمَ ندعو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قال الْبُخَارِيُّ: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ» قَالُوا: أَرْبَعُونَ يَوْمًا، قَالَ: «أَبَيْتُ»، قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: «أَبَيْتُ»، قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: «أَبَيْتُ»، قَالَ: «ثُمَّ يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ لَيْسَ

من الإنسان شيء إلا بلي إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ (عَجْبُ الذَّنَبِ) وَمِنْهُ يركب الخلق يوم القيامة» (أخرجه البخاري). {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} أَيْ طُرُقًا وَمَسَالِكَ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} كَقَوْلِهِ تعالى: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش}، وقال ههنا {فَكَانَتْ سَرَاباً} أَيْ يُخَيَّلُ إِلَى النَّاظِرِ أَنَّهَا شيء وليست بشيء، وبعد هَذَا تَذْهَبُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا عَيْنَ وَلَا أَثَرَ، كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارزة}، وقوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} أَيْ مُرْصَدَةً مُعَدَّةً {لِّلطَّاغِينَ} وَهُمُ الْمَرَدَةُ الْعُصَاةُ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، {مَآباً} أي مرجعاً ومنقلباً ومصيراً ونزلاء، وقال الحسن وقتادة: لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز النار، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ جَوَازٌ نَجَا وَإِلَّا احْتَبَسَ، وقوله تعالى: {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً} أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا وَهِيَ جَمْعُ حُقْبٍ وَهُوَ الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَانِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِهِلَالٍ الْهَجَرِيِّ: مَا تَجِدُونَ الْحُقْبَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ؟ قَالَ: نَجِدُهُ ثَمَانِينَ سَنَةً، كُلُّ سَنَةٍ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، كُلُّ شَهْرٍ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، كُلُّ يوم ألف سنة، وعن الحسن والسدي: سبعون سنة. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: الْحُقْبُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، (رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ)، وَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: ذُكِرَ لِي أَنَّ الْحُقْبَ الْوَاحِدَ ثلثمائة سنة، أثنا عشر شهراً، كل سنة ثلثمائة وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَأَلْفِ سَنَةٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً} سَبْعُمِائَةُ حُقْبٍ، كل حقب سبعون سنة، كل سنة ثلثمائة وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تعدون، وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَوْلُهُ تعالى: {إِلاَّ مَا شآء ربك} في أهل التوحيد (أخرجه ابن جرير)، قال ابن جرير: والصحيح أنها لا انقضاء لها، كما روي عَنْ سَالِمٍ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَسْأَلُ عَنْ قَوْلِهِ تعالى: {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً} قَالَ أَمَّا الْأَحْقَابُ فَلَيْسَ لَهَا عِدَّةٌ إِلَّا الْخُلُودَ فِي النَّارِ، وَلَكِنْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحُقْبَ سَبْعُونَ سَنَةً، كُلُّ يَوْمٍ كألف سنة مما تعدون، وقال قَتَادَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً} وهو ما لا انقطاع له وكلما مضى حقب جاء حقب بعده. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً} لَا يَعْلَمُ عِدَّةَ هَذِهِ الْأَحْقَابِ إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وذكر لنا أن الحقب الواحد ثمانون سنة، والسنة ثلثمائة وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تعدون (أخرجه ابن جرير أيضاً). وقوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً} أَيْ لَا يَجِدُونَ فِي جَهَنَّمَ بَرْدًا لِقُلُوبِهِمْ، وَلَا شراباً طيباً يتغذون به، ولهذا قال تعالى: {إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً}، وقال أَبُو الْعَالِيَةِ: اسْتَثْنَى مِنَ الْبَرْدِ الْحَمِيمَ، وَمِنَ الشراب الغساق، قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: فَأَمَّا الْحَمِيمُ فَهُوَ الْحَارُّ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ وحموُّه. وَالْغَسَّاقُ هُوَ مَا اجْتَمَعَ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ وَعَرَقِهِمْ وَدُمُوعِهِمْ وَجُرُوحِهِمْ، فَهُوَ بَارِدٌ لَا يُسْتَطَاعُ من برده ولا يواجه من نتته، وقوله تعالى: {جزاءاً وِفَاقاً} أَيْ هَذَا الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ، وِفْقَ أَعْمَالِهِمُ الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانُوا يعملونها في الدنيا، ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} أَيْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ثَمَّ دَارًا يُجَازَوْنَ فِيهَا وَيُحَاسَبُونَ، {وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً}

أَيْ وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَدَلَائِلِهِ عَلَى خلقه التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم فَيُقَابِلُونَهَا بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُعَانَدَةِ، وَقَوْلُهُ {كِذَّاباً} أَيْ تَكْذِيبًا، وهومصدر من غير الفعل، وقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} أَيْ وَقَدْ عَلِمْنَا أعمال العباد وَكَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ، وَسَنَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَقَوْلُهُ تعالى: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} أَيْ يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ ذُوقُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا مِنْ جِنْسِهِ وَآخَرُ مِنْ شكله أزواج، قال قتادة: لم ينزل الله عَلَى أَهْلِ النَّارِ آيَةٌ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ الآية {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إلا عَذَاباً} فهم في مزيد من العذاب أبداً.

- 31 - إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً - 32 - حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً - 33 - وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً - 34 - وَكَأْسًا دِهَاقًا - 35 - لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً - 36 - جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا يَقُولُ تعالى مخبراً عن السعداء، وما أعد الله تعالى لهم من الكرامة والنعيم المقيم، فقال تعالى: {إِنَّ للمتقين مَفَازاً} قال ابن عباس متنزهاً، وقال مجاهد: فازوا فنجوا من النار، والأظهر ههنا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ {حَدَآئِقَ} والحدائق الْبَسَاتِينُ مِنَ النَّخِيلِ وَغَيْرِهَا، {وَأَعْنَاباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} أَيْ وَحُورًا كَوَاعِبَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: {كواكب} أَيْ نَوَاهِدَ، يَعْنُونَ أَنْ ثُدُيَّهُنْ نَوَاهِدَ لَمْ يَتَدَلَّيْنَ، لِأَنَّهُنَّ أَبْكَارٌ (عُرُبٌ أَتْرَابٌ) أَيْ فِي سن واحد، كما تقدم بيانه في سورة الواقعة، روى ابن أبي حاتم، عن ابن أبي القاسم الدمشقي، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ قُمُصَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِتَبْدُوَ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَإِنَّ السَّحَابَةَ لَتَمُرُّ بِهِمْ فَتُنَادِيهِمْ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ أُمْطِرَكُمْ؟ حَتَّى إِنَّهَا لَتُمْطِرُهُمُ الْكَوَاعِبَ الأتراب" (رواه ابن أبي حاتم). وقوله تعالى: {وَكَأْساً دِهَاقاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَمْلُوءَةٌ مُتَتَابِعَةٌ، وقال عكرمة: صافية، وقال مجاهد والحسن {دِهَاقاً} الملأى المترعة، وقال سعيد بن جبير: هي المتتابعة، وقوله تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً} كَقَوْلِهِ: {لا لغو فيه وَلاَ تَأْثِيمٌ} أَيْ لَيْسَ فِيهَا كَلَامٌ لَاغٍ عَارٍ عَنِ الْفَائِدَةِ وَلَا إِثْمٌ كَذِبٌ، بَلْ هِيَ دَارُ السَّلَامِ وَكُلُّ مَا فِيهَا سَالِمٌ مِنَ النَّقْصِ، وَقَوْلُهُ: {جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً} أَيْ هذا الذي ذكرناه، جازاهم الله به بفضله ومنّه وإحسانه {عَطَآءً حِسَاباً} أي كافياً وافياً سالماً كثيراً، وَمِنْهُ حَسْبِيَ اللَّهُ، أَيِ اللَّهُ كافيَّ.

- 37 - رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا - 38 - يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً - 39 - ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً - 40 - إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكافر يا ليتني كُنْتُ تُرَابًا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وأنه رَبُّ السماوات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهُ الرَّحْمَنُ الذس شملت رحمته كل شيء، وقوله تعالى: {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} أَيْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى ابْتِدَاءِ مُخَاطَبَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، كَقَوْلِهِ

تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}، وكقوله تَعَالَى: {يَوْمَ يأتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}، وقوله تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ} اختلف المفسرون في المراد بالروح ههنا ما هو؟ على أقوال: أحدها: ما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ. الثَّانِي: هُمْ بَنُو آدَمَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى صُوَرِ بَنِي آدَمَ وَلَيْسُوا بِمَلَائِكَةٍ وَلَا بِبَشَرٍ قاله ابن عباس ومجاهد. الرَّابِعُ: هُوَ جِبْرِيلُ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جبير والضحّاك. الخامس: أَنَّهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِقَدْرِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، قال ابن عباس: هُوَ مَلِكٌ عَظِيمٌ مِنْ أَعْظَمِ الْمَلَائِكَةِ خَلْقًا. والأشبه عندي - والله أعلم - أنهم بنو آدم (الأظهر أن المراد بالروح هنا (جبريل) عليه السلام كما قال سعيد بن جبير والضحّاك ويؤيده قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين}، فالروح هو جبريل)، وقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} كقوله: {يَوْمَ يأتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}، وكما ثبت في الصحيح: «ولا يتكلم يؤمئذ إلا الرسل»، وقوله تعالى: {وَقَالَ صَوَاباً} أَيْ حَقًّا، وَمِنَ الْحَقِّ {لاَ إله إلا الله}، كما قاله عكرمة. وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} أَيِ الْكَائِنُ لَا مَحَالَةَ، {فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} أَيْ مَرْجِعًا وَطَرِيقًا يَهْتَدِي إِلَيْهِ، وَمَنْهَجًا يَمُرُّ بِهِ عليه، وقوله تعالى: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِتَأَكُّدِ وُقُوعِهِ صَارَ قَرِيبًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا هو آت قريب، {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أَيْ يَعْرِضُ عَلَيْهِ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، قَدِيمِهَا وحديثها كقوله تعالى: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حاضراً}، وكقوله تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}، {ويقول الكافر يا ليتني كُنتُ تُرَاباً} أَيْ يَوَدُّ الْكَافِرُ يومئذٍ أَنَّهُ كَانَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا تُرَابًا، وَلَمْ يَكُنْ خُلِقَ وَلَا خَرَجَ إِلَى الْوُجُودِ، وَذَلِكَ حِينَ عَايَنَ عَذَابَ اللَّهِ، وَنَظَرَ إِلَى أَعْمَالِهِ الْفَاسِدَةِ قَدْ سُطِّرَتْ عَلَيْهِ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ البررة، وقيل: يَوَدُّ ذَلِكَ حِينَ يَحْكُمُ اللَّهُ، بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، فَيَفْصِلُ بَيْنَهَا بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ الَّذِي لَا يَجُورُ، حَتَّى إِنَّهُ لِيَقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَهَا قَالَ لَهَا: كُونِي تُرَابًا فَتَصِيرُ تُرَابًا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} أَيْ كُنْتُ حَيَوَانًا فَأَرْجِعُ إِلَى التُّرَابِ، وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَى هَذَا فِي حَدِيثِ الصُّوَرِ الْمَشْهُورِ، وَوَرَدَ فِيهِ آثَارٌ عَنْ أَبِي هريرة وعبد الله ابن عمرو وغيرهما.

79 - سورة النازعات.

- 79 - سورة النازعات.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً - 2 - وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا - 3 - وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا - 4 - فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا - 5 - فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا - 6 - يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ - 7 - تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ - 8 - قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ - 9 - أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ - 10 - يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ - 11 - أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً - 12 - قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ - 13 - فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ - 14 - فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ {والنازعات غَرْقاً}: الملائكة حِينَ تُنْزَعُ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ، فَمِنْهُمْ مَنْ تأخذ روحه بعسر فتغرق في نزعها، ومنهم مَنْ تَأْخُذُ رُوحَهُ بِسُهُولَةٍ وَكَأَنَّمَا حَلَّتْهُ مِنْ نشاط، وهو قوله: {والناشطات نشطاً} قال ابن عباس وغيره، وعنه {وَالنَّازِعَاتِ}: هِيَ أَنْفُسُ الْكُفَّارِ تُنْزَعُ ثُمَّ تُنْشَطُ ثُمَّ تَغْرَقُ فِي النَّارِ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً}: الْمَوْتُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً}: هِيَ النجوم، والصحيح الأوّل وعليه الأكثرون، أما قوله تعالى: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً} فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ السفن، وقوله تعالى {فالسابقات سَبْقاً}: يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، قَالَ الْحَسَنُ: سَبَقَتْ إِلَى الْإِيمَانِ والتصديق، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الخيل في سبيل الله، وقوله تعالى: {فالمدبرات أَمْراً} قال علي ومجاهد: هي الملائكة تُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، يَعْنِي بأمر ربها عزَّ وجلَّ، وقوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} قَالَ ابْنُ عباس: هما النفختان الأولى والثانية (وهو قول مجاهد والحسن وقتادة والضحّاك وغيرهم)، قال مجاهد: أما الأولى {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} فَكَقَوْلِهِ جلَّت عَظَمَتُهُ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال}، وأما الثانية وهي الرادفة، كَقَوْلِهِ: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}، وفي الحديث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَعَلْتُ صَلَاتَيْ كُلَّهَا عَلَيْكَ؟ قَالَ: «إِذًا يكفيك

الله ما أهمك من ديناك وآخرتك» (أخرجه أحمد) رواه أحمد والترمذي، ولفظ الترمذي: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بما فيه». وقوله تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} فقال ابن عباس: يعني خائفة {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} أي أبصار أصحابها وإنما أضيفت إليها للملابسة، أي ذليلة حقيرة مما عانت من الأهوال. وقوله تعالى: {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} يَعْنِي مُشْرِكِي قريش، يَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَصِيرِ إِلَى {الْحَافِرَةِ} وَهِيَ الْقُبُورُ (قَالَهُ مُجَاهِدٌ) وَبَعْدَ تَمَزُّقِ أَجْسَادِهِمْ وَتَفَتُّتِ عِظَامِهِمْ وَنَخُورِهَا، وَلِهَذَا قَالُوا: {أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} وقرئ: ناخرة أَيُّ بَالِيَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ الْعَظَمُ إِذَا بَلِيَ وَدَخَلَتْ الرِّيحُ فِيهِ، {قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}. وعن ابن عباس وَقَتَادَةَ: الْحَافِرَةُ الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ ابْنُ زيد: الحافرة النار، وما أكثر أسماءها! هِيَ النَّارُ وَالْجَحِيمُ وَسَقَرُ وَجَهَنَّمُ وَالْهَاوِيَةُ وَالْحَافِرَةُ وَلَظَى وَالْحُطَمَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: {تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، قَالَتْ قُرَيْشٌ: لَئِنْ أَحْيَانَا اللَّهُ بَعْدَ أَنْ نَمُوتَ لَنَخْسَرَنَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} أي فإنما هو من أمر اللَّهِ لَا مَثْنَوِيَّةَ فِيهِ وَلَا تَأْكِيدَ فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ تَعَالَى إِسْرَافِيلَ فَيُنْفَخُ فِي الصُّورِ نَفْخَةُ الْبَعْثِ، فَإِذَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ ينظرون، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً}، وقال تعالى: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ كلمح بالبصر} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هو أقرب} قال مجاهد: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} صحية واحدة، وأشد ما يكون الرب عزَّ وجلَّ غضباً على خلقه يوم يبعثهم، قال الحسن البصري: زجرة من الغضب، وقوله تعالى: {فَإِذَا هُم بالساهرة} قال ابن عباس: الساهرة الأرض كلها، وقال عكرمة والحسن: الساهرة وجه الأرض، قال مجاهد: كانوا بأسفلها فأخرجوا إلى أعلاها، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ {فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} قَالَ: أَرْضٌ بَيْضَاءُ عَفْرَاءُ خَالِيَةٌ كَالْخُبْزَةِ النّقي (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ)، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: {فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} يقول اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار}، ويقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً}، ويقول تَعَالَى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً}، وَهِيَ أَرْضٌ لَمْ يَعْمَلْ عَلَيْهَا خَطِيئَةٌ وَلِمَ يهرق عليها دم.

- 15 - هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى - 16 - إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد الْمُقَدَّسِ طُوًى - 17 - اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى - 18 - فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى - 19 - وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى - 20 - فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى - 21 - فَكَذَّبَ وَعَصَى - 22 - ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى - 23 - فَحَشَرَ فَنَادَى - 24 - فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الْأَعْلَى - 25 - فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى - 26 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى

يُخْبِرُ تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ ابتعثه إلى فرعون وأيده الله بِالْمُعْجِزَاتِ، وَمَعَ هَذَا اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَطُغْيَانِهِ حَتَّى أَخَذَهُ اللَّهُ أَخَذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَكَذَلِكَ عاقبة من خالفك يا محمد وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى}، فقوله تعالى: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} أَيْ هَلْ سَمِعْتَ بِخَبَرِهِ {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} أَيْ كَلَّمَهُ نِدَاءٍ {بالواد الْمُقَدَّسِ} أَيِ الْمُطَهَّرِ، {طُوًى} وَهُوَ اسْمُ الْوَادِي على الصحيح، فَقَالَ لَهُ: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أَيْ تَجَبَّرَ وَتَمَرَّدَ وَعَتَا، {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى} أَيْ قُلْ لَهُ هَلْ لَكَ أَنْ تُجِيبَ إِلَى طَرِيقَةٍ وَمَسْلَكٍ تَزَّكَّى بِهِ أَيْ تُسَلِّمُ وَتُطِيعُ، {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} أَيْ أَدُلُّكَ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكَ {فَتَخْشَى} أَيْ فيصير قلبك خاضعاً له مطيعاً خاشعاً، بعد ما كَانَ قَاسِيًا خَبِيثًا بَعِيدًا مِنَ الْخَيْرِ، {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} يَعْنِي فَأَظْهَرَ لَهُ مُوسَى مَعَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْحَقِّ حُجَّةً قَوِيَّةً، وَدَلِيلًا وَاضِحًا على صدق ما جاءه مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، {فَكَذَّبَ وَعَصَى} أَيْ فَكَذَّبَ بِالْحَقِّ، وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ، {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} أَيْ فِي مُقَابَلَةِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ جَمْعُهُ السَّحَرَةَ، لِيُقَابِلُوا مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ المعجزات الباهرات {فَحَشَرَ فَنَادَى} أَيْ فِي قَوْمِهِ، {فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ قَالَهَا فِرْعَوْنٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} أَيْ انْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُ انْتِقَامًا جَعَلَهُ بِهِ عِبْرَةً وَنَكَالًا لِأَمْثَالِهِ مِنَ الْمُتَمَرِّدِينَ فِي الدُّنْيَا، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ المرفود}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ}، وهذا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} أَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ كَلِمَتَاهُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، وَقِيلَ: كفره وعصيانه، والصحيح الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى} أَيْ لِمَنْ يَتَّعِظُ وَيَنْزَجِرُ.

- 27 - أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا - 28 - رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا - 29 - وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا - 30 - وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا - 31 - أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا - 32 - وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا - 33 - مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ يَقُولُ تَعَالَى مُحْتَجًّا عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ فِي إِعَادَةِ الْخَلْقِ بَعْدَ بَدْئِهِ {أَأَنتُمْ} أَيُّهَا النَّاسُ {أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ} يَعْنِي بَلِ السَّمَاءُ أَشَدُّ خَلْقًا مِنْكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ من خلق الناس}، وقوله تعالى: {بَنَاهَا} فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} أَيْ جَعَلَهَا عَالِيَةَ الْبِنَاءِ، بَعِيدَةَ الْفَنَاءِ، مُسْتَوِيَةَ الْأَرْجَاءِ، مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء، وقوله تعالى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أَيْ جَعَلَ لَيْلَهَا مظلماً أسود حالكاً، ونهارها مضيئاً مشرقاً وَاضِحًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَغْطَشَ لَيْلَهَا أَظْلَمَهُ، {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أي أنار نهارها، وقوله تعالى: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فسره بقوله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا} وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «حم السَّجْدَةِ» أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ خلق السَّمَاءِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا دُحِيَتْ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَخْرَجَ مَا كَانَ فِيهَا بِالْقُوَّةِ إلى الفعل، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {دَحَاهَا} وَدَحْيُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى وَشَقَّقَ فِيهَا الْأَنْهَارَ، وَجَعَلَ فِيهَا الْجِبَالَ وَالرِّمَالَ وَالسُّبُلَ وَالْآكَامَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرَ ذلك هنالك، وقوله تعالى: {والجبال أَرْسَاهَا} أي قررها وأثبتها في أماكنها، وهو الحكيم العليم، الرؤوف بخلقه الرحيم. وقوله تعالى: {متاعا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} أي دحا الأرض فأتبع عُيُونَهَا، وَأَظْهَرَ مَكْنُونَهَا، وَأَجْرَى أَنْهَارَهَا، وَأَنْبَتَ زُرُوعَهَا وأشجارها

وَثَبَّتَ جِبَالَهَا لِتَسْتَقِرَّ بِأَهْلِهَا وَيَقَرُّ قَرَارُهَا، كُلُّ ذلك متعاً لِخَلْقِهِ وَلِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَنْعَامِ، الَّتِي يَأْكُلُونَهَا وَيَرْكَبُونَهَا مُدَّةَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهَا فِي هَذِهِ الدَّارِ، إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمَدُ وَيَنْقَضِيَ الْأَجَلُ.

- 34 - فَإِذَا جَآءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى - 35 - يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى - 36 - وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى - 37 - فَأَمَّا مَن طَغَى - 38 - وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - 39 - فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى - 40 - وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى - 41 - فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى - 42 - يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا - 43 - فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا - 44 - إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ - 45 - إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ مَنْ يَخْشَاهَا - 46 - كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا يَقُولُ تَعَالَى: {فَإِذَا جَآءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا تطم على كل أمر هائك مُفْظِعٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}، {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى} أَيْ حِينَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ابْنُ آدَمَ جَمِيعَ عَمَلِهِ، خَيْرِهِ وَشَرِّهِ كما قال تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} أَيْ أَظْهَرَتْ لِلنَّاظِرِينَ فَرَآهَا النَّاسُ عِيَانًا، {فَأَمَّا مَن طَغَى} أَيْ تَمَرَّدَ وَعَتَا، {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أَيْ قَدَّمَهَا عَلَى أَمْرِ دِينِهِ وأُخراه، {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}، أَيْ فَإِنَّ مَصِيرَهُ إِلَى الْجَحِيمِ وَإِنَّ مطْعمه مِنَ الزَّقُّومِ وَمَشْرَبَهُ مِنَ الْحَمِيمِ، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} أَيْ خَافَ الْقِيَامَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَخَافَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، وَنَهَى نَفْسَهُ عَنْ هَوَاهَا، وَرَدَّهَا إِلَى طَاعَةِ مَوْلَاهَا، {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} أَيْ مُنْقَلَبُهُ وَمَصِيرُهُ إِلَى الْجَنَّةِ الْفَيْحَاءِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ} أَيْ لَيْسَ عِلْمُهَا إِلَيْكَ وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، بَلْ مَرَدُّهَا وَمَرْجِعُهَا إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فَهُوَ الذي يعلم وقتها على التعيين {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله}، وقال ههنا: {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ}، وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن وقت السَّاعَةُ؟ قَالَ: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السائل»، وقوله تعالى: {إِنَّمَآ أَنْتَ مُنْذِرُ مَن يَخْشَاهَا} أَيْ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِتُنْذِرَ النَّاسَ، وَتُحَذِّرَهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وعذابه، فمن خشي الله وخاف مقام ربه وَوَعِيدَهُ اتَّبَعَكَ فَأَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَالْخَيْبَةُ وَالْخَسَارُ عَلَى من كَذَّبك وخالفك، وقوله تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} أَيْ إِذَا قَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى الْمَحْشَرِ يَسْتَقْصِرُونَ مُدَّةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، حَتَّى كَأَنَّهَا عِنْدَهُمْ كَانَتْ عَشِيَّةً مِنْ يَوْمٍ أَوْ ضحى من يوم، قال ابن عباس: أَمَّا عَشِيَّةً فَمَا بَيْنَ الظَّهْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، {أَوْ ضُحَاهَا} مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَقْتُ الدُّنْيَا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة.

80 - سورة عبس.

- 80 - سورة عبس.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - عَبَسَ وَتَوَلَّى - 2 - أَن جَآءَهُ الْأَعْمَى - 3 - وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى - 4 - أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى - 5 - أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى - 6 - فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى - 7 - وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى - 8 - وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى - 9 - وَهُوَ يَخْشَى - 10 - فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى - 11 - كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ - 12 - فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ - 13 - فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ - 14 - مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ - 15 - بِأَيْدِي سَفَرَةٍ - 16 - كِرَامٍ بَرَرَةٍ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمًا يُخَاطِبُ بَعْضَ عُظَمَاءِ قُرَيْشٍ، وَقَدْ طَمَعَ فِي إِسْلَامِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُخَاطِبُهُ وَيُنَاجِيهُ إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَ مِمَّنْ أَسْلَمَ قَدِيمًا، فَجَعَلَ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ وَيُلِحُّ عَلَيْهِ، وَوَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لو كف ساعته تلك، ليتمكن من ذَلِكَ الرَّجُلِ طَمَعًا وَرَغْبَةً فِي هِدَايَتِهِ وَعَبَسَ فِي وَجْهِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وأقبل على الآخر، فأنزل الله تعالى، {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَآءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} أَيْ يَحْصُلُ لَهُ زَكَاةٌ وَطَهَارَةٌ فِي نَفْسِهِ، {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} أَيْ يحصل له اتعاظ وازدجار عَنِ الْمَحَارِمِ. {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تصدى} أي أما الغني فأنت تَعَّرض لَهُ لَعَلَّهُ يَهْتَدِي {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} أَيْ مَا أَنْتَ بِمُطَالَبٍ بِهِ إِذَا لَمْ يزك نفسه. {وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى} أَيْ يَقْصِدُكَ وَيَؤُمُّكَ لِيَهْتَدِيَ بِمَا تَقُولُ لَهُ، {فَأَنتَ عَنْهُ تلهَّى} أي تتشاغل. ومن ههنا أمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لا يَخُصَّ بِالْإِنْذَارِ أَحَدًا، بَلْ يُسَاوِي فِيهِ بَيْنَ الشَّرِيفِ وَالضَّعِيفِ، وَالْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ، وَالسَّادَةِ وَالْعَبِيدِ، وَالرِّجَالِ والنساء، والصغار والكبار، ثم الله تعالى يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَلَهُ الحكمة البالغة والحجة الدامغة، روى الحافظ أبو يعلى عن أنَس رضي الله عنه في قوله: {عَبَسَ وتولى} قال: جَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُكَلِّمُ (أُبَيَّ بْنَ خلف) فأعرض عنه، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَآءَهُ الْأَعْمَى} فَكَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ يكرمه (أخرجه الحافظ أبو يعلى)،

وعن عَائِشَةَ قَالَتْ: أُنْزِلَتْ {عَبَسَ وَتَوَلَّى} فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، أَتَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَقُولُ أَرْشِدْنِي. قَالَتْ: وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ قَالَتْ: فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِضُ عَنْهُ، وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ، وَيَقُولُ: «أَتَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا»؟ فَيَقُولُ: لا، ففي هذا أنزلت: {عبس وتولى} (أخرجه ابن جرير وأبو يعلى)، وهكذا ذكر غير وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الله، وقوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي هذه الْوَصِيَّةُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ، فِي إِبْلَاغِ الْعِلْمِ بين شريفهم ووضيعهم، وقال قتادة {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} أي فمن شاء ذكر الله تعالى في جميع أموره، ويحتمل عود الضمير إلى الوحي لدلالة الكلام عليه، وقوله تعالى: {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ} أَيْ هَذِهِ السورة أو العظة {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} أَيْ مُعَظَّمَةٍ مُوَقَّرَةٍ، {مَّرْفُوعَةٍ} أي عالية القدرة، {مُّطَهَّرَةٌ} أي من الدنس والزيادة والنقصان، وقوله تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} قال ابن عباس ومجاهد: هِيَ الْمَلَائِكَةُ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هم القراء، وقال ابن جرير: والصحيح أَنَّ السَّفَرَةَ الْمَلَائِكَةُ، وَالسَّفَرَةُ يَعْنِي بَيْنَ اللَّهِ تعالى وبين خلقه، ومنه السَّفِيرُ الَّذِي يَسْعَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الصُّلْحِ وَالْخَيْرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمِي * وَمَا أَمْشِي بِغِشٍّ إِنْ مَشَيْتُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: سَفَرَةٌ: الْمَلَائِكَةُ: سفرتُ أَصْلَحَتْ بَيْنَهُمْ، وجُعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله تعالى وَتَأْدِيَتِهِ كَالسَّفِيرِ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} أي خَلْقهم كريم، وأخلاقهم بارة طاهرة، وفي الصحيح: «الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شاق له أجران» (أخرجه الجماعة عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً).

- 17 - قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ - 18 - مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ - 19 - مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ - 20 - ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ - 21 - ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ - 22 - ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنْشَرَهُ - 23 - كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ - 24 - فَلْيَنظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ - 25 - أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا - 26 - ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا - 27 - فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً - 28 - وَعِنَباً وَقَضْباً - 29 - وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً - 30 - وَحَدَآئِقَ غُلْباً - 31 - وَفَاكِهَةً وَأَبًّا - 32 - مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِمَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ مِنْ بَنِي آدَمَ: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ}، قال ابن عباس: لعن الإنسان، وهذا الجنس الإنسان المكذب لكثرة تكذيبه {مَآ أَكْفَرَهُ} أي مَا أَشَدَّ كُفْرَهُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَيُّ شَيْءٍ جَعَلَهُ كَافِرًا أَيْ مَا حَمَلَهُ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالْمَعَادِ؟ وَقَالَ قتادة: {مَا أَكْفَرَهُ} مَا أَلْعَنَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى لَهُ كَيْفَ خَلَقَهُ مِنَ الشَّيْءِ الْحَقِيرِ، وَأَنَّهُ قادر على إعادته كما بدأه فقال تعالى: {مَن أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ؟ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} أَيْ قَدَّرَ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أو سعيد {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: ثُمَّ يَسَّرَ

عليه خروجه من بطن أمه (وهو قول عكرمة والضحاك وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هذه كقوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُورًا} أي بيناه له وأوضحناه وسهلنا عليه علمه، وهذا هو الأرجح والله أعلم، وقوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أَيْ إِنَّهُ بَعْدَ خَلْقِهِ لَهُ {أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أَيْ جَعَلَهُ ذَا قَبْرٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ قَبَرْتُ الرَّجُلَ إِذَا وَلِيَ ذَلِكَ منه. وأقبره اللَّهُ، وَطَرَدْتُ عَنِّي فُلَانًا وَأَطْرَدَهُ اللَّهُ، أَيْ جعله طريداً، وقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} أَيْ بَعَثَهُ بَعْدَ موته، ومنه يقال البعث والنشور، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَأْكُلُ التُّرَابُ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا عَجْبَ ذَنَبِهِ»، قِيلَ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مِثْلُ حَبَّةِ خردل منه تنشأون» (أخرجه ابن أبي حاتم) وهذا الحديث ثابت في الصحيحين بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَلَفْظُهُ: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إِلَّا عَجْب الذَّنَب مِنْهُ خُلِقَ وَفِيهِ يركب» (أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة)، وقوله تعالى: {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ} قَالَ ابْنُ جرير: يقول جل ثناؤه كَلَّا لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ هَذَا الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى حقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ، {لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ} يَقُولُ: لَمْ يُؤَدِّ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ من الفرائض لربه عزَّ وجلَّ، عن مجاهد قَالَ: لَا يَقْضِي أَحَدٌ أَبَدًا كُلَّ مَا افترض عليه. وقوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} فِيهِ امْتِنَانٌ، وَفِيهِ اسْتِدْلَالٌ بِإِحْيَاءِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ الْهَامِدَةِ، عَلَى إِحْيَاءِ الْأَجْسَامِ بَعْدَمَا كَانَتْ عَظَامًا بَالِيَةً وَتُرَابًا مُتَمَزِّقًا، {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً} أَيْ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ، {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً} أي أسكناه فيها فيدخل في تخومها، فَنَبَتَ وَارْتَفَعَ وَظَهَرَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً}، فَالْحَبُّ كُلُّ مَا يُذْكَرُ مِنَ الْحُبُوبِ، وَالْعِنَبُ مَعْرُوفٌ، وَالْقَضْبُ هُوَ الْفَصْفَصَةُ الَّتِي تَأْكُلُهَا الدَّوَابُّ رَطْبَةٌ، وَيُقَالُ لَهَا الْقَتُّ أَيْضًا. قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْقَضْبُ الْعَلَفُ، {وَزَيْتُوناً} وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أُدْمٌ وَعَصِيرُهُ أُدْمٌ، وَيُسْتَصْبَحُ بِهِ ويدهن به، {وَنَخْلاً} يؤكل بلحاً وبسراً، وَرُطَبًا وَتَمْرًا، وَنِيئًا وَمَطْبُوخًا، وَيُعْتَصَرُ مِنْهُ رُبٌّ وَخَلٌّ. {وَحَدَآئِقَ غُلْباً} أَيْ بَسَاتِينُ، قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: غُلْبًا نَخْلٌ غِلَاظٌ كِرَامٌ، وَقَالَ ابْنُ عباس ومجاهد: كُلُّ مَا الْتَفَّ وَاجْتَمَعَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا {غُلْباً} الشَّجَرُ الَّذِي يُسْتَظَلُّ بِهِ، وَقَالَ عكرمة: {غُلْباً} أي غلاظ الأوساط، وقوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} أما الفاكهة فكل مَا يَتَفَكَّهُ بِهِ مِنَ الثِّمَارِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَاكِهَةُ كُلُّ مَا أُكِلَ رَطْبًا، وَالْأَبُّ ما أنبت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس، وَفِي رِوَايَةِ عَنْهُ: هُوَ الْحَشِيشُ لِلْبَهَائِمِ، وَقَالَ مجاهد: الأب الكلأ، وعن مجاهد والحسن: الْأَبُّ لِلْبَهَائِمِ كَالْفَاكِهَةِ لِبَنِي آدَمَ، وَعَنْ عَطَاءٍ كُلُّ شَيْءٍ نَبَتَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَهُوَ أَبٌّ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ شَيْءٍ أَنْبَتَتْهُ الْأَرْضُ سوى الفاكهة فهو الأب. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَبُّ: الْكَلَأُ والمرعى. روي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قرأ {عَبَسَ وَتَوَلَّى} فَلَمَّا أَتَيَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} قال: قد عرفنا الْفَاكِهَةُ فَمَا الْأَبُّ؟ فَقَالَ لَعَمْرُكَ يَا ابْنَ الخطاب إِنَّ هذا لَهُوَ التكلف (رواه ابن جرير، وإسناده صحيح كما قال ابن كثير)، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ شكله وجنسه وعينه،

وإلاّ فهو يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ لِقَوْلِهِ: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً}. وقوله تعالى: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} أَيْ عِيشَةً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

- 33 - فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ - 34 - يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ - 35 - وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ - 36 - وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ - 37 - لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ - 38 - وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ - 39 - ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ - 40 - وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ - 41 - تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ - 42 - أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {الصّاخَّةُ} اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، عظَّمه اللَّهُ وَحَذَّرَهُ عباده، وقال البغوي: {الصآخة} يعني يوم الْقِيَامَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَصُخُّ الْأَسْمَاعَ، أَيْ تُبَالِغُ فِي إِسْمَاعِهَا حَتَّى تَكَادَ تُصِمُّهَا، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وأُمّه وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} أي يراهم ويفر منهم؛ لِأَنَّ الْهَوْلَ عَظِيمٌ، وَالْخَطْبَ جَلِيلٌ، قَالَ عِكْرِمَةُ: يَلْقَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ فَيَقُولُ لَهَا: يَا هَذِهِ أَيُّ بَعْلٍ كُنْتُ لكِ؟ فَتَقُولُ: نِعْمَ الْبَعْلُ كُنْتَ، وَتُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَتْ، فَيَقُولُ لَهَا: فإني أطلب إليك اليوم حسنة واحدة تهبيها لِي لَعَلِّي أَنْجُو مِمَّا تَرَيْنَ، فَتَقُولُ لَهُ: ما أيسر ما طلبت، ولكن لَا أُطِيقُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا أَتَخَوَّفُ مِثْلَ الذي تخاف، قال: وإن الرجل ليقى ابنه فيعلق بِهِ فَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ أَيُّ وَالِدٍ كُنْتُ لَكَ؟ فَيُثْنِي بِخَيْرٍ، فَيَقُولُ لَهُ: يَا بُنَيَّ إِنِّي احْتَجْتُ إِلَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ حَسَنَاتِكَ لَعَلِّي أَنْجُو بِهَا مِمَّا تَرَى فَيَقُولُ وَلَدُهُ: يَا أبتِ مَا أَيْسَرَ مَا طَلَبْتَ، وَلَكِنِّي أَتَخَوَّفُ مِثْلَ الَّذِي تَتَخَوَّفُ، فَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُعطيك شَيْئًا، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وأُمّه وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} وفي الحديث الصحيح في أمر الشفاعة: حتى عيسى بن مَرْيَمَ يَقُولُ: لَا أَسْأَلُهُ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي، لا أسأله مريم التي ولدتني، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً غُرْلًا» قَالَ، فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ: يَا رَسُولَ الله ننظر أو يرى بعضنا عورة بعض قال: «لكل امرئ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» أَوْ قَالَ: «مَا أَشْغَلَهُ عن النظر» (أخرجه ابن أبي حاتم). وروى النسائي عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِالْعَوْرَاتِ؟ فَقَالَ: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (انْفَرَدَ بِهِ النسائي من هذه الوجه). وعن أنَس بن مالك قال: سألت عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وأُمّي، إِنِّي سألتك عن حديث فتخبرني أنت به، قال: «إِنْ كَانَ عِنْدِي مِنْهُ عِلْمٌ» قَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ الرِّجَالُ؟ قَالَ: «حُفَاةً عراة» ثم انتظرت ساعة، فقالت: يا رسول اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ النِّسَاءُ؟ قَالَ: «كَذَلِكَ حُفَاةً عُرَاةً»، قَالَتْ: وَاسَوْأَتَاهُ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: «وَعَنْ أَيِّ ذَلِكَ تَسْأَلِينَ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ عَلَيَّ آيَةٌ لَا يَضُرُّكِ كَانَ عَلَيْكِ ثِيَابٌ أَوْ لَا يَكُونُ»، قَالَتْ: أَيَّةُ آيَةٍ هِيَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يغنيه» (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقال البغوي في تفسيره، عَنْ سَوْدَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُبْعَثُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ وَبَلَغَ شُحُومَ الْآذَانِ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاسَوْأَتَاهُ يَنْظُرُ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ؟ فَقَالَ: قَدْ شُغِلَ

النَّاسُ {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (حديث غريب من هذا الوجه). وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} أَيْ يَكُونُ الناس هنالك فريقين، وجوه مُسْفِرَةٌ أَيْ مُسْتَنِيرَةٌ {ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} أَيْ مَسْرُورَةٌ فرحة، قد ظهر البشر على وجوههم، وهؤلاء هم أَهْلُ الْجَنَّةِ، {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} أي يعلوها وتغشاها {قَتَرَةٌ} أي سواد، وفي الحديث: «يُلْجِمُ الْكَافِرَ الْعَرَقُ ثُمَّ تَقَعُ الْغَبَرَةُ عَلَى وجوههم»، فهو قوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غبرة} (أخرجه ابن أبي حاتم)، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} أَيْ يَغْشَاهَا سواد الوجوه، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} أَيِ الْكَفَرَةُ قُلُوبُهُمْ، الْفَجَرَةُ فِي أَعْمَالِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يلدوا إِلاَّ فاجراً كفاراً}

81 - سورة التكوير.

- 81 - سورة التكوير.

[مقدمة] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} وَ {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} وَ {إِذَا السَّمَاءُ انشقت} " أخرجه أحمد.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ - 2 - وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ - 3 - وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ - 4 - وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ - 5 - وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ - 6 - وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ - 7 - وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ - 8 - وإذا الموؤودة سُئِلَتْ - 9 - بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ - 10 - وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ - 11 - وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ - 12 - وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ - 13 - وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ - 14 - عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} يَعْنِي أَظْلَمَتْ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ: ذَهَبَتْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اضْمَحَلَّتْ وذهبت، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذَهَبَ ضَوْءُهَا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: {كُوِّرَتْ} غورت، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: تَقَعُ فِي الْأَرْضِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا في أن التكوير جمع الشيء بعضه على بعض، ومنه تكوير العمامة وجمع الثياب بعضها إلى بعض، فمعنى قوله تعالى: {كُوِّرَتْ} جَمْعُ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لُفَّتْ فَرَمَى بِهَا، وَإِذَا فُعِلَ بِهَا ذَلِكَ ذَهَبَ ضوءها، روي عن ابن عباس أنه قَالَ: يُكَوِّرُ اللَّهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْبَحْرِ وَيَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا دَبُّورًا فتضرمها ناراً (أخرجه ابن أبي حاتم)، وروى البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (رواه البخاري في كتاب بدء الخلق). وقوله تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} أَيِ انْتَثَرَتْ كَمَا قَالَ تعالى: {وَإِذَا الكواكب انتثرت}. وأصل الانكدار الانصباب، قال أبي بن كعب: ست آيات قبل يوم القيامة،

بينما النَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ إِذْ ذَهَبَ ضَوْءُ الشَّمْسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ تَنَاثَرَتِ النُّجُومُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ وَقَعَتِ الْجِبَالُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَتَحَرَّكَتْ وَاضْطَرَبَتْ وَاخْتَلَطَتْ، فَفَزِعَتِ الْجِنُّ إِلَى الْإِنْسِ وَالْإِنْسُ إِلَى الْجِنِّ، وَاخْتَلَطَتِ الدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ، فَمَاجُوا بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} قَالَ اخْتَلَطَتْ، {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} قَالَ: أهملها أهلها، {وإذ الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} قَالَ، قَالَتِ الْجِنُّ: نَحْنُ نَأْتِيكُمْ بِالْخَبَرِ، قَالَ: فَانْطَلَقُوا إِلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا هُوَ نار تتأجج، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ تَصَدَّعَتِ الْأَرْضُ صَدْعَةً وَاحِدَةً إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى، وَإِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الْعُلْيَا، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذ جاءتهم الريح فأماتتهم (أخرجه ابن جرير)، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} أَيْ تَغَيَّرَتْ، وعن يزيد بن أبي مريم مرفوعاً: «انْكَدَرَتْ فِي جَهَنَّمَ، وَكُلُّ مَنْ عَبَدَ مَنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ فِي جَهَنَّمَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عِيسَى وَأُمِّهِ، وَلَوْ رَضِيَا أَنْ يعبدا لدخلاها» (رواه ابن أبي حاتم). وقوله تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} أَيْ زَالَتْ عَنْ أَمَاكِنِهَا وَنُسِفَتْ فَتَرَكَتِ الْأَرْضَ قَاعًا صَفْصَفًا، وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا العشار عُطِّلَتْ} عِشَارُ الْإِبِلِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: {عُطِّلَتْ} تُرِكَتْ وَسُيِّبَتْ، وقال أُبيّ بن كعب: أهملها أهلها، وقال الربيع بن خيثم: لم تحلب وتخلى عنها أربابها، وَالْمَعْنَى فِي هَذَا كُلِّهِ مُتَقَارِبٌ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعِشَارَ مِنَ الْإِبِلِ وَهِيَ خِيَارُهَا وَالْحَوَامِلُ مِنْهَا، واحدتها عشراء قَدِ اشْتَغَلَ النَّاسُ عَنْهَا وَعَنْ كَفَالَتِهَا وَالِانْتِفَاعِ بها، بما دهمهم من الأمر العظيم الهائل، وهو أمر يوم القيامة وَوُقُوعِ مُقَدِّمَاتِهَا، وَقِيلَ: بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ يَوْمَ القيامة يراها أصحابها، كذلك لا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهَا، وَقَدْ قِيلَ فِي الْعِشَارِ: إنها السحاب تعطل عَنِ الْمَسِيرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لِخَرَابِ الدُّنْيَا، والراجح إنها الإبل، والله أعلم. وقوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} أَيْ جُمِعَتْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يحشرون} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُحْشَرُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الذباب، وقال عكرمة: حشرها موتها، وعن ابن عباس قَالَ: حَشْرُ الْبَهَائِمِ مَوْتُهَا وَحَشْرُ كُلِّ شَيْءٍ الموت غير الجن والإنس (أخرجه ابن جرير). وعن الربيع بن خيثم {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} قَالَ: أَتَى عَلَيْهَا أَمْرُ الله، وعن أُبيّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} اخْتَلَطَتْ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأُولَى قَوْلُ مَنْ قَالَ حُشِرَتْ جُمِعَتْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {والطير مَحْشُورَةً} أي مجموعة، وقوله تعالى: {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} قال ابن عباس: يرسل الله عليها الرياح الدبور فتسعرها وتصير ناراً تأجج، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: «لَا يَرْكَبُ الْبَحْرَ إِلَّا حَاجٌّ أَوْ مُعْتَمِرٌ أَوْ غَازٍ، فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا» الْحَدِيثَ، وقال مجاهد {سُجِّرَتْ}: أُوقِدَتْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: يَبِسَتْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وقتادة: غاض ماؤها فذهب فلم يُبْقِ فِيهَا قَطْرَةً، وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: {سُجِّرَتْ} فجّرت، وقال السدي: فتحت وصيرت، وقوله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} أَيْ جُمِعَ كُلُّ شَكْلٍ إلى نظيره كقوله تعالى: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} أي الضُّرَبَاءُ كُلُّ رَجُلٍ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ كَانُوا يعملون عمله، روى النعمان بن بشير أن عمر بن الخطاب خَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} فَقَالَ: تزوجها

أن تؤلف كل شيعة إلى شيعتهم، يُقْرَنُ بَيْنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَيُقْرَنُ بَيْنَ الرَّجُلِ السُّوءِ مَعَ الرَّجُلِ السُّوءِ في النار، فذلك تزويج الأنفس (أخرجه ابن أبي حاتم)، وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قَالَ: ذَلِكَ حِينَ يَكُونُ الناس أزواجاً ثلاثة، وقال مُجَاهِدٍ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قَالَ: الْأَمْثَالُ مِنَ الناس جمع بينهم، واختاره ابن جرير، وقال الحسن البصري وعكرمة: زوجت الأرواح بِالْأَبْدَانِ، وَقِيلَ: زُوِّجَ الْمُؤْمِنُونَ بِالْحُورِ الْعِينِ، وَزُوِّجَ الْكَافِرُونَ بِالشَّيَاطِينِ (حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ). وَقَوْلُهُ تعالى: {وَإِذَا الموءُدة سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} الموءُدة هي التي كانت أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَدُسُّونَهَا فِي التُّرَابِ كَرَاهِيَةَ الْبَنَاتِ، فيوم القيامة تسأل الموءُدة عَلَى أَيِّ ذَنْبٍ قُتلت لِيَكُونَ ذَلِكَ تَهْدِيدًا لقاتلها، فإنه إذا سُئِلَ الْمَظْلُومُ فَمَا ظَنُّ الظَّالِمِ إِذًا؟ وَقَالَ ابن عباس: {وإذا الموءُدة سُئِلَتْ} أي سألت أي طالبت بدمها. وقد وردت أحاديث تتعلق بالموءُدة فقال الإمام أحمد عن جذامة بَنْتِ وَهْبٍ أُخْتِ عُكَّاشَةَ قَالَتْ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاسٍ وَهُوَ يَقُولُ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسَ، فَإِذَا هُمْ يُغِيلُونَ أَوْلَادَهُمْ، وَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا»، ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ وهو الموءُدة سئلت» (أخرجه أحمد ورواه مسلم وأبو داود والترمذي بنحوه). وروى الإمام أحمد عَنْ سَلَمَةَ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَأَخِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّنَا مُلَيْكَةَ كَانَتْ تَصِلُ الرَّحِمَ، وَتُقِرِّي الضَّيْفَ، وَتَفْعَلُ، هَلَكَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهَا شَيْئًا؟ قَالَ: «لَا»، قُلْنَا: فَإِنَّهَا كَانَتْ وَأَدَتْ أُختاً لَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهَا شيئاً؟ قال: «الوائدة والموءُدة فِي النَّارِ، إِلَّا أَنْ يُدْرِكَ الْوَائِدَةَ الْإِسْلَامُ فيعفو الله عنها» (أخرجه أحمد والنسائي). وفي الحديث: «النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّهِيدُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْمَوْلُودُ في الجنة، والموءُدة في الجنة» (أخرجه أحمد من حديث خنساء بنت مُعَاوِيَةَ الصَّرِيمِيَّةُ عَنْ عَمِّهَا قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ فِي الجنة؟ فقال الحديث). وعن قُرَّةُ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: قِيلَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ مَن فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «الموءُدة في الجنة» (هذا مِنْ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهُ). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَنَّةِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ فَقَدْ كَذَبَ، يَقُولُ الله تعالى: {وَإِذَا الموءُدة سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هي المدفونة، وقال عبد الرزاق: جَاءَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَأَدْتُ بَنَاتٍ لِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قال: «أَعْتِقْ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَقَبَةً» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي صَاحِبُ إِبِلٍ، قَالَ: «فانحر عن كل واحدة منهن بدنة» (أخرجه عبد الرزاق والحافظ البزار بنحوه عن عمر بن الخطاب). وقوله تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} قَالَ الضَّحَّاكُ: أُعْطِيَ كُلُّ إِنْسَانٍ صَحِيفَتَهُ بِيَمِينِهِ أَوْ بِشِمَالِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَا ابْنَ آدَمَ تُمْلَى فِيهَا ثُمَّ تُطْوَى، ثُمَّ تُنْشَرُ عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلْيَنْظُرْ رَجُلٌ ماذا يملي في صحيفته، قوله تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: اجْتُذِبَتْ؛ وَقَالَ السُّدِّيُّ: كُشِفَتْ؛ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَنْكَشِطُ فَتَذْهَبُ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} قَالَ

السُّدِّيُّ: أُحْمِيَتْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أُوقَدَتْ، قَالَ: وَإِنَّمَا يُسَعِّرُهَا غَضَبُ اللَّهِ وَخَطَايَا بَنِي آدَمَ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ} قال الضحّاك: أي قربت من أهلها، وقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} هَذَا هُوَ الْجَوَابُ أَيْ إِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ حينئذٍ تَعْلَمُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ، وَأُحْضِرَ ذَلِكَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بعيداً}، وَقَالَ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}. عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} قَالَ عُمَرُ: لَمَّا بَلَغَ {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} قَالَ: لهذا أجري الحديث.

- 15 - فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس - 16 - الجوار الْكُنَّسِ - 17 - وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ - 18 - وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ - 19 - إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ - 20 - ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ - 21 - مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ - 22 - وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ - 23 - وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ - 24 - وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ - 25 - وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ - 26 - فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ - 27 - إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ - 28 - لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ - 29 - وما تشاؤون إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رب العالمين {فَلاَ أُقْسِمُ بالخنَّس * الجوار الكُنَّس} قال علي: هي النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل. وروى ابن جرير عن خَالِدَ بْنَ عَرْعَرَةَ سَمِعْتُ عَلِيًّا، وَسُئِلَ عَنْ {لاَ أُقسم بالخنس * الجوار الكنس} فقال: هي النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل (أخرجه ابن جرير)، وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ: أنها النجوم، وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: إِنَّمَا قِيلَ لِلنُّجُومِ الْخُنَّسُ، أَيْ فِي حَالِ طُلُوعِهَا، ثُمَّ هِيَ جِوَارٌ فِي فَلَكِهَا، وَفِي حَالِ غَيْبُوبَتِهَا يُقَالُ لَهَا كُنَّسٌ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَوَى الظَّبْيُ إِلَى كناسه، إذا تغيب فيه، وروى الأعمش عن عَبْدُ اللَّهِ {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} قَالَ: بَقَرُ الوحش، وقال ابن عباس {الجوار الكنس} البقر تكنس إلى الظل، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الظِّبَاءُ (وكذا قال سعيد بن جبير ومجاهد والضحّاك)، وقال أبو الشعثاء: هي الظباء والبقر، وتوقف ابن جرير في المراد بقوله: {الخنس الجوار الكنس} هل هو النجوم أو الظباء أو بقر الْوَحْشِ؟ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادًا، وقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} فِيهِ قَوْلَانِ (أَحَدُهُمَا): إِقْبَالُهُ بِظَلَامِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَظْلَمَ: وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا نَشَأَ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِذَا غشي الناس، (والثاني): إدباره، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِذَا عَسْعَسَ} إِذَا أَدْبَرَ، وَكَذَا قال مجاهد وقتادة والضحّاك {إذا عسعس} أي إذا ذهب فتولى، وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {إِذَا عَسْعَسَ} إذا أدبر، قال لقوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أَيْ أَضَاءَ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ أَيْضًا: حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ لَهُ تَنَفَّسَا * وَانَجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وَعَسْعَسَا

أي أدبر، وعندي أن المراد بقوله: {إِذَا عَسْعَسَ} إِذَا أَقْبَلَ، وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ في الإدبار أيضاً، لكن الإقبال ههنا أنسب، كأنه أقسم بِاللَّيْلِ وَظَلَامِهِ إِذَا أَقْبَلَ، وَبِالْفَجْرِ وَضِيَائِهِ إِذَا أشرق، كما قال تعالى: {والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى}، وقال تعالى: {والضحى * والليل إِذَا سجى}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} وغير ذلك من الآيات، وقوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} قَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا طَلَعَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا أَضَاءَ وَأَقْبَلَ، وَقَالَ سَعِيدُ بن جبير: إذا نشأ، وقال ابن جرير: يعني ضوء النهار إذا أقبل وتبيّن. وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَتَبْلِيغُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، أَيْ مَلَكٌ شَرِيفٌ حَسَنُ الْخَلْقِ بَهِيُّ الْمَنْظَرِ، وَهُوَ (جِبْرِيلُ) عَلَيْهِ الصلاة والسلام، {ذِي قُوَّةٍ} كقوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى * ذُو مِرَّةٍ} أَيْ شَدِيدُ الْخَلْقِ شَدِيدُ الْبَطْشِ وَالْفِعْلِ، {عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} أَيْ لَهُ مَكَانَةٌ عِنْدَ الله عزَّ وجلَّ ومنزلة رفيعة، {مُّطَاعٍ ثَمّ} أَيْ لَهُ وَجَاهَةٌ وَهُوَ مَسْمُوعُ الْقَوْلِ مُطَاعٌ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، قَالَ قَتَادَةُ: {مُّطَاعٍ ثَمَّ} أَيْ فِي السَّمَوَاتِ، يَعْنِي لَيْسَ هو من أفناد (أفناد: جماعات) الْمَلَائِكَةِ، بَلْ هُوَ مِنَ السَّادَةِ وَالْأَشْرَافِ، مُعْتَنَى به انتخب لهذه الرسالة العظيمة، وقوله تعالى: {أَمِينٍ} صِفَةٌ لِجِبْرِيلَ بِالْأَمَانَةِ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا، أَنَّ الرَّبَّ عزَّ وجلَّ يُزَكِّي عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ الْمَلَكِيَّ جِبْرِيلَ كَمَا زَكَّى عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ الْبَشَرِيَّ محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} قال الشعبي وميمون: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} يَعْنِي وَلَقَدْ رَأَى مُحَمَّدُ (جِبْرِيلَ)، الَّذِي يَأْتِيهِ بِالرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا لَهُ سِتُّمِائَةُ جَنَاحٍ، {بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} أَيِ البيِّن، وهي الرؤية الأولى كَانَتْ بِالْبَطْحَاءِ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الأعلى}، والظاهر أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الرُّؤْيَةَ وَهِيَ الْأُولَى، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يغشى} فَتِلْكَ إِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ النَّجْمِ، وَقَدْ نزلت بعد سورة الإسراء، وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ على الغيب بِظَنِينٍ} أَيْ بِمُتَّهَمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالضَّادِ، أَيْ بِبَخِيلٍ بَلْ يَبْذُلُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ. قال سفيان بن عيينه: (ظنين) و (ضنين) سواء، أي ما هو بفاجر، و (الظنين) المتهم، و (الضنين) الْبَخِيلُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْقُرْآنُ غَيْبًا فَأَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَمَا ضَنَّ بِهِ عَلَى الناس بل نشره وبلغه وبذله لكل من أراده، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ قِرَاءَةَ الضَّادِ. (قُلْتُ): وَكِلَاهُمَا متواتر ومعناه صحيح كما تقدَّم، وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} أَيْ وَمَا هَذَا الْقُرْآنُ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهِ وَلَا يُرِيدُهُ وَلَا يَنْبَغِي له، كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السمع لمعزولون}. وقوله تعالى: {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ}؟ فَأَيْنَ تَذْهَبُ عُقُولُكُمْ فِي تَكْذِيبِكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، مع ظهوره ووضوحه وبيان كونه حقاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ! كَمَا قَالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِوَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ حِينَ قَدِمُوا مُسْلِمِينَ، وَأَمَرَهُمْ فَتَلَوْا عَلَيْهِ شَيْئًا من قرآن مسيلمة الكذّاب الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْهَذَيَانِ وَالرَّكَاكَةِ فَقَالَ: «ويحكم أين تذهب عقولكم؟ وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إِلٍّ» أَيْ مِنْ إِلَهٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} أَيْ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ

وعن طاعته، وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ ذِكْرٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ يَتَذَكَّرُونَ بِهِ وَيَتَّعِظُونَ {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} أي لمن أراد الهداية فعليه بهذا القرآن فإنه مناجاة لَهُ وَهِدَايَةٌ، وَلَا هِدَايَةَ فِيمَا سِوَاهُ، {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي ليست المشيئة موكولة إليكم، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله تعالى رَبُّ العالمين، قَالَ سفيان الثوري: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} قَالَ أَبُو جَهْلٍ: الْأَمْرُ إِلَيْنَا إِنْ شِئْنَا اسْتَقَمْنَا، وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَسْتَقِمْ، فأنزل الله تعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ العالمين}.

82 - سورة الانفطار.

- 82 - سورة الانفطار.

[مقدمة] قد تقدم مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْقِيَامَةِ رَأْيَ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} وَ {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} وَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ".

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ - 2 - وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ - 3 - وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ - 4 - وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ - 5 - عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ - 6 - يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ - 7 - الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ - 8 - فِي أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ - 9 - كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ - 10 - وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ - 11 - كِرَاماً كَاتِبِينَ - 12 - يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {إِذَا السمآء انفطرت} أي انشقت، كما قال تعالى: {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ به}، {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} أَيْ تَسَاقَطَتْ، {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: فَجَّرَ اللَّهُ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: فَجَّرَ اللَّهُ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ فذهب ماؤها، وقال قتادة: اختلط عذبها بمالحها، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُلِئَتْ. {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بُحِثَتْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: تُبَعْثَرُ - تُحَرَّكُ فَيَخْرُجُ مَنْ فِيهَا، {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} أَيْ إِذَا كَانَ هَذَا حَصَلَ هَذَا، وقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم}؟ هذا تهديد من الله للإنسان (الكلام تهديد كما قال ابن كثير، وليس كما زعم بعضهم أنه إرشاد إلى الجواب حتى قالوا:) والمعنى: مَا غَرَّكَ يَا ابْنَ آدَمَ {بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} أَيِ الْعَظِيمِ، حَتَّى أَقْدَمْتَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَقَابَلْتَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ؟ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "يقول الله تعالى يوم القيامة: يا ابن آدم ما غرك بي؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين"؟ وعن يحيى البكاء قال: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} قال ابن عمر: غره والله جهله، وقال قتادة: ما غرّ ابن آدم غيرهذا العدو الشيطان، وقال الفضل

ابن عِيَاضٍ: لَوْ قَالَ لِي: مَا غَرَّكَ بِي؟ لَقُلْتُ: سُتُورُكَ الْمُرْخَاةُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: لَوْ قَالَ لِي: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟ لقلت: غرني كرم الكريم، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَةِ: إِنَّمَا قَالَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ دُونَ سَائِرِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، كَأَنَّهُ لَقَّنَهُ الْإِجَابَةَ، وَهَذَا الَّذِي تَخَيَّلَهُ هَذَا الْقَائِلُ لَيْسَ بِطَائِلٍ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِاسْمِهِ الْكَرِيمِ، لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَابَلَ الْكَرِيمُ بالأفعال القبيحة وأعمال الفجور، وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} أَيْ جَعَلَكَ سَوِيًّا مستقيماً معتدل القامة، منتصباً في أحسن الهيئات والأشكال، روى الإمام أحمد عن بشر بْنِ جَحَّاشٍ الْقُرَشِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ، فَوَضَعَ عَلَيْهَا أُصْبُعَهُ ثُمَّ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ أنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مثل هذا؟ حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي: قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ وأنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ؟ " (أخرجه أحمد وابن ماجه). وقوله تعالى: {فِي أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: فِي أَيِّ شَبَهِ أَبٍ أَوْ أُمٍّ، أو خال أوعم، وقال عكرمة في قوله تعالى: {فِي أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} إِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ قِرْدٍ، وَإِنْ شَاءَ فِي صُورَةٍ خِنْزِيرٍ، وَكَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ: إِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ كَلْبٍ، وَإِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ حِمَارٍ، وَإِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ خِنْزِيرٍ، وقال قتادة: قَادِرٌ وَاللَّهِ رَبُّنَا عَلَى ذَلِكَ، وَمَعْنَى هَذَا القول عندهم أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ النُّطْفَةِ عَلَى شَكْلٍ قَبِيحٍ، مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُنْكَرَةِ الْخَلْقِ، وَلَكِنْ بِقُدْرَتِهِ وَلُطْفِهِ وَحِلْمِهِ، يَخْلُقُهُ عَلَى شَكْلٍ حَسَنٍ مُسْتَقِيمٍ، مُعْتَدِلٍ تَامٍّ حَسَنِ الْمَنْظَرِ والهيئة، وقوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين} أي إِنَّمَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى مُوَاجَهَةِ الْكَرِيمِ وَمُقَابَلَتِهِ بِالْمَعَاصِي، تكذيب قُلُوبِكُمْ بِالْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِن عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} يَعْنِي وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَمَلَائِكَةً حَفَظَةً كِرَامًا، فَلَا تُقَابِلُوهُمْ بِالْقَبَائِحِ، فَإِنَّهُمْ يَكْتُبُونَ عَلَيْكُمْ جَمِيعَ أَعْمَالِكُمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ عَنِ التَّعَرِّي، فَاسْتَحْيُوا مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ الَّذِينَ معكم الْكَاتِبِينَ الَّذِينَ لَا يُفَارِقُونَكُمْ إِلَّا عِنْدَ إِحْدَى ثَلَاثِ حَالَاتٍ: الْغَائِطِ وَالْجَنَابَةِ وَالْغُسْلِ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بجرم حائط أو ببعيره". وفي الحديث: "مَا مِنْ حَافِظَيْنِ يَرْفَعَانِ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ مَا حَفِظَا فِي يَوْمٍ فَيَرَى فِي أول الصحيفة، وفي آخرها استغفاراً إِلَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ما بين طرفي الصحيفة" (أخرجه الحافظ البزار عن أنَس بن مالك مرفوعاً)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَعْرِفُونَ بَنِي آدَمَ - وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَيَعْرِفُونَ أَعْمَالَهُمْ - فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى عَبْدٍ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ ذَكَرُوهُ بَيْنَهُمْ وَسَمَّوْهُ، وَقَالُوا: أَفْلَحَ اللَّيْلَةَ فُلَانٌ، نَجَا اللَّيْلَةَ فُلَانٌ، وَإِذَا نَظَرُوا إِلَى عَبْدٍ يعمل بمعصية الله ذكروه بينهم وسموه وقالوا: هلك الليلة فلان" (أخرجه البزار أيضاً وفي سنده سلام المدائني ليّن الحديث).

- 13 - إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ - 14 - وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ - 15 - يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ - 16 - وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ - 17 - وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ - 18 - ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ - 19 - يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا يَصِيرُ الْأَبْرَارُ إِلَيْهِ مِنَ النَّعِيمِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَطَاعُوا اللَّهَ عزَّ وجلَّ ولم يقابلوه بالمعاصي، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْفُجَّارُ مِنَ الْجَحِيمِ وَالْعَذَابِ الْمُقِيمِ، وَلِهَذَا قَالَ: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} أَيْ يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَالْقِيَامَةِ، {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ} أَيْ لَا يَغِيبُونَ عَنِ الْعَذَابِ سَاعَةً وَاحِدَةً، وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا، وَلَا يُجَابُونَ إِلَى مَا يَسْأَلُونَ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الرَّاحَةِ وَلَوْ يَوْمًا وَاحِدًا، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} تَعْظِيمٌ لشِأن يوم القيامة، ثم أكده بقوله تعالى: {ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} أي لا يقدر أحد عَلَى نَفْعِ أَحَدٍ وَلَا خَلَاصِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ، إِلَّا أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ ويرضى، وفي الحديث قال عليه السلام: «يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ لا أملك لكم من الله شيئاً»، ولهذا قال: {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} كقوله تَعَالَى: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ * لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} قَالَ قَتَادَةُ: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لنفسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وَالْأَمْرُ وَاللَّهِ الْيَوْمَ لله، لكنه لا ينازعه فيه يومئذٍ أحد.

83 - سورة المطففين.

- 83 - سورة المطففين.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ - 2 - الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ - 3 - وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ - 4 - أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ - 5 - لِيَوْمٍ عَظِيمٍ - 6 - يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العالمين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله تعالى: {وَيْلٌ للمطفِّفين} فحسنوا الكيل بعد ذلك (أخرجه النسائي وابن ماجه)، وروى ابن جرير، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَيُوَفُّونَ الْكَيْلَ، قَالَ: وَمَا يَمْنَعُهُمْ أَنْ يُوَفُّوا الكيل، وقد قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ - حتى بلغ يقوم الناس لرب العالمين} (رواه ابن جرير)، والمراد بالتطفيف ههنا الْبَخْسُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، إِمَّا بِالِازْدِيَادِ إِنِ اقتضى من الناس، وإما النقصان إِنْ قَضَاهُمُ، وَلِهَذَا فَسَّرَ تَعَالَى الْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ وعدهم بالخسار والهلاك بقوله تعالى: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} أَيْ مِنَ النَّاسِ {يَسْتَوْفُونَ} أَيْ يَأْخُذُونَ حَقَّهُمْ بِالْوَافِي وَالزَّائِدِ، {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} أَيْ يَنْقِصُونَ، وَالْأَحْسَنُ أن يجعل «كالوا ووزنوا» متعدياً ويكون (هم) في محل نصب، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ فِي الْكَيْلِ والميزان فقال تعالى: {وَأَوْفُواْ الكيل إِذا كِلْتُمْ}، وقال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تخسروا الميزان}، وأهلك قَوْمَ شُعَيْبٍ وَدَمَّرَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يَبْخَسُونَ الناس في الميزان والمكيال، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لَهُمْ: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ}؟ أي ما يَخَافُ أُولَئِكَ مِنَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ يَعْلَمُ السَّرَائِرَ وَالضَّمَائِرَ، فِي يَوْمٍ عَظِيمِ الْهَوْلِ، كَثِيرِ الْفَزَعِ جَلِيلِ الْخَطْبِ، مَنْ خَسِرَ فيه أدخل ناراً حامية؟ وقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ يَقُومُونَ حفاة عراة، في موقف صعب حرج، ضيق على المجرم، ويغشاهم مِنْ أَمْرِ الله تعالى ما تعجز القوى والحواس عنه، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العالمين حتى يغيب أحدهم في شحه إلى أنصاف أذنيه» (أخرجه البخاري ومسلم والإمام مالك)، وفي رواية لأحمد عن النبي

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، لِعَظَمَةِ الرَّحْمَنِ عزَّ وجلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى إِنَّ الْعَرَقَ لَيُلْجِمُ الرِّجَالَ إلى أنصاف آذانهم (أخرجه الإمام أحمد). حديث آخر: وروى الإمام أحمد عن المقداد بن الْأَسْوَدِ الكِنْدي قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قدر مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ - قَالَ - فَتُصْهِرُهُمُ الشَّمْسُ فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يأخذه إلجاماً» (رواه مسلم والترمذي وأحمد). حديث آخر: روى الإمام أحمد، عن عقبة بْنِ عَامِرٍ قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الْأَرْضِ فَيَعْرَقُ النَّاسُ، فَمِنَ النَّاسِ مَن يَبْلُغُ عَرَقُهُ عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى نِصْفِ الساق، ومنهم من يبلغ رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْعَجُزَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْخَاصِرَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ مَنْكِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ وَسَطَ فِيهِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَأَلْجَمَهَا فَاهُ - رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشير بيده هَكَذَا - وَمِنْهُمْ مَنْ يُغَطِّيهِ عَرَقُهُ» وَضَرَبَ بِيَدِهِ، إشارة (أخرجه الإمام أحمد)، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنْ ضِيقِ الْمَقَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَنِ ابْنِ مسعود: يقومون أربعين سنة رافعي رؤوسهم إِلَى السَّمَاءِ لَا يُكَلِّمُهُمْ أَحَدٌ قَدْ أَلْجَمَ العرق برهم وفاجرهم.

- 7 - كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ - 8 - وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ - 9 - كِتَابٌ مَرْقُومٌ - 10 - وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ - 11 - الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ - 12 - وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ - 13 - إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ - 14 - كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ - 15 - كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ - 16 - ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ - 17 - ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ يقول تعالى حَقًّا: {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} أَيْ إِنَّ مَصِيرَهُمْ وَمَأْوَاهُمْ {لَفِي سِجِّينٍ} فِعِيلٍ مِنَ السجن، وهو الضيق كما يقال: فسّيق وَخِمِّيرٌ وَسِكِّيرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا عَظُمَ أَمْرُهُ فقال تعالى: {مَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ}؟ أَيْ هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وسجين مقيم، وعذاب أَلِيمٌ، ثم قَالَ قَائِلُونَ: هِيَ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَقَدْ تقدم في حديث البراء بن عازب يَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فِي رُوحِ الْكَافِرِ «اكتبوا كتابه في سجين»، وقيل: بئر في جهنم، وَالصَّحِيحُ أَنْ سِجِّينًا مَأْخُوذٌ مِنَ السَّجْنِ وَهُوَ الضِّيقُ، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلُّ مَا تَسَافَلَ مِنْهَا ضاق وكل ما تعالى منها اتسع، وَلَمَّا كَانَ مَصِيرُ الْفُجَّارِ إِلَى جَهَنَّمَ وَهِيَ أَسْفَلُ السَّافِلِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسفل السافلين * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} وقال ههنا: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} وَهُوَ يَجْمَعُ الضِّيقَ وَالسُّفُولَ كما قال تعالى: {وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً}، وقوله تعالى: {كِتَابَ مَّرْقُومٌ} لَيْسَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ}، وَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ لِمَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى سِجِّينٍ، أَيْ مَرْقُومٌ مَكْتُوبٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، لَا يُزَادُ فِيهِ أَحَدٌ ولا يتقص منه أحد، ثم قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أَيْ إِذَا صَارُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَا أَوْعَدَهُمُ اللَّهُ مِنَ

السجن والعذاب المهين، {وَيْلٌ} لهم والمراد مِنْ ذَلِكَ الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ كَمَا يُقَالُ: وَيْلٌ لفلان، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مُفَسِّرًا لِلْمُكَذِّبِينَ الْفُجَّارِ الْكَفَرَةِ: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أَيْ لَا يُصَدِّقُونَ بِوُقُوعِهِ، وَلَا يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ، وَيَسْتَبْعِدُونَ أَمْرَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} أَيْ مُعْتَدٍ فِي أَفْعَالِهِ مِنْ تَعَاطِي الْحَرَامِ، وَالْمُجَاوَزَةِ فِي تَنَاوُلِ الْمُبَاحِ، وَالْأَثِيمِ فِي أَقْوَالِهِ إِنْ حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِنْ وَعَدَ أخلف، وإن خاصم فجر. وقوله تعالى: {إِذاً تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي إذا سمع كلام الله تعالى مِنَ الرَّسُولِ يُكَذِّبُ بِهِ، وَيَظُنُّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُفْتَعَلٌ مَجْمُوعٌ مِنْ كُتُبِ الْأَوَائِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين}، وقال تَعَالَى: {وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بكرة وأصيلاً} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، وَلَا كَمَا قَالُوا: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، بَلْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيلُهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا حَجَبَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، مَا عَلَيْهَا مِنَ الرَّيْنِ الَّذِي قَدْ لَبِسَ قُلُوبَهُمْ، مِنْ كَثْرَةِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وَالرَّيْنُ يَعْتَرِي قُلُوبَ الْكَافِرِينَ، والغَيْن للمقربين، وقد روى الترمذي والنسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نكتةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ مِنْهَا صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} " (أخرجه الترمذي والنسائي، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ: "إِنَّ العبد إذا أخطأ نكت في قلبه نكتة سوداء، فَإِنْ هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فهو الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} " (هذا لفظ النسائي وقد رواه أحمد بنحوه). وقال الحسن البصري: هو الذَّنْبِ حَتَّى يَعْمَى الْقَلْبُ فَيَمُوتُ (وَكَذَا قَالَ مجاهد وقتادة وابن زيد)، وقوله تَعَالَى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} أي ثم هم يوم القيامة مَحْجُوبُونَ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ وَخَالِقِهِمْ، قَالَ الْإِمَامُ الشافعي: وفي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ عزَّ وجلَّ يومئذٍ، وهذا الذي قاله فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ هَذِهِ الآية، كما دل عليه منطوق قَوْلِهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا ناظرة}، وَكَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ الْمُتَوَاتِرَةُ، فِي رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ عزَّ وجلَّ فِي الدار الآخرة، قال الحسن: يُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ، ثُمَّ يُحْجَبُ عَنْهُ الْكَافِرُونَ، وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ يوم غدوة وعشية، وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ} أَيْ ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا الْحِرْمَانِ عَنْ رُؤْيَةِ الرَّحْمَنِ، مِنْ أَهْلِ النِّيرَانِ، {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ، عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، والتصغير والتحقير.

- 18 - كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ - 19 - وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ - 20 - كِتَابٌ مَّرْقُومٌ - 21 - يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ - 22 - إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ - 23 - عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ - 24 - تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ - 25 - يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَخْتُومٍ - 26 - خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ - 27 - وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ - 28 - عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون

يَقُولُ تَعَالَى: حَقًّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ - وَهُمْ بِخِلَافِ الْفُجَّارِ - {لَفِي عِلِّيِّينَ} أَيْ مَصِيرُهُمْ إِلَى عليين وهو بخلاف سجين، روى الأعمش عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ قَالَ: سَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا - وَأَنَا حَاضِرٌ - عَنْ سِجِّينٍ؟ قَالَ: هِيَ الْأَرْضُ السَّابِعَةُ وَفِيهَا أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ، وَسَأَلَهُ عَنْ عِلِّيِّينَ؟ فَقَالَ: هِيَ السَّمَاءُ السَّابِعَةُ وَفِيهَا أرواح المؤمنين (وهكذا قال غير واحد من السلف أنها السماء السابعة)، وقال ابن عباس: {لَفِي عِلِّيِّينَ} يعني الجنة، وفي رواية عنه: أعمالهم في السماء عند الله، وَقَالَ قَتَادَةُ: عِلِّيُّونَ سَاقُ الْعَرْشِ الْيُمْنَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: عِلِّيُّونَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِلِّيِّينَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُلُوِّ، وَكُلَّمَا عَلَا الشَّيْءُ وارتفع عظم واتسع، ولهذا قال تعالى مُعَظِّمًا أَمْرَهُ وَمُفَخِّمًا شَأْنَهُ: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ}؟ ثم قال تعالى مُؤَكِّدًا لِمَا كَتَبَ لَهُمْ: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ المقربون} وهم الملائكة قاله قتادة، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَشْهَدُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ فِي نَعِيمٍ مُقِيمٍ، وجنات فيها فضل عميم {وعلى الْأَرَائِكِ} وَهِيَ السُّرُرُ تَحْتَ الْحِجَالِ {يَنظُرُونَ} قِيلَ: مَعْنَاهُ يَنْظُرُونَ فِي مُلْكِهِمْ، وَمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَالْفَضْلِ الَّذِي لَا يَنْقَضِي وَلَا يَبِيدُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} إِلَى الله عزَّ وجلَّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفَيْ سَنَةٍ يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يرى أدناه وإن أعلاهم لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ فِي اليوم مرتين». وقوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} أَيْ تَعْرِفُ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ فِي وُجُوهِهِمْ {نَضْرَةَ النَّعِيمِ} أي صفة الترافة وَالسُّرُورِ، وَالدِّعَةِ وَالرِّيَاسَةِ، مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النعيم العظيم. وقوله تعالى: {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} أَيْ يُسْقَوْنَ مِنْ خَمْرٍ مِنَ الْجَنَّةِ، وَالرَّحِيقُ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ (وهو قول ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ)، وفي الحديث: «أيما مؤمن سقى مؤمناً شربة ماء عَلَى ظمأٍ سَقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ كساه الله من خضر الجنة» (أخرجه أحمد عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً)، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} أي خلطه مسك، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: طَيَّبَ اللَّهُ لَهُمُ الْخَمْرَ، فَكَانَ آخِرُ شَيْءٍ جُعِلَ فِيهَا مِسْكٌ خُتِمَ بِمِسْكٍ، وقال الحسن: عاقبته مسك، وقال ابن جرير، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} قَالَ: شَرَابٌ أَبْيَضُ مِثْلُ الْفِضَّةِ يَخْتِمُونَ بِهِ شَرَابَهُمْ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِيهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا، لَمْ يَبْقَ ذُو رُوحٍ إلاّ وجد طيبها (أخرجه ابن جرير)، وقال مجاهد: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} طيبه مسك، وقوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} أَيْ وَفِي مِثْلِ هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون، وليتباهى وليستبق إلى مثله المستبقون كقوله تعالى: {لِمِثْلِ هذا فليعمل العاملون}، وقوله تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} أي مزاج هَذَا الرَّحِيقِ الْمَوْصُوفِ {مِن تَسْنِيمٍ} أَيْ مِنْ شَرَابٍ يُقَالُ لَهُ تَسْنِيمٌ، وَهُوَ أَشْرَفُ شَرَابِ أهل الجنة وأعلاه، وَلِهَذَا قَالَ: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} أَيْ يَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا، وَتُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا (قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ وَقَتَادَةُ وغيرهم).

- 29 - إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ - 30 - وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ - 31 - وَإِذَا

انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ - 32 - وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ - 33 - وما أرسولا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ - 34 - فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مَن الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ - 35 - عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ - 36 - هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُجْرِمِينَ، أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا يَضْحَكُونَ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ وَيَحْتَقِرُونَهُمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِالْمُؤْمِنِينَ يَتَغَامَزُونَ عَلَيْهِمْ أَيْ مُحْتَقِرِينَ لَهُمْ {وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ} أي وإذا انْقَلَبَ: أَيْ رَجَعَ هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمُ انْقَلَبُوا إِلَيْهَا فَاكِهِينَ، أَيْ مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا، وَمَعَ هَذَا مَا شَكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحقرونهم وَيَحْسُدُونَهُمْ {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} أَيْ لِكَوْنِهِمْ عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {وما أرسولا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} أَيْ وَمَا بُعِثَ هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمُونَ، حافظين على هؤلاء المؤمنين، ما يصدر عنهم مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَلَا كُلِّفُوا بِهِمْ، فَلِمَ اشْتَغَلُوا بِهِمْ وَجَعَلُوهُمْ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ؟ كَمَا قَالَ تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ}، ولهذا قال ههنا: {فَالْيَوْمَ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ {الَّذِينَ آمَنُواْ مَن الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا ضَحِكَ بِهِمْ أُولَئِكَ {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} أَيْ إِلَى الله عزَّ وجلَّ، يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}؟ أَيْ هَلْ جُوزِيَ الْكُفَّارُ عَلَى مَا كَانُوا يُقَابِلُونَ به المؤمنين، من الاستهزاء والسخرية أَمْ لَا، يَعْنِي قَدْ جُوزُوا أَوْفَرَ الْجَزَاءِ وأتمه وأكمله.

84 - سورة الانشقاق.

- 84 - سورة الانشقاق.

[مقدمة] روى البخاري، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: "صلَّيتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فَسَجَدَ، فقلت له، فقال: سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ" (أخرجه البخاري ومسلم والنسائي).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ - 2 - وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ - 3 - وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ - 4 - وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ - 5 - وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ - 6 - يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ - 7 - فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ - 8 - فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا - 9 - وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا - 10 - وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ - 11 - فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا - 12 - وَيَصْلَى سَعِيراً - 13 - إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً - 14 - إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ - 15 - بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً يَقُولُ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} أَيْ اسْتَمَعَتْ لِرَبِّهَا وَأَطَاعَتْ أَمْرَهُ فِيمَا أَمَرَهَا بِهِ مِنَ الانشقاق، وذلك يوم القيامة {وحُقَّتْ} أَيْ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ أَمْرَهُ، لِأَنَّهُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ، بَلْ قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَذَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، ثُمَّ قَالَ: {وَإِذَا الْأَرْضُ مدَّت} أي بسطت وفرشت ووسعت، وفي الحديث «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَدَّ اللَّهُ الْأَرْضَ مَدَّ الْأَدِيمِ، حَتَّى لَا يَكُونَ لِبَشَرٍ مِنَ الناس إلاّ موضع قدميه» (أخرجه ابن جرير عن علي بن الحسين مرفوعاً). وقوله تعالى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} أَيْ أَلْقَتْ مَا في بطنها من الأموات وتخلت عنهم، {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً} أي إنك سَاعٍ إِلَى رَبِّكَ سَعْيًا وَعَامَلٌ عَمَلًا {فَمُلاَقِيهِ} ثُمَّ إِنَّكَ سَتَلْقَى مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ أو شر، عَنْ جَابِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ جِبْرِيلُ: يَا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحب مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فإنك ملاقيه" (أخرجه أبو داود الطيالسي)، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعِيدُ الضَّمِيرَ عَلَى قَوْلِهِ {رَبِّكَ} أَيْ فَمُلَاقٍ رَبَّكَ وَمَعْنَاهُ فَيُجَازِيكَ بِعَمَلِكَ ويكافئك على سعيك، قال ابن عباس: تَعْمَلُ عَمَلًا تَلْقَى اللَّهَ بِهِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا، وَقَالَ قَتَادَةُ: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً} إِنَّ كَدْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ لَضَعِيفٌ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَكُونَ كَدْحُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَلْيَفْعَلْ وَلَا قوة إلا بالله، ثم قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} أَيْ سَهْلًا بِلَا تَعْسِيرٍ أَيْ لَا يُحَقِّقُ عَلَيْهِ جَمِيعَ دَقَائِقِ أَعْمَالِهِ، فَإِنَّ من حوسب كذلك هلك لا محالة، روى الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ»، قَالَتْ، فَقُلْتُ: أفليس قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}، قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ بِالْحِسَابِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْعَرْضُ، مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يوم القيامة عذب» (أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي). وروى ابن جرير، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مُعَذَّبًا»، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}؟ قَالَ: «ذَاكَ الْعَرْضُ، إِنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ»، وَقَالَ بِيَدِهِ عَلَى إصبعه كأنه ينكت (أخرجه الشيخان وابن جرير). وفي رواية عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ - أَوْ من حوسب - عذب، ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّمَا الْحِسَابُ الْيَسِيرُ عَرْضٌ عَلَى الله تعالى وهو يراهم" (رواه ابن جرير). وقوله تَعَالَى: {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} أَيْ وَيَرْجِعُ إلى أهله في الجنة {مَسْرُوراً} أي فرحاً مُغْتَبِطًا بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ تعملون أعمالاً لا تعرف، ويوشك الغائب أن يثوب إلى أهله فمسرور أو مكظوم (أخرجه الطبراني). وقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ) أَيْ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ تُثْنَى يَدُهُ إِلَى وَرَائِهِ، وَيُعْطَى كِتَابَهُ بِهَا كَذَلِكَ {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً} أَيْ خَسَارًا وَهَلَاكًا {وَيَصْلَى سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} أَيْ فَرِحًا لَا يفكر بالعواقب، وَلَا يَخَافُ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَعْقَبَهُ ذَلِكَ الْفَرَحُ الْيَسِيرُ الْحُزْنَ الطَّوِيلَ، {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} أَيْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلى الله، ولا يعيده بعد موته، قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا، والحَوْر هُوَ الرُّجُوعُ، قَالَ اللَّهُ: {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} يَعْنِي بَلَى سَيُعِيدُهُ اللَّهُ كَمَا بَدَأَهُ وَيُجَازِيهِ عَلَى أَعْمَالِهِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا فَإِنَّهُ {كَانَ بِهِ بَصِيراً} أَيْ عَلِيمًا خَبِيرًا.

- 16 - فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ - 17 - وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ - 18 - وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ - 19 - لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ - 20 - فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ - 21 - وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ - 22 - بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ - 23 - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ - 24 - فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - 25 - إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ

قال علي وابن عباس: {الشفق} الحمرة، وقال عبد الرزاق، عن أبي هريرة: {الشَّفَقُ} الْبَيَاضُ، فَالشَّفَقُ هُوَ حُمْرَةُ الأُفق، إِمَّا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَإِمَّا بَعْدَ غُرُوبِهَا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ اللغة، قال الخليل: الشَّفَقُ: الْحُمْرَةُ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا ذَهَبَ قِيلَ: غَابَ الشَّفَقُ، وفي الحديث: «وقت المغرب ما لم يغب الشفق» (أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو)، وَلَكِنْ صَحَّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} هُوَ النَّهَارُ كله، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هَذَا قَرْنُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أَيْ جَمَعَ، كَأَنَّهُ أَقْسَمَ بالضياء والظلام، قال ابْنُ جَرِيرٍ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِالنَّهَارِ مُدْبِرًا وَبِاللَّيْلِ مقبلاً، وقال آخرون: الشفق اسم للحمرة والبياض، وهو من الأضداد. قال ابن عباس ومجاهد: {وَمَا وَسَقَ} وَمَا جَمَعَ، قَالَ قَتَادَةُ: وَمَا جمع من نجم ودابة، وقال عكرمة: مَا سَاقَ مِنْ ظُلْمَةٍ إِذَا كَانَ اللَّيْلُ ذهب كل شيء إلى مأواه، وقوله تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا اجتمع واستوى، وقال الحسن: إذا اجتمع وامتلأ، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا اسْتَدَارَ، وَمَعْنَى كَلَامِهِمْ أَنَّهُ إِذَا تَكَامَلَ نُورُهُ وَأَبْدَرَ جَعَلَهُ مُقَابِلًا لِلَّيْلِ وما وسق. وقوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} قال البخاري، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} حَالًا بَعْدَ حَالٍ، قَالَ: هَذَا نَبِيِّكُمْ صَلَّى الله عليه وسلم (أخرجه البخاري)، وقال الشَّعْبِيِّ {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} قَالَ: لَتَرْكَبُنَّ يا محمد سماء بعد سماء، يعني ليلة الإسراء، وقيل: {طَبَقاً عَن طَبقٍ} منزلاً على منزل، وَيُقَالُ: أَمْرًا بَعْدَ أَمْرٍ، وَحَالًا بَعْدَ حَالٍ (هي رواية العوفي عن ابن عباس)، وقال السدي: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} أَعْمَالُ مَنْ قَبْلِكُمْ منزلاً بعد منزل، وكأنه أَرَادَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟». وقال ابن مسعود: {طَبَقاً عَن طَبقٍ} السماء مرة كالدهان، ومرة تنشق، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} قَالَ: قَوَمٌ كَانُوا فِي الدُّنْيَا خسيسٌ أَمْرُهُمْ فَارْتَفَعُوا فِي الْآخِرَةِ، وَآخَرُونَ كَانُوا أَشْرَافًا فِي الدُّنْيَا فَاتَّضَعُوا فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {طَبَقاً عَن طَبقٍ} حَالًا بَعْدَ حَالٍ فَطِيمًا بعد ما كان رضيعاً، وشيخاً بعد ما كَانَ شَابًّا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {طَبَقاً عَن طَبقٍ} يَقُولُ: حَالًا بَعْدَ حَالٍ، رَخَاءً بَعْدَ شِدَّةٍ، وَشِدَّةً بَعْدَ رَخَاءٍ، وَغِنًى بَعْدَ فَقْرٍ، وَفَقْرًا بَعْدَ غِنًى، وَصِحَّةً بَعْدَ سَقَمٍ، وَسَقَمًا بعد صحة. ثم قال ابن جرير: وَالصَّوَابُ مِنَ التَّأْوِيلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَتَرْكَبُنَّ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَأَمْرًا بَعْدَ أَمْرٍ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ - وَإِنْ كان الخطاب موجهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - جميع الناس، وأنهم يلقون من الشدائد يوم القيامة وأحواله أهوالاً، وقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ} أَيْ فَمَاذَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا لَهُمْ إذا قرئت عليهم آيات الله وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ إِعْظَامًا وَإِكْرَامًا واحتراماً؟ وقوله تعالى: {بل الذين كفرا يُكَذِّبُونَ} أَيْ مِنْ سَجِيَّتِهِمُ التَّكْذِيبُ وَالْعِنَادُ وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَقِّ، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَكْتُمُونَ فِي صُدُورِهِمْ، {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ فَأَخْبِرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ بِأَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ

قد أعد لهم عذابا إليماً، وقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ يَعْنِي لَكِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ أَيْ بِقُلُوبِهِمْ {وَعَمِلُواْ الصالحات} أي بِجَوَارِحِهِمْ {لَهُمْ أَجْرٌ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ {غَيْرُ مَمْنُونٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَيْرُ مَنْقُوصٍ، وقال مجاهد: غَيْرُ مَحْسُوبٍ، وَحَاصِلُ قَوْلِهِمَا: أَنَّهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، كما قال تعالى: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: غَيْرُ مَمْنُونٍ: غَيْرُ مَنْقُوصٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: غَيْرُ مَمْنُونٍ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا القول قَدْ أَنْكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ لَهُ الْمِنَّةُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِي كُلِّ حَالٍ وَآنٍ وَلَحْظَةٍ، وَإِنَّمَا دَخَلُوهَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ لَا بِأَعْمَالِهِمْ، فَلَهُ عَلَيْهِمُ الْمِنَّةُ دَائِمًا سرمداً، والحمد لله وحده أبداً.

85 - سورة البروج.

- 85 - سورة البروج.

[مقدمة] روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ الآخرة بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ - 2 - وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ - 3 - وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ - 4 - قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ - 5 - النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ - 6 - إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ - 7 - وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ - 8 - وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ - 9 - الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شهيد - 10 - إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ يقسم تعالى بالسماء وبروجها وهي النجوم العظام، قال ابن عباس: البروج النجوم، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ رَافِعٍ: الْبُرُوجُ قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ، وَقَالَ الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} الْخَلْقُ الْحَسَنُ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهَا مَنَازِلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا تَسِيرُ الشَّمْسُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا شَهْرًا، ويسير القمر في كل واحد منها يَوْمَيْنِ وَثُلْثًا، فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلَةً وَيَسْتَسِرُّ ليلتين، وقوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذلك فروي عن أبي هريرة مرفوعاً {واليوم الموعود} يوم القيامة، {شاهد} يوم الجمعة، {مشهود} يوم عرفة (أخرجه ابن أبي حاتم، والأشبه أنه موقوف على أبي هريرة). روى الإمام أحمد، عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} قَالَ: الشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عرفة، والموعود يوم القيامة (أخرجه أحمد). وعن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ سَيِّدَ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ الشَّاهِدُ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عرفة» (هذا من مراسيل سعيد بن المسيب). ورى ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:

الشَّاهِدُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ قَرَأَ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مشهود} (أخرجه ابن جرير). وسأل رَجُلٌ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَنْ {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} فقال: سَأَلْتَ أَحَدًا قَبْلِي؟ قَالَ: نَعَمْ، سَأَلْتُ ابْنَ عمرو وَابْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَا: يَوْمَ الذَّبْحِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الشَّاهِدَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كل أمة شهيد وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شهيداً} وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مشهود} (أخرجه ابن جرير أيضاً) وهكذا قال الحسن البصري، وقال مجاهد وَالضَّحَّاكُ: الشَّاهِدُ ابْنُ آدَمَ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ؛ وعن عكرمة: الشَّاهِدُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَشْهُودُ يوم الجمعة، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّاهِدُ اللَّهُ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وقال ابن أبي حاتم عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} قال: الشاهد الإنسان، والمشهود يوم الجمعة (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقال ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} الشَّاهِدُ يَوْمُ عرفة، والمشهود يوم القيامة، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: {الْمَشْهُودُ} يَوْمُ الجمعة، لحديث أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «أكثروا مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ تشهده الملائكة» (أخرجه ابن جرير)، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الشَّاهِدُ اللَّهُ، وَتَلَا: {وكفى بالله شَهِيداً} وَالْمَشْهُودُ نَحْنُ (حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ)، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ. وقوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُود} أَيْ لُعِنُ أَصْحَابُ الأُخدود، وجمعه أخاديد وهي الحفر فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْكُفَّارِ عَمَدُوا إِلَى مَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ عزَّ وجلَّ فَقَهَرُوهُمْ، وَأَرَادُوهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، فَحَفَرُوا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أُخدوداً، وَأَجَّجُوا فِيهِ نَارًا، وَأَعَدُّوا لَهَا وَقُودًا يُسَعِّرُونَهَا بِهِ، ثُمَّ أَرَادُوهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا منهم، فقذفوهم فيها، ولهذا قال الله تَعَالَى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} أَيْ مُشَاهِدُونَ لِمَا يُفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي وما كان لهم ذَنْبٌ إِلَّا إِيمَانُهُمْ بِاللَّهِ {الْعَزِيزِ} الَّذِي لَا يضام من لاذ بجنابه، {الْحَمِيدُ} فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، ثم قال تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مِنْ تَمَامِ الصِّفَةِ أَنَّهُ الْمَالِكُ لِجَمِيعِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أَيْ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي أَهْلِ هَذِهِ القصة من هم؟ فعن علي أَنَّهُمْ أَهْلُ فَارِسٍ، حِينَ أَرَادَ مَلِكُهُمْ تَحْلِيلَ تَزْوِيجِ الْمَحَارِمِ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُهُمْ، فَعَمَدَ إِلَى حَفْرِ أُخدود فَقَذَفَ فِيهِ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَاسْتَمَرَّ فِيهِمْ تَحْلِيلُ الْمَحَارِمِ إِلَى الْيَوْمِ. وعن ابن عباس قَالَ: نَاسٌ مَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَدُّوا أُخدوداً فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ أَوْقَدُوا فِيهِ نَارًا، ثُمَّ أَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ الْأُخْدُودِ رِجَالًا وَنِسَاءً، فَعُرِضُوا عليها، وزعموا أنه دانيال وأصحابه، وقيل غير ذلك. وقد روى الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حدَّثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صهيب الرومي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان فيمن كان قبلكم ملك، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبُرَ السَّاحِرُ قَالَ

للملك: إني قد كبر سِنِّي وَحَضَرَ أَجَلِي، فَادْفَعْ إِلَيَّ غُلَامًا لِأُعْلِّمُهُ السحر، فدفع إليه غلاماً كان يُعَلِّمُهُ السِّحْرَ، وَكَانَ بَيْنَ السَّاحِرِ وَبَيْنَ الْمَلِكِ رَاهِبٌ، فَأَتَى الْغُلَامُ عَلَى الرَّاهِبِ، فَسَمِعَ مِنْ كَلَامِهِ فَأَعْجَبَهُ نَحْوُهُ وَكَلَامُهُ، وَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، وَقَالَ: مَا حَبَسَكَ؟ وَإِذَا أَتَى أَهْلَهُ ضَرَبُوهُ، وَقَالُوا مَا حَبَسَكَ؟ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا أَرَادَ السَّاحِرُ أَنْ يَضْرِبَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا أَرَادَ أَهْلُكَ أَنْ يَضْرِبُوكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، قَالَ: فَبَيْنَمَا ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ فَظِيعَةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَجُوزُوا، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ: أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَمْ أَمْرُ السَّاحِرِ؟ قَالَ، فَأَخَذَ حَجَرًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ وَأَرْضَى مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَجُوزَ النَّاسُ، وَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فَأُخْبِرَ الرَّاهِبُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ أَفْضَلُ مِنِّي، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ، فَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم، وكان للملك جليس، فَعَمِيَ، فَسَمِعَ بِهِ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ: اشفني ولك ما ههنا أَجْمَعُ، فَقَالَ: مَا أَنَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ عزَّ وجلَّ، فَإِنْ آمَنْتَ بِهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ فَدَعَا اللَّهَ فَشَفَاهُ، ثُمَّ أَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ مِنْهُ نَحْوَ مَا كان يجلس، فقال الْمَلِكُ: يَا فُلَانُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ فَقَالَ: رَبِّي؟ فَقَالَ: أَنَا! قَالَ: لَا، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ أَنْ تُبْرِئَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَهَذِهِ الْأَدْوَاءَ؟ قَالَ: مَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ عزَّ وجلَّ. قَالَ: أَنَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَوَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَخَذَهُ أَيْضًا بِالْعَذَابِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَأَتَى بِالرَّاهِبِ، فَقَالَ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، وَقَالَ لِلْأَعْمَى: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ لِلْغُلَامِ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى، فَبَعَثَ بِهِ مَعَ نَفَرٍ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ: إِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فإن رجع عن دينه وإلاّ فدهدهوه، فَذَهَبُوا بِهِ فَلَمَّا عَلَوْا بِهِ الْجَبَلَ قَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ، فَدُهْدِهُوا أَجْمَعُونَ، وَجَاءَ الْغُلَامُ يَتَلَمَّسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ فَقَالَ: كفانيهم الله تعالى، فَبَعَثَ بِهِ مَعَ نَفَرٍ فِي قُرْقُورٍ، فَقَالَ: إِذَا لَجَجْتُمْ بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَغَرِّقُوهُ فِي الْبَحْرِ، فَلَجَّجُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَقَالَ الْغُلَامُ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَغَرِقُوا أَجْمَعُونَ، وَجَاءَ الْغُلَامُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ فَقَالَ: كَفَانِيهِمُ الله تعالى، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، فَإِنْ أَنْتَ فَعَلْتَ مَا آمُرُكَ بِهِ قَتَلْتَنِي، وَإِلَّا فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ قَتْلِي، قَالَ: وَمَا هُوَ، قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ تَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، وَتَأْخُذُ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَفَعَلَ وَوَضْعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ قَوْسِهِ، ثُمَّ رَمَاهُ وَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ، فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ الْغُلَامُ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ السَّهْمِ، وَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ. فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ فَقَدَ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ؛ قَدْ آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَأَمَرَ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ فِيهَا الْأَخَادِيدُ، وَأُضْرِمَتْ فِيهَا النِّيرَانُ، وَقَالَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَدَعَوْهُ وَإِلَّا فَأَقْحِمُوهُ فِيهَا، قَالَ: فَكَانُوا يَتَعَادَوْنَ فِيهَا وَيَتَدَافَعُونَ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا تُرْضِعُهُ، فَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِي النَّارِ، فَقَالَ الصَّبِيُّ: اصْبِرِي يَا أُماه فإنك على الحق (أخرجه أحمد ورواه مسلم والنسائي بنحوه).

وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَس فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} قَالَ: سَمِعْنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ، فَلَمَّا رَأَوْا مَا وَقَعَ فِي النَّاسِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالشَّرِّ، وَصَارُوا أحزاباً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لديهم فرحون، اعْتَزَلُوا إِلَى قَرْيَةٍ سَكَنُوهَا وَأَقَامُوا عَلَى عِبَادَةِ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين، فكان هَذَا أَمْرُهُمْ حَتَّى سَمِعَ بِهِمْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَّارِينَ وَحُدِّثَ حَدِيثَهُمْ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يعبدوا الأوثان التي اتخذوا وأنهم أبو عَلَيْهِ كُلُّهُمْ، وَقَالُوا: لَا نَعْبُدُ إِلَّا اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ تَعْبُدُوا هَذِهِ الْآلِهَةَ الَّتِي عَبَدْتُ فَإِنِّي قَاتِلُكُمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَخَدَّ أُخْدُودًا مِنْ نَارٍ، وقال لهم الجبار بعد أن وقفهم عَلَيْهَا، اخْتَارُوا هَذِهِ أَوِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، فَقَالُوا: هَذِهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا وَفِيهِمْ نِسَاءٌ وَذُرِّيَّةٌ، ففزعت الذرية، فقالوا لهم - أي آباؤهم: لَا نَارَ مِنْ بَعْدِ الْيَوْمِ، فَوَقَعُوا فِيهَا، فَقُبِضَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمَسَّهُمْ حَرُّهَا، وَخَرَجَتِ النَّارُ مِنْ مَكَانِهَا فَأَحَاطَتْ بِالْجَبَّارِينَ، فَأَحْرَقَهُمُ اللَّهُ بِهَا، فَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شهيد} (أخرجه ابن أبي حاتم، وروى محمد بن إسحاق قصة أصحاب الأخدود بسياق آخر وأنها كانت مع عبد الله بن التامر وأصحابه المؤمنين في نجران، والله أعلم)، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أَيْ حَرَقُوا، قاله ابن عباس ومجاهد {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ} أَيْ لَمْ يُقْلِعُوا عَمَّا فَعَلُوا وَيَنْدَمُوا عَلَى مَا أَسْلَفُوا {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْكَرَمِ وَالْجُودِ قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ.

- 11 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم جَنَّاتُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ - 12 - إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ - 13 - إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ - 14 - وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ - 15 - ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ - 16 - فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ - 17 - هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ - 18 - فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ - 19 - بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ - 20 - وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ - 21 - بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ - 22 - فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} بِخِلَافِ مَا أُعِدَّ لِأَعْدَائِهِ مِنَ الْحَرِيقِ وَالْجَحِيمِ، وَلِهَذَا قَالَ: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}، ثم قال تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} أَيْ إِنَّ بَطْشَهُ وَانْتِقَامَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ، الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُ وَخَالَفُوا أَمْرَهُ، لَشَدِيدٌ عَظِيمٌ قَوِيٌّ، فَإِنَّهُ تَعَالَى ذُو القوة المتين، ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} أَيْ مِنْ قُوَّتِهِ وقدرته التامة، يبديء ويعيده، كَمَا بَدَأَهُ بِلَا مُمَانِعٍ وَلَا مُدَافِعٍ {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} أَيْ يَغْفِرُ ذَنْبَ مَنْ تَابَ إليه وخضع لديه، و {الودود} قال ابن عباس: هُوَ الْحَبِيبُ {ذُو الْعَرْشِ} أَيْ صَاحِبُ الْعَرْشِ العظيم الْعَالِي عَلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ. وَ {الْمَجِيدُ} فِيهِ قِرَاءَتَانِ: الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلرَّبِّ عزَّ وجلَّ، وَالْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْعَرْشِ، وَكِلَاهُمَا مَعْنًى صَحِيحٌ، {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} أَيْ مَهْمَا أَرَادَ فِعْلَهُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لعظمته وقهره وَعَدْلِهِ، كَمَا رَوَيْنَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ: هَلْ نَظَرَ إِلَيْكَ الطَّبِيبُ،

قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: فَمَا قَالُ لَكَ؟ قَالَ لي: إني فعال لما أريد، وقوله تعالى: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} أَيْ هَلْ بَلَغَكَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ الْبَأْسِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّقْمَةِ الَّتِي لَمْ يردها عنهم أحد؟ وهذا تقرير لقوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} أَيْ إِذَا أَخَذَ الظَّالِمَ أَخَذَهُ أَخْذًا أَلِيمًا شَدِيدًا أَخْذَ عَزِيزٍ مقتدر، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: مرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ تَقْرَأُ: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود} فقام يستمع فقال: «نعم قد جاءني» (أخرجه ابن أبي حاتم). وقوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ} أَيْ هُمْ فِي شَكٍّ وَرَيْبٍ وَكُفْرٍ وَعِنَادٍ، {وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُحِيطٌ} أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ قَاهِرٌ لَا يَفُوتُونَهُ وَلَا يُعْجِزُونَهُ، {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ} أَيْ عَظِيمٌ كَرِيمٌ، {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} أَيْ هُوَ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، مَحْفُوظٌ مِنَ الزيادة والنقص، والتحريف والتبديل، روى ابن أبي حاتم عن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلْمَانَ قَالَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ قَضَى اللَّهُ، الْقُرْآنُ فَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، إِلَّا وَهُوَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ بَيْنَ عَيْنَيْ إِسْرَافِيلَ لَا يُؤْذَنُ لَهُ بالنظر فيه» (أخرجه ابن أبي حاتم). وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ عِنْدَ اللَّهِ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ، يُنَزِّلُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وقد روى البغوي عن ابن عباس قال: "إن فِي صَدْرِ اللَّوْحِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، دِينُهُ الْإِسْلَامُ، وَمُحَمَّدٌ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ بِوَعْدِهِ وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ أَدْخَلَهُ الجنة" (أخرجه البغوي). وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ صَفَحَاتُهَا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، قَلَمُهُ نُورٌ، وَكِتَابُهُ نُورٌ، لله فيه في كُلَّ يَوْمٍ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةُ لَحْظَةٍ، يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيُمِيتُ وَيُحْيِي وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ» (أخرجه الطبراني).

86 - سورة الطارق.

- 86 - سورة الطارق.

[مقدمة] روى النسائي عن جابر بن عبد الله قَالَ: صَلَّى مُعَاذٌ الْمَغْرِبَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَالنِّسَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفَتَّانٌ أنت يَا مُعَاذُ؟ مَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقْرَأَ بالسماء والطارق، والشمس وضحاها ونحوها؟» (أخرجه النسائي).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ - 2 - وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ - 3 - النَّجْمُ الثَّاقِبُ - 4 - إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ - 5 - فَلْيَنظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ - 6 - خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ - 7 - يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ - 8 - إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ - 9 - يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ - 10 - فَمَا له من قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ يقسم تبارك وتعالى بِالسَّمَاءِ، وَمَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ، ولهذا قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}، ثُمَّ قَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ}، ثُمَّ فسَّره بِقَوْلِهِ: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ}. قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا سُمِّيَ النَّجْمُ طَارِقًا لِأَنَّهُ يُرَى بِاللَّيْلِ وَيَخْتَفِي بِالنَّهَارِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ في الحديث: «إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ». وَقَوْلُهُ تعالى: {الثَّاقِبُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُضِيءُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَثْقُبُ الشَّيَاطِينَ إِذَا أُرْسِلَ عَلَيْهَا، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هو مضيء ومحرق للشيطان، وقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} أَيْ كُلُّ نَفْسٍ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ يَحْرُسُهَا مِنَ الْآفَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}، وقوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} تَنْبِيهٌ لِلْإِنْسَانِ عَلَى ضَعْفِ أَصْلِهِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ، وَإِرْشَادٌ لَهُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْمَعَادِ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْبَدَاءَةِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه}، وقوله تعالى: {خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} يَعْنِي الْمَنِيُّ يَخْرُجُ دَفْقًا مِنَ الرَّجُلِ وَمِنَ الْمَرْأَةِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا الْوَلَدُ بِإِذْنِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَلِهَذَا قَالَ: {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} يَعْنِي صُلْبَ الرجل وترائب المرأة وهو (صدرها)، وقال ابن عباس: صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ أَصْفَرَ رَقِيقٍ لَا يكون الولد إلاّ منهما، وعنه قال: هذه

الترائب ووضع يده على صدره، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: التَّرَائِبُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ إِلَى الصَّدْرِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: التَّرَائِبُ أَسْفَلُ مِنَ التَّرَاقِي، وقال الثوري: فوق الثديين، وقال قَتَادَةَ: {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} مِنْ بين صلبه ونحره، وقوله تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} فِيهِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا): عَلَى رَجْعِ هَذَا الْمَاءِ الدَّافِقِ إِلَى مَقَرِّهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ لَقَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، قَالَهُ مجاهد وعكرمة وغيرهما. (الثَّانِي): إِنَّهُ عَلَى رَجْعِ هَذَا الْإِنْسَانِ الْمَخْلُوقِ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، أَيْ إِعَادَتُهُ وَبَعْثُهُ إِلَى الدار الآخرة لقادر، قال الضحّاك واختاره ابن جرير، ولهذا قال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ أَيْ تَظْهَرُ وَتَبْدُو، وَيَبْقَى السِّرُّ علانية والمكنون مشهوراً، وقوله تعالى: {فماله} أَيِ الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {مِن قُوَّةٍ} أَيْ فِي نَفْسِهِ، {وَلاَ نَاصِرٍ} أَيْ مِنْ خَارِجٍ مِنْهُ، أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْقِذَ نَفْسَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ لَهُ أحد ذلك.

- 11 - وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ - 12 - وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ - 13 - إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ - 14 - وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ - 15 - إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً - 16 - وَأَكِيدُ كَيْدًا - 17 - فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّجْعُ الْمَطَرُ، وَعَنْهُ: هُوَ السحاب فيه المطر، وَقَالَ قَتَادَةُ: تُرْجِعُ رِزْقَ الْعِبَادِ كُلَّ عَامٍ، ولولا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم، {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ انصداعها عن النبات (وهو قول ابن جرير وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة والسدي وغيرهم)، وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَقٌّ، وقال غيره: حُكْمٌ عَدْلٌ، {وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ} أَيْ بَلْ هو جد حق، ثم أخبر الْكَافِرِينَ بِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِهِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِهِ فَقَالَ: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} أَيْ يَمْكُرُونَ بِالنَّاسِ، فِي دَعْوَتِهِمْ إِلَى خِلَافِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ قَالَ تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} أَيْ أَنْظِرْهُمْ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ، {أمهلهم رويداً} أي قليلاً وسترى مَاذَا أُحِلَّ بِهِمْ، مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، وَالْعُقُوبَةِ والهلاك كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}.

87 - سورة الأعلى.

- 87 - سورة الأعلى.

[مقدمة] روى البخاري، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلَا يُقْرِئَانِنَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَسَعْدٌ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهِ، حَتَّى رَأَيْتُ الْوَلَائِدَ وَالصِّبْيَانَ يقولون: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد جَاءَ حَتَّى قَرَأْتُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} في سور مثلها (أخرجه البخاري في صحيحه). وروى مسلم وأهل السنن عن النعمان بن بشير أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم رَبِّكَ الأعلى وهل أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ واحد فقرأهما (أخرجه مسلم وأهل السنن)، وقد روى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الوتر بسبح اسم رَبِّكَ الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هُوَ الله أَحَدٌ، زادت عائشة: والمعوذتين (أخرجه الإمام أحمد).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى - 2 - الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى - 3 - وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى - 4 - وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى - 5 - فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى - 6 - سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى - 7 - إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى - 8 - وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى - 9 - فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى - 10 - سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى - 11 - وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى - 12 - الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى - 13 - ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قَالَ: «سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى» (أخرجه أحمد وأبو داود). وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} أَيْ خَلَقَ الْخَلِيقَةَ وَسَوَّى كل مخلوق في أحسن الهيئات، وقوله تعالى: {وَالَّذِي قدَّر فَهَدَى}، قَالَ مُجَاهِدٌ: هَدَى الْإِنْسَانَ لِلشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ، وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا، وَهَذِهِ

الآية كقوله تعالى: {وقال رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} أَيْ قَدَّرَ قَدْرًا وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ، كَمَا ثبت في صحيح مسلم: «إِنَّ اللَّهَ قدَّر مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء» (أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً). وقوله تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} أَيْ مِنْ جَمِيعِ صُنُوفِ النَّبَاتَاتِ وَالزُّرُوعِ، {فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى} قَالَ ابْنُ عباس: هشيماً متغيراً، وقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ} أَيْ يَا مُحَمَّدُ {فَلاَ تَنْسَى} وَهَذَا إخبار من الله تعالى وَوَعْدٌ مِنْهُ لَهُ، بِأَنَّهُ سَيُقْرِئُهُ قِرَاءَةً لَا يَنْسَاهَا {إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} وَهَذَا اخْتِيَارُ ابن جرير، وقال ابن قَتَادَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينسى إلا ما شآء الله، وقوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} أَيْ يَعْلَمُ مَا يَجْهَرُ بِهِ الْعِبَادُ، وَمَا يُخْفُونَهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} أَيْ نُسَهِّلُ عليك أفعال الخير، ونشرع لك شرعاً سهلاً سمحاً، لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا حَرَجَ وَلَا عُسْرَ، وقوله تعالى: {فذكِّر إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} أَيْ ذَكِّرْ حَيْثُ تنفع التذكرة، ومن ههنا يُؤْخَذُ الْأَدَبُ فِي نَشْرِ الْعِلْمِ فَلَا يَضَعُهُ عند غير أهله، كما قال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ فتنة لبعضهم. وقال: حدثوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ ورسوله؟ وقوله تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} أَيْ سَيَتَّعِظُ بِمَا تُبَلِّغُهُ يَا مُحَمَّدُ مَنْ قَلْبُهُ يَخْشَى اللَّهَ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ مُلَاقِيهِ، {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا ولا يحيى} أي لا يموت فيستريح، ولا يحيى حَيَاةً تَنْفَعُهُ بَلْ هِيَ مُضِرَّةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ بِسَبَبِهَا يَشْعُرُ مَا يُعَاقَبُ بِهِ مِنْ أَلِيمِ العذاب وأنواع النكال، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فيها ولا يحيون ولكن أناس تُصِيبُهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ - أَوْ قَالَ بِخَطَايَاهُمْ - فَيُمِيتُهُمْ إماتة حتى إذا ما صَارُوا فَحْمًا أَذِنَ فِي الشَّفَاعَةِ فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ، فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ، فَيَنْبُتُونَ نبات الحبة في حميل السيل" (أخرجه أحمد ومسلم)، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إنكم ماكثون}، وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ من عذابها} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا المعنى.

- 14 - قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى - 15 - وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى - 16 - بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - 17 - وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى - 18 - إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى - 19 - صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى يَقُولُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} أَيْ طَهَّرَ نَفْسَهُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، واتبع ما أنزل الله على الرسول صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أَيْ أَقَامَ الصَّلَاةَ فِي أَوْقَاتِهَا ابْتِغَاءَ رضوان الله وامتثالاً لشرع الله، روي عن جابر بن عبد الله يرفعه {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} قَالَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ، وَشَهِدَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} قَالَ: «هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا والاهتمام بها» (أخرجه الحافظ البزار). وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الصلوات الخمس، واختاره ابن جرير، وعن عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ

كَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِإِخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَيَتْلُو هذه الآية: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الآية: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} زَكَّى مَالَهُ وَأَرْضَى خَالِقَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أَيْ تُقَدِّمُونَهَا عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَتُبْدُونَهَا عَلَى مَا فيه نفعكم وصلاحكم في معاشكم ومعادكم، {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أَيْ ثَوَابُ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَأَبْقَى، فَإِنَّ الدنيا دانية فَانِيَةٌ، وَالْآخِرَةَ شَرِيفَةٌ بَاقِيَةٌ، فَكَيْفَ يُؤْثِرُ عَاقِلٌ مَا يَفْنَى عَلَى مَا يَبْقَى، وَيَهْتَمُّ بِمَا يَزُولُ عَنْهُ قَرِيبًا وَيَتْرُكُ الِاهْتِمَامَ بِدَارِ الْبَقَاءِ والخلد؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لا عقل له» (أخرجه أحمد عن عائشة مرفوعاً) عن عجرفة الثَّقَفِيِّ قَالَ: اسْتَقْرَأْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} فَلَمَّا بَلَغَ {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} تَرَكَ الْقِرَاءَةِ وَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: آثَرْنَا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: آثَرْنَا الدُّنْيَا لِأَنَّا رَأَيْنَا زِينَتَهَا وَنِسَاءَهَا وَطَعَامَهَا وَشَرَابَهَا، وَزُوِيَتْ عَنَّا الْآخِرَةُ، فَاخْتَرْنَا هَذَا الْعَاجِلَ وَتَرَكْنَا الْآجِلَ، وَهَذَا مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ والهضم، وفي الحديث: «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى ما يفنى» (أخرجه أحمد عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً)، وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى ربك المنتهى} الآيات إلى آخرهن؛ وهكذا قال عكرمة في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} يَقُولُ: الْآيَاتُ الَّتِي فِي {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قِصَّةُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الصُّحُفِ الْأُولَى، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا} إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، ثم قال تعالى: {إن هذا} أي مضمون الْكَلَامِ {لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} وهذا الذي اختاره حَسَنٌ قَوِيٌّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زيد نحوه، والله أعلم.

88 - سورة الغاشية

- 88 - سورة الغاشية

[مقدمة] عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسبح اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَالْغَاشِيَةِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ ويوم الجمعة (أخرجه مسلم وأصحاب السنن).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- 1 - هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ - 2 - وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ - 3 - عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ - 4 - تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً - 5 - تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ - 6 - لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ - 7 - لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ الغاشية من أسماء يوم القيامة، لأنها تغشى الناس وتعمهم، روي عن عمرو بن ميمون أنه قَالَ: مرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ تَقْرَأُ: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} فَقَامَ يَسْتَمِعُ، وَيَقُولُ: «نَعَمْ قَدْ جَاءَنِي». وَقَوْلُهُ تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} أي ذليلة، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَخْشَعُ وَلَا يَنْفَعُهَا عَمَلُهَا، وقوله تعالى: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} أَيْ قَدْ عَمِلَتْ عَمَلًا كَثِيرًا وَنَصَبَتْ فِيهِ، وَصَلِيَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا حَامِيَةً، عن أبي عمران الجوني قال: مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عَنْهُ بِدَيْرِ رَاهِبٍ، قَالَ، فَنَادَاهُ: يَا رَاهِبُ، فَأَشْرَفَ، قَالَ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَبْكِي، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا يُبْكِيكَ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ فِي كِتَابِهِ: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} فذاك الذي أبكاني، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} النَّصَارَى، وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ: عَامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا بِالْمَعَاصِي، نَاصِبَةٌ في النار بالعذاب والإهلاك. قال ابن عباس: {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} أَيْ حَارَةٌ شَدِيدَةُ الْحَرِّ، {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أَيْ قَدِ انْتَهَى حرها وغليانها (وهو قول ابن عباس ومجاهد والحسن والسدي)، وقوله تَعَالَى: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} قَالَ ابن عباس: شجر من النار، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الزَّقُّومُ، وَعَنْهُ أنها الحجارة، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الضَّرِيعُ نَبْتٌ يُقَالُ لَهُ الشِّبْرِقُ يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْحِجَازِ الضَّرِيعَ إِذَا يبس، وهو سم، وقال قَتَادَةَ: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} من شر الطعام وأبشعه وأخبثه، وقوله تعالى: {لاَ يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} يَعْنِي لَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودٌ وَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ محذور.

- 8 - وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ - 9 - لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ - 10 - فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ - 11 - لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً - 12 - فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ - 13 - فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ - 14 - وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ - 15 - وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ - 16 - وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْأَشْقِيَاءِ ثَنى بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ فَقَالَ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {نَّاعِمَةٌ} أَيْ يُعْرَفُ النَّعِيمُ فِيهَا، وإنما حصل لها ذلك بسعيها، {لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} قد رضيت عملها، وقوله تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أَيْ رَفِيعَةٌ بَهِيَّةٌ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ، {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} أَيْ لا تسمع فِي الْجَنَّةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا كَلِمَةَ لَغْوٍ، كما قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إلا سلاماً}، وقال تعالى: {لاَ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تأثيم}، {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} أي سارحة وليس المراد بها عين وَاحِدَةً وَإِنَّمَا هَذَا جِنْسٌ يَعْنِي فِيهَا عُيُونٌ جاريات، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْهَارُ الْجَنَّةِ تَفْجُرُ مِنْ تَحْتِ تِلَالِ - أَوْ مِنْ تَحْتِ جِبَالِ - المسك» (أخرجه ابن أبي حاتم)، {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} أَيْ عَالِيَةٌ نَاعِمَةٌ، كَثِيرَةُ الفرش مرتفعة السمك، عليها الحور العين، فَإِذَا أَرَادَ وَلِيُ اللَّهِ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى تِلْكَ السُّرُرِ الْعَالِيَةِ تَوَاضَعَتْ لَهُ، {وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ} يَعْنِي أَوَانِي الشُّرْبِ مُعَدَّةٌ مُرْصَدَةٌ لِمَنْ أَرَادَهَا، {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّمَارِقُ الْوَسَائِدُ (وكذا قال عكرمة وقتادة والضحّاك والسدي وغيرهم)، وقوله تعالى: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزَّرَابِيُّ الْبُسُطُ، ومعنى مبثوثة: أي ههنا وههنا لمن أراد الجلوس عليها، عَنْ أُسامة بْنِ زَيْدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا هَلْ مِنْ مُشَمِّرٍ لِلْجَنَّةِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خَطَرَ لَهَا، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَثَمَرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، وَمَقَامٌ فِي أَبَدٍ فِي دَارٍ سَلِيمَةٍ، وَفَاكِهَةٍ وَخُضْرَةٍ، وَحَبْرَةٍ وَنَعْمَةٍ، فِي مَحَلَّةٍ عَالِيَةٍ بَهِيَّةٍ!»، قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا، قَالَ: "قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ" قال القوم إن شاء الله (أخرجه ابن ماجة).

- 17 - أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ - 18 - وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ - 19 - وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ - 20 - وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ - 21 - فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ - 22 - لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ - 23 - إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ - 24 - فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ - 25 - إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ - 26 - ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ بِالنَّظَرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}؟ فَإِنَّهَا خَلْقٌ عَجِيبٌ وَتَرْكِيبُهَا غَرِيبٌ، فَإِنَّهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، وهي مع ذلك تنقاد لِلْقَائِدِ الضَّعِيفِ، وَتُؤْكَلُ وَيُنْتَفَعُ بِوَبَرِهَا وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا، ونبهوا إلى ذلك لِأَنَّ الْعَرَبَ غَالِبُ دَوَابِّهِمْ كَانَتِ الْإِبِلُ، وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَقُولُ: اخْرُجُوا بِنَا حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ! أَيْ كَيْفَ رَفَعَهَا اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَنِ الْأَرْضِ هَذَا الرَّفْعَ الْعَظِيمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ}، {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} أَيْ جُعِلَتْ مَنْصُوبَةً فإنها ثَابِتَةً رَاسِيَةً لِئَلَّا تَمِيدَ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا وَجَعَلَ

فِيهَا مَا جَعَلَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَعَادِنِ، {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}! أَيْ كَيْفَ بُسِطَتْ وَمُدَّتْ وَمُهِّدَتْ، فَنَبَّهَ الْبَدَوِيَّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ بَعِيرِهِ الَّذِي هُوَ رَاكِبٌ عَلَيْهِ، وَالسَّمَاءِ الَّتِي فَوْقَ رَأْسِهِ، وَالْجَبَلِ الَّذِي تُجَاهَهُ، وَالْأَرْضِ الَّتِي تَحْتَهُ، عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِ ذَلِكَ وَصَانِعِهِ، وأنه الرب العظيم الخالق المالك المتصرف، وَأَنَّهُ الْإِلَهُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، عَنْ أنَس قَالَ: كُنَّا نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم عن كل شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلُهُ، وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَ رجل من أهل البادية فقال: يامحمد إنا أَتَانَا رَسُولُكَ، فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ، قَالَ: «صَدَقَ» قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: «اللَّهُ» قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَ: «اللَّهُ» قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: «اللَّهُ»، قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا؟ قَالَ: «صَدَقَ»، قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا؟ قَالَ: «صَدَقَ»، قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ من استطاع له سَبِيلًا؟ قَالَ: «صَدَقَ»، قَالَ: ثُمَّ وَلَّى، فَقَالَ: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئاً وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ شَيْئًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ» (أخرجه مسلم وأصحاب السنن والإمام أحمد، وجاء في بعض الروايات: «وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بن بكر»). وقوله تَعَالَى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} أَيْ فَذَكِّرْ يَا مُحَمَّدُ النَّاسَ بِمَا أُرْسِلْتَ بِهِ إِلَيْهِمْ {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}، وَلِهَذَا قَالَ: {لَّسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}؛ قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد: لست عليهم بجبار، أي لست تخلق الإِيمان في قلوبهم، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَسْتَ بِالَّذِي تُكْرِهُهُمْ عَلَى الإيمان، عَنْ جَابِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمرت أَنْ أُقاتل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ" ثُمَّ قرأَ: {فذكِّر إِنَّمَآ أَنتَ مذكِّر * لستَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (أخرجه أحمد ورواه مسلم والنسائي والترمذي). وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ} أَيْ تَوَلَّى عَنِ الْعَمَلِ بِأَرْكَانِهِ، وَكَفَرَ بِالْحَقِّ بِجِنَانِهِ وَلِسَانِهِ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ صدَّق وَلاَ صلَّى * وَلَكِنْ كذَّب وَتَوَلَّى}، ولهذا قال: {فسيعذبه الله العذاب الأكبر}، وروى الإمام أحمد: أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ مرَّ عَلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَلين كَلِمَةٍ سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَلَا كُلُّكُمْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ شَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ البعير عن أهله» (تفرد بإخراجه الإمام أحمد). وقوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ} أَيْ مَرْجِعَهُمْ وَمُنْقَلَبَهُمْ، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} أَيْ نَحْنُ نُحَاسِبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَنُجَازِيهِمْ بِهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًا فَشَرٌّ.

89 - سورة الفجر.

- 89 - سورة الفجر.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - 1 - وَالْفَجْرِ - 2 - وَلَيالٍ عَشْرٍ - 3 - وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ - 4 - وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ - 5 - هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ - 6 - أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ - 7 - إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ - 8 - الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ - 9 - وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ - 10 - وَفِرْعَوْنَ ذِى الْأَوْتَادِ - 11 - الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلَادِ - 12 - فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ - 13 - فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ - 14 - إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ أمّا الفجر فعروف وهو الصبح، وعن مسروق: الْمُرَادُ بِهِ فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ خَاصَّةً، وَهُوَ خَاتِمَةُ اللَّيَالِي الْعَشْرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الصَّلَاةُ التي تفعل عنده، وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ الْمُرَادُ بِهَا عَشَرُ ذِي الْحِجَّةِ (وهو قول ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ من السلف)، وقد ثبت في صحيح البخاري: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» يَعْنِي عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رجُلاً خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يرجع من ذلك بشيء» (أخرجه البخاري عن ابن عباس مرفوعاً). وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْعَشْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الْمُحَرَّمِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَيالٍ عَشْرٍ} قَالَ: هُوَ الْعَشْرُ الْأَوَّلُ مِنْ رَمَضَانَ، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. روي عن جابر يرفعه: «إِنَّ الْعَشْرَ عَشْرُ الْأَضْحَى، وَالْوَتْرُ يَوْمُ عَرَفَةَ والشفع يوم النحر» (أخرجه أحمد والنسائي وابن أبي حاتم، قال ابن كثير: إسناد رجاله لا بأس بهم والمتن في رفعه نكارة). وقوله تعالى: {والشفع والوتر} الوتر يوم عرفة لكونه التاسع، والشفع يوم النحر لكونه العاشر، قاله ابن عباس: قول ثانٍ: عَنْ وَاصِلِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءً عن قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} قُلْتُ: صَلَاتُنَا وِتْرَنَا هَذَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالْوَتْرَ لَيْلَةُ الأضحى. قول ثالث: عن أبي سعيد بن عوف قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُ النَّاسَ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنِي عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ؟ فَقَالَ: الشَّفْعُ

قول اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}، والوتر قوله تعالى: {وَمِن تَأَخَّرَ فلا إثم عليه} (أخرجه ابن أبي حاتم). وفي الصحيحين: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر» (أخرجه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً). قول رابع: قال الحسن البصري: الْخَلْقُ كُلُّهُمْ شَفْعٌ وَوِتْرٌ، أَقْسَمَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ (وهو رواية عن مجاهد). وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} قَالَ: اللَّهُ وِتْرٌ وَاحِدٌ، وَأَنْتُمْ شَفْعٌ، وَيُقَالُ: الشَّفْعُ صَلَاةُ الْغَدَاةِ، والوتر صلاة المغرب. قول خامس: عَنْ مُجَاهِدٍ {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} قَالَ: الشَّفْعُ الزَّوْجُ، والوتر الله عزَّ وجلَّ (أخرجه ابن أبي حاتم)، وعنه: الله الوتر وخلقه الشفع الذكر والأنثى، وعنه: كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ اللَّهُ شَفْعٌ: السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَنَحْوُ هذا، كقوله تَعَالَى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أَيْ لِتَعْلَمُوا أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ وَاحِدٌ. قَوْلٌ سادس: قال الْحَسَنِ: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} هُوَ الْعَدَدُ مِنْهُ شَفْعٌ، ومنه وتر. قول سابع: قال أبو العالية والربيع بن أنَس؛ هِيَ الصَّلَاةُ مِنْهَا شَفْعٌ كَالرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّنَائِيَّةِ، وَمِنْهَا وَتْرٌ كَالْمَغْرِبِ، فَإِنَّهَا ثَلَاثٌ، وَهِيَ وَتْرُ النَّهَارِ، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْوِتْرِ فِي آخِرِ التَّهَجُّدِ مِنَ الليل، ولم يجزم ابن جرير بشيء من الأقوال في الشفع والوتر. وقوله تعالى: {والليل إِذَا يَسْرِ} قال ابن عباس: أي إذا ذهب، وقال مجاهد وأبو العالية {والليل إِذَا يَسْرِ}: إذا سار أي ذهب، ويحتمل إذا سار: أي أقبل، وهذا أَنْسَبُ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: {وَالْفَجْرِ} فَإِنَّ الْفَجْرَ هُوَ إِقْبَالُ النَّهَارِ، وَإِدْبَارُ اللَّيْلِ، فَإِذَا حُمِلَ قَوْلُهُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} عَلَى إِقْبَالِهِ كَانَ قَسَمًا بِإِقْبَالِ اللَّيْلِ وَإِدْبَارِ النَّهَارِ وَبِالْعَكْسِ، كَقَوْلِهِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} وقال الضَّحَّاكُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} أَيْ يَجْرِي، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} يَعْنِي لَيْلَةَ جَمْعٍ المزدلفة، وقوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} أَيْ لذي عقل ولب وحجى، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْعَقْلُ (حِجْرًا) لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ تَعَاطِي مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الأفعال والأقوال، وحجَر الْحَاكِمُ عَلَى فُلَانٍ إِذَا مَنَعَهُ التَّصَرُّفَ، وَهَذَا الْقَسَمُ هُوَ بِأَوْقَاتِ الْعِبَادَةِ، وَبِنَفْسِ الْعِبَادَةِ مِنْ حَجٍّ وَصَلَاةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ القرب، التي يتقرب إِلَيْهِ عِبَادُهُ الْمُتَّقُونَ الْمُطِيعُونَ لَهُ، الْخَائِفُونَ مِنْهُ، الْمُتَوَاضِعُونَ لَدَيْهِ، الْخَاشِعُونَ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَلَمَّا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ وَعِبَادَتَهُمْ وَطَاعَتَهُمْ قَالَ بَعْدَهُ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}؟ وَهَؤُلَاءِ كَانُوا مُتَمَرِّدِينَ عُتَاةً جَبَّارِينَ، خَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ مُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِ، فَذَكَرَ تَعَالَى كَيْفَ أَهْلَكَهُمْ وَدَمَّرَهُمْ وَجَعَلَهُمْ أَحَادِيثَ وَعِبَرًا فَقَالَ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}؟ وَهَؤُلَاءِ (عَادٌ الْأَوْلَى) وَهُمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رَسُولَهُ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ، فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَمَنْ آمَنُ مَعَهُ مِنْهُمْ وَأَهْلَكَهُمْ {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}، وقد ذكر الله قصتهم في القرآن، لِيَعْتَبِرَ بِمَصْرَعِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} عَطْفُ بَيَانٍ زِيَادَةُ تَعْرِيفٍ بِهِمْ، وَقَوْلُهُ تعالى: {ذَاتِ الْعِمَادِ} لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُنُونَ بُيُوتَ الشَّعْرِ الَّتِي تُرْفَعُ بِالْأَعْمِدَةِ الشِّدَادِ، وَقَدْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ فِي زَمَانِهِمْ خِلْقَةً وَأَقْوَاهُمْ بَطْشًا، وَلِهَذَا ذَكَّرَهُمْ (هُودٌ) بِتِلْكَ النِّعْمَةِ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى أَنْ يَسْتَعْمِلُوهَا فِي طَاعَةِ رَبِّهِمُ الَّذِي خَلَقَهُمْ فَقَالَ: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلآءَ الله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مفسدين}.

وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}، وقال ههنا: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} أَيِ الْقَبِيلَةُ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلَهَا فِي بِلَادِهِمْ لقوتهم وشدتهم وعظم تركيبهم، وقال مُجَاهِدٌ: إِرَمَ أُمَّةٌ قَدِيمَةٌ يَعْنِي عَادًا الْأُولَى، قال قتادة والسدي: أن إرم بيت مملكة عاد، وكانوا أهل عمد لا يقيمون، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ ذَاتِ الْعِمَادِ لطولهم، واختار الأول ابن جرير، وقوله تعالى: {التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} الضمير يعود عَلَى الْقَبِيلَةِ، أَيْ لَمْ يَخْلُقْ مِثْلَ تِلْكَ القبيلة في البلاد يعني في زمانهم، روي عن المقدام أَنَّهُ ذَكَرَ {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} فَقَالَ: «كَانَ الرجل منهم يأتي على الصخرة فيحملها على الحي فيهلكهم» (أخرجه ابن أبي حاتم عن المقدام مرفوعاً)، وسواء كَانَتِ الْعِمَادُ أَبْنِيَةً بَنَوْهَا، أَوْ أَعْمِدَةَ بُيُوتِهِمْ للبدو، أو سلاحهم يُقَاتِلُونَ بِهِ، أَوْ طُولَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ، فَهُمْ قَبِيلَةٌ وَأُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ، الْمَقْرُونُونَ بِثَمُودَ كما ههنا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {إِرَمَ ذَاتِ العماد} مدينة إما دمشق، أو اسكندرية أو غيرهما، فضعيف لأنه لَا يَتَّسِقُ الْكَلَامُ حينئذٍ، ثُمَّ الْمُرَادُ إِنَّمَا هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ إِهْلَاكِ الْقَبِيلَةِ الْمُسَمَّاةِ بِعَادٍ، وَمَا أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ بَأْسِهِ الَّذِي لَا يُرَدُّ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ مدينة أو إقليم، وَقَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بقوله: {إِرَمَ ذَاتِ العماد} قَبِيلَةً أَوْ بَلْدَةً كَانَتْ عَادٌ تَسْكُنُهَا فَلِذَلِكَ لَمْ تُصْرَفْ، فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ السِّيَاقِ إِنَّمَا هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْقَبِيلَةِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ} يَعْنِي يَقْطَعُونَ الصَّخْرَ بِالْوَادِي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ينحتونها ويخرقونها، يقال: اجتاب الثوب، إذا فتحه وقال تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فارهين}، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانُوا عَرَبًا وَكَانَ مَنْزِلُهُمْ بِوَادِي الْقُرَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّةَ عَادٍ مُسْتَقْصَاةً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وقوله تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَوْتَادُ الْجُنُودُ الَّذِينَ يَشُدُّونَ لَهُ أَمْرَهُ، وَيُقَالُ: كَانَ فِرْعَوْنُ يُوتِدُ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ فِي أَوْتَادٍ مِنْ حَدِيدٍ يُعَلِّقُهُمْ بِهَا، وَكَذَا قال مجاهد: كان يوتد الناس بالأوتاد، وقال السُّدِّيُّ: كَانَ يَرْبِطُ الرَّجُلَ كُلُّ قَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِهِ فِي وَتَدٍ ثُمَّ يُرْسِلُ عَلَيْهِ صَخْرَةً عظيمة فيشدخه، وقال ثابت البناني: قِيلَ لِفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، لِأَنَّهُ ضَرَبَ لِامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ، ثُمَّ جَعَلَ عَلَى ظَهْرِهَا رَحًى عظيمة حتى ماتت، وقوله تعالى: {الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ} أَيْ تَمَرَّدُوا وَعَتَوْا وَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ بِالْإِفْسَادِ وَالْأَذِيَّةِ لِلنَّاسِ، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} أَيْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ، وَأَحَلَّ بِهِمْ عُقُوبَةً لَا يَرُدُّهَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسْمَعُ وَيَرَى يَعْنِي يَرْصُدُ خَلْقَهُ فِيمَا يَعْمَلُونَ، وَيُجَازِي كُلًّا بِسَعْيِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى، وَسَيُعْرَضُ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ عَلَيْهِ فَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِعَدْلِهِ وَيُقَابِلُ كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ وَهُوَ الْمُنَزَّهُ عَنِ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ.

- 15 - فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ - 16 - وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ - 17 - كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ - 18 - وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ - 19 - وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا - 20 - وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمًّا

يقول تعالى منكراً على الإنسان، إذا وسع الله تعالى عليه في الرزق ليختبره، فَيَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ إِكْرَامٌ لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} وَكَذَلِكَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ إِذَا ابْتَلَاهُ وَامْتَحَنَهُ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ من الله إهانة له، قال الله تعالى: {كُلاًّ} أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ تعالى يُعْطِي الْمَالَ مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ فِي ذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ، إِذَا كَانَ غَنِيًّا بِأَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ فقيراً بأن يصبر، وقوله تعالى: {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} فِيهِ أَمْرٌ بِالْإِكْرَامِ له كما جاء في الحديث: «خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فيه يتيم يساء إليه» (أخرجه عن عبد الله من المبارك). وقال صلى الله عليه وسلم: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ» وَقَرَنَ بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الابهام (أخرجه أبو داود)، {وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} يَعْنِي لَا يَأْمُرُونَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَيُحِثُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي ذَلِكَ {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} يَعْنِي الْمِيرَاثَ {أَكْلاً لَّمّاً} أَيْ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ حَصَلَ لَهُمْ مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ {وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً} أي كثيراً فاحشاً.

- 21 - كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا - 22 - وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا - 23 - وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى - 24 - يَقُولُ يا ليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي - 25 - فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ - 26 - وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ - 27 - يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - 28 - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً - 29 - فَادْخُلِي فِي عِبَادِي - 30 - وَادْخُلِي جَنَّتِي يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا يَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ الْعَظِيمَةِ فَقَالَ تعالى: {كُلاًّ} أَيْ حَقًّا {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً} أَيْ وُطِئَتْ وَمُهِّدَتْ وَسُوِّيَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ، وَقَامَ الْخَلَائِقُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّهِمْ {وَجَآءَ رَبُّكَ} يعني لفصل القضاء بيت خَلْقِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا يَسْتَشْفِعُونَ إِلَيْهِ بِسَيِّدِ ولد آدم على الإطلاق، محمد صلوات الله وسلامه عليه، فيجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء، وَالْمَلَائِكَةُ يَجِيئُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ صُفُوفًا صُفُوفًا، وَقَوْلُهُ تعالى: {وجيء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} روى الإمام مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» (أخرجه مسلم في صحيحه)، وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ} أَيْ عَمَلَهُ وَمَا كَانَ أَسْلَفَهُ فِي قَدِيمِ دَهْرِهِ وَحَدِيثِهِ، {وَأَنَّى لَهُ الذكرى} أي وكيف تنفعه الذكرى، {يَقُولُ يا ليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} يَعْنِي يَنْدَمُ عَلَى مَا كَانَ سَلَفَ مِنْهُ مِنَ الْمَعَاصِي إِنْ كَانَ عَاصِيًا، وَيَوَدُّ لَوْ كَانَ ازْدَادَ مِنَ الطَّاعَاتِ إِنْ كَانَ طَائِعًا، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حنبل عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عمرة، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ أَنَّ عَبْدًا خرَّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى أَنْ يموت فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَحَقِرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ولَوَدَّ أنه رد إلى الدنيا

كيما يزداد من الأجر والثواب، وقال اللَّهُ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} أَيْ لَيْسَ أَحَدٌ أَشَدَّ عَذَابًا مِنْ تَعْذِيبِ اللَّهِ مَنْ عَصَاهُ، {وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} أي وليس أَشَدَّ قَبْضًا وَوَثْقًا مِنَ الزَّبَانِيَةِ لِمَنْ كَفَرَ بربهم عزَّ وجلَّ، وهذا فِي حَقِّ الْمُجْرِمِينَ مِنَ الْخَلَائِقِ وَالظَّالِمِينَ، فَأَمَّا النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ الْمُطْمَئِنَّةُ وَهِيَ السَّاكِنَةُ الثَّابِتَةُ الدَّائِرَةُ مَعَ الْحَقِّ، فَيُقَالُ لَهَا: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكَ} أَيْ إِلَى جِوَارِهِ وَثَوَابِهِ وَمَا أَعَدَّ لِعِبَادِهِ فِي جَنَّتِهِ {رَاضِيَةً} أَيْ فِي نَفْسِهَا، {مَّرْضِيَّةً} أَيْ قَدْ رَضِيَتْ عَنِ اللَّهِ، وَرَضِيَ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أَيْ فِي جُمْلَتِهِمْ، {وَادْخُلِي جَنَّتِي} وَهَذَا يُقَالُ لَهَا عِنْدَ الِاحْتِضَارِ، وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْضًا، كَمَا ِأن الْمَلَائِكَةَ يُبَشِّرُونَ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ احتضاره وعند قيامه من قبره فكذلك ههنا، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَيَمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فروي أنها نزلت في عثمان بن عفّان، وقيل: أنها نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} قَالَ: نَزَلَتْ وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ هَذَا؟ فقال: «أما إنه سيقال لك هذا» (أخرجه ابن أبي حاتم). وروى الحافظ ابن عساكر، عن أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: "قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نفساً مُطَمْئِنَةً، تُؤْمِنُ بِلِقَائِكَ، وَتَرْضَى بِقَضَائِكَ، وَتَقْنَعُ بِعَطَائِكَ" (أخرجه الحافظ ابن عساكر).

90 - سورة البلد

- 90 - سورة البلد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - 1 - لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ - 2 - وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ - 3 - وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ - 4 - لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ - 5 - أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ - 6 - يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا - 7 - أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ - 8 - أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ - 9 - وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ - 10 - وَهَدَيْنَاهُ النجدين هذا قسم من الله تبارك وتعالى بِمَكَّةَ (أُم الْقُرَى) فِي حَالِ كَوْنِ السَّاكِنِ فيها حلالاً، لِيُنَبِّهَ عَلَى عَظَمَةِ قَدْرِهَا فِي حَالِ إِحْرَامِ أهلها، قال مُجَاهِدٍ: {لاَ أُقسم بِهَذَا الْبَلَدِ} لَا، رَدَّ عليهم. أقسم بهذا البلد، وقال ابن عباس: {لاأقسم بِهَذَا الْبَلَدِ} يَعْنِي مَكَّةَ {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} قَالَ: أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ يَحِلُّ لَكَ أن تقاتل به، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا أَصَبْتَ فِيهِ فَهُوَ حَلَالٌ لك، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ، وهذا المعنى قَدْ وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، أَلَا فليبلغ الشاهد الغائب» (أخرجه الشيخان وأصحاب السنن). وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ فَقُولُوا إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لكم»، وقوله تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} قال ابن عباس: الْوَالِدُ الَّذِي يَلِدُ {وَمَا وَلَدَ} الْعَاقِرُ الَّذِي لا يولد له، وقال مجاهد وقتادة والضحّاك: يَعْنِي بِالْوَالِدِ آدَمَ {وَمَا وَلَدَ} وَلَدَهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَأَصْحَابُهُ حَسَنٌ قَوِيٌّ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقْسَمَ بأُم الْقُرَى وَهِيَ الْمَسَاكِنُ، أَقْسَمَ بَعْدَهُ بِالسَّاكِنِ، وَهُوَ (آدَمُ) أَبُو البشر وولده، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ ولد وولده وهو محتمل أيضاً، وقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} رُوِيَ عَنِ ابن مسعود وابن عباس: يعني منتصباً، زاد ابن عباس: منتصباً فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالْكَبَدُ: الِاسْتِوَاءُ وَالِاسْتِقَامَةُ، وَمَعْنَى هذا القول: لقد خلقناه سوياً مستقيماً، كقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَىِّ صُورَةٍ مَّا شاء ركبك}، وكقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تقويم} وقال ابن عباس {فِي كَبَدٍ} فِي شِدَّةِ خَلْقٍ،

أَلَمْ تَرَ إِلَيْهِ وَذَكَرَ مَوْلِدَهُ وَنَبَاتَ أَسْنَانِهِ، وقال مُجَاهِدٌ: {فِي كَبَدٍ} نُطْفَةٌ، ثُمَّ عَلَقَةٌ، ثُمَّ مضغة، يكبد في الخلق، وهو كقوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمّه كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كرهاً} فَهُوَ يُكَابِدُ ذَلِكَ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {فِي كَبَدٍ} فِي شِدَّةٍ وَطَلَبِ مَعِيشَةٍ، وَقَالَ قتادة: في مشقة، وقال الحسن: يكابد أمر الدنيا وأمر من الْآخِرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُكَابِدُ مَضَايِقَ الدُّنْيَا وَشَدَائِدَ الآخرة، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مُكَابَدَةُ الأمور ومشاقها. وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} قَالَ الحسن البصري: يعني يأخد ماله، وقال قتادة: يَظُنُّ أَنْ لَنْ يُسْأَلَ عَنْ هَذَا الْمَالِ مَنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَأَيْنَ أَنْفَقَهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} قَالَ: الله عزَّ وجلَّ يظن أن لن يقدر عليه ربه، وقوله تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} أَيْ يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: أَنْفَقْتُ {مَالاً لُّبَداً} أَيْ كَثِيرًا قَالَهُ مجاهد والحسن، {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَّهُ عَيْنَيْنِ} أَيْ يُبْصِرُ بِهِمَا {وَلِسَاناً} أَيْ يَنْطِقُ بِهِ فَيُعَبِّرُ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ {وَشَفَتَيْنِ} يَسْتَعِينُ بِهِمَا عَلَى الْكَلَامِ، وَأَكْلِ الطَّعَامِ، وَجَمَالًا لِوَجْهِهِ وَفَمِهِ. وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابن عساكر عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ قَدْ أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ نِعَمًا عِظَامًا، لَا تُحْصِي عَدَدَهَا وَلَا تُطِيقُ شُكْرَهَا، وَإِنَّ مِمَّا أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ جَعَلْتُ لَكَ عَيْنَيْنِ تَنْظُرُ بِهِمَا، وَجَعَلْتُ لَهُمَا غِطَاءً، فَانْظُرْ بِعَيْنَيْكَ إِلَى مَا أَحْلَلْتُ لَكَ، وَإِنْ رَأَيْتَ مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ، فَأَطْبِقْ عَلَيْهِمَا غِطَاءَهُمَا، وَجَعَلْتُ لَكَ لِسَانًا وَجَعَلْتُ لَهُ غُلَافًا، فَانْطِقْ بِمَا أَمَرْتُكَ، وَأَحْلَلْتُ لك فإن عرض عليك مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ فَأَغْلِقْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَجَعَلْتُ لَكَ فَرْجًا وَجَعَلْتُ لَكَ سِتْرًا، فَأَصِبْ بِفَرْجِكَ ما أحللت لك، فإن عرض عليك مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ فَأَرْخِ عَلَيْكَ سِتْرَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَا تَحْمِلُ سُخْطِي وَلَا تطيق انتقامي" (أخرجه الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الرَّبِيعِ الدمشقي). {وَهَدَيْنَاهُ النجدين}: الطريقين، قال ابن مسعود: الخير والشر، وعن أَبِي رَجَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُمَا النَّجْدَانِ، نَجْدُ الْخَيْرِ، وَنَجْدُ الشَّرِّ، فَمَا جَعَلَ نَجْدَ الشَّرِّ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ نجد الخير» (أخرجه ابن جرير عن الحسن مرسلاً)، وقال ابن عباس {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} قال: الثديين، قال ابن جرير: والصواب القول الأول، نظير هذه الآية قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً أو كفوراً}.

- 11 - فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ - 12 - وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ - 13 - فَكُّ رَقَبَةٍ - 14 - أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ - 15 - يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ - 16 - أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ - 17 - ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ - 18 - أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ - 19 - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ - 20 - عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ روى ابن جرير عن ابن عمر في قوله تعالى: {فَلاَ اقتحم} أي دخل {الْعَقَبَةَ} قَالَ: جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ، وَقَالَ كَعْبُ الأحبار: هُوَ سَبْعُونَ دَرَجَةً فِي جَهَنَّمَ، وَقَالَ الْحَسَنُ البصري: عقبة في جهنم، وقال قتادة: إنها عقبة قحمة شديدة فاقتحموها بطاعة الله تعالى، {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة}؟ ثم أخبر تعالى عَنِ اقْتِحَامِهَا فَقَالَ: {فَكُّ رَقَبَةٍ *

أَوْ إِطْعَامٌ}، وقال ابن زيد: {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أَيْ أَفَلَا سَلَكَ الطَّرِيقَ الَّتِي فيها النجاة والخير، ثم بينها فقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة * فَكُّ رَقَبَةٍ}، عن سعيد بن مرجانة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مؤمنة أعتق الله بكل إرب - أي عضو - مِنْهَا إِرْبًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ حَتَّى إِنَّهُ لَيُعْتِقُ بِالْيَدِ الْيَدَ، وَبِالرِّجْلِ الرِّجْلَ، وَبِالْفَرْجِ الْفَرْجَ»، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: نَعَمْ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ لِغُلَامٍ لَهُ أَفْرَهَ غِلْمَانِهِ: ادْعُ مُطَرِّفًا، فَلَمَّا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: اذهب فأنت حر لوجه الله" (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي والإمام أحمد). وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ الَّذِي أَعْتَقَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ كَانَ قَدْ أعطي فيه عشرة آلاف درهم، وعن عمرو بن عبسة أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِيُذْكَرَ اللَّهُ فِيهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ أَعْتَقَ نَفْسًا مُسَلِمَةً كَانَتْ فِدْيَتَهُ مِنْ جَهَنَّمَ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يوم القيامة» (أخرجه أحمد). وفي الحديث: «مَنْ وُلِدَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ فِي الْإِسْلَامِ فَمَاتُوا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَلَغَ بِهِ الْعَدُّوَ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ كَانَ لَهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِّنَ النار، وَمِن أعتق زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ يُدْخِلُهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ منها» (أخرجه أحمد أيضاً). وهذه أسانيد جيدة قوية ولله الحمد. وقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذِي مَجَاعَةٍ (وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ ومجاهد والضحَّاك وقتادة وغيرهم)، والسغب: هو الجوع، وقال النَّخَعِيُ: فِي يَوْمٍ الطعامُ فِيهِ عَزِيزٌ، وَقَالَ قتادة: في يوم مشتهى فيه الطعام، وقوله تعالى: {يَتِيماً} أَيْ أَطْعِمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ يَتِيمًا {ذَا مَقْرَبَةٍ} أَيْ ذَا قَرَابَةٍ مِنْهُ، كما جاء في الحديث الصحيح: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثنتان، صدقة وصلة» (أخرجه أحمد ورواه الترمذي والنسائي وإسناده صحيح). وقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} أَيْ فَقِيرًا مُدْقِعًا لَاصِقًا بِالتُّرَابِ، وَهُوَ الدَّقْعَاءُ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَا مَتْرَبَةٍ هُوَ الْمَطْرُوحُ فِي الطَّرِيقِ، الَّذِي لَا بَيْتَ لَهُ وَلَا شَيْءَ يَقِيهِ مِنَ التُّرَابِ. وَفِي رِوَايَةٍ: هُوَ الَّذِي لَصِقَ بِالدَّقْعَاءِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، وقال عكرمة: هو الفقير المدين الْمُحْتَاجُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الَّذِي لا أحد له، وقال قتادة: هُوَ ذُو الْعِيَالِ، وَكُلُّ هَذِهِ قَرِيبَةُ الْمَعْنَى، وقوله تعالى: {ثُمَّ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ} أَيْ ثُمَّ هُوَ مَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ الطَّاهِرَةِ مُؤْمِنٌ بِقَلْبِهِ، مُحْتَسِبٌ ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً}، وقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ} أَيْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْعَامِلِينَ صَالِحًا، «الْمُتَوَاصِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى النَّاسِ، وَعَلَى الرَّحْمَةِ بِهِمْ»، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأرض يرحمكم من في السماء». وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَرْوِيهِ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا فَلَيْسَ منا» (أخرجه أبو داود)، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أَيِ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، ثُمَّ قَالَ:

{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} أَيْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ، {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} أَيْ مُطْبَقَةٌ عَلَيْهِمْ فَلَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا، وَلَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا، قال أبو هريرة {مُّؤْصَدَةٌ} أي مطبقة، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: مُغْلَقَةُ الْأَبْوَابِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَصَدَ الباب أي أغلقه، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {مُّؤْصَدَةٌ} حَيْطٌ لَا بَابَ لَهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ {مُّؤْصَدَةٌ}: مُطْبِقَةٌ فَلَا ضَوْءَ فِيهَا وَلَا فُرَجَ وَلَا خُرُوجَ مِنْهَا آخِرَ الْأَبَدِ، وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ بِكُلِّ جَبَّارٍ وَكُلِّ شَيْطَانٍ، وَكُلِّ مَنْ كَانَ يَخَافُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا شره، فأوثقوا بالحديد، ثُمَّ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ ثُمَّ أَوْصَدُوهَا عَلَيْهِمْ أَيْ أَطْبَقُوهَا، قَالَ: فَلَا وَاللَّهِ لَا تَسْتَقِرُّ أَقْدَامُهُمْ عَلَى قَرَارٍ أَبَدًا، وَلَا وَاللَّهِ لَا يَنْظُرُونَ فِيهَا إِلَى أَدِيمِ سَمَاءٍ أَبَدًا، وَلَا وَاللَّهِ لَا تَلْتَقِي جُفُونُ أَعْيُنِهِمْ عَلَى غَمْضِ نَوْمٍ أَبَدًا، وَلَا وَاللَّهِ لَا يَذُوقُونَ فيها بارد شراب أبداً (أخرجه ابن أبي حاتم).

91 - سورة الشمس

- 91 - سورة الشمس

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - 1 - وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا - 2 - وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا - 3 - وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا - 4 - وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا - 5 - وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا - 6 - وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا - 7 - وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا - 8 - فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا - 9 - قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا - 10 - وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا قَالَ مُجَاهِدٌ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}: أَيْ وَضَوْئِهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَضُحَاهَا} النَّهَارُ كُلُّهُ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِالشَّمْسِ وَنَهَارِهَا، لِأَنَّ ضَوْءَ الشَّمْسِ الظَّاهِرَ هُوَ النَّهَارُ، {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا} قال مجاهد: تبعها، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا} قَالَ: يَتْلُو النَّهَارَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا تَلَاهَا لَيْلَةَ الْهِلَالِ إِذَا سَقَطَتِ الشَّمْسُ رُؤِيَ الْهِلَالُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ يَتْلُوهَا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ، ثُمَّ هِيَ تَتْلُوهُ وَهُوَ يَتَقَدَّمُهَا

في النصف الأخير من الشهر، وقوله تعالى: {والنهار إِذَا جَلاَّهَا} قال مجاهد: أضاءها، وقال قتادة: إذا غشيها النهار، وتأول بعضهم ذَلِكَ بِمَعْنَى: وَالنَّهَارُ إِذَا جَلَّا الظُّلْمَةِ لِدَلَالَةِ الكلام عليها (ذكره ابن جرير عن بعض أهل اللغة). (قلت): ولو أن الْقَائِلَ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِمَعْنَى {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا} أَيِ الْبَسِيطَةُ لَكَانَ أَوْلَى، وَلَصَحَّ تَأْوِيلُهُ فِي قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} فَكَانَ أَجْوَدْ وَأَقْوَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا} إنه كقوله تعالى: {والنهار إِذَا تجلى}، وأما ابن جرير فاختار عود الضمير ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الشَّمْسِ لِجَرَيَانِ ذِكْرِهَا، وَقَالُوا في قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} يَعْنِي إِذَا يَغْشَى الشَّمْسَ حين تغيب فتظلم الآفاق. وقال بقية: إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ قَالَ الرَّبُّ جلَّ جَلَالُهُ: غشي عبادي خلقي العظيم، فالليل تهابه، وَالَّذِي خَلَقَهُ أَحَقُّ أَنْ يَهَابَ (رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم). وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ (مَا) ههنا مَصْدَرِيَّةٌ بِمَعْنَى: وَالسَّمَاءِ وَبِنَائِهَا، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (مَنْ) يَعْنِي: وَالسَّمَاءِ وَبَانِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَكِلَاهُمَا مُتَلَازِمٌ وَالْبِنَاءُ هو الرفع كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ - أَيْ بِقُوَّةٍ - وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}، وقوله تعالى: {وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} قَالَ مُجَاهِدٌ: {طَحَاهَا} دَحَاهَا، وقال ابن عباس: أي خلق فيها، وقال مجاهد وقتادة والضحّاك: {طَحَاهَا} بَسَطَهَا، وَهَذَا أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: طَحَوْتُهُ مِثْلُ دَحَوْتُهُ أَيْ بَسَطْتُهُ، وقوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} أَيْ خَلَقَهَا سَوِيَّةً مُسْتَقِيمَةً عَلَى الْفِطْرَةِ الْقَوِيمَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ». وَفِي صَحِيحِ مسلم: "يَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ". وَقَوْلُهُ تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أَيْ فَأَرْشَدَهَا إِلَى فُجُورِهَا وتقواها أي بين ذلك لها وَهَدَاهَا إِلَى مَا قُدِّرَ لَهَا، قَالَ ابْنُ عباس: بيّن لها الخير والشر، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَلْهَمَهَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جَعَلَ فِيهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. وفي الحديث: إِنَّ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ أَوْ جُهَيْنَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فيه ويتكادحون، أشيء قضي عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، أَمْ شَيْءٌ مما يَسْتَقْبِلُونَ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وَأَكَّدَتْ بِهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ؟ قَالَ: «بَلْ شَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ»، قَالَ: فَفِيمَ نَعْمَلُ؟ قَالَ: "مَنْ كَانَ اللَّهُ خَلَقَهُ لِإِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْنِ يُهَيِّئُهُ لها، وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {ونفسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (رَوَاهُ أحمد ومسلم). وقوله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} المعنى قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل، كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى} {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أَيْ دَسَّسَهَا أَيْ أخملها حَتَّى رَكِبَ الْمَعَاصِيَ وَتَرَكَ طَاعَةَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: قَدْ أفلح من زكى نَفْسَهُ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّى اللَّهُ نَفْسَهُ، كما قال ابن عباس (هذا القول عن ابن عباس ورد به حديث مرفوع: «أفلحت نفس زكّاها الله عزَّ وجلَّ» (أخرجه ابن أبي حاتم ولكن في إسناده ضعف). وروى ابن أبي حاتم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} قَالَ: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زكاها، أنت وليها ومولاها» (أخرجه ابن أبي حاتم)، وفي رواية عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا فَقَدَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَضْجَعِهِ، فَلَمَسَتْهُ بِيَدِهَا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَهُوَ يَقُولُ: «رَبِّ أَعْطِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أنت وليها ومولاها» (أخرجه أحمد). حديث آخر: روى الإمام أحمد، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْهَرَمِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَعِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَدَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا» (أخرجه أحمد ومسلم). قَالَ زَيْدٌ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمناهن ونحن نعلمكموهن.

- 11 - كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ - 12 - إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا - 13 - فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا - 14 - فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا - 15 - وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا يخبرتعالى عَنْ ثَمُودَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ، بِسَبَبِ مَا كانوا عليه من الطغيان والبغي، فَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ تَكْذِيبًا فِي قُلُوبِهِمْ بِمَا جَاءَهُمْ به رسولهم عليه الصلاة والسلام مِنَ الْهُدَى وَالْيَقِينِ {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} أَيْ أشقى القبيلة وهو (قدار بن سالف) عاقر الناقة، وهو الذي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} الآية، وكان هذا الرجل عزيزاً شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ، نَسِيبًا رَئِيسًا مُطَاعًا، كَمَا قال الإمام أحمد: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ النَّاقَةَ، وَذَكَرَ الَّذِي عَقَرَهَا، فَقَالَ: «{إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَارِمٌ عَزِيزٌ منيع في رهطه مثل أبي زمعة» (أخرجه البخاري ومسلم وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زمعة). وروى ابن أبي حاتم، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِيٍّ: «أَلَا أُحَدِّثُكَ بِأَشْقَى النَّاسِ؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «رَجُلَانِ أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذَا - يَعْنِي قَرْنَهُ - حَتَّى تبتل منه هذه» يعني لحيته (أخرجه ابن أبي حاتم). وقوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} يَعْنِي صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ {نَاقَةَ اللَّهِ} أَيِ احْذَرُوا نَاقَةَ اللَّهِ أَنْ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ، {وَسُقْيَاهَا} أَيْ لَا تَعْتَدُوا عَلَيْهَا فِي سُقْيَاهَا فَإِنَّ لَهَا شِرْبُ يَوْمٍ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ معلوم، قال الله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} أَيْ كَذَّبُوهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، فَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ أَنْ عَقَرُوا النَّاقَةَ، الَّتِي أَخْرَجَهَا اللَّهُ مِنَ الصَّخْرَةِ آيَةً لَهُمْ وَحُجَّةً عَلَيْهِمْ، {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ} أَيْ غَضِبَ عَلَيْهِمْ فَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ، {فَسَوَّاهَا} أَيْ فَجَعَلَ الْعُقُوبَةَ نَازِلَةً عَلَيْهِمْ عَلَى السَّوَاءِ. قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ أُحَيْمِرَ ثَمُودَ لَمْ يَعْقِرِ النَّاقَةَ حَتَّى تَابَعَهُ صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ وَذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، فَلَمَّا اشْتَرَكَ الْقَوْمُ في عقرها دمدم الله عليهم بذنبهم، فسواها، وقوله تعالى: {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَخَافُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ تَبِعَةً (وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ والحسن وبكر الْمُزَنِيُّ وَغَيْرُهُمْ)، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} أَيْ لَمْ يَخَفِ الَّذِي عَقَرَهَا عَاقِبَةَ مَا صَنَعَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عليه، والله أعلم.

92 - سورة الليل

- 92 - سورة الليل

[مقدمة] تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذٍ: «فَهَلَّا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى».

بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- 1 - وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى - 2 - وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى - 3 - وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى - 4 - إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى - 5 - فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - 6 - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - 7 - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى - 8 - وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - 9 - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - 10 - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى - 11 - وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى أقسم تعالى بالليل {إِذَا يَغْشَى} أَيْ إِذَا غَشِيَ الْخَلِيقَةَ بِظَلَامِهِ، {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} أَيْ بِضِيَائِهِ وَإِشْرَاقِهِ، {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} كقوله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً}، {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} أَيْ أَعْمَالُ الْعِبَادِ الَّتِي اكتسبوها متضادة وَمُتَخَالِفَةٌ، فَمِنْ فَاعِلٍ خَيْرًا وَمِنْ فَاعِلٍ شَرًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} أَيْ أَعْطَى مَا أُمِرَ بِإِخْرَاجِهِ، وَاتَّقَى اللَّهَ في أموره، {وَصَدَّقَ بالحسنى} بالمجازاة على ذلك أي بالثواب، وقال ابن عباس، ومجاهد: {صدّق بالحسنى} أي بالخُلْف، وقال الضحّاك: بلا إله إلا الله، وقال أُبيّ بن كعب: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحسنى قال: "الحسنى: الجنة" (أخرجه ابن أبي حاتم). وقوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي لِلْخَيْرِ، وقال زيد بن أسلم: يعني للجنة، {وَأَمَّا مَن بَخِلَ} أَيْ بِمَا عِنْدَهُ {وَاسْتَغْنَى} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ بَخِلَ بِمَالِهِ وَاسْتَغْنَى عَنْ ربه عزَّ وجلَّ: {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أَيْ بِالْجَزَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أَيْ لِطَرِيقِ الشَّرِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُجَازِي مَنْ قَصَدَ الْخَيْرَ بِالتَّوْفِيقِ لَهُ، وَمَنْ قَصَدَ الشَّرَّ بِالْخِذْلَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِقَدَرٍ مُقَدَّرٍ، وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى هذا المعنى كثيرة. روى البخاري عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه

قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فِي جِنَازَةٍ فَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ»، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى - إلى قوله - للعسرى} (أخرجه البخاري)، وفي رواية أُخرى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَسَ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ - أَوْ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ - إِلَّا كُتِبَ مكانها من الجنة والنار، وإلا كُتِبَتْ شَقِيَّةٌ أَوْ سَعِيدَةٌ»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مَنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنَّا مَنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَسَيَصِيرُ إِلَى أَهْلِ الشَّقَاءِ؟ فَقَالَ: «أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُونَ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ»، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (أخرجه البخاري وبقية الجماعة). وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَعْمَلُ لِأَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ أَوْ لِأَمْرٍ نَسْتَأْنِفُهُ؟ فَقَالَ: «لِأَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ» فَقَالَ سُرَاقَةُ: فَفِيمَ الْعَمَلُ إِذًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل عامل ميسر لعمله» (رواه مسلم وابن جرير). وفي الحديث: "مَا مِنْ يَوْمٍ غَرَبَتْ فِيهِ شَمْسُهُ إِلَّا وَبِجَنَبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ يَسْمَعُهُمَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا" وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْقُرْآنَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ). وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي (أَبِي بكر الصديق) رضي الله عنه كان يُعْتِقُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ، فَكَانَ يُعْتِقُ عَجَائِزَ وَنِسَاءً إِذَا أَسْلَمْنَ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: أَيْ بُنَيَّ أَرَاكَ تَعْتِقُ أُناساً ضُعَفَاءَ، فَلَوْ أَنَّكَ تَعْتِقُ رِجَالًا جُلَدَاءَ يَقُومُونَ مَعَكَ، وَيَمْنَعُونَكَ وَيَدْفَعُونَ عنك، فقال: أي أبت إنما أريد ما عند الله، فنزلت الآية: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} (أخرجه ابن جرير)، وقوله تَعَالَى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} قَالَ مجاهد: أي إذا مات، وقال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: إِذَا تَرَدَّى فِي النَّارِ.

- 12 - إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى - 13 - وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالْأُولَى - 14 - فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى - 15 - لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الْأَشْقَى - 16 - الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى - 17 - وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى - 18 - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى - 19 - وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى - 20 - إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى - 21 - وَلَسَوْفَ يَرْضَى قَالَ قَتَادَةُ {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}: أَيْ نُبَيِّنُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْهُدَى وَصَلَ إِلَى اللَّهِ، وَجَعَلَهُ كَقَوْلِهِ تعالى: {وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل}، وقوله تعالى: {وَإِن لَنَا لَلآخِرَةَ وَالْأُولَى} أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكُنَا وأنا المتصرف فيهما، وقوله تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ تَوَهَّجُ، وفي الحديث: «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي منهما دماغه» أخرجه البخاري. وفي رواية

لمسلم: «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أشد منه عذاباً وإنه لأهونهم عذاباً» (أخرجه مسلم عن النعمان بن بشير)، وقوله تعالى: {لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الْأَشْقَى} أَيْ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الْأَشْقَى، ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ: {الَّذِي كَذَّبَ} أَيْ بِقَلْبِهِ {وَتَوَلَّى} أَيْ عَنِ الْعَمَلِ بِجَوَارِحِهِ وأركانه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا شَقِيٌّ»، قِيلَ: وَمَنِ الشَّقِيُّ؟ قَالَ: «الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِطَاعَةٍ، وَلَا يَتْرُكُ لِلَّهِ مَعْصِيَةً» (أخرجه الإمام أحمد). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ أُمَّتِي تَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عصاني فقد أبى» (أخرجه البخاري وأحمد عن أبي هريرة)، وقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} أَيْ وَسَيُزَحْزَحُ عَنِ النَّارِ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الْأَتْقَى، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} أَيْ يَصْرِفُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ ربه ليزكي نفسه {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى} أَيْ ليس بذله في مكافأة من أسدى إليه معروفاً، وَإِنَّمَا دَفَعَهُ ذَلِكَ {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} أَيْ طَمَعًا فِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ رُؤْيَتُهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} أَيْ وَلَسَوْفَ يَرْضَى من اتصف بهذه الصفات. وقد ذكر المفسرون أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ حكى الإجماع عَلَى ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهَا وأولى الأمة بعمومها فَإِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا تَقِيًا، كَرِيمًا جَوَادًا، بَذَّالًا لِأَمْوَالِهِ فِي طَاعَةِ مَوْلَاهُ، وَنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ فَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ عَلَى السَّادَاتِ وَالرُّؤَسَاءِ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ (عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ) وَهُوَ سَيِّدُ ثَقِيفٍ يَوْمَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ: أَمَا والله لولا يدٌ لك عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ قَدْ أَغْلَظَ لَهُ فِي الْمَقَالَةِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُ مَعَ سَادَاتِ الْعَرَبِ وَرُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ فكيف بمن عداهم؟ ولهذا قال تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «من أعتق زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، دَعَتْهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ»، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْهَا ضَرُورَةٌ، فَهَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» (أخرجه الشيخان).

93 - سورة الضحى.

- 93 - سورة الضحى.

[مقدمة] يستحب التكبير من آخر الضحى لآخر سورة الناس، وقد ذكر القراء أن ذلك سنّة مأثورة وذكروا فِي مُنَاسَبَةِ التَّكْبِيرِ مِنْ أَوَّلِ (سُورَةِ الضُّحَى) أَنَّهُ لَمَّا تَأَخَّرَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَتَرَ تِلْكَ الْمُدَّةَ ثم جاء الْمَلَكُ فَأَوْحَى إِلَيْهِ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} السورة بتمامها كبّر فرحاً وسروراً (قال ابن كثير: لم يُرْوَ ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِصِحَّةٍ وَلَا ضَعْفٍ فَاللَّهُ أَعْلَمُ).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - وَالضُّحَى - 2 - وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى - 3 - مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى - 4 - وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى - 5 - وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى - 6 - أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى - 7 - وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى - 8 - وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى - 9 - فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ - 10 - وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تنهر - 11 - وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فحدث روى الإمام أحمد، عن جندب بن عبد الله قال: اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ، فَأَتَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا قَدْ تَرَكَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي). وفي رواية: أَبْطَأَ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، فقال المشركون: ودع محمداً ربه، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}، وَهَذَا قَسَمٌ مِنْهُ تَعَالَى بِالضُّحَى وَمَا جَعَلَ فِيهِ مِنَ الضِّيَاءِ {وَاللَّيْلِ إِذَا سجى} أي سكن فأظلم وادلهم، وذلك دليل ظاهر على قدرته تعالى، كما قال تعالى: {والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، وقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} أَيْ مَا تَرَكَكَ {وَمَا قَلَى} أَيْ وَمَا أَبْغَضَكَ، {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} أي وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ هَذِهِ الدَّارِ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْهَدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَأَعْظَمَهُمْ لَهَا إِطْرَاحًا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ سِيرَتِهِ، وَلَمَّا خيِّر عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، بَيْنَ الخلد في

الدُّنْيَا إِلَى آخِرِهَا ثُمَّ الْجَنَّةِ، وَبَيْنَ الصَّيْرُورَةِ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، اخْتَارَ مَا عِنْدَ الله على هذه الدنيا الدنية، روى الإمام أحمد، عن عبد الله بن مَسْعُودٍ قَالَ: اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ فَأَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ جَعَلْتُ أَمْسَحُ جَنْبَهُ، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا آذَنْتَنَا حَتَّى نَبْسُطَ لَكَ عَلَى الْحَصِيرِ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مالي وللدنيا إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ ظَلَّ تَحْتَ شجرة ثم راح وتركها» (أخرجه أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صحيح). وقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ يُعْطِيهِ حَتَّى يُرْضِيَهُ فِي أُمته، وَفِيمَا أَعَدَّهُ لَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ، ومنَّ جُمْلَتِهِ نَهْرُ الكوثر الذي حافتاه قباب الؤلؤ المجوف وطينه مسك أذفر كما سيأتي. وروي عن ابن عباس أنه قال: عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم مَا هُوَ مَفْتُوحٌ عَلَى أُمته مِنْ بَعْدِهِ كَنْزًا كَنْزًا فَسُرَّ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} فَأَعْطَاهُ فِي الْجَنَّةِ أَلْفَ أَلْفَ قَصْرٍ فِي كُلِّ قَصْرٍ مَا يَنْبَغِي له من الأزواج والخدم (أخرجه ابن جرير، قال ابن كثير: إسناده صحيح، ومثل هذا لايقال إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ)، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ رِضَاءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار، قال الحسن: يعني بذلك الشفاعة، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى يُعَدِّدُ نِعَمَهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّيَ وهو حمل في بطن أمه، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ سِتُّ سِنِينَ، ثُمَّ كَانَ فِي كَفَالَةِ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانِ سِنِينَ، فَكَفَلَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَحُوطُهُ وَيَنْصُرُهُ وَيَرْفَعُ مِنْ قَدْرِهِ وَيُوَقِّرُهُ وَيَكُفُّ عَنْهُ أَذَى قَوْمِهِ بَعْدَ أَنِ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمْرِهِ، هَذَا وَأَبُو طَالِبٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللَّهِ وَحُسْنِ تَدْبِيرِهِ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِقَلِيلٍ، فَأَقْدَمَ عَلَيْهِ سُفَهَاءُ قُرَيْشٍ وَجُهَّالُهُمْ، فَاخْتَارَ اللَّهُ لَهُ الْهِجْرَةَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ إِلَى بَلَدِ الْأَنْصَارِ من الأوس والخزرج، كما أحرى الله سنته على الوجه الأتم الأكمل، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ آوَوْهُ وَنَصَرُوهُ وَحَاطُوهُ وَقَاتَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ حِفْظِ اللَّهِ لَهُ وَكِلَاءَتِهِ وَعِنَايَتِهِ به. وقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} كَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} الآية، ومنهم من قال: إن المراد بهذا أن النبي صلَّى الله عليه وسلم ضَلَّ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ صَغِيرٌ ثُمَّ رَجَعَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ضَلَّ وَهُوَ مَعَ عَمِّهِ فِي طَرِيقِ الشَّامِ وَكَانَ رَاكِبًا نَاقَةً فِي الليل، فجاء إبليس فعدل بِهَا عَنِ الطَّرِيقِ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ فَنَفَخَ إِبْلِيسَ نَفْخَةً ذَهَبَ مِنْهَا إِلَى الْحَبَشَةِ، ثُمَّ عَدَلَ بالراحلة إلى الطريق، حكاه البغوي، وقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى} أَيْ كُنْتَ فَقِيرًا ذَا عِيَالٍ فَأَغْنَاكَ اللَّهُ عَمَّنْ سِوَاهُ، فَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ مَقَامَيِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ، وَالْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، صَلَوَاتُ الله وسلامه عليه، وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» (أخرجه الشيخان). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ الله بما آتاه» (أخرجه مسلم). ثم قال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} أَيْ كَمَا كُنْتَ

يَتِيمًا فَآوَاكَ اللَّهُ، فَلَا تَقْهَرِ الْيَتِيمَ، أَيْ لَا تُذِلَّهُ وَتَنْهَرْهُ وَتُهِنْهُ، وَلَكِنْ أَحْسِنْ إِلَيْهِ وتلطف به، وقال قَتَادَةُ: كُنْ لِلْيَتِيمِ كَالْأَبِ الرَّحِيمِ، {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} أَيْ وَكَمَا كُنْتَ ضَالًّا فَهَدَاكَ اللَّهُ، فَلَا تَنْهَرِ السَّائِلَ فِي الْعِلْمِ الْمُسْتَرْشِدَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} أَيْ فَلَا تَكُنْ جَبَّارًا وَلَا مُتَكَبِّرًا، وَلَا فَحَّاشًا وَلَا فَظًّا عَلَى الضُّعَفَاءِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي رُدَّ الْمِسْكِينَ بِرَحْمَةٍ وَلِينٍ، {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أَيْ وَكَمَا كُنْتَ عَائِلًا فَقِيرًا فَأَغْنَاكَ اللَّهُ، فَحَدِّثْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ، كَمَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: «وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ، مُثِنِينَ بِهَا عَلَيْكَ، قَابِلِيهَا وأتمها علينا». وعن أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أَنَّ من شكر النعم أن يحدث بها (رواه ابن جرير)، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أنَس أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ الْأَنْصَارُ بِالْأَجْرِ كُلِّهِ، قَالَ: «لَا، مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ، وَأَثْنَيْتُمْ عليهم» (أخرجه الشيخان) وروى أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَن لاَّ يشكر الناس» (أخرجه أبو داود والترمذي). وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي النُّبُوَّةَ الَّتِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ، وفي رواية عنه: القرآن، وقال الحسن بن علي: مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ فَحَدِّثْ إِخْوَانَكَ، وَقَالَ ابن إسحاق: مَا جَآءَكَ مِنَ اللَّهُ مِنْ نِعْمَةٍ وَكَرَامَةٍ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَحَدِّثْ بها واذكرها وادع إليها.

94 - سورة الشرح.

- 94 - سورة الشرح.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ - 2 - وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ - 3 - الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ - 4 - وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ - 5 - فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً - 6 - إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا - 7 - فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ - 8 - وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ يَقُولُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} يعني قد شَرَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ أَيْ نَوَّرْنَاهُ، وَجَعَلْنَاهُ فَسِيحًا رَحِيبًا وَاسِعًا كَقَوْلِهِ: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صدره للإسلام}، وَكَمَا شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ كَذَلِكَ جَعَلَ شَرْعَهُ فسيحاً سَمْحًا سَهْلًا، لَا حَرَجَ فِيهِ وَلَا إِصْرَ وَلَا ضِيقَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} شرح صدره ليلة الإسراء، وهذا وإن كان واقعاً ليلة الإسراء، وَلَكِنْ لَا مُنَافَاةَ، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ شَرْحِ صدره الحسي الشرح المعنوي أيضاً، وقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} بِمَعْنَى {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخر}، {الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} الإنقاض الصوت أي أثقلك حمله، وقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ»، وَقَالَ قَتَادَةُ: رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَيْسَ خَطِيبٌ وَلَا مُتَشَهِّدٌ وَلَا صَاحِبُ صَلَاةٍ إِلَّا يُنَادِي بِهَا، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، روى ابن جرير عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ رَبِّي وَرَبَّكَ يَقُولُ: كَيْفَ رَفَعْتُ ذِكْرَكَ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «إِذَا ذكرتُ ذكرتَ معي» (رواه ابن جرير). وَحَكَى الْبَغَوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ المراد بذلك الأذان، يعني ذكره فيه، كما قال حسان بن ثابت: وضم الإله اسم النبي إلى اسمه * إذ قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ أَشْهَدُ وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ * فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ وَقَالَ آخَرُونَ: رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَنَوَّهَ بِهِ حِينَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَأَنْ يَأْمُرُوا أُممهم بِالْإِيمَانِ بِهِ، ثُمَّ شَهَرَ ذِكْرَهُ فِي أُمَّتِهِ، فَلَا يُذْكَرُ اللَّهُ إِلَّا ذُكِرَ معه.

وقوله تَعَالَى: {فَإِن مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يوجد اليسر، ثم أكد هذا الخبر، بقوله: {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً}، قال الحسن: كَانُوا يَقُولُونَ: لَا يَغْلِبُ عُسْرٌ وَاحِدٌ يُسْرَيْنِ اثنين، وعن قَتَادَةُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَّرَ أَصْحَابَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فقال: «لن يغلب عسر يسرين» (رواه ابن جرير)، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْعُسْرَ مُعَرَّفٌ فِي الْحَالَيْنِ، فَهُوَ مُفْرَدٌ، وَالْيُسْرُ مُنَكَّرٌ، فَتَعَدَّدَ، وَلِهَذَا قَالَ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» يَعْنِي قَوْلَهُ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} فالعسر الاول عين الثاني، واليسر تعدّد، ومما يروى عن الشافعي أَنَّهُ قَالَ: صَبْرًا جَمِيلًا مَا أَقْرَبَ الْفَرَجَا * مَنْ رَاقَبَ اللَّهَ فِي الْأُمُورِ نَجَا مَنْ صَدَقَ اللَّهَ لَمْ يَنَلْهُ أَذًى * وَمَنْ رَجَاهُ يكون حيث رجا وقال الشاعر: وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيقُ بِهَا الْفَتَى * ذَرْعًا وَعِنْدَ اللَّهِ مِنْهَا الْمَخْرَجُ كَمُلَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلْقَاتُهَا * فرجت وكان يظنها لا تفرج وقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أَيْ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ أُمور الدُّنْيَا وَأَشْغَالِهَا، وَقَطَعْتَ علائقها فانصب إلى الْعِبَادَةِ، وَقُمْ إِلَيْهَا نَشِيطًا فَارِغَ الْبَالِ، وَأَخْلِصْ لربك النية والرغبة، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَقُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَانْصَبْ لربك. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْفَرَائِضِ فانصب في قيام الليل، وفي رواية عنه {فانصب} بَعْدَ فَرَاغِكَ مِنَ الصَّلَاةِ وَأَنْتَ جَالِسٌ، وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} يَعْنِي فِي الدعاء، وقال الضحّاك {فَإِذَا فَرَغْتَ} أَيْ مِنَ الْجِهَادِ {فَانْصَبْ} أَيْ فِي الْعِبَادَةِ {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} قَالَ الثَّوْرِيُّ: اجْعَلْ نِيَّتَكَ وَرَغْبَتَكَ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ.

95 - سورة التين.

- 95 - سورة التين.

[مقدمة] روى مالك عن البراء بن عازب قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في سفره فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ» أَخْرَجَهُ الجماعة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ - 2 - وَطُورِ سِينِينَ - 3 - وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ - 4 - لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ - 5 - ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ - 6 - إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ - 7 - فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ - 8 - أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ اخْتَلَفَ المفسرون ههنا على أقوال كثيرة فقيل: المراد بالتين دمشق، وَقِيلَ: الْجَبَلُ الَّذِي عِنْدَهَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ مسجد أصحاب الكهف، وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ مَسْجِدُ نُوحٍ الَّذِي عَلَى الْجُودِيِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ تِينِكُمْ هَذَا {والزيتون} قال قتادة: هو بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: هُوَ هَذَا الزيتون الذي تعصرون، {وَطُورِ سِينِينَ} هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى عليه السلام، {وهذا البلد الأمين} يعني مكة (هو قول جمهور المفسرين، قال ابن كثير: ولا خلاف في ذلك)، قاله ابن عباس ومجاهد، وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: هَذِهِ مَحَالُّ ثَلَاثَةٌ، بَعَثَ اللَّهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا مِنْ أُولِي الْعَزْمِ، أَصْحَابِ الشَّرَائِعِ الْكِبَارِ. (فَالْأَوَّلُ) مَحَلَّةُ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَهِيَ (بَيْتُ الْمَقْدِسِ) الَّتِي بعث الله فيها عيسى ابن مريم عليه السلام، (وَالثَّانِي) طُورُ سِينِينَ وَهُوَ (طُورُ سَيْنَاءَ) الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، (وَالثَّالِثُ) مَكَّةُ وَهُوَ (الْبَلَدُ الْأَمِينُ) الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ فِيهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: وَفِي آخِرِ التَّوْرَاةِ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ: جَاءَ اللَّهُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ - يَعْنِي الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ - وَأَشْرَقَ مِنْ سَاعِيرَ - يعني جبل بَيْتَ الْمَقْدِسِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ مِنْهُ عِيسَى - وَاسْتَعْلَنَ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ - يَعْنِي جِبَالَ مَكَّةَ التي أرسل الله منها محمداً صلى الله عليه وسلم، فذكرهم مخبراً عنهم عَلَى التَّرْتِيبِ الْوُجُودِيِّ، بِحَسَبِ تَرْتِيبِهِمْ فِي الزَّمَانِ، وَلِهَذَا أَقْسَمَ بِالْأَشْرَفِ ثُمَّ

الأشرف منه، ثم الأشرف منهما، وقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَشَكْلٍ؛ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ، سَوِيَّ الْأَعْضَاءِ حَسَنَهَا. {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي إلى النار (قاله مجاهد والحسن وأبو العالية وابن زيد)، أي بَعْدَ هَذَا الْحُسْنِ وَالنَّضَارَةِ، مَصِيرُهُ إِلَى النَّارِ إِنْ لَمْ يُطِعِ اللَّهَ وَيَتَّبِعِ الرُّسُلَ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، وَقَالَ بعضهم: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} إلى أَرْذَلِ العمر (وروي هذا القول عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ، حَتَّى قَالَ عِكْرِمَةُ: مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ)، وَاخْتَارَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَمَا حَسُنَ اسْتِثْنَاءُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْهَرَمَ قَدْ يُصِيبُ بَعْضَهُمْ، وإنما المراد ما ذكرناه كقوله تَعَالَى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وعملوا الصالحات}، وَقَوْلُهُ: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أَيْ غَيْرُ مقطوع، ثم قال: {فَمَا يُكَذِّبُكَ} أي يَا ابْنَ آدَمَ {بَعْدُ بِالدِّينِ}؟ أَيْ بِالْجَزَاءِ في المعاد، ولقد عَلِمْتَ الْبَدْأَةَ وَعَرَفْتَ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْبَدْأَةِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الرَّجْعَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى:، فَأَيُّ شَيْءٍ يَحْمِلُكَ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالْمَعَادِ وَقَدْ عرفت هذا؟ روى ابن أبي حاتم عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ، قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين} عنى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: «مَعَاذَ الله» عنى به الإنسان (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} أَيْ أَمَا هُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ الَّذِي لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ أحداً، ومن عدله أن يقيم القيامة فينتصف للمظلوم فِي الدُّنْيَا مِمَّنْ ظَلَمَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: فَإِذَا قَرَأَ أَحَدُكُمْ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَأَتَى عَلَى آخِرِهَا {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فَلْيَقُلْ: بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ من الشاهدين.

96 - سورة العلق.

- 96 - سورة العلق.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - 2 - خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ - 3 - اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ - 4 - الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ - 5 - عَلَّمَ الْإِنْسَانَ ما لم يعلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِي ذَوَاتِ الْعَدَدِ، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها حتى فجأه الوحي، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ - قَالَ - فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - حَتَّى بَلَغَ - مَا لَمْ يَعْلَمْ". قَالَ: فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، فزمَّلوه حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الروع فقال: يا خديجة: «مالي»؟! وأخبرها الخبر، وقال: «قد خشيت على نفسي». فَقَالَتْ لَهُ: «كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبَ الْحَقِّ»، ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ (وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ) بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان أمرأ قد تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، وَكَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُكْتَبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: أَيِ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ وَرَقَةُ: ابْنَ أَخِي مَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا رَأَى فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنزل على موسى، ليتني فيها جذعاً، ليتني أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أو مخرجيّ هُمْ؟» فَقَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي" (أخرجه الشيخان والإمام أحمد واللفظ له). فَأَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ الْمُبَارَكَاتُ، وَهُنَّ أَوَّلُ رَحْمَةٍ رَحِمَ اللَّهُ بِهَا الْعِبَادَ، وَأَوَّلُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ

اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَفِيهَا التَّنْبِيهُ عَلَى ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ عَلَقَةٍ، وَأَنَّ مِنْ كَرَمِهِ تَعَالَى أَنْ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ فَشَرَّفَهُ وَكَرَّمَهُ بِالْعِلْمِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي امْتَازَ بِهِ أَبُو الْبَرِيَّةِ آدَمُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ؛ وَالْعِلْمُ تَارَةً يَكُونُ فِي الْأَذْهَانِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان (وفي الأثر: قيدوا العلم بالكتابة)، ذهني، ولفظي، ورسمي، فَلِهَذَا قَالَ: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، وَفِي الآثر: من عمل بما علم ورثه اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمْ.

- 6 - كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى - 7 - أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى - 8 - إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى - 9 - أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى - 10 - عَبْداً إِذَا صَلَّى - 11 - أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى - 12 - أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى - 13 - أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى - 14 - أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى - 15 - كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ - 16 - نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ - 17 - فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ - 18 - سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ - 19 - كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ، أنه ذو أشر وَبَطَرٍ وَطُغْيَانٍ، إِذَا رَأَى نَفْسَهُ قَدِ اسْتَغْنَى وَكَثُرَ مَالُهُ، ثُمَّ تَهَدَّدَهُ وَتَوَعَّدَهُ وَوَعَظَهُ فَقَالَ: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} أَيْ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ وَالْمَرْجِعُ، وَسَيُحَاسِبُكَ عَلَى مَالِكِ مِنْ أَيْنَ جمعته وفيم صرفته. عن عبد الله بن مسعود قال: مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: صَاحِبُ الْعِلْمِ وَصَاحِبُ الدُّنْيَا، ولا يستويان، فأما صاحب العلم فيزداد رضى الرَّحْمَنِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الدُّنْيَا فَيَتَمَادَى فِي الطُّغْيَانِ، قَالَ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}، وَقَالَ لِلْآخَرِ: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء}، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: طالب علم، وطالب دنيا" (أخرجه ابن أبي حاتم)، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صلَّى} نَزَلَتْ فِي (أَبِي جَهْلٍ) لَعَنَهُ اللَّهُ، تَوَعَّدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الصلاة عند البيت، فوعظه تَعَالَى بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَوَّلًا، فَقَالَ: {أَرَأَيْتَ إِن كَانَ على الهدى} أي فما أظنك إِن كَانَ هَذَا الَّذِي تَنْهَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَةِ فِي فِعْلِهِ {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} بِقَوْلِهِ وَأَنْتَ تَزْجُرُهُ وَتَتَوَعَّدُهُ عَلَى صِلَاتِهِ؟ وَلِهَذَا قَالَ: {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}؟ أَيْ أَمَا عَلِمَ هَذَا النَّاهِي لِهَذَا الْمُهْتَدِي أَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ وَيَسْمَعُ كَلَامَهُ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى فِعْلِهِ أَتَمَّ الْجَزَاءِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا وَمُتَهَدِّدًا {كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ} أَيْ لَئِنْ لَمْ يَرْجِعْ عما هو فيه من الشقاق والعناد {لنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} أَيْ لَنَسِمَنَّهَا سَوَادًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} يَعْنِي نَاصِيَةَ (أَبِي جهل) كاذبة في مقالها، خاطئة في أفعالها، {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أَيْ قَوْمَهُ وَعَشِيرَتَهُ أَيْ لِيَدَعُهُمْ يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ، {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} وَهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ حَتَّى يَعْلَمَ مَنْ يَغْلِبُ، أَحِزْبُنَا أَوْ حِزْبُهُ؟ روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لئن فعل لأخذته الملائكة» (أخرجه البخاري). عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ، فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا؟ وَتَوَعَّدَهُ فَأَغْلَظَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَهَرَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ بِأَيِّ شَيْءٍ تُهَدِّدُنِي؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَكْثَرُ هَذَا الْوَادِي نَادِيًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَلْيَدْعُ

نَادِيَهُ * سندعُ الزبانية} وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ مَلَائِكَةُ العذاب من ساعته (أخرجه أحمد والترمذي، وقال حسن صحيح). وروى ابن جرير، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ؛ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ، فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي كَذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، وَلَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجَأَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكِصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قال: فقيل له مالك؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وهولاً وأجنحة! قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا»، قال: وأنزل الله: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى} (رواه أحمد والنسائي وابن جرير واللفظ له) إلى آخر السورة، وقوله تعالى: {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ} يَعْنِي يَا مُحَمَّدُ لَا تُطِعْهُ فِيمَا يَنْهَاكَ عَنْهُ مِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَكَثْرَتِهَا، وصلِّ حَيْثُ شِئْتَ وَلَا تبالِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ حَافِظُكَ وَنَاصِرُكَ وَهُوَ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» (رواه مسلم في صحيحه)، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْجُدُ فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}.

97 - سورة القدر.

- 97 - سورة القدر.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ - 2 - وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ - 3 - لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ - 4 - تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِنْ كُلِّ أَمْرٍ - 5 - سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ {لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وَهِيَ اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي ليلة مباركة} وَهِيَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، قال ابن عباس: أنزل

اللَّهُ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ مُفَصَّلًا بِحَسْبِ الْوَقَائِعِ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُعَظِّمًا لِشَأْنِ لَيْلَةِ القدر التي اختصها بإنزال القرآن الكريم فِيهَا، فَقَالَ: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ القدر خير من ألف شَهْرٍ}. روى ابن أبي حاتم، عَنْ مُجَاهِدٌ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَبِسَ السلاح في سبيل أَلْفَ شَهْرٍ، قَالَ: فَعَجِبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} الَّتِي لَبِسَ ذَلِكَ الرَّجُلُ السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ الله ألف شهر (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ)، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى يُصْبِحَ، ثُمَّ يُجَاهِدُ الْعَدُوَّ بِالنَّهَارِ حَتَّى يُمْسِيَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَلْفَ شَهْرٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} قِيَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، خير من عمل ذلك الرجل (أخرجه ابن جرير عن مجاهد موقوفاً). وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: بَلَغَنِي عَنْ مُجَاهِدٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قَالَ: عَمَلُهَا وصيامها وقيامها خير من ألف شهر، وعن مُجَاهِدٍ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ليس في تلك الشهور ليلة القدر، وقال عمرو بن قيس: عملٌ فيها خير من أَلْفِ شَهْرٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ عبادة ألف شهر ليس فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، والصواب، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رِبَاطُ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ فيما سواه من المنازل» (أخرجه أحمد). وفي الحديث الصحيح في فضائل رمضان قال عليه السلام: «فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حرم خيرها فقد حرم» (أخرجه أحمد والنسائي) وَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَعْدِلُ عِبَادَتُهَا عِبَادَةَ أَلْفِ شَهْرٍ، ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (أَخْرَجَهُ الشيخان). وقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} أَيْ يَكْثُرُ تَنَزُّلُ الْمَلَائِكَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِكَثْرَةِ بَرَكَتِهَا، وَالْمَلَائِكَةُ يَتَنَزَّلُونَ مَعَ تَنَزُّلِ الْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا يَتَنَزَّلُونَ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَيُحِيطُونَ بِحِلَقِ الذِّكْرِ، وَيَضَعُونَ أَجْنِحَتَهُمْ لِطَالِبِ العلم تَعْظِيمًا لَهُ، وَأَمَّا الرُّوحُ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ ههنا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَقِيلَ: هُمْ ضَرْبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّبَأِ، وَاللَّهُ أعلم. وقوله تعالى: {مِّن كُلِّ أَمْرٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ: سَلَامُ هِيَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {سَلاَمٌ هِيَ} قَالَ: هِيَ سَالِمَةٌ لَا يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا سُوءًا، أَوْ يَعْمَلَ فِيهَا أَذًى، وَقَالَ قتادة: تُقْضَى فِيهَا الْأُمُورُ، وَتُقَدَّرُ الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}. وروى أبو داود الطيالسي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: «إنها ليلة سابعة، أو تاسعة وعشرين، وإن الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عدد الحصى» (رواه الطيالسي). وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {سَلاَمٌ هِيَ} يَعْنِي هِيَ خَيْرٌ كُلُّهَا لَيْسَ فِيهَا شر إلى مطلع الفجر، وأمارة لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ، كَأَنَّ فِيهَا قمراً ساطعاً، ساكنة ساجية لا برد فيها ولا حر، والشمس صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلَ القمر ليلة البدر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ

فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: «لَيْلَةٌ سَمْحَةٌ طَلْقَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ وَتُصْبِحُ شَمْسُ صَبِيحَتِهَا ضَعِيفَةً حمراء» (أخرجه الطيالسي)، وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَأُنْسِيتُهَا وَهِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ من لياليها وهي طَلْقَةٌ بِلُجَةٌ، لَا حَارَةً وَلَا بَارِدَةٌ، كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا لَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يُضِيءَ فَجْرُهَا». فَصْلٌ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ أَوْ هِيَ مِنْ خصائص هذه الأمة؟ فقال الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أُمته أن لا يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرًا من ألف شهر (أخرجه مالك)، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذِهِ الأمة بليلة القدر، وقيل: أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِينَ كَمَا هِيَ في أمتنا، ثم هي باقية إلى يوم القيامة وفي رمضان خاصة لَا كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ أَنَّهَا توجد في جميع السنة، وترتجى فِي جَمِيعِ الشُّهُورِ عَلَى السَّوَاءِ، وَقَدْ تَرْجَمَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَلَى هَذَا فَقَالَ: (بَابُ بَيَانِ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي كُلِّ رمضان)، ثم روى بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَسْمَعُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ فَقَالَ: «هِيَ فِي كل رمضان» (أخرجه أبو داود)، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ رواية أنها ترتجى في كل شهر رمضان وهو وجه حكاه الغزالي. فصل. ثم قد قيل: إنها تكون في أول ليلة من شهر رمضان، وقيل: إنها تقع ليلة سبع عشرة، وهو قول الشَّافِعِيِّ، وَيُحْكَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّهَا لَيْلَةُ بَدْرٍ، وَكَانَتْ لَيْلَةُ جُمُعَةٍ هِيَ السَّابِعَةَ عشرة مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَفِي صَبِيحَتِهَا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فيه: (يوم الفرقان). وَقِيلَ: لَيْلَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، يُحْكَى عَنْ عَلِيٍّ وابن مسعود، وَقِيلَ: لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ، وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فأتا جبريل فقال: الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ: «مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَرْجِعْ فَإِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَإِنِّي أُنْسِيتُهَا وَإِنَّهَا في العشر الأواخر في وِتْرٍ، وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ»، وَكَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ جَرِيدًا مِنَ النَّخْلِ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا، فَجَاءَتْ قَزَعَةٌ، فَمُطِرْنَا فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالْمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصديق رؤياه في صبح إحدى وعشرين" (أخرجه الشيخان). قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ، وَقِيلَ: ليلة ثلاث وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ: تَكُونُ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ

رَمَضَانَ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، في خامسة تبقى» (أخرجه البخاري) فَسَّرَهُ كَثِيرُونَ بِلَيَالِي الْأَوْتَارِ، وَهُوَ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ، وحمله آخرون على الأشفاع. وَقِيلَ: إِنَّهَا تَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُبي بْنُ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، قَالَ الْإِمَامُ أحمد: عَنْ زِرٍّ: سَأَلْتُ أُبي بْنَ كَعْبٍ قُلْتُ: أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ يُقِمِ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، قَالَ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ حَلَفَ، قُلْتُ: وَكَيْفَ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالَ: بِالْعَلَامَةِ أَوْ بِالْآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا، تَطْلُعُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لاشعاع لها يعني الشمس (أخرجه أحمد ورواه مسلم بنحوه). وهو قول طائفة من السلف، ومذهب الإمام أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عن أبي حنيفة أيضاً، وَقِيلَ: إِنَّهَا تَكُونُ فِي لَيْلَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، روى الإمام أحمد بن حنبل عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي رَمَضَانَ فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فإنها وَتْرِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ تِسْعٍ وعشرين أو في آخر ليلة» (أخرجه أحمد). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: «إِنَّهَا في ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين، وإن الملائكة تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الحصى» (أخرجه أحمد). وَقِيلَ: إِنَّهَا تَكُونُ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ آنِفًا، وَلِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: «فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ أَوْ سَبْعٍ يَبْقَيْنَ أو خمس يبقين أو ثلاث يبقين أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ يَعْنِي الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ» (أخرجه الترمذي والنسائي، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ). وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةِ القدر: «إنها آخر ليلة». فصل. قال الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ: صَدَرَتْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جواباً للسائل إذا قيل له: أنلتمس لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ؟ يَقُولُ: «نَعَمْ»، وَإِنَّمَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةٌ مُعَيَّنَةٌ لَا تَنْتَقِلُ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَنْتَقِلُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ؛ وَهَذَا الَّذِي حكاه عن أبي قلابة هو الْأَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا، فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ (أخرجاه في الصحيحين)، وفيهما أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «تَحَرُّوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأواخر من رمضان» (أخرجه الشيخان، واللفظ للبخاري). ويحتج الشافعي أَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ وَأَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ مِنَ الشَّهْرِ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ

عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مَنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ فَالْتَمِسُوهَا فِي التاسعة والسابعة والخامسة» (أخرجه البخاري)، وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً مُسْتَمِرَّةَ التَّعْيِينِ لَمَا حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ بعينها في كل سنة، إذ لو كانت تنتقل لما علموا تعيينها إِلَّا ذَلِكَ الْعَامِ فَقَطْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ لِيُعْلِمَهُمْ بِهَا تِلْكَ السَّنَةَ فَقَطْ، وَقَوْلُهُ: «فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ» فِيهِ اسْتِئْنَاسٌ لِمَا يُقَالُ: إِنَّ الْمُمَارَاةَ تَقْطَعُ الفائدة والعلم النافع، كما جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» وَقَوْلُهُ: «فَرُفِعَتْ» أَيْ رُفِعَ عِلْمُ تَعْيِنِهَا لَكُمْ، لَا أَنَّهَا رُفِعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ مِنَ الْوُجُودِ، كَمَا يَقُولُهُ جَهَلَةُ الشِّيعَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا: «فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ»، وَقَوْلُهُ: «وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ» يعني عدم تعينها لَكُمْ فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُبْهَمَةً اجْتَهَدْ طُلَّابُهَا فِي ابْتِغَائِهَا فِي جَمِيعِ مَحَالِّ رَجَائِهَا، فَكَانَ أَكْثَرَ لِلْعِبَادَةِ بِخِلَافِ مَا إِذَا عَلِمُوا عَيْنَهَا، فَإِنَّهَا كَانَتِ الْهِمَمُ تَتَقَاصَرُ عَلَى قِيَامِهَا فَقَطْ، وَإِنَّمَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِبْهَامَهَا لِتَعُمَّ الْعِبَادَةُ جَمِيعَ الشَّهْرِ فِي ابْتِغَائِهَا، وَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِي الْعَشْرِ الأخير أَكْثَرَ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أزواجه بعده، عَنِ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رمضان (أخرجاه في الصحيحين)، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وأيقظ أهله، وشد المئزر، وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهَا وَشَدَّ الْمِئْزَرَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ اعْتِزَالُ النِّسَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْأَمْرَيْنِ لِمَا رَوَاهُ الإمام أحمد، عن عائشة قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَقِيَ عَشْرٌ مِنْ رَمَضَانَ شَدَّ مئزره، واعتزل نساءه، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ رَّحْمَةِ اللَّهُ إِنَّ جَمِيعَ لَيَالِي الْعَشْرِ فِي تَطَلُّبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى السَّوَاءِ، لَا يَتَرَجَّحُ مِنْهَا لَيْلَةٌ عَلَى أُخرى، وَالْمُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَكْثَرُ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْهُ، ثُمَّ فِي أَوْتَارِهِ أَكْثَرُ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنَّ يُكْثِرَ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي، لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد عن عبد الله ابن بُرَيْدَةَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَمَا أَدْعُو؟ قَالَ: "قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عني" (أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة).

98 - سورة البينة.

- 98 - سورة البينة.

[مقدمة] عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُبيّ بْنِ كَعْبٍ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} " قال: وسماني لك؟ قال: «نعم»، فبكى (رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ - 2 - رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً - 3 - فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ - 4 - وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ - 5 - وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْمُشْرِكُونَ عَبَدَةُ الأوثان والنيران من العرب ومن العجم، قال مُجَاهِدٌ: لَمْ يَكُونُوا {مُنفَكِّينَ} يَعْنِي مُنْتَهِينَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ الحق {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} ثُمَّ فَسَّرَ الْبَيِّنَةَ بِقَوْلِهِ: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ مُكْتَتَبٌ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى فِي صحف مطهرة، كقوله تعالى: {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بررة}، وقوله تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَيْ فِي الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ كُتُبٌ مِنَ اللَّهِ قِيمَةٌ عَادِلَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ، لَيْسَ فِيهَا خَطَأٌ لِأَنَّهَا مِنْ عند الله عزَّ وجلَّ، وقال قَتَادَةُ {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} يَذْكُرُ الْقُرْآنَ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِأَحْسَنِ الثَّنَاءِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} مستقيمة معتدلة، وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة} كقوله تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عظيم}، يَعْنِي بِذَلِكَ أَهْلَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَنَا، بَعْدَ مَا أَقَامَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ والبينات تفرقوا،

وَاخْتَلَفُوا فِي الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ كُتُبِهِمْ، واختلفوا اختلافاً كبيراً، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرِقٍ: «أَنَّ الْيَهُودَ اخْتَلَفُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وإن النصارى اختلفوا على اثنين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً»، قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أنا عليه وأصحابي»، وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} كَقَوْلِهِ: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فاعبدونِ}، ولهذا قال: {حُنَفَآءَ} أي متحنفين من الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ، كَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطاغوت}، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ الْحَنِيفِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا، {وَيُقِيمُواْ الصَّلَاةَ} وَهِيَ أَشْرَفُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ، {وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ} وَهِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أَيْ الْمِلَّةُ الْقَائِمَةُ الْعَادِلَةُ، أَوِ الْأُمَّةُ الْمُسْتَقِيمَةُ المعتدلة.

- 6 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ - 7 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ - 8 - جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مَآلِ الْفُجَّارِ مِنْ كَفَرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، الْمُخَالِفِينَ لَكُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ وَأَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْمُرْسَلَةِ، أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا لَا يُحَوَّلُونَ عَنْهَا وَلَا يَزُولُونَ، {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} أَيْ شَرُّ الْخَلِيقَةِ الَّتِي بَرَأَهَا اللَّهُ وَذَرَأَهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْأَبْرَارِ الَّذِينَ آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِأَبْدَانِهِمْ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْبَرِيَّةِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ البرية}، ثم قال تعالى: {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} أَيْ بِلَا انْفِصَالٍ وَلَا انْقِضَاءٍ وَلَا فَرَاغٍ {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} وَمَقَامُ رِضَاهُ عَنْهُمْ أَعْلَى مِمَّا أُوتُوهُ مِنَ النَّعِيمِ القيم {وَرَضُواْ عَنْهُ} فِيمَا مَنَحَهُمْ مِنَ الْفَضْلِ الْعَمِيمِ، وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أَيْ هَذَا الْجَزَاءُ حَاصِلٌ لِمَنْ خَشِيَ اللَّهَ وَاتَّقَاهُ حَقَّ تَقْوَاهُ، وعبده كأنه يراه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «رَجُلٌ أَخَذَ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُلَّمَا كَانَتْ هَيْعَةٌ اسْتَوَى عَلَيْهِ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «رَجُلٌ فِي ثُلَّةٍ مِنْ غَنَمِهِ يُقِيمُ الصلاة ويؤتي الزكاة،» ألا أخبركم بخير الْبَرِيَّةِ"؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «الَّذِي يَسْأَلُ بِاللَّهِ ولا يعطي به» (أخرجه الإمام أحمد).

99 - سورة الزلزلة.

- 99 - سورة الزلزلة.

[مقدمة] روى الترمذي عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ إِذَا زُلْزِلَتِ عدلت له بنصف القرآن» (أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ القرآن، وقل هُوَ الله أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن» (أخرجه الترمذي، وقال: غريب). وعن أنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: «هَلْ تَزَوَّجْتَ يَا فُلَانُ؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا عِنْدِي مَا أَتَزَوَّجُ، قَالَ: «أَلَيْسَ مَعَكَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «ثُلُثُ الْقُرْآنِ» قَالَ: «أَلَيْسَ مَعَكَ إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «رُبُعُ الْقُرْآنِ» قَالَ: «أَلَيْسَ مَعَكَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «رُبُعُ الْقُرْآنِ» قَالَ: «أَلَيْسَ مَعَكَ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «رُبُعُ الْقُرْآنِ، تَزَوَّجْ» (أخرجه الترمذي أيضاً، وقال: حديث حسن).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا - 2 - وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا - 3 - وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا - 4 - يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا - 5 - بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا - 6 - يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ - 7 - فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ - 8 - وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}: أَيْ تَحَرَّكَتْ مِنْ أَسْفَلِهَا {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} يَعْنِي أَلْقَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى، كقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ}، وكقوله: {وَأَلْقَتْ مَا فيها وتخلت}، وفي الحديث: «تلقى الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ فِي هَذَا قُتِلْتُ، وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ فِي هَذَا قُطِعَتْ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي، ثم يدَعونه

فلا يأخذون منه شيئاً» (أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً)، وقوله عزَّ وجلَّ: {وقال الإنسان مالها} أي استنكر أمرها بعدما كَانَتْ قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً، وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ عَلَى ظَهْرِهَا أَيْ تَقَلَّبَتِ الْحَالُ، فَصَارَتْ مُتَحَرِّكَةً مُضْطَرِبَةً، قَدْ جَاءَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا قَدْ أعده لها، من الزلزال الذي لا محيد عَنْهُ، ثُمَّ أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وحينئذٍ اسْتَنْكَرَ النَّاسُ أمرها، وتبدل الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ، وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ القهار، وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} أَيْ تُحَدِّثُ بِمَا عَمِلَ العاملون على ظهرها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنَّ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، أَنْ تَقُولَ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها" (أخرجه أحمد والترمذي والنسائي). وفي معجم الطبراني: «تَحَفَّظُوا مِنَ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا أُمُّكُمْ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ عَامِلٌ عَلَيْهَا خَيْرًا أَوْ شَرًّا إلاّ وهي مخبرة» (أخرجه الحافظ الطبراني) وقوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَوْحَى لَهَا، وَأَوْحَى إِلَيْهَا، وَوَحَى لَهَا، وَوَحَى إِلَيْهَا، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أَوْحَى لَهَا} أَيْ أَوْحَى إِلَيْهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُضَمَّنٌ بِمَعْنَى أذن لها، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قَالَ، قَالَ لَهَا رَبُّهَا قُولِي، فَقَالَتْ؛ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أَوْحَى لَهَا} أَيْ أَمَرَهَا، وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: أَمَرَهَا أَنْ تنشق عنهم، وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} أَيْ يَرْجِعُونَ عَنْ موقف الْحِسَابِ {أَشْتَاتاً} أَيْ أَنْوَاعًا وَأَصْنَافًا مَا بَيْنَ شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ، مَأْمُورٍ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ وَمَأْمُورٍ به إلى النار، قال ابن جرير: يتصدعون أشتاتاً فلا يجتمعون آخرما عَلَيْهِمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ {أَشْتَاتاً} فِرَقًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ} أي ليجازوا بِمَا عَمِلُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}. روى الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ" الحديث. فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحُمُرِ؟ فَقَالَ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} " (أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري). وروى الإمام أحمد عَنْ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْفَرَزْدَقِ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} قَالَ: حسبي أن لا أسمع غيرها (أخرجه أحمد والنسائي)، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَدِيٍّ مَرْفُوعًا: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»، وله أيضاً في الصَّحِيحِ: «لَا تحقرنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ» (أخرجه البخاري). وفي الصحيح أيضاً: «يا معشر نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ لَا تحقرنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فرسن شاة» (أخرجه البخاري أيضاً) يَعْنِي ظِلْفَهَا، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «رُدُّوا السَّائِلَ ولو بظلف محرق». وعن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ اسْتَتِرِي مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنَّهَا تَسُدُّ مِنَ الْجَائِعِ مسدها من الشبعان» (أخرجه أَحْمَدُ). وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا تَصَدَّقَتْ بِعِنَبَةٍ وقالت: كم فيها مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاعِدٌ، فَبَكَى حِينَ أُنْزِلَتْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا بَكْرٍ»؟ قَالَ: يُبْكِينِي هَذِهِ السُّورَةُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنَّكُمْ تُخْطِئُونَ وَتُذْنِبُونَ فَيَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ لَخَلَقَ اللَّهُ أُمَّةً يُخْطِئُونَ وَيُذْنِبُونَ فَيَغْفِرَ لهم» (أخرجه ابن جرير). وروى ابن أبي حاتم، عن سعيد ابن جبير في قول الله تَعَالَى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} وَذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيرًا} كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْجَرُونَ عَلَى الشيء القليل إذا أَعْطَوْهُ، فَيَجِيءُ الْمِسْكِينُ إِلَى أَبْوَابِهِمْ، فَيَسْتَقِلُّونَ أَنْ يُعْطُوهُ التَّمْرَةَ وَالْكَسْرَةَ وَالْجَوْزَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيَرُدُّونَهُ وَيَقُولُونَ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ إِنَّمَا نُؤْجَرُ عَلَى مَا نُعْطِي وَنَحْنُ نُحِبُّهُ، وَكَانَ آخَرُونَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ لَا يُلَامُونَ عَلَى الذَّنْبِ الْيَسِيرِ: الْكَذْبَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالْغِيبَةِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا وَعُدَ اللَّهُ النَّارَ عَلَى الْكَبَائِرِ، فَرَغَّبَهُمْ فِي الْقَلِيلِ مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَعْمَلُوهُ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ، وَحَذَّرَهُمُ الْيَسِيرَ مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ، فَنَزَلَتْ {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (أخرجه ابن أبي حاتم) يَعْنِي وَزْنَ أَصْغَرِ النَّمْلِ {خَيْراً يَرَهُ} يَعْنِي فِي كِتَابِهِ وَيَسُرُّهُ ذَلِكَ قَالَ: يَكْتُبُ لِكُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ بِكُلِّ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةً وَاحِدَةً وَبِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ضَاعَفَ اللَّهُ حَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا بِكُلِّ وَاحِدَةٍ عشراً وَيَمْحُو عَنْهُ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ فَمَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ دَخَلَ الجنة. وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إيَّاكم وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرجُل حَتَّى يُهْلِكْنَهُ» وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، وَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فيها (أخرجه الإمام أحمد).

100 - سورة العاديات.

- 100 - سورة العاديات.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا - 2 - فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا - 3 - فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا - 4 - فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً - 5 - فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً - 6 - إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ - 7 - وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ - 8 - وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ - 9 - أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ - 10 - وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ - 11 - إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ يُقْسِمُ تَعَالَى بِالْخَيْلِ إِذَا أُجْرِيَتْ فِي سَبِيلِهِ، فَعَدَتْ وَضَبَحَتْ، وَهُوَ الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ الْفَرَسِ حِينَ تَعْدُو، {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} يَعْنِي اصْطِكَاكَ نِعَالِهَا لِلصَّخْرِ، فَتَقْدَحُ مِنْهُ النَّارَ، {فالمغيرات صبحاً} يعني الإغارة وقت الصبح كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغير صباحاً ويستمع الأذان، فإن سمع أذاناً وإلاّ أغار، وقوله تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} يَعْنِي غُبَارًا فِي مَكَانِ مُعْتَرَكِ الْخُيُولِ، {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} أَيْ تَوَسَّطْنَ ذلك المكان كلهن جمع، رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا فِي الْحِجْرِ جَالِسًا جَاءَنِي رجل فسألني عن: {العاديات ضَبْحاً} فقلت له: الخيل حيت تُغِيرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى اللَّيْلِ فَيَصْنَعُونَ طَعَامَهُمْ، وَيُورُونَ نَارَهُمْ، فَانْفَتَلَ عَنِّي، فَذَهَبَ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عند سقاية زمزم، فسأله عن العاديات ضَبْحًا، فَقَالَ: سَأَلْتَ عَنْهَا أَحَدًا قَبْلِي؟ قَالَ: نَعَمْ سَأَلَتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: الْخَيْلُ حِينَ تُغِيرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: اذْهَبْ فَادْعُهُ لي، فلما وقف على رأسه، قال: أتفتي النَّاسَ بِمَا لَا عِلْمَ لَكَ؟ وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ أَوَّلَ غَزْوَةٍ فِي الْإِسْلَامِ بَدْرٌ، وَمَا كَانَ مَعَنَا إِلَّا فَرَسَانِ فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْعَادِيَاتُ ضَبْحًا؟ إِنَّمَا الْعَادِيَاتُ ضَبْحًا مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إلى منى، وفي لفظ: «إِنَّمَا الْعَادِيَاتُ ضَبْحًا مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، فإذا أووا إلى المزدلفة أوروا النيران» (أخرجه ابن أبي حاتم)، فمذهب ابن عباس أنها الخيل (وإلى قول ابن عباس ذهب جمهور المفسرين، منهم مجاهد وعكرمة وعطاء وقتادة واختاره ابن جرير)، وقال (علي) إنها الإبل. قال عطاء: مَا ضَبَحَتْ دَابَّةٌ قَطُّ إِلَّا فَرَسٌ أَوْ كلب، وقال عَطَاءٍ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَصِفُ الضَّبْحَ: أَحْ أَحْ، وَقَالَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ فِي قَوْلِهِ: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} يعني

بحوافرها، وقيل: أسعرت الحرب بين ركبانهن، وَقِيلَ: هُوَ إِيقَادُ النَّارِ إِذَا رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ مِنَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ نِيرَانُ القبائل، قال ابن جرير: والصواب الأول: الخيل حين تقدح بحوافرها، وقوله تعالى: {فالمغيرات صُبْحاً} قال ابن عباس ومجاهد: يَعْنِي إِغَارَةَ الْخَيْلِ صُبْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالَ: مَنْ فَسَّرَهَا بِالْإِبِلِ هُوَ الدَّفْعُ صُبْحًا مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، وَقَالُوا كُلُّهُمْ فِي قَوْلِهِ: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي حَلَّتْ فِيهِ أَثَارَتْ بِهِ الْغُبَارَ إِمَّا فِي حج أو غزو، وقوله تعالى: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} قال ابن عباس وعطاء: يَعْنِي جَمْعَ الْكُفَّارِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون فوسطن بذلك المكان جميعاً ويكون منصوباً على الحال المؤكدة، وقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عليه، بمعنى أنه لنعم ربه لكفور جحود، قال ابن عباس ومجاهد: الكنود الكفور. قال الحسن: الكنود هو الذي يعد المصائب وينسى نعم الله عليه، وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ على على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} قال قتادة والثوري: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ لِشَهِيدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يعود الضمير على الإنسان فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: وَإِنَّ الْإِنْسَانَ عَلَى كَوْنِهِ كَنُودًا لَشَهِيدٌ، أَيْ بِلِسَانِ حَالِهِ، أَيْ ظَاهِرٌ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أَيْ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ وَهُوَ الْمَالُ {لَشَدِيدٌ}، وَفِيهِ مَذْهَبَانِ: (أَحَدُهُمَا): أَنَّ الْمَعْنَى وَإِنَّهُ لَشَدِيدُ الْمَحَبَّةِ لِلْمَالِ، (وَالثَّانِي): وَإِنَّهُ لَحَرِيصٌ بَخِيلٌ مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ، وَكِلَاهُمَا صحيح، ثم قال تبارك وتعالى مُزَهِّدًا فِي الدُّنْيَا، وَمُرَغِّبًا فِي الْآخِرَةِ، وَمُنَبِّهًا عَلَى مَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَ هَذِهِ الْحَالِ، وَمَا يَسْتَقْبِلُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْأَهْوَالِ {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ؟} أَيْ أُخْرِجَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ، {وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور} يَعْنِي أَبْرَزَ وَأَظْهَرَ مَا كَانُوا يُسِرُّونَ فِي نُفُوسِهِمْ، {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} أَيْ لعالم بجميع مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ، ومجازيهم عَلَيْهِ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ، وَلَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.

101 - سورة القارعة.

- 101 - سورة القارعة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - الْقَارِعَةُ - 2 - مَا الْقَارِعَةُ - 3 - وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ - 4 - يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ - 5 - وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ - 6 - فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ - 7 - فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ - 8 - وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ

مَوَازِينُهُ - 9 - فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ - 10 - وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ - 11 - نَارٌ حَامِيَةٌ الْقَارِعَةُ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَالْحَاقَّةِ وَالطَّامَّةِ وَالصَّاخَّةِ وَالْغَاشِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ قال تعالى مُعَظِّمًا أَمْرَهَا وَمُهَوِّلًا لِشَأْنِهَا {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}؟ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} أَيْ فِي انْتِشَارِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ وَذَهَابِهِمْ وَمَجِيئِهِمْ، مِنْ حَيْرَتِهِمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ كأنهم فراش مبثوث، كما قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ}، وقوله تعالى: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} يعني صَارَتْ كَأَنَّهَا الصُّوفُ الْمَنْفُوشُ الَّذِي قَدْ شَرَعَ في الذهاب والمتزق، قال مجاهد: {العهن} الصوف، ثم أخبر تعالى عما يؤول إِلَيْهِ عَمَلُ الْعَامِلِينَ، وَمَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الكرامة والإهانة بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ، فَقَالَ: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي رجحت حسناته على شيئاته، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ، {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أَيْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ على حسناته، {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} قِيلَ: مَعْنَاهُ فَهُوَ سَاقِطٌ هَاوٍ بِأُمِّ رَأْسِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بأمه يعني (دماغه)، قَالَ قَتَادَةُ: يَهْوِي فِي النَّارِ عَلَى رَأْسِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَأُمُّهُ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا وَيَصِيرُ فِي الْمَعَادِ إِلَيْهَا {هَاوِيَةٌ} وَهِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْهَاوِيَةِ أُمُّهُ لِأَنَّهُ لَا مَأْوَى لَهُ غَيْرَهَا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْهَاوِيَةُ النَّارُ هِيَ أُمَّهُ وَمَأْوَاهُ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا وَيَأْوِي إِلَيْهَا، وَقَرَأَ: {وَمَأْوَاهُمُ النار}. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ النَّارُ وَهِيَ مَأْوَاهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُفَسِّرًا لِلْهَاوِيَةِ: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ}، روى ابن جرير عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْمَى قَالَ: إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ ذُهِبَ بِرُوحِهِ إِلَى أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَقُولُونَ: رَوِّحُوا أَخَاكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي غم الدنيا، قال: ويسألونه ما فعل فلان؟ فيقول: مات أو ما جَاءَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ (أخرجه ابن جرير)، وقوله تعالى: {نَارٌ حَامِيَةٌ} أَيْ حَارَّةٌ شَدِيدَةُ الْحَرِّ، قَوِيَّةُ اللهب والسعير، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَارُ بَنِي آدَمَ الَّتِي تُوقِدُونَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً؟ فَقَالَ: «إِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جزءاً» (أخرجه مالك ورواه البخاري ومسلم بنحوه). وفي رواية: «كلهن مثل حرها». وروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ نَارَكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَضُرِبَتْ بِالْبَحْرِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْفَعَةً لِأَحَدٍ» (أخرجه الإمام أحمد). وروى الترمذي وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُوقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ» (أخرجه الترمذي وابن ماجة). وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٌ فِي الصَّيْفِ، فَأَشُدُّ مَا تَجِدُونَ فِي الشِّتَاءِ مِنْ بَرْدِهَا، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ فِي الصَّيْفِ من حرها" (أخرجاه في الصحيحين). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِذَا اشْتَدَّ الْحُرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ».

102 - سورة التكاثر.

- 102 - سورة التكاثر.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ - 2 - حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ - 3 - كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ - 4 - ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ - 5 - كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ - 6 - لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ - 7 - ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ - 8 - ثُمَّ لتسألن يومئذ عن النعيم يقول تعالى: أشغلكم حُبُّ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا وَزَهْرَتُهَا عَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ وَابْتِغَائِهَا، وَتَمَادَى بِكُمْ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَكُمُ الْمَوْتُ وزرتم المقابر، وصرتم من أهلها، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} عَنِ الطَّاعَةِ، {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} حَتَّى يَأْتِيَكُمُ الموت» (أخرجه ابن أبي حاتم)، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} فِي الْأَمْوَالِ والأولاد، وعن أُبيّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كُنَّا نَرَى هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} يَعْنِي: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ ذَهَبٍ» (رواه البخاري في الرقاق)، وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الشخير قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: " {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ " (أخرجه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي). وروى مسلم فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي مَالِي، وَإِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فأبلى، أو تصدّق فأمضى، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ" (تَفَرَّدَ به مسلم). وروى البخاري عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عمله" (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي). وعن أنَس أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يهرم ابن آدم ويبقى معه اثْنَتَانِ: الْحِرْصُ وَالْأَمَلُ" (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ). وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْأَحْنَفِ بْنِ قيس أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَجُلٍ دِرْهَمًا فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا الدِّرْهَمُ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: لِي، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ لَكَ إِذَا أَنْفَقْتَهُ فِي أَجْرٍ، أَوِ ابْتِغَاءِ شُكْرٍ، ثُمَّ أَنْشَدَ الْأَحْنَفُ مُتَمَثِّلًا قَوْلَ الشَّاعِرِ: أَنْتَ لِلْمَالِ إِذَا أَمْسَكْتَهُ * فَإِذَا أنفقته فالمال لك

وقال ابن بريدة: نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار (بني حارثة) و (بني الْحَارِثِ) تَفَاخَرُوا وَتَكَاثَرُوا، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: فِيكُمْ مِثْلُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: مِثْلَ ذَلِكَ تَفَاخَرُوا بِالْأَحْيَاءِ، ثُمَّ قَالُوا: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى الْقُبُورِ فَجَعَلَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، تَقُولُ: فِيكُمْ مثل فلان يشيرون إلى القبور، وَمِثْلُ فُلَانٍ. وَفَعَلَ الْآخَرُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ الله: {أَلْهَاكُمُ التكاثر حتى زُرْتُمُ المقابر} (أخرجه ابن أبي حاتم) لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيمَا رَأَيْتُمْ عِبْرَةٌ وَشُغْلٌ، وقال قتادة: كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَكْثَرُ مَنْ بَنِي فُلَانٍ، ونحن أعد من بني فلان، حَتَّى صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ كُلُّهُمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أَيْ صِرْتُمْ إِلَيْهَا وَدُفِنْتُمْ فِيهَا، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَعْرَابِ يَعُودُهُ، فَقَالَ: «لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فَقَالَ، قُلْتَ: طَهُورٌ، بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شيخ كبير، تزيره القبور، قال: «فنعم إذن». وعن مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَرَأَ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حتى زُرْتُمُ المقابر} فلبث هنيهة ثم قال: يَا مَيْمُونُ مَا أَرَى الْمَقَابِرَ إِلَّا زِيَارَةً وَمَا لِلزَّائِرِ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى منزله، يعني أن يرجع إلى منزله أي إلى جنة أو إلى نَارٍ، وَهَكَذَا ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ سَمِعَ رَجُلًا يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فَقَالَ: بُعِثَ الْيَوْمَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، أَيْ إِنَّ الزَّائِرَ سَيَرْحَلُ مِنْ مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ، وقوله تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ هَذَا وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ، وقال الضحّاك {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يعني أيها الْكُفَّارَ، {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يَعْنِي أَيُّهَا المؤمنون، وقوله تعالى: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} أَيْ لَوْ عَلِمْتُمْ حَقَّ الْعِلْمِ لَمَا أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ عَنْ طَلَبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ حَتَّى صِرْتُمْ إِلَى الْمَقَابِرِ ثُمَّ قَالَ: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} هَذَا تَفْسِيرُ الْوَعِيدِ الْمُتَقَدِّمُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} توعدهم بهذا بهذا الحال وهو رؤية أهل النار، التي إذا زفرت زفرة واحدة، خَرَّ كُلُّ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَنَبِيٍّ مُرْسَلٍ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، مِنَ الْمَهَابَةِ وَالْعَظَمَةِ وَمُعَايَنَةِ الْأَهْوَالِ، عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ. وقوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} أَيْ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يومئذٍ عَنْ شُكْرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ، مِنَ الصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ وَالرِّزْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مَا إِذَا قَابَلْتُمْ بِهِ نِعَمَهُ مِنْ شكره وعبادته. روى ابن جرير، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ جَالِسَانِ إِذْ جَاءَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا اجلسكما ههنا؟»، قَالَا: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَخْرَجْنَا مِنْ بُيُوتِنَا إِلَّا الْجُوعُ، قَالَ: «وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا أَخْرَجَنِي غَيْرُهُ»، فَانْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوْا بَيْتَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَاسْتَقْبَلَتْهُمُ الْمَرْأَةُ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ فُلَانٌ؟» فَقَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مَاءً، فَجَاءَ صَاحِبُهُمْ يَحْمِلُ قِرْبَتَهُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا مَا زَارَ الْعِبَادَ شيء أفضل من نبي زَارَنِي الْيَوْمَ، فَعَلَّقَ قِرْبَتَهُ بِكَرْبِ نَخْلَةٍ، وَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا كُنْتَ اجْتَنَيْتَ»، فَقَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونُوا الَّذِينَ تَخْتَارُونَ عَلَى أَعْيُنِكُمْ، ثُمَّ أَخَذَ الشفرة، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ» فَذَبَحَ لَهُمْ يومئذٍ، فَأَكَلُوا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هذا يوم القيامة أخرجكم الْجُوعُ، فَلَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَبْتُمْ هَذَا، فَهَذَا من النعيم» (أخرجه ابن جرير ورواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة بنحوه). وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال: أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ رُطَبًا وَشَرِبُوا مَاءً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا من النعيم

الذي تسألون عنه» (أخرجه أحمد والنسائي). وروى الإمام أحمد عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ أَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ؟ وَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ الْمَاءُ وَالتَّمْرُ، وَسُيُوفُنَا عَلَى رِقَابِنَا، وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ، فَعَنْ أَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ؟ قَالَ: «أَمَا إِنَّ ذَلِكَ سيكون» (أخرجه أحمد). وروى الترمذي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أول ما يسأل عنه الْعَبْدُ مِنَ النَّعِيمِ، أَنْ يُقَالَ لَهُ أَلَمْ نصحّ لك بدنك، ونروك من الماء البارد»؟ (أخرجه الترمذي وابن حيان) وروى ابن أبي حاتم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ، قَالَ الزُّبَيْرُ: لَمَّا نَزَلَتْ {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِأَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ عَنْهُ وَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ؟ قالوا: «إن ذلك سيكون» (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الترمذي وابن ماجة). وفي رواية عن عكرمة: قَالَتِ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّ نَعِيمٍ نَحْنُ فِيهِ؟ وَإِنَّمَا نَأْكُلُ فِي أَنْصَافِ بُطُونِنَا خبز الشعير؟ فأوحى إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَهُمْ: أَلَيْسَ تَحْتَذُونَ النِّعَالَ، وَتَشْرَبُونَ الْمَاءَ الْبَارِدَ؟ فهذا من النعيم. وعن ابن مسعود مرفوعاً: «الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ». وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ثم لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} يَعْنِي شِبَعَ الْبُطُونِ، وَبَارِدَ الشَّرَابِ، وَظِلَالَ الْمَسَاكِنِ، وَاعْتِدَالَ الْخَلْقِ وَلَذَّةَ النوم، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَنْ كُلِّ لَذَّةٍ مِنْ لَذَّاتِ الدنيا، وقال الحسن البصري: من النعيم الغداء والعشاء، وقول مجاهد أشمل هذه الأقوال، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قَالَ: النَّعِيمُ صِحَّةُ الْأَبْدَانِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ، يَسْأَلُ اللَّهُ الْعِبَادَ فِيمَا اسْتَعْمَلُوهَا، وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}. وثبت في صحيح البخاري وسنن الترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كثير من الناس: الصحة والفراغ" (أخرجه البخاري)، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ مُقَصِّرُونَ فِي شُكْرِ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ لَا يَقُومُونَ بِوَاجِبِهِمَا، وَمَنْ لَا يَقُومُ بحق ما وجب عليه فهو مغبون.

103 - سورة العصر.

- 103 - سورة العصر.

ذكر الطبراني عن عبيد الله بن حفص قَالَ: كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ إذا التقيا لم يفترقا إِلَّا عَلَى أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ سُورَةَ الْعَصْرِ إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ يُسَلِّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَوَسِعَتْهُمْ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - وَالْعَصْرِ - 2 - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ - 3 - إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ الْعَصْرُ: الزَّمَانُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ حَرَكَاتُ بَنِي آدم من خير وشر، وقال زيد بن أسلم: هو العصر، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، فَأَقْسَمَ تَعَالَى بِذَلِكَ عَلَى إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ أَيْ فِي خَسَارَةٍ وَهَلَاكٍ {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} فَاسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْإِنْسَانِ عَنِ الْخُسْرَانِ، الَّذِينَ آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِجَوَارِحِهِمْ {وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ} وَهُوَ أَدَاءُ الطاعات، وترك المحرمات، {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} أي عَلَى الْمَصَائِبِ وَالْأَقْدَارِ، وَأَذَى مَنْ يُؤْذِي، مِمَّنْ يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر.

104 - سورة الهمزة.

- 104 - سورة الهمزة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ - 2 - الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ - 3 - يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ - 4 - كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ - 5 - وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ - 6 - نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ - 7 - الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ - 8 - إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ - 9 - فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ الْهَمَّازُ بِالْقَوْلِ، وَاللَّمَّازُ بِالْفِعْلِ، يَعْنِي يزدري الناس وينتقص بهم، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} طَعَّانٍ مِعْيَابٍ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: الْهُمَزَةُ: يَهْمِزُهُ فِي وجهه، واللمزة: من خلفه، وقال قتادة: الهمزة واللمزة لسانه وَعَيْنِهِ، وَيَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ وَيَطْعَنُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ مجاهد: الهمزة باليد والعين، واللمزة باللسان؛ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ (الْأَخْنَسُ بْنُ شريق)، وقال مجاهد: هي عامة، وقوله تعالى: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} أَيْ جَمَعَهُ بَعْضَهُ على بعض وأحصى عدده كقوله تعالى: {وَجَمَعَ فأوعى} قال محمد بن كعب: ألهاه ماله بالنهار، فإذا كان الليل نام كأنه جيفة منتنة، وقوله تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} أَيْ يَظُنُّ أَنَّ جَمْعَهُ الْمَالَ يُخْلِدُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، {كَلاَّ} أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ وَلَا كَمَا حَسِبَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} أَيْ لَيُلْقَيَنَّ هَذَا الَّذِي جَمَعَ مَالًا فَعَدَّدَهُ {فِي الْحُطْمَةِ} وَهِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ، لِأَنَّهَا تُحَطِّمُ مَنْ فِيهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ؟ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} قَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: تَحْرِقُهُمْ إلى الأفئدة وهم أحياء، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ فُؤَادَهُ حَذْوَ حلقه ترجع على جسده، وقوله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} أَيْ مُطْبَقَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ تفسيره في سورة البلد، وقوله تعالى: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} أي عَمَدٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ نَارٍ، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} يَعْنِي الْأَبْوَابُ هي الممددة، وعنه: أدخلهم فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ عليهم بعماد، في أعناقهم السلاسل، فسدت بها الأبواب (هذه رواية العوفي عن ابن عباس والأولى رواية عكرمة عنه)، وَقَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ بِعَمَدٍ فِي النَّارِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ أَبُو صالح: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} يعني القيود الثقال.

105 - سورة الفيل.

- 105 - سورة الفيل.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ - 2 - أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ - 3 - وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ - 4 - تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ - 5 - فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ هَذِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى قُرَيْشٍ، فِيمَا صَرَفَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ، الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى هَدْمِ الْكَعْبَةِ وَمَحْوِ أَثَرِهَا مِنَ الْوُجُودِ، فَأَبَادَهُمُ اللَّهُ، وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ، وَخَيَّبَ سَعْيَهُمْ، وَأَضَلَّ عَمَلَهُمْ، وَرَدَّهُمْ بِشَرِّ خيبة، هذه قِصَّةُ أَصْحَابِ الْفِيلِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ. يروى أن أبرهة الأشرم بنى كَنِيسَةٍ هَائِلَةٍ بِصَنْعَاءَ، رَفِيعَةَ الْبِنَاءِ عَالِيَةَ الفِناء مُزَخْرَفَةَ الْأَرْجَاءِ، سَمَّتْهَا الْعَرَبُ (الْقُلَّيْسَ) لِارْتِفَاعِهَا، لِأَنَّ النَّاظِرَ إِلَيْهَا تَكَادُ تَسْقُطُ قُلُنْسُوَتُهُ عَنْ رَأْسِهِ من ارتفاع بنائها، وعزم أبرهة عَلَى أَنْ يَصْرِفَ حَجَّ الْعَرَبِ إِلَيْهَا كَمَا يُحَجُّ إِلَى الْكَعْبَةِ بِمَكَّةَ، وَنَادَى بِذَلِكَ فِي مملكته، فكرهت العرب ذَلِكَ، وَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ، لِذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، حَتَّى قصدها بعضهم وتوصل إلى أن دخلها، فَأَحْدَثَ فِيهَا وَكَرَّ رَاجِعًا، فَلَمَّا رَأَى السَّدَنَةُ ذَلِكَ الْحَدَثَ رَفَعُوا أَمْرَهُمْ إِلَى مَلِكِهِمْ (أَبَرْهَةَ) وَقَالُوا لَهُ: إِنَّمَا صَنَعَ هَذَا بَعْضُ قُرَيْشٍ غَضَبًا لِبَيْتِهِمُ الَّذِي ضَاهَيْتَ هَذَا بِهِ، فَأَقْسَمَ أَبَرْهَةُ لَيَسِيرَنَّ إِلَى بَيْتِ مَكَّةَ وَلَيُخَرِّبَنَّهُ حَجَرًا حجراً، ذكر مقاتل أَنَّ فِتْيَةً مِنْ قُرَيْشٍ دَخَلُوهَا، فَأَجَّجُوا فِيهَا ناراً، وكان يوماً فيه هواء شديد فاحترقت، فَتَأَهَّبَ أَبَرْهَةُ لِذَلِكَ، وَصَارَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ عَرَمْرَمٍ لِئَلَّا يَصُدَّهُ أَحَدٌ عَنْهُ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ فِيلًا عَظِيمًا كَبِيرَ الْجُثَّةِ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، يقال له (محمود)، ويقال: كان معه اثنا عشر فيلاً غيره، فَلَمَّا سَمِعَتِ الْعَرَبُ بِمَسِيرِهِ أَعْظَمُوا ذَلِكَ جِدًّا، وَرَأَوْا أَنَّ حَقًا عَلَيْهِمُ الْمُحَاجَبَةُ دُونَ الْبَيْتِ، وَرَدُّ مَنْ أَرَادَهُ بِكَيْدٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَمُلُوكِهِمْ يُقَالُ لَهُ (ذو نفر) فدعا قومه إِلَى حَرْبِ أَبَرْهَةَ وَجِهَادِهِ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ، فأجابوه وقاتلوا أبرهة فهزمهم، ثُمَّ مَضَى لِوَجْهِهِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِأَرْضِ خثعم اعترض له (نفيل بن حبيب) الخثعمي في قومه فَقَاتَلُوهُ، فَهَزَمَهُمْ أَبَرْهَةُ وَأُسِرَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ، فَأَرَادَ قَتْلَهُ ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ لِيَدُلَّهُ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ أَرْضِ الطَّائِفِ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا ثَقِيفٌ وَصَانَعُوهُ خِيفَةً عَلَى بَيْتِهِمْ الَّذِي عِنْدَهُمْ الَّذِي يُسَمُّونَهُ اللَّاتَ، فَأَكْرَمَهُمْ وَبَعَثُوا مَعَهُ (أَبَا رُغَالٍ) دَلِيلًا، فَلَمَّا انْتَهَى أَبَرْهَةُ إِلَى الْمُغَمْسِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ نَزَلَ بِهِ، وَأَغَارَ جَيْشُهُ عَلَى سَرْحِ أَهْلِ مَكَّةَ مِنَ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا،

فَأَخَذُوهُ، وَكَانَ فِي السَّرْحِ مِائَتَا بَعِيرٍ لِعَبْدِ المطلب، وَبَعَثَ أَبَرْهَةُ حُنَاطَةَ الحِمْيَري إِلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِأَشْرَفِ قُرَيْشٍ، وَأَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّ الْمَلِكَ لَمْ يَجِئْ لِقِتَالِكُمْ إِلَّا أَنْ تصدُّوه عَنِ الْبَيْتِ، فَجَاءَ حُنَاطَةُ فَدُلَّ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ وَبَلَّغَهُ عَنْ أَبَرْهَةَ مَا قَالَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: وَاللَّهِ مَا نريد حربه، ومالنا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ، هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ، وَإِنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَوَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ عَنْهُ. فَقَالَ لَهُ حُنَاطَةُ: فَاذْهَبْ مَعِي إِلَيْهِ، فَذَهَبَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَآهُ أبرهة أجله - وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً حَسَنَ الْمَنْظَرِ - وَنَزَلَ أَبَرْهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ وَجَلَسَ مَعَهُ عَلَى الْبِسَاطِ، وَقَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ ما حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ لِلتُّرْجُمَانِ: إِنَّ حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي، فَقَالَ أَبَرْهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: لَقَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، ثُمَّ قَدْ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي، أَتُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ، وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكِ، قَدْ جِئْتُ لِهَدْمِهِ لَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ، وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رِبًّا سَيَمْنَعُهُ، قَالَ: مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي، قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ ذَهَبَ مَعَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، فَعَرَضُوا عَلَى أَبَرْهَةَ ثُلْثَ أَمْوَالِ تِهَامَةَ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْبَيْتِ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ، وَرَدَّ أَبَرْهَةُ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِبِلَهُ، وَرَجَعَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ، فَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، والتحصن في رؤوس الْجِبَالِ تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ، ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَأَخْذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللَّهَ، ويستنصرون على أبرهة وجنده، فقال عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ: اللهم إن المرء يمنع * رحله فامنع رحاك وانصر على آل الصليب * وعابديه اليوم آلك لا يغلبنّ صليبهم * ومحالهم أبداً محالك ثم خرجوا إلى رؤوس الجبال. وذكر مقاتل أَنَّهُمْ تَرَكُوا عِنْدَ الْبَيْتِ مِائَةَ بَدَنَةٍ مُقَلَّدَةٍ، لَعَلَّ بَعْضُ الْجَيْشِ يَنَالُ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ حق فينتقم الله منهم، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبَرْهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَهَيَّأَ جيشه، فلما وجهوا الفيل نحو مكة، برك الْفِيلُ، وَخَرَجَ (نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ) يَشْتَدُّ حَتَّى صعد فِي الْجَبَلِ، وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ، فَأَبَى، فَضَرَبُوا فِي رَأْسِهِ بِالطِبْرَزِينِ وَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ لَهُمْ فِي مراقه، فنزعوه بِهَا لِيَقُومَ، فَأَبَى، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَامَ يُهَرْوِلُ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ وَالْبَلَسَانِ مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا: حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ أَمْثَالُ الْحُمُّصِ والعدس، لا يصيب مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَتْ، وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ، وَيَسْأَلُونَ عَنْ (نُفَيْلٍ) لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ، هَذَا وَنُفَيْلٌ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ مَعَ قُرَيْشٍ، وَعَرَبِ الْحِجَازِ يَنْظُرُونَ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ مِنَ النِّقْمَةِ، وَجَعَلَ نُفَيْلٌ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَفَرُّ وَالْإِلَهُ الطَّالِبْ * وَالْأَشْرَمُ المغلوب ليس الغالب وذكر الواقدي بإسناده: أنهم لما تعبأوا لدخول الحرم، وهيأوا الْفِيلَ جَعَلُوا لَا يَصْرِفُونَهُ إِلَى جِهَةٍ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ إِلَّا ذَهَبَ فِيهَا، فَإِذَا وَجَّهُوهُ إِلَى الْحَرَمِ رَبَضَ وَصَاحَ، وَجَعَلَ أَبَرْهَةُ يَحْمِلُ عَلَى سَائِسِ الْفِيلِ وَيَنْهَرُهُ وَيَضْرِبُهُ لِيَقْهَرَ الْفِيلَ على دخول الحرم، وعبد المطلب وجماعة من أشراف مكة على حراء ينظرون مَا الْحَبَشَةُ يَصْنَعُونَ، وَمَاذَا

يَلْقُونَ مِنْ أَمْرِ الْفِيلِ وَهُوَ الْعَجَبُ الْعُجَابُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ {طَيْراً أَبَابِيلَ} أَيْ قِطَعًا قِطَعًا صُفْرًا دُونَ الحمام وأرجلها حمر، ومع كل طائر ثلاثة أَحْجَارٍ، وَجَاءَتْ فَحَلَّقَتْ عَلَيْهِمْ، وَأَرْسَلَتْ تِلْكَ الْأَحْجَارَ عليهم فهلكوا، قال عطاء: لَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَهُ الْعَذَابُ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ هَلَكَ سَرِيعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ يَتَسَاقَطُ عُضْوًا عُضْوًا، وَهُمْ هَارِبُونَ، وَكَانَ أبرهة ممن تساقط عُضْوًا عُضْوًا حَتَّى مَاتَ بِبِلَادِ خَثْعَمٍ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ فِيمَا يَعُدُّ بِهِ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِ، مَا رد عليهم مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ لِبَقَاءِ أَمْرِهِمْ وَمُدَّتِهِمْ فَقَالَ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} إلى قوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ}، وقوله: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ * رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم من خوف}. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: «الْأَبَابِيلُ» الْجَمَاعَاتُ وَلَمْ تَتَكَلَّمُ الْعَرَبُ بِوَاحِدَةٍ قَالَ: وَأَمَّا «السِّجِّيلُ» فَأَخْبَرَنِي يُونُسُ النحوي أنه عند العرب الشديد الصلب، «وَالْعَصْفُ» وَرَقُ الزَّرْعِ الَّذِي لَمْ يُقْضَبُ وَاحِدَتُهُ عصفة. انتهى ما ذكره. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: أَبَابِيلُ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ: الْأَبَابِيلُ الْكَثِيرَةُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ «أَبَابِيلُ» شَتَّى مُتَتَابِعَةٌ مُجْتَمِعَةٌ، وَقَالَ ابن زيد: «الأبابيل» المختلفة تأتي من ههنا، ومن ههنا، أتتهم مِن كُلِّ مَكَانٍ، وقال عكرمة: كَانَتْ طَيْرًا خُضْرًا خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ لَهَا رؤوس كرؤوس السباع. وعن ابن عباس ومجاهد: كَانَتِ الطَّيْرُ الْأَبَابِيلُ مِثْلَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا عنقاء مغرب، وقال عبيد بن عمير: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُهْلِكَ أَصْحَابَ الْفِيلِ بَعَثَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أُنْشِئَتْ مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الخطاطيف، كل طير منها يحمل ثلاثة أحجار حَجَرَيْنِ فِي رِجْلَيْهِ وَحَجَرًا فِي مِنْقَارِهِ، قَالَ: فجاءت حتى صفت على رؤوسهم ثُمَّ صَاحَتْ وَأَلْقَتْ مَا فِي أَرْجُلِهَا وَمَنَاقِيرِهَا، فما يقع على رأس رجل إلا وخرج مِنْ دُبُرِهِ، وَلَا يَقَعُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جسده إلاّ خرج مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا شَدِيدَةً فَضَرَبَتِ الْحِجَارَةَ فَزَادَتْهَا شِدَّةً فَأُهْلِكُوا جَمِيعًا. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} قَالَ: طِينٌ في حجارة. وقوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يعني التبن الذي تسميه العامة هبور، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَصْفُ الْقِشْرَةُ الَّتِي عَلَى الْحَبَّةِ كَالْغُلَافِ عَلَى الْحِنْطَةِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْعَصْفُ وَرَقُ الزَّرْعِ، وَوَرَقُ الْبَقْلِ إِذَا أَكَلَتْهُ الْبَهَائِمُ فراثته فصار دريناً، المعنى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَهْلَكَهُمْ وَدَمَّرَهُمْ وَرَدَّهُمْ بِكَيْدِهِمْ وَغَيْظِهِمْ، لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً، وَأَهْلَكَ عَامَّتَهُمْ ولم يرجع منهم مخبر إلاّ وهو جريح، كما يروى لأمية بن أبي الصلت بن ربيعة قوله: إِنَّ آيَاتِ رَبِّنَا بَاقِيَاتٌ * مَا يُمَارِي فِيهِنَّ إِلَّا الْكَفُورُ خَلَقَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فَكُلٌّ * مُسْتَبِينٌ حِسَابُهُ مَقْدُورُ ثُمَّ يَجْلُو النَّهَارَ رَبٌّ رَحِيمٌ * بِمَهَاةٍ شُعَاعُهَا مَنْشُورُ حَبَسَ الْفِيلَ بِالْمُغَمَّسِ حَتَّى * صار يحبو كأنه معقور خَلَّفُوهُ ثُمَّ ابْذَعَرُّوا جَمِيعًا * كُلُّهُمْ عَظْمُ سَاقِهِ مَكْسُورُ كُلُّ دِين يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا دِين الْحَنِيفَةِ بُورُ

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لما أَطَلَّ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى الثَّنِيَّةِ الَّتِي تَهْبِطُ به على قريش بركت ناقته، فزجرها فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، أَيْ حَرَنَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ»، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي الْيَوْمَ خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَجَبْتُهُمْ إِلَيْهَا»، ثُمَّ زَجَرَهَا فقامت (الحديث أخرجه الْبُخَارِيِّ). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إِنَّ اللَّهَ حَبْسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهُ قَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فيبلغ الشاهد الغائب».

106 - سورة قريش.

- 106 - سورة قريش.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ - 2 - إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ - 3 - فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ - 4 - الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِنْ خَوْفٍ هَذِهِ السُّورَةُ مَفْصُولَةٌ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، كَتَبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهَا، كما صرح بذلك محمد ابن إسحاق وعبد الرحمن بن يزيد، لِأَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُمَا: حَبَسْنَا عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَأَهْلَكْنَا أَهْلَهُ {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} أَيْ لِائْتِلَافِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ فِي بَلَدِهِمْ آمِنِينَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَا كَانُوا يَأْلَفُونَهُ مِنَ الرِّحْلَةِ فِي الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ، وَفِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ فِي الْمَتَاجِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى بَلَدِهِمْ آمِنِينَ فِي أَسْفَارِهِمْ، لِعَظَمَتِهِمْ عِنْدَ النَّاسِ لِكَوْنِهِمْ سُكَّانَ حرم الله، فمن عرفهم احترمهم ومن سار معهم آمن بهم، وهذا حَالُهُمْ فِي أَسْفَارِهِمْ وَرِحْلَتِهِمْ فِي شِتَائِهِمْ وَصَيْفِهِمْ، أما فِي حَالِ إِقَامَتِهِمْ فِي الْبَلَدِ فَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حولهم}، ولهذا قال تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ} بدل من

الأول ومفسر له، ولهذا قال تعالى: {إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الصَّوَابُ أَنَّ اللَّامَ لَامُ التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: اعْجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ وَنِعْمَتِي عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، قَالَ: وَذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُمَا سُورَتَانِ مُنْفَصِلَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ، ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى شُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فَقَالَ: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} أَيْ فَلْيُوَحِّدُوهُ بِالْعِبَادَةِ كَمَا جَعَلَ لَّهُمْ حَرَماً آمِناً وَبَيْتًا مُحَرَّمًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} وقوله تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ} أَيْ هُوَ رَبُّ الْبَيْتِ وَهُوَ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} أَيْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْأَمْنِ وَالرُّخْصِ، فَلْيُفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلاَ يَعْبُدُوا مِنْ دُونِهِ صَنَمًا وَلَا نِدًّا وَلَا وَثَنًا، وَلِهَذَا مَنِ اسْتَجَابَ لِهَذَا الْأَمْرِ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ أَمْنِ الدُّنْيَا وَأَمْنِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ عَصَاهُ سَلَبَهُمَا مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}. عَنْ أُسامة بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «{لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} وَيَحْكُمُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أطعمكم من جوع وآمنكم من خوف» (قال ابن كثير: صوابه عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ (أُم سلمة) الأنصارية رضي الله عنها، لا عن أُسامة بن زيد ولعله وقع خطأ في النسخة أو في أصل الرواية)

107 - سورة الماعون.

- 107 - سورة الماعون.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ - 2 - فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ - 3 - وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ - 4 - فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ - 5 - الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ - 6 - الذين هُمْ يراؤون - 7 - وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ يَقُولُ تَعَالَى: {أرأيتْ} يَا مُحَمَّدُ {الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} وَهُوَ الْمَعَادُ وَالْجَزَاءُ وَالثَّوَابُ {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ

اليتيم} أي هو الذي يقهر اليتيم وَلَا يُطْعِمُهُ وَلَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} كقوله {وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين}، ثم قال تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} قال ابن عباس: يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَلَا يصلون في السر، ولهذا قال: {لِّلْمُصَلِّينَ} الذين هُمْ من أهل الصلاة ثُمَّ هُمْ عَنْهَا سَاهُونَ، إِمَّا عَنْ فِعْلِهَا بالكلية، أو يخرجها عن وقتها، وقال عطاء بن دينار: الحمد لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: {عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} وَلَمْ يقل {في صلاتهم ساهون} فيؤخرونها إلى آخر الوقت، أو لا يؤدونها بأركانها وشروطها عَنِ الْخُشُوعِ فِيهَا وَالتَّدَبُّرِ لِمَعَانِيهَا، فَاللَّفْظُ يَشْمَلُ ذلك كله، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ الله فيها إلا قليلاً» (أخرجه الشيخان). فَهَذَا آخَّرَ صَلَاةَ الْعَصْرِ الَّتِي هِيَ الْوُسْطَى - كَمَا ثَبَتَ بِهِ النَّصُّ - إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا، وَهُوَ وَقْتُ كَرَاهَةٍ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا فَنَقَرَهَا نَقْرَ الْغُرَابِ، لَمْ يَطْمَئِنَّ وَلَا خَشَعَ فِيهَا أَيْضًا، وَلِهَذَا قَالَ: «لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا» وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى الْقِيَامِ إِلَيْهَا مُرَاءَاةَ النَّاسِ، لَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، فهو كما إذا لم يصل بالكلية، قال الله تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً}، وقال تعالى ههنا: {الذين هم يراؤون}، وروى الطبراني عن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إن في جهنم لوادياً تستعذ جَهَنَّمُ مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي فِي كُلِّ يَوْمٍ أَرْبَعَمِائَةِ مَرَّةٍ، أُعِدَّ ذَلِكَ الْوَادِيَ لِلْمُرَائِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ: لِحَامِلِ كِتَابِ اللَّهِ، وَلِلْمُصَّدِّقِ فِي غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ، وَلِلْحَاجِّ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وللخارج في سبيل الله" (أخرجه الطبراني). وروى الإمام أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَذَكَّرُوا الرِّيَاءَ، فَقَالَ رَجُلٌ يُكَنَّى بِأَبِي يَزِيدَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ سامع خلقه وحقّره وصغّره» (أخرجه أحمد). ومما يتعلق بقوله تعالى: {الذين هُمْ يراؤون} أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لِلَّهِ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ رياء، لما رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أَصَلِّي، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ، فَأَعْجَبَنِي ذَلِكَ فَذَكَرْتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "كُتِبَ لَكَ أَجْرَانِ: أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ العلانية" (أخرجه الحافظ الموصلي). وفي رواية عنه قَالَ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ يُسِرُّهُ فَإِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ أَعْجَبَهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ" (أخرجه الترمذي والطيالسي وأبو يعلى الموصلي). وعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ يؤخرون الصلاة عن وقتها» (أخرجه ابن جرير الطبري). قلت: وَتَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا يَحْتَمِلُ تَرْكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ، ويحتمل صَلَاتَهَا بَعْدَ وَقْتِهَا شَرْعًا، أَوْ تَأْخِيرَهَا عَنْ أول الوقت. وقوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} أَيْ لَا أَحْسَنُوا عِبَادَةَ رَبِّهِمْ، وَلَا أَحْسَنُوا إِلَى خَلْقِهِ، حَتَّى وَلَا بِإِعَارَةِ ما ينتفع به مع بقاء عينه ورجوعهم إِلَيْهِمْ، فَهَؤُلَاءِ لِمَنْعِ الزَّكَاةِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ أُولَى وأولى. وقد قال مجاهد {الماعون} الزكاة، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنْ صَلَّى رَاءَى، وَإِنْ فَاتَتْهُ لِمَ يَأْسَ عَلَيْهَا، وَيَمْنَعُ زَكَاةَ مَالِهِ، وَفِي لَفْظٍ: صَدَقَةَ مَالِهِ. وَقَالَ

زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ ظَهَرَتِ الصَّلَاةُ فصلوها، وخفيت الزكاة فمنعوها. وسئل ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ الْمَاعُونِ؟ فَقَالَ: هُوَ مَا يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْفَأْسِ وَالْقِدْرِ وَالدَّلْوِ وأشباه ذلك، وقال ابن جرير، عن عبد الله قَالَ: «كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَحَدَّثُ أَنَّ الْمَاعُونَ الدلو والفأس والقدر لا يستغنى عنهن»، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُلٌّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَكُنَّا نَعُدُّ الْمَاعُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارِيَّةَ الدلو والقدر، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} يَعْنِي مَتَاعَ الْبَيْتِ، وكذا قال مجاهد والنخعي أنها العارية للأمتعة، وقد اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَمْنَعُونَ الزَّكَاةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَمْنَعُونَ الطَّاعَةَ، ومنهم من قال: يمنعون العارية، وعن عَلِيٍّ: الْمَاعُونُ مَنْعُ النَّاسِ الْفَأْسَ وَالْقِدْرَ وَالدَّلْوَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: رَأْسُ الْمَاعُونِ زَكَاةُ الْمَالِ وَأَدْنَاهُ المنخل والدلو والإبرة، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِكْرِمَةُ حَسَنٌ، فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا، وَتَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَرْكُ الْمُعَاوَنَةِ بِمَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، وَلِهَذَا جاء في الحديث: «كل معروف صدقة».

108 - سورة الكوثر.

- 108 - سورة الكوثر.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ - 2 - فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ - 3 - إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ روى مسلم عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرنا في المسجد إذا أغفى إغفاءة، ثم رفع مُبْتَسِمًا قُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: «لقد أُنْزِلَتْ عليَّ آنِفًا سُورَةٌ» فَقَرَأَ: {بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فصلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}، ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟» قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قال: فإنه نهر في الجنة وَعَدَنِيهِ رَبِّي عزَّ وجلَّ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ آنيته عدد النجوم في السماء فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ: رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ بعدك" (أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي)، وقد استدل كَثِيرٌ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مدنية، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فَقَدْ

تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الجنة، وقد رواه الإمام أحمد عَنْ أنَس أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ الْكَوْثَرَ فَإِذَا هُوَ نَهَرٌ يَجْرِي وَلَمْ يُشَقَّ شَقًّا، وَإِذَا حَافَّتَاهُ قباب الؤلؤ فضربت بيدي في تربته، فإذا مسك أذفر، وإذا حصباؤه اللؤلؤ» (أخرجه الإمام أحمد). وعن أنَس ابن مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: "أَتَيْتُ عَلَى نَهْرٍ حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ فَقُلْتُ: مَا هذا يا جبريل؟ فقال: هذا الكوثر" (أخرجه البخاري). وروى ابن جرير، عن أنَس بن مالك قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضَى بِهِ جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ اللؤلؤ وَزَبَرْجَدٍ، فَذَهَبَ يَشُمُّ تُرَابَهُ، فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ، قَالَ: «يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا النَّهْرُ؟» قَالَ: هو الكوثر الذي خبأ لك ربك؛ وفي رواية عَنْ أنَس قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَوْثَرِ؟ فَقَالَ: «هُوَ نهر أعطانيه الله تعالى في الجنة ترابه مسك، أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، تَرِدُهُ طير أعناقها مثل أعناق الجزر»، قال أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا لِنَاعِمَةٌ؟ قال: «آكلها أنعم منها». وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حدَّثنا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْكَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عبيدة عن عائشة رضي الله عنها قَالَ: سَأَلْتُهَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} قالت: نهر أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاطِئَاهُ عليه در مجوف آنيته كعدد النجوم" (أخرجه البخاري). وعن عَائِشَةَ قَالَتِ: الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ شَاطِئَاهُ دُرٌّ مُجَوَّفٌ، وَقَالَ إِسْرَائِيلُ: نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ عليه من الآنية عدد نجوم السماء، وعن مَسْرُوقٍ قَالَ، قُلْتُ لِعَائِشَةَ: يَا أُم الْمُؤْمِنِينَ حدِّثيني عَنِ الْكَوْثَرِ؟ قَالَتْ: نَهْرٌ فِي بُطْنَانِ الْجَنَّةِ، قُلْتُ: وَمَا بُطْنَانُ الْجَنَّةِ؟ قَالَتْ: وَسَطُهَا، حافتاه قصور اللؤلؤ والياقوت، ترابه المسك، وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت (أخرجه ابن جرير). وقال البخاري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوْثَرِ: هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي أعطاه الله إياه، قال أبو البشر: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَإِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ الله إياه (أخرجه البخاري). وروى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَعُمُّ النَّهْرَ وَغَيْرَهُ، لِأَنَّ الْكَوْثَرَ مِنَ الْكَثْرَةِ وَهُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَمِنْ ذَلِكَ النَّهْرُ كَمَا قَالَ ابْنُ عباس وعكرمة ومجاهد، حَتَّى قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ النُّبُوَّةُ وَالْقُرْآنُ وَثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِالنَّهْرِ أَيْضًا، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَّتَاهُ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، يَجْرِي عَلَى الْيَاقُوتِ وَالدُّرِّ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ العسل». وعن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَّتَاهُ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، يَجْرِي عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، مَاؤُهُ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ (أخرجه الترمذي مَوْقُوفًا). وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَالْمَاءُ يَجْرِي عَلَى اللُّؤْلُؤِ، وَمَاؤُهُ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ» (رواه الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن صحيح). وروى ابن جرير عن عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ قَالَ: قَالَ لِي مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ مَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الْكَوْثَرِ. قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، فَقَالَ:

صدق الله إِنَّهُ لِلْخَيْرُ الْكَثِيرُ؛ وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ يَجْرِي على الدر والياقوت». وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أنَس وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ الْكَوْثَرَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ حَوْضٌ فِي الجنة. وقوله تعالى: {فصلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أَيْ كَمَا أَعْطَيْنَاكَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْ ذَلِكَ النَّهْرُ الَّذِي تَقَدَّمَ صِفَتُهُ، فَأَخْلِصْ لِرَبِّكَ صَلَاتَكَ الْمَكْتُوبَةَ وَالنَّافِلَةَ، وَنَحْرَكَ فَاعْبُدْهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَانْحَرْ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} قال ابن عباس: يعني بذلك نحر البدن ونحوها، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَانْحَرْ} وَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى على اليسرى تحت النحر، وقيل: {وانحر} أي استقبل بنحرك القبلة، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّحْرِ ذَبْحُ الْمَنَاسِكِ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعِيدَ ثُمَّ يَنْحَرُ نُسُكَهُ وَيَقُولُ: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلَا نسك له» الحديث. قال ابن جرير: والصواب قول من قال: إن مَعْنَى ذَلِكَ فَاجْعَلْ صَلَاتَكَ كُلَّهَا لِرَبِّكَ خَالِصًا، دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ، وَكَذَلِكَ نَحْرَكَ اجْعَلْهُ لَهُ دُونَ الْأَوْثَانِ، شُكْرًا لَهُ عَلَى مَا أَعْطَاكَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْخَيْرِ الَّذِي لَا كِفَاءَ لَهُ وَخَصَّكَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي قاله في غاية الحسن، وقوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أَيْ إِنَّ مُبْغِضَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَمُبْغِضَ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْحَقِّ، وَالْبُرْهَانِ السَّاطِعِ وَالنُّورِ الْمُبِينِ {هُوَ الْأَبْتَرُ} الْأَقَلُّ الْأَذَلُّ الْمُنْقَطِعُ ذِكْرُهُ، قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد: نزلت في العاص بن وائل، وقال يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ: قَالَ، كَانَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ إِذَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: دَعُوهُ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَبْتَرُ لَا عَقِبَ لَهُ، فَإِذَا هَلَكَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ، فأنزل الله هذه السورة، وقيل: نزلت في عقبة ابن أبي معيط، وقال عَطَاءٍ: نَزَلَتْ فِي (أَبِي لَهَبٍ) وَذَلِكَ حِينَ مات ابن لرسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبَ أَبُو لهب إلى المشركين، فقال: بُتِرَ مُحَمَّدٌ اللَّيْلَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي (أَبِي جَهْلٍ) وَعَنْهُ {إِنَّ شَانِئَكَ} يَعْنِي عَدُّوَّكَ، وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ مِمَّنْ ذُكِرَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْأَبْتَرُ الْفَرْدُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا إِذَا مَاتَ ذُكُورُ الرَّجُلِ، قَالُوا: بُتِرَ، فَلَمَّا مَاتَ أَبْنَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: بُتِرَ مُحَمَّدٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}، وهذا يرجع إلى ماقلناه مِنْ أَنَّ الْأَبْتَرَ الَّذِي إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ، فَتَوَهَّمُوا لِجَهْلِهِمْ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ بَنُوهُ انقطع ذِكْرُهُ، وَحَاشَا وَكَلَّا، بَلْ قَدْ أَبْقَى اللَّهُ ذكره على رؤوس الْأَشْهَادِ، وَأَوْجَبَ شَرْعَهُ عَلَى رِقَابِ الْعِبَادِ، مُسْتَمِرًّا على دوام الآباد، إلى يوم المحشر وَالْمَعَادِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ التناد.

109 - سورة الكافرون.

- 109 - سورة الكافرون.

[مقدمة] ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بهذه السورة، وبقل هُوَ الله أَحَدٌ، في ركعتي الطواف (أخرجه مسلم)، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قرأ بهما في ركعتي الفجر، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا تَعْدِلُ رُبْعَ القرآن، وروى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ قَرَأَ {قُلْ يَا أيها الكافرون} حتى يختمها (أخرجه الطبراني)، وعن الْحَارِثِ بْنِ جَبَلَةَ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ عِنْدَ مَنَامِي، قَالَ: «إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ» (أخرجه الإمام أحمد)، والله أعلم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ - 2 - لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ - 3 - وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ - 4 - وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ - 5 - وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ - 6 - لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ هَذِهِ سُورَةُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ الْمُشْرِكُونَ، فقوله تعالى: {قُلْ يا أيها الكافرون} يشمل كل كافر على وجه الأرض، ولكن الموجهون بهذا الخطاب هم (كفار قريش) دعوا رسول الله إِلَى عِبَادَةِ أَوْثَانِهِمْ سَنَةً، وَيَعْبُدُونَ مَعْبُودَهُ سَنَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ وَأَمَرَ رَسُولَهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْ دِينِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَقَالَ: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} يَعْنِي مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} وَهُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، ثُمَّ قَالَ: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أَيْ وَلَا أَعْبُدُ عِبَادَتَكُمْ أَيْ لَا أَسْلُكُهَا وَلَا أَقْتَدِي بِهَا، وَإِنَّمَا أَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أَيْ لَا تَقْتَدُونَ بِأَوَامِرَ اللَّهِ وَشَرْعِهِ، فِي عِبَادَتِهِ، بَلْ قَدِ اخْتَرَعْتُمْ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ، كَمَا قَالَ: {إِنَّ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ فِي جَمِيعِ مَا هُمْ فِيهِ، وَلِهَذَا كَانَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» أَيْ لَا مَعْبُودَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ

طَرِيقَ إِلَيْهِ إِلَّا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ الله عبادة لم يأذن الله بها، ولهذا قال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ}، وقال: {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}، وقال البخاري {لَكُمْ دِينُكُمْ} الْكَفْرُ، {وَلِيَ دِينِ} الْإِسْلَامُ، وَلَمْ يَقُلْ: دِينِي، لِأَنَّ الْآيَاتِ بِالنُّونِ فَحُذِفَ الْيَاءُ، كما قال: {فهو يهدين} {ويشفين}، وَقَالَ غَيْرُهُ: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الْآنَ ولا أجيبكم بما بَقِيَ مِنْ عُمُرِي {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ}، وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} فهذه ثلاثة أقوال: أولهما: ما ذكرناه أولاً. والثاني: مَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} فِي الْمَاضِي {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} فِي الْمُسْتَقْبَلِ. الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ تَأْكِيدٌ محض. وثمّ قول رابع: نصره ابن تَيْمِيَةَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} نَفْيُ الْفِعْلِ لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} نَفْيُ قَبُولِهِ لِذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّ النَّفْيَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ آكَدُ، فَكَأَنَّهُ نَفَى الْفِعْلَ، وَكَوْنُهُ قَابِلًا لِذَلِكَ، وَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْوُقُوعِ، وَنَفْيُ الْإِمْكَانِ الشَّرْعِيِّ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ أَيْضًا، وَاللَّهُ أعلم.

110 - سورة النصر.

- 110 - سورة النصر.

[مقدمة] روى الحافظ أبو بكر البزار، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَعَرَفَ أَنَّهُ الْوَدَاعُ، فَأَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ فَرَحَلَتْ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَذَكَرَ خُطْبَتَهُ المشهورة (أخرجه البزار والبيهقي)، وروى الحافظ البيهقي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ، وَقَالَ: «إِنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إليَّ نَفْسِي» فَبَكَتْ ثُمَّ ضَحِكَتْ، وَقَالَتْ: أَخْبَرَنِي أَنَّهُ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، فَبَكَيْتُ، ثُمَّ قَالَ: «اصْبِرِي فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لِحَاقًا بي» فضحكت (أخرجه البيهقي ورواه النسائي بنحوه بِدُونِ ذِكْرِ فَاطِمَةَ).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - 2 - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا - 3 - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إنه كان تَوَّاباً روى البخاري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ يُدْخِلْ هَذَا مَعَنَا، وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ، فَمَا رأيت أنه دعاني يومئذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَرَنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نَصَرَنَا وَفَتَحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَلِكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ فَقُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ قَالَ: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ {فسِّبح بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا أَعْلَمُ منها إلاّ ما تقول (أخرجه البخاري في صحيحه). وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُعِيَتْ إليَّ نَفْسِي»، وأنه مقبوض في تلك السنة، وهكذا قال مجاهد وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ إِنَّهَا أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعي إليه، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ قَالَ: نعيت

لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسُهُ حِينَ نَزَلَتْ، قَالَ: فَأَخَذَ بِأَشَدِّ مَا كَانَ قَطُّ اجْتِهَادًا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ: «جَاءَ الْفَتْحُ وَنَصْرُ اللَّهِ، وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ؟ قَالَ: «قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ، لَيِّنَةٌ طِبَاعُهُمْ، الإيمان يمان والفقه يمان» (أخرجه الطبراني والنسائي)، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: «لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَلَكِنْ إِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» (أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ومسلم)، فَالَّذِي فَسَّرَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ جُلَسَاءِ عُمَرَ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَمَرَنَا إِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْمَدَائِنَ وَالْحُصُونَ، أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَشْكُرَهُ ونسبِّحه، يَعْنِي نصلي له وَنَسْتَغْفِرَهُ، مَعْنَى مَلِيحٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ صَلَاةِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَقْتَ الضُّحَى ثَمَانِيَ ركعات، فَيُسْتَحَبُّ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ إِذَا فَتَحَ بَلَدًا أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ أَوَّلَ مَا يَدْخُلُهُ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، وَهَكَذَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ فتح المدائن، وَأَمَّا مَا فَسَّرَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُمَرُ رضي الله تعالى عَنْهُمَا مِنْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نُعِيَ فِيهَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم روحه الْكَرِيمَةُ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا فَتَحْتَ مَكَّةَ وَهِيَ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَقَدْ فَرَغَ شُغْلُنَا بِكَ فِي الدنيا فتهيأ للقدوم علينا والوفود إلينا فللآخرة خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى، وَلِهَذَا قَالَ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}. روى البخاري، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وبحمدك، اللهم اغفر لي» يتأول القرآن (أخرجه البخاري وبقية الجماعة إلا الترمذي)، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ مِنْ قَوْلِ: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ»، وَقَالَ: «إِنَّ رَبِّي كَانَ أَخْبَرَنِي أَنِّي سَأَرَى عَلَامَةً فِي أُمتي، وَأَمَرَنِي إِذَا رَأَيْتُهَا أَنْ أُسَبِّحَ بِحَمْدِهِ وَأَسْتَغْفِرَهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا، فَقَدْ رَأَيْتُهَا {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فسِّبح بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}» (أخرجه أحمد ورواه مسلم بنحوه)، والمراد بالفتح ههنا فَتْحُ مَكَّةَ قَوْلًا وَاحِدًا، فَإِنَّ أَحْيَاءَ الْعَرَبِ كَانَتْ تَتَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهَا فَتْحَ مَكَّةَ يَقُولُونَ: إِنْ ظَهَرَ عَلَى قَوْمِهِ فَهُوَ نَبِيٌّ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَلَمْ تَمْضِ سَنَتَانِ حَتَّى اسْتَوْسَقَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ إِيمَانًا وَلَمْ يَبْقَ فِي سَائِرِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ إِلَّا مُظْهِرٌ لِلْإِسْلَامِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: لَمَّا كَانَ الْفَتْحُ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتِ الْأَحْيَاءُ تَتَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهَا فَتْحَ مَكَّةِ يَقُولُونَ: دَعُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنْ ظَهَرَ عليهم فهو نبي (أخرجه البخاري)، الحديث. وقال الإمام أحمد بسنده: حدَّثني جَارٌ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَدِمْتُ مِنْ سَفَرٍ فَجَاءَنِي (جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) فَسَلَّمَ عليَّ، فَجَعَلْتُ أحدِّثه عَنِ افْتِرَاقِ النَّاسِ وَمَا أَحْدَثُوا، فَجَعَلَ جَابِرٌ يَبْكِي، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ دَخَلُوا فِي دِينِ الله أفواجاً، وسيخرجون منه أفواجاً» (أخرجه الإمام أحمد).

111 - سورة المسد.

- 111 - سورة المسد.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ - 2 - مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ - 3 - سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ - 4 - وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحطب - 5 - فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ روى البخاري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْبَطْحَاءِ فَصَعِدَ الْجَبَلَ فَنَادَى: «يَا صَبَاحَاهَ» فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ حَدَّثْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أَوْ مُمَسِّيكُمْ أَكَنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ»، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ تَبًّا لَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إِلَى آخرها (أخرجه البخاري)، وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَامَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} الْأَوَّلُ دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي خَبَرٌ عَنْهُ، فَأَبُو لَهَبٍ هذا أَحَدُ أَعْمَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْمُهُ (عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) وَكَانَ كَثِيرَ الْأَذِيَّةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم والبغض له، والتنقص له ولدينه، روى الإمام أحمد عن أبي الزناد قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ (رَبِيعَةُ بْنُ عَبَّادٍ) مِنْ بَنِي الدِّيلِ وَكَانَ جَاهِلِيًّا فَأَسْلَمَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَهُوَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا» وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ وَضِيءُ الْوَجْهِ، أَحْوَلُ ذُو غَدِيرَتَيْنِ، يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ، يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ، فَسَأَلْتُ عنه، فقالوا: هذا عمه أبو لهب" (أخرجه أحمد). وقال محمد بن إسحاق، عن ربيعة بن عباد قال: إِنِّي لَمَعَ أَبِي رَجُلٌ شَابٌّ أَنْظُرُ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع القبائل، ووراءه رجل أحول وضيء الوجه ذُو جُمَّةٍ، يَقِفُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم على القيبلة فَيَقُولُ: «يَا بَنِي فُلَانٍ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ آمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُصَدِّقُونِي وَتَمْنَعُونِي حَتَّى أُنَفِّذَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ»، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ قَالَ الْآخَرُ مِنْ خَلْفِهِ: يَا بَنِي فُلَانٍ هَذَا يُرِيدُ مِنْكُمْ أَنْ تَسْلُخُوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، فَلَا تَسْمَعُوا لَهُ، وَلَا تَتَّبِعُوهُ، فَقُلْتُ لِأَبِي: من هذا؟ قال:

عمه أبو لهب (أخرجه أحمد والطبراني). فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} أَيْ خَسِرَتْ وَخَابَتْ وَضَلَّ عَمَلُهُ وَسَعْيُهُ، {وَتَبَّ} أَيْ وقد تبّ تحقق خسارته وهلاكه. وقوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} قَالَ ابن عباس: {وَمَا كَسَبَ} يعني ولده، يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْإِيمَانِ قَالَ أَبُو لهب: إن كَانَ مَا يَقُولُ ابْنُ أَخِي حَقًّا فَإِنِّي أَفْتَدِي نَفْسِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ بِمَالِي وولدي، فأنزل الله تعالى: {مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}. وَقَوْلُهُ تعالى: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} أَيْ ذَاتَ شَرَرٍ ولهب وَإِحْرَاقٍ شَدِيدٍ، {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ سَادَاتِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، وَهِيَ (أُمُّ جَمِيلٍ) وَاسْمُهَا (أَرْوَى بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ) وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ عَوْنًا لِزَوْجِهَا عَلَى كُفْرِهِ وَجُحُودِهِ وَعِنَادِهِ، فَلِهَذَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَوْنًا عَلَيْهِ فِي عَذَابِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ولهذا قال تعالى: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} يَعْنِي تَحْمِلُ الْحَطَبَ فَتُلْقِي عَلَى زَوْجِهَا لِيَزْدَادَ على ما هو فيه، هي مُهَيَّأَةٌ لِذَلِكَ مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ، {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} قال مجاهد: مِّن مسد النار، وعن مجاهد وعكرمة {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} كَانَتْ تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ (وَاخْتَارَهُ ابْنُ جرير). وقال ابن عباس والضحّاك: كَانَتْ تَضَعُ الشَّوْكَ فِي طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وقال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَتْ لَهَا قِلَادَةٌ فَاخِرَةٌ، فقالت: لأنفقنها في عداوة محمد، فأعقبها الله منها حبلاً في جيدها من مسد النار، والمسد الليف، وقيل: هُوَ قِلَادَةٌ مِنْ نَارٍ طُولُهَا سَبْعُونَ ذراعاًَ، قال الْجَوْهَرِيُّ: الْمَسَدُ اللِّيفُ، وَالْمَسَدُ أَيْضًا حَبْلٌ مِنْ ليف أو خوص، وقال مجاهد: {حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} أَيْ طَوْقٌ مِنْ حَدِيدٍ، أخرج ابن أبي حاتم عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} أَقْبَلَتِ الْعَوْرَاءُ (أُمُّ جَمِيلٍ) بِنْتُ حَرْبٍ وَلَهَا وَلْوَلَةٌ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ وَهِيَ تَقُولُ: مُذَمَّمًا أبيْنا - وَدِينَهُ قليْنا - وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا رَآهَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أقبلتْ وَأَنَا أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تَرَاكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي»، وَقَرَأَ قُرْآنًا اعْتَصَمَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً}، فَأَقْبَلَتْ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، قَالَ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ، فَوَلَّتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قريش أني ابنة سيدها، قال: فَعَثَرَتْ أُمُّ جَمِيلٍ فِي مِرْطِهَا وَهِيَ تَطُوفُ بالبيت، فقالت: تعس مذمم (أخرجه ابن أبي حاتم). وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} أَيْ في عنقها حبل من نَارِ جَهَنَّمَ تُرْفَعُ بِهِ إِلَى شَفِيرِهَا، ثُمَّ ترمى إلى أسفلها، ثم لا تزال كذلك دائماً. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ وَدَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُ مُنْذُ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} فَأَخْبَرَ عَنْهُمَا بِالشَّقَاءِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ لَمْ يُقَيِّضْ لَهُمَا أَنْ يُؤْمِنَا وَلَا وَاحِدَ مِنْهُمَا لَا باطناً ولا ظاهراً، لا سراً ولا علناً، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ الْبَاهِرَةِ، عَلَى النبوّة الظاهرة.

112 - سورة الإخلاص.

- 112 - سورة الإخلاص.

(ذكر سبب نزولها وفضلها). عَنْ أُبيّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ انسب لنا ربك، فأنزل الله تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحدٌ * اللَّهُ الصمدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يولدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أحدٌ} (أخرجه أحمد والترمذي وابن جرير)، زَادَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالتِّرْمِذِيُّ، قَالَ: {الصَّمَدُ} الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُوَلَدُ إِلَّا سَيَمُوتُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إِلَّا سيورث، وإن الله عزَّ وجلَّ لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وَلَمْ يَكُنْ له شبية ولا عدل وليس كمثله شيء. حديث آخر في فضلها: روى البخاري، عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ، فَيَخْتِمُ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فلما رجعوا ذكروا ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟» فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ الله تعالى يحبه» (أخرجه البخاري في كتاب التوحيد). حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، عن أنس رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ، افتتح بقل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ كان يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ، حَتَّى تَقْرَأَ بِالْأُخْرَى، فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا، وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بأُخْرَى، فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكَتْكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبره الخبر، فقال: يافلان «مايمنعك أَنْ تَفْعَلَ مَا يأمركَ بِهِ أَصْحَابُكَ، وَمَا حَمَلَكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ»؟ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا، قَالَ: «حُبُّكَ إِيَّاهَا أدخلك الجنة» (أخرجه البخاري في كتاب الصلاة). حديث آخر: قال البخاري، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلْثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ»؟ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلْثُ الْقُرْآنِ» (أخرجه البخاري).

حديث آخر: قال أحمد، عَنْ أُبيّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ بقل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ بِثُلْثِ الْقُرْآنِ» (أخرجه أحمد). حديث آخر: عن أبي الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ كُلَّ يَوْمٍ ثُلْثَ الْقُرْآنِ؟» قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ أَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْجَزُ، قَالَ: «فَإِنَّ اللَّهَ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أجزاء، فقل هُوَ الله أَحَدٌ ثلث القرآن» (رواه أحمد ومسلم والنسائي). حديث آخر: عن عبد الله بن حبيب قال: أصابنا عطش وَظُلْمَةٌ، فَانْتَظَرْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا فَخَرَجَ فَأَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ: «قُلْ»، فَسَكَتُّ، قَالَ: «قُلْ»، قُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تمسي، وحين تصبح ثلاثاً، تكفيك كل يوم مرتين» (رواه أبو داود والترمذي والنسائي). حديث آخر: عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أنَس الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حَتَّى يَخْتِمَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ»، فَقَالَ عُمَرُ: إِذًا نَسْتَكْثِرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «الله أكثر وأطيب» (رواه أحمد والدارمي). حديث آخر، في فضلها مع المعوذتين: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَابْتَدَأْتُهُ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِمَ نَجَاةُ المؤمن؟ قال: «يا عقبة أخرس لِسَانَكَ، وَلِيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ» قَالَ: ثم لقيني رسول الله صلى اللّ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَابْتَدَأَنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ: «يَا عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ أَلَّا أَعُلِّمُكَ خَيْرَ ثَلَاثِ سُوَرٍ أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ والإِنجيل وَالزَّبُورِ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ»؟ قَالَ، قُلْتُ: بَلَى، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قال: فأقرأني: {قُلْ هُوَ الله أحد - وقل أعوذ برب الفلق - وقل أَعُوَذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ثُمَّ قَالَ: «يَا عُقْبَةُ لَا تَنْسَهُنَّ وَلَا تَبِتْ لَيْلَةً حَتَّى تَقْرَأَهُنَّ» قَالَ: فَمَا نَسِيتُهُنَّ مُنْذُ قَالَ لَا تَنْسَهُنَّ، وَمَا بِتُّ لَيْلَةً قَطُّ حَتَّى أَقْرَأَهُنَّ، قَالَ عقبة: ثم لقيت رسول الله صلى اللّ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَابْتَدَأْتُهُ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبَرْنِي بِفَوَاضِلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: «يَا عُقْبَةُ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وأعرض عمن ظلمك» (رواه أحمد والترمذي). حَدِيثٌ آخَرُ: فِي الِاسْتِشْفَاءِ بِهِنَّ، قَالَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما، وقرأ فِيهِمَا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَ {قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ {قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (أخرجه البخاري وأهل السنن).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - 2 - اللَّهُ الصَّمَدُ - 3 - لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - 4 - وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ قال عكرمة: لما قالت اليهود: نحن نعبد عزير بن الله، وقالت النصارى: نحن نعبد المسيح بن اللَّهِ، وَقَالَتِ الْمَجُوسُ: نَحْنُ نَعْبُدُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَقَالَتِ الْمُشْرِكُونَ: نَحْنُ نَعْبُدُ الْأَوْثَانَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يَعْنِي هُوَ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا وَزِيرَ، وَلَا شبيه ولا عديل، لِأَنَّهُ الْكَامِلُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {آللَّهُ الصمد} يعني الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم، قال ابن العباس: هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ، وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ، وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظْمَتِهِ، وَالْحَلِيمُ الَّذِي قد كمل حِلْمِهِ، وَالْعَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدُدِ، وهو الله سبحانه، لَيْسَ لَهُ كُفْءٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، سُبْحَانَ الله الواحد القهار، وقال الأعمش {الصمد} السيد الذي قد انتهى سؤدده، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ الْبَاقِي بَعْدَ خَلْقِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا {الصَّمَدُ} الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي لا زوال له، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: هُوَ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ كَأَنَّهُ جَعَلَ مَا بَعْدَهُ تَفْسِيرًا لَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} وهو تفسير جيد، وقال ابن مسعود وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: {الصَّمَدُ} الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، وقال مُجَاهِدٍ {الصَّمَدُ} الْمُصْمَتُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ ولا يشرب الشراب. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي كتاب السنة بَعْدَ إِيرَادِهِ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ الصَّمَدِ: وَكُلُّ هَذِهِ صَحِيحَةٌ وَهِيَ صِفَاتُ ربنا عزَّ وجلَّ، هو الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ، وَهُوَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى سُؤْدُدُهُ، وَهُوَ الصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَهُوَ الْبَاقِي بَعْدَ خَلْقِهِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ، وقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} أَيْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ وَلَا صَاحِبَةٌ، قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} يَعْنِي لَا صَاحِبَةَ لَهُ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} أَيْ هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ نَظِيرٌ يُسَامِيهِ، أَوْ قريب يدانيه؟ تعالى وتقدس وتنزه، قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُواْ: اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إدّاً}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}. وفي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ ويعافيهم» (أخرجه البخاري). وفي الحديث القدسي: "كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عليَّ مِنْ إِعَادَتِهِ. وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد" (أخرجه البخاري أيضاً).

113 - سورة الفلق.

- 113 - سورة الفلق.

[مقدمة] عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ: {قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ {قُلْ أعوذ برب الناس} " (أخرجه مسلم والترمذي والنسائي). وروى الإمام أحمد، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَقْبٍ مِنْ تِلْكَ النِّقَابِ إِذْ قَالَ لي: «يا عقبة أَلَّا تَرْكَبُ؟» قَالَ، فَأَشْفَقْتُ أَنْ تَكُونَ مَعْصِيَةً، قَالَ: فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وركبت هنية، ثم ركب، ثم قال: «يا عقبة، أَلَا أُعَلِّمُكَ سُورَتَيْنِ مِنْ خَيْرِ سُورَتَيْنِ قَرَأَ بِهِمَا النَّاسُ؟» قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَقْرَأَنِي: {قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ {قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَتَقَدَّمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ بِهِمَا، ثُمَّ مَرَّ بِي فَقَالَ: «كَيْفَ رَأَيْتَ يا عقب، اقرأ بهما كلما نمت وكلما قمت» (أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي). وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِهِنَّ وَيَنْفُثُ فِي كَفَّيْهِ وَيَمْسَحُ بِهِمَا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ وَمَا أقبل من جسده، وروى الإمام مالك، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ اقرأ عليه بالمعوذات، وأمسح بيده عليه رجاء بركتها (أخرجه مالك ورواه البخاري وأبو داود والنسائي). وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ أَعْيُنِ الجان وأعين الْإِنْسَانِ فَلَمَّا نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَانِ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ ما سواهما (أخرجه التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حسن صحيح).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

- 1 - قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ - 2 - مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ - 3 - وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ - 4 - وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ - 5 - وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذا حسد قال ابن عباس {الفلق}: الصبح، وقال ابن جرير: وهي كقوله تعالى: {فَالِقُ الإصباح}، وقال

ابن عباس: {الفلق} الخلق، أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَتَعَوَّذَ مِنَ الْخَلْقِ كُلِّهِ، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: {الْفَلَقُ} بَيْتٌ فِي جَهَنَّمَ، إِذَا فُتِحَ صَاحَ جَمِيعُ أَهْلِ النَّارِ من شدة حره، قال ابن جرير: والصواب القول، أَنَّهُ فَلَقُ الصُّبْحِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ اختيار البخاري رحمة الله تعالى، {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} أَيْ مِنْ شَرِّ جميع المخلوقات، وقال الحسن الْبَصْرِيُّ: جَهَنَّمُ وَإِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ مِمَّا خَلَقَ، {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} قَالَ مُجَاهِدٌ {غَاسِقٍ} اللَّيْلِ {إِذَا وَقَبَ} غُرُوبُ الشَّمْسِ (حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عنه وهو قول ابن عباس والضحّاك)، وقال الحسن وَقَتَادَةُ: إِنَّهُ اللَّيْلُ إِذَا أَقْبَلَ بِظَلَامِهِ، وَقَالَ الزهري: الشَّمْسُ إِذَا غَرَبَتْ، وَعَنْ عَطِيَّةَ وَقَتَادَةَ: {إِذَا وَقَبَ} الليل إذا ذهب، وقال أبو هريرة {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} الكوكب، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْقَمَرُ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَأَرَانِي القمر حين طلع، وَقَالَ: «تَعَوَّذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الْغَاسِقِ إذا وقب» (أخرجه أحمد والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح)، وَلَفَظُ النَّسَائِيِّ: «تَعَوَّذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، هذا الغاسق إذا وقب»، قال الأولون: هَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَنَا، لِأَنَّ الْقَمَرَ آيَةُ اللَّيْلِ، وَلَا يُوجَدُ لَهُ سُلْطَانٌ إِلَّا فِيهِ، وكذلك النجوم لا تضيء إلاّ بالليل، فَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقوله تعالى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} قَالَ مُجَاهِدٌ وعكرمة: يَعْنِي السَّوَاحِرَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا رَقَيْنَ وَنَفَثْنَ في العقد، وفي الحديث: أن جبريل جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اشْتَكَيْتَ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ»، فَقَالَ: باسم اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ دَاءٍ يُؤْذِيكَ، وَمِنْ كل شر حَاسِدٍ وَعَيْنٍ، اللَّهُ يَشْفِيكَ. وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ من شكواه صلى الله عليه وسلم حِينَ سُحِرَ، ثُمَّ عَافَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَشَفَاهُ، وَرَدَّ كَيْدَ السَّحَرَةِ الْحُسَّادِ مِنَ الْيَهُودِ فِي رؤوسهم وجعل تدميرهم في تدبيرهم. روى البخاري في كتاب الطب من صحيحه، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ، حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ، وَلَا يَأْتِيهِنَّ. قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ أَعْلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ رجليَّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ (لَبِيَدُ بْنُ أَعْصَمَ) رَجُلٌ مِنْ بَنِي زريق حليف اليهود كان منافقاً، فقال: وفيم؟ قال: في مشط ومشاطة، قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ، تحت راعوفة في بئر ذروان، قالت: فأتى البئر حتى استخرجه، فقال: «هذه بئر الَّتِي أُريتها وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ وَكَأَنَّ نخلها رؤوس الشياطين»، قال: فاستخرج، فقلت: أفلا تنشَّرت؟ فقال: «أمَّا الله فقد أشفاني، وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شراً» (أخرجه البخاري ورواه مسلم وأحمد بمثله). وروى الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ غُلَامٌ مِنَ الْيَهُودِ يَخْدِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَبَّتْ إِلَيْهِ الْيَهُودُ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَخَذَ مُشَاطَةَ رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وعدة من أسنان مُشْطِهِ، فَأَعْطَاهَا الْيَهُودَ فَسَحَرُوهُ فِيهَا، وَكَانَ الَّذِي تولى ذلك رجل منهم يقال له (ابن أعصم) ثم دسها في بئر لنبي زريق، يقال له ذوران، فَمَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْتَثَرَ شَعْرُ رَأْسِهِ وَلَبِثَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ، وَجَعَلَ يَذُوبُ، وَلَا يَدْرِي مَا عَرَاهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ نَائِمٌ إذ أتاه مَلَكَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالْآخِرُ عِنْدَ

رِجْلَيْهِ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيْهِ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِهِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: طبَّ، قَالَ: وَمَا طُبَّ؟ قَالَ: سُحِرَ، قَالَ: وَمَنْ سَحَرَهُ، قال: لبيد بن الأعصم الْيَهُودِيُّ، قَالَ: وَبِمَ طَبَّهُ؟ قَالَ: بِمُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ، وَالْجُفُّ قِشْرُ الطَّلْعِ، وَالرَّاعُوفَةُ حَجَرٌ فِي أَسْفَلِ الْبِئْرِ نَاتِئٌ يَقُومُ عَلَيْهِ الْمَاتِحُ، فَانْتَبَهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَذْعُورًا، وَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَمَا شَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَنِي بِدَائِي»، ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، فَنَزَحُوا مَاءَ الْبِئْرِ، كَأَنَّهُ نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، ثُمَّ رَفَعُوا الصَّخْرَةَ، وَأَخْرَجُوا الْجُفَّ، فَإِذَا فِيهِ مُشَاطَةُ رَأْسِهِ وَأَسْنَانٌ مِنْ مُشْطِهِ، وَإِذَا فِيهِ وَتَرٌ مَعْقُودٌ فِيهِ اثنا عشر عُقْدَةً مَغْرُوزَةً بِالْإِبَرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى السُّورَتَيْنِ، فَجَعَلَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِفَّةً حِينَ انْحَلَّتِ الْعُقْدَةُ الْأَخِيرَةُ، فَقَامَ كَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ، وَجَعَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ حَاسِدٍ وَعَيْنٍ، اللَّهُ يَشْفِيكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَأْخُذُ الْخَبِيثَ نَقْتُلُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما أَنَا فَقَدَ شَفَانِي اللَّهُ، وَأَكْرَهُ أَنْ يُثِيرَ على الناس شراً» (قال ابن كثير: هكذا أورده الثعلبي بدون إِسْنَادٍ وَفِيهِ غَرَابَةٌ، وَفِي بَعْضِهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ، ولبعضه شواهد مما تقدم).

114 - سورة الناس.

- 114 - سورة الناس.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. - 1 - قُلْ أَعُوَذٌ بِرَبِ النَّاسِ - 2 - مَلِكِ النَّاسِ - 3 - إِلَهِ النَّاسِ - 4 - مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ - 5 - الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ - 6 - مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ هَذِهِ ثَلَاثُ صِفَاتٍ مِنْ صفات الرب عزَّ وجلَّ: (الربوبية) و (الملك) والإلهية)، فهو رب كل شيء وملكيه وإلهه، فجميع الأشياء مخلوقة له مملوكة، فأمر المستعيذ أن يتعوذ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} وَهُوَ الشَّيْطَانُ الْمُوَكَّلُ بِالْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَّا وَلَهُ قَرِينٌ يُزَيِّنُ لَهُ الْفَوَاحِشَ، وَلَا يَأْلُوهُ

جهداً في الخبال، والمعصوم من عصمه الله، وقد ثبت في الصحيح: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينَةٌ» قَالُوا: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير». وقد ثبت في الصحيحين «إن الشيطان يجري من بني آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ في قلوبكما شيئاً - أو قال - شراً» (أخرجه الشيخان في قصة زيارة صفية للنبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف فلقيه رجلان فقال: «على رسلكما إنها صفية» الحديث). وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خَطْمَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِنْ ذكر الله خَنَسَ، وَإِنْ نَسِيَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الْوَسْوَاسُ الخناس» (أخرجه الحافظ الموصلي). وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ مَتَى ذَكَرَ اللَّهَ تَصَاغَرَ الشَّيْطَانُ وَغُلِبَ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ الله تعاظم وغلب، قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} قَالَ: الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا سها غفل ووسوس، فإذا ذكر الله خنس. وقوله تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} هَلْ يَخْتَصُّ هَذَا بِبَنِي آدَمَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ يَعُمُّ بَنِي آدَمَ وَالْجِنَّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَيَكُونُونَ قد دخلوا في لفظ الناس تغليباً، وقوله: {مِنَ الجنة والناس} ْ هَلْ هُوَ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صدرو النَّاسِ} ثُمَّ بَيَّنَهُمْ فَقَالَ: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} وَهَذَا يُقَوِّي الْقَوْلَ الثَّانِيَ، وَقِيلَ قَوْلُهُ: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} تَفْسِيرٌ لِلَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنْ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}، وكما قال الإمام أحمد عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَجَلَسْتُ فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ صَلَّيْتَ؟» قُلْتُ: لَا، قَالَ: «قُمْ فَصَلِّ»، قَالَ: فَقُمْتُ فَصَلَّيْتُ، ثُمَّ جَلَسْتُ فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَوَّذْ بِالْلَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ». قال، فقلت: يارسول الله وللإنس شياطين؟ قال: «نعم» (أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه بلفظ أطول)، وروى الإمام أحمد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لأحدث نَفْسِي بِالشَّيْءِ، لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إلي من أَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة» (أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي).

§1/1