مختصر كتاب الاعتصام
علوي السقاف
مقدمة
- ث - مقدمة إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، مَن يهدهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ ألاَّ إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وأشهد أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلا وأنْتُمْ مُسْلمُون} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيماً} أما بعد: فإنَّ كتاب ((الاعتصام)) للإمام أبي إسحاق الشاطبي يُعَدُّ من أفضل ما أُلِّف في معنى البدعة وحَدِّها وذمِّ البدع وسوء منقلب أهلها، وأنواعها وأحكامها والفرق بينها وبين المصالح المرسلة وغير ذلك من مسائل تتعلق بالبدعة وأهلها، فشيخ الإسلام ابن تيمية وإنْ كان له كلامٌ جليلُ القدرِ عظيمُ الفائدةِ في موضوع البدعة إلا أنَّه متفرقٌ في كتبه ورسائله وفتاويه لا يجمعه كتابٌ واحدٌ، فحرِيٌّ بكلِّ طالب علم وصاحب سنة أنْ يقرأ هذا الكتاب ويتدارسه.
إن التأليف على سبعة أقسام
- ج - والكتاب فيه من الإطالة والاستطرادات ما يَشْرُدُ به ذهْنُ القاريء ويتشتت، فقد أكثر المؤلِّفُ فيه من الاستشهاد بالآيات والأحاديث والآثار الصحيح منها والضعيف أحياناً والأقوال والقصص والأخبار والأمثلة والتفريعات ما يجعل اختصاره أمراً مُهمَّاً مُلِحَّاً، وقد ترددتُ كثيراً في ذلك لما لِفَنِّ الاختصار والتهذيب من صعوبة وتبعيَّة وخطورة، ولكن لما نظرت إلى الكتاب وما فيه مما سبق ذكره ونظرت إلى ضعف الهمم وكثرة الشواغل لدى كثيرٍ منَّا -ولا حول ولا قوة إلا بالله- رأيتُ أنَّه يتحتم عليَّ وقد كنت قرأت الكتاب أكثر من مرة أنْ أُلَخِّصَه وأهذِّبه دون أنْ أخلَّ بشيء من معانيه. وقد قال بعضهم: ((إنَّ التأليف على سبعةِ أقسام، لا يؤلِّف عالمٌ عاقلٌ إلا فيها -وذكر منها-: 000 أو شيءٌ طويل يختصره دون أنْ يخلَّ بشيء من معانيه)) (¬1) ، فاستخرتُ الله واستعنتُ به على عمل هذا المختصر وظللت فترة وأنا أقرأ منه، أحذف هذا تارةً وأعيد ذلك تارةً وأربط بين جملة أو جمل في صفحة مع جمل أخرى تبعد عنها عدة صفحات، فأختار آية أو آيتين من عشرة أو أكثر تؤدي الغرض الذي من أجله ساقها المُصنِّف، وكذلك أفعل بالأحاديث والآثار حاذفاً منها كلَّ ما لم يصح سنده، مختاراً بعض ما صح مما يؤدِّي الغرض، وكذا في الأمثلة والأقوال. ولا أدع فكرة أو مقصداً للمصنف إلا وأوردها مسترشداً بقول ابن خلدون في ((المقدمة)) : ((إنَّ النَّاس حصروا مقاصد التأليف التي ينبغي
وقد طبع الكتاب عدة طبعات
- ح - اعتمادها وإلغاء ما سواها، فعدُّوها سبعة: وذكر منها: أنْ يكون الشيء من التواليف التي هي أمهات للفنون مطولاً مسهباً، فيقصد بالتأليف تلخيص ذلك بالاختصار والإيجاز وحذف المتكرر إنْ وقع، مع الحذر من حذف الضروري لئلا يخل بمقصد المؤلف الأول000)) (¬1) ، حتى ظهر الكتاب بالشكل الذي بين يديك، والذي يمثل في حجمه ربع الكتاب الأصلي تقريباً. هذا وقد طبع الكتاب عدة طبعات منها: 1- طبعة السيد محمد رشيد رضا، وقد طبع الكتاب سنة 1332هـ، في مجلدين مجموع صفحاته (745) صفحة، وقد اعتمد فيه المحقق على نسخة بخط مغربي للشيخ محمد محمود الشنقيطي، وكلُّ من جاء بعده اعتمد على هذه الطبعة. 2- طبعة دار ابن عفان للنشر والتوزيع بالخبر - السعودية، سنة 1412هـ، تحقيق سليم بن عيد الهلالي، وقد اعتمد على نسخة خطية مغربية وطبعة السيد رشيد رضا، وتقع هذه الطبعة في مجلدين عدد صفحاتها (893) صفحة. 3- طبعة دار الخاني بالرياض - السعودية، سنة 1416هـ، تحقيق مصطفى أبوسليمان الندوي، وقد اعتمد على طبعة السيد رشيد رضا فقط، وتقع هذه الطبعة في مجلدين عدد صفحاتها (884) صفحة. 4- طبعة دار الكتاب العربي ببيروت - لبنان سنة1417هـ، تحقيق
- خ - عبد الرزاق المهدي، وقد اعتمد على طبعة السيد رشيد رضا فقط، وتقع هذه الطبعة في مجلد واحد عدد صفحاته (591) صفحة. 5- ((بدر التمام في اختصار الاعتصام)) ، لأبي عبد الفتاح محمد السعيد الجزائري، نشر دار الحنان الإسلامية سنة 1411هـ، ويقع في جزء لطيف عدد صفحاته (151) صفحة، وهذا المختصر جيِّدٌ ومفيدٌ ولكنه أغفل فصولاً من الكتاب بكاملها بل باباً من أبوابه وإليك بيانها: - فصل: ((أقسام المنسوبين إلى البدعة)) ، من الباب الثالث. - فصل: ((سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما)) ، من الباب الخامس. - فصل: ((كلُّ بدعة ضلالة)) ، من الباب السادس. - الباب السابع: ((الابتداع هل يختص بالأمور العبادية أو يدخل في العاديَّات)) . - فصل: ((رد شبهة استفتاء القلب)) ، من الباب الثامن. - فصل: ((حديث الفِرَق وفيه مسائل)) ، من الباب التاسع. 6- ((طريق الوصول إلى إبطال البدع بعلم الأصول)) ، لمحمد أحمد العدوي سنة1340هـ، ثم أُعيد طباعته عدة مرات آخرها الطبعة الرابعة في المكتب الإسلامي سنة 1406هـ، وتحت عنوان ((أصول البدع والسنن)) ، وهو عبارة عن تلخيص لكتاب ((الاعتصام)) بأسلوب المؤلف، وليس اختصاراً
عملي في الكتاب
- د - له، وتقع هذه الطبعة في كتيب عدد صفحاته (134) صفحة. هذا وقد استفدت من جميع هذه الطبعات وخاصة طبعة السيد رشيد رضا و ((بدر التمام)) . عملي في الكتاب: 1- اعتمدت على طبعة السيد رشيد رضا فقمت باختصارها أولاً على ما سبق ذكره، ولم أضف شيئاً من عندي في أصله لأنَّ كلام الشاطبي فيه من القوة والمتانة والرصانة والوضوح ما يغني عن كلِّ تعليق -خاصة بعد حذف الاستطرادات وبعض المسائل- إلا ما يقتضيه ربطُ الكلام، وقد حوى هذا المختصر جميع أبواب وفصول الكتاب. 2- عرض هذا المختصر على نسخة خطيَّة مغربيَّة عدد أوراقها (265) ورقة حصلتُ عليها من جامعة أم القرى وهى مصورة من مكتبة المسجد النبوي، وقد جعلت هذه النسخة وطبعة السيد رشيد رضا في مقامٍ واحدٍ وعند التعارض أَثْبَتُّ أنسبْهما لسياق الكلام، وما كان فيه إشكالٌ هنا وهناك وضعت أقرب الكلمات التي تؤدي المعنى وذلك بين علامتين هكذا: [] وهذا قليلٌ جداً. 3- استفدت من عناوين الأبواب والفصول التي وضعها ناسخ النسخة المغربية وأضفت عناوين لبعض الفصول تقتضيها طبيعة المختصر. 4- وضعت تعليقاتٍ يسيرةً بالهامش توضح بعض معاني الكلمات
- ذ - والتعريفات. 5- عزوت الآيات إلى سورها مع ذكر رقمها في المصحف الشريف. 6- خرَّجت الأحاديث والآثار من مصادرها الأصليَّة ذاكراً رقم الحديث أو الأثر وراويه ودرجة صحته ما لم يكن في الصحيحين أو أحدهما وذلك بشكلٍ موجز ومختصر يؤدي الغرض. 7- اجتهدت كثيراً في إخراج الكتاب بصورة تُسَهِّل على القاريء فهمه. 8- وضعت فهارس للآيات، والأحاديث والآثار، وفهرساً تفصيلياً للموضوعات. وبعد: فلقد بذلت جهدي واجتهدت في إخراج هذا الكتاب بالصورة التي تؤدي إلى مقصد المؤلِّف ولا يسعني إلا أنْ أقول ما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه: ((فإنْ يكُ صواباً فمن الله عزَّ وجلَّ، وإنْ يكن خطأً فمني ومن الشيطان, واللهُ عزَّ وجلَّ ورسولُه بريئان)) ، وحسبي أنَّ للمجتهدِ أجراً إذا أخطأ فأرجو ألا يفوتني الأجرُ في كلتا الحالتين. واللهَ أسألُ أنْ يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بدئ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدئ
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله المحمودِ على كلِّ حال، والصلاة والسلام على سيِّدنا ومولانا محمدٍ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أمَّا بَعْدُ فإنِّي أُذَكِّرُكَ أَيُّهَا الصَّدِيقُ الْأَوْفَى، وَالْخَالِصَةُ الأَصفى، فِي مقدمةٍ يَنْبَغِي تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -: ((بُدِئ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بُدِئ فطُوبى للغُرَباءِ، قِيلَ: وَمَنِ الغرباءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُصْلِحُون عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ)) (¬1) . وَجُمْلَةُ الْمَعْنَى فِيهِ مِنْ جِهَةِ وَصْفِ الْغُرْبَةِ مَا ظَهَرَ بِالْعِيَانِ وَالْمُشَاهَدَةِ فِي أوَّل الْإِسْلَامِ وَآخِرِهِ، وَذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حِينِ فترةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَفِي جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَاءَ، لَا تَعْرِفُ مِنَ الْحَقِّ رَسْمًا، وَلَا تُقِيمُ بِهِ
فِي مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ حُكْمًا، بَلْ كَانَتْ تَنْتَحِلُ ما وجدت عليه آباءها، وما استحسنته أَسلافها، مِنَ الآراءِ الْمُنْحَرِفَةِ، والنِّحَل الْمُخْتَرَعَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الْمُبْتَدَعَةِ، فَحِينَ قَامَ فِيهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، فَسُرعان مَا عَارَضُوا مَعْرُوفَهُ بالنُّكر، ونسبوا إليه كلَّ مُحَالٍ، وَرَمَوْهُ بأَنواع الْبُهْتَانِ، فَتَارَةً يَرْمُونَهُ بالكذب وهو الصادق المصدوق، وآونة يتهمونه بالسِّحر، وكرةً يقولون: إنَّه مجنون، كُلُّ ذَلِكَ دُعَاءٌ مِنْهُمْ إِلَى التَّأَسِّي بِهِمْ والموافقة لهم على ما ينتحلون، فَأَنْكَرُوا مَا تَوَقَّعُوا مَعَهُ زَوَالَ مَا بِأَيْدِيهِمْ، لأنَّه خَرَجَ عَنْ مُعْتَادِهِمْ وَأَتَى بِخِلَافِ مَا كانوا عليه من كفرهم وضلالهم. فأَبى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا الثُّبُوتَ عَلَى مَحْضِ الْحَقِّ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى خَالِصِ الصَّوَابِ؛ وَأَنْزَلَ الله: {قُلْ يا أَيُّها الكافِرُونَ - لاَ أَعْبُدُ مَا تعْبُدُونَ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَنَصَبُوا لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ حَرْبَ الْعَدَاوَةِ، وَرَمَوْهُ بِسِهَامِ الْقَطِيعَةِ، وَصَارَ أَهل السِّلم كُلُّهُمْ حرباً عليه، عَادَ الوليُّ الحميمُ عَلَيْهِ كَالْعَذَابِ الأَليم، فأَقربهم إِلَيْهِ نَسَبًا كَانَ أَبعد النَّاسِ عَنْ مُوَالَاتِهِ، كأَبي جهلٍ (¬1) وَغَيْرِهِ، وأَلصقهم بِهِ رَحِمًا؛ كَانُوا أَقسى قُلُوبًا عَلَيْهِ، فأَي غُرْبَةٍ تُوَازِي هَذِهِ الْغُرْبَةَ؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكِلْهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا سلَّطهم عَلَى النَّيْل مِنْ أَذاه، بَلْ حَفِظَهُ وَعَصَمَهُ، وَتَوَلَّاهُ بِالرِّعَايَةِ والكلاءَة، حَتَّى بلَّغ رِسَالَةَ رَبِّهِ ثُمَّ مَا زَالَتِ الشَّرِيعَةُ فِي أَثناءِ نُزُولِهَا، وَعَلَى تَوَالِي تَقْرِيرِهَا، تُبْعِدُ بَيْنَ أَهلها وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ، وَتَضَعُ الْحُدُودَ بَيْنَ حقها وبين ما ابتدعوا، وَمَا زَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْعُو لَهَا، فيؤوب إليه الواحد بعد الواحد، خَوْفًا مِنْ عَادِيَةِ الْكُفَّارِ، زَمَانَ ظُهُورِهِمْ عَلَى دعوة الإسلام.
ثُمَّ استمرَّ مَزِيدُ الْإِسْلَامِ، وَاسْتَقَامَ طَرِيقُهُ عَلَى مدةِ حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ؛ وأَكثرِ قَرْنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، إِلَى أَن نَبَغَتْ فِيهِمْ نَوَابِغُ الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّة، وأَصغوا إِلَى الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ كَبِدْعَةِ الْقَدَرِ وَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ، وَهِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ: ((يَقْتُلُونَ أَهل الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهل الأَوثان، يقرأون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ)) (¬1) يَعْنِي لَا يَتَفَقَّهُونَ فِيهِ، بَلْ يأْخذونه عَلَى الظَّاهِرِ: كَمَا بَيَّنَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي بِحَوْلِ اللَّهِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي آخِرِ عَهْدِ الصَّحَابَةِ. ثُمَّ لَمْ تَزَلِ الْفِرَقُ تَكْثُرُ حَسْبَمَا وَعَدَ بِهِ الصَّادِقُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: ((افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَالنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ وَتَفْتَرِقُ أُمتي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً)) (¬2) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ ((لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ)) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: ((فَمَنْ؟)) (¬3) وَهَذَا أَعم مِنَ الْأَوَّلِ فإنَّ الأَول عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهل الْعِلْمِ خَاصٌّ بأَهل الأَهواءِ وَهَذَا الثَّانِي عَامٌّ فِي الْمُخَالَفَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: ((حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ)) . وكلُّ صَاحِبِ مُخَالَفَةٍ فَمِنْ شأْنه أَن يدعو غيره إليها، ويحض سِوَاهُ عَلَيْهَا، إِذِ التأَسي فِي الأَفعال وَالْمَذَاهِبِ موضوع طلبه في الجِبِلَّة، وبسببه تقع من الْمُخَالِفِ الْمُخَالَفَةُ، وَتَحْصُلُ مِنَ الْمُوَافِقِ الْمُؤَالَفَةُ، وَمِنْهُ تنشأُ العداوة والبغضاء للمختلفين.
وكان الْإِسْلَامُ فِي أوَّله وجِدَّتِه مُقَاوِمًا بَلْ ظَاهِرًا، وَأَهْلُهُ غَالِبُونَ وَسَوَادُهُمْ أَعْظَمُ الْأَسْوِدَةِ، فَخَلَا مِنْ وَصْفِ الْغُرْبَةِ بِكَثْرَةِ الْأَهْلِ والأولياءِ النَّاصِرِينَ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَسْلُكْ سَبِيلَهُمْ أَوْ سَلَكَهُ وَلَكِنَّهُ ابْتَدَعَ فِيهِ صَوْلَةٌ يَعْظُمُ مَوْقِعُهَا، وَلَا قُوَّةٌ يَضْعُفُ دُونَهَا حِزْبُ اللَّهِ الْمُفْلِحُونَ، فَصَارَ عَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَجَرَى عَلَى اجْتِمَاعٍ وَاتِّسَاقٍ، فَالشَّاذُّ مَقْهُورٌ مضطَّهد، إِلَى أَنْ أَخَذَ اجتماعُه فِي الِافْتِرَاقِ الْمَوْعُودِ؛ وقوتُه إِلَى الضَّعْفِ الْمُنْتَظَرِ، وَالشَّاذُّ عَنْهُ تَقْوَى صَوْلَتُهُ وَيَكْثُرُ سَوَادُهُ، وَاقْتَضَى سرُّ التأسِّي المطالبةَ بالموافقةِ، وَلَا شَكَّ أنَّ الْغَالِبَ أَغْلَبُ، فَتَكَالَبَتْ عَلَى سَوَادِ السُّنَّةِ البدعُ وَالْأَهْوَاءُ، فَتَفَرَّقَ أَكْثَرُهُمْ شِيَعًا. وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ؛ أنَّ أَهْلَ الْحَقِّ فِي جَنْبِ أَهْلِ الْبَاطِلِ قَلِيلٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أكْثرُ النَّاسِ ولوْ حَرصْتَ بمُؤمِنِين} (¬1) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وقلِيلٌ مِنْ عِبَاديَ الشَّكُورُ} (¬2) وَلِيُنْجِزَ اللَّهُ مَا وَعَدَ بِهِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَوْدِ وَصْفِ الْغُرْبَةِ إِلَيْهِ، فإنَّ الْغُرْبَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ فَقْدِ الْأَهْلِ أَوْ قِلَّتِهِمْ، وَذَلِكَ حِينَ يَصِيرُ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا؛ وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، وَتَصِيرُ السُّنَّةُ بِدْعَةً، والبدعةُ سُنَّةً، فَيُقَامُ عَلَى أَهْلِ السُّنَّة بِالتَّثْرِيبِ وَالتَّعْنِيفِ؛ كَمَا كَانَ أوَّلاً يُقَامُ عَلَى أَهْلِ الْبِدْعَةِ، طَمَعًا مِنَ الْمُبْتَدِعِ أَنْ تَجْتَمِعَ كلمةُ الضَّلَالِ، ويأْبى اللَّهُ أَنْ تَجْتَمِعَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَلَا تَجْتَمِعُ الفِرَقُ كلُّها ـ عَلَى كَثْرَتِهَا ـ عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّة عَادَةً وَسَمْعًا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَثْبُتَ جَمَاعَةُ أَهْلِ السُّنَّة حَتَّى يأْتي أَمْرُ اللَّهِ، غَيْرَ أنَّهم لِكَثْرَةِ مَا تُناوِشُهم الْفِرَقُ الضَّالَّةُ وَتُنَاصِبُهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ اسْتِدْعَاءً إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ، لَا يَزَالُونَ فِي جِهَادٍ وَنِزَاعٍ، وَمُدَافَعَةٍ وَقِرَاعٍ؛ آناءَ اللَّيْلِ والنهار،
وَبِذَلِكَ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُمُ الْأَجْرَ الْجَزِيلَ وَيُثِيبُهُمْ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ. فَقَدْ تَلَخَّصَ مِمَّا تَقَدَّمَ أنَّ مطالبة المخالف بِالْمُوَافَقَةِ جارٍ مَعَ الْأَزْمَانِ لَا يختصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، فَمَنْ وَافَقَ فَهُوَ عِنْدَ الْمُطَالِبِ المُصيب عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، وَمَنْ خَالَفَ فهو المخطيء الْمُصَابُ، وَمَنْ وَافَقَ فَهُوَ الْمَحْمُودُ السَّعِيدُ، وَمَنْ خَالَفَ فَهُوَ الْمَذْمُومُ الْمَطْرُودُ، وَمَنْ وَافَقَ فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْهِدَايَةِ، وَمَنْ خَالَفَ فَقَدْ تَاهَ في طرق الضلالة والغواية (¬1) .
الباب الأول [في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظا]
البابُ الأوَّل [في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظاً] وأصل مادة ((بَدَعَ)) لِلِاخْتِرَاعِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَمِنْهُ قول الله تعالى: {بَدِيعُ السَّموَاتِ والأرْضِ} (¬1) أي مخترعهما مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ مُتَقَدِّمٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِن الرُّسُل} (¬2) ، أَيْ مَا كُنْتُ أوَّل مَنْ جاءَ بِالرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ بَلْ تَقَدَّمَنِي كَثِيرٌ مِنَ الرُّسُلِ، وَيُقَالُ: ابْتَدَعَ فَلَانٌ بِدْعَةً يَعْنِي ابْتَدَأَ طَرِيقَةً لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهَا سَابِقٌ. وَهَذَا أَمْرٌ بَدِيعٌ، يُقَالُ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحْسَنِ الَّذِي لَا مِثَالَ لَهُ فِي الْحُسْنِ، فكأنَّه لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَلَا مَا يُشْبِهُهُ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَتِ الْبِدْعَةُ بِدْعَةً، فَاسْتِخْرَاجُهَا لِلسُّلُوكِ عَلَيْهَا هُوَ الِابْتِدَاعُ، وَهَيْئَتُهَا هِيَ الْبِدْعَةُ، وَقَدْ يسمى العمل الْمَعْمُولُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ بِدْعَةً: فَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَ الْعَمَلُ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ بِدْعَةً، وَهُوَ إِطْلَاقٌ أَخَصُّ مِنْهُ في اللغة فَالْبِدْعَةُ إِذَنْ عِبَارَةٌ عَنْ: ((طريقةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٍ تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ في التعبد لله سبحانه)) ¬
وَهَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ لَا يُدْخِلُ الْعَادَاتِ فِي مَعْنَى الْبِدْعَةِ، وإنَّما يَخُصُّهَا بِالْعِبَادَاتِ، وأمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ أَدْخَلَ الْأَعْمَالَ الْعَادِيَّةَ فِي مَعْنَى الْبِدْعَةِ فَيَقُولُ: ((الْبِدْعَةُ طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ)) وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِّ. فَالطَّرِيقَةُ وَالطَّرِيقُ وَالسَّبِيلُ وَالسَّنَنُ هِيَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ مَا رُسِمَ لِلسُّلُوكِ عَلَيْهِ وإنَّما قُيِّدت بِالدِّينِ لأنَّها فِيهِ تُخْتَرَعُ وَإِلَيْهِ يُضِيفُهَا صَاحِبُهَا وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتْ طَرِيقَةً مُخْتَرَعَةً فِي الدُّنْيَا عَلَى الْخُصُوصِ لَمْ تُسَمَّ بِدْعَةً كَإِحْدَاثِ الصَّنَائِعِ وَالْبُلْدَانِ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَلَمَّا كَانَتِ الطَّرَائِقُ فِي الدِّينِ تَنْقَسِمُ، فَمِنْهَا مَا لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِيهَا، خُصَّ مِنْهَا مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْحَدِّ وَهُوَ الْقِسْمُ الْمُخْتَرَعُ، أَيْ طَرِيقَةٌ ابْتُدِعَتْ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ تَقَدَّمَهَا مِنَ الشَّارِعِ، إِذِ الْبِدْعَةُ إنَّما خاصَّتها أنَّها خَارِجَةٌ عَمَّا رَسَمَهُ الشَّارِعُ، وَبِهَذَا الْقَيْدِ انْفَصَلَتْ عَنْ كلِّ مَا ظَهَرَ لِبَادِي الرأْي أنَّه مُخْتَرَعٌ مِمَّا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالدِّينِ، كَعِلْمِ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ وَمُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وأُصول الدِّينِ، وَسَائِرِ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ فإنَّها وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي الزَّمَانِ الأوَّل فأُصولها موجودة في الشرع. (فَإِنْ قِيلَ) : فإنَّ تَصْنِيفَهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مُخْتَرَعٌ. (فَالْجَوَابُ) : أنَّ لَهُ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ، فَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ سُلِّم أنَّه لَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ، فَالشَّرْعُ بِجُمْلَتِهِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ، وَهُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وسيأْتي بَسْطُهَا بِحَوْلِ الله (¬1) . ¬
فَعَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهَا أَصْلًا شَرْعِيًّا لَا إِشْكَالَ فِي أنَّ كلَّ عِلْمٍ خَادِمٍ لِلشَّرِيعَةِ داخلٌ تحت أدلته التي ليست بمأْخوذة من جزئي وَاحِدٍ؛ فَلَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ البتَّة. وَعَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِهَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعُلُومُ مُبْتَدَعَاتٍ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي عِلْمِ الْبِدَعِ كَانَتْ قَبِيحَةً، لأنَّ كلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَتْبُ الْمُصْحَفِ وجَمْعُ الْقُرْآنِ قَبِيحًا، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فَلَيْسَ إِذًا ببدعة. ويلزم أن يكون دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَلَيْسَ إِلَّا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ جزئيٌ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، ثَبَتَ مُطْلَقُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى عِلْمُ النَّحْوِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ عُلُومِ اللِّسَانِ أَوْ عِلْمُ الْأُصُولِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ، بِدْعَةً أَصْلًا. وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِّ ((تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ)) يَعْنِي: أنَّها تُشَابِهُ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ مُضَادَّةٌ لَهَا مِنْ أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: مِنْهَا: وَضَعُ الْحُدُودِ كَالنَّاذِرِ لِلصِّيَامِ قَائِمًا لَا يَقْعُدُ، ضَاحِيًا لَا يَسْتَظِلُّ، وَالِاخْتِصَاصُ فِي الِانْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ، وَالِاقْتِصَارُ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ عَلَى صِنْفٍ دُونَ صِنْفٍ مِنْ غَيْرِ علة.
وَمِنْهَا: الْتِزَامُ الْكَيْفِيَّاتِ والهَيْئَات الْمُعَيَّنَةِ، كَالذِّكْرِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، وَاتِّخَاذُ يَوْمِ وِلَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِيدًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: الْتِزَامُ الْعِبَادَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يُوجَدْ لَهَا ذَلِكَ التَّعْيِينُ فِي الشَّرِيعَةِ، كَالْتِزَامِ صِيَامِ يَوْمِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَقِيَامِ لَيْلَتِهِ. وثَمَّ أوجهٌ تُضَاهِي بِهَا البدعةُ الأمورَ الْمَشْرُوعَةَ، فَلَوْ كَانَتْ لَا تُضَاهِي الأمورَ الْمَشْرُوعَةَ لَمْ تَكُنْ بِدْعَةً، لأنَّها تَصِيرُ من باب الأفعال العادية. وَقَوْلُهُ: ((يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ تَعَالَى)) هُوَ تَمَامُ مَعْنَى الْبِدْعَةِ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِتَشْرِيعِهَا. وَذَلِكَ أنَّ أَصْلَ الدُّخُولِ فِيهَا يَحُثُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ. لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (¬1) ، فكأنَّ الْمُبْتَدِعَ رَأَى أنَّ الْمَقْصُودَ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أنَّ مَا وَضَعَهُ الشَّارِعُ فِيهِ مِنَ القوانين والحدود كافٍ. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا الْقَيْدِ أنَّ الْبِدَعَ لَا تَدْخُلُ فِي الْعَادَاتِ. فَكُلُّ مَا اختُرِع مِنَ الطُّرُقِ فِي الدِّينِ مِمَّا يُضَاهِي الْمَشْرُوعَ وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّعَبُّدُ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ التسمية. وأمَّا الْحَدُّ عَلَى الطَّرِيقَةِ الأُخرى (¬2) فَقَدْ تَبَيَّنَ مَعْنَاهُ إِلَّا قَوْلُهُ: يُقْصَدُ بِهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمَعْنَاهُ أنَّ الشَّرِيعَةَ إنَّما جَاءَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي عَاجِلَتِهِمْ وَآجِلَتِهِمْ لتأْتيهم فِي الدَّارَيْنِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا، فَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ المبتدع ببدعته. ¬
فصل [البدعة التركية]
لأنَّ الْبِدْعَةَ إِمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْعَادَاتِ أَوِ الْعِبَادَاتِ، فَإِنْ تعلَّقت بِالْعِبَادَاتِ فإنَّما أَرَادَ بِهَا أَنْ يَأْتِيَ تعبُّده عَلَى أَبْلَغِ مَا يَكُونُ فِي زَعْمِهِ لِيَفُوزَ بِأَتَمِّ الْمَرَاتِبِ فِي الْآخِرَةِ فِي ظَنِّهِ. وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعَادَاتِ فَكَذَلِكَ، لأنَّه إنَّما وَضَعَهَا لِتَأْتِيَ أُمُورُ دُنْيَاهُ عَلَى تَمَامِ المصلحة فيها. وَقَدْ ظَهَرَ مَعْنَى الْبِدْعَةِ وَمَا هِيَ فِي الشرع والحمد لله. فصل [البدعة التَّرْكيَّة] وفي الْحَدِّ أَيْضًا مَعْنًى آخَرُ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ. وَهُوَ أنَّ الْبِدْعَةَ مِنْ حَيْثُ قِيلَ فِيهَا: إنَّها طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ ـ إِلَى آخِرِهِ ـ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ لَفْظِهَا الْبِدْعَةُ التَّرْكِيَّةُ، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْبِدْعَةُ غَيْرُ التَّرْكِيَّةِ فَقَدْ يَقَعُ الِابْتِدَاعُ بِنَفْسِ التَّرْكِ تَحْرِيمًا لِلْمَتْرُوكِ أَوْ غَيْرَ تحريم، فإنَّ الفعل ـ مثلاً ـ قد يَكُونُ حلَالًا بِالشَّرْعِ فَيُحَرِّمُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ يَقْصِدُ تَرْكَهُ قَصْدًا. فَبِهَذَا التَّرْك إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ شَرْعًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ لِأَمْرٍ يُعْتَبَرُ فَلَا حَرَجَ فِيهِ، إِذْ مَعْنَاهُ أنَّه تَرَكَ مَا يَجُوزُ تركه أو ما يُطْلب تركُه، كَالَّذِي يُحَرِّم عَلَى نَفْسِهِ الطَّعَامَ الْفُلَانِيَّ مِنْ جِهَةِ أنَّه يَضُرُّهُ فِي جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ دِينِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا مَانِعَ هُنَا مِنَ التَّرْكِ: بَلْ إِنْ قُلْنَا بِطَلَبِ التَّدَاوِي لِلْمَرِيضِ فإنَّ التَّرْكَ هَنَا مَطْلُوبٌ، وَإِنْ قلنا بإباحة التداوي، فالترك مباح. وَكَذَلِكَ إِذَا تَرَكَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ، حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْسُ فَذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الْمُتَّقِينَ، وَكَتَارِكِ الْمُتَشَابِهِ، حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، وَاسْتِبْرَاءً للدِّين
والعِرض. وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَدَيُّنًا أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَدَيُّنًا فَالتَّارِكُ عَابِثٌ بِتَحْرِيمِهِ الْفِعْلَ أَوْ بِعَزِيمَتِهِ عَلَى التَّرْكِ. وَلَا يُسَمَّى هَذَا التَّرْكُ بِدْعَةً إِذْ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ لَفْظِ الْحَدِّ إِلَّا عَلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ الْقَائِلَةِ: إنَّ الْبِدْعَةَ تَدْخُلُ فِي الْعَادَاتِ. وأمَّا عَلَى الطَّرِيقَةِ الأُولى فلا يدخل. لَكِنَّ هَذَا التَّارِكَ يَصِيرُ عَاصِيًا بِتَرْكِهِ أَوْ بِاعْتِقَادِهِ التَّحْرِيمَ فِيمَا أحلَّ اللَّهُ. وأمَّا إِنْ كَانَ التَّرْكُ تَدَيُّنًا فَهُوَ الِابْتِدَاعُ فِي الدِّينِ عَلَى كِلْتَا الطَّرِيقَتَيْنِ، إِذْ قَدْ فَرَضْنَا الْفِعْلَ جَائِزًا شَرْعًا فَصَارَ التَّرْكُ الْمَقْصُودُ مُعَارَضَةً لِلشَّارِعِ. لأنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ همَّ أَنْ يُحرِّم عَلَى نَفْسِهِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، وَآخَرَ الْأَكْلَ بِالنَّهَارِ، وَآخَرَ إِتْيَانَ النِّسَاءِ، وَبَعْضُهُمْ هَمَّ بِالِاخْتِصَاءِ، مُبَالَغَةً فِي تَرْكِ شأْن النِّسَاءِ. وَفِي أَمْثَالِ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)) (¬1) . فَإِذَا كلُّ مَنْ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ تَنَاوُلِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ خارجٌ عَنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْعَامِلُ بِغَيْرِ السُّنَّةِ تَدَيُّنًا، هُوَ الْمُبْتَدِعُ بِعَيْنِهِ. (فَإِنْ قِيلَ) فَتَارِكُ الْمَطْلُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ نَدْباً أَوْ وُجُوبًا، هَلْ يُسَمَّى مُبْتَدِعًا أَمْ لَا؟ (فَالْجَوَابُ) أنَّ التارك للمطلوبات على ضربين: ¬
(أَحَدُهُمَا) أَنْ يَتْرُكَهَا لِغَيْرِ التَّدَيُّنِ إِمَّا كَسَلًا أَوْ تَضْيِيعًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الدَّوَاعِي النَّفْسِيَّةِ. فَهَذَا الضَّرْبُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَالَفَةِ لِلْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ فِي وَاجِبٍ فَمَعْصِيَةٌ وَإِنْ كَانَ فِي نَدْبٍ فَلَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، إِذَا كَانَ التَّرْكُ جُزْئِيًّا، وَإِنْ كَانَ كُلِيًّا فَمَعْصِيَةٌ حَسْبَمَا تبين في الأُصول. (الثاني) أَنْ يَتْرُكَهَا تَدَيُّنًا. فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ حَيْثُ تَدَيَّنَ بِضِدِّ مَا شَرَعَ اللَّهُ. فَإِذًا قَوْلُهُ فِي الْحَدِّ: ((طَرِيقَةٌ مُخْتَرَعَةٌ تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ)) يَشْمَلُ الْبِدْعَةَ التَّرْكِيَّةَ، كَمَا يَشْمَلُ غَيْرَهَا، لأنَّ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَيْضًا تَنْقَسِمُ إِلَى تَرْكٍ وَغَيْرِهِ. وسواءٌ عَلَيْنَا قُلْنَا: إنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ أم قلنا: إنَّه نفي الفعل. وَكَمَا يَشْمَلُ الحدُّ التَّرْكَ يَشْمَلُ أَيْضًا ضِدَّ ذَلِكَ. وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمُ الِاعْتِقَادِ، وَقِسْمُ الْقَوْلِ، وَقِسْمُ الْفِعْلِ، فَالْجَمِيعُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ، يَتَعَلَّقُ به الابتداع.
الباب الثاني [في ذم البدع وسوء منقلب أصحابها]
البابُ الثاني [في ذمِّ البدع وسوء منقلب أصحابها] لَا خفاءَ أنَّ الْبِدَعَ مِنْ حَيْثُ تصوُّرُها يَعْلَمُ الْعَاقِلُ ذمَّها، لأنَّ اتِّبَاعَهَا خروجٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ورميٌ فِي عَمَايَةٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ من جهة النظر، والنقل الشرعي العام. فصل [الأدلة من النظر على ذمِّ البدع] أمَّا النظر فمن وجوه: (أحدها) أنَّه قد عُلِمَ بالتجارب والخبرة، أنَّ الْعُقُولَ غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ بِمَصَالِحِهَا، اسْتِجْلَابًا لَهَا، أَوْ مَفَاسِدِهَا، اسْتِدْفَاعًا لَهَا. لأنَّها إِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ أُخروية. فأمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ فَلَا يُسْتَقَلُّ بِاسْتِدْرَاكِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ البتَّة لَا فِي ابْتِدَاءِ وَضْعِهَا أوَّلاً، وَلَا فِي اسْتِدْرَاكِ مَا عَسَى أَنْ يَعْرِضَ فِي طَرِيقِهَا، إِمَّا فِي
السَّوَابِقِ، وَإِمَّا فِي اللَّوَاحِقِ، لأنَّ وَضْعَهَا أوَّلاً لم يكن إلا بتعليم الله تعالى. فَلَوْلَا أنْ منَّ اللَّهُ عَلَى الْخَلْقِ بِبَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تَسْتَقِمْ لَهُمْ حَيَاةٌ، وَلَا جَرَتْ أَحْوَالُهُمْ عَلَى كَمَالِ مَصَالِحِهِمْ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالنَّظَرِ فِي أَخْبَارِ الأوَّلين وَالْآخِرِينَ. وأمَّا الْمَصَالِحُ الأُخرويَّة، فَأَبْعَدُ عَنْ مَصَالِحِ الْمَعْقُولِ مِنْ جِهَةِ وَضْعِ أَسْبَابِهَا، وَهِيَ الْعِبَادَاتُ مَثَلًا. فإنَّ الْعَقْلَ لَا يَشْعُرُ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ، فَضْلًا عَنِ الْعِلْمِ بها على التفصيل. فَعَلَى الْجُمْلَةِ، الْعُقُولُ لَا تَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِ مَصَالِحِهَا دُونَ الْوَحْيِ. فَالِابْتِدَاعُ مضادٌ لِهَذَا الْأَصْلِ، لأنَّه لَيْسَ [لَهُ] مستندٌ شرعيٌ بِالْفَرْضِ، فَلَا يَبْقَى إِلَّا مَا ادَّعوه مِنَ الْعَقْلِ. فَالْمُبْتَدِعُ لَيْسَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ بِدْعَتِهِ أَنْ يَنَالَ بِسَبَبِ الْعَمَلِ بِهَا، مَا رَامَ تَحْصِيلَهُ مِنْ جِهَتِهَا، فصارت كالعبث. (الثاني) أنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ كَامِلَةً لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النُّقْصَانَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِيهَا: {الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لكَمُ الإسلامَ دِيناً} (¬1) . وَفِي حَدِيثِ العِرباض بْنِ سَارِيَةَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْأَعْيُنُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ هذه موعظة ¬
مُوَدِّعٍ فَمَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: ((تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، وَلَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الخلفاء الراشدين من بعدي)) الحديث (¬1) . فَالْمُبْتَدِعُ إنَّما مَحْصُولُ قَوْلِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ أَوْ مَقَالِهِ: إنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَتِمَّ، وأنَّه بَقِيَ مِنْهَا أشياءُ يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ اسْتِدْرَاكُهَا، لأنَّه لَوْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِكَمَالِهَا وَتَمَامِهَا مِنْ كلِّ وَجْهٍ، لَمْ يَبْتَدِعْ وَلَا اسْتَدْرَكَ عَلَيْهَا. وَقَائِلُ هَذَا ضَالٌّ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: مَنِ ابْتَدَعَ فِي الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زَعَمَ أنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَانَ الرِّسَالَةَ، لأنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {الْيَوْمَ أكملتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فَمَا لَمْ يَكُنْ يومئذٍ دِينًا، فلا يكون اليوم ديناً. (الثالث) أنَّ الْمُبْتَدِعَ معاندٌ لِلشَّرْعِ ومشاقٌّ لَهُ، لأنَّ الشَّارِعَ قَدْ عَيَّنَ لِمَطَالِبِ الْعَبْدِ طُرُقًا خَاصَّةً عَلَى وُجُوهٍ خَاصَّةٍ، وقَصَرَ الخَلْقَ عَلَيْهَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَأَخْبَرَ أنَّ الْخَيْرَ فِيهَا، وأنَّ الشَّرَّ فِي تعدِّيها ـ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، لأنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، وأنَّه إنَّما أَرْسَلَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. فَالْمُبْتَدِعُ رادٌ لِهَذَا كُلِّهِ، فإنَّه يَزْعُمُ أنَّ ثمَّ طُرُقاً أُخر، لَيْسَ مَا حَصَرَهُ الشَّارِعُ بِمَحْصُورٍ، وَلَا مَا عيَّنَه بمتعيِّن، كأنَّ الشَّارِعَ يَعْلَمُ، وَنَحْنُ أَيْضًا نَعْلَمُ. بَلْ رُبَّمَا يُفهم مِنِ اسْتِدْرَاكِهِ الطُّرُقَ عَلَى الشَّارِعِ، أنَّه علم ما لم يعلمه ¬
الشَّارِعُ. وَهَذَا إِنْ كَانَ مَقْصُودًا لِلْمُبْتَدِعِ فَهُوَ كفرٌ بِالشَّرِيعَةِ وَالشَّارِعِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ، فهو ضلال مبين. (الرابع) أنَّ الْمُبْتَدِعَ قَدْ نَزَّل نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْمُضَاهِي لِلشَّارِعِ، لأنَّ الشَّارِعَ وَضَعَ الشَّرَائِعَ وَأَلْزَمَ الْخَلْقَ الْجَرْيَ عَلَى سُنَنِهَا، وَصَارَ هُوَ الْمُنْفَرِدَ بِذَلِكَ، لأنَّه حَكَمَ بَيْنَ الْخَلْقِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ التَّشْرِيعُ مِنْ مُدْرَكَاتِ الْخَلْقِ لَمْ تُنَزَّلِ الشَّرَائِعُ، وَلَمْ يَبْقَ الْخِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ. وَلَا احْتِيجَ إِلَى بَعْثِ الرُّسُلِ عليهم السلام. هَذَا الَّذِي ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ قَدْ صيَّر نفسه نظيراً ومضاهياً [لله] حَيْثُ شَرَعَ مَعَ الشَّارِعِ، وَفَتَحَ لِلِاخْتِلَافِ بَابًا؛ ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع. (الخامس) أنَّه اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى لأنَّ الْعَقْلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِلشَّرْعِ لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ؛ وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى وأنَّه ضَلَالٌ مُبِينٌ. أَلَا تَرَى قَوْلَ الله تعالى: {يا داودُ إنَّا جعلناكَ خَلِيفَةً فِي الأرضِ فاحكمْ بينَ النَّاسِ بالحقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سبيلِ اللَّهِ، إنَّ الَّذينَ يَضِلُّونَ عَنْ سبيلِ اللَّهِ لَهُمْ عذابٌ شديدٌ بِمَا نَسُوا يومَ الحِساب} (¬1) . فَحَصَرَ الحكمَ فِي أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا عِنْدَهُ، وَهُوَ الْحَقُّ وَالْهَوَى، وَعَزَلَ الْعَقْلَ مُجَرَّدًا إِذْ لَا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ إِلَّا ذلك. وقال {ولا تُطِعْ مَن ¬
أغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنا واتَّبَعَ هَوَاهُ} (¬1) فَجَعَلَ الْأَمْرَ مَحْصُورًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ، اتِّبَاعِ الذِّكْرِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَقَالَ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (¬2) . وَهِيَ مِثْلُ مَا قَبْلَهَا. وَتَأَمَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ فإنَّها صَرِيحَةٌ فِي أنَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ هُدَى اللَّهِ فِي هَوَى نَفْسِهِ، فَلَا أَحَدَ أَضَلُّ مِنْهُ. وَهَذَا شأْن الْمُبْتَدِعِ، فإنَّه اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ. وَهُدَى اللَّهِ هُوَ الْقُرْآنُ. وَمَا بَيَّنَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَبَيَّنَتْهُ الْآيَةُ أنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلْأَمْرِ والنهي فليس بمذموم ولا صاحبه بضال. والآخرُ أَنْ يَكُونَ هَوَاهُ هُوَ الْمُقَدَّمُ بِالْقَصْدِ الأوَّل، والمبتدع قدم هوى نفسه على هدى الله فَكَانَ أَضَلَّ النَّاسِ وَهُوَ يَظُنُّ أنَّه عَلَى هدى. وهنا مَعْنًى يَتَأَكَّدُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ عَيَّنَتْ لِلِاتِّبَاعِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الشَّرِيعَةُ، وَلَا مِرْية فِي أنَّها عِلْمٌ وَحَقٌّ وَهُدًى؛ وَالْآخَرُ الْهَوَى، وَهُوَ الْمَذْمُومُ، لأنَّه لم يذكر في القرآن إلا في سياق الذَّمِّ، وَلَمْ يَجْعَلْ ثمَّ طَرِيقًا ثَالِثًا. وَمَنْ تتبع الآيات، ألفى ذلك كذلك. ¬
فصل [الأدلة من النقل على ذم البدع] وأمَّا النقل فمن وجوه: (أحدها) مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ. فَمِنْ ذَلِكَ: 1- قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وأنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتقِيماً فاتَّبِعُوهُ ولاَ تَتَّبِعُوا السُبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عنْ سَبِيلِهِ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬1) فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ سَبِيلُ اللَّهِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ وَهُوَ السُّنَّة، وَالسُّبُلُ هي سبل أهل الِاخْتِلَافِ الْحَائِدِينَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ سُبُلَ الْمَعَاصِي، لأنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْ حَيْثُ هِيَ معاصٍ لَمْ يَضَعْهَا أَحَدٌ طَرِيقًا تُسْلك دَائِمًا عَلَى مُضَاهَاةِ التَّشْرِيعِ. وإنَّما هَذَا الْوَصْفُ خَاصٌّ بِالْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا رَوَى إِسْمَاعِيلُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: حدَّثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا خَطًّا طَوِيلًا، وخطَّ لَنَا سُلَيْمَانُ خَطًّا طَوِيلًا، وخطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ فَقَالَ: ((هَذَا سبيلُ اللَّهِ)) ثُمَّ خطَّ لَنَا خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَقَالَ: ((هَذِهِ سُبُل، وَعَلَى كلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ)) ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وأنَّ هَذَا صِراطِي مُستَقِيماً فاتَّبِعُوهُ ولاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} -يعني ¬
الْخُطُوطَ- {فَتَفَرَّقَ بِكمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬1) . قَالَ بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ: أحسبُه أَرَادَ شَيْطَانًا مِنَ الْإِنْسِ وهي البدع والله أعلم. وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {ولاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} ، قال: البدع والشبهات. 2- قول الله تعالى: {وعلَى الله قَصْدُ السَّبِيلِ ومِنْها جائِرٌ ولَوْ شَاءَ لهَداكُمْ أجْمَعِينَ} (¬2) فَالسَّبِيلُ الْقَصْدُ هُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ، وَمَا سِوَاهُ جائرٌ عَنِ الْحَقِّ؛ أَيْ عادلٌ عَنْهُ، وَهِيَ طُرُقُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ سُلُوكِهَا بِفَضْلِهِ. وَكَفَى بِالْجَائِرِ أَنْ يحذَّر مِنْهُ. فَالْمَسَاقُ يَدُلُّ على التحذير والنهي. عَنِ التُّسْتُرِيِّ: ((قَصْدُ السَّبِيلِ)) طَرِيقُ السُّنَّة، ((وَمِنْهَا جائرٌ)) يَعْنِي إِلَى النَّارِ، وَذَلِكَ الْمِلَلُ وَالْبِدَعُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ ((قَصْدُ السَّبِيلِ)) أَيِ: الْمُقْتَصِدُ مِنْهَا بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ أنَّ الْجَائِرَ هُوَ الْغَالِي أَوِ المقصِّر، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَوْصَافِ البدع. 3- {إنَّ الَّذِين فَرَّقوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْىءٍ إنَّما أَمْرُهُمْ إلىَ اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كَانُوا يَفْعَلُونَ} (¬3) . قَالَ ابْنُ عطيَّة: ((هَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ أَهْلَ الأهواء والبدع والشذوذ في ¬
الْفُرُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْجِدَالِ وَالْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ. هَذِهِ كُلُّهُا عُرْضَةٌ للزلل ومظنة لسوءِ المعتقد)) قال القاضي [إسماعيل] : ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أنَّ كلَّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ بِدْعَةً مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ لأنَّهم إِذَا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعاً. (الثاني) : مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهِيَ كَثِيرَةٌ تَكَادُ تَفُوتُ الْحَصْرَ، إِلَّا أنَّا نَذْكُرُ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْبَاقِي وَنَتَحَرَّى فِي ذَلِكَ - بِحَوْلِ اللَّهِ- مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الصِّحَّةِ. فَمِنْ ذَلِكَ: 1- مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فهو ردٌ)) (¬1) وفي رواية لمسلم: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ ردٌ)) (¬2) وَهَذَا الْحَدِيثُ عدَّه العلماءُ ثُلُثَ الْإِسْلَامِ، لأنَّه جمع وجوه الْمُخَالَفَةِ لِأَمْرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَا كَانَ بِدْعَةً أَوْ مَعْصِيَةً. 2- وخرَّج مسلمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ ¬
فِي خُطْبَتِهِ: ((أمَّا بَعْدُ فإنَّ خيرَ الْحَدِيثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد، وشرَّ الأُمور مُحْدَثَاتُهَا، وكلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)) (¬1) . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ النَّاسَ، يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ يَقُولُ: ((مَنْ يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلِ الله فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَخَيْرُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأُمور محدثاتها وكل محدثة بدعة)) (¬2) . 3- وفي الصحيح مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ دَعَا إِلَى الْهُدَى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجور مَنْ يَتْبَعُهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجورهم شَيْئًا. وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ يَتْبَعُهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثامهم شيئاً)) (¬3) . 4- وروى الترمذي وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ كأنَّ هَذَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فقال: ((أُوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمر وإن كان عبداً حبشياً. فإنَّه من يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة وكل بدعة ¬
ضلالة)) (¬1) . 5- وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ حُذَيْفَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أنَّه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: ((نَعَمْ قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْتَدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي)) قَالَ فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: ((نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ قَذَفُوهُ فِيهَا)) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهم لَنَا. قَالَ ((نَعَمْ هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا)) قُلْتُ: فَمَا تأْمرني إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ)) قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِمَامٌ وَلَا جَمَاعَةٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تلك الفِرقَ كلها ولو أن تعض بأصل شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ)) (¬2) . 6- وَمِمَّا جَاءَ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مَا خرَّج ابنُ وَضَّاحٍ وَنَحْوُهُ لِابْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((سَيَكُونُ فِي أُمتي دَجَّالُونَ كذَّابون يأْتونكم بِبِدْعٍ مِنَ الحديث لم تسمعوه أنتم ولا آباؤهم، فإياكم وإياهم لا يفتنونكم)) (¬3) . (الثالث) : ما جاء عن الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي ذمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا وهو كثير. 1- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنَّه قال: اتبعوا آثارنا ولا ¬
تبتدعوا فقد كُفِيتم (¬1) . 2- عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّه قَالَ يَوْمًا: إنَّ مِن وَرَائِكُمْ فِتَنًا يكثر فيها المال، ويفتح فيه الْقُرْآنُ، حَتَّى يأْخذه الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَالرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالصَّغِيرُ، وَالْكَبِيرُ، وَالْعَبْدُ، وَالْحُرُّ، فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا لِلنَّاسِ لَا يَتَّبِعُونِي وَقَدْ قرأْت الْقُرْآنَ؟ مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ فإنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ، وأُحذِّركم زَيْغَةَ الْحَكِيمِ فإنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ. قَالَ الرَّاوِي: قُلْتُ لِمُعَاذٍ: وَمَا يُدْرِينِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ أنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ ضَلَالَةٍ، وأنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ: بَلَى! اجْتَنِبْ مِنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ غَيْرَ الْمُشْتَهِرَاتِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا: مَا هَذِهِ؟ وَلَا يثنينَّك ذَلِكَ عَنْهُ، فإنَّه لَعَلَّهُ أَنْ يُرَاجِعَ وتلقَّ الحقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ فإنَّ على الحق نوراً (¬2) . وَمِمَّا جَاءَ عَمَّنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم: 1- عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ أنَّه قَالَ: لِأَنْ أَرَى فِي الْمَسْجِدِ نَارًا لَا أَسْتَطِيعُ إِطْفَاءَهَا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَى فِيهِ بِدْعَةً لَا أَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا. 2- وَعَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: اتَّبِعْ طُرُقَ الْهُدَى وَلَا يَضُرُّكَ قِلَّةُ السَّالِكِينَ، وإيَّاك وَطُرُقَ الضَّلَالَةِ وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ. ¬
فصل [ما جاء في ذم الرأي المذموم]
3- وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: ((اعْلَمْ أَيْ أَخِي! إنَّ الْمَوْتَ كَرَامَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ عَلَى السُّنَّة، فإنَّا لِلَّهِ وإنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَإِلَى اللَّهِ نَشْكُو وَحْشَتَنَا وذهابَ الْإِخْوَانِ، وَقِلَّةَ الْأَعْوَانِ، وَظُهُورَ الْبِدَعِ. وَإِلَى اللَّهِ نَشْكُو عَظِيمَ مَا حَلَّ بِهَذِهِ الأُمة مِنْ ذَهَابِ الْعُلَمَاءِ وأهل السُّنَّة، وظهور البدع)) . فصل [ما جاء فِي ذَمِّ الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ] وَهُوَ الْمَبْنِيُّ عَلَى غَيْرِ أُسٍّ، وَالْمُسْتَنِدُ إِلَى غَيْرِ أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُّنَّةٍ، لَكِنَّهُ وَجْهٌ تَشْرِيعِيٌّ فَصَارَ نَوْعًا مِنَ الِابْتِدَاعِ، بَلْ هُوَ الْجِنْسُ فِيهَا، فإنَّ جَمِيعَ الْبِدَعِ إنَّما هِيَ رَأْيٌ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِوَصْفِ الضَّلَالِ. فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ((إنَّ اللَّهَ لَا يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ إِذْ أَعْطَاهُمُوهُ انْتِزَاعًا. وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى ناسٌ جهالٌ يُسْتَفْتوْن فيُفتون برأيهم فَيَضِلُّون ويُضِلُّون)) (¬1) . وقد اختلف العلماءُ في الرأي المقصود: فَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُرَادُ بِهِ رَأْيُ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَنِ، لَكِنْ فِي الِاعْتِقَادِ (¬2) كَمَذْهَبِ جهمٍ وَسَائِرِ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْكَلَامِ لأنَّهم اسْتَعْمَلُوا آراءَهم فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ وَفِي رَدِّ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ لِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ الرَّدَّ وَيَقْتَضِي التأويل. ¬
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنَّما الرَّأْيُ الْمَذْمُومُ الْمَعِيبُ الرَّأْيُ الْمُبْتَدَعُ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مِنْ ضُرُوبِ الْبِدَعِ، فإنَّ حَقَائِقَ جَمِيعِ الْبِدَعِ رُجُوعٌ إِلَى الرَّأْيِ، وَخُرُوجٌ عَنِ الشَّرْعِ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَظْهَرُ. إِذِ الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ لَا تَقْتَضِي بِالْقَصْدِ الأوَّل مِنَ الْبِدَعِ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ بَلْ ظَاهِرُهَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي كلِّ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ أَوْ تَحْدُثُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَانَتْ مِنَ الْأُصُولِ أو الفروع. وقالت طائفة: الرأي المذكور هُوَ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الدِّينِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالظُّنُونِ، وَالِاشْتِغَالُ بِحِفْظِ الْمُعْضِلَاتِ وَالْأُغْلُوطَاتِ، وردِّ الْفُرُوعِ والنوازع بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ قِيَاسًا، دُونَ رَدِّهَا إِلَى أُصولها وَالنَّظَرِ فِي عِلَلِهَا وَاعْتِبَارِهَا، فَاسْتُعْمِلَ فِيهَا الرَّأْيُ قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ، وَفُرِّعَتْ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ، وتُكُلِّم فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَكُونَ، بِالرَّأْيِ الْمُضَارِعِ لِلظَّنِّ، قَالُوا: لأنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِهَذَا وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيهِ تَعْطِيلُ السُّنَنِ وَالْبَعْثُ عَلَى جَهْلِهَا، وَتَرْكُ الْوُقُوفِ عَلَى مَا يَلْزَمُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ منها، ومن كتاب الله تعالى ومعانيه. وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا قَبْلَهُ، لأنَّ مَنْ قَالَ بِهِ قَدْ مَنَعَ مِنَ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَذْمُومٍ، لأنَّ الْإِكْثَارَ مِنْهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ، وَهُوَ تَرْكُ النَّظَرِ فِي السُّنَنِ اقْتِصَارًا عَلَى الرَّأْيِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اجْتَمَعَ مَعَ مَا قَبْلُهُ، فإنَّ مِنْ عَادَةِ الشَّرْعِ أنَّه إِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ وَشَدَّدَ فِيهِ مَنَعَ مَا حَوَالَيْهِ، وَمَا دَارَ بِهِ وَرَتَعَ حَوْلَ حِمَاهُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ((الحلالُ بيِّن وَالْحَرَامُ بيِّن وَبَيْنَهُمَا أُمورٌ مُشْتَبِهَةٌ)) (¬1) : وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الشَّرْعِ أَصْلُ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَهُوَ مَنْعُ الْجَائِزِ لأنَّه يَجُرُّ إِلَى غَيْرِ الْجَائِزِ. وَبِحَسَبِ عِظَمِ الْمَفْسَدَةِ في الممنوع، ¬
فصل [ما في البدع من الأوصاف المحذورة، والمعاني المذمومة]
يكون اتساع المنع في الذريعة وشدته. وَالْحَاصِلُ مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ أنَّ الرَّأْيَ الْمَذْمُومَ مَا بُنِي عَلَى الْجَهْلِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرْجَعَ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ ذَرِيعَةً إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِهِ مَحْمُودًا، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ: فالأوَّل دَاخِلٌ تَحْتَ حَدِّ الْبِدْعَةِ وَتَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الذَّمِّ، وَالثَّانِي خَارِجٌ عَنْهُ وَلَا يَكُونُ بِدْعَةً أبداً. فصل [مَا فِي الْبِدَعِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَحْذُورَةِ، وَالْمَعَانِي المذمومة] فَاعْلَمُوا أنَّ الْبِدْعَةَ لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عِبَادَةٌ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا مِنَ القُرُبات. ومُجَالِسُ صَاحِبِهَا تُنْزَعُ مِنْهُ الْعِصْمَةُ وَيُوكَلُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمَاشِي إِلَيْهِ وَمُوَقِّرُهُ مُعِينٌ عَلَى هدمِ الْإِسْلَامِ، فَمَا الظَّنُّ بِصَاحِبِهَا وَهُوَ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ الشَّرِيعَةِ، وَيَزْدَادُ مِنَ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ بُعْدًا،؟! وَهِيَ مَظِنَّةُ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَمَانِعَةٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَرَافِعَةٌ لِلسُّنَنِ الَّتِي تُقَابِلُهَا، وَعَلَى مُبْتَدِعِهَا إثمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ، وتُلقى عَلَيْهِ الذِّلَّةُ وَالْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ، وَيُبْعَدُ عَنْ حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويُخاف عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَعْدُودًا فِي الْكُفَّارِ الْخَارِجِينَ عَنِ المِلَّةِ، وَسُوءُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الدنيا، وَيَسْوَدُّ وجهه في الآخرة يُعَذَّبُ بِنَارِ جَهَنَّمَ، وَقَدْ تَبَرَّأَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَبَرَّأَ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ، ويُخاف عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ فِي الدُّنْيَا زِيَادَةً إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ.
- فأمَّا أنَّ الْبِدْعَةَ لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عَمَلٌ: فكبدعة الْقَدَرِيَّةِ حَيْثُ قَالَ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر ـ رضي الله عنه ـ: إِذَا لَقِيتَ أُولئك فَأَخْبِرْهُمْ أنِّي بريءٌ مِنْهُمْ، وأنَّهم بُرَءَاءُ مِنِّي، فَوَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا تَقَبَّله اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بالقدر (¬1) . وَمِثْلُهُ حَدِيثُ الْخَوَارِجِ وَقَوْلُهُ فِيهِ: يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ - بَعْدَ قَوْلِهِ - تَحقرون صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ وَأَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ. الْحَدِيثَ (¬2) . وَإِذَا ثَبَتَ في بعضهم هذا لأجل بدعته فكل مبتدع يُخاف عليه مثل من ذُكِر، فإنَّ كون الْمُبْتَدِعُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ عَمَلٌ، إِمَّا أَنْ يُرَادَ أنَّه لَا يُقبل لَهُ بِإِطْلَاقٍ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ، مِنْ وِفاق سُّنَّةٍ أَوْ خلافِها، وَإِمَّا أَنْ [يُرَادَ] أنَّه لَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا ابْتَدَعَ فِيهِ خَاصَّةً دُونَ مَا لَمْ يَبْتَدِعْ فِيهِ. فأمَّا الأوَّل: فَيُمْكِنُ عَلَى أحد أوجهٍ ثلاثة: 1- أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أنَّ كلَّ مُبْتَدِعٍ أَيَّ بِدْعَةٍ كَانَتْ؛ فَأَعْمَالُهُ لَا تُقْبَلُ معها - داخلتها تلك البدعة أم لا-. 2- أَنْ تَكُونَ بِدْعَتُهُ أَصْلًا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَعْمَالِ، كَمَا إِذَا ذَهَبَ إِلَى إِنْكَارِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِإِطْلَاقٍ، فإنَّ عَامَّةَ التَّكْلِيفِ مبنيٌ عَلَيْهِ، لأنَّ الْأَمْرَ إنَّما يَرِد عَلَى المُكلَّف مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ. وما تَفَرَّع ¬
منهما راجع إليهما. 3- أنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ فِي بَعْضِ الأُمور التَّعَبُّدِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا قَدْ يَجُرُّهُ اعْتِقَادُ بِدْعَتِهِ الْخَاصَّةِ إِلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي يُصيِّر اعْتِقَادَهُ فِي الشَّرِيعَةِ ضَعِيفًا، وَذَلِكَ يُبْطِلُ عَلَيْهِ جَمِيعَ عَمَلِهِ. بَيَانُ ذلك أمثلة: - منها أن يُشْرِكَ العقلَ مَعَ الشَّرْعِ فِي التَّشْرِيعِ، وإنَّما يَأْتِي الشَّرْعُ كَاشِفًا لِمَا اقْتَضَاهُ الْعَقْلُ، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ حكَّم هَؤُلَاءِ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ شَرْعَه أَمْ عقولَهم؟ بَلْ صَارَ الشَّرْعُ فِي نِحْلَتِهم كَالتَّابِعِ الْمُعِينِ لَا حَاكِمًا مُتَّبَعًا، وَهَذَا هُوَ التَّشْرِيعُ الَّذِي لَمْ يَبْقَ لِلشَّرْعِ مَعَهُ أصالة، فكلُ ما عمل هذا العامل مبنياً عَلَى مَا اقْتَضَاهُ عَقْلُهُ، وَإِنْ شَرَّك الشَّرْعَ فَعَلَى حُكْمِ الشَّرِكَةِ لَا عَلَى إِفْرَادِ الشَّرْعِ. - وَمِنْهَا أنَّ الْمُسْتَحْسِنَ لِلْبِدَعِ يَلْزَمُهُ عَادَةً أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ عِنْدَهُ لَمْ يَكْمُلْ بعدُ، فَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬1) معنى يعتبر به عندهم. وأمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِعَدَمِ الْقَبُولِ لِأَعْمَالِهِمْ مَا ابْتَدَعُوا فِيهِ خَاصَّةً فَيَظْهَرُ أَيْضًا، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْحَدِيثُ المتقدِّم ((كلُّ عملٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أمرُنا فَهُوَ ردٌّ)) (¬2) وَالْجَمِيعُ مِنْ قَوْلِهِ: ((كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)) أَيْ أنَّ صَاحِبَهَا لَيْسَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ مَعْنَى عَدَمِ الْقَبُولِ، وفاق قول الله: {وَلاَ تَتَّبِعُوا ¬
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬1) ، وصاحبُ الْبِدْعَةِ لَا يَقْتَصِرُ فِي الْغَالِبِ عَلَى الصَّلَاةِ دُونَ الصِّيَامِ، وَلَا عَلَى الصِّيَامِ دُونَ الزَّكَاةِ، وَلَا عَلَى الزَّكَاةِ دُونَ الْحَجِّ، وَلَا عَلَى الْحَجِّ دُونَ الْجِهَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ، لأنَّ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ حَاضِرٌ مَعَهُ فِي الْجَمِيعِ، وَهُوَ الْهَوَى وَالْجَهْلُ بِشَرِيعَةِ اللَّهِ، كما سيأتي إن شاء الله. - وأمَّا أنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ تُنْزَع مِنْهُ الْعِصْمَةُ ويوكل إلى نفسه، فإنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ حَسْبَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ، وَقَدْ كُنَّا قَبْلَ طُلُوعِ ذَلِكَ النُّورِ الْأَعْظَمِ لَا نَهْتَدِي سَبِيلًا، وَلَا نَعْرِفُ من مصالحنا الدنيوية إلا قليلاً، وَلَا مِنْ مَصَالِحِنَا الأُخروية قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَوَالِ الرَّيْبِ وَالِالْتِبَاسِ، وَارْتِفَاعِ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ بين الناس، فَإِذَا تَرَكَ الْمُبْتَدِعُ هَذِهِ الْهِبَاتِ الْعَظِيمَةَ، وَالْعَطَايَا الْجَزِيلَةَ، وَأَخَذَ فِي اسْتِصْلَاحِ نَفْسِهِ أَوْ دُنْيَاهُ بِنَفْسِهِ بِمَا لَمْ يَجْعَلِ الشَّرْعُ عَلَيْهِ دَلِيلًا، فَكَيْفَ لَهُ بِالْعِصْمَةِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ هَذِهِ الرَّحْمَةِ؟ وَقَدْ حَلَّ يَدَهُ مِنْ حَبْلِ الْعِصْمَةِ إِلَى تَدْبِيرِ نَفْسِهِ، فَهُوَ حَقِيقٌ بِالْبُعْدِ عَنِ الرَّحْمَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (¬2) ، بَعْدَ قَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (¬3) فأشعرَ أنَّ الِاعْتِصَامَ بِحَبْلِ اللَّهِ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ حَقًّا، وأنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ تَفْرِقَةٌ، لِقَوْلِهِ: {وَلاَ تَفَرَّقُوا} وَالْفُرْقَةُ مِنْ أَخَسِّ أَوْصَافِ الْمُبْتَدِعَةِ، لأنَّه خَرَجَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وباين جماعة أهل الإسلام. ¬
- وأمَّا أنَّ الماشي إليه والموقِّر له مُعين على هدم الإسلام، فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ والناس أجمعين)) الحديث (¬1) . فإنَّ الإيواء بجامع التَّوْقِيرَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ لأنَّ الْمَشْيَ إِلَيْهِ والتوقير له تعظيم له لأجل بدعته والشرع يَأْمُرُ بِزَجْرِهِ وَإِهَانَتِهِ وَإِذْلَالِهِ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، كَالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، فَصَارَ تَوْقِيرُهُ صُدُودًا عَنِ الْعَمَلِ بِشَرْعِ الْإِسْلَامِ، وَإِقْبَالًا عَلَى مَا يُضَادُّهُ وَيُنَافِيهِ، وَالْإِسْلَامُ لَا يَنْهَدِمُ إِلَّا بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا يُنَافِيهِ. وَأَيْضًا فإنَّ تَوْقِيرَ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ مَظِنَّةٌ لِمَفْسَدَتَيْنِ تَعُودَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْهَدْمِ: إِحْدَاهُمَا: الْتِفَاتُ الْجُهَّالِ وَالْعَامَّةِ إِلَى ذَلِكَ التَّوْقِيرِ، فَيَعْتَقِدُونَ فِي الْمُبْتَدِعِ أنَّه أَفْضَلُ النَّاسِ، وأنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِمَّا عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِهِ عَلَى بِدْعَتِهِ دُونَ اتِّبَاعِ أَهْلِ السُّنَّة عَلَى سُنَّتِهِمْ. وَالثَّانِيَةُ: أنَّه إِذَا وُقِّرَ مِنْ أَجْلِ بِدْعَتِهِ صَارَ ذَلِكَ كَالْحَادِي المُحرِّض لَهُ عَلَى إِنْشَاءِ الابتداع في كلِّ شيءٍ. فَتَحْيَا الْبِدَعُ وَتَمُوتُ السُّنَنُ، وَهُوَ هَدْمُ الْإِسْلَامِ بعينه، وَعَلَى ذَلِكَ دلَّ النَّقْلُ عَنِ السَّلَفِ زِيَادَةً إِلَى صِحَّةِ الِاعْتِبَارِ، لأنَّ الْبَاطِلَ إِذَا عُمِل به لزم ترك ¬
الْعَمَلِ بِالْحَقِّ كَمَا فِي الْعَكْسِ، لأنَّ المحلَّ الواحد لا يشتغل إلا بأحد الضدين. - وأمَّا أنَّ صَاحِبَهَا مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ الشَّرِيعَةِ؛ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) (¬1) ، وَعَدَّ مِنَ الْإِحْدَاثِ، الِاسْتِنَانُ بِسُنَّةٍ سوء لم تكن. - وأمَّا أنَّه يَزْدَادُ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا. فَلِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أنَّه قَالَ: صَاحِبُ الْبِدْعَةِ ما يزداد لله اجْتِهَادًا، صِيَامًا وَصَلَاةً، إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا. وَعَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِياني قَالَ: مَا ازْدَادَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ اجْتِهَادًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا. وَيُصَحِّحُ هَذَا النَّقْلَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في الخوارج ((يخرج من ضئضيء هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ـ إِلَى أَنْ قَالَ ـ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرميَّة)) (¬2) فَبَيَّنَ أوَّلاً اجْتِهَادَهُمْ ثُمَّ بيَّن آخِرًا بُعْدهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. - وأمَّا أنَّ الْبِدَعَ مَظِنَّةُ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. فلأنَّها تَقْتَضِي التَّفَرُّقَ شِيَعاً. وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ¬
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬1) ، وَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬2) ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ بيَّن عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أنَّ فَسَادَ ذَاتِ البيْنِ هي الحالقة وأنَّها تحلق الدين، هَذِهِ الشَّوَاهِدِ تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الِافْتِرَاقِ وَالْعَدَاوَةِ عِنْدَ وُقُوعِ الِابْتِدَاعِ. وأوَّل شَاهِدٍ عَلَيْهِ فِي الْوَاقِعِ قِصَّةُ الْخَوَارِجِ إِذْ عَادَوْا أَهْلَ الْإِسْلَامِ حتى صاروا يقتلونهم وَيَدَعُون الكفار. ثُمَّ يَلِيهِمْ كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ صَوْلة مِنْهُمْ بِقُرْبِ الْمُلُوكِ فإنَّهم تَنَاوَلُوا أَهْلَ السُّنَّةِ بكل نَكالٍ وعذاب وقتل. ثُمَّ يَلِيهِمْ كُلُّ مَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فإنَّ مِنْ شأْنهم أَنْ يُثَبِّطوا النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الشريعة ويذمونهم. وأيضاً فإنَّ أهل السُّنَّةِ مأْمورون بعداوة أهل البدع وقد حذَّر العلماءُ من مصاحبتهم ومجالستهم، وَذَلِكَ مَظِنَّةَ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ. لَكِنَّ الدَّرْكَ فِيهَا عَلَى مَنْ تَسَبَّبَ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الجماعة مما أَحْدَثَهُ مِنِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ لَا عَلَى التَّعَادِي مُطْلَقًا. كَيْفَ وَنَحْنُ مأْمورون بِمُعَادَاتِهِمْ وَهُمْ مأْمورون بِمُوَالَاتِنَا وَالرُّجُوعِ إِلَى الْجَمَاعَةِ؟ - وأمَّا أنَّها مَانِعَةٌ مِنْ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - فلما فِي الصَّحِيحِ قَالَ: ((أوَّل مَنْ يُكسى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، وإنَّه سَيُؤْتَى بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فيؤخذ بهم ذات ¬
الشِّمَالِ ـ إِلَى قَوْلِهِ ـ فَيُقَالُ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ على أعقابهم)) الحديث (¬1) ، فَفِيهِ أنَّه لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ شَفَاعَةَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَيَظْهَرُ مِنْ أوَّل الْحَدِيثِ أنَّ ذَلِكَ الِارْتِدَادَ لَمْ يَكُنِ ارْتِدَادَ كفرٍ لِقَوْلِهِ: ((وإنَّه سَيُؤْتَى بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي)) وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ لَمَا نُسبوا إِلَى أُمته، ولأنَّه عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِالْآيَةِ وَفِيهَا: {وَإنْ تَغْفِرْ لهُمْ فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬2) ، وَلَوْ عَلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّهم خَارِجُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ جُمْلَةً لَمَا ذَكَرَهَا، لأنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَا غُفْرَانَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، وإنَّما يُرْجَى الْغُفْرَانُ لِمَنْ لَمْ يُخْرِجْهُ عملُه عَنِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬3) . - وأمَّا أنَّ عَلَى مُبْتَدِعِهَا إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ ومِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬4) وَلِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها} الحديث (¬5) . - وأمَّا أنَّ صَاحِبَهَا لَيْسَ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَلِمَا جَاءَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((إنَّ اللَّهَ حَجَرَ التَّوْبَةَ عَلَى كلِّ صَاحِبِ بدعة)) (¬6) وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ الفِرَق إِذْ قَالَ فِيهِ: ((وإنَّه سَيَخْرُجُ فِي أُمتي أَقْوَامٌ تجارى بهم تلك الأهواءُ، كما يتجارى الكَلَبُ (¬7) بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ)) (¬8) وَهَذَا النَّفْيُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِإِطْلَاقٍ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ الْعَادِيِّ، إِذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَتُوبَ عَمَّا رَأَى وَيَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا نُقِل عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ، وَمَا نَقَلُوهُ فِي مُنَاظَرَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحَرُورِيَّةَ الْخَارِجِينَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي مُنَاظَرَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِبَعْضِهِمْ. وَلَكِنَّ الْغَالِبَ فِي الْوَاقِعِ الْإِصْرَارُ. ومن هنا قُلْنَا: يَبْعُدُ أَنْ يَتُوبَ بَعْضُهُمْ لأنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِظَاهِرِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَسَبَبُ بُعْدِهِ عَنِ التَّوْبَةِ: أنَّ الدُّخُولَ تَحْتَ تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ صعبٌ عَلَى النَّفْسِ لأنَّه أمرٌ مُخَالِفٌ لِلْهَوَى، وصادٌ عَنْ سَبِيلِ الشَّهَوَاتِ، فَيَثْقُلُ عَلَيْهَا جِدًّا لأنَّ الْحَقَّ ثَقِيلٌ، وَالنَّفْسَ إنَّما تَنْشَطُ بِمَا يُوَافِقُ هَوَاهَا لَا بِمَا يُخَالِفُهُ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ¬
فَلِلْهَوَى فِيهَا مَدْخَلٌ، لأنَّها رَاجِعَةٌ إِلَى نَظَرِ مخترعها لا إلى نظر الشارع، والمبتدع لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تعلُّقٍ بشبهةِ دَلِيلٍ يَنْسِبُهَا إِلَى الشَّارِعِ، ويدَّعِي أنَّ مَا ذَكَرَهُ هُوَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، فَصَارَ هَوَاهُ مَقْصُودًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فِي زَعْمِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ وَدَاعِي الْهَوَى مُسْتَمْسِكٌ بِحُسْنِ مَا يَتَمَسَّكُ به؟ وهو الدليل الشرعي في الجملة.
- وأمَّا أنَّ الْمُبْتَدِعَ يُلقى عَلَيْهِ الذُّلُّ فِي الدُّنْيَا وَالْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ الذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَينَالهُمْ غَضَبٌ مِن رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحياةِ الدُّنْيا وكذلِك نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} (¬1) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكذلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ} فَهُوَ عُمُومٌ فِيهِمْ وَفِيمَنْ أَشْبَهَهُمْ، مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْبِدَعُ كُلُّهُا افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ حَسْبَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ خَسِر الَّذِينَ قتَلُوا أولاَدهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْم وحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ الله افْتِراءً علَى الله} الآية (¬2) . فَإِذًا كلُّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ فَهُوَ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ بِسَبَبِ بِدْعَتِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ لبادي الرأي في عِزِّهِ وجَبَرِيَّتِهِ فَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَذِلَّاءُ، وَأَيْضًا فإنَّ الذِّلَّةَ الْحَاضِرَةَ بَيْنَ أَيْدِينَا مَوْجُودَةٌ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ. أَلَا تَرَى أَحْوَالَ الْمُبْتَدِعَةِ فِي زَمَانِ التَّابِعِينَ، وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ حَتَّى تَلَبَّسُوا بِالسَّلَاطِينِ وَلَاذُوا بِأَهْلِ الدُّنْيَا، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ اسْتَخْفَى بِبِدْعَتِهِ وَهَرَبَ بِهَا عَنْ مُخَالَطَةِ الْجُمْهُورِ، وعمل بأعمالها على التَّقِيَّة. - وأمَّا الْبُعْدُ عَنْ حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -: فلحديث الْبُخَارِيِّ عَنْ أَسْمَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قَالَ: ((أَنَا عَلَى حَوْضِي أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عليَّ، فَيُؤْخَذُ بناسٍ مِنْ دُونِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي، فَيُقَالُ: إنَّك لَا تَدْرِي، مشوا القهقرى)) (¬3) . - وأمَّا الْخَوْفُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا. فلأنَّ العلماء من السلف ¬
الأوَّل وَغَيْرَهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ كَثِيرٍ مِنْ فِرَقِهِمْ مِثْلَ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِى شَيْءٍ} (¬1) ، وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (¬2) الْآيَةَ. وَقَدْ حَكَمَ العلماءُ بِكُفْرِ جُمْلَةٍ مِنْهُمْ كَالْبَاطِنِيَّةِ وسواهم، والعلماءُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي أَمْرٍ: هَلْ هُوَ كُفْرٌ أَمْ لَا؟ فَكُلُّ عَاقِلٍ يربأُ بِنَفْسِهِ أَنْ يُنسب إِلَى خُطَّةِ خَسْفٍ كَهَذِهِ بِحَيْثُ يُقَالُ لَهُ: إنَّ العلماءَ اخْتَلَفُوا: هَلْ أَنْتَ كَافِرٌ أَمْ ضَالٌّ غَيْرُ كَافِرٍ؟ أَوْ يُقَالُ: إنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا بكفرِك وَأَنْتَ حَلَالُ الدَّمِ. - وأمَّا أنَّه يُخافُ عَلَى صَاحِبِهَا سُوءُ الْخَاتِمَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. فلأنَّ صَاحِبَهَا مرتكبٌ إثماً، وعاصٍ لله تعالى حتماً، وَمَنْ مَاتَ مُصِرَّاً عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَيُخَافُ عَلَيْهِ. لأنَّ الْمُبْتَدِعَ مَعَ كَوْنِهِ مُصِرَّاً عَلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ يَزِيدُ عَلَى المُصِرِّ بِأَنَّهُ معارضٌ لِلشَّرِيعَةِ بِعَقْلِهِ، غَيْرُ مُسَلِّمٍ لَهَا فِي تَحْصِيلِ أمرِه، مُعْتَقِدًا فِي الْمَعْصِيَةِ أَنَّهَا طَاعَةٌ، حَيْثُ حسَّن مَا قبَّحه الشَّارِعُ، وَفِي الطَّاعَةِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ طَاعَةً إِلَّا بِضَمِيمَةِ نَظَرِهِ، فَهُوَ قَدْ قبَّح مَا حسَّنه الشَّارِعُ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَحَقِيقٌ بِالْقُرْبِ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ إِلَّا ما شاء الله. - وأمَّا اسوداد الوجه في الآخرة، فلقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجوهٌ ¬
وَتَسْوَدُّ وُجوهٌ} (¬1) . - وأمَّا البراءَةُ مِنْهُ فَفِي قَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِى شَيْءٍ} (¬2) . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَهْلَ الْقَدَرِ: إِذَا لَقِيتَ أُولئك فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي برىء منهم وأنهم بُرَآءُ مني (¬3) . وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَيُعَضِّدُهَا مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: ((المرءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ)) (¬4) . وَوَجْهُ ذلك ظاهر. - وأمَّا أنَّه يُخشى عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ. فَلِمَا حَكَى عِيَاضٌ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَمَّنْ أَحْرَمَ مِنَ الْمَدِينَةِ وراءَ الْمِيقَاتِ؟ فَقَالَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، أَخْشَى عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابَ الْأَلِيمَ فِي الْآخِرَةِ. أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فلْيَحْذَرِ الَّذِين يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ} (¬5) ، وَقَدْ أَمْرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُهلَّ مِنَ الْمَوَاقِيتِ. فَهَذِهِ جُمْلَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَا بَقِيَ، إِذْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِيهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ، وَبَسْطُ مَعَانِيهَا طَوِيلٌ، فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. ¬
فصل [الفرق بين البدعة والمعصية]
فصل [الفرق بين البدعة والمعصية] وَبَقِيَ مِمَّا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى ذِكْرِهِ فِي هذا الموضع، وَهُوَ أنَّ الْبِدَعَ ضَلَالَةٌ، وأنَّ الْمُبْتَدِعَ ضَالٌّ ومضل، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي، فإنَّها لَمْ تُوصَفُ فِي الْغَالِبِ بِوَصْفِ الضَّلَالَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِدْعَةً أَوْ شِبْهَ الْبِدْعَةِ. وَكَذَلِكَ الخطأُ الْوَاقِعُ فِي الْمَشْرُوعَاتِ ـ وَهُوَ المعفوُّ عَنْهُ ـ لَا يُسَمَّى ضَلَالًا، ولا يُطْلق على المخطيء اسْمُ ضَالٍّ، كَمَا لَا يُطْلَقُ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لسائر المعاصي. وَذَلِكَ أنَّ الضَّلَالَ وَالضَّلَالَةَ ضِدُّ الهَدْي والهُدَى، فصاحب البدعة لما غلب عليه الْهَوَى مَعَ الْجَهْلِ بِطَرِيقِ السُّنَّة توهَّمَ أنَّ مَا ظَهَرَ لَهُ بِعَقْلِهِ هُوَ الطَّرِيقُ الْقَوِيمُ دُونَ غَيْرِهِ، فَمَضَى عَلَيْهِ فَحَادَ بِسَبَبِهِ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَهُوَ ضالٌ مِنْ حَيْثُ ظَنَّ أنه راكب للجادة. فَالْمُبْتَدِعُ مِنْ هَذِهِ الأُمة إنَّما ضلَّ فِي أَدِلَّتِهَا حَيْثُ أَخَذَهَا مأْخذ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ لَا مأْخذ الِانْقِيَادِ تَحْتَ أَحْكَامِ اللَّهِ. وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُبْتَدِعِ وَغَيْرِهِ، لأنَّ الْمُبْتَدِعَ جَعَلَ الهوى أوَّل مطالبه، وأخذ الأدلة بالتَّبَعِ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ الْجَهْلُ بأُصول الشَّرِيعَةِ وَعَدَمُ الِاضْطِلَاعِ بِمَقَاصِدِهَا، كَانَ الْأَمْرُ أَشَدَّ وَأَقْرَبَ إلى التحريف والخروج عن مقاصد الشرع. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أنَّك لَا تَجِدُ مُبْتَدِعًا مِمَّنْ يُنسب إِلَى الْمِلَّةِ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَشْهِدُ عَلَى بِدْعَتِهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَيُنْزِلُهُ عَلَى مَا وافق عقله وشهوته، بخلاف
غَيْرِ الْمُبْتَدِعِ فإنَّه إنَّما جَعَلَ الْهِدَايَةَ إِلَى الحق أوَّل مطالبه؛ وأخَّر هواه فجعله بالتَّبَعِ. وَفَيْصَلُ الْقَضِيَّةِ بَيْنَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأمَّا الَّذِين فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابهَ مِنْهُ} - إِلَى قَوْلِهِ - {والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمنَّا بِهِ كُلُّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (¬1) فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى مَنْ هَذِهِ حَالُهُ مُبْتَدِعًا وَلَا ضَالًّا، وإنْ حَصَلَ فِي الْخِلَافِ أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ: - أمَّا أنَّه غَيْرُ مُبْتَدِعٍ فلأنَّه اتَّبَعَ الأدلة، مُؤخِّراً هَوَاهُ، ومُقدِّماً لِأَمْرِ اللَّهِ. - وأمَّا كَوْنُهُ غَيْرَ ضَالِّ فلأنَّه عَلَى الْجَادَّةِ سَلَكَ، وَإِلَيْهَا لَجَأَ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا يَوْمًا فَأَخْطَأَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، بَلْ يَكُونُ مأْجوراً حَسْبَمَا بيَّنه الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: ((إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أجرٌ وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ)) (¬2) وَإِنْ خَرَجَ مُتَعَمِّدًا فَلَيْسَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ خُرُوجَهُ طَرِيقًا مَسْلُوكًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَشَرْعًا يُدَانُ بِهِ. ¬
الباب الثالث [في أن ذم البدع عام لا يخص واحدة دون أخرى وفيه جملة من شبه المبتدعة]
الباب الثالث [في أنَّ ذم البدع عامٌّ لا يخص واحدة دون أُخرى وفيه جملة من شُبَهِ المبتدعة] فَاعْلَمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللَّهُ ـ أنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ حُجَّةٌ فِي عُمُومِ الذَّمِّ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أنَّها جَاءَتْ مُطْلَقَةً عَامَّةً عَلَى كَثْرَتِهَا لم يقع فيها استثناء البتة، وَلَا جَاءَ فِيهَا: كلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ إِلَّا كَذَا وَكَذَا، وَلَا شَيْءَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي، فَلَوْ كَانَ هُنَالِكَ مُحْدَثَةٌ يَقْتَضِي النَّظَرُ الشَّرْعِيُّ فِيهَا الِاسْتِحْسَانَ أَوْ أنَّها لَاحِقَةٌ بِالْمَشْرُوعَاتِ، لَذُكِرَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ، لَكِنَّهُ لَا يُوجَدُ، فَدَلَّ عَلَى أنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ بِأَسْرِهَا عَلَى حَقِيقَةِ ظَاهِرِهَا مِنَ الكُليِّة الَّتِي لَا يتخلف عن مقتضاها فرد من الأفراد. الثاني: أنَّه قَدْ ثَبَتَ فِي الأُصول الْعِلْمِيَّةِ أنَّ كلَّ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ أَوْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ كُلِّيٍّ إذا تكررت في مواضع كَثِيرَةٍ وَأُتِيَ بِهَا شَوَاهِدُ عَلَى مَعَانٍ أُصولية أَوْ فُرُوعِيَّةٍ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا تَقْيِيدٌ وَلَا تَخْصِيصٌ، مَعَ تَكَرُّرِهَا، وَإِعَادَةِ تَقَرُّرِهَا،
فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بَقَائِهَا عَلَى مُقْتَضَى لَفْظِهَا مِنَ الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1) ، {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (¬2) وما أشبه ذلك. الثالث: إِجْمَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ يَلِيهِمْ عَلَى ذَمِّهَا كَذَلِكَ، وَتَقْبِيحِهَا وَالْهُرُوبِ عَنْهَا، وَعَمَّنِ اتَّسم بشيءٍ مِنْهَا، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ في ذلك توقف، فَهُوَ ـ بِحَسَبِ الِاسْتِقْرَاءِ ـ إجماعٌ ثَابِتٌ، فَدَلَّ عَلَى أنَّ كلَّ بِدْعَةٍ لَيْسَتْ بِحَقٍّ، بَلْ هِيَ من الباطل. الرابع: أنَّ مُتَعَقِّلَ الْبِدْعَةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، لأنَّه مِنْ بَابِ مُضَادَّةِ الشَّارِعِ واطِّراح الشَّرْعِ، وَكُلُّ مَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَمُحَالٌ أَنْ يَنْقَسِمَ إِلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا يُمدح وَمِنْهُ مَا يُذم، إِذْ لَا يَصِحُّ فِي مَعْقُولٍ وَلَا مَنْقُولٍ اسْتِحْسَانُ مشاقَّة الشَّارِعِ. وَلَمَّا ثَبَتَ ذمُّها ثَبَتَ ذمُّ صَاحِبِهَا لأنَّها لَيْسَتْ بِمَذْمُومَةٍ مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرِهَا فَقَطْ، بَلْ مِنْ حَيْثُ اتَّصف بِهَا المتَّصف، فَهُوَ إذًا المذموم على الحقيقة، والذم خاصة التأْثيم، فَالْمُبْتَدِعُ مَذْمُومٌ آثِمٌ، وَذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ والعموم. ويدل على ذلك أربعة أوجه: 1- أنَّ الْأَدِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ إِنْ جاءَت فِيهِمْ نَصًّا فَظَاهِرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمُ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُم فِي شَيْءٍ} (¬3) وقوله: ¬
{وَلاَ تَكُونْوا كالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتلفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّناتُ} (¬1) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ((فَلَيُذَادَنَّ رجالٌ عَنْ حَوْضِي)) (¬2) الْحَدِيثَ ـ إِلَى سَائِرِ مَا نُصَّ فِيهِ عَلَيْهِمْ. وَإِنْ كَانَتْ نصَّاً فِي الْبِدْعَةِ فَرَاجِعَةُ الْمَعْنَى إِلَى المُبتدِع مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ، وَإِذَا رَجَعَ الْجَمِيعُ إلى ذمهم، رجع الجميع إلى تأْثيمهم. 2- أنَّ الشَّرْعَ قَدْ دَلَّ عَلَى أنَّ الْهَوَى هو المتَّبَع الأوَّل في البدع، وَدَلِيلُ الشَّرْعِ كَالتَّبَعِ فِي حَقِّهِمْ. وَلِذَلِكَ تَجِدُهُمْ يتأوَّلون كلَّ دَلِيلٍ خَالَفَ هَوَاهُمْ، وَيَتَّبِعُونَ كلَّ شُبْهَةٍ وَافَقَتْ أَغْرَاضَهُمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فأمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنةِ وابْتِغاءَ تأْوِيلِهِ} (¬3) فَأَثْبَتَ لَهُمُ الزَّيْغَ أوَّلاً، وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الصَّوَابِ، ثُمَّ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ وَهُوَ خِلَافُ الْمُحْكَمِ الواضح المعنى. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تكُونوا كالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلفُوا مِنْ بعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ} (¬4) فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَجِيءِ الْبَيَانِ الشَّافِي، وأنَّ التَّفَرُّقَ إنَّما حَصَلَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَفَرِّقِينَ لَا مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ، فَهُوَ إذًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى بِعَيْنِهِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ تُشِيرُ أَوْ تصرِّح بأنَّ كلَّ مُبْتَدِعٍ إنَّما يَتَّبِعُ هَوَاهُ، وَإِذَا اتَّبَعَ هَوَاهُ كَانَ مَذْمُومًا وآثماً. والأدلة عليه أيضاً كثيرة، كقوله: ¬
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (¬1) ، وَقَوْلِهِ: {وَلاَ تَتَّبِعِ الْهوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ؛ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ} (¬2) ، وَقَوْلِهِ: {ولاَ تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنا قلْبَهُ عنْ ذِكْرِنا واتَّبَع هَوَاه} (¬3) وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ: فَإِذًا كلُ مبتدعٍ مذمومٌ آثم. 3- أنَّ عامةَ المبتدعة قائلةٌ بالتحسين والتقبيح، فَهُوَ عُمْدَتُهُمُ الأُولى وَقَاعِدَتُهُمُ الَّتِي يَبْنُونَ عَلَيْهَا الشَّرْعَ، فَهُوَ المُقدم فِي نِحَلهِم بِحَيْثُ لَا يتهمون العقل، وقد يتهمون الأدلة إذ لَمْ تُوَافِقْهُمْ فِي الظَّاهِرِ، حَتَّى يَرُدُّوا كَثِيرًا من الأدلة الشرعية. فَأَنْتَ تَرَى أنَّهم قدَّموا أهواءَهم عَلَى الشَّرْعِ، ولذلك سُمُّوا أَهْلَ الأهواءِ، وَذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْهَوَى عَلَى عُقُولِهِمْ واشتهاره فيهم، فَإِذًا تأْثيم مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ ظَاهِرٌ لأنَّ مَرْجِعهُ إِلَى اتِّبَاعِ الرَّأْيِ وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى المذكور آنفاً. 4- أنَّ كلَّ رَاسِخٍ لَا يَبْتَدِعُ أَبَدًا، وإنَّما يَقَعُ الِابْتِدَاعُ مِمَّنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْعِلْمِ الذي ابتدع فيه، فإنَّما يُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبل جُهَّالِهِمُ الَّذِينَ يُحسبون أنَّهم علماءُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاجْتِهَادُ مَنِ اجْتَهَدَ منهِيٌّ عَنْهُ إِذْ لَمْ يَسْتَكْمِلْ شروط الاجتهاد، فَإِذَا أَقْدَمَ عَلَى مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ كَانَ آثِمًا بإطلاق. وبهذه الأوجه ظَهَرَ وَجْهُ تَأْثِيمِهِ، وَتَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المجتهد المخطىء في اجتهاده. ¬
فصل [أقسام المنسوبين إلى البدعة]
وَحَاصِلُ مَا ذُكِرَ هُنَا أنَّ كلَّ مُبْتَدِعٍ آثِمٌ وَلَوْ فُرض عَامِلًا بِالْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ - إِنْ ثَبَتَ فِيهَا كَرَاهَةُ التَّنْزِيهِ - لأنَّه إمَّا مُسْتَنْبِطٌ لَهَا فَاسْتِنْبَاطُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ جَائِزٍ، وإمَّا نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِهَا مُنَاضِلٌ عَنْهُ فِيهَا بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى المُستنبط الأوَّل لَهَا، فَهُوَ آثِمٌ عَلَى كلِّ تَقْدِيرٍ. فصل [أقسام المنسوبين إلى البدعة] لَا يَخْلُو الْمَنْسُوبُ إِلَى الْبِدْعَةِ أنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِيهَا أَوْ مقلِّداً، وَالْمُقَلِّدُ إمَّا مُقَلِّدٌ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي زَعَمَهُ الْمُجْتَهِدُ دَلِيلًا وَالْأَخْذُ فِيهِ بِالنَّظَرِ، وإمَّا مُقَلِّدٌ لَهُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ كَالْعَامِّيِّ الصِّرْف؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أقسام: فالقسم الأوَّل [أنْ يكون مجتهداً في البدعة] على ضربين: 1- أنْ يَصِحَّ كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا، فَالِابْتِدَاعُ مِنْهُ لَا يَقَعُ إِلَّا فَلْتَةً وبالعَرَض لَا بِالذَّاتِ، وإنَّما تُسمى غَلْطَةً أَوْ زَلَّةً لأنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَقْصِدْ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ ابتغاءَ الْفِتْنَةِ وابتغاءَ تأْويل الْكِتَابِ، أَيْ لَمْ يَتَّبِعْ هَوَاهُ وَلَا جَعَلَهُ عمدة، والدليل عليه أنَّه ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ أَذْعَنَ لَهُ وأقرَّ بِهِ. 2- وأمَّا إنْ لم يصح أنَّه مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فَهُوَ الْحَرِيُّ بِاسْتِنْبَاطِ مَا خالف الشرع، إِذْ قَدِ اجْتَمَعَ لَهُ مَعَ الْجَهْلِ بِقَوَاعِدِ الشرع، الهوى الباعث عليه في الأصل. فكيف إذا انضاف إليه الهوى، وَانْضَافَ إِلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ دَلِيلٌ -فِي ظَنِّهِ- شَرْعِيٌّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، فَيَتَمَكَّنُ الْهَوَى مِنْ قَلْبِهِ تَمَكُّنًا لَا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ، وَجَرَى مِنْهُ مَجْرَى الكَلَب من صاحبه، فهذا
النَّوْعُ ظَاهِرٌ أنَّه آثِمٌ فِي ابْتِدَاعِهِ إِثْمَ من سنَّ سُنَّةً سيئةً. (القسم الثاني) [المقلِّد مع الإقرار بدليل المجتهد] يَتَنَوَّعُ أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَسْتَنْبِطْ بِنَفْسِهِ وإنَّما اتَّبَعَ غَيْرَهُ مِنَ الْمُسْتَنْبِطِينَ، لَكِنْ بِحَيْثُ أَقَرَّ بِالشُّبْهَةِ وَاسْتَصْوَبَهَا، وَقَامَ بِالدَّعْوَةِ بِهَا مَقَامَ متبوعه، لانقداحها في قلبه، فهو مثله، وإنْ لَمْ يُصِر إِلَى تِلْكَ الْحَالِ وَلَكِنَّهُ تَمَكَّنَ حُبُّ الْمَذْهَبِ مِنْ قَلْبِهِ حَتَّى عَادَى عليه ووالى. (القسم الثالث) [مقلِّدٌ في البدعة كالعامي الصِّرف] : وَهُوَ الَّذِي قَلَّدَ غَيْرَهُ عَلَى البراءَة الْأَصْلِيَّةِ، فَلَا يَخْلُو أنْ يَكُونَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أولى بالتقليد منه، أَوْ لَا يَكُونُ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَوْلَى منه، لكنه لَيْسَ فِي إِقْبَالِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُ مَا يَبْلُغُ تِلْكَ الرُّتْبَةَ: فإنْ كَانَ هُنَاكَ مُنْتَصِبُونَ فَتَرَكَهُمْ هَذَا المقلِّد وقلَّد غَيْرَهُمْ فَهُوَ آثِمٌ إِذْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى مَنْ أُمر بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، بَلْ تَرَكَهُ وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِأَخْسَرِ الصَّفْقَتَيْنِ فَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ، إِذْ قَلَّدَ فِي دِينِهِ مَنْ لَيْسَ بِعَارِفٍ بِالدِّينِ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ، فَعَمِلَ بِالْبِدْعَةِ وَهُوَ يَظُنُّ أنَّه عَلَى الصراط المستقيم. وقَلَّ ما تجدُ مَن هَذِهِ صِفَتُهُ إِلَّا وَهُوَ يُوَالِي فيما ارتكب ويعادي بمجرد التقليد. وإنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُنْتَصِبُونَ إِلَى هَذَا الْمُقَلِّدِ الْخَامِلِ بَيْنَ النَّاسِ، مَعَ أنَّه قَدْ نَصَّبَ نَفْسَهُ مَنْصِبَ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَفِي تَأْثِيمِهِ نَظَرٌ.
فصل [لفظ ((أهل الأهواء)) و ((أهل البدع)) ]
فصل [لفظ ((أهل الأهواء)) و ((أهل البدع)) ] إنَّ لَفْظَ ((أَهْلِ الأهواءِ)) وَعِبَارَةَ ((أَهْلِ الْبِدَعِ)) إنَّما تُطلق حَقِيقَةً عَلَى الَّذِينَ ابْتَدَعُوهَا، وَقَدَّمُوا فِيهَا شَرِيعَةَ الْهَوَى بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالنَّصْرِ لَهَا، وَالِاسْتِدْلَالِ على صحتها في زعمهم، كَلَفْظِ ((أَهْلِ السُّنَّةِ)) إنَّما يُطْلَقُ عَلَى نَاصِرِيهَا، وَعَلَى مَنِ اسْتَنْبَطَ عَلَى وِفقها، وَالْحَامِينَ لذِمَارِها (¬1) . فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْعَوَامِّ لَفْظُ ((أَهْلِ الْأَهْوَاءِ)) حَتَّى يَخُوضُوا بِأَنْظَارِهِمْ فِيهَا ويُحسِّنوا بِنَظَرِهِمْ ويُقبِّحوا. وعند ذلك يتعين للفظ أهل الأهواء وأهل الْبِدَعِ مدلولٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أنَّه: مَنِ انْتَصَبَ لِلِابْتِدَاعِ وَلِتَرْجِيحِهِ عَلَى غَيْرِهِ. وأمَّا أَهْلُ الْغَفْلَةِ عَنْ ذَلِكَ وَالسَّالِكُونَ سُبُلَ رُؤَسَائِهِمْ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فَلَا. فَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أنَّها تَحْتَوِي عَلَى قِسْمَيْنِ: مُبْتَدِعٍ وَمُقْتَدٍ بِهِ. فَالْمُقْتَدِي بِهِ كأنَّه لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعِبَارَةِ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِدَاءِ لأنَّه فِي حُكْمِ الْمُتَّبِعِ، وَالْمُبْتَدِعُ هُوَ الْمُخْتَرِعُ، أَوِ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الِاخْتِرَاعِ، وسواءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ مِنْ قَبِيلِ الْخَاصِّ بِالنَّظَرِ فِي الْعِلْمِ، أَوْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ الْعَامِّيِّ، فإنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذمَّ أَقْوَامًا قَالُوا: {إنَّا وَجَدْنا آباءَنا علَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدَونَ} (¬2) فكأنَّهم اسْتَدَلُّوا إِلَى دليلٍ جُمْلِىٍّ، وَهُوَ الآباءُ إِذْ كَانُوا عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَقْلِ، وَقَدْ كَانُوا عَلَى هَذَا الدِّينِ، وَلَيْسَ إِلَّا لأنَّه صَوَابٌ، فَنَحْنُ عَلَيْهِ، لأنَّه لَوْ كَانَ خطأُ لَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ. وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ يَسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّةِ الْبِدْعَةِ بِعَمَلِ الشُّيُوخِ وَمَنْ يُشَارُ إليه ¬
بِالصَّلَاحِ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ التَّقْلِيدِ، وَلَا كَوْنِهِ يَعْمَلُ بِعِلْمٍ أَوْ بِجَهْلٍ. وَلَكِنَّ مِثْلَ هَذَا يُعد اسْتِدْلَالًا فِي الْجُمْلَةِ مِنْ حَيْثُ جُعِل عُمْدَةً فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى واطَّراح مَا سِوَاهُ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَهُوَ آخِذٌ بِالْبِدْعَةِ بِدَلِيلٍ مِثْلِهِ، وَدَخَلَ فِي مُسَمَّى أَهْلِ الِابْتِدَاعِ، إِذْ كَانَ مِنْ حَقِّ مَنْ كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ أنْ يَنْظُرَ فِي الْحَقِّ إنْ جاءَه، ويبحث ويتأنَّى ويسأل حتى يتبين لَهُ فَيَتَّبِعَهُ، أَوِ الْبَاطِلُ فَيَجْتَنِبَهُ. وَلِذَلِكَ قَالَ تعالى ردّاً على المحتجين بما تقدم: {قُلْ أوَلَوْا جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وجَدْتُمْ عليْهِ آبَاءَكُمْ؟} (¬1) ، وَفِي الْآيَةِ الأُخرى: {وَإِذَا قِيلَ لهُمُ اتَّبِعُوا مَا أنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عليْهِ آباءَنا} ، فَقَالَ تَعَالَى: {أوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لاَ يعْقِلونَ شَيئاً وَلاَ يَهْتدُونَ؟} (¬2) ، وَفِي الْآيَةِ الأُخرى: {أوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إلَى عذابِ السَّعِيرِ} (¬3) ، وأمثال ذلك كثير. وعلامةُ مَنْ هَذَا شأْنه أنْ يردَّ خِلَافَ مَذْهَبِهِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ شُبْهَةِ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ أَوْ إِجْمَالِيٍّ، وَيَتَعَصَّبُ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ عَيْنُ اتِّبَاعِ الْهَوَى. فَهُوَ الْمَذْمُومُ حَقًّا. وَعَلَيْهِ يَحْصُلُ الْإِثْمُ، فإنَّ مَنْ كَانَ مُسْتَرْشِدًا مَالَ إِلَى الْحَقِّ حَيْثُ وَجَدَهُ وَلَمْ يردَّه، وَهُوَ الْمُعْتَادُ فِي طَالِبِ الْحَقِّ. وَلِذَلِكَ بَادَرَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تَبَيَّنَ لهم الحق (¬4) . ¬
فصل [اختلاف مراتب إثم المبتدع]
فصل [اختلاف مراتب إثم المبتدع] إذا ثبت أنَّ المبتدع آثم فليس الإثم الْوَاقِعُ عَلَيْهِ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ على مراتب مختلفة، من جِهَةِ كَوْنِ صَاحِبِهَا مُسْتَتِرًا بِهَا أَوْ مُعْلِنًا [ومن جهة الدعوة إليها وعدمها] (¬1) ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْبِدْعَةِ حَقِيقِيَّةً أَوْ إِضَافِيَّةً، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا بَيِّنة أَوْ مُشْكِلَةً، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا كُفْرًا أَوْ غَيْرَ كُفْرٍ، وَمِنْ جِهَةِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا أَوْ عَدَمِهِ - إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يُقْطَعُ مَعَهَا بِالتَّفَاوُتِ فِي عِظَم الْإِثْمِ وَعَدَمِهِ أَوْ يَغْلُب عَلَى الظن. 1- أمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ الْإِسْرَارِ وَالْإِعْلَانِ، فَظَاهِرٌ أنَّ المُسِّر بِهَا ضَرَرُهُ مقصورٌ عَلَيْهِ لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَعَلَى أَيِّ صُورَةٍ فُرِضَتِ الْبِدْعَةُ مِنْ كَوْنِهَا كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً أَوْ مَكْرُوهَةً. هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِ حُكْمِهَا، فَإِذَا أَعْلَنَ بِهَا - وإنْ لَمْ يدْعُ إِلَيْهَا - فَإِعْلَانُهُ بِهَا ذريعة إلى الاقتداء به. 2- وأمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا وَعَدَمِهَا فَظَاهَرٌ أَيْضًا، لأنَّ غَيْرَ الدَّاعِي وإنْ كَانَ عُرضة بِالِاقْتِدَاءِ فَقَدْ لَا يُقتدى بِهِ، وَيَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ خَامِلَ الذِّكْرِ، وَقَدْ يَكُونُ مُشْتَهِرًا وَلَا يُقتدى بِهِ، لِشُهْرَةِ مَنْ هُوَ أعظم عند الناس منزلة منه. وأمَّا الداعي إِذَا دَعَا إِلَيْهَا فَمَظِنَّةُ الِاقْتِدَاءِ أَقْوَى وَأَظْهَرُ، وَلَا سِيَّمَا المُبتَدِع اللَّسِنِ الْفَصِيحِ الْآخِذِ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ، إِذَا أَخَذَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَأَدْلَى بشبهته التي تداخل القلب بِزُخْرُفِها. ¬
فصل [أنواع القيام على أهل البدع]
3- وأمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْبِدْعَةِ حَقِيقِيَّةً أَوْ إِضَافِيَّةً، فإنَّ الْحَقِيقِيَّةَ أَعْظَمُ وِزراً، لأنَّها الَّتِي بَاشَرَهَا الْمُنْتَهِي بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، ولأنَّها مُخَالَفَةٌ محضة وخروج عن السُّنَّةِ ظاهراً. 4- وأمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا ظَاهِرَةَ الْمَأْخَذِ أَوْ مُشْكِلة، فلأنَّ الظَّاهِرَ عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا مَحْضُ مُخَالَفَةٍ، فإنْ كَانَتْ مُشْكِلَةً فَلَيْسَتْ بِمَحْضِ مُخَالَفَةٍ، لِإِمْكَانِ أنْ لَا تَكُونَ بِدْعَةً، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْمُحْتَمَلِ، أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الظاهر. 5- وأمَّا الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا أَوْ عَدَمِهِ فلأنَّ الذَّنْبَ قَدْ يَكُونُ صَغِيرًا فيعظُم بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ الْبِدْعَةُ تَكُونُ صَغِيرَةً فَتَعْظُمُ بِالْإِصْرَارِ عليها، فإذا كانت فلتة فَهِيَ أَهْوَنُ مِنْهَا إِذَا دَاوَمَ عَلَيْهَا، وَيَلْحَقُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِذَا تَهَاوَنَ بِهَا الْمُبْتَدِعُ وسَهَّل أَمْرَهَا، نَظِيرَ الذَّنْبِ إِذَا تَهَاوَنَ بِهِ، فَالْمُتَهَاوِنُ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنْ غَيْرِهِ. 6- وأمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا كُفْرًا وَعَدَمَهُ فَظَاهِرٌ أَيْضًا، لأنَّ مَا هُوَ كُفْرٌ جَزَاؤُهُ التَّخْلِيدُ فِي الْعَذَابِ - عافانا الله - فَلَا بِدْعَةَ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنْ بِدْعَةٍ تُخْرِجُ عن الإسلام، والله المستعان بفضله. فصل [أنواع القيام على أهل البدع] وَهَذَا بَابٌ كَبِيرٌ فِي الْفِقْهِ تَعَلَّقَ بِهِمْ مِنْ جِهَةِ جِنَايَتِهِمْ عَلَى الدِّينِ، وَفَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَخُرُوجِهِمْ عَنْ جَادَّةِ الْإِسْلَامِ، إِلَى بُنَيَّاتِ الطريق فَنَقُولُ: إنَّ الْقِيَامَ عَلَيْهِمْ بِالتَّثْرِيبِ أَوِ التَّنْكِيلِ أَوِ الطَّرْدِ أَوِ الْإِبْعَادِ أَوِ الْإِنْكَارِ هُوَ بِحَسَبِ حَالِ الْبِدْعَةِ فِي نَفْسِهَا مِنْ كَوْنِهَا عظيمة المفسدة في الدين، أم لا
وَكَوْنِ صَاحِبِهَا مُشْتَهِرًا بِهَا أَوْ لَا، وَدَاعِيًا إليها أو لا، ومستظهراً بالأتباع وَخَارِجًا عَنِ النَّاسِ أَوْ لَا، وَكَوْنِهِ عَامِلًا بِهَا عَلَى جِهَةِ الْجَهْلِ أَوْ لَا. وكلٌ من هَذِهِ الْأَقْسَامِ لَهُ حُكْمٌ اجتهاديٌّ يخصُّه، إِذْ لَمْ يَأْتِ فِي الشَّرْعِ فِي الْبِدْعَةِ حدٌّ لَا يُزاد عَلَيْهِ وَلَا يُنقص مِنْهُ، كَمَا جاء في كثير من المعاصي، كالسرقة والقتل والقذف والخمر وغير ذلك، ولا جَرَمَ أنَّ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الأُمة نَظَرُوا فِيهَا بِحَسَبِ النَّوَازِلِ، وَحَكَمُوا بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ، تَفْرِيعًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُمْ فِي بَعْضِهَا مِنَ النَّصِّ، فَخَرَجَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَكَلَّمَ فِيهِ العلماءُ أَنْوَاعٌ: (أَحَدُهَا) الْإِرْشَادُ وَالتَّعْلِيمُ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ كَمَسْأَلَةِ ابن عباس رضي الله عنه حِينَ ذَهَبَ إِلَى الْخَوَارِجِ فَكَلَّمَهُمْ حَتَّى رَجَعَ منهم ألفان أو ثلاثةُ آلاف. (الثاني) الهجران وترك الكلام والسلام. (الثالث) [التغريب] كما غرَّب عمر صَبِيغاً. (الرابع) [السجن] كما سجنوا الحلاج قبل قتله سنين عديدة. (الخامس) ذِكْرُهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ وَإِشَاعَةُ بِدْعَتِهِمْ كَيْ يُحذروا، وَلِئَلَّا يُغتر بِكَلَامِهِمْ، كَمَا جَاءَ عَنْ كثير من السلف في ذلك. (السادس) القتال إِذَا نَاصَبُوا الْمُسْلِمِينَ وَخَرَجُوا عَلَيْهِمْ كَمَا قَاتَلَ عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخَوَارِجَ، وغيرُه مِنْ خلفاء السُّنَّةِ. (السابع) القتل إنْ لم يرجِعوا مع الاستتابة وقد أظهر بدعته. (الثامن) مَنْ أسرَّها وَكَانَتْ كُفْرًا أَوْ مَا يَرْجِعُ إليه فالقتل بلا استتابة
فصل [تقسيم البدع إلى حسن وقبيح، والرد عليه]
لأنَّه من باب النفاق كالزنادقة. (التاسع) تَكْفِيرُ مَنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى كُفْرِهِ، كَمَا إذا كانت البدعة صريحة في الكفر. (العاشر) لَا يَرِثُهُمْ وَرَثَتُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَرِثُونَ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَلَا يُغَسَّلون إِذَا مَاتُوا، وَلَا يُصلَّى عَلَيْهِمْ وَلَا يُدفنون فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَتِرًا؛ فإنَّ الْمُسْتَتِرَ يُحكم لَهُ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ، وَوَرَثَتُهُ أَعْرَفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمِيرَاثِ. (الحادي عَشَرَ) الْأَمْرُ بأنْ لَا يُنَاكحوا، وَهُوَ مِنْ ناحية الهجران، وعدم المواصلة. (الثاني عَشَرَ) تَجْرِيحُهُمْ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَلَا تُقبل شَهَادَتُهُمْ ولا يكونون ولاة وَلَا قُضَاةً، وَلَا يُنصبون فِي مَنَاصِبِ الْعَدَالَةِ من إمامة أو خطابة. (الثالث عَشَرَ) تَرْكُ عِيَادَةِ مَرْضَاهُمْ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الزجر والعقوبة. (الرابع عشر) ترك شهود جنائزهم كذلك. (الخامس عَشَرَ) الضَّرْبُ كَمَا ضَرَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه صَبِيغاً. فصل [تقسيم البدع إلى حسن وقبيح، والرد عليه] فإنْ قيل: ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ تلك العمومات وتقييد تلك المطلقات فلذلك قَسَّم الناس البدع ولم يقوموا بذمها على
الْإِطْلَاقِ. وَحَاصِلُ مَا ذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلى [إشكالين] : [الأوَّل] : مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ سنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجورهم شَيْئًا، وَمَنْ سنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا (¬1) . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((مَنْ دلَّ على خير فله أجر فاعله)) (¬2) . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي أنَّ مَنْ سنَّ سُنَّةَ خيرٍ فَذَلِكَ خَيْرٌ، وَدَلَّ عَلَى أنَّه فِيمَنِ ابْتَدَعَ ((مَنْ سَنَّ)) فَنُسِبَ الِاسْتِنَانُ إِلَى المكلَّف دُونَ الشَّارِعِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ ((مَنْ عَمِلَ سُنَّةً ثَابِتَةً فِي الشَّرْعِ)) لَمَا قَالَ ((مَنْ سَنَّ)) وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَا مِنْ نَفْسٍ تُقتل ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لأنَّه أوَّل مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ)) (¬3) فسنَّ - ها هنا - على حقيقته لأنَّه اخترع [مَا] لَمْ يَكُنْ قبلُ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ وُجُودِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ((مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً)) أَيْ مَنِ اختراعها مِنْ نَفْسِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أنْ تَكُونَ حَسَنَةً فَلَهُ مِنَ الْأَجْرِ مَا ذُكِرَ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ: من عمل سُنَّةً ثابتةً. (الثاني) : أنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَعْلَاهُمُ الصحابة - قد ¬
عَمِلُوا بِمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ كتابٌ وَلَا سُنَّةٌ مِمَّا رَأَوْهُ حَسَنًا وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَلَا تَجْتَمِعُ أُمة مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ضلالة. فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى جَمْعِ الْقُرْآنِ وكَتْبِه فِي الْمَصَاحِفِ، وَعَلَى جَمْعِ النَّاسِ عَلَى الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ، واطِّراح مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ القراءَات الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ نصٌ ولا حَظْر. فالجواب وبالله التوفيق أنْ نقول: أمَّا [الإشكال] الأوَّل - وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سن سُنَّةً حسنة)) الحديث - ليس الْمُرَادُ بِهِ الِاخْتِرَاعَ ألبتَّة، وَإِلَّا لَزِمَ مِنْ ذلك التعارض بين الأدلة القطعية وإنَّما الْمُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ بِمَا ثَبَتَ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : أنَّ السَّبَبَ الَّذِي جَاءَ لِأَجْلِهِ الْحَدِيثُ هُوَ الصَّدَقَةُ الْمَشْرُوعَةُ، بِدَلِيلِ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جريرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَدْرِ النَّهَارِ فجاءَه قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمار - أَوِ الْعَبَاءِ - مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عامتهم مضر - بل كلهم من مضر، فَتَمَعَّر وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا رَآهُمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلَالًا فأذَّن وَأَقَامَ، فصلَّى ثُمَّ خَطَبَ فقال: {يَا أيُّها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ} (¬1) الآية، وَالْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْحَشْرِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُر نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (¬2) تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّه، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، حَتَّى قَالَ: وَلَوْ بِشِق تَمْرَةٍ)) قَالَ: فجاءَه رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بصُرَّة كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ. قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حتى رأيت وجه رسول ¬
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتهلَّل كأنَّه مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ من غير أنْ ينقص من أُجورهم شيٌ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شيءٌ)) (¬1) . فَتَأَمَّلُوا أَيْنَ قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً؟ تَجِدُوا ذَلِكَ فِيمَنْ عَمِلَ بِمُقْتَضَى الْمَذْكُورِ عَلَى أَبْلَغِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ حَتَّى بِتِلْكَ الصُّرَّة، فَانْفَتَحَ بِسَبَبِهِ بَابُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَبْلَغِ، فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَالَ: ((مَن سنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً)) الْحَدِيثَ، فَدَلَّ على أنَّ السُّنَّةَ ها هنا مِثْلُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابِيُّ وَهُوَ الْعَمَلُ، بما ثبت كونه سُنَّةً. (الثاني) أنَّ قَوْلَهُ: ((مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً)) لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ مِنْ أَصْلٍ، لأنَّ كَوْنَهَا حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً لَا يُعرف إِلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، لأنَّ التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ (¬2) مُخْتَصٌّ بِالشَّرْعِ، لَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِيهِ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وإنَّما يَقُولُ بِهِ الْمُبْتَدِعَةُ -أَعْنِي التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ بِالْعَقْلِ- فَلَزِمَ أنْ تَكُونَ السُّنَّةُ فِي الْحَدِيثِ إمَّا حَسَنَةً فِي الشَّرْعِ وإمَّا قَبِيحَةً بِالشَّرْعِ، فَلَا يَصْدُقُ إِلَّا عَلَى مِثْلِ الصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ السُّنَنِ الْمَشْرُوعَةِ، وَتَبْقَى السُّنَّةُ السَّيِّئَةُ مُنَزَّلة عَلَى الْمَعَاصِي الَّتِي ثَبَتَ بِالشَّرْعِ كونها معاصي. وَعَلَى الْبِدَعِ لأنَّه قَدْ ثَبَتَ ذَمُّهَا وَالنَّهْيُ عنها بالشرع كما تقدم. ¬
وإنَّما يَبْقَى النَّظَرُ فِي قَوْلِهِ: ((وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً)) وإنَّ تَقْيِيدَ الْبِدْعَةِ بِالضَّلَالَةِ يُفِيدُ مَفْهُومًا، وَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ لأنَّ الْإِضَافَةَ فِيهِ لم تفد مفهوماً، ولأنَّ الضَّلَالَةَ لَازِمَةٌ لِلْبِدْعَةِ بِإِطْلَاقٍ، بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَلَا مَفْهُومَ أَيْضًا. وَالْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي (¬1) : أنَّ جَمِيعَ مَا ذُكر فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ (¬2) ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْبِدْعَةِ الْمُحْدَثَةِ. وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ قَدْ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ من الصحابة ومَنْ بَعْدَهم، أمَّا جمعُ المصحف وقَصْرُ الناسِ عليه، فحقٌّ مَا فَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأنَّ لَهُ أصْلًا يَشْهَدُ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ، وذلك لا خلاف فيه، وَالتَّبْلِيغُ كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِكَيْفِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ لأنَّه مِنْ قَبِيلِ الْمَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَيَصِحُّ بِأَيِّ شيءٍ أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة وغيرها، كذلك لَا يَتَقَيَّدُ حِفْظُهُ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالزَّيْغِ بِكَيْفِيَّةٍ دُونَ أُخْرَى، إِذَا لَمْ يَعُدْ عَلَى الْأَصْلِ بإبطال، كَمَسْأَلَةِ الْمُصْحَفِ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ. وأمَّا مَا سِوَى الْمُصْحَفِ فَالْأَمْرُ فِيهِ أَسْهَلُ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ كِتَابَةُ الْعِلْمِ، فَفِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((اكْتُبُوا لأبي شاهٍ)) (¬3) . وَأَيْضًا فإنَّ الْكِتَابَةَ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ إِذَا تَعَيَّنَ لِضَعْفِ الحفظ، وخوف اندراس العلم، فَكُلُّ مِنْ سمَّى كَتْبَ الْعِلْمِ بِدْعَةً فإمَّا متجوِّز، وإمَّا غير عارف بوضع لَفْظِ الْبِدْعَةِ، فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ على صحة العمل بالبدع، وإن تعلَّق بِمَا وَرَدَ مِنَ الْخِلَافِ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمُصْحَفِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُهَا فِي صُورَةٍ ثَبَتَ اعْتِبَارُهَا مُطْلَقًا، وَلَا يَبْقَى بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ نِزَاعٌ إلا في الفروع. ¬
فصل [تقسيم البدع إلى خمسة أقسام والرد عليه]
فصل [تقسيم البدع إلى خمسة أقسام والرد عليه] وَمِمَّا يُورَدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أنَّ الْعُلَمَاءَ قسَّموا الْبِدَعَ بِأَقْسَامِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْخَمْسَةِ وَلَمْ يَعُدُّوهَا قِسْمًا وَاحِدًا مَذْمُومًا، فَجَعَلُوا مِنْهَا مَا هو واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحرَّم. وَالْجَوَابُ: أنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ أمرٌ مُخْتَرَعٌ لَا يدل عليه دليل شرعي بل هو في نَفْسُهُ مُتَدَافِعٌ، لأنَّ مِنْ حَقِيقَةِ الْبِدْعَةِ أنْ لَا يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَا مِنْ نصوصِ الشَّرْعِ وَلَا مِنْ قَوَاعِدِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ هُنَالِكَ مَا يَدُلُّ مِنَ الشَّرْعِ عَلَى وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ إِبَاحَةٍ لَمَا كَانَ ثَمَّ بِدْعَةٌ، وَلَكَانَ الْعَمَلُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الْأَعْمَالِ المأْمور بِهَا أَوِ المخيرَّ فِيهَا، فَالْجَمْعُ بين [عدِ] تِلْكَ الْأَشْيَاءِ بِدَعاً وَبَيْنَ كَوْنِ الْأَدِلَّةِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا أَوْ نَدْبِهَا أَوْ إِبَاحَتِهَا جمعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ. أمَّا الْمَكْرُوهُ مِنْهَا والمحرَّم فمُسلَّم مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا بِدَعًا لَا مِنْ جِهَةٍ أُخرى، إِذْ لَوْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ أمر أو كراهته لم يثبت ذلك كونه بدعة، لإمكان أنْ يكون معصية، فَإِذًا لَا يَصِحُّ أنْ يُطْلَقَ الْقَوْلُ فِي هذا القسم بأنَّه بدعة دون أنْ يقسَّم الأمر في ذلك. وأمَّا قِسْمُ الْمَنْدُوبِ فَلَيْسَ مِنِ الْبِدَعِ بِحَالٍ وتبيين ذَلِكَ بِالنَّظَرِ فِي الْأَمْثِلَةِ الَّتِي مُثِّل لَهَا بِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي رَمَضَانَ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ، فَقَدْ قَامَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - في المسجد واجتمع الناسُ خلفه. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ سَمَّاهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدْعَةً وحسَّنها بِقَوْلِهِ: ((نِعْمَتِ
الْبِدْعَةُ هَذِهِ)) (¬1) وَإِذَا ثَبَتَتْ بِدْعَةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ فِي الشَّرْعِ ثَبَتَ مُطْلَقُ الِاسْتِحْسَانِ فِي الْبِدَعِ. فَالْجَوَابُ: إنَّما سَمَّاهَا بِدْعَةً بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ الْحَالِ مِنْ حَيْثُ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاتَّفَقَ أنْ لَمْ تَقَعْ فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَا أنَّها بِدْعَةٌ فِي الْمَعْنَى؛ فَمَنْ سَمَّاهَا بِدْعَةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَلَا مُشَاحَةَ فِي الْأَسَامِي وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أنْ يُستدلُّ بِهَا عَلَى جَوَازِ الابتداع بالمعنى المُتَكَلَّم فيه؟ (¬2) ¬
الباب الرابع [في مأخذ أهل البدع بالاستدلال]
الْبَابُ الرَّابِعُ [فِي مَأْخَذِ أَهْلِ الْبِدَعِ بِالِاسْتِدْلَالِ] كلُّ خَارِجٍ عَنِ السُّنَّةِ مِمَّنْ يدَّعي الدُّخُولَ فيها، لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تكلُّف فِي الِاسْتِدْلَالِ بأدلتها على خصوصات مَسَائِلِهِمْ، وَإِلَّا كذَّب اطِّراحُها دَعْوَاهُمْ، بَلْ كلُّ مبتدع من هذه الأُمة يدَّعى أنَّه هُوَ صَاحِبُ السُّنَّةِ دُونَ مَنْ خالفه من الفرق إِلَّا أنَّ هَؤُلَاءِ - كَمَا يَتَبَيَّنُ بعدُ - لَمْ يبلغوا النَّاظِرِينَ فِيهَا بِإِطْلَاقٍ. إمَّا لِعَدَمِ الرُّسُوخِ فِي مَعْرِفَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَالْعِلْمِ بِمَقَاصِدِهَا. وإمَّا لِعَدَمِ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ بِقَوَاعِدَ الأُصول الَّتِي مِنْ جِهَتِهَا تُستنبط الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، وإمَّا لِعَدَمِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. فَبِالْحَرِيِّ أنْ تَصِيرَ مَآخِذُهُمْ لِلْأَدِلَّةِ مُخَالَفَةً لِمَأْخَذِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ لِلْأَمْرَيْنِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى تلك المآخذ لكي تُحْذَر وتُتقى فَنَقُولُ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فأمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُون مَا تَشابهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنةِ وابْتِغاءِ تأْوِيلِهِ} (¬1) وَذَلِكَ أنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَمَلَتْ قِسْمَيْنِ هُمَا أَصْلُ الْمَشْيِ عَلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ أَوْ عَلَى طَرِيقِ الْخَطَأِ: أَحَدُهُمَا: الراسخون في العلم وهم الثابتوا الْأَقْدَامِ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُتَعَذِّرًا إِلَّا عَلَى مَنْ حَصَّلَ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، لَمْ يَكُنْ بدٌ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِهِمَا مَعًا عَلَى حَسَبِ مَا تُعْطِيهِ الْمُنَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ، وَإِذْ ذَاكَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ: أنَّه رَاسِخٌ فِي الْعِلْمِ، وَمُقْتَضَى الْآيَةُ مَدْحُهُ، فَهُوَ إِذًا أهلٌ لِلْهِدَايَةِ والاستنباط. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: ((مَنْ لَيْسَ براسخٍ فِي الْعِلْمِ)) وهو الزائغ فحصل له من الآية وَصْفَانِ: أَحَدُهُمَا بِالنَّصِّ وَهُوَ الزَّيغ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فأمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} وَالزَّيْغُ هُوَ الْمَيْلُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَهُوَ ذمٌ لَهُمْ. والوصف الثاني بِالْمَعْنَى الَّذِي أَعْطَاهُ التَّقْسِيمُ وَهُوَ عَدَمُ الرُّسُوخِ في العلم، فَمَا ظنُّك بِهِ إِذَا اتَّبَعَ ابتغاءَ الْفِتْنَةِ؟ فكثيراً ما ترى الجهال يحتجون ¬
فصل [بيان طرق أهل الزيغ]
لِأَنْفُسِهِمْ بِأَدِلَّةٍ فَاسِدَةٍ وَبِأَدِلَّةٍ صَحِيحَةٍ اقْتِصَارًا بِالنَّظَرِ عَلَى دَلِيلٍ مَا، واطِّراحاً لِلنَّظَرِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الأُصولية وَالْفُرُوعِيَّةِ الْعَاضِدَةِ لِنَظَرِهِ أَوِ الْمُعَارَضَةِ لَهُ. وكثيرٌ مِمَّنْ يدَّعي الْعِلْمَ يَتَّخِذُ هَذَا الطَّرِيقَ مَسْلَكًا، وَرُبَّمَا أَفْتَى بِمُقْتَضَاهُ وَعَمِلَ عَلَى وَفْقِهِ إِذَا كَانَ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شأْن الرَّاسِخِينَ، وإنَّما هُوَ مِنْ شَأْنِ مَنِ اسْتَعْجَلَ طَلَبًا لِلْمَخْرَجِ فِي دَعْوَاهُ. فَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ أنَّ الزيغَ لَا يَجْرِي عَلَى طَرِيقِ الرَّاسِخِ بِغَيْرِ حُكْمِ الِاتِّفَاقِ، وأنْ الرَّاسِخَ لَا زَيْغَ مَعَهُ بالقصد ألبتَّة. فصل [بيان طرق أهل الزَّيغ] إِذَا تَبَيَّنَ أنَّ لِلرَّاسِخِينَ طَرِيقًا يَسْلُكُونَهَا فِي اتباع الحق، وأنَّ الزائغين على طريق غير طريقهم، احتجنا إِلَى بَيَانِ الطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكَهَا هَؤُلَاءِ لِنَتَجَنَّبَها، فنظرنا في آية تَتَعَلَّقُ بِهِمْ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِالرَّاسِخِينَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وأَنَّ هذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬1) فَأَفَادَتِ الْآيَةُ أنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاحِدَةٌ، وأنَّ لِلْبَاطِلِ طُرُقاً متعددة لا واحدة، وتعددها لم يُخَصُّ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ وَهَكَذَا الْحَدِيثُ المفسِّر لِلْآيَةِ وَهُوَ قول ابن مسعود رضي الله عنه: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطًا فَقَالَ: ((هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ مُسْتَقِيمًا)) ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: ((هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يدعو إليه)) ثم تلا هذه الآية (¬2) . ¬
فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا خطوطٌ مُتَعَدِّدَةٌ غَيْرُ محصورةٍ بِعَدَدٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إِلَى حَصْرِ عَدَدِهَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَلَا لَنَا أَيْضًا سبيلٌ إِلَى حَصْرِهَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَوْ الاستقراء، لكنَّا نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ أَوْجُهًا كُلِّيَّةً يُقَاسُ عليها ما سواها. 1- اعتمادُهم عَلَى الْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ الضَّعِيفَةِ: وَالْمَكْذُوبِ فِيهَا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وَالْأَحَادِيثُ الضَّعِيفَةُ الْإِسْنَادِ لَا يَغْلِب عَلَى الظَّنِّ أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهَا، فَلَا يُمْكِنُ أنْ يُسند إِلَيْهَا حُكْمٌ، فَمَا ظنك بالأحاديث المعروفة الكذب؟. 2- ردُّهم لِلْأَحَادِيثِ: الَّتِي جَرَتْ غَيْرَ مُوَافِقَةٍ لِأَغْرَاضِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ، ويدَّعون أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْمَعْقُولِ، وَغَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، فَيَجِبُ ردَّها، كَالْمُنْكِرِينَ لِعَذَابِ الْقَبْرِ، وَالصِّرَاطِ، وَالْمِيزَانِ، وَرُؤْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الذُّبَابِ وَقَتْلِهِ، وأنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ دَوَاءً، وأنه يقدِّم الذي فيه الداء. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَنْقُولَةِ نقل العدول. رُبَّمَا قَدَحُوا فِي الرُّوَاةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي الله تعالى عنهم -وحاشاهم- وفيمن اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَإِمَامَتِهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ لِيَرُدُّوا بِهِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الْمَذْهَبِ، وَرُبَّمَا ردُّوا فَتَاوِيَهُمْ وقبَّحوها فِي أَسْمَاعِ الْعَامَّةِ، لينفِّروا الأُمة عَنْ أَتْبَاعِ السُّنَّةِ وأهلها. 3- تَخَرُّصُهم عَلَى الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْعَرَبِيَّيْنِ: مَعَ العُروِّ عَنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيَفْتَاتُونَ (¬1) عَلَى الشَّرِيعَةِ بِمَا فَهِمُوا، وَيَدِينُونَ بِهِ، وَيُخَالِفُونَ الرَّاسِخِينَ فِي العلم، وإنَّما دخلوا في ذلك من ¬
جِهَةِ تَحْسِينِ الظَّنِّ بِأَنْفُسِهِمْ، وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ أهل الاجتهاد والاستنباط، وليسوا كذلك. 4- انْحِرَافُهُمْ عَنِ الْأُصُولِ الْوَاضِحَةِ إِلَى اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ: التي للعقول فيها مواقف، وَقَدْ عَلِمَ الْعُلَمَاءُ أنَّ كلَّ دَلِيلٍ فِيهِ اشتباهٌ وإشكالٌ لَيْسَ بدليلٍ فِي الْحَقِيقَةِ، حَتَّى يتبين معناه ويظهر المراد منه، لأنَّ حَقِيقَةَ الدَّلِيلِ أنْ يَكُونَ ظَاهِرًا فِي نَفْسِهِ، وَدَالًّا عَلَى غَيْرِهِ، وَإِلَّا، احْتِيجَ إِلَى دليل، فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ فَأَحْرَى أنْ لا يكون دليلاً. ومدار الغلط في هذا إنَّما هو: الْجَهْلُ بِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ، وَعَدَمِ ضَمِّ أَطْرَافِهِ بَعْضِهَا لبعض، فإنَّ مَأْخَذَ الْأَدِلَّةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الرَّاسِخِينَ إنَّما هُوَ عَلَى أنْ تُؤْخَذَ الشَّرِيعَةُ كَالصُّورَةِ الْوَاحِدَةِ بِحَسْبِ مَا ثَبَتَ مِنْ كليَّاتها وجزئيَّاتها الْمُرَتَّبَةِ عَلَيْهَا، وعامِّها الْمُرَتَّبِ عَلَى خاصِّها؛ ومطلقِها الْمَحْمُولِ عَلَى مقيِّدِها، ومجملِها المفسَّر ببيِّنها، إِلَى مَا سوى ذلك من مناحِيها. 5- تَحْرِيفُ الْأَدِلَّةِ عَنْ مَوَاضِعِهَا: بأنْ يرِد الدَّلِيلُ عَلَى مَنَاطٍ (¬1) فَيُصْرَف عَنْ ذَلِكَ الْمَنَاطِ إِلَى أمرٍ آخَرَ مُوهماً أنَّ الْمَنَاطَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِنْ خفيِّات تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أنَّ مَنْ أقرَّ بالإسلام، ويذم تَحْرِيفَ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، لَا يلجأُ إِلَيْهِ صُراحاً إِلَّا مَعَ اشتباهٍ يَعْرِضُ لَهُ، أَوْ جَهْلٍ يَصُدُّهُ عَنِ الْحَقِّ، مَعَ هَوَىً يَعْمِيهِ عَنْ أَخْذِ الدَّلِيلِ مَأْخَذَهُ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ السَّبَبِ مُبْتَدَعًا. وَبَيَانُ ذَلِكَ أنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ إِذَا اقتضى أمراً في الجملة مما يتعلق ¬
بِالْعِبَادَاتِ - مَثَلًا - فَأَتَى بِهِ المكلَّف فِي الْجُمْلَةِ أَيْضًا، كَذِكْرِ اللَّهِ وَالدُّعَاءِ وَالنَّوَافِلِ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّا يُعْلَمُ مِنَ الشَّارِعِ فِيهَا التَّوْسِعَةُ. كَانَ الدَّلِيلُ عاضِداً لِعِلْمِهِ مِنْ جِهَتَيْنِ: مِنْ جِهَةِ مَعْنَاهُ، وَمِنْ جِهَةِ عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ بِهِ، فَإِنْ أَتَى المكلَّف فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، أَوْ مَكَانٍ مَخْصُوصٍ، أَوْ مُقَارِنًا لِعِبَادِةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَالْتَزَمَ ذَلِكَ بِحَيْثُ صَارَ مُتَخَيَّلًا أنَّ الْكَيْفِيَّةَ، أَوِ الزَّمَانَ، أَوِ الْمَكَانَ، مَقْصُودٌ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ أنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، كَانَ الدَّلِيلُ بِمَعْزلٍ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى المُستدل عَلَيْهِ. فَإِذَا نَدَبَ الشَّرْعُ مَثَلًا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ فَالْتَزَمَ قَوْمٌ الِاجْتِمَاعَ عَلَيْهِ عَلَى لِسَانٍ وَاحِدٍ وَبِصَوْتٍ أَوْ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ مَخْصُوصٍ عَنْ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ - لَمْ يَكُنْ فِي نَدْبِ الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ المُلْتَزَم، بَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ على خلافه، وَخُصُوصًا مَعَ مَنْ يُقتدى بِهِ فِي مَجَامِعِ الناس كالمساجد. فكلُّ مَنْ خَالَفَ هَذَا الْأَصْلَ فَقَدْ خَالَفَ إِطْلَاقَ الدَّلِيلِ أوَّلاً، لِأَنَّهُ قَيَّدَ فِيهِ بِالرَّأْيِ، وَخَالَفَ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ مِنْهُ بِالشَّرِيعَةِ وهمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أنْ يَعْمَلَ بِهِ خَوْفًا أنْ يعمل به الناس فَيُفرض عليهم، أَلَا تَرَى أنَّ كلَّ مَا أَظْهَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَاظَبَ عَلَيْهِ في جَمَاعَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا فَهُوَ سُنَّةً عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ بِخِلَافِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَسَائِرِ النَّوَافِلِ، فإنَّها مستحبَّات، وَنَدَبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى إِخْفَائِهَا، وإنَّما يضرُّ إِذَا كَانَتْ تُشاع ويُعلن بِهَا. وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْأَصْلِ التزامُ الدعاءِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ بِالْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مُعلناً بِهَا فِي الْجَمَاعَاتِ. وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي بَابِهِ إنْ شاء الله تعالى.
6- بناءُ طَائِفَةٍ مِنْهُمُ الظَّوَاهِرَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى تَأْوِيلَاتٍ لَا تُعقل يَدَّعُونَ فِيهَا أَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودُ والمراد، لا ما يفهم العربي - فَقَالُوا: كلُّ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مِنَ الظَّوَاهِرِ فِي التَّكَالِيفِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، والأُمور الْإِلَهِيَّةِ فهي أمثلة ورموز إلى بواطن. 7- التغالي فِي تَعْظِيمِ شُيُوخِهِمْ: حَتَّى أَلْحَقُوهُمْ بِمَا لَا يستحقونه، وَلَوْلَا الغُلوُّ فِي الدِّينِ وَالتَّكَالُبُ عَلَى نَصْرِ الْمَذْهَبِ وَالتَّهَالُكِ فِي مَحَبَّةِ الْمُبْتَدَعِ، لَمَا وَسِعَ ذَلِكَ عَقْلُ أَحَدٍ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((لتتبعنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ)) ، الْحَدِيثَ (¬1) ، فَهَؤُلَاءِ غَلَوْا كَمَا غَلَتِ النَّصَارَى فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَيْثُ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابن مريم، فقال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (¬2) ، وفي الحديث: ((لا تُطْرُوني كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَلَكِنْ قُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)) (¬3) . وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْأَصْنَافَ وَجَدَ لَهَا مِنَ الْبِدَعِ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ كَثِيرًا، لأنَّ الْبِدْعَةَ إِذَا دَخَلَتْ في الأصل سهَّلت مداخلتها الفروع. 8-[الاحتجاج بالمنامات] : وَأَضْعَفُ هَؤُلَاءِ احْتِجَاجًا قومٌ اسْتَنَدُوا فِي أَخْذِ الْأَعْمَالِ إِلَى الْمَنَامَاتِ - وَأَقْبَلُوا وَأَعْرَضُوا بِسَبَبِهَا، فَيَقُولُونَ: رَأَيْنَا فُلَانًا الرَّجُلَ الصَّالِحَ، فَقَالَ لَنَا: اتْرُكُوا كذا، واعملوا كذا، وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّوْمِ، فَقَالَ لِي كَذَا وَأَمَرَنِي بِكَذَا، فَيَعْمَلُ بِهَا، وَيَتْرُكُ بِهَا، مُعرضاً عَنِ الْحُدُودِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ خَطَأٌ، لأنَّ الرؤيا من غير ¬
الْأَنْبِيَاءِ لَا يُحكم بِهَا شَرْعًا عَلَى حَالٍ إِلَّا أنْ تُعْرَضَ عَلَى مَا فِي أَيْدِينَا مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ سَوَّغتها عُمِلَ بِمُقْتَضَاهَا، وَإِلَّا وَجَبَ تَرْكُهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا، وإنَّما فَائِدَتُهَا الْبِشَارَةُ أَوِ النِّذارة خَاصَّةً، وأمَّا اسْتِفَادَةُ الْأَحْكَامِ فلا. وَلَا يُقال: إنَّ الرُّؤْيَا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، فَلَا يَنْبَغِي أنْ تُهمل، وَأَيْضًا إنَّ المُخْبِر فِي الْمَنَامِ قَدْ يَكُونُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ قَدْ قَالَ: ((مَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ فَقَدْ رَآنِي حَقًا، فإنَّ الشَّيْطَانَ لا يتمثل بي)) (¬1) ، فَإِخْبَارُهُ فِي النَّوْمِ كَإِخْبَارِهِ فِي الْيَقَظَةِ. لأنَّا نَقُولُ: 1- إنْ كَانَتِ الرُّؤْيَا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فَلَيْسَتْ إِلَيْنَا مِنْ كَمَالِ الْوَحْيِ، بَلْ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، والجزءُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ، بَلْ إنَّما يَقُومُ مَقَامَهُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ صُرِفَتْ إِلَى جِهَةِ البشارة والنِّذارة. 2- وَأَيْضًا فإنَّ الرُّؤْيَا الَّتِي هِيَ جزءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ مِنْ شَرْطِهَا أنْ تَكُونَ صَالِحَةً مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَحُصُولُ الشُّرُوطِ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَقَدْ تَتَوَفَّرُ، وَقَدْ لَا تَتَوَفَّرُ. 3- وَأَيْضًا فَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى الْحُلْمِ، وَهُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِلَى حَدِيثِ النَّفْسِ، وَقَدْ تَكُونُ سَبَبَ هَيَجَانِ بَعْضِ أَخْلَاطٍ، فَمَتَى تتعيَّن الصَّالِحَةُ حَتَّى يُحكم بها وتترك غير الصالحة؟ وأمَّا الرُّؤْيَا الَّتِي يُخبر فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّائِي بِالْحُكْمِ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ بحكمٍ موافقٍ لِشَرِيعَتِهِ، فَالْحُكْمُ بِمَا اسْتَقَرَّ، ¬
وإن أخبر بمخالف، فمُحال، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لَا يَنْسَخُ بَعْدَ مَوْتِهِ شَرِيعَتَهُ المستقِرَّة فِي حَيَاتِهِ، لأنَّ الدِّينَ لَا يَتَوَقَّفُ استقرارُه بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى حُصُولِ الْمَرَائِي النَّوْمِيَّةِ، لأنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَا عَمَلَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: إنَّ رُؤْيَاهُ غيرُ صَحِيحَةٍ، إِذْ لَوْ رَآهُ حَقًّا لَمْ يُخْبِرْهُ بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ. لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ فَقَدَ رَآنِي)) وفيه تأويلان: أحدهما: مَعْنَى الْحَدِيثِ ((مَنْ رَآنِي عَلَى صُورَتَيِ الَّتِي خُلِقْتُ عَلَيْهَا. فَقَدْ رَآنِي، إِذْ لَا يَتَمَثَّلُ الشيطان بي)) إذ لم يقل: من رآني أَنَّهُ رَآنِي، فَقَدْ رَآنِي. وإنَّما قَالَ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي، وأنَّى لِهَذَا الرَّائِي الَّذِي رَأَى أَنَّهُ رَآهُ عَلَى صُورَةٍ أَنَّهُ رَآهُ عَلَيْهَا؟ وَإِنْ ظنَّ أَنَّهُ رَآهُ، مَا لَمْ يعلم أنَّ تلك الصورة صورته بَعَيْنِها، هذا مالا طريق لأحد إلى معرفته. وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى أنَّ الْمَرْئِيَّ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنِ اعْتَقَدَ الرَّائِي أَنَّهُ هُوَ. الثَّانِي: يَقُولُهُ علماءُ التَّعْبِيرِ: إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَأْتِي النَّائِمَ فِي صُورَةٍ مَا؛ مِنْ مَعَارِفِ الرَّائِي وَغَيْرِهِمْ، فَيُشِيرُ لَهُ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ: هَذَا فُلَانٌ النَّبِيُّ فيُوقع اللبْس عَلَى الرَّائِي بِذَلِكَ وَلَهُ عَلَامَةٌ عِنْدَهُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ أنْ يُكَلِّمَهُ المُشار إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ غَيْرِ الْمُوَافِقَيْنِ لِلشَّرْعِ، فَيَظُنُّ الرَّائِي أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَلَا يُوثق بِمَا يَقُولُ لَهُ أَوْ يَأْمُرُ أَوْ يَنْهَى، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى فِي الْمَسْأَلَةِ إِشْكَالٌ، نَعَمْ، لَا يُحكم بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَا حَتَّى يَعْرِضَهَا عَلَى الْعِلْمِ، لِإِمْكَانِ اخْتِلَاطِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ بالآخَر، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَا يَستدل بِالرُّؤْيَا فِي الْأَحْكَامِ إِلَّا ضَعِيفُ الْمُنَّةِ (¬1) . نَعَمْ يَأْتِي الْمَرْئِيَّ تَأْنِيسًا وبشارة ¬
وَنِذَارَةً خَاصَّةً، بِحَيْثُ لَا يَقْطَعُونَ بِمُقْتَضَاهَا حُكْمًا، وَلَا يَبْنُونَ عَلَيْهَا أَصْلًا، وَهُوَ الِاعْتِدَالُ فِي أَخْذِهَا، حَسْبَمَا فُهِمَ مِنَ الشَّرْعِ فِيهَا، وَاللَّهُ أعلم. ومن نظر إلى طريق أهل البدع في الاستدلالات عَرَفَ أَنَّهَا لَا تَنْضَبِطُ، لِأَنَّهَا سيَّالة لَا تَقِفُ عِنْدَ حدٍّ، وَعَلَى كلِّ وَجْهٍ يَصِحُّ لِكُلِّ زَائِغٍ وَكَافِرٍ أنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى زَيْغِهِ وَكُفْرِهِ حَتَّى يَنْسِبَ النِّحْلة الَّتِي الْتَزَمَهَا إِلَى الشريعة. فَمَنْ طَلَبَ خَلَاصَ نَفْسِهِ تَثَبَّتَ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ الطَّرِيقُ، وَمَنْ تَسَاهَلَ رَمَتْه أَيْدِي الْهَوَى فِي مَعَاطِبَ لَا مُخَلِّصَ لَهُ مِنْهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ.
الباب الخامس [في أحكام البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما]
الْبَابُ الْخَامِسُ [فِي أَحْكَامِ الْبِدَعِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ والفرق بينهما] الْبِدْعَةَ الْحَقِيقِيَّةَ: هِيَ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا دليلٌ شرعيٌ لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ولا إجماعٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ مُعتبر عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا فِي الْجُمْلَةِ وَلَا فِي التَّفْصِيلِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيت بدعة لِأَنَّهَا شيءٌ مُخترع عَلَى غَيْرِ مثالٍ سَابِقٍ. البدعة الإضافية: هي الَّتِي لَهَا شَائِبَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: لَهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ مُتعلَّق، فَلَا تَكُونُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِدْعَةً. وَالْأُخْرَى: لَيْسَ لَهَا مُتعلَّق إِلَّا مِثْلَ مَا للبدعة الحقيقية. أَيْ أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ سُنَّة لِأَنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إِلَى دَلِيلٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِهَةِ الأُخرى بِدْعَةٌ لِأَنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إِلَى شُبْهَةٍ لَا إِلَى دَلِيلٍ، أَوْ غَيْرِ مُسْتَنِدَةٍ إِلَى شَيْءٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى: أنَّ الدَّلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ قَائِمٌ، وَمِنْ جِهَةِ الْكَيْفِيَّاتِ أَوِ الْأَحْوَالِ أَوِ التَّفَاصِيلِ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ لأنَ الْغَالِبَ وُقُوعُهَا فِي التَّعَبُدِيَّاتِ لَا فِي الْعَادِيَّاتِ الْمَحْضَةِ.
فصل [البدع الإضافية]
فصل [البدع الإضافية] قَدْ يَكُونُ أَصْلُ الْعَمَلِ مَشْرُوعًا وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ جارياً مجرى البدعة من باب الذرائع، وبيانُه أنَّ الْعَمَلَ يَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ -مَثَلًا- فَيَعْمَلُ بِهِ الْعَامِلُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ عَلَى وَضْعِهِ الأوَّل مِنَ النَّدْبِيَّةِ فَلَوِ اقْتَصَرَ الْعَامِلُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، وَيَجْرِي مَجْرَاهُ إِذَا دَامَ عَلَيْهِ فِي خاصيَّته غَيْرَ مُظْهِرٍ لَهُ دَائِمًا، بَلْ إِذَا أَظْهَرَهُ لَمْ يُظْهِرْهُ عَلَى حُكْمِ الْمُلْتَزَمَاتِ مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَالْفَرَائِضِ اللَّوَازِمِ، فَهَذَا صَحِيحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَأَصْلُهُ ندبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِخْفَاءِ النَّوَافِلِ وَالْعَمَلِ بِهَا فِي الْبُيُوتِ، وَقَوْلُهُ: ((أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاتُكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ)) (¬1) فَاقْتَصَرَ فِي الْإِظْهَارِ عَلَى الْمَكْتُوبَاتِ - كَمَا تَرَى - وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ في مسجد بيت المقدس، حتى قَالُوا: إنَّ النَّافِلَةَ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي أَحَدِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ بِمَا اقْتَضَاهُ ظاهرُ الْحَدِيثِ، وَجَرَى مَجْرَى الْفَرَائِضِ فِي الْإِظْهَارِ [بعض] السُّنَنُ كَالْعِيدَيْنِ وَالْخُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، فَبَقِيَ ما سوى ذلك حكمه الإخفاء، فإذا اجتمع في النافلة أنْ تُلتزم التزام السُّنَنَ الرَّوَاتِبَ إمَّا دَائِمًا وإمَّا فِي أَوْقَاتٍ مَحْدُودَةٍ وَعَلَى وَجْهٍ مَحْدُودٍ، وأُقيمت فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُقام فِيهَا الْفَرَائِضُ، أَوِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ فَذَلِكَ ابْتِدَاعٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ وَلَا عَنِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ فعلُ هَذَا الْمَجْمُوعِ هَكَذَا مَجْمُوعًا، وَإِنْ أَتَى مطلقاً من غير تلك التقييدات، فالتقييد في المطلقات التي لم يثبت بِدَلِيلِ الشَّرْعِ تَقْيِيدَهَا رأيٌ فِي التَّشْرِيعِ، فَكَيْفَ إذا عارضه الدليل، وهو الأمر بإخفاء ¬
النَّوَافِلِ مَثَلًا؟ وَوَجْهُ دُخُولِ الِابْتِدَاعِ هُنَا أنَّ كلَّ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ النَّوَافِلِ وَأَظْهَرَهُ فِي الْجَمَاعَاتِ فَهُوَ سُنَّةٌ، فَالْعَمَلُ بِالنَّافِلَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ عَلَى طَرِيقِ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ، إِخْرَاجٌ لِلنَّافِلَةِ عَنْ مَكَانِهَا الْمَخْصُوصِ بِهَا شَرْعًا، ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اعْتِقَادُ الْعَوَامِّ فِيهَا وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَهَذَا فَسَادٌ عَظِيمٌ، لأنَّ اعتقاد ما ليس بسنة وَالْعَمَلَ بِهَا عَلَى حَدِّ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ نحوٌ مِنْ تَبْدِيلِ الشَّرِيعَةِ، كَمَا لَوِ اعْتَقَدَ فِي الفرض أنه ليس بفرض، أو فيما ليس بفرض أنه فرض، ثم عمل على وِفق اعْتِقَادِهِ فإنَّه فَاسِدٌ، فَهَبِ الْعَمَلَ فِي الْأَصْلِ صَحِيحًا فَإِخْرَاجُهُ عَنْ بَابِهِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا مِنْ بَابِ إِفْسَادِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمِنْ هُنَا ظَهَرَ عُذْرُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي تَرْكِهِمْ سُنَنًا قَصْدًا لِئَلَّا يَعْتَقِدَ الْجَاهِلُ أَنَّهَا مِنَ الْفَرَائِضِ. فَهَذِهِ أُمُورٌ جَائِزَةٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، وَلَكِنَّهُمْ كَرِهُوا فِعْلَهَا خَوْفًا مِنَ الْبِدْعَةِ لأنَّ اتِّخَاذَهَا سُنَّةً إنَّما هُوَ بأنْ يُوَاظِبَ النَّاسُ عَلَيْهَا مُظْهِرِينَ لَهَا، وَهَذَا شَأْنُ السُّنَّةِ، وَإِذَا جَرَتْ مَجْرَى السُّنَنِ صَارَتْ مِنَ الْبِدَعِ بِلَا شَكٍّ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ صَارَتْ هَذِهِ الأشياءُ مِنَ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ؟ وَالظَّاهِرُ مِنْهَا أَنَّهَا بِدَعٌ حَقِيقِيَّةٌ! لأنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ إِذَا عُمل بِهَا عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهَا سُنَّةٌ فَهِيَ حَقِيقِيَّةٌ إِذْ لَمْ يَضَعْهَا صَاحِبُ السُّنَّةِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَصَارَتْ مِثْلَ مَا إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَاعْتَقَدَهَا عِبَادَةً فإنَّها بِدْعَةٌ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ، هَذَا إِذَا نَظَرْنَا إِلَيْهَا بِمَآلِهَا، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَيْهَا أوَّلاً فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ مِنْ غَيْرِ نِسْبَةٍ إِلَى بِدْعَةٍ أَصْلًا. فَالْجَوَابُ: أنَّ السُّؤَالَ صَحِيحٌ، إِلَّا أنَّ لِوَضْعِهَا أوَّلاً نَظَرَيْنِ:
فصل [سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما]
أَحَدُهُمَا: مِنْ حَيْثُ هِيَ مَشْرُوعَةٌ فَلَا كَلَامَ فِيهَا. وَالثَّانِي: مِنْ حَيْثُ صَارَتْ كَالسَّبَبِ الْمَوْضُوعِ لِاعْتِقَادِ الْبِدْعَةِ أَوْ لِلْعَمَلِ بِهَا عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ، فَهِيَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهَا بِدْعَةً إِضَافِيَّةً، أمَّا إِذَا اسْتَقَرَّ السَّبَبُ وَظَهَرَ عَنْهُ مُسَبِّبُهُ الَّذِي هُوَ اعْتِقَادُ الْعَمَلِ سُنَّة، وَالْعَمَلُ عَلَى وِفقه، فَذَلِكَ بدعة حقيقية لا إضافية، وَإِذَا ثَبَتَ فِي الأُمور الْمَشْرُوعَةِ أَنَّهَا قَدْ تُعد بِدَعاً بِالْإِضَافَةِ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْبِدَعِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ فإنَّها قَدْ تَجْتَمِعُ فِيهَا أنْ تَكُونَ حَقِيقِيَّةً وإضافية معاً ثم إذا اعتقد فيها السُّنِّيَّةَ أَوِ الْفَرْضِيَّةَ صَارَتْ بِدْعَةً مِنْ ثَلَاثَةِ أوجه. فَيَا لَلَّهِ وَيَا لِلْمُسْلِمِينَ! مَاذَا يَجْنِي الْمُبْتَدِعُ عَلَى نَفْسِهِ مِمَّا لَا يَكُونُ فِي حِسَابِهِ؟ وقانا الله شرور أنفسنا بفضله. فصل [سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما] إنَّ سُكُوتَ الشَّارِعِ عَنِ الْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةٍ ما أَوْ تَرْكِهِ لِأَمْرٍ مَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : أنْ يَسْكُتَ عَنْهُ أَوْ يَتْرُكَهُ لِأَنَّهُ لَا دَاعِيَةَ لَهُ تَقْتَضِيهِ، وَلَا مُوجِبَ يُقَرَّرُ لِأَجْلِهِ، وَلَا وَقَعَ سَبَبُ تَقْرِيرِهِ، كَالنَّوَازِلِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنَّها لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً ثُمَّ سَكَتَ عَنْهَا مَعَ وُجُودِهَا، وإنَّما حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاحْتَاجَ أَهْلُ الشَّرِيعَةِ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا وَإِجْرَائِهَا عَلَى مَا تبيَّن فِي الْكُلِّيَّاتِ الَّتِي كَمُلَ بِهَا الدِّينُ، وَإِلَى هَذَا الضَّرْبِ يَرْجِعُ جَمِيعُ مَا نَظَرَ فِيهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِمَّا لَمْ يسنُّه رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخُصُوصِ مما هو معقول المعنى، كتضمين الصنَّاع (¬1) ، والجَد مع الإخوة، ومنه جمع المصحف، ثم تدوين ¬
فصل [من البدع الإضافية: كل عمل اشتبه أمره]
الشَّرَائِعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَحْتَجْ في زمانه عليه السلام إلى تقريره، فَلَمْ يُذكر لَهَا حُكْمٌ مَخْصُوصٌ فَهَذَا الضَّرْبُ إِذَا حَدَثَتْ أَسْبَابُهُ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ وَإِجْرَائِهِ عَلَى أُصوله إنْ كَانَ مِنَ الْعَادِيَّاتِ، أَوْ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى مَا سُمع كَمَسَائِلِ السَّهْوِ والنسيان في إجراء الْعِبَادَاتِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي هَذَا الضَّرْبِ، لأنَّ أُصول الشَّرْعِ عَتِيدَةٌ وَأَسْبَابَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ لَمْ تَكُنْ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ، فَالسُّكُوتُ عَنْهَا عَلَى الْخُصُوصِ لَيْسَ بِحُكْمٍ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّرْكِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، بَلْ إِذَا عُرِضَتِ النَّوَازِلُ رُوجِع بِهَا أُصولها فَوُجِدَتْ فِيهَا وَلَا يَجِدُهَا مَنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ، وإنَّما يَجِدُهَا الْمُجْتَهِدُونَ الْمَوْصُوفُونَ فِي عِلْمِ أُصول الْفِقْهِ. (وَالضَّرْبُ الثَّانِي) : أنْ يَسْكُتَ الشَّارِعُ عَنِ الْحُكْمِ الْخَاصِّ أَوْ يَتْرُكَ أَمْرًا مَا مِنَ الأُمور، وَمُوجِبُهُ الْمُقْتَضَى لَهُ قَائِمٌ، وَسَبَبُهُ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ وَفِيمَا بَعْدَهُ مَوْجُودٌ ثَابِتٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُحدد فِيهِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْحُكْمِ الْعَامِّ فِي أَمْثَالِهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى المُوجِب لِشَرْعِيَّةِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ الْخَاصِّ موجوداً، ثم لم يُشرع ولا نبَّه [عليه] كَانَ صَرِيحًا فِي أنَّ الزَّائِدَ عَلَى مَا ثَبَتَ هُنَالِكَ بِدْعَةٌ زَائِدَةٌ وَمُخَالِفَةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، إِذْ فُهِمَ مِنْ قَصْدِهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حدَّ هُنَالِكَ لَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا النُّقْصَانُ منه. فصل [من البدع الإضافية: كلُّ عملٍ اشتبه أمرُه] وَيُمْكِنُ أنْ يَدْخُلَ فِي الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ كلُّ عَمَلٍ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَهُوَ بِدْعَةٌ فَيُنْهَى عَنْهُ؟ أَمْ غَيْرُ بِدْعَةٍ فَيُعْمَلُ بِهِ؟ فإنَّا إذا اعتبرناه بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَجَدْنَاهُ مِنَ الْمُشْتَبِهَاتِ الَّتِي قَدْ نُدِبْنا إِلَى تَرْكِهَا حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ، وَالْمَحْظُورُ هُنَا هُوَ الْعَمَلُ بِالْبِدْعَةِ، فَإِذَا الْعَامِلُ بِهِ لَا يَقْطَعُ أَنَّهُ
عَمَلَ بِبِدْعَةٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ أَنَّهُ عَمِلَ بِسُنَّةٍ، فَصَارَ مِنْ جِهَةِ هَذَا التَّرَدُّدِ غَيْرَ عَامِلٍ بِبِدْعَةٍ حَقِيقِيَّةٍ، وَلَا يُقَالُ أَيْضًا: إنَّه خَارِجٌ عَنِ الْعَمَلِ بِهَا جُمْلَةً. وَبَيَانُ ذَلِكَ أنَّ النهيَّ الْوَارِدَ فِي الْمُشْتَبِهَاتِ إنَّما هُوَ حِمَايَةٌ أنْ يَقَعَ فِي ذَلِكَ الْمَمْنُوعِ الْوَاقِعِ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ، فَإِذَا اخْتَلَطَتِ الْمَيْتَةُ بِالذَّكِيَّةِ نَهَيْنَاهُ عَنِ الْإِقْدَامِ، فَإِنْ أَقْدَمَ أَمْكَنَ عِنْدَنَا أنْ يَكُونَ آكِلًا لِلْمَيْتَةِ فِي الِاشْتِبَاهِ؛ فَالنَّهْيُ الأَخف إِذًا مُنْصَرِفٌ نَحْوَ الْمَيْتَةِ فِي الِاشْتِبَاهِ، كَمَا انْصَرَفَ إِلَيْهَا النَّهْيُ الْأَشَدُّ فِي التَّحَقُّقِ. وَكَذَلِكَ اخْتِلَاطُ الرَّضِيعَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ: النَّهْيُ فِي الِاشْتِبَاهِ مُنْصَرِفٌ إِلَى الرَّضِيعَةِ كَمَا انْصَرَفَ إِلَيْهَا فِي التَّحَقُّقِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُشْتَبِهَاتِ إنَّما يَنْصَرِفُ نَهْيُ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمُشْتَبَهِ إِلَى خُصُوصِ الْمَمْنُوعِ الْمُشْتَبَهِ، فَإِذًا الْفِعْلُ الدَّائِرُ بَيْنَ كَوْنِهِ سُنَّةً أَوْ بِدْعَةً إِذَا نُهي عَنْهُ فِي بَابِ الِاشْتِبَاهِ نُهي عَنِ الْبِدْعَةِ فِي الْجُمْلَةِ؛ فَمَنْ أَقْدَمَ عَلَى مَنْهِيٍّ عَنْهُ فِي بَابِ الْبِدْعَةِ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ أنْ يَكُونَ بِدْعَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَصَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالْعَامِلِ بِالْبِدْعَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَقَدْ مرَّ أنَّ الْبِدْعَةَ الْإِضَافِيَّةَ هِيَ الْوَاقِعَةُ ذَاتُ وَجْهَيْنِ - فَلِذَلِكَ قِيلَ: إنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ، وَلِهَذَا النَّوْعِ أمثلة: (أحدها) : إِذَا تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي أنَّ الْعَمَلَ الْفُلَانِيَّ مَشْرُوعٌ يُتعبد بِهِ، أَوْ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يُتَعَبَّدُ بِهِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ جَمْعٌ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، أَوْ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا بِنَسْخٍ أو ترجيح أو غيرهما، فَالصَّوَابُ الْوُقُوفُ عَنِ الْحُكْمِ رَأْسًا، وَهُوَ الْفَرْضُ في حقه. (الثاني) : إِذَا تَعَارَضَتِ الْأَقْوَالُ عَلَى الْمُقَلِّدِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا؛ فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَكُونُ الْعَمَلُ بِدْعَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِبِدْعَةٍ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْأَرْجَحُ مِنَ العالِمَين بأعْلَمِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا؛ فحقُّه الْوُقُوفُ وَالسُّؤَالُ عَنْهُمَا حَتَّى
فصل [من البدع الإضافية: إخراج العبادة عن حدها الشرعي]
يَتَبَيَّنَ لَهُ الْأَرْجَحُ فَيَمِيلُ إِلَى تَقْلِيدِهِ دُونَ الْآخَرِ؛ فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى تَقْلِيدِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ مرجِّح كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُجْتَهِدِ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْعَمَلِ بِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ مِنْ غَيْرِ ترجيح، فالمثالان في المعنى واحد. فصل [من البدع الإضافية: إخراج العبادة عن حدِّها الشرعي] وَمِنَ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ الَّتِي تَقْرُبُ مِنَ الْحَقِيقِيَّةِ، أنْ يَكُونَ أَصْلُ الْعِبَادَةِ مَشْرُوعًا إِلَّا أَنَّهَا تُخْرَجُ عَنْ أَصْلِ شرعيِّتها بِغَيْرِ دَلِيلٍ تَوَهُّمًا أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِهَا تَحْتَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ بأنْ يُقَيَّدَ إِطْلَاقُهَا بِالرَّأْيِ، أَوْ يُطْلَقَ تَقْيِيدُهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَتَخْرُجُ عَنْ حَدِّهَا الَّذِي حُدَّ لَهَا. وَمِثَالُ ذَلِكَ أنْ يُقَالَ: إنَّ الصَّوْمَ فِي الْجُمْلَةِ مندوبٌ إِلَيْهِ لَمْ يَخُصَّهُ الشَّارِعُ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَلَا حدَّ فِيهِ زَمَانًا دُونَ زَمَانٍ، مَا عَدَّا مَا نُهِيَ عَنْ صِيَامِهِ عَلَى الْخُصُوصِ كَالْعِيدَيْنِ، وَنُدِبَ إِلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ كَعَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ بِقَوْلٍ، فَإِذَا خصَّ مِنْهُ يَوْمًا مِنَ الْجُمْعَةِ بِعَيْنِهِ، أَوْ أَيَّامًا مِنَ الشَّهْرِ بِأَعْيَانِهَا لَا مِنْ جِهَةِ مَا عيَّنه الشارع، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ رأيٌ محضٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، ضَاهَى بِهِ تَخْصِيصَ الشَّارِعِ أَيَّامًا بِأَعْيَانِهَا دُونَ غَيْرِهَا، فَصَارَ التَّخْصِيصُ مِنَ المكلَّف بِدْعَةً، إِذْ هِيَ تَشْرِيعٌ بِغَيْرِ مُستند. وَمِنْ ذَلِكَ تَخْصِيصُ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَمْ تُشَرَّع لَهَا تَخْصِيصًا، كَتَخْصِيصِ الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ بِكَذَا وَكَذَا مِنَ الرَّكَعَاتِ، أَوْ بِصَدَقَةِ كَذَا وَكَذَا، أَوِ اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ بِقِيَامِ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةٍ، أَوْ بِخَتْمِ الْقُرْآنِ فِيهَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فإنَّ ذَلِكَ التَّخْصِيصَ وَالْعَمَلَ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِحُكْمِ الوِفاق أَوْ بقصدٍ يَقْصد مِثْلَهُ أهلُ الْعَقْلِ وَالْفَرَاغِ وَالنَّشَاطِ، كَانَ تَشْرِيعًا زائداً، وهذا كله
فصل [البدع الإضافية: هل يعتد بها عبادات يتقرب بها إلى الله]
إنْ فَرَضْنَا أَصْلَ الْعِبَادَةِ مَشْرُوعًا، فَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ فَهِيَ بِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ. فصل [البدع الإضافية: هل يُعتد بها عبادات يتقرب بها إلى الله] فَإِنْ قِيلَ: فَالْبِدَعُ الْإِضَافِيَّةُ هَلْ يُعتَّد بِهَا عِبَادَاتٍ حَتَّى تَكُونَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مُتَقَرَّبًا بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا تَكُونُ كذلك؟ فَالْجَوَابُ: أنَّ حَاصِلَ الْبِدْعَةِ الْإِضَافِيَّةِ أَنَّهَا لَا تَنْحَازُ إِلَى جَانِبٍ مَخْصُوصٍ فِي الْجُمْلَةِ، بَلْ يَنْحَازُ بِهَا الْأَصْلَانِ - أَصْلُ السُّنَّةِ وَأَصْلُ الْبِدْعَةِ - لَكِنْ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اقْتَضَى أنْ يُثابَ الْعَامِلُ بِهَا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ، ويُعاتب مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ غير مشروع. وَالَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُقَالَ فِي جِهَةِ الْبِدْعَةِ فِي الْعَمَلِ: لَا يَخْلُو أنْ تَنْفَرِدَ أَوْ تَلْتَصِقَ وَإِنِ الْتَصَقَتْ فَلَا تَخْلُو أنْ تَصِيرَ وَصْفًا لِلْمَشْرُوعِ غَيْرَ مُنفك، إمَّا بِالْقَصْدِ أَوْ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ الْعَادِيِّ أَوْ لَا تَصِيرُ وَصْفًا، وَإِنْ لَمْ تَصِرْ وَصْفًا فإمَّا أنْ يَكُونَ وَضْعُهَا إِلَى أنْ تَصِيرَ وَصْفًا أَوْ لَا. فهذه [ثلاثة] (¬1) أَقْسَامٍ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا فِي تَحْصِيلِ هذا المطلوب بحول الله: (الأوَّل) : وَهُوَ أنْ تَنْفَرِدَ الْبِدْعَةُ عَنِ الْعَمَلِ المشروع فالكلام فيه ظاهر ¬
إلا إنْ كَانَ وَضْعُهُ عَلَى جِهَةِ التَّعَبُّدِ فَبِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ فِعْلٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَالْعِبَادَةُ سَالِمَةٌ وَالْعَمَلُ الْعَادِيُّ خَارِجٌ مِنْ كلِّ وَجْهٍ، مِثَالُهُ الرَّجُلُ يُرِيدُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَيَتَنَحْنَحُ مَثَلًا أَوْ يَتَمَخَّطُ، أَوْ يَمْشِي خُطُوَاتٍ أَوْ يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يَقْصِدُ بِذَا وَجْهًا رَاجِعًا إِلَى الصَّلَاةِ، وإنَّما يَفْعَلُ ذَلِكَ عَادَةً أَوْ تَقَزُّزًا، فَمِثْلُ هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ فِي نَفْسِهِ وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَهُوَ من جملة العادات الجائزة. (الثَّانِي) : وَهُوَ أنْ يَصِيرَ الْعَمَلُ الْعَادِيُّ أَوْ غَيْرُهُ كَالْوَصْفِ لِلْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ إِلَّا أنَّ الدَّلِيلَ عَلَى أنَّ الْعَمَلَ الْمَشْرُوعَ لَمْ يَتَّصِفْ فِي الشَّرْعِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ فَظَاهِرُ الْأَمْرِ انْقِلَابُ الْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عمومُ قوله عليه الصلاة والسلام: ((كلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)) (¬1) وَهَذَا الْعَمَلُ عِنْدَ اتِّصَافِهِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ عَمَلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَهُوَ إِذًا ردٌّ، كَصَلَاةِ الْفَرْضِ مَثَلًا إِذَا صَلَّاهَا الْقَادِرُ الصَّحِيحُ قَاعِدًا أَوْ سبَّح فِي مَوْضِعِ الْقِرَاءَةِ، أَوْ قَرَأَ فِي مَوْضِعِ التَّسْبِيحِ، وَمَا أشبه ذلك. (الثَّالِثُ) : وَهُوَ أنْ يَصِيرَ الْوَصْفُ عُرْضَةً لأنْ يَنْضَمَّ إِلَى الْعِبَادَةِ حَتَّى يُعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَوْصَافِهَا أَوْ جزءٌ مِنْهَا، فَهَذَا الْقِسْمُ يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ النَّهْيِ عَنِ الذَّرَائِعِ. فمن ذلك ما جاء في الحديث مِنْ نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنْ يُتَقَدَّمَ شَهْرُ رَمَضَانَ بِصِيَامِ يَوْمٍ أو يومين (¬2) . ووجه ذَلِكَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مَخَافَةَ أنْ يُعد ذَلِكَ من جملة رمضان. فَكُلُّ عَمَلٍ أَصْلُهُ ثَابِتٌ شَرْعًا إِلَّا أنَّ فِي إِظْهَارِ الْعَمَلِ بِهِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ مَا يُخَافُ أنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ سُنَّةٌ، فَتَرْكُهُ مَطْلُوبٌ، من باب سد ¬
الذرائع (¬1) ، إنْ ذَهَبَ مُجْتَهِدٌ إِلَى عَدَمِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ في غير محل النص، فَلَا شَكَّ أنَّ الْعَمَلَ الْوَاقِعَ عِنْدَهُ مَشْرُوعٌ وَيَكُونُ لِصَاحِبِهِ أَجْرُهُ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى سَدِّهَا - وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ - فَلَا شَكَّ أنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ مَمْنُوعٌ؛ وَمَنْعُهُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ مَلُومٌ عَلَيْهِ، وَمُوجِبٌ لِلذَّمِّ إِلَّا أنْ يُذْهَبَ إِلَى أنَّ النَّهْيَ فِيهِ راجعٌ إِلَى أَمْرٍ مُجَاوِرٍ، فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاشْتِبَاهٍ رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ انْفِكَاكُ الْأَمْرَيْنِ، بِحَيْثُ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ جِهَةِ مَآلِهِ، وَلَنَا فِيهِ مَسْلَكَانِ: (أَحَدُهُمَا) : التَّمَسُّكُ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬2) وَالنَّهْيُ أَصْلُهُ أنْ يَقَعَ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُعَلَّلًا، وَصَرْفُهُ إِلَى أَمْرٍ مُجَاوِرٍ خِلَافُ أَصْلِ الدَّلِيلِ، فَلَا يُعْدَلُ عَنِ الْأَصْلِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَكُلُّ عِبَادَةٍ نُهِيَ عَنْهَا فَلَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ، إِذْ لَوْ كَانَتْ عِبَادَةً لَمْ يُنْهَ عَنْهَا، فَالْعَامِلُ بِهَا عَامِلٌ بِغَيْرِ مَشْرُوعٍ فَإِذَا اعْتَقَدَ فِيهَا التَّعَبُّدَ مَعَ هَذَا النَّهْيِ كَانَ مبتدعاً بها. (الثَّانِي) : مَا دَلَّ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الذَّرَائِعِ عَلَى أنَّ الذَّرَائِعَ فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَذَرَّعِ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَهَلْ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وأُمه)) (¬3) فَجَعَلَ سَبَّ الرَّجُلِ لِوَالِدَيْ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ سَبِّهِ لِوَالِدَيْهِ نَفْسِهِ، حَتَّى تَرْجَمَهُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: ((أنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ)) وَلَمْ يَقُلْ: أنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْ مَنْ يَسُبُّ وَالِدَيْهِ، أو نحو ¬
ذَلِكَ، وَهُوَ غَايَةُ مَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الذَّرَائِعِ ثَبَتَ فِي الْجَمِيعِ، إِذْ لَا فَرْقَ فِيمَا لَمْ يَدَعْ مِمَّا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ، إِلَّا أُلْزِمَ الْخَصْمُ مِثْلَهُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَلَا عِبَادَةَ أَوْ مُبَاحًا يُتصور فِيهِ أنْ يَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى غَيْرِ جَائِزٍ إلاَّ وَهُوَ غَيْرُ عِبَادَةٍ وَلَا مُبَاحٍ. لَكِنَّ هَذَا الْقِسْمَ إنَّما يكون النهي بِحَسَبِ مَا يَصِيرُ وَسِيلَةً إِلَيْهِ فِي مَرَاتِبِ النَّهي، إنْ كَانَتِ الْبِدْعَةُ مِنْ قَبِيلِ الْكَبَائِرِ، فَالْوَسِيلَةُ كَذَلِكَ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الصَّغَائِرِ فَهِيَ كَذَلِكَ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَّسِعُ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الإشارة كافية فيها، وبالله التوفيق.
الباب السادس [في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة]
الباب السادس [في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة] - البدع إذا تؤمل معقولها وجدت رتبها مُتَفَاوِتَةً: - فَمِنْهَا مَا هُوَ كفرٌ صُراح، كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي نبَّه عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أزْوَاجِنَا، وإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ} (¬1) وَكَذَلِكَ بِدْعَةُ الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ اتَّخَذُوا الدِّينَ ذَرِيعَةً لِحِفْظِ النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لا يُشك أَنَّهُ كُفْرٌ صُرَاحٌ. - وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَتْ بكفرٍ أَوْ يُختلف هَلْ هِيَ كفرٌ أَمْ لَا! كبدعةِ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ. - ومنها ما هو معصية ويتفق عليها ليست بكفرٍ كبدعةِ التَّبَتُّلَ وَالصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، والخِصاء بِقَصْدِ قَطْعِ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ. - وَمِنْهَا مَا هو مكروه: كالاجتماع لِلدُّعَاءِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَذِكْرُ السَّلَاطِينِ فِي خُطْبَةِ الجمعة وما أشبه ذلك. ¬
فَمَعْلُومٌ أنَّ هَذِهِ الْبِدَعَ لَيْسَتْ فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَصِحُّ مَعَ هَذَا أنْ يُقَالَ: إنَّها عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ، هُوَ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ، أو التحريم فقط. - إنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْهَا صَغَائِرُ وَمِنْهَا كَبَائِرُ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِكَوْنِهَا وَاقِعَةً فِي الضروريَّات أَوِ الحاجيَّات أَوِ التكميليَّات، فَإِنْ كَانَتْ فِي الضروريَّات فَهِيَ أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي التَّحْسِينَاتِ فَهِيَ أَدْنَى رُتْبَةٍ بِلَا إِشْكَالٍ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الحاجيَّات فمتوسطة بين الرتبتين. وأيضاً فإنَّ الضَّرُورِيَّاتِ إِذَا تُؤمِّلت وُجِدَتْ عَلَى مَرَاتِبَ فِي التَّأْكِيدِ وَعَدَمِهِ، فَلَيْسَتْ مَرْتَبَةُ النَّفْسِ كَمَرْتَبَةِ الدِّين، وَلَيْسَ تُستصغر حُرْمَةُ النَّفْسِ فِي جَنْبِ حُرْمَةِ الدِّين، فَيُبِيحُ الكفرُ الدمَ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الدِّينِ مبيحٌ لِتَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْقَتْلِ وَالْإِتْلَافِ، فِي الْأَمْرِ بِمُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ وَالْمَارِقِينَ عَنِ الدِّينِ. وَمَرْتَبَةُ الْعَقْلِ وَالْمَالِ لَيْسَتْ كَمَرْتَبَةِ النَّفْسِ، أَلَا تَرَى أنَّ قَتْلَ النَّفْسِ مبيحٌ لِلْقِصَّاصِ؟ فَالْقَتْلُ بِخِلَافِ الْعَقْلِ وَالْمَالِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا بَقِيَ، وَإِذَا نَظَرْتَ فِي مَرْتَبَةِ النَّفْسِ تَبَايَنَتِ الْمَرَاتِبُ، فَلَيْسَ قَطْعُ الْعُضْوِ كَالذَّبْحِ، وَلَا الْخَدْشُ كَقَطْعِ الْعُضْوِ وَهَذَا كُلُّهُ مَحَلُّ بَيَانِهِ الأُصول. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالْبِدَعُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي، وَقَدْ ثَبَتَ التَّفَاوُتُ فِي الْمَعَاصِي فَكَذَلِكَ يُتصور مِثْلُهُ فِي الْبِدَعِ، فَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ (أَيْ أنَّه إِخْلَالٌ بِهَا) وَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ الحاجيَّات، ومنها ما يقع في رتبة التحسينيَّات، وَمَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورِيَّاتِ، مِنْهُ مَا يَقَعُ فِي الدِّينِ أَوِ النَّفْسِ أَوِ النَّسْلِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْمَالِ. - فَمِثَالُ وُقُوعِهِ فِي الدين اخْتِرَاعِ الْكُفَّارِ وَتَغْيِيرِهِمْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيْرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلَا حامٍ} (¬1) . - وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مَا ذُكِرَ مِنْ نِحَل الْهِنْدِ فِي تَعْذِيبِهَا أَنْفُسِهَا بِأَنْوَاعِ العذاب الشنيع، والتمثيل الفظيع، وَالْقَتْلِ بِالْأَصْنَافِ الَّتِي تَفْزع مِنْهَا الْقُلُوبُ وَتَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، كلُّ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ اسْتِعْجَالِ الْمَوْتِ لِنَيْلِ الدَّرَجَاتِ العُلى - فِي زَعْمِهِمْ - وَالْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ الْأَكْمَلِ، بَعْدَ الْخُرُوجِ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ الْعَاجِلَةِ، ومبنيٌ عَلَى أصولٍ لَهُمْ فَاسِدَةٍ اعْتَقَدُوهَا وبنوا عليها أعمالهم، وَيَجْرِي مَجْرَى إِتْلَافِ النَّفْسِ إِتْلَافَ بَعْضِهَا، كَقَطْعِ عُضْوٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ أَوْ تَعْطِيلِ مَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِهِ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِذَلِكَ، فَهُوَ من جملة البدع. - وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي النَّسل مَا ذُكِرَ مِنْ أَنْكِحَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَعْهُودَةً فِيهَا وَمَعْمُولًا بِهَا، وَمُتَّخَذَةً فِيهَا كَالدِّينِ الْمُنْتَسِبِ وَالْمِلَّةِ الْجَارِيَةِ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِي شَرِيعَةِ إبراهيم عليه ¬
السَّلَامُ وَلَا غَيْرِهِ، بَلْ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ ما اخترعوا وابتدعوا. - وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي الْعَقْلِ، أنَّ الشَّرِيعَةَ بَيَّنَتْ أنَّ حُكْمَ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ فِي دِينِهِ عَلَى ألسنة أنبيائه ورسله، ولذلك قال تَعَالَى: {فَإنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرَّسُولِ} (¬1) . فَخَرَجَتْ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ فِرقةٌ زَعَمَتْ أنَّ الْعَقْلَ لَهُ مَجَالٌ فِي التَّشْرِيعِ، وأنَّه محسِّن ومُقبِّح، فَابْتَدَعُوا فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَيْسَ فيه. وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي الْمَالِ، أنَّ الْكُفَّارَ قالوا: (إنَّما الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) ، فإنَّهم ¬
فصل [كل بدعة ضلالة]
لما استحلوا العمل به احتجوا بقياس فاسد. فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَدَّ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: {ذَلِكَ بأنَّهُمْ قَالُوا إنَّما الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} (¬1) لَيْسَ الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، فَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ أَخَذُوا بِهَا مُسْتَنِدِينَ إِلَى رأيٍ فَاسِدٍ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحْدَثَاتِ، كَسَائِرِ مَا أَحْدَثُوا فِي الْبُيُوعِ الجارية بينهم المبينة على الخطر والغرر. فصل [كلُّ بدعة ضلالة] إِذَا تَقَرَّرَ أنَّ الْبِدَعَ لَيْسَتْ فِي الذَّمِّ وَلَا فِي النَّهْيِ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وأنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، كَمَا أنَّ مِنْهَا مَا هُوَ محرَّم، فَوَصْفُ الضَّلَالَةِ لَازِمٌ لَهَا وَشَامِلٌ لِأَنْوَاعِهَا لِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((كلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)) . لَكِنْ يبقى ها هنا إِشْكَالٌ، وَهُوَ أنَّ الضَّلَالَةَ ضِدَّ الْهُدَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى} (¬2) ، وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هَاد} (¬3) ، {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِل} (¬4) ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا قُوبِلَ فِيهِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ فإنَّه يَقْتَضِي أنَّهما ضِدَّانِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ تُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ، فَدَلَّ عَلَى أنَّ الْبِدَعَ الْمَكْرُوهَةَ خروجٌ عَنِ الْهُدَى. وَنَظِيرِهِ فِي الْمُخَالَفَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِبِدَعٍ، الْمَكْرُوهَةُ مِنَ الْأَفْعَالِ، كَالِالْتِفَاتِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، والصلاة وهو يدافعه الأخبثان ¬
وما أشبه ذلك. فَالْمُرْتَكِبُ لِلْمَكْرُوهِ لَا يَصِحُّ أنْ يُقَالَ فِيهِ مُخَالِفٌ وَلَا عَاصٍ، مَعَ أنَّ الطَّاعَةَ ضِدُّهَا المعصية، فَإِذَا اعْتَبَرْتَ الضِّدَّ لَزِمَ أنْ يَكُونَ فَاعِلُ الْمَكْرُوهِ عَاصِيًا لأنَّه فَاعِلٌ مَا نُهي عَنْهُ، لَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ إِذْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ عَاصٍ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ فَاعِلُ الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ ضَالًّا، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ اعْتِبَارِ الضِّدِّ فِي الطَّاعَةِ وَاعْتِبَارِهِ فِي الْهُدَى، فَكَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ لَفْظُ الضَّلَالَةِ، فَكَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ، وَإِلَّا فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ لَفْظُ الضَّلَالَةِ، كَمَا لَا يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ لَفْظُ المعصية. وَالْجَوَابُ: أنَّ عُمُومَ لَفْظِ الضَّلَالَةِ لِكُلِّ بِدْعَةٍ ثابت، وَمَا الْتَزَمْتُمْ فِي الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ غَيْرُ لَازِمٍ، فإنَّه لَا يَلْزَمُ فِي الْأَفْعَالِ أنْ تَجْرِيَ عَلَى الضِّدِّيَّة الْمَذْكُورَةِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِقْرَاءِ الشَّرْعِ، فَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ ضِدَّانِ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، وإنَّما يَتَعَلَّقُ بِهَا التخيير. وإذا تأملنا المكروه وَجَدْنَاهُ ذَا طَرَفَيْنِ: طَرَفٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ منهيٌّ عَنْهُ؛ فَيَسْتَوِي مَعَ الْمُحَرَّمِ فِي مُطْلَقِ النَّهْيِ، فَرُبَّمَا يُتوهم أنَّ مُخَالَفَةَ نَهْيِ الْكَرَاهِيَةِ معصيةٌ مِنْ حَيْثُ اشْتَرَكَ مَعَ الْمُحَرَّمِ فِي مُطْلَقِ الْمُخَالَفَةِ. غَيْرَ أنَّه يَصُدُّ عَنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ الطَّرَفَ الْآخَرَ، وَهُوَ أنْ يُعْتَبَرَ مِنْ حَيْثُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فَاعِلِهِ ذَمٌّ شَرْعِيٌّ وَلَا إِثْمٌ وَلَا عِقَابٌ، فَخَالَفَ الْمُحَرَّمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَشَارَكَ الْمُبَاحَ فِيهِ، لأنَّ الْمُبَاحَ لَا ذَمَّ عَلَى فَاعِلِهِ وَلَا إِثْمَ وَلَا عِقَابَ، فَتَحَامَوْا أنْ يُطْلِقُوا عَلَى مَا هَذَا شَأْنُهُ عِبَارَةَ الْمَعْصِيَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَوَجَدْنَا بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَاسِطَةً يَصِحُّ أنْ يُنْسَبَ
إِلَيْهَا الْمَكْرُوهُ مِنَ الْبِدَعِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلاَّ الضَّلاَلُ} (¬1) فَلَيْسَ إلا حق، وهو الهدى، والضلال وَهُوَ الْبَاطِلُ فَالْبِدَعُ الْمَكْرُوهَةُ ضَلَالٌ. وأمَّا ثَانِيًا: فإنَّ إِثْبَاتَ قَسْمِ الْكَرَاهَةِ فِي الْبِدَعِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِمَّا يُنظر فِيهِ، فَلَا يَغْتَرُّ الْمُغْتَرُّ بِإِطْلَاقِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَفْظُ الْمَكْرُوهِ عَلَى بَعْضِ الْبِدَعِ وإنَّما حَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أنَّ الْبِدَعَ لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الذَّمِّ - كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ - وأمَّا تَعْيِينُ الْكَرَاهَةِ الَّتِي مَعْنَاهَا نَفْيُ إِثْمِ فَاعِلِهَا وَارْتِفَاعُ الْحَرَجِ ألبتَّة، فَهَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُوجَدُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ الشرع. وأمَّا كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فإنَّهم وَإِنْ أَطْلَقُوا الْكَرَاهِيَةَ فِي الأُمور الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لَا يَعْنُونَ بِهَا كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وإنَّما هَذَا اصْطِلَاحٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ حين أرادوا أنْ يفرقوا بين القَبِيلَيْن، فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وَيَخُصُّونَ كَرَاهِيَةَ التَّحْرِيمِ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالْمَنْعِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وأمَّا المُتَقَدِّمون مِنَ السَّلَفِ فإنَّهم لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ صَرِيحًا أنْ يَقُولُوا: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَيَتَحَامَوْنَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ خَوْفًا مِمَّا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُم الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (¬2) ، وَحَكَى مَالِكٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَا وُجِدَتْ فِي كَلَامِهِمْ فِي الْبِدْعَةِ أَوْ غَيْرِهَا ((أَكْرَهُ هَذَا، وَلَا أُحِبُّ هَذَا، وَهَذَا مَكْرُوهٌ)) وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا تقطعَنَّ عَلَى أنَّهم يُرِيدُونَ التَّنْزِيهَ فَقَطْ، فإنَّه إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ فِي جَمِيعِ الْبِدَعِ عَلَى أنَّها ضَلَالَةٌ فَمِنْ أَيْنَ يُعَدُّ فِيهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ؟ اللَّهُمَّ إِلَّا أنْ يُطْلِقُوا لفظ الكراهية على ما يكون ¬
فصل [هل في البدع صغائر وكبائر]
لَهُ أصلٌ فِي الشَّرْعِ، وَلَكِنْ يُعَارِضُهُ أَمْرٌ آخَرُ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ فَيُكْرَهُ لِأَجْلِهِ، لَا لأنَّه بدعة مكروهة. وأمَّا ثَالِثًا: فإنَّا إِذَا تَأَمَّلْنَا حَقِيقَةَ الْبِدْعَةِ - دقَّت أَوْ جلَّت - وَجَدْنَاهَا مُخَالِفَةً لِلْمَكْرُوهِ مِنَ المنهيات المخالَفة التامة. وبيان ذلك: أنَّ مُرْتَكِبَ الْمَكْرُوهِ إنَّما قَصْدُهُ نَيْلُ غَرَضِهِ وَشَهْوَتِهِ الْعَاجِلَةِ مُتَّكِلًا عَلَى العفوِ اللَّازِمِ فِيهِ، ورفعِ الْحَرَجِ الثَّابِتِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ إِلَى الطمع في رحمة الله أقرب فَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ وَيَرْجُوهُ، وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ شُعْبَتَانِ من شعب الإيمان. وَمُرْتَكِبُ أَدْنَى الْبِدَعِ يَكَادُ يَكُونُ عَلَى ضِدِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فإنَّه يَعُدُّ مَا دَخَلَ فِيهِ حَسَنًا، بَلْ يَرَاهُ أَوْلَى بِمَا حدَّ لَهُ الشارع، فأين مع هذا خَوْفُهُ أَوْ رَجَاؤُهُ؟ وَهُوَ يَزْعُمُ أنَّ طَرِيقَهُ أهدى سبيلاً، ونِحلته أولى بالاتباع. وَالْحَاصِلُ أنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وبين أدنى البدع بعيد الملتمس. فصل [هل في البدع صغائر وكبائر] وَهُوَ أنَّ الْمُحْرِمَ يَنْقَسِمُ فِي الشَّرْعِ إِلَى مَا هُوَ صَغِيرَةٌ وَإِلَى مَا هُوَ كَبِيرَةٌ، فَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ: إنَّها تَنْقَسِمُ إِلَى الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ اعْتِبَارًا بِتَفَاوُتِ دَرَجَاتِهَا - كَمَا تَقَدَّمَ - وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بأنَّ الْمَعَاصِيَ تَنْقَسِمُ إلى الصغيرة والكبيرة. وأقربُ وجهٍ يلتمس لهذا المطلب أنَّ الْكَبَائِرَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الْإِخْلَالِ بِالضَّرُورِيَّاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كلِّ ملِّة، وَهِيَ الدِّينُ وَالنَّفْسُ وَالنَّسْلُ والعقل
وَالْمَالُ، وَكُلُّ مَا نُصَّ عَلَيْهِ رَاجِعٌ إِلَيْهَا، وَمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ جَرَتْ فِي الِاعْتِبَارِ والنظر مجراها. فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي كَبَائِرَ الْبِدَعَ: مَا أَخَلَّ مِنْهَا بِأَصْلٍ مِنْ هَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، وما لا، فهي صغيرة، فكلما انحصرت كبائر المعاصي كذلك تنحصر كبائر البدع فَإِنْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّغِيرَةِ مُطْلَقًا، وإنَّما يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أنَّها تَتَفَاضَلُ، فَمِنْهَا ثَقِيلٌ وَأَثْقَلُ وَمِنْهَا خَفِيفٌ وَأَخَفُّ، وَالْخِفَّةُ هَلْ تَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ تُعَدُّ الْبِدْعَةُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ اللَّمَمِ؟ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ ظَهَرَ مَعْنَى الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ فِي الْمَعَاصِي غَيْرِ الْبِدَعِ. - وأمَّا فِي الْبِدَعِ فَثَبَتَ لَهَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا أنَّها مُضَادَّةٌ لِلشَّارِعِ وَمُرَاغَمَةٌ لَهُ، حَيْثُ نَصَّبَ الْمُبْتَدِعُ نَفْسَهُ نَصْبَ الْمُسْتَدْرِكِ عَلَى الشَّرِيعَةِ، لَا نَصْبَ الْمُكْتَفِي بِمَا حُدَّ لَهُ. وَالثَّانِي: أنَّ كلَّ بِدْعَةٍ - وَإِنْ قَلَّت - تشريعٌ زَائِدٌ أَوْ نَاقِصٌ، أَوْ تَغْيِيرٌ لِلْأَصْلِ الصَّحِيحِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَقَدْ يَكُونُ مُلْحَقًا بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ، فَيَكُونُ قَادِحًا فِي الْمَشْرُوعِ، وَلَوْ فَعَلَ أَحَدٌ مِثْلَ هَذَا فِي نَفْسِ الشَّرِيعَةِ عَامِدًا لكفر، إِذِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِيهَا أَوِ التَّغْيِيرُ - قلَّ أَوْ كَثُر كُفر، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَلَّ منه وما كثر، فَصَارَ اعْتِقَادُ الصَّغَائِرِ فِيهَا يَكَادُ يَكُونُ مِنَ المتشابهات، كما صار نفيُ الكراهة التنزيهية عَنْهَا مِنَ الْوَاضِحَاتِ. فَلْيُتأمل هَذَا الْمَوْضِعَ أَشَدَّ التَّأَمُّلِ ويُعطَ مِنَ الْإِنْصَافِ حَقَّهُ، وَلَا يُنظر إِلَى خِفَّةِ الْأَمْرِ فِي الْبِدْعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صُورَتِهَا وَإِنْ دقَّت، بَلْ يَنْظُرُ إِلَى مُصَادَمَتِهَا لِلشَّرِيعَةِ وَرَمْيِهَا لَهَا بِالنَّقْصِ وَالِاسْتِدْرَاكِ، وأنَّها لَمْ تَكمُل بَعْدُ حَتَّى
يُوضَعَ فِيهَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي فإنَّها لَا تَعُودُ عَلَى الشَّرِيعَةِ بِتَنْقِيصٍ وَلَا غضٍ مِنْ جَانِبِهَا، بَلْ صَاحِبُ الْمَعْصِيَةِ مُتنصل مِنْهَا، مُقِرٌّ لِلَّهِ بِمُخَالَفَتِهِ لِحُكْمِهَا. وَحَاصِلُ الْمَعْصِيَةِ أنَّها مُخَالِفَةٌ فِي فِعْلِ المكلَّف لِمَا يُعْتَقَدُ صِحَّتَهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَالْبِدْعَةُ حَاصِلُهَا مُخَالَفَةٌ فِي اعْتِقَادِ كَمَالِ الشريعة. ثُمَّ إنَّ الْبِدَعَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: كليَّة وجزئيَّة: فأمَّا الكليَّة: فَهِيَ السَّارِيَةُ فِيمَا لَا يَنْحَصِرُ مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَمِثَالُهَا بِدَعُ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ فإنَّها مُخْتَصَّةٌ بِالْكُلِّيَّاتِ مِنْهَا دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ. وأمَّا الْجُزْئِيَّةُ: فَهِيَ الْوَاقِعَةُ فِي الْفُرُوعِ الْجُزْئِيَّةِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ دُخُولُ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْبِدَعِ تَحْتَ الْوَعِيدِ بِالنَّارِ، وَإِنْ دَخَلَتْ تَحْتَ الْوَصْفِ بالضلال، فَعَلَى هَذَا إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْبِدْعَةِ وَصْفَانِ: كَوْنُهَا جُزْئِيَّةً وَكَوْنُهَا بِالتَّأْوِيلِ، صَحَّ أنْ تَكُونَ صغيرة والله أعلم. غَيْرَ أنَّ الكليَّة والجزئيَّة قَدْ تَكُونُ ظَاهِرَةً وَقَدْ تَكُونُ خفيَّة، كَمَا أنَّ التَّأْوِيلَ قَدْ يُقَرِّبُ مَأْخَذَهُ وَقَدْ يُبَعِّدُ، فَيَقَعُ الْإِشْكَالُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْفَصْلِ، فَيَعُدُّ كَبِيرَةً مَا هُوَ مِنَ الصَّغَائِرِ وَبِالْعَكْسِ، فَيُوكَلُ النَّظَرُ فيه إلى الاجتهاد.
فصل [شروط كون البدع صغيرة]
فصل [شروط كون البدع صغيرة] وَإِذَا قُلْنَا: إنَّ مِنَ الْبِدَعِ مَا يَكُونُ صَغِيرَةً؛ فَذَلِكَ بِشُرُوطٍ: (أَحَدُهَا) : أنْ لَا يُدَاوِمَ عَلَيْهَا، فإنَّ الصَّغِيرَةَ مِنَ الْمَعَاصِي لِمَنْ دَاوَمَ عليها تكبرُ بالنسبة إليه، لأنَّ ذلك ناشىء عَنِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ يُصَيِّرها كَبِيرَةً، وَلِذَلِكَ قَالُوا: ((لَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ)) . فَكَذَلِكَ الْبِدْعَةُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، إِلَّا أنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْ شَأْنِهَا فِي الْوَاقِعِ أنَّها قَدْ يُصِرُّ عَلَيْهَا، وَقَدْ لا يصر عليها، بِخِلَافِ الْبِدْعَةِ فإنَّ شَأْنَهَا فِي الْمُدَاوَمَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى أنْ لَا تُزَالَ مِنْ مَوْضِعِهَا وأنْ تقوم على تاركها القيامة. (الثَّانِي) : أنْ لَا يَدْعُوَ إِلَيْهَا، فإنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ صَغِيرَةً بِالْإِضَافَةِ، ثُمَّ يَدْعُو مُبْتَدِعُهَا إِلَى الْقَوْلِ بِهَا وَالْعَمَلِ عَلَى مُقْتَضَاهَا فَيَكُونُ إِثْمُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَيْهِ، فإنَّه الَّذِي أَثَارَهَا. فَرُبَّمَا تُسَاوِي الصغيرةُ - مِنْ هَذَا الْوَجْهِ - الكبيرةَ أَوْ تُرْبِي عَلَيْهَا. فَمِنْ حَقِّ الْمُبْتَدِعِ إِذَا ابْتُلِيَ بِالْبِدْعَةِ أنْ يَقْتَصِرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يحمل مع وزره وزر غيره. (الثَّالِثُ) : أنْ لَا تَفْعَلُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي هِيَ مُجْتَمَعَاتُ النَّاسِ، أَوِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ، وَتُظْهَرُ فِيهَا أَعْلَامُ الشَّرِيعَةِ؛ فأمَّا إظهارها في المجتمعات ممن يقتدي به، فَذَلِكَ مِنْ أَضَرِّ الْأَشْيَاءِ عَلَى سُنَّةِ الْإِسْلَامِ.
وأمَّا اتِّخَاذُهَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ فَهُوَ كَالدُّعَاءِ إِلَيْهَا بِالتَّصْرِيحِ، لأنَّ عَمَلَ إظهار الشرائع الإسلامية تُوهم أنَّ كلَّ مَا أُظهر فِيهَا فَهُوَ مِنَ الشَّعَائِرِ، فكأنَّ المُظْهِر لَهَا يَقُولُ: هَذِهِ سُنَّة فاتبعوها. (الرَّابِعُ) : أنْ لَا يَسْتَصْغِرَهَا وَلَا يَسْتَحْقِرُهَا - وَإِنْ فَرَضْنَاهَا صَغِيرَةً - فإنَّ ذَلِكَ اسْتِهَانَةٌ بِهَا، وَالِاسْتِهَانَةُ بالذنب أعظم من الذنب. فَإِذَا تَحَصَّلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فَإِذْ ذَاكَ يُرْجَى أنْ تَكُونَ صَغِيرَتُهَا صَغِيرَةً، فَإِنْ تخلَّف شرطٌ مِنْهَا أَوْ أَكْثَرُ صَارَتْ كَبِيرَةً، أَوْ خِيف أنْ تَصِيرَ كَبِيرَةً، كَمَا أنَّ الْمَعَاصِيَ كَذَلِكَ، والله أعلم.
الباب السابع [في الابتداع، هل يختص بالأمور العبادية؟ أو يدخل في العاديات]
الباب السابع [في الابتداع، هل يختصُّ بالأُمور العباديَّة؟ أو يدخل في العاديَّات] أفعالُ الْمُكَلَّفِينَ ـ بِحَسَبِ النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ فِيهَا ـ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ التَّعَبُّدَاتِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْعَادَاتِ. فأمَّا الأوَّل: فلا نظر فيه ها هنا. وأمَّا الثَّانِي: ـ وَهُوَ الْعَادِيُّ ـ فَظَاهِرُ النَّقْلِ عَنِ السَّلَفِ الأوَّلين أنَّ الْمَسْأَلَةَ تَخْتَلِفُ فِيهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُرشد كلامُه إِلَى أنَّ الْعَادِيَّاتِ كالعباديَّات، فَكَمَا أنَّا مَأْمُورُونَ فِي الْعِبَادَاتِ بِأَنْ لَا نحدث فيها، فكذلك العاديات وَالْجِنَايَاتُ كُلُّهَا عَادِيٌّ، لأنَّ أَحْكَامَهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى، وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ التَّعَبُّدِ، إِذْ هِيَ مُقَيَّدة بأُمور شَرْعِيَّةٍ لَا خِيرَةَ للمكلَّف فِيهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَ اشْتِرَاكُ الْقِسْمَيْنِ فِي مَعْنَى التَّعَبُّدِ، فَإِنْ جَاءَ الِابْتِدَاعُ فِي الأُمور الْعَادِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، صَحَّ دُخُولُهُ فِي العاديَّات كَالْعِبَادِيَّاتِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا حُكْمُ الباب، ويتبين ذلك [بمثال] وَضْعُ الْمُكُوسِ (¬1) فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ، فَلَا يَخْلُو هَذَا الْوَضْعُ المُحرَّم أَنْ يَكُونَ عَلَى قَصْدِ حَجْرِ التَّصَرُّفَاتِ وَقْتًا مَا، أَوْ فِي حَالَةٍ ما، لنيل حطام الدنيا، على هيئة غَصْبِ الْغَاصِبِ، وَسَرِقَةِ السَّارِقِ، وَقَطْعِ الْقَاطِعِ لِلطَّرِيقِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ يَكُونَ عَلَى قَصْدِ وَضْعِهِ عَلَى النَّاس كالدِّين الْمَوْضُوعِ وَالْأَمْرِ الْمَحْتُومِ عَلَيْهِمْ دَائِمًا، أَوْ فِي أَوْقَاتٍ مَحْدُودَةٍ، عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مَضْرُوبَةٍ، بِحَيْثُ تُضَاهِي الْمَشْرُوعَ الدَّائِمَ الَّذِي يُحمل عَلَيْهِ الْعَامَّةُ، وَيُؤْخَذُونَ بِهِ وَتُوَجَّهُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ مِنْهُ الْعُقُوبَةُ، كَمَا فِي أَخْذِ زَكَاةِ الْمَوَاشِي وَالْحَرْثِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فأمَّا الثَّانِي: فَظَاهِرٌ أنَّه بِدْعَةٌ، إِذْ هُوَ تَشْرِيعُ زَائِدٌ، وَإِلْزَامٌ للمكلِّفين يُضَاهِي إِلْزَامَهُمُ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَالدِّيَاتِ المضروبة، بَلْ صَارَ فِي حَقِّهِمْ كَالْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَاللَّوَازِمِ الْمَحْتُومَةِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَصِيرُ بِدْعَةً بِلَا شَكٍّ، لأنَّه شرعٌ مُستدرك، وسَنٌّ فِي التَّكْلِيفِ مَهْيَع (¬2) ، فَتَصِيرُ الْمُكُوسُ عَلَى هَذَا الْفَرْضِ لَهَا نَظَرَانِ: نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَى الْفَاعِلِ أَنْ يَفْعَلَهَا كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا اخْتِرَاعًا لِتَشْرِيعٍ يُؤْخَذُ بِهِ النَّاسُ إِلَى الْمَوْتِ كَمَا يُؤْخَذُونَ بِسَائِرِ التَّكَالِيفِ، فَاجْتَمَعَ فِيهَا نَهْيَانِ: نَهْيٌ عَنِ المعصية، ونَهْيٌ عن البدعة. فَالْحَاصِلُ أنَّ أَكْثَرَ الْحَوَادِثِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أنَّها تَقَعُ وَتَظْهَرُ وَتَنْتَشِرُ أُمور مُبْتَدَعَةٌ عَلَى مُضَاهَاةِ التَّشْرِيعِ، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ التَّعَبُّدِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا عَادِيَّةً، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ بِدْعَةٌ، وَالْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ. وإنَّ الْعَادِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ عَادِيَّةٌ لَا بِدْعَةَ فِيهَا، وَمِنْ حَيْثُ يُتَعبَّد بِهَا أو ¬
فصل [في أقسام نشوء البدع]
تُوضَعُ وَضْعَ التَّعَبُّدِ تَدْخُلُهَا الْبِدْعَةُ، وَحَصَلَ بِذَلِكَ اتِّفَاقُ الْقَوْلَيْنِ، وَصَارَ الْمَذْهَبَانِ مَذْهَبًا وَاحِدًا، وباللهِ التوفيق. فصل [في أقسام نشوء البدع] البدعة تنشأُ عَنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا) : ـ وَهُوَ أَظْهَرُ الأقسام ـ أن يخترعها المبتدع. (الثاني) : أَنْ يَعْمَلَ بِهَا الْعَالِمُ عَلَى وَجْهِ الْمُخَالَفَةِ، فيفهمها الجاهل مشروعة. (الثالث) : أَنْ يَعْمَلَ بِهَا الْجَاهِلُ مَعَ سُكُوتِ الْعَالِمِ عَنِ الْإِنْكَارِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَيَفْهَمَ الْجَاهِلُ أنَّها ليست بمخالفة. (الرابع) : مِنْ بَابِ الذَّرَائِعِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِي أَصْلِهِ مَعْرُوفًا، إِلَّا أنَّه يَتَبَدَّلُ الِاعْتِقَادُ فِيهِ مَعَ طُولِ الْعَهْدِ بِالذِّكْرَى. إِلَّا أنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ لَيْسَتْ عَلَى وِزانٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَقَعُ اسْمُ الْبِدْعَةِ عَلَيْهَا بِالتَّوَاطُؤِ، بَلْ هِيَ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ عَلَى تَفَاوُتٍ؛ فالأوَّل هُوَ الْحَقِيقُ بِاسْمِ الْبِدْعَةِ، فإنَّها تُؤْخَذُ عِلَّةً بِالنَّصِّ عَلَيْهَا، وَيَلِيهِ الْقِسْمُ الثَّانِي، فإنَّ الْعَمَلَ يُشْبِهُهُ التَّنْصِيصُ بِالْقَوْلِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ أَبْلَغَ مِنْهُ في مواضع، لأنَّ الصَّوَارِفَ لِلْقُدْرَةِ كَثِيرَةٌ، قَدْ يَكُونُ التَّرْكُ لِعُذْرٍ بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فإنَّه لَا عُذْرَ فِي فعل الإنسان بالمخالفة، مع علمه بكونها مخالفة.
وَيَلِيهِ الْقِسْمُ الرَّابِعُ، لأنَّ الْمَحْظُورَ الْحَالِيَّ فِيمَا تَقَدَّمَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِيهِ بِالْعَرْضِ، فَلَا تَبْلُغُ المفسدة المتوقعة أن تساوي رُتْبَةَ الْوَاقِعَةِ أَصْلًا، فَلِذَلِكَ كَانَتْ مِنْ بَابِ الذَّرَائِعِ، فَهِيَ إِذًا لَمْ تَبْلُغْ أَنْ تَكُونَ فِي الْحَالِ بِدْعَةً، فَلَا تَدْخُلُ بِهَذَا النَّظَرِ تَحْتَ حَقِيقَةِ الْبِدْعَةِ. وأمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَالْمُخَالَفَةُ فِيهِ بِالذَّاتِ، وَالْبِدْعَةُ مِنْ خَارِجٍ، إِلَّا أنَّها لَازِمَةٌ لُزُومًا عَادِيًّا، وَلُزُومُ الثَّانِي أَقْوَى من لزوم الثالث، واللهُ أعلم.
الباب الثامن [في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان]
الباب الثامن [في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان] هَذَا الْبَابُ يُضْطَرُّ إِلَى الْكَلَامِ فِيهِ عِنْدَ النَّظَرِ فِيمَا هُوَ بِدْعَةٌ وَمَا لَيْسَ بِبِدْعَةٍ فإنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عدُّوا أَكْثَرَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بِدَعًا، وَنَسَبُوهَا إِلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجَعَلُوهَا حُجَّةً فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ اخْتِرَاعِ الْعِبَادَاتِ، وقومٌ جَعَلُوا الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ بِأَقْسَامِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، فَقَالُوا: إنَّ مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ، وعدُّوا مِنَ الْوَاجِبِ كَتْبَ الْمُصْحَفِ وَغَيْرِهِ، وَمِنَ المندوب الاجتماع في قيام رمضان على قارىء وَاحِدٍ. وَأَيْضًا فإنَّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى اعْتِبَارِ الْمُنَاسِبِ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ معيَّن، فَلَيْسَ لَهُ عَلَى هَذَا شَاهِدٌ شَرْعِيٌّ عَلَى الْخُصُوصِ، وَلَا كَوْنُهُ قِيَاسًا بِحَيْثُ إِذَا عُرض عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْبِدَعِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، فإنَّها رَاجِعَةٌ إِلَى أُمور فِي الدِّينِ مَصْلَحِيَّةٍ ـ فِي زَعْمِ وَاضِعِيهَا ـ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْخُصُوصِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ حَقًّا، فَاعْتِبَارُ الْبِدَعِ الْمُسْتَحْسَنَةِ حَقٌّ، لأنَّهما يَجْرِيَانِ مِنْ وادٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اعْتِبَارُ الْبِدَعِ حَقًّا، لَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ. وَأَيْضًا فإنَّ الْقَوْلَ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لَيْسَ مُتَّفَقاً عَلَيْهِ، بل قد اختلف فيه أهل الأُصول.
وكذلك القول في الاستحسان فإنَّه رَاجِعٌ إِلَى الْحُكْمِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَالنَّافِي لَهُ لَا يَعُدُّ الِاسْتِحْسَانَ سَبَبًا فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْأَحْكَامِ البتَّة، فَصَارَ كَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ إِذَا قِيلَ بردِّها. فلمَّا كَانَ هَذَا الْمَوْضِعُ مزلَّةَ قدمٍ لِأَهْلِ الْبِدَعِ أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى بِدْعَتِهِمْ مِنْ جِهَتِهِ، كَانَ الْحَقُّ الْمُتَعَيَّنُ النَّظَرَ فِي مَنَاطِ الْغَلَطِ الْوَاقِعِ لِهَؤُلَاءِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ أنَّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْبِدَعِ فِي وِرْد وَلَا صَدَر، بِحَوْلِ اللهِ، واللهُ الْمُوَفِّقُ، فَنَقُولُ: الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ: الَّذِي يُربط بِهِ الْحُكْمُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: (أَحَدُهَا) : أَنْ يَشْهَدَ الشَّرْعُ بِقَبُولِهِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي إِعْمَالِهِ، وَإِلَّا كَانَ مُنَاقَضَةً لِلشَّرِيعَةِ، كَشَرِيعَةِ القِصاص حفظاً للنفوس والأطراف وغيرها. (الثاني) : مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بردِّه فَلَا سَبِيلَ إِلَى قبوله باتفاق المسلمين. (الثَّالِثُ) : مَا سَكَتَتْ عَنْهُ الشَّوَاهِدُ الْخَاصَّةُ، فَلَمْ تَشْهَدْ بِاعْتِبَارِهِ وَلَا بِإِلْغَائِهِ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرِد نصٌ عَلَى وِفق ذَلِكَ الْمَعْنَى، كَتَعْلِيلِ مَنْعِ الْقَتْلِ لِلْمِيرَاثِ، فَالْمُعَامَلَةُ بِنَقِيضِ المقصود تَقْدِيرِ إنْ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ عَلَى وِفقه، فإنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ لَا عَهْدَ بِهَا فِي تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ بِالْفَرْضِ وَلَا بِمُلائمها بِحَيْثُ يُوجَدُ لَهَا جِنْسٌ مُعْتَبَرٌ، فَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهَا، وَلَا بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقٍ، وَمِثْلُ هَذَا تَشْرِيعٌ مِنَ الْقَائِلِ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ قَبُولُهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُلَائِمَ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى جِنْسٌ اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِي الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ الْمُرْسَلُ، الْمُسَمَّى بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ (¬1) وَلَا بُدَّ مِنْ بَسْطِهِ بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول اللهِ. (المثال الأوَّل) أنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - اتفقوا على جمع المصحف، وليس تَمَّ نصٌ عَلَى جَمْعِه وكَتْبِه أَيْضًا، بَلْ قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَيْفَ نَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَرُوي عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَرْسَلَ إليَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مقتلَ (أَهْلِ) الْيَمَامَةِ، وَإِذَا عِنْدَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: (إنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ) : إنَّ الْقَتْلَ قَدِ استحرَّ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وإنِّي أَخْشَى أَنْ يستحرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وإنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، ((قَالَ)) : فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ لِي: هُوَ ـ واللهِِ ـ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لَهُ، وَرَأَيْتُ فِيهِ الَّذِي رَأَى عُمَرُ. قَالَ ((زَيْدٌ)) : فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّك رجلٌ شابٌ عاقلٌ لَا نَتَّهِمُكَ، قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَتَتَبْعَ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، قَالَ ((زَيْدٌ)) : فواللهِ لَوْ كلفَّوني نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عليَّ مِنْ ذَلِكَ. فَقُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ واللهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ أبو بكر حتى شرح اللهُ صدري للذي شرح له صدورهما فتتبعت القرآن أجمعه من الرِّقَاعِ والعُسُبِ واللِّخَاف (¬2) ،وَمِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ (¬3) فَهَذَا عَمَلٌ لم ينقل فيه ¬
خلاف عن أحد من الصحابة. وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا صَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْهُ مَصْلَحَةً تُنَاسِبُ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ قَطْعًا، فإنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى حِفْظِ الشَّرِيعَةِ، وَالْأَمْرُ بِحِفْظِهَا مَعْلُومٌ، وَإِلَى مَنْعِ الذَّرِيعَةِ لِلِاخْتِلَافِ فِي أَصْلِهَا الذي هو القرآن. وَإِذَا اسْتَقَامَ هَذَا الْأَصْلُ فَاحْمِلْ عَلَيْهِ كَتْبَ الْعِلْمِ مِنَ السُّنَنِ وَغَيْرِهَا، إِذَا خِيفَ عَلَيْهَا الِانْدِرَاسُ، زِيَادَةً عَلَى مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ من الأمر بِكَتْبِ العلم. (المثال الثاني) إنَّ الخلفاء الرَّاشدين قَضُوا بتضمين الصناع (¬1) ، وَوَجْهُ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ أنَّ النَّاسَ لَهُمْ حَاجَةٌ إِلَى الصنَّاع، وَهُمْ يَغِيبُونَ عَنِ الْأَمْتِعَةِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَالْأَغْلَبُ عَلَيْهِمُ التَّفْرِيطُ وَتَرْكُ الْحِفْظَ، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ تَضْمِينُهُمْ مَعَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى اسْتِعْمَالِهِمْ لَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا تَرْكُ الِاسْتِصْنَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ شاقٌ عَلَى الْخَلْقِ، وإمَّا أَنْ يَعْمَلُوا وَلَا يُضَمَّنُوا ذَلِكَ بِدَعْوَاهُمُ الْهَلَاكَ وَالضَّيَاعَ، فَتَضِيعُ الْأَمْوَالُ، وَيَقِلُّ الِاحْتِرَازُ، وتتطرق الخيانة؛ فكانت المصلحة التضمين. وَلَا يُقَالُ: إنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنَ الْفَسَادِ وَهُوَ تَضْمِينُ الْبَرِيءِ، إِذْ لَعَلَّهُ مَا أَفْسَدَ، وَلَا فَرَّط؛ فَالتَّضْمِينُ مَعَ ذَلِكَ كَانَ نَوْعًا مِنَ الْفَسَادِ، لأنَّا نَقُولُ: إِذَا تَقَابَلَتِ الْمَصْلَحَةُ والمضرة فشأن العقلاء النظر إلى التفاوت ووقوع التَّلَفِ مِنَ الصنَّاع مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبٍ وَلَا تَفْرِيطٍ بَعِيدٌ، وَالْغَالِبُ الْفَوْتِ فَوْتُ الْأَمْوَالِ، وأنَّها لَا تَسْتَنِدُ إِلَى التَّلَفِ السَّمَاوِيِّ، بَلْ تَرْجِعُ إِلَى صُنْعِ الْعِبَادِ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ أَوِ التَّفْرِيطِ. ¬
(المثال الثالث) إنَّا إِذَا قَرَّرْنَا إِمَامًا مُطَاعًا مُفْتَقِراً إِلَى تكثيرِ الْجُنُودِ لِسَدِّ الثُّغُورِ وَحِمَايَةِ الْمُلْكِ، الْمُتَّسِعِ الْأَقْطَارِ، وَخَلَا بَيْتُ الْمَالِ، وَارْتَفَعَتْ حَاجَاتُ الْجُنْدِ إلى مالا يَكْفِيهِمْ، فَلِلْإِمَامِ إِذَا كَانَ عَدْلًا أَنْ يوظِّف عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مَا يَرَاهُ كَافِيًا لَهُمْ فِي الْحَالِ، إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ. وإنَّما لَمْ يُنقل مِثْلُ هَذَا عَنِ الأوَّلين لِاتِّسَاعِ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فِي زَمَانِهِمْ بِخِلَافِ زَمَانِنَا، فإنَّ الْقَضِيَّةَ فِيهِ أَحْرَى، وَوَجْهُ الْمَصْلَحَةِ هَنَا ظَاهِرٌ؛ فإنَّه لَوْ لَمْ يَفْعَلِ الْإِمَامُ ذلك النظام صارت ديارُنا عُرضة لاستيلاء الكفار، وَشَرْطُ جَوَازِ ذَلِكَ كُلِّهِ عِنْدَهُمْ عَدَالَةُ الْإِمَامِ، وَإِيقَاعُ التَّصَرُّفِ فِي أَخْذِ الْمَالِ وَإِعْطَائِهِ عَلَى الوجه المشروع. (المثال الرابع) أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، والمُستند فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ؛ إِذْ لَا نَصَّ عَلَى عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ وَلَكِنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي اللهُ عنه. ووجه المصلحة أنَّ الْقَتِيلِ مَعْصُومٌ، وَقَدْ قُتل عَمْدًا، فَإِهْدَارُهُ دَاعٍ إِلَى خَرْمِ أَصْلِ الْقَصَاصِ، وَاتِّخَاذِ الِاسْتِعَانَةِ وَالِاشِتِرَاكَ ذَرِيعَةً إِلَى السَّعْيِ بِالْقَتْلِ إِذَا عُلِمَ أنَّه لَا قَصَاصَ فِيهِ، وَلَيْسَ أَصْلُهُ قَتْلَ الْمُنْفَرِدِ فإنَّه قَاتِلٌ تَحْقِيقًا، وَالْمُشْتَرِكُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ تَحْقِيقًا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا أمرٌ بديعٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ قَتْلُ غَيْرِ الْقَاتِلِ، قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَمْ يُقْتَلُ إِلَّا الْقَاتِلُ، وَهُمْ الْجَمَاعَةُ من حيث الاجتماع، وَقَدْ دَعَتْ إِلَيْهِ الْمَصْلَحَةُ فَلَمْ يَكُنْ مُبْتَدِعًا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ في حقن الدماء.
فهذه أمثلة تُوَضِّحُ لَكَ الْوَجْهَ الْعَمَلِيَّ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَتُبَيِّنُ لَكَ اعْتِبَارَ أُمور: (أَحَدُهَا) : الملاءَمة لِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ بِحَيْثُ لَا تُنَافِي أَصْلًا مِنْ أُصوله ولا دليلاًمن دلائله. (الثاني) : أنَّ عَامَّةَ النَّظَرِ فِيهَا إنَّما هُوَ فِيمَا عَقُل منها وجرى على دون الْمُنَاسِبَاتِ الْمَعْقُولَةِ الَّتِي إِذَا عُرضت عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهَا بِالْقَبُولِ، فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي التعبُّدات، وَلَا مَا جَرَى مَجْرَاهَا مِنَ الأُمور الشَّرْعِيَّةِ، لأنَّ عَامَّةَ التَّعَبُّدَاتِ لَا يُعقل لَهَا مَعْنًى عَلَى التَّفْصِيلِ، كَالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي زَمَانٍ مخصوص دون غيره، والحج، ونحو ذلك. (الثالث) : أنَّ حَاصِلَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ يَرْجِعُ إِلَى حفظِ أمرٍ ضَرُورِيٍّ، وَرَفْعِ حرجٍ لازمٍ فِي الدِّينِ، وَأَيْضًا مَرجْعِهُا إِلَى حِفْظِ الضَّرُورِيِّ مِنْ بَابِ ((ما لم يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ ... )) فَهِيَ إِذًا مِنَ الْوَسَائِلِ لَا مِنَ الْمَقَاصِدِ، وَرُجُوعُهَا إِلَى رَفْعِ الْحَرَجِ راجعٌ إِلَى بَابِ التَّخْفِيفِ لَا إِلَى التشديد. إِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ عُلم أنَّ الْبِدَعَ كَالْمُضَادَّةِ لِلْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لأنَّ مَوْضُوعَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ مَا عَقُل مَعْنَاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ، والتعبُّدات مِنْ حَقِيقَتِهَا أَنْ لَا يُعقل مَعْنَاهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَقَدْ مَرَّ أنَّ الْعَادَاتِ إِذَا دَخَلَ فِيهَا الِابْتِدَاعُ فإنَّما يَدْخُلُهَا مِنْ جِهَةٍ مَا فِيهَا مِنَ التَّعَبُّدِ لَا بِإِطْلَاقٍ. وَأَيْضًا فإنَّ الْبِدَعَ فِي عَامَّةِ أَمْرِهَا لَا تُلَائِمُ مَقَاصِدَ الشَّرْعِ، بَلْ إنَّما تُتَصور عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا مناقضة لمقصوده، وإمَّا مسكوتاً عنه فيه. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى اطِّراح الْقِسْمَيْنِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِمَا، وَلَا يُقَالُ: إنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ يَلْحَقُ بِالْمَأْذُونِ فِيهِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ
فصل [في الفرق بين البدع والاستحسان]
الْمُلَاءَمَةِ، ولأنَّ الْعِبَادَاتِ لَيْسَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْعَادَاتِ فِي أنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ كَالْمَأْذُونِ فِيهِ ـ إنْ قِيلَ بِذَلِكَ ـ فَهِيَ تُفَارِقُهَا، إِذْ لَا يُقْدَمُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ عِبَادَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا؛ لأنَّها مَخْصُوصَةٌ بِحُكْمِ الْإِذْنِ المُصَرَّح بِهِ، بِخِلَافِ الْعَادَاتِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مَا تَقَدَّمَ مِنِ اهْتِدَاءِ الْعُقُولِ لِلْعَادِيَّاتِ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَدَمِ اهْتِدَائِهَا لِوُجُوهِ التَّقَرُّبَاتِ إلى اللهِ تعالى. فإذا ثبت أنَّ المصالح المرسلة ترجع إمَّا إِلَى حِفْظِ ضَرُورِيٍّ مِنْ بَابِ الْوَسَائِلِ أَوْ إِلَى التَّخْفِيفِ؛ فَلَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُ الْبِدَعِ مِنْ جِهَتِهَا وَلَا الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ؛ لأنَّ الْبِدَعَ مِنْ بَابِ الْوَسَائِلِ، لأنَّها مُتَعبَّدٌ بِهَا بِالْفَرْضِ، ولأنَّها زيادة في التكليف وهو مضادٌ لِلتَّخْفِيفِ. فَحَصَلَ مِنْ هَذَا كلِّه أَنْ لَا تعلَّق لِلْمُبْتَدِعِ بِبَابِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ إِلَّا الْقِسْمَ الْمُلْغَى بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وحسبُك بِهِ متعلَّقاً، واللهُ الْمُوَفِّقُ. وَبِذَلِكَ كُلِّهِ يُعلم مِنْ قصدِ الشَّارِعِ أنَّه لَمْ يَكِلْ شَيْئًا مِنَ التَّعَبُّدَاتِ إِلَى آرَاءِ الْعِبَادِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حدَّه، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ؛ كَمَا أنَّ النقصان منه بدعة. فصل [في الفرق بين البدع والاستحسان] وأمَّا الِاسْتِحْسَانُ؛ فلأنَّ لِأَهْلِ الْبِدَعِ أَيْضًا تعلَّقاً بِهِ؛ فإنَّ الِاسْتِحْسَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمُستحسِن، وَهُوَ إمَّا الْعَقْلُ أَوِ الشَّرْعُ. أمَّا الشَّرْعُ فَاسْتِحْسَانُهُ وَاسْتِقْبَاحُهُ قَدْ فُرِغ مِنْهُمَا، لأنَّ الْأَدِلَّةَ اقتضت ذلك
فَلَا فَائِدَةَ لِتَسْمِيَتِهِ اسْتِحْسَانًا، وَلَا لِوَضْعِ ترجمةٍ لَهُ زَائِدَةٍ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَمَا ينشأُ عَنْهَا مِنَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِدْلَالِ؛ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَقْلُ هُوَ المُستحسِن، فَإِنْ كَانَ بِدَلِيلٍ فَلَا فَائِدَةَ لِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ، لِرُجُوعِهِ إِلَى الْأَدِلَّةِ لَا إِلَى غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَذَلِكَ هُوَ الْبِدْعَةُ الَّتِي تُسْتَحْسَن. وَيَشْهَدُ [لِذَلِكَ] قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي الِاسْتِحْسَانِ: إنَّه [مَا] يَسْتَحْسِنُهُ الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ وَيَمِيلُ إِلَيْهِ بِرَأْيِهِ، قَالُوا: وَهُوَ عِنْدُ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ مَا يُستحسن فِي الْعَوَائِدِ، وَتَمِيلُ إِلَيْهِ الطِّبَاعُ؛ فَيَجُوزُ الْحُكْمُ بِمُقْتَضَاهُ إِذَا لَمْ يُوجَدُ فِي الشَّرْعِ مَا ينافي هذا الكلام. وَرُبَّمَا يَنْقَدِحُ لِهَذَا الْمَعْنَى وجهٌ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي استدلَّ بِهَا أَهْلُ التَّأْوِيلِ الأوَّلون، وَقَدْ أَتَوْا بِثَلَاثَةِ أَدِلَّةٍ: (أَحَدُهَا) : قَوْلُ اللهِ سُبْحَانَهُ: {وَاتَّبِعُوا أحْسنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬1) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ} (¬2) ، هو ما تستحسنه عقولُهم. (الثاني) : قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ)) (¬3) ، وإنَّما يَعْنِي بِذَلِكَ مَا رَأَوْه بِعُقُولِهِمْ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ حُسْنُه بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ لَمْ يَكُنْ مِنْ حُسْنِ مَا يَرَوْن، إذْ لَا مَجَالَ لِلْعُقُولِ فِي التَّشْرِيعِ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْحَدِيثِ فَائِدَةٌ، فدلَّ عَلَى أنَّ الْمُرَادَ مَا رَأَوْهُ برأيهم. (الثالث) : أنَّ الْأُمَّةَ قَدِ اسْتَحْسَنَتْ دُخُولَ الحمَّام مِنْ غير تقدير أجرة ولا ¬
تَقْدِيرِ مُدَّةِ اللَّبث وَلَا تَقْدِيرِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَلَا سَبَبَ لِذَلِكَ إِلَّا أنَّ الْمُشَاحَّةَ فِي مِثْلِهِ قَبِيحَةٌ فِي الْعَادَةِ، فَاسْتَحْسَنَ النَّاسُ تَرْكَهُ، مَعَ أنَّا نَقْطَعُ أنَّ الْإِجَارَةَ الْمَجْهُولَةَ، أَوْ مُدَّةَ الِاسْتِئْجَارِ أَوْ مِقْدَارَ الْمُشْتَرَى إِذَا جُهِلَ فإنَّه مَمْنُوعٌ، وَقَدِ اسْتُحْسِنْتَ إِجَارَتُهُ مَعَ مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ، فَأَوْلَى أَنْ يُجَوَّزَ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ دَلِيلًا. فَأَنْتَ تَرَى أنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ مَزَلَّةُ قَدَمٍ أَيْضًا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْتَدِعَ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: إنْ استحسنتُ كَذَا وَكَذَا فَغَيْرِي مِنَ الْعُلَمَاءِ قَدِ اسْتَحْسَنَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ فَضْلِ اعْتِنَاءٍ بِهَذَا الْفَصْلِ، حَتَّى لَا يَغْتَرَّ بِهِ جاهلٌ أَوْ زاعمٌ أنَّه عَالَمٌ، وباللهِ التَّوْفِيقُ، فَنَقُولُ: إنَّ الِاسْتِحْسَانَ يَرَاهُ مُعتبراً فِي الْأَحْكَامِ مالكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ فإنَّه مُنْكِرٌ لَهُ جِدًّا حَتَّى قال: ((من استحسن فقد شَرَّع)) والذي يستقرىء مِنْ مَذْهَبِهِمَا أنَّه يَرْجِعُ إِلَى الْعَمَلِ بِأَقْوَى الدليلين، وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إنَّه الْقِيَاسُ الَّذِي يَجِبُ العمل به بَلْ قَدْ جَاءَ عَنْ مَالِكٍ أنَّ الِاسْتِحْسَانَ تسعة أعشار العلم. وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْنَى الَّذِي تقدَّم قَبْلُ، وأنَّه مَا يَسْتَحْسِنُهُ الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ، أَوْ أنَّه دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ تَعْسُرُ عِبَارَتُهُ عَنْهُ، فإنَّ مِثْلَ هَذَا لا يكون تسعة أعشار العلم. وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فَلَيْسَ بِخَارِجٍ عَنِ الْأَدِلَّةِ البتَّة: لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ يقيِّد بَعْضُهَا وَيُخَصِّصُ بَعْضُهَا بَعْضًا، كَمَا فِي الْأَدِلَّةِ السُّنية مَعَ الْقُرْآنِيَّةِ، وَلَا يَرُد الشَّافِعِيُّ مِثْلَ هَذَا أَصْلًا، فَلَا حُجَّةَ فِي تَسْمِيَتِهِ اسْتِحْسَانًا لِمُبْتَدَعٍ عَلَى حَالٍ. وَلَا بدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِأَمْثِلَةٍ تُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ بِحَوْلِ اللهِ. (أَحَدُهَا) : أَنْ يُعْدَل بِالْمَسْأَلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا بِدَلِيلِ الْكِتَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬1) ، فَظَاهِرُ اللَّفْظِ الْعُمُومُ فِي جَمِيعِ مَا يُتموَّل بِهِ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ فِي الشَّرْعِ بِالْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ خاصة، فلو قال قائل: مالي صَدَقَةٌ، فَظَاهِرُ لَفْظِهِ يَعُمُّ كُلَّ مَالٍ، ولكنَّا نَحْمِلُهُ عَلَى مَالِ الزَّكَاةِ، لِكَوْنِهِ ثَبَتَ الحملُ عليه في الكتاب. (الثاني) : أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ: سُؤْرُ (¬2) سِبَاعِ الطَّيْرِ نَجِسٌ، قِيَاسًا عَلَى سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، وَهَذَا ظاهرُ الْأَثَرِ، وَلَكِنَّهُ ظاهرٌ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّ السَّبْعَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَلَكِنْ لِضَرُورَةِ تَحْرِيمِ لَحْمِهِ، فَثَبَتَتْ نجاستُه بِمُجَاوَرَةِ رُطُوبَاتِ لُعابه وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَارَقَهُ الطَّيْرُ، لأنَّه يَشْرَبُ بِمِنْقَارِهِ وَهُوَ طَاهِرٌ بِنَفْسِهِ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ سُؤْرِهِ، لِأَنَّ هَذَا أثرٌ قوي وإن خفي، فترجح عَلَى الأوَّل، وَإِنْ كَانَ أَمْرُهُ جليَّاً، وَالْأَخْذُ بأقوى القياسين متفق عليه. (الثالث) : أنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنْ يَتْرُكَ الدَّلِيلَ للعُرف، فإنَّه رَدَّ الأَيْمان إِلَى العُرف، مَعَ أنَّ اللُّغَةَ تَقْتَضِي فِي أَلْفَاظِهَا غَيْرَ مَا يَقْتَضِيهِ العُرف، كَقَوْلِهِ: واللهِ لَا دَخَلْتُ مَعَ فلانٍ بَيْتًا: فَهُوَ يَحْنَثُ بِدُخُولِ كلِّ مَوْضِعٍ يُسمى بَيْتًا فِي اللُّغَةِ، وَالْمَسْجِدِ يُسمى بَيْتًا فَيَحْنَثُ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا أنَّ عُرف النَّاسِ أَنْ لَا يُطْلِقُوا هَذَا اللَّفْظَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ بِالْعُرْفِ عَنْ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، فَلَا يحنث. (الرابع) : تَرْكُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ فِي الْيَسِيرِ لِتَفَاهَتِهِ وَنَزَارَتِهِ لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ، وَإِيثَارِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْخَلْقِ، فَقَدْ أجازوا الْبَيْعَ بِالصَّرْفِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ، وَأَجَازُوا بَدَلَ الدِّرْهَمِ النَّاقِصِ بِالْوَازِنِ لِنَزَارَةِ مَا بَيْنَهُمَا، وَالْأَصْلُ الْمَنْعُ فِي الْجَمِيعِ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ أنَّ الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبَ بِالذَّهَبِ مِثلاً بِمثل سواءً بسواءِ، ¬
وأنَّ مَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى (¬1) ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أنَّ التَّافِهَ فِي حُكْمِ العَدَم، وَلِذَلِكَ لَا تَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْأَغْرَاضُ فِي الْغَالِبِ، وأنَّ الْمَشَاحَّةَ فِي الْيَسِيرِ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى الْحَرَجِ والمشقة، وهما مرفوعان عن المكلَّف. (الخامس) : ما تقدم أوَّلاً من أنَّ الأُمَّة اسْتَحْسَنَتْ دُخُولَ الحمَّام مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ أُجرة وَلَا تَقْدِيرِ مُدَّةِ اللَّبْثِ وَلَا تَقْدِيرِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْمَنْعُ، إِلَّا أنَّهم أجازوه، لَا كَمَا قَالَ المُحتجون عَلَى الْبِدَعِ، بَلْ لِأَمْرٍ آخَرَ هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الَّذِي لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنِ الْأَدِلَّةِ، فأمَّا تَقْدِيرُ العِوض فَالْعُرْفُ هُوَ الَّذِي قدَّره فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْدِيرِ، وأمَّا مُدَّةُ اللَّبْثِ وَقَدْرُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مقدَّراً بِالْعُرْفِ أَيْضًا فإنَّه يسقط للضرورة إليه، فَسُومح المكلَّف بِيَسِيرِ الْغَرَرِ (¬2) ، لِضِيقِ الِاحْتِرَازِ مَعَ تفاهة ما يحصل من (الغرض) وَلَمْ يُسَامَح فِي كَثِيرِهِ إِذْ لَيْسَ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، وَلِعَظِيمِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَرِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، غَيْرُ منصوصٍ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الأُمور، وإنَّما نُهي عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِهِ مِمَّا يعظُم فِيهِ الْغَرَرُ، فَجُعِلت أُصولاً يُقاس عليها غيرها، فَإِذَا قلَّ الغررُ وَسَهُلَ الْأَمْرُ وَقَلَّ النِّزَاعُ ومَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْمُسَامَحَةِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِهَا، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَسْأَلَةُ التَّقْدِيرِ في ماءِ الحمَّام ومدة اللبث. فتأمَّلوا كيف وُجِدَ الاستثناءُ مِنَ الأُصول الثَّابِتَةِ بِالْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ. وَأَيْنَ هَذَا مِنْ زَعْمِ الزَّاعِمِ أنَّه اسْتِحْسَانُ الْعَقْلِ بِحَسَبِ الْعَوَائِدِ فَقَطْ؟. فَتَبَيَّنَ لَكَ بَوْنُ (¬3) مَا بين المنزلتين. ¬
فصل [رد حجج المبتدعة في الاستحسان]
فصل [ردُّ حججِ المبتدعة في الاستحسان] فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا احْتَجُّوا بِهِ أوَّلاً: - فأمَّا مَنْ حدَّ الِاسْتِحْسَانَ بأنَّه ((مَا يَستحسِنه الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ وَيَمِيلُ إِلَيْهِ بِرَأْيِهِ)) . - فكأنَّ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ هَذَا النَّوْعَ مِنْ جُمْلَةِ أدلة الأحكام، وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ مِثْلُ هَذَا وَلَمْ يُعرف التَّعَبُّدُ بِهِ لَا بِضَرُورَةٍ وَلَا بِنَظَرٍ وَلَا بِدَلِيلٍ مِنَ الشَّرْعِ قَاطِعٍ وَلَا مَظْنُونٍ، فَلَا يَجُوزُ إِسْنَادُهُ لحكمِ اللهِ لأنَّه ابْتِدَاءُ تَشْرِيعٍ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ. - وَأَيْضًا فإنَّا نَعْلَمُ أنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَصَرُوا نَظَرَهُمْ فِي الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا فِي الِاسْتِنْبَاطِ وَالرَّدِّ إِلَى مَا فَهِمُوهُ مِنَ الأُصول الثَّابِتَةِ، وَلَمْ يَقُلْ أحدٌ مِنْهُمْ: إنَّي حَكَمْتُ فِي هَذَا بِكَذَا لِأَنَّ طَبْعِي مَالَ إِلَيْهِ، أَوْ لأنَّه يوافق محبتي ورضائي، ولا يحتاجون إلى مناظرة بعضهم بعضاً والشريعة ليست كذلك. - وأمَّا الحدُّ الثَّانِي: فَقَدْ رُدَّ بأنَّه لَوْ فُتح هَذَا الْبَابَ لبطلُت الْحُجَجُ وَادَّعَى كلُّ من شاء ما شاء، وهذا يجرُّ فساداً لا خفاءَ له. وأمَّا الدَّلِيلُ الأوَّل (¬1) : فَلَا مُتعلَّق بِهِ؛ فإنَّ أحسنَ الِاتِّبَاعِ إِلَيْنَا، اتباعُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَخُصُوصًا الْقُرْآنَ؛ فإنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {اللهُُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشَابِهاً} (¬2) الْآيَةَ. وَجَاءَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ -خرَّجه مُسْلِمٌ- أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: ((أمَّا بَعْدُ فَأَحْسَنُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ)) (¬3) ، فَيَفْتَقِرُ أَصْحَابُ الدَّلِيلِ أَنْ يبيِّنوا أنَّ مَيْلَ الطِّبَاعِ أَوْ أهواءَ النُّفُوسِ مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْنَا، فَضْلًا عَنْ أن يقول من ¬
أحسنهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (¬1) الْآيَةَ، يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ أنَّ مَيْلَ النُّفُوسِ يسمَّى قَوْلًا، وحينئذٍ يُنْظَرُ إِلَى كَوْنِهِ أَحْسَنَ الْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ. وأمَّا الدَّلِيلُ الثَّانِي: فَلَا حُجة فِيهِ مِنْ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا) : أنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى أنَّ مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ حَسَنٌ، والأُمة لَا تَجْتَمِعُ عَلَى بَاطِلٍ، فَاجْتِمَاعُهُمْ عَلَى حُسْنِ شيء يدل على حُسنه شرعاً، لأن الإجماع يَتَضَمَّنُ دَلِيلًا شرعيَّاً؛ فَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَيْكُمْ لَا لكم. (الثاني) : أنَّه إِذَا لَمْ يُرَد بِهِ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ وأُريد بَعْضُهُمْ فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانُ الْعَوَامِّ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعٍ. لَا يُقَالُ: إنَّ الْمُرَادَ اسْتِحْسَانُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا تركٌ لِلظَّاهِرِ، فَيُبطل الِاسْتِدْلَالُ، ثُمَّ إنَّه لَا فَائِدَةَ فِي اشْتِرَاطِ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ المُستحسن بِالْفَرْضِ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْأَدِلَّةِ، فأيُّ حَاجَةٍ إِلَى اشْتِرَاطِ الِاجْتِهَادِ؟. فَإِنْ قِيلَ: إنَّما يُشترط حَذَرًا مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَدِلَّةِ فإنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَعْرِفُهَا. قِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ اسْتِحْسَانٌ ينشأُ عَنِ الْأَدِلَّةِ، بِدَلِيلِ أنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ قَصَروا أَحْكَامَهُمْ عَلَى اتِّباع الْأَدِلَّةِ وَفَهْمِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ. فالحاصلُ أنَّ تَعَلُّقَ الْمُبْتَدِعَةِ بِمِثْلِ هَذِهِ الأُمور تَعَلُّقٌ بِمَا لَا يُغْنِيهِمْ وَلَا يَنْفَعُهُمُ الْبَتَّةَ، لَكِنْ رُبَّمَا يَتَعَلَّقُونَ فِي آحَادِ بِدْعَتِهِمْ بِآحَادٍ شُبَهٍ سَتُذكر فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللهُ، وَمِنْهَا مَا قد مضى. ¬
فصل [رد شبهة استفتاء القلب]
فصل [ردُّ شبهةِ استفتاء القلب] فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يدلُّ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ ويجري فِي النَّفْسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ دليلٌ صَرِيحٌ عَلَى حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَا غير صريح؟ فقد خرَّج مسلمٌ عَنِ النَّوَّاس بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: ((الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدرك وكرهت أن يطلع الناسُ عليه)) (¬1) . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)) (¬2) ، وَعَنْ وَابِصَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: ((يَا وَابِصَةُ! اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ، البرُّ مَا اطمأنَّت إِلَيْهِ النَّفس واطمأنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وتردَّد فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أفتاك الناس وأفتوك)) (¬3) . فهذه ظَهَرَ مِنْ مَعْنَاهَا الرُّجُوعُ فِي جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَى مَا يَقَعُ بِالْقَلْبِ ويهجُس بِالنَّفْسِ وَيَعْرِضُ بِالْخَاطِرِ، وأنَّه إِذَا اطْمَأَنَّتِ النَّفْسُ إِلَيْهِ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ صَحِيحٌ، وَإِذَا تَوَقَّفَتْ أَوِ ارْتَابَتْ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ مَحْظُورٌ، وَهُوَ عَيْنُ مَا وَقَعَ إنكارُه مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي يَقَعُ بِالْقَلْبِ وَيَمِيلُ إِلَيْهِ الْخَاطِرُ، وَإِنْ لَمْ ¬
يَكُنْ ثَمَّ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فإنَّه لَوْ كَانَ هُنَالِكَ دليلٌ شَرْعِيٌّ أَوْ كَانَ هَذَا التَّقْرِيرُ مقيَّداً بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يُحَل بِهِ عَلَى مَا فِي النُّفُوسِ وَلَا عَلَى مَا يَقَعُ بالقلوب فدلَّ ذَلِكَ عَلَى أنَّ لاستحسانِ الْعُقُولِ وميلِ النُّفُوسِ أَثَرًا فِي شَرْعِيَّةِ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وذلك أنَّ حَاصِلَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي أنَّ فَتَاوَى الْقُلُوبِ وَمَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ مُعتبر فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ التَّشْرِيعُ بعينِه، فإنَّ طُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ وسكون الْقَلْبُ مُجَرَّداً عَنِ الدَّلِيلِ، إمَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً أَوْ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً فَهُوَ خِلَافُ مَا دلَّت عَلَيْهِ تلك الأخبار، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فَقَدْ صَارَ ثمَّ قسمٌ ثالث غير الكتاب والسنة. وَإِنْ قِيلَ: إنَّها تُعْتَبَرُ فِي الْإِحْجَامِ دُونَ الْإِقْدَامِ، لَمْ تَخْرُجْ تِلْكَ عَنْ الْإِشْكَالِ الأوَّل، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ فِعْلٌ لَا بُدَّ أَنْ يتعلَّق بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ الْجَوَازُ وَعَدَمُهُ، وَقَدْ علَّق ذَلِكَ بِطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ أَوْ عَدَمِ طُمَأْنِينَتِهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ دَلِيلٌ، فَهُوَ ذَلِكَ الأوَّل بِعَيْنِهِ، بَاقٍ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وَالْجَوَابُ: أنَّ الْكَلَامَ الأوَّل صَحِيحٌ، وإنَّما النَّظَرُ فِي تَحْقِيقِهِ. فَاعْلَمْ أنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ تَفْتَقِرُ إِلَى نَظَرَيْنِ: نَظَرٍ فِي دَلِيلِ الْحُكْمِ، وَنَظَرٍ فِي مَنَاطِهِ؛ فأمَّا النَّظَرُ فِي دَلِيلِ الْحُكْمِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ مَا يَرْجِعُ إليهما عن إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ، وَلَا نَفْيُ رَيْبِ الْقَلْبِ، إِلَّا مِنْ جِهَةِ اعْتِقَادِ كَوْنِ الدَّلِيلِ دَلِيلًا أو غير دليل. وأمَّا النَّظَرُ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، فإنَّ الْمَنَاطَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ شرعيٍّ فَقَطْ، بَلْ يَثْبُتُ بدليلٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ أَوْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَا يُشترط فِيهِ بُلُوغَ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، بَلْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ فضلاً عن درجة الاجتهاد.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَنْ مَلَكَ لَحْمَ شاةٍ ذكيةٍ حلَّ لَهُ أكلهُ، لِأَنَّ حِلِّيَّتهَ ظاهرةٌ عنده إذا حصل له شرط الحِلِّيِّة لتحقق مَنَاطِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، أَوْ مَلَكَ لَحْمَ شَاةٍ مَيِّتَةٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُهُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ ظاهرٌ مِنْ جِهَةِ فَقْدِهِ شَرْطَ الحِلِّيِّة، فَتَحَقَّقَ مناطُها بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَنَاطَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى مَا وَقَعَ بِقَلْبِهِ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، لَا بِحَسَبِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أنَّ اللَّحْمَ قَدْ يَكُونُ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ فَيَعْتَقِدُ وَاحِدٌ حِلِّيَّتَهُ بِنَاءً عَلَى مَا تَحَقَّقَ له من مناطها بِحَسَبِهِ، وَيَعْتَقِدُ آخَرُ تَحْرِيمَهُ بِنَاءً عَلَى مَا تَحَقَّقَ لَهُ مِنْ مَنَاطِهِ بِحَسَبِهِ؛ فَيَأْكُلُ أَحَدُهُمَا حَلَالًا وَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِ الِاجْتِنَابُ، لأنَّه حَرَامٌ؟ وَلَوْ كَانَ مَا يَقَعُ بِالْقَلْبِ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْمِثَالُ وَكَانَ مُحَالًا، لِأَنَّ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ لَا تَتَنَاقَضُ أَبَدًا فَإِذَا فَرَضْنَا لَحْمًا أَشْكَلَ عَلَى الْمَالِكِ تَحْقِيقُ مَنَاطِهِ لَمْ يَنْصَرِفْ إِلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ، كَاخْتِلَاطِ الْمَيِّتَةِ بِالذَّكِيَّةِ، وَاخْتِلَاطِ الزَّوْجَةِ بالأجنبية. فها هنا قَدْ وَقَعَ الرَّيْبُ وَالشَّكُّ وَالْإِشْكَالُ وَالشُّبْهَةُ. وَهَذَا الْمَنَاطُ مُحتاجٌ إِلَى دليلٍ شَرْعِيٍّ يُبَيِّنُ حُكْمَهُ، وَهِيَ تِلْكَ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ، كَقَوْلِهِ: ((دَعْ مَا يريبك إلى مالا يَرِيبُكَ)) وَقَوْلُهُ: ((الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ)) كأنَّه يَقُولُ: إِذَا اعْتَبَرْنَا بِاصْطِلَاحِنَا مَا تَحَقَّقْتَ مَنَاطَهُ فِي الحلِّيِّة أَوِ الْحُرْمَةِ؛ فَالْحُكْمُ فِيهِ مِنَ الشَّرْعِ بيِّن، وَمَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ تَحْقِيقُهُ فَاتْرُكْهُ وَإِيَّاكَ والتلبُّس به، وهو معنى قوله: ((اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَوْكَ)) ، فإنَّ تَحْقِيقَكَ لمناطِ مَسْأَلَتِكَ أَخَصُّ بِكَ مِنْ تَحْقِيقِ غَيْرِكَ لَهُ إِذَا كَانَ مِثْلَكَ. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ الْمَنَاطُ وَلَمْ يشكُل عَلَى غَيْرِكَ؛ لأنَّه لَمْ يَعْرِضْ لَهُ مَا عَرَضَ لَكَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ((وَإِنْ أَفْتَوْكَ)) أَيْ: إنْ نَقَلُوا إِلَيْكَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ
فَاتْرُكْهُ وَانْظُرْ مَا يُفْتِيكَ بِهِ قَلْبُكَ؛ فإنَّ هَذَا بَاطِلٌ، وتقوُّلٌ عَلَى التَّشْرِيعِ الْحَقِّ، وإنَّما المراد ما يرجع إلى تحقيق المناط. فَقَدْ ظَهَرَ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِاقْتِنَاصِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ طُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ أَوْ مَيْلِ الْقَلْبِ كَمَا أَوْرَدَهُ السَّائِلُ المُستشكِل، وَهُوَ تَحْقِيقٌ بَالِغٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنَعْمَتِهِ تتم الصالحات.
الباب التاسع [في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين]
الباب التاسع [في السبب الذي لأجله افترقت فِرَقُ المبتدعة عن جماعة المسلمين] قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزالُونَ مُخْتَلِفينَ إلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (¬1) فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أنَّهم لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ أَبَدًا، مَعَ أنَّه إنَّما خَلَقَهُمْ لِلِاخْتِلَافِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ؛ وأنَّ قَوْلَهُ: ((وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)) مَعْنَاهُ: وَلِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ، وَهُوَ مرويٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: خَلَقَهُمْ لِيَكُونُوا فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقًا فِي السَّعير، وَنَحْوَهُ عَنِ الْحَسَنِ فَالضَّمِيرُ فِي ((خَلَقَهُمْ)) ، عائدٌ عَلَى النَّاسِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ إِلَّا مَا سَبَقَ في العلم، وليس المرادُ ها هنا الِاخْتِلَافُ فِي الصُّور كالحَسنِ وَالْقَبِيحِ وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ، وَلَا فِيمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيهَا. وإنَّما الْمُرَادُ اختلافٌ آخَرُ وَهُوَ الِاخْتِلَافُ الَّذِي بَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ لِيَحْكُمُوا فِيهِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا ¬
فيهِ} (¬1) الْآيَةَ، وَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ فِي الْآرَاءِ والنِّحل وَالْأَدْيَانِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا يَسْعَد الْإِنْسَانُ بِهِ أو يشقى في الآخرة والدنيا. وقد نقل المفسرون عن الحسن أنَّه قَالَ: أمَّا أَهْلُ رَحْمَةِ اللهِ فإنَّهم لَا يَخْتَلِفُونَ اخْتِلَافًا يَضُرُّهم، يَعْنِي لأنَّه فِي مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها يقطع الْعُذْرِ، بَلْ لَهُمْ فِيهِ أَعْظَمُ الْعُذْرِ، وَمَعَ أنَّ الشَّارِعَ لَمَّا عَلِمَ أنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَاقِعٌ، أَتَى فِيهِ بأصلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {فإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِِ والرَّسُولِ} (¬2) الْآيَةَ، فكلُّ اخْتِلَافٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حكمُ اللهِ فِيهِ أَنْ يُرَدَّ إِلَى اللهِ، وَذَلِكَ ردُّه إِلَى كِتَابِهِ، وَإِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَلِكَ ردُّه إِلَيْهِ إِذَا كَانَ حَيًّا وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ. إِلَّا أنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَلْ هُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} أَمْ لَا؟ وَالْجَوَابُ: أنَّه لَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ مُقْتَضَاهَا أهلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ أَوْجُهٍ. (أَحَدُهَا) : أنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ أَنَّ أَهْلَ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِينَ مبايِنون لِأَهْلِ الرَّحْمَةِ لِقَوْلِهِ: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} فإنَّها اقْتَضَتْ قِسْمَيْنِ: أهلَ الاختلاف، ومرحومين فَظَاهِرُ التَّقْسِيمِ أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَيْسُوا مَنْ أهل الاختلاف. (الثاني) : أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} فَظَاهِرُ هذا أنَّ وصف ¬
الِاخْتِلَافِ لَازِمٌ لَهُمْ حَتَّى أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ لَفْظُ اسْمِ الْفَاعِلِ المُشْعِر بِالثُّبُوتِ، وَأَهْلُ الرَّحْمَةِ مبرءُون مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ وَصْفَ الرَّحْمَةِ يُنَافِي الثُّبُوتَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، بَلْ إنْ خَالَفَ أَحَدُهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ فإنَّما يُخَالِفُ فِيهَا تحريِّاً لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِيهَا، حَتَّى إِذَا تبيَّن لَهُ الْخَطَأُ فِيهَا رَاجَعَ نَفْسَهُ وَتَلَافَى أَمْرَهُ، فخلافُه فِي الْمَسْأَلَةِ بِالْعَرْضِ لَا بِالْقَصْدِ الأوَّل، فَلَمْ يَكُنْ وَصْفُ الِاخْتِلَافِ لَازِمًا وَلَا ثَابِتًا، فَكَانَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَقْتَضِي الْعِلَاجَ وَالِانْقِطَاعَ ألْيَقَ فِي الموضع. (الثالث) : أنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ الْخِلَافَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَاقِعٌ مِمَّنْ حَصَلَ لَهُ مَحْضُ الرَّحْمَةِ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ إِدْخَالُهُمْ فِي قِسْمِ الْمُخْتَلِفِينَ بِوَجْهٍ، فَلَوْ كَانَ الْمُخَالِفُ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مَعْدُودًا مَنْ أَهْلِ الِاخْتِلَافِ ـ وَلَوْ بوجهٍ مَا ـ لَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِي حَقِّهِ: أنَّه مِنْ أَهْلِ الرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أهل السنة. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أنَّ المُراد بِالْمُخْتَلِفِينَ فِي الْآيَةِ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَأَنَّ من رحم ربك أهل السنة وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْ بَسْطِهِ. فَاعْلَمُوا أنَّ الِاخْتِلَافَ فِي بَعْضِ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ لَا يَقَعُ فِي العاديَّات الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْمُتَبَحِّرِينَ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ الْخَائِضِينَ فِي لُجَّتِها الْعُظْمَى، الْعَالِمَيْنِ بِمَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْعَصْرِ الأوَّل وَعَامَّةُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى ذَلِكَ، وإنَّما وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِسْمِ الْمَفْرُوغِ مِنْهُ آنِفًا، بَلْ كلُّ خلافٍ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ أَسْبَابٌ ثَلَاثَةٌ قَدْ تَجْتَمِعُ وَقَدْ تَفْتَرِقُ: (أَحَدُهَا) : أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَوْ يُعْتقدَ فِيهِ أنَّه مِنْ أَهْلِ العلمِ
وَالِاجْتِهَادِ فِي الدِّينِ -وَلَمْ يَبْلُغْ تِلْكَ الدَّرَجَةَ- فَيَعْمَلُ عَلَى ذَلِكَ، ويُعِدَّ رَأْيَهُ رَأْيًا وَخِلَافُهُ خِلَافًا، وَلَكِنْ تَارَةً يَكُونُ ذَلِكَ فِي جزئيٍّ وفرعٍ من الفروع؛ وتارة يكون في كليٍّ وأصلٍ مِنْ أُصول الدِّينِ ـ كَانَ مِنَ الأُصول الاعتقاديَّة أو من الأُصول العمليَّة ـ فتراه آخِذًا بِبَعْضِ جزئيَّات الشَّرِيعَةِ فِي هَدْمِ كليِّاتها، حَتَّى يَصِيرَ مِنْهَا مَا ظَهَرَ لَهُ بَادِيَ رَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةٍ بِمَعَانِيهَا وَلَا رسوخٍ فِي فَهْمِ مَقَاصِدِهَا، وَهَذَا هُوَ الْمُبْتَدَعُ، وَعَلَيْهِ نَبَّه الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((لَا يَقْبِضُ اللهُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عالمٌ اتَّخَذَ الناس رؤساءَ جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فَضَلُّوا وأَضَلُّوا)) (¬1) . قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَقْدِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أنَّه لَا يُؤْتَى النَّاسُ قَطُّ، مِنْ قِبَلِ عُلَمَائِهِمْ، وإنَّما يُؤتَون مِنْ قِبَلِ أنَّه إِذَا مَاتَ عُلَمَاؤُهُمْ أَفْتَى من ليس بعالم، فيؤتى الناس من قبله. (الثاني) : اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَهْلُ الْبِدَعِ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، لأنَّهم اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ فَلَمْ يَأْخُذُوا الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَأْخَذَ الِافْتِقَارِ إِلَيْهَا، وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهَا، حَتَّى يَصْدُرُوا عَنْهَا، بَلْ قَدَّمُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَاعْتَمَدُوا عَلَى آرَائِهِمْ، ثُمَّ جَعَلُوا الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَنْظُورًا فِيهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ التحسين والتقبيح. وَيَدْخُلُ فِي غِمَارِهِمْ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَخْشَى السَّلَاطِينَ لِنَيْلِ مَا عِنْدَهُمْ، أَوْ طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَمِيلَ مَعَ النَّاسِ بِهَوَاهُمْ؛ ويتأوَّل عليهم فيما أرادوا. (الثالث) : التَّصْمِيمُ عَلَى اتِّبَاعِ الْعَوَائِدِ وَإِنْ فَسَدَتْ أَوْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلْحَقِّ، وَهُوَ اتِّبَاعُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ وَالْأَشْيَاخُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَهُوَ التَّقْلِيدُ المذموم، فإن ¬
الله ذم ذلك في كتابه، كقوله: {إنَّا وَجدْنا آبَاءَنا علَى أُمَّة} (¬1) الْآيَةَ، ثُمَّ قال: {قُلْ أوَلوْ جِئْتُكُمْ بِأهْدَى مِمَّا وَجدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ؟ قالُوا: إنَّا بمَا أُرْسِلْتُمْ بهِ كَافِرُونَ} (¬2) ، وَقَوْلُهُ: {هَلْ يَسْمعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أوْ يَنْفعُونَكُمْ أوْ يَضُرُّون} فَنَبَّهَهُمْ عَلَى وَجْهِ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ فَاسْتَمْسَكُوا بمجرَّد تَقْلِيدِ الْآبَاءِ، فَقَالُوا: {بلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلْونَ} (¬3) . وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي مَالَ بِأَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عَوَامِّ الْمُبْتَدِعَةِ؛ إِذَا اتَّفَقَ أَنْ يَنْضَافَ إِلَى شَيْخٍ جَاهِلٍ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ العلماءِ؛ فَيَرَاهُ يَعْمَلُ عَمَلًا فَيَظُنُّهُ عِبَادَةً فَيَقْتَدِي بِهِ، كَائِنًا مَا كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ، مُوَافِقًا للشرع أو مخالفاً. هَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّلَاثَةُ رَاجِعَةٌ فِي التَّحْصِيلِ إِلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ: وَهُوَ الْجَهْلُ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، والتخرُّص عَلَى مَعَانِيهَا بِالظَّنِّ مِنْ غَيْرِ تثبُّت، أَوِ الْأَخْذِ فِيهَا بِالنَّظَرِ الأوَّل، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ من راسخٍ في العلم. ¬
فصل [حديث الفرق وفيه مسائل]
فصل [حديثُ الفِرَق وفيه مسائل] صحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتتفرق أُمتي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً)) (¬1) وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ هَكَذَا. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: ((افْتَرَقَ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وتفرقت النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمتي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً)) (1) . وَفِي التِّرْمِذِيِّ تَفْسِيرُ هَذَا، وَلَكِنْ بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ عَنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ فِي حَدِيثٍ ((وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى ثنتين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفْتَرِقُ أُمتي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ ملَّة، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا ملَّة وَاحِدَةً ـ قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي)) (¬2) . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: ((وَأَنَّ هَذِهِ المِلَّة سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وسبعين، ثِنتان وَسَبْعِينَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ)) (¬3) وَهِيَ بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، إِلَّا أنَّ هُنَا زِيَادَةً فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ((وَأَنَّهُ سيخرج من أُمتي أقوام تَجَارى ¬
بِهِمْ تِلْكَ الأهواءُ كَمَا يَتَجَارَى الكَلَبُ (¬1) بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرق وَلَا مِفصل إِلَّا دخله)) (¬2) . وفي رواية عن أَبِي غَالِبٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ: ((إنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمةً تَزِيدُ عَلَيْهِمْ فِرقة، كُلُّهَا فِي النَّارِ إلا السواد الأعظم)) (¬3) ؛ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، تصدَّى النظرُ فِي الْحَدِيثِ فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي حَقِيقَةِ هَذَا الِافْتِرَاقِ وَهُوَ يُحتمل أَنْ يَكُونَ افْتِرَاقًا عَلَى مَا يُعْطِيهِ مُقْتَضَى اللَّفظ، ويُحتمل أَنْ يَكُونَ مَعَ زِيَادَةِ قَيْدٍ لَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ بِإِطْلَاقِهِ وَلَكِنْ يَحتمله، كَمَا كَانَ لَفْظُ الرَّقبة بِمُطْلَقِهَا لَا يُشْعِرُ بِكَوْنِهَا مُؤْمِنَةً أَوْ غَيْرَ مُؤْمِنَةٍ، لَكِنَّ اللَّفْظَ يَقْبَلُهُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ مُطْلَقُ الِافْتِرَاقِ، بِحَيْثُ يُطْلَقُ صُوَرُ لَفْظِ الِاخْتِلَافِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، لأنَّه يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلِفُونَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ دَاخِلِينَ تَحْتَ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ باطلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ مِنْ زَمَانِ الصَّحَابَةِ إِلَى الْآنَ وَاقِعٌ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وأوَّل مَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي زَمَانِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، ثُمَّ فِي سَائِرِ الصَّحَابَةِ، ثم في التَّابِعِينَ وَلَمْ يُعِبْ أحدٌ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَبِالصَّحَابَةِ اقْتَدَى مَنْ بَعْدَهُمْ فِي تَوْسِيعِ الْخِلَافِ، فَكَيْفَ يمكن أَنْ يَكُونَ الِافْتِرَاقُ فِي الْمَذَاهِبِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الحديث؟ وإنَّما يراد افتراقٌ مقيدَّ. ¬
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إنَّ هَذِهِ الفِرق إنْ كَانَتِ افترقت بسببٍ مُوقِعٍ في العداوةِ وَالْبَغْضَاءِ؛ فإمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى أمرٍ هو معصيةٍ غيِر بدعةٍ، وإمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أمرٍ هُوَ بِدْعَةٌ. وكلُّ مَنْ لَمْ يهتدِ بِهَدْيِهِ وَلَا يستنُّ بسنَّتِه فإمَّا إِلَى بِدْعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، فَلَا اخْتِصَاصَ بِأَحَدِهِمَا، غَيْرَ أنَّ الْأَكْثَرَ فِي نَقْلِ أَرْبَابِ الْكَلَامِ، وَغَيْرِهِمْ أنَّ الْفِرْقَةَ الْمَذْكُورَةَ إنَّما هِيَ بِسَبَبِ الِابْتِدَاعِ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَ الحديثَ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَعُدُّوا مِنْهَا الْمُفْتَرِقِينِ بِسَبَبِ المعاصي التي ليست ببدع، وَعَلَى ذَلِكَ يَقَعُ التَّفْرِيعُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. المسألة الثالثة إنَّ هذه الفرق تحتمل مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنْ يَكُونُوا خَارِجِينَ عَنِ المِلَّة بِسَبَبِ مَا أَحْدَثُوا، فَهُمْ قَدْ فَارَقُوا أهل الإسلام بإطلاق، وليس ذلك إلا الكفر، إِذْ لَيْسَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ مَنْزِلَةٌ ثَالِثَةٌ تُتَصَوَّر. ويُحتمل أَنْ لَا يَكُونُوا خَارِجِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ جُمْلَةً، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا عَنْ جملةٍ من شرائعه وأُصوله. ويُحتمل وَجْهًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ من فارق الإسلام، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُفَارِقْهُ، بَلِ انْسَحَبَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ عَظُم مقالُه وَشُنِّعَ مذهبُه، لَكِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ مَبْلَغَ الْخُرُوجِ إِلَى الكفر المحض والتبديل الصريح. وأمَّا رِوَايَةِ مَنْ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: ((كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً)) فإنَّما يَقْتَضِي
إِنْفَاذَ الْوَعِيدِ ظَاهِرًا، وَيَبْقَى الْخُلُودُ وَعَدَمُهُ مَسْكُوتًا عَنْهُ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا أَرَدْنَا، إذِ الْوَعِيدُ بِالنَّارِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْكُفَّارِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ تَبَايَنَا فِي التَّخْلِيدِ وَعَدَمِهِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إنَّ هذه الأقوال مبنيَّة عَلَى أنَّ الْفِرَقَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْمُبْتَدِعَةُ فِي قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ عَلَى الْخُصُوصِ، كالجَبْريَّة، والقَدَرية، والمُرجئة، وغيرها. واستدلَّ الطرطوشيُّ عَلَى أنَّ الْبِدَعَ لَا تختصُّ بالعقائد بما جاءَ عن الصحابة والتابعين وسائر الْعُلَمَاءُ مِنْ تَسْمِيَتِهِمُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ بِدَعًا إِذَا خَالَفَتِ الشَّرِيعَةَ، ثُمَّ أَتَى بآثارٍ كَثِيرَةٍ كَالَّذِي رواه الْبُخَارِيِّ عَنْ أُم الدَّرْدَاءِ قَالَتْ: دَخَلَ أَبُو الدرداء مُغْضَبَاً فقلت له: مالك؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مِنْهُمْ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا)) (¬1) ، وَذَكَرَ جُمْلَةً مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أنَّ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ فِي الْأَفْعَالِ قَدْ ظَهَرَتْ. وَفِي مُسْلِمٍ قَالَ مُجَاهِدٌ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مستندٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِذَا ناسٌ فِي الْمَسْجِدِ يصلُّون الضُّحَى، فَقُلْنَا: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: بِدْعَةٌ (¬2) . قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ: فَحَمَلَهُ عِنْدَنَا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أنَّهم يُصَلُّونَهَا جَمَاعَةً، وإمَّا أَفْذَاذًا عَلَى هَيْئَةِ النَّوَافِلِ فِي أَعْقَابِ الْفَرَائِضِ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنَ الْبِدَعِ الْقَوْلِيَّةِ مِمَّا نَصَّ العلماءُ عَلَى أَنَّهَا بِدَعٌ، فصحَّ أنَّ البدع لا تختص بالعقائد. نعم ثَمَّ معنىً ¬
آخر ينبغي أن يذكر هنا. وهي: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَذَلِكَ أنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ إنَّما تَصِيرُ فِرَقًا بِخِلَافِهَا لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ فِي مَعْنًى كُلِّي فِي الدِّينِ وَقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، لَا فِي جُزْئِيٍّ مِنَ الجزئيَّات، إِذِ الْجُزْئِيُّ وَالْفَرْعُ الشَّاذُّ لَا ينشأُ عَنْهُ مخالفةٌ يَقَعُ بِسَبَبِهَا التَّفَرُّقُ شِيَعاً، وإنَّما ينشأُ التفرُّق عِنْدَ وقوعِ المخالفة في الأمور الكلية. وَيَجْرِي مَجْرَى الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ كَثْرَةُ الْجُزْئِيَّاتِ، فَإِنَّ الْمُبْتَدِعَ إِذَا أَكْثَرَ مِنْ إِنْشَاءِ الْفُرُوعِ المخترَعة عَادَ ذَلِكَ عَلَى كثيرٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ بِالْمُعَارَضَةِ، كَمَا تَصِيرُ الْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ مُعَارَضَةً أَيْضًا، وأمَّا الجزئي فبخلاف ذلك، فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ إنَّما افْتَرَقَتْ بِحَسْبِ أمورٍ كليِّة اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ السادسة فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْفِرَقِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ ـ كَمَا قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ ـ طَاشَتْ فِيهَا أَحْلَامُ الخَلْق، فَكَثِيرٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَيَّنوها لَكِنْ فِي الطَّوَائِفِ الَّتِي خَالَفَتْ فِي مَسَائِلِ الْعَقَائِدِ فَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّ أُصولها ثَمَانِيَةً، فَقَالَ: كِبَارُ الفرق الإسلامية ثمانية: (1) المعتزلة، (2) الشيعة، (3) الخوارج، (4) المرجئة، (5) النجارية، (6) الجبرية، (7) المشبهة، (8) الناجية. فَالْجَمِيعُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِرقة، فَإِذَا أُضيفت الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ إِلَى عَدَدِ الْفِرَقِ صَارَ الْجَمِيعُ ثَلَاثًا وسبعين فرقة.
وَهَذَا التَّعْدِيدُ بحسبِ مَا أَعْطَتْهُ المُنَّة (¬1) فِي تكلُّف الْمُطَابَقَةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، لَا عَلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ الْمُرَادُ، إِذْ لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ دليلٌ شَرْعِيٌّ، وَلَا دلَّ العقلُ أَيْضًا عَلَى انْحِصَارِ مَا ذُكِرَ فِي تِلْكَ الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى اخْتِصَاصِ تِلْكَ الْبِدَعِ بِالْعَقَائِدِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أُصول الْبِدَعِ أَرْبَعَةٌ، وَسَائِرُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً عَنْ هَؤُلَاءِ تفرَّقوا، وَهُمُ: الْخَوَارِجُ، وَالرَّوَافِضُ، والقَدَرية، والمُرجئة. فَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ بِتَفَرُّقِ أُمته أُصول [الْبِدَعِ] الَّتِي تَجْرِي مَجْرَى الْأَجْنَاسِ لِلْأَنْوَاعِ، وَالْمَعَاقِدِ لِلْفُرُوعِ لَعَلَّهُمْ ـ والعلم عند الله ـ ما بلغن هَذَا الْعَدَدَ إِلَى الْآنَ، غَيْرَ أنَّ الزَّمَانَ باقٍ وَالتَّكْلِيفَ قَائِمٌ وَالْخَطَرَاتِ مُتوقعة، وَهَلْ قرنٌ أَوْ عصرٌ يَخْلُو إِلَّا وَتَحْدُثُ فِيهِ الْبِدَعُ؟ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بالتفرُّق كُلَّ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مِمَّا لَا يُلَائِمُ أُصول الْإِسْلَامِ وَلَا تَقْبَلُهَا قواعدُه مِنْ غَيْرِ التفاتٍ إِلَى التَّقْسِيمِ الَّذِي ذَكَرْنَا كَانَتِ البدعُ أَنْوَاعًا لِأَجْنَاسٍ، أَوْ كَانَتْ مُتَغَايِرَةَ الأُصول وَالْمَبَانِي. فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ ـ فَقَدْ وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ عَدَدٌ أكثر من اثنتين وسبعين. المسألة السابعة أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يتعينَّون فَلَهُمْ خواصٌ وعلاماتٌ يُعرفون بِهَا، وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: علامات إجمالية، وعلامات تفصيلية. ¬
فأمَّا العلامات الإجمالية فثلاثة: (أحدها) : الفُرقة الَّتِي نَبَّه عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تكونُوا كالَّذينَ تَفَرَّقوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعدِ مَا جاءَهُمْ الْبيِّناتُ} (¬1) . (الثَّانِيَةُ) : هِيَ الَّتِي نَبَّه عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فأمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبُعونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} (¬2) الْآيَةَ، فبيَّنت الْآيَةُ أنَّ أَهْلَ الزَّيْغ يَتَّبِعُونَ مُتَشَابِهَاتِ الْقُرْآنِ، وجُعِلُوا مِمَّنْ شَأْنُهُ أَنْ يَتَّبِعَ المُتشابه لَا المُحْكَم، وَمَعْنَى الْمُتَشَابِهِ: ما أشكل معناه، ولم يُبَيَّن مغزاه. (الثالثة) : اتباعُ الهوى، الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فأمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ؛ وَالزَّيْغُ هُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ؟} (¬3) ؛ وَقَوْلُهُ: {أَفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ وَأضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ ... } (¬4) . وَ [أمَّا] الْعَلَامَةُ التَّفْصِيلِيَّةُ: فِي كُلِّ فِرْقَةٍ فَقَدْ نُبِّه عَلَيْهَا وأُشير إِلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِي ظنيِّ أنَّ مَنْ تأمَّلها فِي كِتَابِ اللَّهِ وَجَدَهَا مُنَبَّهَاً عَلَيْهَا ومُشاراً إليها. المسألة الثامنة أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَ أنَّها كُلَّهَا فِي النَّارِ، وَهَذَا وعيدٌ يَدُلُّ عَلَى أنَّ ¬
تِلْكَ الْفِرَقَ قَدِ ارْتَكَبَتْ كلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَعْصِيَةً كَبِيرَةً أَوْ ذَنْبًا عَظِيمًا، إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الأُصول أنَّ مَا يُتوعد الشرُّ عَلَيْهِ فَخُصُوصِيَّتُهُ كَبِيرَةٌ، إِذْ لَمْ يَقُلْ: كُلُّهَا فِي النَّارِ، إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْوَصْفِ الَّذِي افْتَرَقَتْ بِسَبَبِهِ عَنِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ وَعَنْ جَمَاعَتِهِ، وليس ذلك إلا للبدعة المُفَرِّقة، إِلَّا أَنَّهُ يُنظر فِي هَذَا الْوَعِيدِ، هَلْ هُوَ أبَدِيٌّ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قُلْنَا: إنَّه غَيْرُ أَبَدِيٍّ، هَلْ هُوَ نافذٌ أَمْ فِي الْمَشِيئَةِ. أمَّا الْمَطْلَبُ الأوَّل فَيَنْبَنِي عَلَى أنَّ بَعْضَ الْبِدَعِ مُخْرِجَةٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، أَوْ ليست مخرجة، وَإِذَا قُلْنَا بِعَدَمِ التَّكْفِيرِ فَيُحتمل ـ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ ـ أَمْرَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : نُفُوذُ الْوَعِيدِ مِنْ غَيْرِ غُفْرَانٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: ((كُلُّهَا فِي النَّارِ)) ؛ أَيْ: مُستقِرَّة ثابتة فيها. (وَالثَّانِي) : أَنْ يَكُونَ مقيَّداً بِأَنْ يَشَاءَ اللهُ تَعَالَى إصلاءَهم فِي النَّارِ، وإنَّما حُمِلَ قَوْلُهُ: ((كُلُّهَا فِي النَّارِ)) أَيْ: هِيَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ النار. المسألة التاسعة إنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ((إِلَّا وَاحِدَةً)) قَدْ أَعْطَى بنصِّه أَنَّ الحقَّ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ، إِذْ لَوْ كَانَ للحقِّ فِرَقٌ أَيْضًا لَمْ يَقُلْ: ((إِلَّا وَاحِدَةً)) ، ولأنَّ الِاخْتِلَافَ منفيٌ عَنِ الشَّرِيعَةِ بِإِطْلَاقٍ، لأنَّها الْحَاكِمَةُ بَيْنَ المختلفِين، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِِ وَالرَّسُولِ} (¬1) ؛ إِذْ ردَّ التَّنَازُعِ إِلَى الشَّرِيعَةِ، فَلَوْ كَانَتِ الشَّرِيعَةُ تَقْتَضِي الْخِلَافَ لَمْ يكن في الردِّ إليها فائدة. ¬
المسألة العاشرة أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعيِّن مِنَ الفِرق إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً، وإنَّما تعرَّض لعدِّها خاصة، وأشار إلى الفرقة النَّاجِيَةِ حِينَ سُئل عَنْهَا، وإنَّما وَقَعَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لأُمور: (أَحَدُهَا) : أَنَّ تَعْيِينَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ هُوَ الْآكَدُ فِي الْبَيَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تعبُّد المكلَّف وَالْأَحَقِّ بِالذِّكْرِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ الفِرق الْبَاقِيَةِ إِذَا عُيِّنَت الواحدة. (وَالثَّانِي) : أَنَّ ذَلِكَ أَوْجَزُ لأنَّه إِذَا ذُكرت نِحلة الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ عُلم عَلَى الْبَدِيهَةِ أَنَّ مَا سِوَاهَا مِمَّا يُخَالِفُهَا لَيْسَ بِنَاجٍ، وَحَصَلَ التَّعْيِينُ بِالِاجْتِهَادِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا ذُكرت الفِرق إِلَّا النَّاجِيَةَ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي شَرْحًا كَثِيرًا، وَلَا يَقْتَضِي فِي الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ اجْتِهَادٌ، لأنَّ إِثْبَاتَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَكُونُ مُخَالَفَتُهَا بِدَعًا لَا حَظَّ للعقلِ في الاجتهاد فيها. المسألة الحادية عشرة اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ الْمُرَادَةِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا) : أَنَّهَا السَّواد الأعظم من أهل الإسلام. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَدْخُلُ فِي الْجَمَاعَةِ مُجْتَهِدُو الأُمة وَعُلَمَاؤُهَا وَأَهْلُ الشَّرِيعَةِ الْعَامِلُونَ بِهَا، وَمَنْ سِوَاهُمْ دَاخِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ، لأنَّهم تَابِعُونَ لَهُمْ وَمُقْتَدُونَ بِهِمْ، فكلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ فَهُمُ الَّذِينَ شذُّوا وَهُمْ نُهْبة الشَّيْطَانِ وَيَدْخُلُ فِي هَؤُلَاءِ جميعُ أَهْلِ الْبِدَعِ لأنَّهم مُخَالِفُونَ لِمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الأُمة، لَمْ يَدْخُلُوا فِي سوادهم بحال.
(الثاني) : أَنَّهَا جَمَاعَةُ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَمَنْ خَرَجَ مِمَّا عَلَيْهِ علماءُ الأُمة مَاتَ مِيتة جَاهِلِيَّةً، لأنَّ جَمَاعَةَ اللهِِ الْعُلَمَاءُ، جَعَلَهُمُ اللهُ حُجَّةً على العالَمين، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَامَّةَ عَنْهَا تَأْخُذُ دِينَهَا، وَإِلَيْهَا تَفْزَع من النوازل، وهي تبعٌ لها. فعلى هذا القول لا يدخل أَحَدٌ مِنَ الْمُبْتَدِعِينَ، لأنَّ العالِم أوَّلاً لَا يَبْتَدِعُ، وإنَّما يبتدعُ مَنِ ادَّعى لِنَفْسِهِ الْعِلْمَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، ولأنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ أَخْرَجَتْهُ عَنْ نمطِ مَنْ يُعْتَدُّ بِأَقْوَالِهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا يُعتَدُّ بِهِ فِي الإجماع وإن قيل بالاعتداد بهم فيه، ففي غير المسألة الَّتِي ابْتَدَعَ فِيهَا، لأنَّهم فِي نَفْسِ الْبِدْعَةِ مخالِفون للاجماع: فعلى كلِّ تقدير لا يدخلون في السواد الأعظم رأساً. (الثالث) : أَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الصَّحَابَةُ عَلَى الْخُصُوصِ، فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ أَقَامُوا عمادَ الدِّينِ وَأَرْسَوْا أَوْتَادَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ أَصْلًا، وَقَدْ يمكن فيمن سواهم ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فلفظُ الْجَمَاعَةِ مطابقٌ لِلرِّوَايَةِ الأُخرى فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي)) فكأنَّه راجعٌ إِلَى مَا قَالُوهُ وَمَا سَنُّوه، وَمَا اجْتَهَدُوا فِيهِ حجة على الإطلاق فَأَهْلُ الْبِدَعِ إِذًا غَيْرُ دَاخِلِينَ فِي الْجَمَاعَةِ قطعاً على هذا القول. (الرابع) : إنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى أمرٍ فواجبٌ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ المِلل اتِّبَاعُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ ضَمِنَ اللهُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ لَا يَجْمَعَهُمْ على ضلالة. وكأنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَرْجِعُ إِلَى الثَّانِي وَهُوَ يَقْتَضِي أَيْضًا مَا يَقْتَضِيهِ، أَوْ يَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ الأوَّل وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَفِيهِ مِنَ الْمَعْنَى ما في الأوَّل من أنه لا بد من كون
الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِدْعَةٌ أَصْلًا، فَهُمْ -إذاً- الفرقة الناجية. (الخامس) : أَنَّ الْجَمَاعَةَ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى أميرٍ، فَأمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِلُزُومِهِ وَنَهَى عَنْ فِراق الأُمة فِيمَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ تقديمه عليهم. وحاصلُه أَنَّ الْجَمَاعَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْإِمَامِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى غَيْرِ سُنَّةٍ خَارِجٌ عَنْ معنى الجماعة المذكورة فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، كَالْخَوَارِجِ وَمَنْ جَرَى مُجْرَاهُمْ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ دَائِرَةٌ عَلَى اعْتِبَارِ أَهْلِ السنة والاتباع، وأنهم المرادون بالأحاديث. المسألة الثانية عَشْرَةَ وَذَلِكَ أَنَّ الْجَمِيعَ اتَّفَقُوا عَلَى اعْتِبَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ سواءٌ ضَمُّوا إِلَيْهِمُ الْعَوَامَّ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَضُمُّوا إِلَيْهِمْ فَلَا إِشْكَالَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ إنَّما هُوَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ من العلماء المعتبر اجتهادهم، وَإِنْ ضمُّوا إِلَيْهِمُ الْعَوَامَّ فَبِحُكْمِ التَبَعِ لأنَّهم غير عارفين بالشريعة، فلا بد مِنْ رُجُوعِهِمْ فِي دِينِهِمْ إِلَى الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّهُمْ لو تمالؤوا عَلَى مُخَالَفَةِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا حَدُّوا لَهُمْ لَكَانُوا هُمُ الْغَالِبَ وَالسَّوَادَ الْأَعْظَمَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، لِقِلَّةِ الْعُلَمَاءِ وَكَثْرَةِ الْجُهَّالِ، فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: إنَّ اتِّبَاعَ جَمَاعَةِ الْعَوَامِّ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمُ المفارِقون لِلْجَمَاعَةِ وَالْمَذْمُومُونَ فِي الْحَدِيثِ، بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ وَإِنْ قَلُّوا، وَالْعَوَامُّ هُمُ الْمُفَارِقُونَ لِلْجَمَاعَةِ إنْ خَالَفُوا، فَإِنْ وَافَقُوا فَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ. فانظر غَلَطَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ جَمَاعَةُ النَّاسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ عَالِمٌ،
وَهُوَ وَهْم العوامِ، لَا فِهْم العلماءِ، فَلْيُثَبِّت المُوَفِّقُ فِي هَذِهِ المزلةِ قَدَمَه لِئَلَّا يضلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَلَا تَوْفِيقَ إِلَّا باللهِ. المسألة الثالثة عشرة إنَّ ها هنا نَظَرًا لَفْظِيًّا فِي الْحَدِيثِ هُوَ مِنْ تمامِ الكلام فيه، وذلك أنه لما أخبر، أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ جَمِيعَ الْفِرَقِ فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ المفسَّرة فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، فجاءَ فِي الرِّوَايَةِ الأُخرى السؤالُ عَنْهَا ـ سؤالُ التَّعْيِينِ ـ فَقَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فأصلُ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: أَنَا وَأَصْحَابِي، وَمَنْ عمِل مِثْلَ عَمَلِنَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُعطي تَعْيِينَ الفرقة، إمَّا بالإشارة إليها أَوْ بوصفٍ مِنْ أَوْصَافِهَا، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ، وإنَّما وَقَعَ فِي الْجَوَابِ تَعْيِينُ الوصف لا تعيين الموصوف، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوْصَافُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، فَلَمْ يُطَابِقِ السؤالُ الجوابَ فِي اللَّفْظِ، وَالْعُذْرُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَلْتَزِمُ ذَلِكَ النَّوْعَ إِذَا فُهِم الْمَعْنَى، لأنَّهم لَمَّا سَأَلُوا عَنْ تَعْيِينِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ بَيَّن لَهُمُ الْوَصْفَ الَّذِي بِهِ صَارَتْ نَاجِيَةً، فَقَالَ: ((مَا أَنَا عليه وأصحابي)) . ويُمكن أَنْ يُقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ذَكَرَ الفِرَق وَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا فِرْقَةً نَاجِيَةً، كَانَ الْأَوْلَى السُّؤَالَ عَنْ أَعْمَالِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، لَا عَنْ نَفْسِ الْفِرْقَةِ، لأنَّ التَّعْرِيفَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ أَعْمَالِهَا الَّتِي نَجَت بها، فالمُقدم فِي الِاعْتِبَارِ هُوَ الْعَمَلُ لَا الْعَامِلُ، فَلَوْ سَأَلُوا: مَا وَصْفُهَا؟ أَوْ مَا عَمَلُهَا؟ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَكَانَ أَشَدَّ مُطَابَقَةً فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، فَلَمَّا فَهِمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهُمْ مَا قَصَدُوا أَجَابَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَنَقُولُ: لَمَّا تَرَكُوا السُّؤَالَ عَمَّا كَانَ الْأَوْلَى فِي حَقِّهِمْ، أَتَى بِهِ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ، حِرْصًا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى تَعْلِيمِهِمْ مَا ينبغي لهم تعلمه والسؤال عنه.
الباب العاشر [في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه سبل أهل الابتداع فضلت عن الهدى بعد البيان]
الباب العاشر [فِي بَيَانِ مَعْنَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي انْحَرَفَتْ عَنْهُ سُبُلُ أَهْلِ الِابْتِدَاعِ فضلَّت عَنِ الهُدى بعد البيان] لا بد مِنْ تَقْدِيمِ مقدِّمة قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَطْلُوبِ؛ وذلك أن الإحداث في الشريعة يقع: 1- إمَّا مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ. 2- وإمَّا مِنْ جِهَةِ تَحْسِينِ الظَّنِّ بِالْعَقْلِ. 3- وإمَّا مِنْ جِهَةِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي طَلَبِ الْحَقِّ. وَهَذَا الحصرُ بِحَسَبِ الِاسْتِقْرَاءِ من الكتاب والسنة، إِلَّا أَنَّ الْجِهَاتِ الثَّلَاثَ قَدْ تَنْفَرِدُ وَقَدْ تَجْتَمِعُ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ فَتَارَةً تَجْتَمِعُ مِنْهَا اثْنَتَانِ، وتارة تجتمع الثلاث، فالجميع أربعة أنواع: 1- الجهل بأدوات الفهم. 2- الجهل بالمقاصد.
3- تحسين الظن بالعقل. 4- اتباع الْهَوَى. فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وباللهِ التَّوْفِيقُ. (النَّوْعُ الأوَّل) : إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا لَا عُجمة فِيهِ، بِمَعْنَى أنه جارٍ فِي ألفاظِه ومعانيِه وأسالِيبه عَلَى لسانِ الْعَرَبِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً} (¬1) ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُرْآناً عَرَبياً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (¬2) . وَكَانَ المُنَزَّل عَلَيْهِ الْقُرْآنُ عَرَبِيًّا أَفْصَحَ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ الَّذِينَ بُعث فِيهِمْ عَرَبًا أَيْضًا، فَجَرَى الخطابُ بِهِ عَلَى مُعْتَادِهِمْ فِي لِسَانِهِمْ، فَلَيْسَ فِيهِ شيءٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي إِلَّا وَهُوَ جارٍ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ، وَلَمْ يُدَاخِلْهُ شَيْءٌ بَلْ نَفَى عَنْهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ أَعْجَمِيٌّ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَمِيٌّ، وَهذَا لِسَانٌ عَرَبيٌّ مُبينٌ} (¬3) . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُفهم كِتَابُ اللهِ تَعَالَى إِلَّا مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ وهو اعتبار ألفاظِها ومعانِيها وأسالِيبِها. فَعَلَى النَّاظِرِ فِي الشَّرِيعَةِ والمُتكلم فِيهَا أُصولاً وَفُرُوعًا أَمْرَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي شيءٍ من ذلك حتى يكون عارفاً بلسان العرب. ¬
(الثَّانِي) : أَنَّهُ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السُّنَّةِ لفظٌ أَوْ مَعْنًى فَلَا يُقْدِم عَلَى الْقَوْلِ فِيهِ دُونَ أَنْ يَسْتَظْهِرَ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَهُ عِلْمٌ بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ يَكُونُ إِمَامًا فِيهَا، وَلَكِنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَالْأَوْلَى فِي حَقِّهِ الِاحْتِيَاطُ، إِذْ قَدْ يَذْهَبُ عَلَى الْعَرَبِيِّ المَحض بَعْضُ الْمَعَانِي الخاصة حتى يسأل عنها. (النَّوْعُ الثَّانِي) : أنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الشَّرِيعَةَ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا تبيانُ كلِّ شيءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ فِي تَكَالِيفِهِمُ الَّتِي أُمروا بِهَا، وَتَعَبُّدَاتِهِمُ الَّتِي طُوِّقُوها فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَلَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَمَلَ الدينُ بِشَهَادَةِ اللهِ تَعَالَى بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {الْيوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً} (¬1) ، فكلُّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ بَقِيَ فِي الدِّينِ شَيْءٌ لَمْ يَكْمُل فَقَدْ كُذِّب بقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} . فعلى الناظر في الشريعة أَمْرَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْكَمَالِ لَا بِعَيْنِ النُّقْصَانِ، وَيَعْتَبِرَهَا اعْتِبَارًا كُلِّيًّا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَلَا يَخْرُجَ عَنْهَا البتَّة، لأنَّ الْخُرُوجَ عَنْهَا تِيهٌ وَضَلَالٌ وَرَميٌ فِي عَمَايَةٍ، كيف وقد ثبت كمالُها وتمامُها؟ فالزائد والمنقص فِي جِهَتِهَا هُوَ الْمُبْتَدِعُ بِإِطْلَاقٍ وَالْمُنْحَرِفُ عَنِ الجادة إلى بُنَيَّاتِ الطُرُق. (الثاني) : أَنْ يُوقن أَنَّهُ لَا تضادٌ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَلَا بَيْنَ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَلَا بَيْنَ أَحَدِهِمَا مَعَ الْآخَرِ، بَلِ الْجَمِيعُ جارٍ عَلَى مَهْيَعٍ (¬2) وَاحِدٍ، وَمُنْتَظِمٍ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَإِذَا أدَّاه بادي الرَّأْيِ إِلَى ظَاهِرِ اخْتِلَافٍ فواجبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ انْتِفَاءَ الِاخْتِلَافِ، لأنَّ اللهَ قَدْ شَهِدَ له أن لا اختلاف فيه. ¬
(النَّوْعُ الثَّالِثُ) : أنَّ اللهَ جَعَلَ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ لَا تَتَعَدَّاهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا سَبِيلًا إِلَى الْإِدْرَاكِ فِي كُلِّ مَطْلُوبٍ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَاسْتَوَتْ مَعَ الْبَارِي تَعَالَى فِي إِدْرَاكِ جَمِيعِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ، إِذْ لَوْ كَانَ كيف كان يكون؟ هَذَا وَجْهٌ، وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْعَقْلَ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ قَاصِرُ الْإِدْرَاكِ فِي عِلْمِهِ، فَمَا ادَّعى عِلْمَهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي زَعَمَ أَنَّهُ أَدْرَكَهَا، لإمكانِ أَنْ يُدركها مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَعَلَى حال دون حال. فالإنسانُ -وَإِنْ زَعَمَ فِي الْأَمْرِ أنَّه أَدْرَكَهُ وَقَتَلَهُ عِلْمًا- لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ إِلَّا وَقَدْ عَقَلَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَقَلَ، وَأَدْرَكَ مِنْ عِلْمِهِ مَا لَمْ يَكُنْ أَدْرَكَ قَبْلَ ذَلِكَ، كُلُّ أَحَدٍ يُشَاهِدُ (ذَلِكَ) مِنْ نَفْسِهِ عِيَانًا، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ بمعلومٍ دون معلوم، ولا بذات دُونَ صِفَةٍ، وَلَا فِعْلٍ دُونَ حُكْمٍ فَكَيْفَ يصِحُّ دَعْوَى الِاسْتِقْلَالِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِلْمُ الْعَبْدِ؟ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى دَعْوَى الِاسْتِقْلَالِ البتَّة حَتَّى يَسْتَظْهِرَ فِي مَسْأَلَتِهِ بِالشَّرْعِ -إنْ كَانَتْ شَرْعِيَّةً- لأنَّ أَوْصَافَ الشَّارِعِ لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا البتَّة، وَلَا قُصُورَ وَلَا نَقْصَ، بَلْ مباديها مَوْضُوعَةٌ عَلَى وَفْقِ الْغَايَاتِ، وَهِيَ مِنِ الحِكمة. (النَّوْعُ الرَّابِعُ) : إِنَّ الشَّرِيعَةَ مَوْضُوعَةٌ لِإِخْرَاجِ المكلَّف عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ، حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ. فاللهُ تَعَالَى وَضَعَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ كبيرهم وصغيرهم مطيعهم وعاصِيهم، بَرْهم وفاجرهم. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الشَّرَائِعِ إنَّما وُضِعَتْ لِتَكُونَ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الأُمم الَّتِي تَنْزِلُ
فِيهِمْ تِلْكَ الشَّرِيعَةُ، حَتَّى إنَّ المُرْسَليِن بِهَا صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ أَحْكَامِهَا. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخاطب بِهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وتقلُّباته، مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ دُونَ أُمَّته، أَوْ كَانَ عاماً له ولأُمته، كقوله تعالى: {يَا أيُّهاالنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أحَلَّ اللهُُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتِ أَزْوَاجِكَ، وَاللهُُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1) . فَالشَّرِيعَةُ هِيَ الْحَاكِمَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ المكلَّفين، وَهِيَ الطَّرِيقُ الْمُوصِلُ وَالْهَادِي الْأَعْظَمُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ، وَلكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عَبَادِنا} (¬2) ؛ فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أوَّلُ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ بِالْكِتَابِ وَالْإِيمَانِ، ثُمَّ مَنِ اتَّبَعَهُ فِيهِ. وَالْكِتَابُ هُوَ الْهَادِي، وَالْوَحْيُ المُنَزَّلُ عَلَيْهِ مُرْشِدٌ ومُبَيِّنٌ لذلك الهدى والخلق مهتدون بالجميع. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَسَائِرُ الْخَلْقِ حَرِيُّون بِأَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ حُجَّةً حَاكِمَةً عَلَيْهِمْ وَمَنَارًا يَهْتَدُونَ بِهَا إِلَى الْحَقِّ، وشَرَفُهم إنَّما يَثْبُتُ بحسبِ مَا اتُّصِفوا بِهِ مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ أحكامِها والعملِ بِهَا قَوْلًا وَاعْتِقَادًا وَعَمَلًا، لَا بِحَسَبِ عُقُولِهِمْ فَقَطْ، وَلَا بِحَسَبِ شَرَفِهم فِي قَوْمِهِمْ فَقَطْ، لأنَّ اللهَ تَعَالَى إنَّما أَثْبَتَ الشَّرَفَ بالتقوى لا غيرها لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِِ أَتْقَاكُمْ} (¬3) ؛ فَمَنْ كَانَ أَشَدَّ مُحَافَظَةً عَلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالشَّرَفِ وَالْكَرَمِ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذلك ¬
لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَبْلُغَ فِي الشَّرَفِ مَبْلَغَ الْأَعْلَى فِي اتِّبَاعها، فالشرفُ إِذًا إنَّما هُوَ بحسب المبالغةِ في تحكيم الشريعة. ثُمَّ نَقُولُ بَعْدَ هَذَا: إنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ شرَّف أَهْلَ الْعِلْمِ وَرَفَعَ أَقْدَارَهُمْ، وعظَّم مِقْدَارَهُمْ، ودلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، بَلْ قَدِ اتَّفَقَ العقلاءُ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَأَنَّهُمُ المُستحقون شَرَفَ الْمَنَازِلِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُنازع فِيهِ عَاقِلٌ. وَاتَّفَقَ أَهْلُ الشَّرَائِعِ عَلَى أَنَّ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ أَفْضَلُ الْعُلُومِ وَأَعْظَمُهَا أَجْرًا عند اللهِ يوم القيامة. وَأَيْضًا فَإِنَّ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ مِنْهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْوَسَائِلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّعَادَةِ الأُخروية، وَمِنْهَا ما يجري مجرى المقاصد، والذي يجري مجرى المقاصد أعلى مما ليس كذلك، كعلمِ الْعَرَبِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْفِقْهِ، فَإِنَّهُ كَالْوَسِيلَةِ، فعلمُ الْفِقْهِ أَعْلَى. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَأَهْلُ العلمِ أشرفُ النَّاسِ وَأَعْظَمُ مَنْزِلَةً بِلَا إِشْكَالٍ وَلَا نِزَاعٍ وإنَّما وَقَعَ الثناءُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ حَيْثُ اتِّصَافِهِمْ بِالْعِلْمِ لَا مِنْ جهةٍ أُخرى، ودلَّ عَلَى ذَلِكَ وقوعُ الثناءِ عَلَيْهِمْ مُقَيَّداً بِالِاتِّصَافِ بِهِ، فَهُوَ إِذًا الْعِلَّةُ فِي الثناءِ؛ وَلَوْلَا ذَلِكَ الِاتِّصَافُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مزيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَلِذَلِكَ إِذَا وَقَعَ النِزاع فِي مسألةٍ شرعيةٍ وَجَبَ ردُّها إِلَى الشَّرِيعَةِ حَيْثُ يَثْبُت الْحَقُّ فِيهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فإنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِِ وَالرَّسُولِ} (¬1) الآية. ¬
فالمكلَّف بِأَحْكَامِهَا لَا يَخْلُو مِنْ أحدِ أُمورٍ ثَلَاثَةٍ: (أَحَدُهَا) : أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِيهَا: فحكمُه مَا أدَّاه إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فِيهَا، لأنَّ اجتهادَه فِي الأُمور الَّتِي لَيْسَتْ دَلَالَتُهَا وَاضِحَةً إنَّما يَقَعُ مَوْقِعَهُ عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ مَا ظَهَرَ لَهُ هُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى قَصْدِ الشَّارِعِ وَالْأَوْلَى بِأَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ، دُونَ مَا ظَهَرَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ مَا هُوَ الْأَقْرَبُ. (وَالثَّانِي) : أَنْ يَكُونَ مقلِّداً صِرفاً، خَلِياً مِنَ العلمِ الحاكمِ جملة، فلا بد لَهُ مِنْ قائدٍ يَقُودُهُ، وحاكمٍ يَحْكُمُ عَلَيْهِ، وعالمٍ يَقْتَدِي بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُقتدى بِهِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالِمٌ بِالْعِلْمِ الْحَاكِمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعِلْمِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ اتِّبَاعُهُ وَلَا الِانْقِيَادُ لِحُكْمِهِ، بَلْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَخْطُرَ بِخَاطِرِ الْعَامِّيِّ وَلَا غَيْرِهِ تَقْلِيدُ الْغَيْرِ فِي أَمْرٍ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُمكن أَنْ يسلِّم الْمَرِيضُ نَفْسَهُ إِلَى أحدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَبِيبٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَاقِدَ العقل. (وَالثَّالِثُ) : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ بالغٍ مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ، لَكِنَّهُ يَفْهَمُ الدَّلِيلَ وموقِعَه، ويَصْلُح فهمُه لِلتَّرْجِيحِ بالمرجِّحَات المُعتبرة فيه تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يُعتبر تَرْجِيحُهُ أَوْ نَظَرُهُ، أَوْ لَا، فَإِنِ اعْتَبَرْنَاهُ، صَارَ مِثْلَ الْمُجْتَهِدِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَالْمُجْتَهِدُ إنَّما هُوَ تابعٌ لِلْعِلْمِ الْحَاكِمِ ناظرٌ نَحْوَهُ، متوجهٌ شَطْرَهُ، فَالَّذِي يُشْبِهُهُ كَذَلِكَ، وَإِنْ لم نعتبره فلا بد مِنْ رُجُوعِهِ إِلَى دَرَجَةِ الْعَامِّيِّ، وَالْعَامِّيُّ إنَّما اتَّبَعَ الْمُجْتَهِدَ مِنْ جِهَةِ تَوَجُّهه إِلَى صَوْبِ العلم الحاكم، فكذلك من نزل مَنْزِلته. فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يُتبع أحدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَوَجِّهٌ نَحْوَ الشَّرِيعَةِ، قائمٌ بحجَّتها، حَاكِمٌ بِأَحْكَامِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وأنَّه مَنْ وُجِد مُتَوَجِّهًا غَيْرَ تِلْكَ الوُجهةَ فِي جزئيِّةٍ مِنَ الجُزئيات أَوْ فرعٍ مِنَ الْفُرُوعِ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا وَلَا
اسْتَقَامَ أَنْ يَكُونَ مُقْتَدًى بِهِ فِيمَا حَادَ فيه عن صواب الشَّرِيعَةِ البتَّة. فَيَجِبُ إِذًا عَلَى النَّاظِرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَمْرَانِ؛ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ: (أَحَدُهُمَا) : أَنْ لَا يَتَّبِعَ الْعَالِمَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ عالمٌ بِالْعِلْمِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ. (ثانياً) : أَنْ لَا يُصمِّم عَلَى تَقْلِيدِ مَنْ تبيَّن له في تقليده الخطأُ شرعاً، فَإِذَا تبيَّن لَهُ فِي بَعْضِ مَسَائِلَ مُتَنَوِّعَةٍ الخطأُ والخروجُ عَنْ صوبِ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ فَلَا يَتَعَصَّبُ لِمَتْبُوعِهِ بِالتَّمَادِي عَلَى اتِّبَاعِهِ فِيمَا ظَهَرَ فِيهِ خَطَؤُهُ، لأنَّ تعصُّبه يُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ أوَّلاً، ثُمَّ إِلَى مُخَالَفَةِ مَتْبُوعِهِ: أمَّا خِلَافُهُ لِلشَّرْعِ فبالعَرَض، وأمَّا خِلَافُهُ لِمَتْبُوعِهِ فَلِخُرُوجِهِ على شَرْطِ الاتِّباع، لأنَّ كلَّ عَالِمٍ يصرِّح أَوْ يعرِّض بِأَنَّ اتِّبَاعَهُ إنَّما يَكُونُ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ حَاكِمٌ بِالشَّرِيعَةِ لَا بِغَيْرِهَا، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ حاكمٌ بِخِلَافِ الشَّرِيعَةِ خَرَجَ عَنْ شَرْطِ متبوعه بالتصميم على تقليده. فالحاصل أَنَّ تَحْكِيمَ الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى كَوْنِهِمْ وَسَائِلَ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا ضَلَالٌ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا باللهِ، وَإِنَّ الْحُجَّةَ الْقَاطِعَةَ والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره. ثُمَّ نَقُولُ: إنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَنْ رَأَى سيرَهم والنقلَ عَنْهُمْ وطالعَ أحوالَهم عَلِمَ ذَلِكَ عِلْمًا يَقِينًا، أَلَا تَرَى أَصْحَابَ السقيفةِ لَمَّا تَنَازَعُوا فِي الْإِمَارَةِ ـ حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ ـ: ((مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ)) (¬1) ، فَأَتَى الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ: ((الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ)) (¬2) ، أَذْعَنُوا لِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ ولم يعبأُوا ¬
بِرَأي مَنْ رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الحق هو المُقَدَّم على آراء الرجال. إِذًا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ المُعتبر دُونَ الرِّجَالِ فَالْحَقُّ أَيْضًا لَا يُعرف دُونَ وسائِطهم بَلْ بِهِمْ يُتوصل إِلَيْهِ وَهُمُ الأدلاَّءُ عَلَى طريقه. تمَّ اختصارُ كتابِ ((الاعتصام)) في بلدِ اللهِ الحرامِ في شهرِ رمضانَ المباركِ من عامِ سبعة عشر وأربعمائة وألف من هجرة صطفى صلى الله عليه وسلم، آخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين (¬1) . ¬
فهرس الموضوعات التفصيلي
فهرس الموضوعات التفصيلي (*) الموضوع محتويات الكتاب مقدمة الطبعة الثانية مقدمة الكتاب مقدمة المصنِّف وصف الغربة الباب الأول [في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظاً] فصل [البدعة التَّركيَّة] تارك الْمَطْلُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ نَدْبًا أَوْ وُجُوبًا، هَلْ يُسَمَّى مبتدعاً؟ الباب الثاني [في ذم البدع وسوء منقلب أصحابها] فصل [الأدلة من النظر على ذم البدع] وذلك من وجوه: (أحدها) أنه قد علم بالتجارب والخبرة أن العقول غير مستقلة بمصالحها (الثاني) أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ كَامِلَةً لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ ولا النقصان (الثالث) أن المبتدع معاند للشرع ومشاقٌّ له (الرابع) أَنَّ الْمُبْتَدِعَ قَدْ نزَّل نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْمُضَاهِي للشارع (الخامس) أنه اتباع للهوى للاتباع في الأحكام الشرعية طريقان: (أحدهما) الشريعة (الثاني) الهوى، وهو المذموم فصل [الأدلة من النقل على ذم البدع] وذلك من وجوه:
(أحدها) ما جاء في القرآن الكريم (الثاني) ما جاء في الأحاديث (الثالث) مَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ والتابعين وَمِمَّا جَاءَ عَمَّنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم فصل [ما جاء في ذم الرأي المذموم] فصل [مَا فِي الْبِدَعِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَحْذُورَةِ، وَالْمَعَانِي المذمومة] - أن البدعة لا يقبل معها عمل إما أن يراد أي عمل أو العمل الذي ابتدع فيه خاصة (أما الأول) فيمكن على أحد أوجه ثلاثة: 1-أن يكون على ظاهره كل مبتدع أي بدعة 2- أَنْ تَكُونَ بِدْعَتُهُ أَصْلًا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ سَائِرُ الأعمال 3- أن صاحب البدعة قد يجره اعتقاد بدعته إِلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي يُصيِّر اعْتِقَادَهُ فِي الشَّرِيعَةِ ضعيفاً (أما الثَّانِي) وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِعَدَمِ الْقَبُولِ لِأَعْمَالِهِمْ ما ابتدعوا فيه خاصة - أَنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ تُنْزَعُ مِنْهُ الْعِصْمَةُ وَيُوكَلُ إلى نفسه - أن الماشي إليه والموقِّر له معين على هدم الإسلام توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين: إِحْدَاهُمَا: الْتِفَاتُ الْجُهَّالِ وَالْعَامَّةِ إِلَى ذَلِكَ التَّوْقِيرِ وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِذَا وُقِّرَ مِنْ أَجْلِ بِدْعَتِهِ صار ذلك كالمحرِّض لَهُ عَلَى إِنْشَاءِ الِابْتِدَاعِ فِي كُلِّ شيءٍ - أن صاحبها ملعون على لسان الشريعة - أنه يزداد من الله بعداً - أَنَّ الْبِدَعَ مَظِنَّةُ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أهل الإسلام - أَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - أَنَّ عَلَى مُبْتَدِعِهَا إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلى يوم القيامة - أن صاحبها ليس له من توبة - أَنَّ الْمُبْتَدِعَ يُلْقَى عَلَيْهِ الذُّلُّ فِي الدُّنْيَا والغضب من الله تعالى - الْبُعْدُ عَنْ حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
- الخوف عليه من أن يكون كافراً - أَنَّهُ يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا سُوءُ الْخَاتِمَةِ وَالْعِيَاذُ بالله - اسوداد الوجه في الآخرة - البراءة منه - أنه يخشى عليه الفتنة فصل [الفرق بين البدعة والمعصية] الباب الثالث [في أن ذم البدع عامٌّ لا يخص واحدة دون أُخرى وفيه جملةٌ من شبه المبتدعة] مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ حُجَّةٌ فِي عُمُومِ الذَّمِّ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا جَاءَتْ مُطْلَقَةً عامة الثاني: 00000 الثالث: إِجْمَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ يليهم الرابع: أن متعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه المبتدع مذمومٌ آثِمٌ، وَذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ وَيَدُلُّ على ذلك أربعة أوجه: 1- أنَّ الْأَدِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ إِنْ جاءَت فِيهِمْ نَصًّا فظاهر 2- أنَّ الشَّرْعَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْهَوَى هو المتَّبَع الأول في البدع 3- أنَّ عامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح 4- أنَّ كلَّ راسخٍ لا يبتدع أبداً فصل [أقسام المنسوبين إلى البدعة] (القسم الأول) [أنْ يكون مجتهداً في البدعة] على ضربين: 1- أن يصح كونه مجتهداً 2- وأما إن لم يصح أَنَّهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فَهُوَ الْحَرِيُّ بِاسْتِنْبَاطِ مَا خالف الشرع (القسم الثاني) [المقلد مع الإقرار بدليل المجتهد] (القسم الثالث) [مقلد في البدعة كالعامي الصرف] فصل [لفظ ((أهل الأهواء)) و ((أهل البدع)) ] فصل [اختلاف مراتب إثم المبتدع] 1- الاختلاف من جهة الإسرار والإعلان 2- الاختلاف من جهة الدعوة إليها وعدمها
3- الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْبِدْعَةِ حَقِيقِيَّةً أَوْ إضافية 4- الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا ظَاهِرَةَ الْمَأْخَذِ أَوْ مشكلة 5- الاختلاف بحسب الإصرار عليها أو عدمه 6- الاختلاف من جهة كونها كفراً وعدمه فصل [أنواع القيام على أهل البدع] وهو أنواع: (أحدها) الإرشاد والتعليم وإقامة الحجة (الثاني) الهجران (الثالث) [التغريب] (الرابع) [السجن] (الخامس) ذكرهم بما هم عليه وإشاعة بدعتهم (السادس) القتال (السابع) القتل (الثامن) مَنْ أسرَّها وَكَانَتْ كُفْرًا أَوْ مَا يَرْجِعُ إليه فالقتل بلا استتابة (التاسع) تكفير من دل الدليل على كفره (العاشر) لَا يَرِثُهُمْ وَرَثَتُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَرِثُونَ أحداً منهم (الحادي عشر) الأمر بأن لا يناكحوا (الثاني عشر) تجريحهم على الجملة (الثالث عشر) ترك عيادة مرضاهم (الرابع عشر) ترك شهود جنائزهم (الخامس عشر) الضرب فصل [تقسيم البدع إلى حسن وقبيح، والرد عليه] وَحَاصِلُ مَا ذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى اشكالين: (الأول) مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم -: ((من سن سنة حسنة)) (الثاني) أَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ وَأَعْلَاهُمُ الصَّحَابَةُ ـ قَدْ عَمِلُوا بِمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ كتاب ولا سنة مما رأوه حسناً فالجواب عن الإشكال الأول من وجهين: أحدهما: 00000 الثاني: 00000
والجواب عن الأشكال الثاني فصل [تقسيم البدع الى خمسة أقسام والرد عليه] فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ سَمَّاهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدْعَةً وحسَّنها بِقَوْلِهِ: ((نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ)) فالجواب: 00000 الْبَابُ الرَّابِعُ [فِي مَأْخَذِ أَهْلِ الْبِدَعِ بِالِاسْتِدْلَالِ] فصل [بيان طرق أهل الزيغ] 1- اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة 2- ردهم للأحاديث 3- تَخَرُّصُهم عَلَى الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْعَرَبِيَّيْنِ 4- انْحِرَافُهُمْ عَنِ الْأُصُولِ الْوَاضِحَةِ إِلَى اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ 5- تحريف الأدلة عن مواضعها 6- بناءُ طَائِفَةٍ مِنْهُمُ الظَّوَاهِرَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى تَأْوِيلَاتٍ لا تعقل 7- التغالي في تعظيم شيوخهم 8-[الاحتجاج بالمنامات] النَّظَرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((مَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ فَقَدَ رَآنِي)) الْبَابُ الْخَامِسُ [فِي أَحْكَامِ الْبِدَعِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ والفرق بينهما] فصل [البدع الإضافية] فصل [سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما] وذلك عَلَى ضَرْبَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ أَوْ يتركه لأنه لا داعية له تقتضيه (الثاني) 0000000000 فصل [من البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره] فصل [من البدع الإضافية: اخراج العبادة عن حدِّها الشرعي] فصل [البدع الإضافية: هل يُعتد بها عبادات يتقرب بها إلى الله] ثلاثة أقسام لا بد من بيانها: (الْأَوَّلُ) وَهُوَ أَنْ تَنْفَرِدَ الْبِدْعَةُ عَنِ الْعَمَلِ المشروع
(الثَّانِي) وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْعَمَلُ الْعَادِيُّ أَوْ غيره كالوصف للعمل المشروع (الثَّالِثُ) وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْوَصْفُ عُرْضَةً لِأَنْ يَنْضَمَّ إِلَى الْعِبَادَةِ حَتَّى يُعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ من أوصافها أو جزءُ منها يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ جِهَةِ مَآلِهِ، وَلَنَا فِيهِ مَسْلَكَانِ: (أَحَدُهُمَا) التَّمَسُّكُ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ في أصل المسألة (الثَّانِي) مَا دَلَّ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الذَّرَائِعِ عَلَى أَنَّ الذَّرَائِعَ فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَذَرَّعِ إليه الباب السادس [في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة] منها ما هو كفر وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَتْ بِكُفْرٍ أَوْ يُخْتَلَفُ هَلْ هِيَ كُفْرٌ أَمْ لا ومنها ما هو معصية ويتفق عليها ليست بكفر ومنها ما هو مكروه المعاصي منها صغائر ومنها كبائر فصل [كل بدعة ضلالة] 0 فصل [هل في البدع صغائر وكبائر] ثبت أن للبدع أمران: (أحدهما) أنها مضادة للشارع (الثاني) أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ـ وَإِنْ قَلَّت ـ تَشْرِيعٌ زَائِدٌ أو ناقص وَحَاصِلُ الْمَعْصِيَةِ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ فِي فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لِمَا يُعْتَقَدُ صِحَّتَهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَالْبِدْعَةُ حَاصِلُهَا ... مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة فصل [شروط كون البدع صغيرة] وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ مِنَ الْبِدَعِ مَا يَكُونُ صَغِيرَةً؛ فَذَلِكَ بِشُرُوطٍ: (أَحَدُهَا) أَنْ لَا يُدَاوِمَ عليها (الثاني) أن لا يدعو إليها (الثَّالِثُ) أَنْ لَا تَفْعَلُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي هي مجتمعات الناس
(الرابع) أن لا يستصغرها ولا يستحقرها الباب السابع [في الابتداع: هل يختصُّ بالأُمور العبادية؟ أو يدخل في العاديَّات؟] أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ ـ بِحَسَبِ النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ فِيهَا ـ عَلَى ضَرْبَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ التَّعَبُّدَاتِ (الثاني) أن تكون من قبيل العادات الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ بِدْعَةٌ، وَالْمَعْصِيَةِ التي هي ليست ببدعة فصل [في أقسام نشوء البدع] البدعة تنشأُ عَنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا) ـ وَهُوَ أَظْهَرُ الأقسام ـ أن يخترعها المبتدع (الثاني) أَنْ يَعْمَلَ بِهَا الْعَالِمُ عَلَى وَجْهِ الْمُخَالَفَةِ (الثالث) أَنْ يَعْمَلَ بِهَا الْجَاهِلُ مَعَ سُكُوتِ الْعَالِمِ عن الإنكار (الرابع) من باب الذرائع الباب الثامن [في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان] الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ: الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ الْحُكْمُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: (أَحَدُهَا) أَنْ يَشْهَدَ الشرع بقبوله (الثاني) ما شهد الشرع برده (الثالث) ما سكتت عنه الشواهد الخاصة تعريف الاستدلال المرسل، المسمى بالمصالح المرسلة وبسطه بالأمثلة (المثال الأول) جمع المصحف (المثال الثاني) تضمين الصناع (المثال الثالث) للإمام إِذَا كَانَ عَدْلًا أَنْ يُوَظِّفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ ما يراه كافياً (المثال الرابع) انه يجوز قتل الجماعة بالواحد شروط الأخذ بالمصالح المرسلة: (أحدها) الملاءَمة لمقاصد الشرع (الثاني) لا مَدْخَلَ لَهَا فِي التَّعَبُّدَاتِ، وَلَا مَا جَرَى مجراها من الأُمور الشرعية (الثالث) أَنَّ حَاصِلَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ يَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ، وَرَفْعِ حَرَجٍ
لازم في الدين إِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ عُلم أَنَّ الْبِدَعَ كالمضادة للمصالح المرسلة فصل [الفرق بين البدع والاستحسان] فصل [رد حجج المبتدعة في الاستحسان] فصل [رد شبهة استفتاء القلب] الباب التاسع [في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين] أسباب الاختلاف ثلاثة: (أَحَدُهَا) أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَوْ يُعْتقدَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ (الثاني) اتباع الهوى (الثالث) التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت هَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّلَاثَةُ رَاجِعَةٌ فِي التَّحْصِيلِ إِلَى وجه واحد: وهو الجهل بمقاصد الشريعة فصل [حديث الفِرَق وفيه مَسَائِلَ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَقِيقَةِ هَذَا الِافْتِرَاقِ المسألة الثانية: 00000 المسألة الثالثة: 00000 المسألة الرابعة: إن هذه الأقوال مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْفِرَقَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْمُبْتَدِعَةُ فِي قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ عَلَى الْخُصُوصِ المسألة الخامسة: أَنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ إِنَّمَا تَصِيرُ فِرَقًا بِخِلَافِهَا لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ فِي مَعْنًى كُلِّي فِي الدِّينِ المسألة السادسة: في تعيين هذه الفرق قال جماعة من العلماء: أُصول البدع أربعة: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة المسألة السابعة: أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَتَعَيَّنُونَ فَلَهُمْ خواص وعلامات يعرفون بها فأما العلامات الإجمالية فثلاثة: (أحدها) الفرقة (الثانية) اتباع المتشابه من القرآن
(الثالثة) اتباع الهوى وأما العلامة التفصيلية المسألة الثامنة: أنها كلها في النار المسألة التاسعة: أن الحق واحد لا يختلف المسألة العاشرة: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يعين من الفرق إلا فرقة واحدة المسألة الحادية عشرة: معنى الجماعة المرادة في الأحاديث (أحدها) إنها السواد الأعظم (الثاني) إنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين (الثالث) إن الجماعة هي الصحابة (الرابع) إن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام (الخامس) أَنَّ الْجَمَاعَةَ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى أمير المسألة الثانية عشرة: أَنَّ الْجَمِيعَ اتَّفَقُوا عَلَى اعْتِبَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ والاجتهاد المسألة الثالثة عشرة: وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي الْجَوَابِ تَعْيِينُ الْوَصْفِ لَا تعيين الموصوف الباب العاشر [فِي بَيَانِ مَعْنَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي انْحَرَفَتْ عَنْهُ سُبُلُ أَهْلِ الِابْتِدَاعِ فَضَلَّتْ عَنِ الْهُدَى بعد البيان] أنواع الإحداث في الشريعة أربعة: 1- الجهل بأدوات الفهم 2- الجهل بالمقاصد 3- تحسين الظن بالعقل 4- اتباع الهوى (النَّوْعُ الْأَوَّلُ) إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ القرآن عربياً لا عجمة فيه على النَّاظِرِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْمُتَكَلِّمِ فِيهَا أُصولاً وَفُرُوعًا أمران: (أحدهما) أن يكون عارفاً بلسان العرب 0 (الثَّانِي) أَنَّهُ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السُّنَّةِ لَفْظٌ أَوْ مَعْنًى فَلَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَوْلِ فِيهِ دُونَ أَنْ يَسْتَظْهِرَ بغيره ممن له علم بالعربية (النَّوْعُ الثَّانِي) إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الشَّرِيعَةَ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا تبيان كل شيءٍ يحتاج إليه الخلق
على الناظر في الشريعة أَمْرَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْكَمَالِ لا بعين النقصان (الثاني) أَنْ يُوقِنَ أَنَّهُ لَا تَضَادَّ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَلَا بَيْنَ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَلَا بَيْنَ أحدهما مع الآخر (النَّوْعُ الثَّالِثُ) أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعُقُولِ فِي إدراكها حداً تنتهي إليه لا تتعداه (النَّوْعُ الرَّابِعُ) إِنَّ الشَّرِيعَةَ مَوْضُوعَةٌ لِإِخْرَاجِ الْمُكَلَّفِ عن داعية هواه عُلُومَ الشَّرِيعَةِ مِنْهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْوَسَائِلِ، ومنها ما يجري مجرى المقاصد أهل الْعِلْمِ أَشْرَفُ النَّاسِ وَأَعْظَمُ مَنْزِلَةً بِلَا إِشْكَالٍ ولا نزاع المكلف بأحكام الشريعة لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أُمور ثَلَاثَةٍ: (أَحَدُهَا) أن يكون مجتهداً فيها (الثاني) أن يكون مقلداً صرفاً (الثالث) أَنْ يَكُونَ غَيْرَ بَالِغٍ مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ، لَكِنَّهُ يفهم الدليل وموقعه تَحْكِيمَ الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى كَوْنِهِمْ وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعاً ضلال إِذًا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمُعْتَبَرُ دُونَ الرِّجَالِ فَالْحَقُّ أَيْضًا لَا يُعْرَفُ دُونَ وَسَائِطِهِمْ