مذكرات مالك بن نبي - العفن

مالك بن نبي

مذكرات مالك بن نبي العفن الجزء الأول (1932 - 1940) ترجمة نور الدين خندودي دار الأمة Dar El Oumma

مالك بن نبي العفن مذكرات الجزء الأول (1932 - 1940) تقديم الدكتور أحمد بن نعمان تصدير بقلم عبد الرحمان بن عمارة ترجمة نور الدين خندودي دار الأمة Dar El Oumma

اللغة الأصلية: الفرنسية الترجمة إلى اللغة العربية: نور الدين خندودي العنوان الأصلي، Pourritures Mémoires Tome l (1932 - 1940) جميع الحقوق محفوظة شركة دار الأمة للطباعةوالنشر والتوزيع ص. ب 109 برج الكيفان 16120 الجزائر E-Mail: [email protected] تصفيف ومعالجه النص: ياسين أصنام الطبعة الأولى 2007 إيداع قانوني: 2006/ 3070 ردمك: 5 223 67 8961 978

مجموعة من الطلبة من المغرب العربي بباريس في سنوات 1930. ويظهر في الصف الثالث المرحومان: مالك بن نبي (دائرة) ومحمد حموده بن ساعي (مربع). كما يظهر في الصورة الهادي نويرة، الوزير الأول التونسي الأسبق وأحمد بلفرج، وزير الخارجية المغربية في الخمسينيات من القرن الماضي.

تقديم بقلم الدكتور أحمد بن نعمان

بسم الله الرحمن الرحيم تقديم بقلم الدكتور أحمد بن نعمان إذا لم يكن الأولون قد تركوا للآخرين ما يقولونه من جديد عن الأستاذ مالك بن نبي الذي نظمت لدراسة أفكاره ندوات، وعقدت من أجله مؤتمرات، وأعدت فيه عشرات الرسائل في العديد من الجامعات ... فإن ما يمكن إضافته للقارئ الكريم مما قد يعتبر جديدا عنه، تعريفا به، أو تقديما له، هو ما قاله في ندواته الأسبوعية الخاصة التي كان يعقدها في بيته، مما لم يذكر، أو ما كتبه في مذكراته ولم ينشر، وكلتا الصفتين أو الحالتين تنطبقان على هذا العمل. وما دمت أحد الذين عايشوا الوضعين أو الحالتين معا، فإني أسمح لنفسي بتناول الحديث عنه من هذه الزاوية، لأقف عند نقطتين متكاملتين فرضهما علي فرضا هذا الكتابـ (الوثيقة)

الذي أسعد بتقديمه لقراء العربية، عن نموذج نادر من الوطنية الجزائرية الأصيلة، في بعض أهم جوانبها الفكرية، الخفية، من أجل استبانة طريق الحرية، وتحصين الأجيال الفتية ضد الأمراض المعدية والجراثيم المميتة لأصحاب القابلية المقيتة، المتأصلة في نفوس بعض فاقدي الهمم، وعديمي الذمم، الجاهلين لأحابيل المحتلين، ومخططاتهم الخطيرة التي جعلت الكاتب الكبير يتحرق على وضع الوطن وأهله، بين النظرة الخبيرة، واليد القصيرة ... ولم يجد أمامه سوى هذه الموهبة التعبيرية والوسيلة التحليلية والتحريرية التي قلما امتلكها غيره وقلما أجاد أحد استعمالها مثله ... فكان هذا العمل الذي يعتبر الأول من حيث الفترة الزمنية التي يتحدث عنها الكاتب، وهي مرحلة الطالب ... ولكنه من حيث النشر، يكون آخر كتاب يصدر له باللغتين (العربية والفرنسية) وقد تأخر نشره لأكثر من نصف قرن من تاريخ الوطن والأمة (انظر تفاصيل ذلك في تصدير الأستاذ عبد الرحمن بن عمارة)، وهي خسارة كبيرة، بما يتضمنه من فوائد وحقائق كثيرة لكل من لم يطمس على قلبه وعقله وبصيرته ... وهي حالة تسمم متوارثة بين الأفراد المصابين بها، لأن الأفكار المسمومة والقاتلة لا تموت مع الأجساد، بل تظل حية قاتلة ولا تقهرها إلا أفكار مثلها، في حلبة الصراع الفكري الذي له الكلمة الأخيرة في النهاية، وقد عرفنا بدايته، ولكننا لا نعرف نهايته على الساحة الوطنية

والقومية، وهو ما يضيف لهذه الأفكار قيمة جديدة إلى قيمتها الأصلية، كالعملة الذهبية التي لا تزيدها الأيام إلا لمعانا ومصداقية ومضاعفة لقيمتها الشرائية، فى السوق الحضارية!! إن هذا الكتاب، كما يستشف من عنوانه (العفن)، الذي يبرر المؤلف اختياره بنفسه، بما لا يمكن استبداله بغيره (انظر مقدمة المترجم) هو رصد للأوضاع المتعفنة داخل الوطن، وواقع الأمة، رصد خبير متمرس، وفحص طبيب متخصص لمرض خبيث عبر مختلف الأدوار والأطوار، فدقق النظر في الجراثيم العالقة على جسم الأمة مجهريا، وفند أطروحات الخصوم في تبرير علوقها منطقيا، وكشف لعبة الرهان، بالحجة والبرهان، وبين الحق وطريقه ليعيده ذووه إلى نصابه، ويمزقوا بالثورة الجهادية الكبرى ثوب الخيانة والعمالة على أجسام أصحابه، ويرجعوا سموم العدو وفضلاته (الذهنية) وجراثيمه المعدية إلى أحشائه، ليصبح الوطن بعد حين، وإلى حين، بين أيدي أبنائه ... أقول إلى حين (...) لأن مورثات الخيانة تتناسل وتتناقل مع الأفكار عبر الأجيال، كما قلنا، وهي مثل السجايا والطبائع والخصال، مما يستوجب اليقظة الدائمة للحفاظ على المكاسب والمراتب، على اعتبار أن كل احتلال إذا كان يحمل بذور استقلال، فإن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال، إذا تقاعس أو تقاعد الرجال عن مواصلة الجهاد بالوسائل المتاحة لكل

جيل من الأجيال المتعاقبة على الساحة عبر الساعة، بدليل أننا كنا مستقلين (قبل 1830) فاحتللنا، وكنا أسيادا فاستعبدنا، ثم وعينا فتحررنا ... ولا يوجد ما يمنع أن نحتل ونستعبد من جديد، لأن الزمان إذا كان غير الزمان، فالإنسان بنزواته ونزعاته و (قابلياته) دائما هو الإنسان، وكل جيل مسؤول عن أحداث عصره في مصره!! ولذلك فمن الجديد الذي يجده القارئ في هذا الكتاب الفريد من نوعه، كما سيلمسه القارئ بنفسه، هو ما أظهره لنا من مخططات العدو وكيفية ترتيب أولوياته في التخطيط والتنفيذ، بإعطائها دوما للفكري على السياسي، وللسياسي على العسكري، وهو عكس الوضع السائد في العديد من البلاد (الوارثة) لطريقة الاستعمار في إدارة الأمصار ... فهي تعطي الأولوية للعسكري على السياسي، وللسياسي على الفكري والثقافي، وبتعبير آخر أولوية (البطنولوجي) على (الفكرولوجي)، فينقلب بذلك وضع الهرم، لتصبح القاعدة في الأعلى، والرأس مكان القدم!! فتنعكس القيم، في السيادة والإدارة والسياسة والحضارة ... ولهذا كان التنبيه في الكتاب إلى تحديد وتوضيح معالم الطريق وكشف منابع الفتن وجراثيم (العفن) التي شخصها الكاتب في موطن الداء، أثناء سنوات التحصيل في الثلاثينيات، وواصل رصد تحركها ومتابعة انتشارها بعد الرجوع إلى أرض الوطن في الأربعينيات (...).

ولقد كشف بالملموس عن طرق العدو في إدارة حربه الشعواء ضد هداة الطريق إلى التحرر واسترجاع السيادة والكرامة للمواطن قبل الوطن، لأنه لا يوجد وطن حر بمواطنين أذلاء مستعبدين، أو أجساد مخدرين، أو أحياء محنطين ... !! وأقتصر هنا على التنويه بنقطتين كما أشرت آنفا. الأولى، هي إظهار كيفية إدارة العدو لحرب الأفكار، بأساطين مفكريه وعلمائه وضباط مخابراته، ومنفذي مخططاته ... وسيكتشف القارئ الكريم أحد أكبر تلك الوجوه والأعمدة الفاعلة، من وراء كل المشاهد المسرحية الظاهرة، ألا وهو المنظر (لويس ماسينيون) المحضر لعقار (القابلية للاستعمار)، الذي ذاق المؤلف على يديه الأمرين، وكان بطل قصته المؤلمة المؤكدة بالأحداث والوقائع، والموثقة بالشواهد الحية التي سيكتشفها القارئ مثلنا لأول مرة، ولتعريفه بهذا المستعمر المنظر والمقرر والخبير بإدارة معركة المصير، هو أنه كان المرشح المفضل (استعماريا واستراتيجيا) لخلافة الأبـ (دوفوكو) الضابط الكبير المنصر المخبر، أو المخبر المنصر، الذي لقي حتفه على أيدي أبناء الجزائر في جنوبها الثائر سنة 1916، بعد أن قضى عشرات السنين في مسابقة الهلال لتنصير الجزائريين، وأتركه هنا يحدثكم بنفسه، كأستاذ (لماسينيون) مضطهد المفكرين الأحرار في الثلاثينيات، كما هو مثبت في هذه المذكرات (...).

يقول الضابط المنظر المبشر (دوفوكو) في رسالة خاصة بعث بها لصديقه الدوق (فيتس جيمس) سنة 1912 (منشورة في جريدة (لوموند) الفرنسية بتاريخ 17/ 05/ 1956): (وإنني أعتقد بأنه إذا لم نستطع تحويل المسلمين بالتدريج عن دينهم وحملهم على اعتناق المسيحية، فإن النتيجة الحتمية هي تكون روح قومية جديدة تؤدي إلى طردنا من الإمبراطورية الاستعمارية في شمال إفريقيا. إن الروح الوطنية، العربية والبربرية، سوف تنمو في صفوف الطبقة المثقفة التي ستستعمل الإسلام كسلاح فعال لإثارة الجماهير الجاهلة، في إمبراطوريتنا ... !! إن السبيل الوحيد لضمان عدم طردنا من هذه الإمبراطورية، هو أن نجعل مكان البلاد فرنسيين، والسبيل الوحيد لذلك هو جعلهم مسيحيين). إذا كان هذا كلام دوفوكو (أستاذ ماسينيون وأبوه الروحي)، فإن تلميذ (ماسينيون) وإبنه السياسي، المنفذ للمخططات، ألا وهو رئيس وزراء فرنسا (منديس فرانس)، الذي قال في خطاب له في قاعة (فاجرام) بباريس (منشور في جريدة (لوموند) الفرنسية بتاريخ 07/ 05/ 1956): (إننا نعتقد أن سياستنا هي الوحيدة التي تستطيع إدامة الوجود الفرنسي في الجزائر، وإذا ما قدر لنا سوء الطالع أن نفقد الجزائر، فإننا سنفقد معها جميع أجزاء الإمبراطورية.

وإننا نعلم النتائج المريعة المترتبة على ذلك من جميع الوجوه الاقتصادية والسياسية والمعنوية (!؟). إننا نعتقد بضرورة صيانة المصالح الحيوية لفرنسا في الجزائر، ويجب أن يزول أي شك يحوم حول سياستنا في هذا الصدد. وليس هناك أي شخص راديكالي يدافع عن أية سياسة أخرى غير سياسة الإدامة والإنقاذ والتمكين لفرنسا في الجزائر). فهذا الأستاذ ماسينيون (موجه سياسة منديس فرانس قائل هذا الكلام) هو الذي سيتعرف القارئ على فعله الشنيع وطرق اضطهاده الفظيع لمالك بن نبي الرمز الصامد على حلبة الصراع الفكري والثقافي، وهو الذي جعل كاتبنا الكبير يطلق على مناخ المعركة وظروفها غير المتكافئة صفة (العفن) ويطلق على نتائج هذه الخميرة المتعفنة في مختبر (ماسينيون) محضر وزارع جرثومة (القابلية للاستعمار) في عقول بعض أهل الدار، ومتعهدها بالحراسة والعناية والسقاية في مختلف الأطوار والأدوار!! وهنا أقف قليلا لأدلي بشهادة تجلي بعض الغموض الذي أحاط بهذه المقولة المنسوبة إلى مالك بن نبي، وقد أصبح يعرف بها عالميا، بدلا من أن تعرف به هي التي قالها محليا وظرفيا!! إن المقولة هي بالفعل لمؤلفنا، وهي مسطرة بيمينه في كتابه، ولكن التأويلات والشروح والتعليقات التي أعطيت لها كانت ذات قراءات متعددة ومتناقضة، تختلف كل واحدة منها

باختلاف المنظار الذي ينظر به أو من خلاله القارئ للمقروء أو السامع للمسموع!! وأضرب صفحا هنا عن تلك القراءات التي لم يقصدها المؤلف، ولها ما يبررها في غير هذا المقام ... وأكتفي بالوقوف عند ما سمعته بنفسي من القائل ذاته، حول مقولته هاته التي أقرها، كواقع لا ينكره أحد، وقد أكدها بنفسه؛ وذكر أصحابها بالاسم في هذه المذكرات .. غير أن الذي أنكره عليهم هو التأويلات التي أعطيت لها (...) وهي على طرفي نقيض لما كان يقصده كما قال رحمه الله. إن ما قاله ردا على أولئك الذين طعنوا في وطنيته وفي بصيرته، وأظهروه (بفهمهم الساذج) وكأنه يبرر للاستعمار كقضاء وقدر؛ لا راد لحكمه ... ! لقد قال فيما أذكر، وكان ذلك سنة 1968: (أنا قلت هذا الكلام في ذلك الوقت (يقصد سنة 1951)، وعلى الذي كان يعارضني في مطابقة ما قلته للواقع الذي وصفته ... أن يثبت العكس، فكان إثبات العكس!!). وكان يقصد أنه لم يمض على إطلاق تلك المقولة سوى ثلاث سنوات، حتى كانت الثورة الجهادية العظمى (سنة 1954) التي قلبت الأوضاع رأسا على عقب، وكانت نموذجا عالميا للثورات الأصيلة التي ما تزال بعض الشعوب المتعطشة للحرية تقتات على مائدتها وتقتدي برجالها ونسائها، وتهتدي بنور جهادها حتى الآن في العديد من البلدان (...)!

فقد قال فيما أذكر، أنه كان يقصد رد الفعل الذي يثبت أن ضمير الأمة حي بجوهرها (الإسلام) الذي لا يموت أبدا حتى ولو مات بعض المنتسبين جغرافيا إليه (من جاكرتا إلى طنجة). وإن الحديث عن الأوراق المريضة (الصفراء أو الحمراء) لا يعني بالضرورة مرض أو موت الشجرة الخضراء (!!) هذا هو فحوى ما قاله في إحدى ندواته الخاصة في بيته، والكثير من الحضور ما زالوا أحياء يرزقون، ويشهدون (...). وسيتأكد القارئ النبيه بنفسه من هذا القصد الذي شرحه الكاتب لمقولته في الكتاب، وهو يعني بها فئة ضالة مضلة من (أهالي المستعمرات)، الذين ينطبق عليهم قول الله تعالى عن فرعون وقومه: {وأضل فوعون قومه وما هدى} (طه / 79) و {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين} (الزخرف / 54): هاتان النقطتان هما اللتان أردت أن أضيفهما في هذا التقديم الذي أتشرف بكتابته نزولا عند رغبة المترجم والناشر، وأهنئ كليهما على هذا الإنجاز العظيم للأمة، وعلى الترجمة التي كانت في مستوى قمة المؤلف ومحتوى الكتاب، وعلى صدوره الذي تزامن مع (تظاهرة الجزائر عاصمة الثقافة العربية لسنة 2007)، والثقافة هي الهوية، والهوية هي الوجود الحقيقي للأمم والشعوب بثوابتها الأبدية عبر الحدود!!

كما أهنئ قراء العربية في كل مكان بهذه الجوهرة الفكرية الحية التي يجدها كل واحد في حياته وفي إدارة بلاده وسياسة حكومته، وما على الذي يرفض القابلية للاستعمار إلا أن يتحصن بالفعل (وليس بالقول!) ويحص أبناءه وعشيرته بمصل القابلية للاستقلال، والتضحية في سبيله ضد كل أنواع الاحتلال و (الاستحلال)، ذلك أن كل تجارب الأمم الغابرة والحاضرة تؤكد لنا صارخة في وجوهنا قائلة لنا: إن كل بلد يعتبر محتلا حتى يثبت استقلاله بالدفاع المستمر عنه من أبنائه وسهرهم الدائم بالمرابطة على ثعور حدوده الوطنية الترابية والسيادية والهوياتية، لأن الثابت الوحيد في هذه الحياة هو التغير في كل الأحوال، والشعوب الناجحة هي التي تعرف كيف تضمن أقوى وسائل الدفاع لضمان أقصى إطالة لفترة الأمان وحسن المآل!! أ. ب برج الكيفان في 20 شعبان 1428 هـ الموافق 02/ 09/ 2007 م

كلمة المترجم

كلمة المترجم عهد قراء مالك بن نبي والمهتمون بفكره أن مذكراته هي ما نشره في حياته تحت عنوان (مذكرات شاهد القرن) بجزئيها (الطفل) و (الطالب) قبل أن تضاف لها مرحلة (الكاتب) التي استتبعتها (الدفاتر) وقد غطى بها المفكر الفترة الممتدة من 1958 إلى 1973، سنة رحيله. بعد أن ضاعت منه اليوميات التي تغطي سنوات 1954 - 1958 في ظروف شرحها في الدفاتر التي تلتها. كنت من الذين سمعوا أن للمفكر مذكرات لم ينشرها في حياته واختار لها عنوانا غريبا وقاسيا هو (Pourritures) العفن، ولا طائل من العودة إلى ما أحاط بها من ظروف فقد سردها الصديق عبد الرحمان بن عمارة في مقدمته التي رأيت أن أترجمها لما تضمنت من معلومات مفيدة. ما إن تسلمت مخطوط المؤلف من السيد بن عمارة حتى أغراني تعريبه. ولم أصبر عن هذه الرغبة حتى أتيت على آخر صفحات الكتاب نقلا إلى العربية. سيدرك القارئ من الصفحات الأولى أن لا حيلة لمترجم في تغيير العنوان. فقد قام بن نبي بتبرير عنوانه بعبارة لا تترك هامشا من الحرية ولا خيارا لمترجم أو ناشر، إذ كتب يقول: (لقد استهوتني عناوين كثيرة أسم بأحدها هذا الكتاب، غير أني اخترت عنوانا يلخصها

جميعا: (العفن). وأنا واثق أن القارئ الكريم سيتبنى التبريرات التي ساقها المؤلف ويقبل بها. فواقعنا المرير يدل على أننا ارتكسنا إلى الأذنين في العفن. وعالمنا حافل بالمثبطات وكل الشروط التي تعرقل الفرد وتنغص عليه حياته. وبعد هذا التنبيه، فإن قيمة الكتاب تضاهي مؤلفات بن نبي كما ألفها القارئ. ولكنه يكشف عن شخصية الكاتب ودرجة المعاناة والكدح والمؤامرات التي كابدها وواجهها نظير أفكاره ومواقفه. وسيدرك القارئ بعد أن يفرغ من الكتاب لماذا يجب اعتبار بن نبي - علاوة على مناقبه الفكرية الأخرى - منظر الصراع الفكري بحق، وصقلت نباهته ودقة تحليلاته واستنتاجاته تجارب السنين وتوالي الأحداث. ن. خ الجزائر في 28 ديسمبر 2006

تصدير بقلم عبد الرحمان بن عمارة

تصدير (*) بقلم عبد الرحمان بن عمارة بنشر كتابـ (العفن)، يجد القارئ بين يديه المذكرات الصريحة لمالك بن نبي، رغم تنبيهه بأنه من المبكر تناول بعض المحطات من حياته والخوض في تفاصيلها، فالفترة التي باشر فيها تحرير هذه المذكرات، ابتداء من الفاتح من مارس 1951، كانت من أصعب الأوقات وأشقها في حياته، بعد أن راوده الأمل في التفاتة أو دفاع من مواطنيه خصوصا بعد صدور (الظاهرة القرآنية) و (شروط النهضة)، كما أنها فترة اشتدت فيها الحرب النفسية التي شنها جهابذة الاستعمار الفكري بخاصة ضده. هذا الجزء الذي ننشره من (العفن) مصدره نسخة مستكتبة على الآلة الراقنة، اتجهت النية على أن يقوم مسجد الطلبة التابع لجامعة الجزائر بنشره بطلب من بن نبي نفسه. غير أن رحيل هذا الأخير حال دون تحقيق هذا المبتغى. ... كتب الدكتور عبد العزيز خالدي في تقديمه لكتابـ (شروط النهضة) سنة 1948: (تحدوني رغبة ملحة في أن أتحدث عن سيرة هي أصعب سيرة ذاتية عرفتها في الجزائر وأشدها تأثيرا، غير أني ملزم

_ (*) ترجمة نور الدين خندودي من النص الفرنسي.

بأن أعرض عن ذلك لأن المؤلف منعني صراحة من أن أتحدث عنها ولو بالإشارة والتلميح). بيد أن بن نبي قرر بعد عامين ونصف كتابة سيرته الذاتية مع نية حازمة لنشرها، والشاهد هو التنبيه الذي ورد في المقدمة بأن الكتابـ (شهادة)، وبهذه الصفة ومن هذا المنظور، فهي (من غير قيمة إن لم تراقب من قبل معاصري كاتبها , وبخلاف ذلك فلن تكون إلا كذبا من صاحبها بعد رحيله أو شهادة مهوس بعقدة الاضطهاد أو طالب شهرة بعد الوفاة). لماذا لم يقم الكاتب بنشر سيرته الذاتية بعد هذه الكلمات البليغة؟ وهل يمكن أن نعتقد بقدر وإنصاف أن رجلا من معدن بن نبي تخفى عليه الآثار والصعوبات التي يرتبها نشر مثل هذا الكتاب؟ يعرف بن نبي، وهو المطلع الكبير على نيتشه، أن هذا الأخير حمل على نشر الجزء الرابع من كتابه الأبرز: (هكذا تكلم (زرادشت) على حسابه الخاص، فاستعد، من جهته، في تلك الفترة لتمويل، ولو جزئيا، الطبعة المعربة لكتابه (شروط النهضة) على حساب حاجاته الأولية. كما نستشف من خلال رسالة مؤرخة في 7 أفريل 1951 موجهة للدكتور عبد العزيز خالدي بأنه أودع مبلغا هاما من المال لدى السيد محمد الصالح بن شيكو، وكان من أعيان قسنطينة، ليسلمها بدوره للسيد عبد القادر ميموني، مؤسس ومدير منشورات (النهضة)، بنية طبع الكتاب ونشره.

هناك أمر محير آخر وهو أن بن نبي سلم هذا الجزء الأول من مذكراته للشيخين عبد الرحمان شيبان وإبراهيم مزهودي، بإلحاح منهما، بعد أن فكر في إتلاف المخطوط في أوت 1951. هل كان السبب هو اشتداد القمع البوليسي؟ كما قال بن نبي نفسه. أم أن هناك مسوغات أخرى لم يشأ أن يفصح عنها؟ لن تجد هذه الأسئلة إجاباتها إلا في بحث معمق ودقيق في سيرة بن نبي، بحث لا يستند على ما كتبه بن نبي عن نفسه فقط وإنما بالاستعانة أيضا وبخاصة بالوثائق من مصادر شتى. والمأمول هو أن تتشرف الجامعة الجزائرية وتتكفل بمثل هذا المشروع. وسنحصل حينها على إجابات بخصوص تساؤلات كثيرة كاللغة التي حرر بها في الأصل كتابه (الصراع الفكري في البلدان المستعمرة)، على سبيل المثال, فهل سيسمح (الاكتشاف) الأخير من قبل عائلة بن نبي لمخطوط بالفرنسية ل (الصراع الفكري في البلدان المستعمرة)، كما يزعم البعض من دون ترو، بإعادة النظر في تأكيد بن نبي نفسه من خلال التنبيه الذي صدر به مؤلفه هذا بالقاهرة، بتاريخ 2 ماي 1960، حين أخبر القارئ بأنها (المرة الأولى التي يحرر فيها كتابا باللغة العربية مباشرة). ومن المفيد، من جهة أخرى، أن نشير أن هذا الجزء الأول من (العفن) يوافق الجزء الثاني من (مذكرات شاهد القرن) الذي يغطي المرحلة الممتدة من 1930 إلى 1939 من حياته.

ومن شأن الوعد الذي أعلنته عائلة بن نبي بنشر الأصل المحرر باللغة الفرنسية من الجزء الثاني من (مذكرات شاهد القرن)، من بين مؤلفاته التي لم تنشر، أن يسمح بعقد مقارنة بين النصين، وفهم حقبة من حياة عاشها بن نبي فعليا بالتفريق بين ما سلط عليه الضوء في الثاني وما كرسه من حوادث وأحكام في الأول ولم ينشر بعد. وسيكون اختيار العبارات والكلمات وصيغة الجمل مادة قيمة تعين على الفهم. ولن أختم كلمتي دون أن أقول أنه لم يحصل يوما أن وافقت العبارة: (أكتب بدمك وسترى أن الدم عقل) بهذه الحدة والشدة مثلما جرى مع بن نبي. وهذا الكتاب أكبر شاهد على ذلك. ع. بن عمارة الجزائر في 01 أوت 2006

توطئة

توطئة إن هذه التوطئة ضرورية لتقديم فكرة عن الجو العام الذي تقع فيه المأساة التي تشغل كياني. كما أن عرض بعض التفاصيل عن حياتي ضروري أيضا. لقد رأيت النور في سنة 1905، أي في زمن خطا فيه المجتمع الجديد أولى الخطوات. فأنا أنتمي إذن إلى الجيل السيئ الذي يختم طور التحلل الذي ألم بالحضارة الإسلامية ويأذن لعصر جديد يختلط فيه نوعان من (العفن): الاستعمار والقابلية للاستعمار، ولكنه عصر تنبثق منه، هنا وهناك، مؤشرات وبواكير نظام جديد لا يزال الغموض يلفه. غير أن هذا النظام يصطدم حتما، عبر تناقض عنيف، بكل ما يسعى للحفاظ على استمرار الوضع السائد سواء بحكم العادة كما هو شأن القابلية للاستعمار أو بدافع من المصلحة كما هو حال الاستعمار. وإذا تجسد في شخص، فإن هذا الأخير سيقع حتما في مواجهة القابلين للاستعمار وأسيادهم الذين حولوهم إلى (أهالي) سكان المستعمرات (indigènes) أي إلى مخلوقات باهتة، فاترة وهجينة، لا هي بنساء ولا برجال، لا أخلاق لها وتبدو أدوات قذرة في متناول الاستعمار، كل هذا ليخضعها لهيمنته ... وهناك نوعان من الأهالي: نوع الخونة الواضحين، من أمثال الدكتور بن جلول وهو صنف يقتات من أموال الاستعمار ومن ازدراء الشعب،

ثم صنف (الخونة المترفين) الذين يعيشون من أموال الشعب باستغلال جهله. وعلى الجملة، فإن الطبقة الأولى أقل احتقارا وأقل خطورة لأن خيانتها جلية ظاهرة. وعليه، فإن الحديث سيتركز على الصنف الثاني. لماذا ولدت في الجزائر حتى أكون أحد إرهاصات النظام الجديد، وأصبح إنسانا يواجه وحوش القابلية للاستعمار والاستعمار؟ لا أدري، وأنا مسلم مؤمن بالقدر ومتقبل للمصير الذي منحني الله خالقي الذي أعبده وأذكره. إني أدرك فقط مدى معاناة إنسان جاء قبل زمانه أو بعده. إني أعرض ببساطة أمورا أعرفها لأني عايشتها، رأيتها وسمعتها وتأملتها. 01 مارس 1951 على الساعة 5 ود 5.

مقدمة

مقدمة رأيت أشياء كثيرة، منذ عشرين سنة. لقد شبعت لحد التخمة فأنا كالنحلة عندما تستبد بها الكظة من عسلها وتستفيض الجني وتدخر جنيها. للاسف فإن (العسل) الذي أضعه بين دفات هذه الصفحات مصدره ليس رحيق الزهور العبق ولكن خلاصة ما يختلج في نفس أريد لها التحطيم عبر الإكراه الجسدي والسم المعنوي. فقصة هذه النفس وتجربتها منذ عشرين سنة هي نفسها قصة هذا الكتاب. إنها باختصار (اعترافات) أو (مذكرات). وقد استهوتني عناوين كثيرة أسم بأحدها هذا الكتاب، غير أني اخترت عنوانا يلخصها جميعا: (العفن). ويوافق هذا العنوان بالفعل الانطباع الأكيد الذي أحمله معي من متحف أو معرض يحويان وجوها وأشياء أعرفها منذ عشرين سنة، وأجدها مرتبة ومصنفة بطريقة استذكارية معززة بشروحها وبطاقاتها الخاصة: فنحن الآن أمام مجموعة من (لوحات المرفهين ...) مثلا، وبجانبها، لوحة خاصة بـ (أصدقاء المسلمين) من أمثال (ماسينيون) (Massignon)، أما في هذا الجانب فتوجد قاعة خاصة (بأشياء القابلية للاستعمار وقصص الأهالي)، سكان المستعمرات (indigènes)، ونقف بعدها أمام (قاعة الاستعمار والإحسان المسيحي)، أما في هذا الركن

المظلم المناسب، فنجد (قاعة الأسرار اليهودية)، وتليها (مخابر السموم السيكولوجية). والواقع أن هذا الكتاب يتطلب عددا أعظم من الأبواب لتقديم، ولو بصورة غامضة، الانطباع الحقيقي الذي أحسه فعلا باستحضار تجربتي ولو بطريقة جد موجزة خصوصا بعد نهاية دراستي. غير أن لدي الكثير من الأشياء لا تكفي حياة للحديث عنها، خاصة وأن الأمر يتعلق بإعطاء لكل شيء معنى إنسانيا حقيقيا في تأثيره على الجسد والروح والذكاء والقلب عند مخلوق أدمي. هل يمكنني أن أصف، كما ينبغي، إحساسي في ليلية 28 من جويلية 1947، وكنت حينها واقفا أمام نافذتي وضوء الغرفة منطفئ، وقد اعتراني الشعور بأنها المرة الأخيرة التي أرى فيها نجوم السماء، إذ كان من المنتظر توقيفي مرة أخرى، وكنت عازما: على الدفاع عن ضميري بتقديم حياتي فداء له. هل يمكن للقارئ المنتمي إلى (الأهالي) أن يفهمني عندما ألخص له هذا الشعور الذي عبرت عنه أمام الشباك في الليلة الثالثة عشر من شهر رمضان: (وآسفاه، لم تتحرك أية نجمة من نجوم السماء وتهرع لنجدتي؟) هل يستطيع القارئ المنتمي للأهالي من سكان المستعمرات أن يدرك معنى النظرة الهادئة والثاقبة لصبي في الخامسة من عمره لم يتسن له أن يضع قطعة خبز في بطنه الخاوية قبل أن يذهب للنوم؟ وهل يمكنه أن يعي مدى وقعها على النفس، بكل ما لعبارة نفس من معنى وأبعاد؟ كانت هذه النظرة من عبد الحميد، ابن أختي الصغير،

أكثر ما في هذه القصة من مأساة وأكثرها إثارة للشفقة في هذه العذاب الشديد الذي أعيشه وعائلتي منذ عشرين سنة. فالإحسان المسيحي لا يتردد ولا يقف عند حد. فعندما يريد تحطيم نفس أو فكر أو عمل أو إنسان فإنه يضرب كل العائلة، حتى النساء والصبيان إن لزم الامر. وعندها سيدرك القارئ المنتمي إلى الأهالي أن نظرة ابن شقيقتي هي أفظع تعذيب سلطه علي الاستعمار بعد أن عذبني عن طريق والدي ثم شقيقتي التي رمي بزوجها إلى الشارع منذ عشر سنوات، ويواصل اليوم بطرد صهره من الإدارة حيث كان يشتغل علما بأنه المعيل الوحيد لسبع أيتام. وهل يتسنى للقارئ المنتمي إلى الأهالي أن يفهم أن نظرة الصبي هذه ليست فقط تعذيب اختير ليمارس ضدي من قبل الذين يحسنون استخلاص السم السيكولوجي ودسه في روح سعوا لتدميرها؟ ولكنها أيضا نظرة تحمل تهمة عميقة لا تطاق من عينين هادئتين ترمقانني فأطرق مطأطأ رأسي وكأني مسؤول عن كل هذه المأساة. ولكن دعنا نفترض أن القارئ المنتمي للأهالي سكان المستعمرات يعي هذا الأمر (دون أن أحدثه عن معاناتي الشخصية، التي تصل أحيانا حد الهذيان)، فالأمر سيعني أن (الخائن المترف) هو بطل حقيقي وأن الخائن المفترض هو الشهيد مستقبلا وأن القابلية للاستعمار (فضيلة) من الفضائل، وسيفترض أن - الشخص المنتمي للأهالي سكان المستعمرات إنسان وأدمي.

فافتراض كل هذا إنما يعني تكذيبا لتجربتي الذاتية وتجربة زوجتي. زوجتي التي استعملت هي الأخرى كوسيلة تعذيب مورس ضدي عندما عرفت المرض دون القدرة على استشارة طبيب ولا على اقتناء الدواء، وعرفت ذل الخروج للعمل لمواجهة مصاريف العائلة، وقد كنت أنا في عجز تام عن أن أقوم بتوفير لقمة الخبز وضمان مستلزمات العيش بعدما أغلق الاستعمار كل سبل العمل أمامي حتى كمستخدم أجير أو كعامل بسيط، فضلا عن أنها دخلت السجن معي. إن إيصال كل ما سبق للإدراك قضية صعبة بكل تأكيد، ولو ببراعة وحذق كاتب كبير يخاطب ناسا عاديين على شاكلة فلاحينا ورعاتنا ونسائنا المدركات. أما محاولة تبليغه لفهم (الأهالي)، ومنهم (العالم) والدكتور والمنتخب، فمن ضروب المراهنة. وبما أن شعبنا، المشكل أساسا من ناس طيبين، لا يزال للأسف أميا، فإني لا أكتب له بكل تأكيد. إن هذا الكتاب شهادة أنوي تركها للأجيال القادمة. غير أني أكتب بطريقة تسمح لجيلي نفسه أن يعرفها ويناقشها وينتقدها. فهي شهادة لن تكون ذات قيمة إن لم تعرض على أنظار معاصري كاتبها. إذ بخلاف ذلك فلن تكون إلا كذبا اختلقه صاحبها ننشره بعد رحيله أو شهادة مهوس بعقدة الاضطهاد أو طالب شهرة بعد الوفاة. فأنا أرمي هذه الشهادة إذن في وجه (الأهالي) (الاندجين) في بلادي كشهادة احتقار وازدراء.

ولن أقول، من جهة أخرى، ماذا تمثل في عيون الذين صنعوا هؤلاء (الأهالي)، لأن الإنسان (الأهلي) (indigène) ليس إنسانا ولكن إنتاج استعماري أي من صنع الاستعمار. وهم يعرفون الأمر: فهم المنشطون الفعليون للمأساة المعنوية والفكرية والمادية التي سأحاول ولو بصورة جزئية، أن أرفع عنها الستار الذي يحجبها منذ عشرين عاما. وأنا أدرك الانفعال الذي سينتابـ (الأهالي) في الجزائر وأسيادهم المعمرين بعد كشف زاوية صغيرة من المأساة التي تبين بصورة مؤثرة العيوب الدقيقة للقابلية للاستعمار والأهداف المرسومة للاستعمار. وربما كان باستطاعتي أن اعتمد في هذا العرض أسلوبا تحليليا فأقدم الأشياء في شكل مجموعات: القابلية الاستعمار والأهالي، الاستعمار والمتحضرين الاستعماريين. غير أني فضلت التسلسل التاريخي، إذ يبدو لي أن التواريخ ضرورية للوقوف عند بعض مراحل التطور وعند معنى المأساة التي تغطي ثلاث حقب من وجودي: حياتي كطالب من 1931 إلى 1936، حياتي كمنبوذ هائم على وجهه وتمتد من 1936 إلى 1945 وحياتي ككاتب وتبتدئ من 1946 إلى يومنا. وقد يؤدي بي الحال باعتماد هذه الطريقة إلى صوغ حديثي في شكل كتلة من التفاصيل، غير أني سأنأى عن هذا المشكل بأن أدع القارئ (غير الأهلي) (non indigène) ليستخلص بنفسه بعض التفاصيل وبعض المعاني حتى لا يلاحظ إلا ما يحقق وحدة المأساة ومغزاها. زد على ذلك أني لم أتطرق، مبدئيا، إلى بعض مراحل وجودي إلا بشكل عابر، إذ من السابق لأوانه أن أتناول، في الظروف الراهنة، الموضوع الذي تعنيه.

المرحلة الأولى الطالب

المرحلة الأولى الطالب

العنكبوت

العنكبوت - إن السيد ماسينيون يرغب في لقائك! لم أكن أدري ماذا سيعني هذا الاسم الذي نطق به للتو صديقي محمد بن ساعي من غير اكتراث، طوال حياتي وكيف سيؤثر في مصيري ومصير عائلتي. غير أن صديقى الذي بصق مرة أو مرتين على جانبي الرصيف، كإثارة منه عن وقفة يكف أثناءها عن الحديث، أضاف: - أجل إن بومنجل هو الذي أخبرني بالأمر. وقد أكد لي أن (أحدهم)، لم يعد يدري من هو، هو الذي أخبره بذلك. ماسينيون، بومنجل وغيرهما ... لقد احتجت إلى سنين من التجربة المريرة لاستخلص معنى هذه العلاقة وإدراك مغزى هذا ال (أحدهم) الذي استعمل كمجرد ستار يحجب الصلة الفعلية بين المستعمر والقابل للاستعمار، بين المخبر الذي يتقمص هيئة (العالم) و (الوطني) الذي سيرفع ذكره ويعلى شأنه فيما بعد إلى منزلة (البطل) الجزائري. غير أني كنت وقتها أبعد من أن يعتريني شك في كل هذا الأمر. فنحن في سنة 1932 وكان وسط الطلبة الأفارقة في باريس يموج وقتها في الحركة ويفور. وسنوات قليلة قبلها، كان أحد الأهالي من سكان المستعمرات (الاندجين) الذين أصبغت عليهم هالة المثقف أو أحد المثقفين الذين أصبحوا من الاندجين (indigénisés) ، ويدعى شريف مشيري

قد دشن مسلسل الخيانة الفكرية. فقد بين السبيل للظفر بمنصب سو بريفي (نائب وال) ومواصلة نفس الطريق في تأن وهدوء وفي مذلة تامة كلما التمس مزية أو حظوة لصالح أحد الأبناء المنتشرين بكثرة كالبراغيث في منطقة تبسة. وحصل هذا بعد أن طعن المرحوم الفاضل الأمير خالد من الخلف في وقت كان الأمير يواجه فيه هجوما من جريدة (Le Républicain) (الجمهوري) لصاحبها السيد مورينو (Morinaud) النائب عن مدينة قسنطينة ورئيس بلديتها. ومهما يكن من أمر فقد فتحت الطريق، وأصبح عدد من الطلبة يسلكونها سيرا على الخطى المجيدة للشريف مشيري. ولكل طريقة للفوز بمنصب نائب الوالي. فبعضهم تنصر كما كان حال إيبعزيزن الذي أنهى دراسته في القانون بمشقة كبرى. والبعض الآخر تفرنس، كما كان شأن حسين لحمق الذي أكمل دراسته هو الآخر ونشر بعدها كتابه المعروف (Lettres algériennes) (رسائل جزائرية) وهو كتاب تولى الآباء البيض أنفسهم الترويج له وبيعه لزوار (معرض الاستعمار)، فقد كان عملا خسيسا موجها ضد الإسلام، كما استخلصتم دون شك. وهناك المرحوم الدكتور موفق - رحمه الله - الذي كلف بمهمة الاستفزاز، فتجده يلجأ هنا إلى المزايدة الوطنية وتراه في موقع آخر يعمد إلى العرقلة الإدارية. ويذكر أخيرا نارون المكلف بمهمة تشتيت صفوف الطلبة وتقسيم الفريق الجزائري سعيا لتولي زعامته.

وتجد في الجماعة التونسية بعض الوجوه الودودة، خفيفة الظل، على الأقل قبل أن يصيبها السوء ويذبلها المهب الذي أطلقه بورقيبة. فابن سليمان فتح عينيه على حياته كطبيب في الأفق. أما بن ميلاد فكان يدير قطاعا من جمعية الطلبة، لم أتبينه بوضوح، حتى يتسنى له استيعاب مهنته كرجل دولة تونسي مستقبلا. أما ابن يوسف فكان يبتهج داخليا عندما يدور الحديث عن الإسلام أو يسمع جملة رائعة. من جانبه، كان بن لهوان، المادي الملحد، يعد نفسه والأفكار مشوشة لديه. في حين كان الهادي نويرة لا يزال يتدرب على نبرات صوته مفضلا دائما الرجة في النبرة. وكان الراحل ثامر - رحمه الله -يشع طيبة ترهص لاستشهاده. أما جماعة المغاربة فكان يلفها غموض البلاد المغربية. كان محمد الفاسي الذي يرأس وقتها (جمعية طلبة إفريقيا الشمالية) يتريث ويأخذ وقتا للتفكير وهو يتناول كيس تبغه، ولا يستعجل أمره ويزن القضية بتأن وروية، كما يمليه عليه حس موروث عبر أجيال عديدة من تجار فاس ومعاشري الأمراء. أما بلافريج فلم يكن سوى مجرد ظل لرئيسه. وقد شكل الاثنان نواة الحكومة المغربية القادمة. غير أن الأول كان يدرك أن الحاضر يعد المستقبل، فأقام علاقة مع ابن غبريط (¬1) ثم مع ماسينيون، كما أدركت لاحقا. أما توريس فكان يشكل عصبة لوحده. ووعيا منه بأنه وحيدا فقد كان يصفق لنفسه ¬

_ (¬1) عميد مسجد باريس في الثلاثينات من القرن الماضي. المترجم.

عندما يتحدث، فهو المتحدث والمستمع في آن. والحق أنه كان خطيبا مفوها ووطنيا حقيقيا. لم يتسن لي التعرف على عبد الجليل، الذي استفرد به ماسينيون قبل وصولي باريس، فاحتجز بين أربعة جدران لحضور حلقات دراسية وتكوينية في الدين المسيحي (séminaire) ليغادرها سنين بعد ذلك تحت اسم (الأب عبد الجليل) (Le père Abdeljalil). وربما كان أجدر الطلبة وأفضلهم، فقد كان شاهدا على تحلل البرجوازية المسلمة وتعفنها (وكان هو نفسه منتميا إليها)، فلجأ إلى المسيحية مدفوعا بمثالية عرف ماسينيون كيف يزينها له وهو المبتدئ الذي تعوزه التجربة. من هذه العصب الثلاث كانت عصبة التونسيين هي الأطهر وكان المغاربة أكثرها إثارة للإزعاج والشقاق، أما الجماعة الجزائرية فكانت هي الأقذر والأكثر خسة. وكان هناك في الأخير صنف من الطلبة يرون أنهم بغير انتماء. فساحلي لم يتخل بعد عن قبائليته، فكانت لغته ونفسيته تعزلانه عن الوسط. وقد حملنا معنا إلى باريس، أنا ومحمد بن ساعي، نزعة إسلامية توحيدية تعزلنا أيضا عن الآخرين، من الجانب الأخلاقي على الأقل. وأظن أننا كنا فخورين بعزلتنا. هذا هو العالم الصغير للطبقة المثقفة لشمال إفريقيا كما كان في سنة 1932 في باريس، وهناك بالطبع العديد من الأوجه الثانوية التي لم أتمكن من حفظ أسماء أصحابها.

عندما أخبرني صديقي بن ساعي برغبة ماسينيون في لقائي كنت أجهل أن جميع الخيوط التي تحرك عالمنا الصغير كانت بين يدي هذا الأخير. وكان هو نفسه خفيا متواريا كالعنكبوت في بيتها. ويجب أن أقول، من جهة أخرى، أنني أخذت وعيا في الحين لماذا تسعى هذه العنكبوت لاجتذابي في شبكتها التي وجد عبد الجليل نفسه سنوات من قبل محبوسا بين خيوطها، مخدرا ومقيدا. ويجب القول أن جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا التي رأت النور بباريس، شكلت في ذلك الوقت بواكير ومقدمات للعديد من الأمور وكانت تبشر بآفاق جديدة وتحمل أمورا افتراضية لم تكن إلا لتثير قلق الاستعمار وشكوكه، فبدأ بالفعل، وبالتزامن مع نشاط الجمعية، يعتمد سياسات نشر البربرية واللاتينية والتنصير والفرنسة في شمال إفريقيا. شكلت وصية الأب دي فوكو (Père de Foucaud) (¬1) كتابا يهتدي به جميع الموظفين وكل القساوسة الذين كانت لهم يد في (شؤون المسلمين)، من قريب أو من بعيد , وكان منفذ وصية الأب دي فوكو هو ماسينيون الذي لم يخف البتة هذا الشرف بل كان يعتز به. ¬

_ (¬1) من أسس هذه الوصية. (تحقيق التحول الاجتماعي والثقافي للشعب الجزائري المسلم بفعل الفضيلة المضاعفة للاستعمار: الحضارة الفرنسية والخلق المسيحي، وعلى خط من سبقوه كالكاردينال لافيجري، كان الراهبـ (دي فوكو) متحرقا إلى المساهمة، وفقا لأسلوبه، في المهمة التاريخية لبلده في المجال الاستعماري). من كتابـ (شارل دي فوكو في نظر الإسلام)، لعلي مراد. ترجمة علي مقلد. ص. 81. المنشورات العربية. 1980. والكتاب مولته مجموعة من الشركات الفرنسية واللبنانية. ومن المعروف أن دي فوكو وماسينيون كانا، وعلى طريقتهما الخاصة، من كبار المناصرين للمهمة التنصيرية للاستعمار. (المترجم).

أدركت إذن أنه يريد أن يقابلني لأني كنت بمثابة الذبابة التي يزعجه طنينها والتي قد تقطع بأجنحتها نسيج بيت العنكبوت التي نسجها. إذ ليس المهم عند عنكبوت من فصيلة جيدة اصطياد الذبابة ولكن القبض عليها دون أن تمس خيوط بيتها بأذى. وأؤكد الأمر، فقد كنت أنا بمثابة تلك الذبابة التي كانت من دون وعي ربما، تهز بجسارة وتهور الخيوط الغالية لبيت العنكبوت. فبالفعل ألقيت قبل أربع أو خمس. أيام محاضرة في جمعية الطلبة عنوانها: (لماذا نحن عرب؟) (1) وعندما أقول أن بن يوسف قام إثر المحاضرة محمر الوجه من التأثر لمعانقتي، فيجب أن يفهم من كلامي الأثر الكبير الذي تركته محاضرتي في الجماعات الثلاث للطبقة المثقفة لشمال إفريقيا , ويجب أن أضيف أيضا، أن الجماعة الجزائرية كانت حاضرة ممثلة بشخص بومنجل الذي أبدى بالصدفة معارضة لما جاء في المحاضرة. فقد انتقدني حتى في اختيار عنوانها. ولما استعرضت الموضوع على ضوء التاريخ العام لإفريقيا الشمالية، فقد وجد ممثل العصبة الجزائرية أن التاريخ لا يمكن أن يدلنا على مستقبلنا. فهذه الأطروحة هي، كما سنرى فيما بعد، مقدمة لما سيدعيه لاحقا شريكه في تحرير جريدة (La République Algérienne) (الجمهورية الجزائرية) حين أعلن في سنة 1936 بأن (التاريخ لم يكشف عن وجود أمة جزائرية) (¬2). ¬

_ (Pourquoi sommes-nous Arabes) (1) (¬2) المقصود هنا هو المرحوم فرحات عباس الذي أنكر وقتها وجود أمة جزائرية! (المترجم).

ولكن فلندع الأمور لوقتها. فالمهم حاليا هو أن أطروحتي تقع على طرفي نقيض من آراء ماسنيون البربرية واللاتينية والتنصيرية والمفرنسة. كما أنها لم تكن في بال (أبطال) الجزائريين اللاحقين الذين كان همهم الآني هو السعي الحثيث وراء منصب نائب الوالي أو ما شابه. ومن جهة أخرى، فإنه من المعبر أن يكون بومنجل بالذات هو من عارض أطروحتي وهو الذي سيخبرني، بعد أربع أو خمس أيام، برغبة ماسينيون في مقابلتي. وليس أقل مغزى من ذلك رغبة بومنجل إخفاء علاقته بعنكبوت الكوليج دي فرنس (Collège de France)، و (كل علاقة خفية، هي علاقة آثمة)، كما يقول مثل من بنات أفكاري. مهما يكن من أمر، لم تشغلني من جانبي نية في الرد على دعوة منفذ وصية الأب دي فوكو. ولم يكن ثمة خوف لأني أبعد من أن أخشى الرجل الذي دعاني، كما أنني أتمتع بقدر من الجسارة يعصمني من خوف عدم الاستجابة للدعوة. غير أن الغرور أصابني وازدهاني لعدة أيام بعد نجاح محاضرتي. فقد أطحت بمعارضة بومنجل لها إلى درجة أن بن يوسف عانقني وأن محمد القاسي رئيس الجمعية تحدث عني، بعد جدال مع بومنجل، باعتباري (حامل عقيدة وحدة شمال إفريقيا). يا إلهي، لقد رفضت شخصية (الإيديولوجي) التي تقمصتها أن تجيب دعوة جاءتها عن طريق واسطة! كان من الواجب أن ترسل لي على الأقل في بطاقة من الورق المقوى!

لقد كنت شابا مجردا من أي سلاح سوى المواهب الطبيعية في ساحة يجب أن يكون فيها للمرء إعداد تربوي جيد يشكل عمادا قويا وتتأسس عليه التجربة. لقد هونت من الأمر وهززت كتفي ولم ألب دعوة ماسينيون. ثم نسيت المسألة بعد أيام. ولكن التجربة ستعلمني أنه لم ينس ولن ينساني أبدا، وزاد الطين بلة أنني لم أتوار عن الأنظار وأختفي ليلفني النسيان، إذ أنني لا أفتأ أدوس على حاشيته. فبعد أيام من الواقعة، حصل تجديد مكتب الجمعية التي كنت سأتولى رئاستها بحكم الإجماع الذي انبثق من انتخاب الجمعية العامة. غير أن محمد القاسي، المتبوع بظله بلافريح، اقنع الجمع أنه من (السياسة) أن يتولى مغربي رئاسة الجمعية. وتمكن بعد جدال، من أن يفرض نفسه رئيسا بعد أن رشحه بلافريج الذي أقنعني بأني سأكون نائبا ممتازا للرئيس (¬1). وفي مقابل التواضع الذي أبداه الرئيس، قررت من جانبي، أن أقبل التنازل عن شرف منصب نائب الرئيس لصالح صديقي وأستاذي محمد بن ساعي الذي يكبرني سنا. ¬

_ (¬1) يمكن أن نستخلص هنا مؤشرا عن الجو الذي تعد فيه (الوطنية) دورها باعتبار أنه من المفيد - واللباقة أن يرشحك شريك متواطئ عوض أن تترشح بنفسك. وسيبين دستور أول برلمان جزائري كيف أن البعض لم ينس الدرس عندما (تواضع) وكلف الآخرين بتقديم ترشيحه لرئاسة الجمعية التأسيسية الجزائرية. (هامش من وضع بن نبي) , والمقصود هنا، مرة أخرى، هو المرحوم فرحات عباس والطريقة التي افتك بها رئاسة الجمعية التأسيسية بالجزائر المستقلة في سنة 1963 (المترجم).

لقد كنت بالفعل مثالا معقدا للتواضع الصادق والاعتزاز البريء. ولم أكن لأدري أن (انتخابي) من طرف جمعية عامة طلابية سيشكل حدثا سيدون بكل عناية من طرف المكتب الثاني (¬1)، إلى جانب موقفي الذي أحبط مناورات الإدارة الاستعمارية الساعية لبث التفرقة بين الطلبة، وهي مهمة كلف بها موفق. ولاستيعاب القضية كان المطلوب الكثير من رزانة العقل والإدراك والحكمة ولم يكن لدي غير الذكاء. فغدوت، وفي غفلة مني، (شخصا يجب أن يخضع للرقابة). ولم انتبه للأمر حتى جاءني ذات صباح رجل شرطة إلى مقر اتحاد الشبان المسيحيين أين كنت أتناول وجبات طعامي، ليطرح علي بعض الأسئلة عن (إمكانياتي المالية وموارد معيشتي) وعن التعليم الذي أزاوله. فأدركت للتو سبب التدخل المفاجئ للشرطة في حياتي، ولكني لم أعقد صلة بينه وبين دعوة ماسينيون أو أفكر في تأثيرها في وضع والدي؛ وبالعلاقة مع حالتي كطالب. ناهيك عن أن هذا الطالب لم يكن مواظبا وقتها. أضف أن اللقاء بزوجتي، من جانب، ونشاطي المفرط في سبيل الوحدة الإسلامية أو كوني ببساطة ملتزما إسلاميا من جانب آخر، زاد الأمر سوءا. في نادي اتحاد الشبان المسيحيين، أصبحت مشهورا كداعية إسلامي، إلى درجة أنه إذا كان ثمة أحد من مصلحته أن يسجل أفعالي وحركاتي، فسيلاحظ حتما أني عنصر لم تكن لديه قابلية ¬

_ (¬1) فرع من المخابرات الفرنسية. (المترجم).

لاعتناق المسيحية وحسب بل بالعكس، يشكل (خطرا) على الشبان النصارى الذي كنت أحتك بهم إذ كنت اكشف لهم عن إسلام لا علاقة له بإسلام الأندجين (الأهالي)، الذي كان يصل أسماعهم. وبالتخلص من كماشة الانديجينا في هذا النادي المسيحي، بدأت أهتم بالمسائل الدينية وهو الاهتمام الذي كان نقطة ضعف الشباب المسلم ولا يزال. ومن جانب آخر، فإني سأحمل شعلة حماسي الفياض الذي اتقد في هذا النادي إلى الحي اللاتيني حيث تحولت العصبة الجزائرية من المؤامرة (السياسية) إلى دسائس الغراميات في غياب وعي تام عن الماضي والحاضر والمستقبل. ويبدو لي أني اكتسبت وعيا بعيوب العالم الإسلامي ما بعد الموحدين بفضل دور الداعية هذا. الذي اضطلعت به بين جنسين وعقليتين وشبابين مختلفتين. لقد كان الشبان المسيحيون الذين كنت أعاشرهم غاية في الطيبة، وكانوا أخلاقيا وفكريا أكثر غنى من الأهالي وبخاصة الجزائريين ممن كنت ألتقي في الحي اللاتيني. ومن بين جميع إخواني في الدين لم يكن لدي غير صديق حميم واحد، موضع ثقتي، أطلعه على أفكاري وتأملاتي هو محمد بن ساعي الذي كان يقاسمني المرارة والحسرة. وازداد الفريق الذي كنا نشكله نحن الاثنان قبل أن ينضم إلينا شقيقه صالح بعد قدومه باريس، عزلة عن الآخرين. وكان (سور الصين) الذين ضربناه على أنفسنا يحمينا من تلوث مواطنينا. ثم أصبح السياج بعد ذلك مرهقا إلى درجة أن صالح

بن ساعي أحدث فيه في أحد الأيام ثفرة للفرار منه بعد مشادة مع أخيه الذي أصبح طبعه حادا وبدأ يعاني من اضطرابات عقدة الاضطهاد. غير أن هذا السور الذي كانت تجري خلفه حياتنا التي يسمها الاجتهاد ويطبعها التأمل، لم تكن إلا لتثير شكوك الإدارة حول الغموض الذي كان يلف حياتنا، وتبلغ عنا بصفتنا (أشخاص خطرين). ويجب القول، والحال هذه، أن الخطر كان من جانب الإدارة الاستعمارية حقيقيا. فقد كانت هذه الإدارة تسعى لتقسيم طلبة الشمال الإفريقي وتضع كل جماعة في مكان معين. غير أنني وبن ساعي أحبطنا جميع محاولات موفق الذي كان يدعو للجزأرة (l'algérianisme) وكان يثير، في كل لحظة وآن، حوادث مع التونسيين بقيادة نارون. هذا الأخير كان بدوره يبشر بمذهب الغودينية (le godinisme)، في وقت -كان فيه لغودان (Godin) محل مشهور بشارع لوكونت، وهي منطقة تبدو وكأنها بلدية مختلطة منقولة من الجزائر إلى باريس، وفي وقت كان فيه بومنجل ينشر فيه اشتراكية بلوم (Blum) وينشر طاهرات النزعة القبائلية. ومن جانبي، فقد شاركت بفاعلية في المعركة التي دارت حول كتابـ (Lettres Algériennes) (رسائل جزائرية) لصاحبها لحمق الذي ابتكر هذه الفكرة سعيا وراء منصب نائب الوالي. وبصحبة المرحوم بن عبد الله، الذي كانت نهايته مأساوية بمدينة البليدة حيث كان يشتغل محاميا، كنا نشكل بباريس أصداء لحملة الأمين العمودي من خلال جريدة (La Défense) (الدفاع)

التي، وإن لم يكتب لها النجاح، فقد نغصت عيش اللاهثين وراء منصب نائب الوالي. وهكذا فقد كانت الذبابة الصغيرة تفيض حيوية ولكنها غير واعية بالأخطار، تخرق كل مرة بجناحيها البريئين نسيج بيت العنكبوت. لم أختم سنتي الأولى لوجودي بباريس حتى أصبحت إذن (متآمرا). كان بباريس طالب سوري هو اليوم، فيما أعتقد، مندوب بلاده بالأمم المتحدة، اسمه فريد زين الدين، قدم فرنسا لإعداد دكتوراه في القانون من جامعة السربون. لقد كان ذا قيمة، بل قل قيمة كبيرة إذ جمع في شخصه سمو الثقافة وشهامة الرجولة. وأظنه من حملة السلاح إلى جانب سلطان باشا الأطرش خلال الانتفاضة المشهورة للدروز سنة 1924. كما أن له صلة قرابة بالمهاجر الفاضل الراحل شكيب أرسلان الذي كان يعيش وقتها بجنيف. فهل هذه الصلة القوية المعززة بفكرة شخصية هي التي أوحت لفريد زين الدين إنشاء (جمعية الجامعة العربية) (l'Association de la Ligue Arabe) بمساعدة مصري قبطي؟ كان هذا ما في الأمر. والمفارقة هي الإعلان عن الطابع السري للمنظمة أثناء الاجتماع التحضيري الذي نظم بمقهى في أعالي سان ميشال. والمصيبة أني كنت من أعضاء هذه المنظمة ممثلا عن الجزائر والتي كان فريد صليب، القبطي المصري يسيرها بكل اقتدار. هآنذا أحيط شخصيتي بلغز جديد. فبعد أن كنت (منظر وحدة شمال إفريقيا) و (الداعية الإسلامي) في اتحاد الشبان المسيحيين والمناضل في سبيل الوحدة الإسلامية في الحي اللاتيني، أصبحت متآمرا أدعو للوحدة العربية! لقد طفح الكيل!

كما أن (مؤامرتنا) لم تكن سرية إلا في مخيلة بعض البريئين الحالمين، على غرار ما كنت أنا شخصيا. ورغم ذلك فقد كنت احترز وأتسلح ببعض الحذر. فقد رفضت مثلا أن تقبل عضوية الهادي نويرة بسبب صوته الذي أجد فيه رجة لا تعجبني، فلم أكن أرى فيه خائنا ولكن أحسبه ممثلا كوميديا. كان ثمة بن يوسف وتوريس وبلافريج وبن ميلاد فيما اعتقد. كما حضر محمد القاسي، الذي كنا نراه أثناء اجتماعاتنا التي لا نزال نزعم أنها (سرية) وهو يستنشق تبغه، ويبتسم ويصفق. لقد كان متآمرا حذرا، حذرا للغاية. وبفضل يقظته وحذره أصبح، فيما اعتقد، مديرا لجامعة القرويين. وباختصار، فقد كنا نحس أنفسنا في أمان بفعل غياب وعينا. غير أنه إذا كان ثمة من له مصلحة معينة في تسجيل أفعالنا وحركاتنا في سنة 1932 هذه، فلا شك أن الحصيلة معتبرة: فكلما مدت العنكبوت بأحابيلها الإدارية، خرقها جناحان صغيران دون شعور. ولم يعد موفق يتظاهر بالوطني الجزائري الذي أهانه التونسيون والمغاربة. أما لحمق فقد اختفى نهائيا من الحي اللاتيني. في حين أصبح ساحلي أكثر ابتساما وهو يتجرد من النزعة القبائلية. من جهته، أخذ بومنجل يبتعد عن شريكه نارون الذي بات استبعاده جديا من المربع الأخير للأشخاص الذين كانوا يطمحون في عضوية جمعية الطلبة المسلمين الجزائريين البائدة مهما كلفهم الثمن. ومن جانب آخر، شكلت مع اتحاد الشبان المسيحيين، (مجموعة)، ستصبح موضوع حديث لبعض الوقت.

باختصار، فإن الإدارة لم تجن، هذه السنة، إلا الفشل ولم تحصد إلا الخيبة في سياستها المتبعة تجاه (نخبة) شمال إفريقيا. وبالضرورة، فإن جميع هذه الإخفاقات، أصبحت حتما إخفاقات شخصية تحسب على (المستشار التقني، عضو المجلس الوزاري المشترك، الأستاذ بالكوليج دي فراس وصديق المسلمين)، وأنا أقصد هنا ماسينيون شخصيا. سمحت لي الفرصة أن أرى بعيني هذا الشخص في مناسبتين. المرة الأولى كانت في كنيسة بروتستانتية بمناسبة تنظيم (يوم الإسلام). وهي مناسبة ألقى فيه ماسنيون محاضرة، حضرها بومنجل. ويحضرني الآن أمر. لقد كان بومنجل حارسا في سانت بارب ولم يكن من السهل على طالب فرنسي بباريس أن يتقدم لمنصب حارس وهو يزاول لدراسته، فكيف لغير الفرنسيين أن يطمحوا لذلك! ومهما يكن، فقد ذهبت لسماع هذه المحاضرة بصحبة زوجتي ومحمد بن ساعي. وقد أبلغنا من البداية أن المحاضرة غير قابلة للنقاش والمعارضة. وفيما ظهر لي، لم يكن من بين الحضور من جاء ليعارض المحاضر. ومن جانبي، فقد لاحظت أن ماسينيون كان مطلعا جدا على أحوال المسلمين في باريس ... وقد قص علينا، من بين ما قص، حكاية صاحب مقهى من أصل مغاربي افتتحه بمنطقة إيسي لي مولينو في الضاحية الباريسية حيث يعيش العديد من العمال البؤساء القادمين من شمال إفريقيا، الذين يتسكعون جيئه وذهابا لأن المعمرين لم يكونوا بحاجة لهم. أورد ماسينيون أن

صاحب المقهى كاد أن يجن لأن الشرطة لا تفتأ تلومه وتوبخه على حال محله. ولم يكن ثمة شيء يجلب المؤاخذة لصاحبنا في إدارة محله وكان يعتقد ذلك كمسلم يحترم دينه، إذ لم يكن يسمح فيه بشرب الخمر أو لعب القمار. غير أن ماسينيون عرفا كيف يشرح للحاضرين أن مغالاة صاحب المحل في حسن إدارة محله هي التي سببت له المشاكل وأنه تفاداها بمجرد أن سمح بالقمار وتناول الخمر. وإني لأعترف أن هذا العرض قد انتزع مني شعورا بالتعاطف مع هذا الشخص الذي ترفعت عن تلبية دعوته من أسابيع خلت. وقد أدركت الآن أن لعبته كانت من البراعة بحيث تتجاوزني أنا الصغير والطيب المنتمي للأهالي سكان المستعمرات. أما الفرصة الأخرى التي رأيت وسمعت فيها ماسينيون، فقد كانت يوم دعته جمعيتنا الطلابية لإلقاء محاضرة. وكان ذلك في قاعة من قاعات لاميتييل (التعاضدية) (¬1). وقد حضرتها بالطبع بمعية زوجتي والأخوين بن ساعي، فصالح كان قد وصل إلى باريس. لم أتذكر بالتدقيق موضوع المحاضرة غير أنها تناولت مسألة استعمال الحرف اللاتيني في تركيا. وأذكر أن نقاشا قد أثير حول الحرف العربي. فبن يوسف كان يرى أن خلاص البلدان العربية يمر عبر اعتماد الإجراءات التي اتخذها أتاتورك في بلاده. أما ماسينيون فكان مع الحرف العربي ودافع عنه بشدة. وقد انقسم الحاضرون. فساند بعضهم بن يوسف. ¬

_ (¬1) القاعة التي كان مصالي وغيره يلقون فيها خطبهم الوطنية النارية بمساعدة الأحزاب اليسارية الفرنسية. (المترجم).

أما أنا فقد منحت تأييدي لماسينيون. فلم أدرك أن الأمر يتعلق بمجرد مخبر جاء ليسجل ردود الفعل في وسط المثقفين المسلمين. لقد كنت قليل التجربة. وقد نال ماسينيون في هذه الأمسية مودتي حتى بعد أن تجنب إجابتي عن سؤال طرحته عليه أثناء الحديث الذي دار بينه وبين بلافريج ومحمد الفاسي الذي كان يداعب حاملة تبغه، إن لم تخنني الذاكرة. فقد قلت له: - السيد الأستاذ، ألا تعتقدون أن تدهور العالم الإسلامي مرده، فضلا عن أسباب أخرى، إلى أن التفسير القرآني محشو بالخرافات الإغريقية وبالإسرائيليات؟ أتذكر أن وميضا برق في عينيه ولكنه تظاهر بأنه لم يسمع سؤالي، الذي لم أسع من جهتي لإعادته. ويجب أن اعترف أني لم أفهم تصرف شخص انتزع رغم كل شيء تعاطفي نظير موقفه من الحرف العربي. وإني أدرك اليوم جميع الأسباب الذي حدت به ليسجل بكل عناية سؤالي واسمي مباشرة وهو يغادر المكان بعد انتهاء المحاضرة. وأعرف الآن أفضل كيف أحلل الناس ومواقفهم، وأدرك جيدا أن ماسينيون كان يعرفني ليضع اسمي على وجهي. فأنا على يقين أن بومنجل بابتسامته والفاسي وهو يستنشق تبغه قد بلغا عني ولم يدعاني نكرة لديه: فالأول كان يريد الحفاظ على موقعه في سان بارب أما الثاني فكان يسعى لوضع خطاه في جامعة القرويين. باختصار، لقد تركت ذكراي قوية في الحي اللاتيني وفي ذاكرة ماسينيون لما غادرت باريس في جويلية 1932.

أول الضحايا

أول الضحايا عدت إلى مدينة تبسة لأقضي أول عطلة لي، حيث لم أر والداي منذ سنتين. إذ فضلت أن أمضي عطلة سنة 1931 في باريس لاجتهد في مادة الرياضيات، لأني كنت أحس نفسي أكثر ميلا للدراسات التقنية، ولم تكن لي معارف علمية اللهم إلا بعض المفاهيم الأولية لشهادة التعليم الابتدائي. ولن احتسب سنوات المدرسة التي منحتني ثقافة عربية إضافة إلى تكوين فلسفي غامض اكتسبته ذاتيا على حساب البرنامج الأولي الممهد الذي يوفره (التعليم العالي) المخصص للمسلمين في المدارس الجزائرية الثلاث (Medersa) . وصلت تبسة حاملا برنامجا ثريا للمذاكرة أثناء العطلة كان قد أعده لي مدير المدرسة العليا للميكانيكا والكهناء. وهي المدرسة التي تم فيها قبولي في السنة الأولى. لما وصلت وجدت حالة عائلتي قد تغيرت جذريا. فوالدي الذي كان يشغل منصب خوجة منذ اثنتين وعشرين سنة في البلدية المختلطة لتبسة قد نقل فجأة إلى بلدية أريس. وقد علمت أن المدير المتصرف باتيستيني هو الذي وقف وراء هذا الإجراء العقابي. وباتيستيني هذا كان يقول بأنه يريد دفن القرآن، ولم تكن مصادفة أنه تكون في مدرسة ماسينيون إذ كان يحضر دروسه بالفعل بباريس سنة 1931. غير أن والدي لم يستطع حتى الحفاظ على منصبه الجديد بأريس نظرا للحالة الصحية الهشة

لوالدتي، التي أصابها مرض أقعدها الفراش منذ خمس عشرة سنة وصحتها مهددة دوما بالانتكاس. أمام هذا الوضع طلب والدي إحالته على الاستيداع لإعادة والدتي إلى تبسة، وقد صادف ذلك عودتي أثناء العطلة. لم يكن لدي وقتها ميل لأفسر الأحداث التي حصلت لعائلتي بربطها بأسباب منهجية. فلم يكن لدي وعي بأي منهجية بعد. فقد كنت أقول ببساطة: يا لسوء الحظ! بعد أن أدرك مثلا أن دراستي أصبحت صعبة أو قل غير مضمونة. كما أن لي والدة قائمة بالتمام على شؤون البيت وملاكا في آن واحد. فقد عملت ما في وسعها، على علتها وسوء حالتها، أن تظهر لي أن لا شيء قد تغير أو يجب أن يتغير في تدابير العائلة بسبب دراستي. بل وأكثر من ذلك فقد قررت أن ننتقل أثناء عطلتي إلى محطة المياه المعدنية بمنطقة قربص، قرب العاصمة التونسية. وقد أنستنى لبعض الوقت ابتسامتها التي لا تقهر الصعوبات المالية التي تواجهها عائلتي. وكان والدي مقتنعا بأنه سيعاد إلى وظيفته بمجرد أن يصبح هناك منصب شاغر يناسبه. فعادت الثقة في نفسي تحفزها ثقة والدتي الإرادية وتعززها ثقة والدي البريئة. وانصرفت مطمئنا إلى مراجعة الديناميكية الحرارية والميكانيك والمشتقات. وصلتني ونحن في قربص بعض أخبار زملائي. فقد علمت بفضل إبراهيم بن عبد الله أن المؤتمر السنوي لجمعيتنا قد انعقد

بالجزائر العاصمة وأن محمد بن ساعي ألقى بالمناسبة محاضرة باللغة العربية في نادي الترقي، وهو مكان التقاء نخبة السكان الجزائريين المسلمين، وكانت محاضرة مشهودة ومؤثرة تحمت عنوان: (السياسة كدرس من القرآن). وأنا استحضر الآن ما لموضوع مثل هذا من تأثير ومن طابع ثوري بالمعنى الحقيقي للكلمة. فقد نجح بن ساعي بالفعل وباقتدار من أن يستخلص من القرآن مبادئ (سياسة النصر) (أقول اليوم (سياسة الفعالية)) وأن يجمع الكل في شكل أدبي لم يعتد عليه (العلماء) الجزائريون. وكنت أعرف نص المحاضرة الذي تلاه علي بن ساعي مرة أولى في غرفة بفندق بالحي اللاتيني وسمعتها مرة أخرى في محل جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا. ويجب أن أقول، من جهة أخرى، أن محاضرة بن ساعي باللغة العربية ومحاضرتي التي ألقيتها باللغة الفرنسية قد رفعت من شأننا في هذه الجمعية. ويجب أن أضيف الآن، أن هذا الأمر جعل جماعتنا محل ملاحظة ومراقبة من ماسينيون. وعلى أية حال، فإني في موقع يسمح لي أن أقدر شخصيا في الجزائر مدى تأثير محاضرة صديقي، إذ أنها شكلت في اعتقادي، علامة فارقة في الحياة الجزائرية التي بدت لي معدمة فكريا وأخلاقيا. والآن أصبحت مدركا أننا كنا في أعماق بن ساعي وفي أعماقي شخصيا، ننشط ونتصرف بدون وعي منا وببراءة تصرف (منقذي الجزائر). وإذا كان ابن ساعي يحبذ الظهور بهذه الصفة، فإني سعيت لصده عن ذلك، حتى تسير الأمور كما أراد الله، لا كما نريد نحن. غير أن

نصيحتي لم تكن لتفقد صديقي الثقة التامة وكان يعتقد أني أهل لأن أصبح ذراعه الأيمن ومستشاره، وكنت أرى فيه مثال البراءة والطيبة والإخلاص والثقافة بقدر ما كنت أرى في نفسي مزيدا من الشدة وبعد النظر العملي, وكنت أرى في مجمل هذه الصفات خلاصة يمكنها أن تقوم بثورة روحية وفكرية وسياسية بالجزائر. ولهذا كنت حريصا على كل ما كان يقوم به صديقي الذي اعتبره أخا بنفس القدر الذي كنت أنظر فيه إلى صالح الذي ضم محاسنه وعيوبه إلى صفاتنا وإلى ابن عمي علي بن أحمد، عليه رحمة الله، وإن كان هذا الأخير يبدو لي فخورا بقدر يتجاوز قيمته الفعلية. وبناء عليه، فقد كنت متحمسا، وأكررها، للقاء بن ساعي ليعرض علي ما استطاع أن يقوم به في الجزائر العاصمة. وشارفت العطلة على نهايتها وبدأت والدتي تحدق في مطولا حتى ليخيل إلي أنها تريد حفظ صورتي في مخيلتها وتخزينها في ذاكرتها. وقد أخذني حنين العائلة التي كان يتوجب علي مفارقتها وبدأ يلفني مسبقا. وكانت أمي تزودني بنصائح ملحة تخص أحوالي الصحية. ولكني اعتقد أنها قد كشفت بفعل الحدس الذي حبا الله به الأمهات دون سواهن، بأني كنت متزوجا. فقد أحسست في خضم هذه الوصايا أنها تسعى لاحتلال موقع شخص يعني بصفة خاصة بأحوالي ويهتم بها، إذ كانت تسألني إن لم أكن بحاجة إلى محاجم توضع في جسمي لاجتذاب الألم أو دلك ظهري بمادة اليود.

حل أخيرا موعد الرحيل فغادرث قربص وتركت أمي ووالدي وشقيقتي الصغرى ومررت على تبسة لأخذ أمتعتي وتكفلت شقيقتاي المتزوجتان بتنظيم أمتعتي وتزويدي بزاد وفير للسفر ثم غادرت تبسة. عند وصولي الجزائر العاصمة، كان أول انشغالاتي، بعدما حجزت غرفة في الفندق، هو التوجه لنادتي الترقي. وكان جو الإصلاح لا يزال سائدا. وقد تبين لي أن صورة الحاكم العام فيوليت (Violette) كانت معلقة على أحد جدران قاعة النادي. لقد كنت شخصيا مغفلا بخصوص العديد من المسائل، ولكن ليس لحد أحسب فيه أمثال فيوليت أو غودان (Godin) في عداد (أصدقاء العرب). وقد أحدثت صورة الحاكم العام السابق في نفسي صدمة كبيرة. ومهما يكن، فقد كان علي أن أنتظر عودة الشيخ العقبي مما اصطلح على تسميته (درسا) كان يلقيه في أحد مساجد العاصمة. وفي انتظار قدومه، تعرفت على بعض الشباب الذي كان حاضرا في النادي. وأذكر جيدا أحد أبناء ميزاب الذي أدهشني بثقافته الغربية. وبحسب علمي فإن وسط بني ميزاب لم يكن قد أمد الجزائر بمثقفين بعد، فاندهشت. هل يتعلق الأمر بمفدي زكرياء، البطل الوطني لاحقا، عميل المكتب الثاني؟ ربما. وقد كنت أنا شخصيا أرى الدهشة مرتسمة على وجوه المستمعين الذين جذبهم حديثي وأفكاري. وأنا اليوم أدرك ما تعانيه هذه العقول المحبة للبلاغة الأدبية كما كانت (ولا تزال) عقول الكثير من الجزائريين، بحضور شاب

جزائري يمكنه أن يثير انتباههم بفعل الشكل اللبق والسهل لتعبيره وبفضل ما ضمنه من محتوى. فبالفعل ومنذ وجودي بباريس، أحسست بأني مختلف عن إخواني المسلمين، حتى في المجال الديني حيث لم يكن إيماني تأمليا وحسب بل عمليا. فقد أصبحت ذلك العقل البراغماتي والعلمي الذي لا يمكن لواقعيته ودقته إلا أن تفاجئ عقولا تعودت عدم الدقة وغياب الواقعية. ومن جانب آخر، فقد هذبني وجودي بباريس ومكنني من اكتشاف عقلي. وكانت حيويتي الفكرية تدفع بثقل العقل الجزائري وتزعزعه، بعد أن أصبح عقلا أهليا (esprit indigène). وباختصار، لم يثر هذا الاحتكاك، سخط أي من الطرفين. ووصل العقبي أخيرا، وتوجهت إليه معانقا بكل احترام، إذ كنت أظهر له التقدير الكبير. ويجب أن أقر بأن هذا الاعتبار يفوق الذي أكنه للشيخ عبد الحميد بن باديس لسببين. فقد كان ابن باديس يقطن المدينة، وكان في اعتقادي، في ذلك الوقت، أن الانحطاط الحضاري يتجلى بالأخص في ساكن المدينة أكثر مما يتجلى في البدوي. والعقبي كان في نظري بدويا. وكنت أعلم من جانب آخر أنه قاد المعركة ضد المرابطية في جريدته (L'Echo du Sahara) (صدى الصحراء) التي كان يصدرها ببسكرة. وبما أني كنت دوما ضد الشعوذة والمرابطية فقد كنت أتوسم في العقبي زعيما للإصلاح عوض ابن باديس. ويجب أن أضيف أيضا أن هذا الأخير ترك لدي انطباعا سيئا بعد حديث قصير.

جرى بيننا بقسنطينة في سنة 1927. ففي حقيقة الأمر أن شخصية المتحمس الشاب الذي كنت وقتها، أصابتها خيبة أمل بفعل غيابة أي صدى لدى الشيخ بن بادبس عندما حدثته عن مسعاي وعما قمت به في الجنوب الوهراني لخلق وعي لدى سكان المنطقة من خطر الاستعمار المتربص بأراضيهم (¬1). لقد توقعت - كأي شاب عمره 22 سنة - تشجيعا وتهنئة من لدن الشيخ الذي ظهر متحفظا وباردا ولم يدعني حتى إلى الجلوس. فهل هذا هو السبب الذي جعلني وبصورة مبهمة، أفضل عليه العقبي؟ الله وحده أعلم. كما أني لم أكن لأخفي هذا الاختيار الذي كان أحيانا محل نزاع بيني وبين بن ساعي. واعترف أنه هو الذي كان على حق. ولكننا كنا في سنة 1932 وكان العقبي الذي عانقته للتو في أوج عظمته. وبعد تقديم الشاي، تناولت الموضوع مخاطبا العقبي: - أيها الشيخ، ما رأيكم في محاضرة بن ساعي؟ لقد سبق وأن قيل لي هنا أنها كانت مؤثرة. كان الشيخ يتأوه من التعب، تعبا تسببت فيه الدروس التي كان يلقيها في المسجد ومن العرق الذي كان يندي جسمه. وقد صدمتني من البداية شكواه المبالغ فيها لأني كنت أرى في هذه المبالغة شهادة عن هم جسدي باعتباره علامة أو عيبـ (عالم) يسعى لإحداث انطباع لدى الناس بأنه مرهق فكريا. و (عالم) لا يشتكي من بواسيره أو من ¬

_ (¬1) المقصود سكان آفلو بولاية الأغواط أين عمل بن نبي عدلا في المحكمة لمدة قصيرة (انظر بالتفصيل .. (مذكرات شاهد القرن)). (المترجم).

زكامه ليس بـ (عالم) كبير. وأخيرا انتهى الشيخ العقبي من شكواه ليقول بصوت خفي: - بالفعل كانت محاضرة بن ساعي حسنة ولكنها كانت عبارة عن سرقة أدبية أو قل عدة سرقات أدبية مركبة. أذهلني هذا التأكيد في وضوحه وخلوه من أي تحفظ أو تردد في الصوت أو في الحكم. وأردف الشيخ لإقناعي بعد أن لاحظ دهشتي: - إني أؤكد أن بعض مقاطع هذه المحاضرة لا يمكن أن تكون بقلم جزائري يحرر بالعربية. فلا نجد مثل هذا الأسلوب إلا في المشرق. لم أكتشف القيمة السلبية لهذا المقياس إلا فيما بعد .. لقد أصابني الإحباط لأني أعلم شخصيا كيف تم تحرير المحاضرة في غرفة صغيرة بنزل بباريس. لقد خارت عزيمتى أمام هذه العقدة التي لمست فيها جملة من العيوب كالغيرة والكذب والدناءة. وحتى يأتي علي نهائيا أضاف الشيخ (حجة) قوية: - زد أن بن ساعي لم يتمكن حتى من تلاوة نصه جيدا. صدمتني هذه الكلمات ومستني في أعماق شعوري وفي مناصرتي للإصلاح وفي أنفتي وذكائي على غرار محمد بن ساعي، واهتزت في الأخير ثقتي في (العلماء). ثم غيرت موضوع الحديث مستغلا قدوم أحد الأوروبيين الذي زعم أنه صحافي وديمقراطي اشتراكي، والذي سأكتشف بعد سنين، أو قل كشف عن نفسه، بأنه ممثل ماسينيون (أي ممثل المكتب الثاني) بالجزائر العاصمة وبأنه نائب عن تجمع الشعب الفرنسي (RPF) .

وبطبيعة الحال كنت أبعد من أن أدرك الآثار التي سترتبها هذه العلاقة على الشيخ العقبي وعلى الإصلاح. تركت العاصمة دون أن أنشغل كثيرا بالجانب الجديد الذي رأيت فيه الشيخ العقبي. ولم أرد حتى التفكير في الموضوع حتى أحافظ على بعض قناعاتي. بوصولي إلى باريس، عاودت ربط الصلة بحلاوة بالحي اللاتيني المنتعش حركة وابتهاجا بالدخول المدرسي والجامعي. وكان يتولد لدي انطباع دائم أشعر به في الجدران السوداء والنصب والآثار كمدفن الخالدين المسمى البانتيون (Le Panthéon) حيث ترقد عبقريات الأمس والسربون والكوليج دي فرانس حيث ستنبثق عبقريات الغد. وأحس في أعماق نفسي بالنور المنبثق من هذه الأحجار السوداء وأدرك لماذا تسمى باريس بـ (مدينة النور). وكنت أتوقف عند كل هذه المعلقات والملصقات الجامعية التي كانت تزين كل أركان الشوارع، ابتداء من شارع (أولم) حتى نهج (سان ميشال). وكنت أتوقف أرباع الساعة أمامها متأملا. وكانت تجذبني وتسترعي انتباهي أكثر من الملصقات الانتخابية أو الإعلانية التي تغطي جدران كل مدينة حديثة. وكنت أحيانا استغرق في مطالعة البرامج الجامعية في زاوية من زوايا الشارع فتسرح مخيلتي في تأمل عميق يخوض في كل ما يفصل بين العالم الإسلامي والعالم الغربي من مسافات وفروق. وكانت هذه المطالعة تمنحني فكرة مخيفة عن هذا البون الذي أحاول قياسه. وكان الإحساس بتخلفنا الرهيب يحط من نفسي

ويجعلني أحس بالإهانة الكبيرة. ولم ألاحظ أي طالب مسلم يقف متأملا أمام هذه الاعتبارات، فيعظم تأسفي ويزيد. وكان الاتصال الذي ربطته مع الطلبة السوريين والمصريين في جمعية الجامعة العربية، أي العناصر الأكثر وعيا في مجموع (النخبة) المسلمة، قد خيب آمالي. وإذا استثنيت فردين أو ثلاثة تميزوا بقوة شخصيتهم، على غرار السوري فريد زين الدين والمصري القبطي فريد صليب، فإن البقية لا قيمة لها. وليس المقصود هنا أنهم بدوا لي مجردين من الذكاء. فلم ألمس مطلقا لدى مسلم عامة ولدى سوري خاصة هذا الشعور بالفراغ الذي يوحيه نقص أو غياب ذكاء قط، غير أني كنت أحس لدى إخواني في الدين قلة في الهمة والنفس وغياب الرعشه العميقة أمام منظر جلي للحضارة. بالنسبة للمصري كانت الفرصة سانحة لتناول المرطبات والحلويات في متاجر (فايف أوكلوك) (five o'clock) أو مغازلة فتاة جميلة ثم الظفر، في نهاية المطاف بلقبـ (أستاذ) أو (دكتور). وبالنسبة للسوري فقد كان الأمر سيان علاوة على نشوة شعرية كانت تسمو به إلى حد الثمالة. وبخلاف بن ساعي وأحيانا علي بن أحمد، فإني لم ألمس لدى أي مسلم في الحي اللاتيني، أضعف انشغال بالقيام بحصيلة مقارنة بين الحضارة العربية والحضارة الغربية، في وضعهما الحالي، محاولة فهم العلاقة الحقيقية بين المستعمر -بكسر الميم- والمستعمر - بفتحها. وأنا أعي الآن لماذا أنظر إلى المسألة الجزائرية، على الخصوص، من زاوية الحضارة عوض زاوية السياسة.

وكان وعيي بـ (العلم) الغربي الذي اكتسبته في الحي اللاتيني، يتعزز باكتساب وعي بـ (الروح) المسيحية في نادي اتحاد الشبان المسيحيين. وبخصوص المسألتين فقد كنت، للأسف، مضطرا للاعتراف بتأخر المجتمغ الإسلامي. غير أن هذا الوعي المزدوج المكتسب قد أحدث تأثيرا خاصا على طباعي. فقد سعيت لتمديد وقتي وعقلي لاستيعاب كل (علم) الغرب وتوسيع روحي لاستيعاب وفهم وإيصال القيم الروحية المسيحية لإخواني في الدين. وفي مثل هذه الاستعدادات النفسية باشرت، بعد أيام من وصولي باريس، السنة الدراسية 1932 - 1933. وفضلا عن تسجيلي بالمدرسة الخاصة لعلم المكانيك والكهرباء قمت بتسجيل نفسي في بعض الدروس الأخرى في المعهد الوطني للفنون والمهن، كالكيمياء الصناعية والكيمياء المخصصة للغزل والنسيح. فكان برنامجي والحال هذه، محملا. كما حصل خلاف ظرفي بيني وبين الأخوين بن ساعي بعد أن قصصت عليهما الموقف المتعجرف للعقبي حيث عاتباني على عدم إبلاغه بسوء تصرفه ولومه في حينه. فأصبحت علاقتنا معدمة تقريبا. ثم رحلت وزوجتي للسكن في شارع صغير في المقاطعة الخامسة عشر غير بعيد عن باب فرساي، فشغلنا غرفة عند أرملة حتى نتجنب الذهاب للعيش في الجو العمومي للفنادق. وفي هدوء بيتنا الصغير، كانت زوجتي تخيط وتشدو وكنت أعمل وأذكر الله. ولم يكن للحوادث الخارجية تأثير على حياتنا في هذا الجزء الريفي من باريس.

ولم أغادر البيت إلا يوم السبت مساء. وكانت زوجتي هي التي تفرض علي الخروج حيث كانت ترى في ذلك ضرورة لعقلي وصحتي، لأنني كنت مشتغلا بكل ما أوتيت من طاقة طول بقية الأسبوع. وكانت مادة الرياضيات تمارس علي نوعا من السحر الأخاذ الذي يستبد بي كاملا، فتجدني ألقى في المعادلات والصيغ نوعا من الشعر الآسر أعظم مما أجد في الأبيات. وكنت أضيف لها رمزية صوفية، رمزية حضارة العدد، كما سأعبر عنها لاحقا. وكانت هذه الدلالة تبدو لي من خلال وجود معلمي. وكان مدير المدرسة، بخاصة، يتجلى لي في صورة قديس يتوجه للعلم وينذر نفسه له. وبالفعل، فقد أسرتني قداسته، منذ لقائنا الأول عندما ذهبت لتسجيلي. وقد خاطبني يومها قائلا: - السيد بن نبي، عندما يشغلك سؤال تصعب الإجابة عنه، فاطرحه في (دفتر الأسئلة) الموضوع في متناول التلاميذ. وسيتولى الأساتذة الإجابة عنه أثناء الدروس , وإذا تعذرت الإجابة عنه في الحين، لأننا لا نعلم كل شيء، سندرسه ونبحث فيه خصيصا حتى نجيب التلميذ، في حدود إمكانياتنا. لقد أدهشي التواضع الذي أبداه هذا (البحر من العلوم) الحقيقي وهو يعترف بأنه لا يعلم كل شيء. وتذكرت بإشفاق تحذلق (العلماء) الجزائريين الذين لم أعرف منهم أحدا يقر بجهله ويعترف بقصور علمه في مسألة من المسائل. وسأضيف، علاوة على هذا الجانب، أن ما أثار انتباهي في أوروبا هو روح العلم (L'esprit de la science) أكثر

من العلم نفسه. ثم أدركت بعدها أن هذه (الروح) بهذا التألق وهذه الجاذبية الإنسانية، أي كل فعالية العلم الغربي، تمر دون أن ينتبه لها أحد من غالبية الطلبة المسلمين الذين يسعون عند قدومهم أوروبا الظفر بشهادة جامعية فقط. وهكذا، وبإلحاحها علي بالخروج مساء السبت، فإن زوجتي إنما كانت تسعى لتنتزعني لبعض الوقت من شيء ما اتخذته رهبنة وينهكنى جسديا. غير أن هذه الهنيهة لا تمنحني راحة البتة. كنت أذهب إلى (مقهى جزائري) هو مقهى (الهقار) الذي فتح بالحي اللاتيني، فأجد هناك ألوان النميمة والتفاهات وتناقضات الحياة الجزائرية وبشاعتها وعفونتها، ووجه الإنسان القادم من شمال إفريقيا المنعم حديثا والذي يترك نفسه في مهب ريح الحياة على الطريقة الباريسية. والمظهر الخارجي لهذه الحياة الباريسية التي نجدها في جميع المواقع التي يمكن للأجنبي أن يلجها، ووجه العامل القادم من جبال منطقة القبائل أو من الهضاب العليا العربية البربرية، ولكن من غير أن يقدم جهدا (ولم يحثه عليه أحد) كما يقدم اليهودي القادم من الحارة (الغيتو) في بولونيا مثلا، والذي يمضي في غربته بكل عزة، وأخيرا وجه المثقف المسلم الذي يستجدي ربحا ما لأنه يعتبر أن مجهوده الفكري والمعنوي كاف للفوز بلقب المحامي أو الدكتور أو، مرة أخرى، منصب نائب الوالي. وكنت أذهب كل سبت مساء تقريبا، وبعد أن أعرج على اتحاد الشبان المسيحيين، لأفرغ في هذا الوسط الشمال إفريقي الباهت

والخامل مجموع الأفكار التي تمخضت في فكري خلال الأسبوع. فيجد المتمكن حديثا من التنعم بحياة باريس تسلية إضافية، ويجد فيها المغترب فرصة للتنهد وإلقاء بعض الحسرات، ويجد المثقف دائما طريقة أو أخرى للإعراض عن إبداء رأيه في القضايا التي عرضتها ويحس بأني واجهته بكشف واجباته الآنية التي يتعين عليه أدائها بصفته طالب أو إنسان عادي. وعند ما أعود للبيت متأخرا مساء كل سبت دون أن أقنع العامل أن يكون أقل خضوعا لمقتضيات الاندجينا، والطالب أن يكون أكثر فكرا وأطهر أخلاقيا وأكثر فعالية اجتماعيا. وكان الوسط الطلابي الجزائري منقسما إلى فئتين. فالإدارة التي فشلت في فصل الطلبة الجزائريين من جمعية شمال إفريقيا، وجدت طريقة لفصلهم عنها عضويا. فقد عمدت ببساطة إلى إنشاء مأوى للطالب المسلم تحت مسمى (النادي المتوسطي) (Cercle Méditerranéen) . وكان منشط هذه الحركة الانفصالية بالطبع هو عمار نارون. غير أن المثير في الموضوع هو أن بومنجل قد عارضه، على غراري تماما. والآن وبعد أن عرفت نفسية ماسينيون أفضل، فإن الأمر يفسر على وجهين. فهذا الرجل عبارة عن عقدة من الاستعلاء الأكثر غباوة والحيلة الأكثر ميكيافلية. ف (النادي المتوسطي) كان إنجازا من فعل غودين. إلا أن ماسينيون ظهر في المسألة وكأنه (عالم) من الأهالي، يغضب على كل ما لا يحمل إسمه ويثير فزعه.

هذه هي الكبرياء الغبية للرجل. ومن جهة أخرى، كان على قدر من الميكيافلية حيث كان يعطي أوامر للمطيعين له لاحتلال موقع في المعارضة وإلا فلن يصبح النشاط الاستخباري ممكنا. والحق أن الطريقة بدت ذات فعالية كبيرة وأنا الآن أدرك ماذا يمكن أن تثمر بعقد مقارنة بين سيرتي وسيرة (البطل الوطني) بومنجل. وقد فكرت في استغلال سوء التفاهم بين بومنجل ونارون فأجعل نهاية لمآثر وإنجازات وبطولات هذا الأخير. خدمني الحظ، إذ أخبرني الدكتور بن ميلاد، من مدينة تونس، أن عملية اختلاس قد حصلت وذهب ضحيتها عشرات الألوف من العمال من شمال إفريقيا وأنها مكنت المحتال من الاستيلاء على عشرات الآلاف من الفرنكات. ولم يكن النصاب سوى نارون الذي تلقى (سنة 1930) الاكتتابات لإنشاء جريدة تعنى بـ (الدفاع عن حقوق عمال شمال إفريقيا في فرنسا). ولم تر الجريدة النور بطبيعة الحال. وقد رجوت بن ميلاد أن يؤكد لي الأمر كتابيا، تحت شكل رسالة للاطلاع فقط وهو ما قام به بالفعل. فبدأت الرسالة تنتقل بين الأيادي وتروج في ربوع الحي اللاتيني وتنتشر. وقد أفاد كل من بومنجل وساحلي، البريء الطيب، كناقلي التهمة ومروجيها. وتم استبعاد نارون وطرد حتى من الجمعية الجزائرية التي كان ينوي التربع عليها، ليسود بفضلها على ستة من الطلبة المساكين الذين وجدوا ملجأ في (المأوى) المذكور، في انتظار أن يظفر بمنصب نائب الوالي.

والحقيقة أن أطيب الأوقات التي كنت أقضيها خارج عملي وبيتي، إنما كانت في اتحاد الشبان المسيحيين، حيث تحمست جماعتنا للمسائل الخاصة بالشمال الإفريقي إلى حد أن اتفاق حصل لإنشاء ودادية فرنسية - شمال إفريقية. فكنا نجتمع يوم الأحد من كل شهر، في منزل سيدة نبيلة كنا نلتهم خوانها الزاخر بالمأكولات الشهية ونستمتع بموسيقى جيدة كانت تتحفنا بها من خلال. اللعب على أوتار آلة تنبعث من خلاها مقطوعات لفاغنر وتتفاعل معها بإحساس عاطفي. لأني لأدين بشكل خاص لهذه الاجتماعات ولاتصالاتي في (اتحاد الشبان المسيحيين) ببناء فكري قائم على بعض القيم الضرورية للحياة الغربية. وإتي أدرك أن هذا البناء لا يمكن أن يشيد لا بالكتاب ولا بالعرض. وعليه كم كان إخواني في الدين الأكثر تعليما بـ (أشياء) أوروبا يبدون لي قليلي المعرفة بحضاراتها. وكم من مرة -وأنا استعرض ديني عاليا (وربما بمبالغة) - شاركت فيها بالكثير من العاطفة القداس مع أصدقائي من الشباب المسيحي. وهكذا فإن إنشاء (ودادية فرنسا-شمال إفريقيا) لم تكن إلا تتويجا باد للعيان لصداقتنا. وقد أحدث هذا التتويج قلقا وشكا لدى محمد الفاسي الذي قال لي عندما صادفني في أعالي نهج سان ميشال وهو يستنشق تبغه: - ليس لكم أن تدرجوا اسم طلبة شمال إفريقيا في وداديتكم. وقد اعتبرت هذه الملاحظة مجرد إحساس بالغيرة إذ رآنى (رئيسا) لتجمع أحدث صدى في باريس واستطاع أن ينظم أمسية فنية شارك فيها عدد من المواهب منهم المترفعين ومنهم المثيرين للريبة.

ومع (عفريت) أعرج إسمه مارسولين (¬1)، عفريت جسور جاء من منطقة نورمانديا المقدامة، قامت وداديتنا بإطلاق لعبة طامبولا وكانت على أهبة توزيع نشرة شهرية طبع منها عدد واحد. وهكذا فقد فسرت موقف الفاسي على أنه مجرد غيرة، وبعد أن بعثت نفحة من دخان سيجارتي في وجهه رمشت لها عيناه، قلت له مزدهيا: - يا عزيزي، نحن (وكنت أشير إلى بن ساعي وبن عبد الله، وبعض الطلبة الآخرين) طلبة من شمال إفريقيا ولا أظن أن هذه الكلمة علامة مسجلة فتحتكرها حصرا لك. والتزم الصمت بعد أن استنشق من تبغه. وأنا الآن أفهم موقف مدير جامعة القرويين مستقبلا. لقد كان يتحلى بقدر من الواقعية تجنبه الخضوع لرد فعل عادي كالغيرة. كان رجلا يستعلى فوق مثل هذه الصغائر. لقد كان مجرد صدى لماسينيون. ف (صديق المسلمين) هذا لم يكن يحب من يجاريه اختصاص (حبه) لنا. وقد كانت هذه بالفعل نيتنا, وحتى أكون واضحا فإن ماسنيون يدرك جيدا أن الاستعمار يجب أن يكون له وجهان: وجه المحضر الذي يقدم نفسه بهذه الصفة للفرنسي الذي يجب انتزاع صوته لصالح (العمل المحضر) (Oeuvre civilisatrice) والنزعة (المحررة) للاستعمار ثم وجه المضطهد الذي يتعين إظهاره لأهالي المستعمرات (الأنديجين) لإخضاعهم وإذلالهم. ¬

_ (¬1) Marcellin: عضو في اتحاد الشبان المسيحيين الذي كان بن نبي يرتاد ناديه بباريس. (المترجم).

لم يكن سرا، بطبيعة الحال، أن جماعتنا تهدد جديا بكشف الاستعمار وإظهاره على حقيقته أمام النزهاء من الفرنسيين. ولا أقصد بالطبع أن بومنجل والفاسي يعيان جيدا الأدوار التي يؤديانها ولكنهما يقومان بها وهما مدركان نتائجها على الأقل من وجهة نظر مصلحتيهما الشخصية. ولم أكن، والحال هذه، شريرا مع الإثنين. وحتى أبرهن للفاسي في حينها، أني لا أكن له شرا فقد دعوته لمنزلي لتناول طعام الكسكسي وقراءة الفاتحة لتثبيت زواجي شرعيا (¬1). ولم يتردد في قبول الدعوة، كما عهدته. ودعوت لذات المناسبة العزيز الراحل ثامر (¬2). وقد حضر الشاهدان في اليوم المعلوم. غير أن الفاسي أبدى فضولا قويا، وأنا أفهم ذلك. فبعد الطعام وتلاوة الفاتحة، بدأ يسأل زوجتي خاصة حول وضعها قبل الاقتران بي. وكان علي أن أتدخل لوضع حد لأسئلته: - ها قد قبلت امرأتي هذه أن تكون زوجة لي، وعليه فإني سأمنحها صداقا قيمته ربع دينار. أي ما يقابل أربع فرنكات بصرف اليوم. وبالفعل فقد سبق لي أن دفعت لزوجتي القطع النقدية الأربع والتي احتفظت بها، ولا تزال، بعد عشرين عاما. ¬

_ (¬1) تزوج بن نبي السيدة بوليت فيليبون Paulette Philipon التي أسلمت وتسمت بخديجة تيمنا بخديجة الكبرى، زوج الرسول صلى الله عليه وسلم، وعانت معه معاناة شديدة بسبب مواقفه. المترجم. (¬2) الدكتور الحبيب ثامر (1909 - 1949) المناضل التونسي والمغاربي المعروف. توفي إثر سقوط الطائرة التي كانت تقله بمعية المرحومين علي الحمامي ممثلا عن الجزائر ومحمد بن عبود ممثلا للمغرب الأقصى، بعد عودتهم من مؤتمر إسلامي عقد بكاراتشي بباكستان. (المترجم).

وباختصار فقد حمل الفاسي على الاكتفاء بقراءة فاتحة الكتاب وفعل المرحوم ثامر نفس الشيء وقد فهم واستهجن ما قام به الفاسي. وكنت متيقنا أن ذكر الله كان حاضرا في حفلنا الصغير بحضور ثامر على الأقل. وهكذا زوجني أحد ممثلي ماسينيون الذي قدم لجمع معلومات عن زوجتي وأحد المسلمين الذي أصبغ بعض البركة على اقتراني. غير أن هذه الحياة العائلية التي سويت شرعيا ونظمت بطريقة تسمح بالعمل والتأمل كانت تشوبها ظلال قاتمة تجعل أفقها مظلما، فأتنهد بعمق عندما تمر في مخيلتي. فقد كانت الحالة التي تركت فيها والدي تشغلني كثيرا. ولم تكن زوجتي تضع على خواننا البسيط شيئا حلوا من فاكهة أو حلوى دون أن أتساءل والقلق ينتابني: - ماذا تناول والداي المسكينان اليوم من طعام!؟ قد يشحذ هذا التفكير المقلق عزيمتي في العمل، غير أنه لم يزدد إلا ثقلا يحط علي. وكنت أغبط زملائي في الدفعة الذين لم تكن لهم مثل هذه الهموم مما يجعل ظروف عملهم مرحة. ومن جانب آخر، كنت طلبت من أبي كثيرا من التوضيحات قصد معرفة حاله هل أعيد للعمل أم لا، دون أن أحصل على جواب. فأبي رجل لم يكن يعرف ماذا يعني تحرير رسالة لابنه لإعطائه معلومات عن العائلة. فقد كان يرسل لي عند نهاية كل شهر حوالة وينتهي الأمر. كما لم أكن أعتقد البتة أن نوع حياتي بباريس تزيد من تعقيد حالته المادية. غير أنني حكمت عليه نهائيا بالشقاء في منطق الإدارة الاستعمارية يوم لقائي بمصالي الحاج وبعض أصدقائه في مقهى الهقار.

لقد قام بن ميلاد بمعية طالب تونسي آخر هو سومر بترتيب هذا اللقاء مع مصالي، بناء على طلبه، مع بعض الطلبة المدعوين وكنت في عدادهم. تم اللقاء ذات مساء من يوم السبت في غرفة وضعها صاحب المقهى تحت تصرفنا وتقع فوق محله. كان من بين الحضور العيمش ببنيته الشبيهة ببنية ميرابو وبشعره الأشعث، وحضر راجف وسي جيلاني والمسمى عبد الله والمدعو تلمساني صاحب هيئة رياضية قد تجعلني أرى فيه شخص الشرطي لو كانت عندي تجربتي الحالية. وقد بدا لي مصالي الذي كان برفقة مساعديه، مرحا وودودا. غير أن شعورا بالرقة والشفقة غمرني لمجرد أن مرت علي فكرة أن هؤلاء (العمال) هم الذين قدموا إلينا بينما كان واجبـ (المثقفين) هو الذهاب نحو إخوانهم العمال لتربيتهم وتثقيفهم. وهناك حقيقة لا غبار عليها هي أن بومنجل والفاسي غابا عن الاجتماع، ناهيك بطبيعة الحال عن نارون وموفق. تأثرت كثيرا وأخذت الكلمة بعد بن ميلاد الذي قام بالتقديم ومصالي الذي عرض لموضوع الاجتماع، فعبرت عن سروري لهذا اللقاء والآثار الطيبة التي يمكن أن يخلفها على إفريقيا الشمالية. وقد أظهرت فصاحة أكثر من الواجب لأن بن ميلاد - الذي كنت أقدر فيه دوما حسه المعتدل ورزانة تقديره - استرعاني. لقد كنت صادقا بكل تأكيد، ولكني كنت مصابا بمرض سوفة يكون موضوع انتقاد مني شخصيا بعد سبعة عشر سنة.

مهما يكن فقد قام صاحب مقهى (الهقار) بتكريمنا بشاي ثم اتخذنا قرارا بعقد اجتماعات أخرى. وهكذا تشكل الحزب الوطني أو قل أعيد تشكيله، لأن المرحوم الأمير خالد أسسه بباريس في سنة 1927 باسم (نجم شمال إفريقيا). فتم التأسيس تحت إشراف هذا المغترب النبيل. وانتفع (نجم شمال إفريقيا) ماديا بذكراه ببيع صوره، ومعنويا بجذب الانضمام والانخراط في صفوفه. وهكذا فقد ركبت سفينة الوطنية بنشاط ومرح. وقد انخرطت كلية إلى درجة أني أصبحت أتخلف عن اجتماعات (الجامعة العربية) حيث كنت أجد أن الحديث يدور عن أشياء لا شك أنها محترمة غير أنها لا تدعونا مطلقا إلى واجب نقوم به فورا بوقتنا المتوفر وبذكائنا. وفرارا من المثثقفين وأدعياء الثقافة (l' intellectomanie) وقعت للأسف في السياسة العقيمة أي البوليتيك (boulitique) غير أني لم أدرك ذلك بعد في تلك السهرة التي لا تنسى والتي أذنت بميلاد (الوطنية) الجزائرية. وكان حماسي فياضا وأنا أغادر الهقار وكأني فارس شاب خاض للتو معاركه. وعند عودتي إلى البيت، كنت أتصور شتى المشاريع التي ترفع من المستوى الأخلاقي والفكري لمواطنينا الذين يعيشون بباريس. ثم حدد اللقاء الآتي مع مصالي بعد أسبوعين، وكنت تواقا لأحضر لقاء السبت المقبل لأخبر الأخوين بن ساعي، وكنت قد تصالحت معهما بعد هذا الحدث الكبير. وأثناء ذلك، كان يتعين علي أن أعد مشروع مسرحية صغيرة تعرض بمناسبة التظاهرة الرسمية الأولى ل

(نجم شمال إفريقيا). ولم يكن لدي شعور البتة بأن ما أقوم به سيدفع ثمنه أبي. وعندما أراجع نفسي اليوم، فإني أتعجب لكوني وقتها تركيبا للبراءة والنضج. لقد كنت أصغر كثيرا وأكبر كثيرا بالنسبة لسني في آن واحد. تحدثت في الموضوع مع الأخوين بن ساعي. غير أن أفكاري لم تثر فيهما أي حماس. فحمودة كان يشك في أي شيء وكان يرى أن الأمر مجرد حيلة من الشرطة لكشف (النوايا التخريبية) لدى الطلبة المسلمين. أما صالح، الأكثر رزانة، فكان يرى أن الحكم على الشجرة يكون من خلال ثمرها. فيجب بحسبه التريث قبل إبداء أي حكم أو انخراط. وقد نبهته أننا إذا لم نساعد الشجرة حتى تثمر فلا يمكن أن نحكم عليها مطلقا. وأظهر تصلبا في مبدئه وتشبثت بدوري برأيي. لما حل يوم اللقاء الثاني مع مصالي، كنت على استعداد، وقمت بإعداد أقصوصة لجأت فيها إلى إحدى حكايات عنزة وراعي الماعز بدت لي أنها تجسد جيدا (الظلم الاستعماري). من خلف بومنجل في هذه الأمسية؟ لم أعد أذكر الوجوه جيدا حتى أحكم على الأمر. ولم يعجبني الجو رغم أنه لم يكن مكدرا ومزعجا. غير أني اكتسبت في اتحاد الشبان المسيحيين أعراض مرحض خاص بالعقلية البروتيستانتية الخاصة التي تتمسك بالفضيلة والطهرية. فلما رأيت الخمر توزع في هذا الاجتماع، أحسست بعدم الارتياح.

طلبت بطريقة ظاهرة فنجان قهوة أو شاي لرفع معنوياتي وفعل الجو الباقي. وانهمك الجميع في نقد محاولتي المسرحية ومحاولة أخرى قدمها لنا مصالي. وقد وقع الاختيار على عملي. والحق أن مصالي لم يتخذ شكل المهزوم المكسور ولا اتخذت أنا شكل المنتصر المزدهي. لقد تم إنجاز خطوة وتم الاتفاق على إنجاز خطوة أكبر. وقد اقترح مصالي وأصدقاؤه على الطلبة المشاركة في تظاهرة في شكل افتتاح رسمي ل (نجم شمال إفريقيا). وتم الاتفاق على أن تنظم سهرة في قاعة كادي التابعة لمحفل الشرق الماسوني. وأيام بعدها، ذهبت أنا وزوجتي. كانت القاعة غاصة بالحضور. أدخلت زوجتي في مؤخرة القامعة مع السيدة مصالي التي لاحظت بارتياح قسماتها النزيهة والطيبة، يغشاها غطاء خفيف من الحزن. وداخل القاعة التي اجتمعت فيها أنواع البؤس والشقاوة الجزائريين ببعض أنواع البؤس الباريسي، يشاهد في الصف الأول إمام مسجد باريس، وقد يكون حضوره لتمثيل معالي الحضرة الغبريتية لأن بن غبريت (¬1) غاب طبعا، حتى لا يتلطخ ربما برنوسه ذو البياض الناصع من طرف عاطل عن العمل أو عامل في مصانع رونو للسيارات. تم رفع الستار، كما أظن على مسرحيتي التي لم أضع لها عنوانا، غير أن طالبا جزائريا نبيها، غاب عني اسمه، قدم نفسه ارتجالا كمدير مسرح في هذه الأمسية، أعلن للحضور بعد الدقات الثلاث المعهودة قائلا: ¬

_ (¬1) الشيخ بن غبريط كان وقتها عميدا لمسجد باريس. (المترجم).

- مسرحية (المدير الساذج)، من فصل واحد لصديقنا بن نبي! دوى بعض التصفيق في الصفوف، الأخيرة، حيث جلس الطلبة، وتبعته بقية القاعة. لعب بن ميلاد دور المدير وقمت بدور كاتبه، ومثل أحد العمال حاجبه وقام شاب من بلاد القبائل رائع بطبعه بتمثيل دور راعي الماعز. وانتهى الفصل بملاحظة من (المدير الساذج): - لا يتطلب الأمر شهادة دراسية حتى يصبح المرء راعيا للماعز. وجاء دور (السياسة) عبر مجموعة من الخطباء. فتحدث سي جيلاني بلغة عربية تشبه لغة شيوخ الكتاتيب وتبعه العيمش بشكله الذي يشبه الثور ثم جاء دور مصالي. لا أذكر ترتيب توالي الخطباء غير أن مصالي تحدث مطولا. أعجبني كلامه واعترف له بإلهام أسمى من الذي لاحظته حتى الآن في الكلمات التي تضمنتها خطب مثقفينا. لقد أثار الإحساس بالشفقة ثم الإقناع عندما تناول بالحديث بؤس الشعب الجزائري ومجد ماضيه. لقد أعجبني واستولى علي كلية عندما قال: (هناك رجال سامون ولكن ليست هناك شعوب أسمى). وفي القاعة التي كانت تختنق بالإحساس ودخان التبغ، كان ثمة من يبيع وهو يصيح: (صورة الأمير خالد مؤسس نجم شمال إفريقيا ومنشئ جريدة الأمة، لسان حال الحزب الوطني المسلم). لقد استولت الوطنية على قلوب هؤلاء الرجال التعساء وتجلى ذلك في نظراتهم وحركاتهم.

وصاح رجل متحمس، كان ينشر وطنيته على بعض زملائه، وهو يشير إلى عدو خفي هو الاستعمار: - والله سأجندله بضربة رأس، فلن يرى بعدها أبدا! لقد حزنت لهذه الصورة. وأدركت للتو أن السياسة التي لا تبدأ بتكوين الإنسان، وتنشيط ذكائه ووعيه، ليست إلا (نطحة) ضد شيء خفي. غير أني كنت أثق في مصالي لتحمل هذه المهمة الجسيمة. وتواصلت السهرة. وبعد الخطاب جاء دور الموسيقى والرقص: رقص هز البطن المقيت. إنه أمر لا يتناسب والمهمة المنتطرة. جال بي البصر لبرهة نحو ما يشبه شرفة كانت فوق الموقع الخلفي للمسرح حيث كانت الراقصة تؤدي حركاتها والتواءاتها. لمحت مصالي وصديقه الذي كنت سأرى فيه اليوم الشرطي والذي أصفه كمساعد له عوض صديقه. كانا يطلان على المشهد. وأكثر ما كان يجذب انتباهي هو لباس مصالي الذي كان ملفوفا في قفطان فضفاض أخضر وكأنه خائف من نزلة برد. ورغما عني فقد تذكرت الشيخ العقبي، بعد درسه المشهود في مسجد الجزائر. وقد وضعني هذا التشبيه غير الإرادي في نوع من القلق المعنوي الذي لم أقدر على تحديده. وغادرت مع زوجتي المكان ونوع من الحنين ينتابني. غير أن هذا الحنين تحول شيئا فشيئا إلى شك. فخلال هذه السنة، حافظت على صلتي بـ (الوطنية). وقد تمكنت تدريجيا من إقناع الأخوين بن ساعي بالفكرة. ثم راودتهما فكرة، من بنات أفكار صالح خاصة، بالتوجه إلى مصالي وحثه على استعمال نفوذه ووسائله،

باعتباره زعيما وطنيا، لإنشاء مدرسة مسائية في باريس توجه لتعليم إخواننا الأميين. وتلتقي هذه الفكرة مع نظراتي وأفكاري الشخصية، وكنا نعتقد نحن الثلاثة أن قطاع التعليم الحر هو بالفعل ميدان المساهمة الفاعلة، من الزاوية السياسية، للطلبة الذين كان بمقدورهم استعمال وقت فراغهم في سبيل هذه المهمة الكبيرة والنبيلة. كما أن مسعى الإخوين بن ساعي مستلهم من الجامعة الشعبية التي أسسها الحزب الشيوعي الفرنسي بباريس لصالح العمال الفرنسيين. غير أن هناك فرقا. فالشيوعية عقيدة تريد أن تستعمل الإنسان، وتدرج، في مسعاها هذا، قضية تعليمه وتحسينه حتى يصبح فعالا. بينما الوطنية التي شرعنا فيها كانت نوعا من النزعة التجريبية العاطفية التي تنوي اللجوء إلى الكلمة. وبما أن مصالي لم يطلب من الجميع المشاركة بالحديث فقد كان الحضور يكتفي بالاستماع إلى خطاب الزعيم والتصفيق له، فضلا عن أن الزعيم لم يرد أن يتقاسم هذه الميزة مع ثرثارين آخرين. ومن هنا فقد استقبل مصالي الأخوين بن ساعى بابتسامة عريضة، ووعدهما بأن رغبتهما (الواضحة جدا) سوف تنجز. ومر شهران أو ثلاث ولم يتحقق شيء، فعاد الأخوان بن ساعي وكررا الطلب ولم يتلقيا كرد سوى نفس الابتسامة وذات الوعد. وبدأنا نتساءل عن السبب الدفين الذي يخضع له مصالي في قصوره هذا. فكان محمد بن ساعي يرفع صوته نشوة بانتصاره على غباوتي. أما صالح فزاد من تحفظاته.

أما أنا فكنت أفسر موقف مصالي كمجرد غيرة، وذهب بي الحال إلى اعتبارها شرعية في أعماقي. فكنت أقول في نفسي أن حماسنا للتدخل بصفة مباشرة في حياة إخواننا العمال قد يثير حفيظة مصالي وتخوفه من أن يرانا نستولي على تعاطف بعض أنصاره، فكنت أرى في هذا الافتراض بعض الظرف المخفف لموقفه. ثم إن نقاشا داخليا بدأ يشغل ضميري. فقد بدأ الحديث في الحي اللاتيني عن قدوم (فيدرالية منتخبي قسنطينة) بقيادة رئيسها بن جلول. وقد كنت إصلاحيا حادا، إر درجة أني تجرأت (في سنة 1933!) واقترحت ابن باديس رئيسا شرفيا لجمعية الطلبة الجزائريين مثيرا اندهاش كل من نارون الذي طرد من الاجتماع، وبومنجل الذي سجل موقفي لتبليغه لرئيسه ماسينيون. فكان المشكل يطرح على ضميري في صيغة معضلة: بن باديس أم بن جلول؟ وبما أني لم أتردد لحظة في الحسم لصالح (العلماء)، فقد كنت أبدي تعاطفي مع مصالي الذي كان يتودد حينها ل (علمائنا) تماما كما كان يتودد لظل الأمير خالد. وعليه فإني كنت اعتبر نفسي حليفه في هذه النقطة بالذات رغم أني لم أكن في صفه. ولم أكن أعرف، من جهة أخرى، أن (العلماء) سيصبحون، سنوات بعدها، حماة لابن جلول عندما كنت أهاجمه ك (خائن) في وقت كانت الجزائر تضعه في الذروة، وأخص من العلماء الشيخ العربي التبسي. وأدرك الآن أن (العلماء) كانوا يتحسسون في شخصي الشاهد العصي في وقت رأوا فيه أنه من (الإسلام) التفاهم مع متواطئ مع الاستعمار عوض التفاهم مع الذي يكيل له الاتهام.

وقد بدأ النقاش الذي أحتدم في ضميري والذي فصلت فيه لصالح (العلماء)، وبالنتيجة لصالح مصالي، يضعف بفعل همومي الأخرى. فوضع عائلتي لا يزال يؤرقني، وعملي يتعبني. ثم أضيفت قضية إصلاحية، ستورطني (كما أدرك اليوم) دون رجعة في منطق الإدارة الاستعمارية وتحكم على والدي نهائيا. حصل أن صدر تلك السنة (مقرر ميشال) المشهور والذي يقضي بمنع المساجد على (العلماء). غير أن الشيخ العقبي لم يكن ليتحمل فكرة منعه من الذهاب للصياح والتصبب عرقا، كل مساء، في مسجد الجزائر العاصمة، فنشر باسم (العلماء) رسالة مفتوحة طبع منها آلاف النسخ، ولم يدر ما يصنع بهذا العدد الكبير، فمن السهل قول شيء ولكن من الصعب تحقيقه. فأرسل لي المخزون إلى باريس. طلب مني الإصلاح الجزائري خدمة، فلا تتصوروا أني سأرفض أداءها. شرعت بداية في تحريض الطلبة الجزائريين، ثم حررت باسمهم رسالة مفتوحة موجهة للإدارة. ولم تذهب جمعية الطلبة إلى حد التجرؤ ورفض تحمل مسؤولية رسالتي، غير أن بومنجل اقترح تهذيب نصها لأنها، كما قال، تتضمن بعض العنف. آه! كم أفهم الآن مسببات وأهداف الأشياء. كان علي أن أقبل تهذيب بعض فقرات رسالتي التي نشرت في الجزائر بالفرنسية في جريدة (La Défense)(الدفاع) وباللغة العربية في جريدة كان يتولى عبابسة نشرها في العاصمة، وانتقدت فيها ما اسميته بـ (المساعدين المكلفين بالصلاة) الذين فرضتهم الإدارة أئمة على المساجد. ولتوزيع رسالة (العلماء) المضادة لـ (مقرر

ميشادل)، قمت من جهة أخرى، بتجنيد بعض الطلبة مثل إبراهيم بن عبد الله. وقد قبلوا، مثلي، حمل وتوزيع المنشور في حي معين بوضعها في صناديق البريد. فال (العلماء)، لم يمدوني ولو بفلس واحد لمواجهة مصاريف المهمة في مدينة كل شيء فيها بثمن وبخاصة الانتقال من نقطة إلى أخرى بوسيلة ميترو الأنفاق. وقدرت ورفاقي أنه من الأفضل إرسال المنشور لبعض المخاطبين عبر البريد. فشاركنا في جمع مساهمات لتشكيل (صندوق للدعاية). وبهذه الطريقة استطعنا أن نوصل الخطاب إلى برلمانيين وكتاب وصحفيين، وبينما كنا نكد ونجهد أنفسنا من باب إلى آخر، كان ممثلو (الوطنية) يتباهون في مقاهي الحي اللاتيني وينتظرون موعد مهرجانهم الخطابي القادم. ولم تكن نتيجة جهدنا مخيبة وكانت الجريدة الوحيدة التي لمسنا فيها أمرا يعنينا هي (l'Action) (النشاط) الملكية التي تحدثت عن (أفاعي المسلمين) وهي تتناول موضوعا لم أعد أدري ما هو. أما (العلماء)، فلم أعثر لهم على أثر، رغم أني حررت رسالة للشيخ العقبي لحثه على صرف النظر عن (مقرر ميشال) وعدم الاهتمام به ولكن دون اجتياز عتبة المساجد الممنوعة. لقد اقترحت أن يؤم المصلين خارج المدينة، لأداء الصلاة تحت السماء أي تحت القبة الحقيقية للمسجد، والتي أم تحتها محمد صلى الله عليه وسلم صحابته عندما كانوا مضطهدين. وبديهيا أنني أفهم -أو قل لم أفهم- القصور البين ل (العلماء) في هذه النقطة بالذات.

لقد خاطبت الشيخ العقبي لأني كنت أراه أكثر حماسة. ولكن، يجب أن أقول الآن وعلى ضوء تجربة طويلة، أن علماءنا كانوا دوما على قدر من الجهل يحجبهم عن إدراك الأفكار وعلى قدر من الجبن لتطبيقها إذا كانت ثمة بعض الأخطار. إنهم يحبون الجنة طبعا، ولكن على شرط وصولها بتأن وببطن شبعان وبفكر خاو وأن ينتظرهم ملك - أقصد مازحا شكل ملك - يقول لهم: (ادخلوا، أيها السادة، أنا أعلم أنكم تعبتم كثيرا في الحياة الدنيا غير أن فرش ناعمة تنتظركم.) ولكن ماسينيون يفهم الأفكار، وقد يكون لاحظ فكرتي، كما سيلاحظ بعد ستة عشر سنة، بعد صدور (شروط النهضة) ويعلق عليه بقوله: (هذا خطر حقيقي على الاستعمار). وبدأت شخصيا أتحسس وأعي هذا (الخطر) من أفكاري تماما كما بدأت أحس (بالخطر) الخاص لماسينيون على مستقبلي الذي لا يزال بعيدا، وعلى وضع عائلتي، فضلا عن والدي، الذي قرر بعد محاولات فاشلة لإدماجه في العمل، أن يؤدي فريضة الحج مصحوبا بوالدتي. وقد كتب لي ليعلمني بالأمر رسالة مؤثرة أبكت زوجتي، بينما كنت على العكس، فرحا متمنيا أن يبقى والداي اللذان نفرا من الاستعمار بأرض الحجاز حيث خططت للإقامة بعد نهاية دراساتي لأن شعورا غامضا اعتراني بأني لن أقوم بشيء في الجزائر. وانتهت سنتي الدراسية على وقع هذا الآمل.

رحيل والدتي

رحيل والدتي كنت على عجلة من أمري للعطلة ورؤية الوالدين بعد أن أخبراني بعودتهما من مكة. والحق أن هذه العودة أصابتني ببعض الخيبة. غير أن التأملات وتصورات الحجيج الذين تشرف والداي أن يكونا ضمنهم، كانت تصرح بمخيلتي في القطار والباخرة اللذين حملاني إلى الجزائر. لقد كنت مستعجلا لأطرح عليهما أسئلة حول المملكة السعودية التي ابتهجت لإنشائها في 1926 عقب نهاية دراستي بمدرسة قسنطينة. ولم أتوقف من يومها عن متابعة أخبار تطور الوهابية، التي شبهتها في البداية بسلفيتي قبل أن أفضلها تدريجيا. وصلت إلى تبسة في مثل هذه الحالة النفسية. وأذكر الوقار الخاص الذي قبلت به يد والدتي. وبدا لي البيت الذي كنا نسكنه -ولا زلنا - وكأنه يشع نورا وأنه أكثر إضاءة، وكانت أجواء مكة والمدينة حاضرة تحت سماء تبسة التي ظهرت لي أكثر إشراقا. أحضرت لي أمي الكثير من الهدايا والذكريات من الأماكن المقدسة وأخص بالذكر مسبحة من المرجان الأحمر. ثم بدأت، وهي المرأة النبيهة، فحدثتني عن العناية الإلهية التي مكنتها من تجاوز حاجز الجمارك في مدينة عنابة دون أن تدفع شيئا عما حملت من نفائس: حزام فضة من الضفائر لزوجتي، هدايا لشقيقاتي وطاقيات حجازية

لأبنائهن ومسبحات للجميع وأطقم للقهوة والشاي للببت. فبعد نزولهما من الباخرة، ووالدتي العرجاء تجر عكازيها ووالدي يحمل حقيبتين ثقيلتين، هرع إليهما أحد سكان عنابة من أثرياء المدينة المحترمين ودعاهما للنزول ضيفين عنده، فرحا باستقبال حاجين تقيين في منزله. ودون أن يفكرا بتاتا في الإجراءات الجمركية، توجه والدي ببراءة وبغير قصد نحو عربة مضيفهما العنابي. ولم ينتبه رجال الجمارك إلا بعد أن اتخذت أمي مكانا في العربة واضعة عكازيها أمامها فقدروا أنه من الأفضل أن لا يحرجا إمرأة بعرجتها. - وهكذا، قالت لي أمي وهي ضاحكة، لم أدفع شيئا، فلو قدر ودفعت حسب الثمن الذي دفعه بقية الحجاج، فربما لم يكن بحوزتي ما يكفي لتسديد المستحق ولكان لزاما أن أدع لهم نصف الهدايا. وقد أضحكتني هذه الواقعة البريئة فيما أضافت والدتي: - يا ولدي، إن الله يحفظ الأمناء دون علمهم. وهكذا وعلى امتداد أسبوع، لم يكن الحديث في المنزل إلا على الحج. ولوالدتي فن نادر في الرواية. وكان لها حس ثاقب في الملاحظة وعمق في الشعور ووضوح في الفكر، فكانت حكاياتها تسحرني. أو تثير شفقتي وزيادة عن ذلك، كنت أتعلم منها. فكنت أحج معها في فكري. وانتابني شعور لا يمكن وصفه عندما حدثتني عن الجو الذي تندفع فيه آلاف الأرواح نحو الله في تجرد تام عبر النداء الخالد المعهود: (لبيك اللهم لبيك).

وكانت روايات والدتي من الصدق في بساطتها إلى حد أنها تؤثر في نفسي أحيانا. فكنت أنسحب فجأة إلى غرفتي لأخفي دموعي. وكانت أمي ذات النباهة والعمق في الروح تحس بأوقات التأثر الشديد فتجد طريقة لمنحي فرصة للانسحاب. وكانت تبدي لي أحيانا ملاحظات عجيبة. فقد حدثتني يوما مثلا بأن ساحة المسجد الحرام بمكة يعج بالحمام. وكان هذا الحمام الذي يقتات بفضل المؤمنين يطير جيئة وذهابا ويحوم على هواه ويحط في (ميزاب الرحمة). وأضافت بأنها لاحظت بأن الطيور لا تحلق أبدا فوق الكعبة. أعرف أن لوالدتي عقل وضعي ودقيق. غير أن الملاحظة شدتني وأثارت تعجبي، فأردت المزيد من التوضيحات، فاسترسلت: - طبعا، يا بني فأنا أيضا تعجبت للأمر. فعاودت الملاحظة مرات عدة وفي أوقات مختلفة، فاقتنعت بما رأيت. كما روت لي انطباعاتها حول الأماكن والناس والسلطات. السلطات السعودية، كما قالت، تقوم بمهامها بالتمام وعلى أحسن ما يرام في كل ما يخص راحة الحجيج والنظام العام. ويقوم جنود شباب على حراسة ابن سعود عندما يقوم بالطواف حول الكعبة. ويبدو لي أنهم يحبونه كثيرا. كما قدمت لي تفاصيل عدة عن الطبخ والحياة ومظاهر الناس الذين شاهدتهم: - يبدو لي أن نساء مصر، على الأقل اللواتي رأينا، أكثر جرأة منا نحن نساء الجزائر. ثم أضافت: لا أعتقد أني رأيت من بينهن نساء أجمل من نسائنا.

سألتها عن مسائل الأمن المثالية التي يقال أن ابن سعود رسخها في الأماكن المقدسة: - بالفعل يا ولدي، فقد رأيت بأم عيني الأمر ... كنت أحبذ الذهاب لمسجد الرسول في المدينة المنورة في ساعات الفراغ للتعبد في الهدوء السائد تحت القبة. وفي مرة من المرات، وكان الوقت بين صلاتي العصر والمغرب، كنت وحيدة منزوية في ركن من أركان المسجد فوقعت عيني على محفظة نقود وكانت قريبة مني , ففكرت في الحاج المسكين الذي ضاعت منه فجمعتها. عند عودتي إلى الفندق حيث كنا نقيم سلمتها لوالدك ليسلمها بدوره إلى مدير الفندق معتقدين أنه سيفي بالمطلوب أفضل منا، نحن الأجانب. غير أن صاحب الفندق رفض استلام اللقيطة لمعرفته بالقوانين المشددة في حال كهذه. ولم يقبل سوى بإعلام الشرطة فقط. فلما قدم الموظف دون تأخر، وأظنه محافظ الشرطة، شرح لنا بأن اللقيطة يجب أن تبقى مكانها ولا يمكن أن تجمعها إلا السلطات. وبما أننا مجرد حاجين، يجهلان التنظيمات والقوانين، فقد استثناني وعفا عني وشكرني باسم صاحب المحفظة. فأنت ترى يا ولدي أن شريعة الله المقدسة مطبقة هناك بكل صرامة. كنت أعرف هذا الأمر، غير أني كنت أفضل سماع انطباعات وأحاسيس والدتي وكنت أعلم أنها تجد متعة في تبليغي أفكارها. وكان الإحساس الوحيد الذي حدثتني عنه وكررته على مسامعى ببعض الفروق والأسف باد في النبرة هي قصة فتاة سوداء، كانت أمه لدى عائلة مكية.

(لقد ترجتني هذه الفتاة المسكينة، ذات الثلاثين سنة أن ابتاعها , وبعد أن استشرت والدك، اتخذت قرارا في هذا الشأن. غير أن المخلوقة المسكينة. لم تطلب حريتها، لأنها لم تكن تعاني سوء المعاملة من أسيادها كما أنها فضلا عن ذلك تحت حماية قوانين مشددة. لم ترد إلا مرافقتنا إلى الجزائر. غير أن إمكاناتنا لم تسمح لنا بشرائها ودفع تكاليف سفرها في آن واحد. فشرحت الأمر للفتاة المسكينة ففضلت البقاء عند أسيادها الطيبين. وإني نادمة الآن فلو أننا تصرفنا ببعض التقشف لحملناها معنا). وبعد توقف لبرهة أضافت: - كانت ستأكل من الرغيف الذي كتبه الله لها. وكانت تتنهد كلما تذكرت القصة. لم أذكر مطلقا أني أمضيت هذا المقدار من الوقت من قبل مثل هذه الأشهر الثلاثة من العطلة. توسمت فيها جانبا جديدا وحماسة دينية وصيغة صوفية كانت تجذبني. للأسف كان الوقت يمضي مسرعا. وبدأت أفكر في العودة، وفي الدخول المدرسي. كما أن والدتي بدأت تفكر في الموضوع كذلك، ففي إحدى الأمسيات وبينما كنا ندردش على عادتنا، قالت لي فجأة: - لماذا لا تستقدم زوجتك. - ولكن يا أمي كيف علمت؟ أجبتها مقاطعا. - يا بني، إن للأم قلبا يخبرها. - إذن سأخبرك يا أمي، فأنا فعلا متزوج شرعا وزوجتي تسمت باسم خديجة.

- إنه اسم جميل. من الأفضل أن تستقدم خديجة لتمضي معنا فصل الشتاء هنا. - ولكن يا أمي ألم تفكري في دراستي، وضياع سنة. - أ 5! الدراسة، الدراسة، لك من الوقت ما يكفي لها. - ولكن يا أمي أنت لك الوقت لرؤية كنتكي. أجبتها وأنا أفكر بأن هذه هي رغبتها. لم أفكر في غير ذلك تحت سماء صافية تتألق فيها النجوم. كان جو ذلك المساء لطيفا وهادئا بعد تناول الطعام. خرج أبي على عادته من المنزل، ولم أدر أين كانت شقيقاتي. كان رأس ابنة شقيقتي على ركبة والدتي التي تداعب خصلات شعر النائمة الصغيرة وهي تتأمل السماء الصافية. وبما أن والدتي تفضل إطفاء النور في هذه الساعة المبهجة، فقد لفنا ضوء خافت يناسب المشاعر العميقة. فقالت لي والدتي التي كانت متأملة سارحة الفكر وهي تنظر إلى النجوم: - يا بني، عليك ربما أن تخرج. أما أنا فلم أصل العشاء بعد. كنت بالفعل أفكر في حضور درس يلقيه ذلك المساء الشيخ الإبراهيمي في ساحة الولي سيدي بن سعيد. - ليلة سعيدة، أمي، هل أحمل عنك لطيفة؟ - لا، ليس هناك ضرورة سأضع رأسها على البلاط، فالجو حار. ليلة سعيدة يا بني. غادرت البيت بنوع من الغبطة في النفس، غبطة لم تكن إلا والدتي لتمنحها لي. وصلت زاوية الولي حيث كان الحضور كثيفا.

وبدا لي الشيخ الإبراهيمي الذي أراه للمرة الأولى أقل تشبها بالقدامى من (العلماء) الجزائريين. وقد اعجبتنى بلاغته. ولكنى لاحظت على الخصوص نباهة عقله التي كانت تمس مشكل اجتماعي لم يكن بمقدور أي (عالم) أن يجاريه كما أتصور. فقد تكلم عن التربية بكثير من اللباقة والدقة. لقد عمق حديثه السلفية في روحي أكثر. وأبدى جميع الناس إعجابهم به. فجأة دوى صوت رصاصة في أحد الشوارع المحاذية، فانقطع الإعجاب والسحر. وأسر أحد الناس الذي وصل لتوه في أذن أحد الذين كانوا بجنبه أن الأمر يتعلق بعملية أخذ بالثأر، وتناهى اسم الضحية إلى مسامعنا وكان لرجل طيب. لم أعد استمع للخطيب بل أفكر في هذه المأساة التي انفجرت في مكان ليس بعيدا. ولخصت مأساة العالم الإسلامي فيها. يقتل إنسان طيب. إنها أخلاقنا، قلت في نفسي. يا لها من وحشية. رأيت في أمي بعض الحزن. ثم قالت لي عندما رأتني أعد حقائبي: - أي بني، ها هو موعد عودتك قد اقترب. فهل ستلقاني السنة القادمة؟ لقد نطقت بهذه الكلمات وهي تبتسم. غير أن كلامها هذا أذهلني. - بمثل هذا الكلام سأحمل معي أفكارا سوداء. أفضل أن أبقى هنا واستقدم خديجة. وأضافت أمي التي كانت تبتسم لأن تأثري كان يعجبها باعتباره دليلا رقيقا على محبة يكنها ابن لوالدته: لا يا ولدي، ولكن أرسل

صورتها فقط. إني أريد أن أرى كنتي. هل هي طويلة القامة؟ إني لا أحب النساء القصيرات. أخذت من جيبي صورة لزوجتي كنت قد تلقيتها منها، ومددتها لها قائلا: - أجل إن خديجة طويلة القامة، ربما أكبر قليلا منك. - ولكن الكبر أصابني ولم تترك الأمراض مني شيئا. سأتأمل صورتها بروية بعد أن تخرج وأشعل النور. لقد كانت أكثر ساعات يومي حلاوة ثم بدأ الليل يخيم ويلف ساحتنا الصغيرة ويحيط ملامح والدتي بهالة، وقد كانت تتخيل تقاسيم كنتها من الصورة. وإلى موعد مغادرتي، جرت بيننا سلسلة من الأسئلة عن زوجتي، حول قدراتها المنزلية وأخلاقها وروابطها العائلية. وكنت أحس من كل سؤال انشغالا أموميا كانت تزيله إجابتي: فالأم لا تمنح كنوزها لأي كان. غير أن قلقا مبهما سكنني بعد هذا الحديث: - لا تتعبي نفسك يا أمي ثم إنك تحسين بالألم. ثم أضفت مؤكدا وأنا أقبل يدها إذ استعد للمغادرة: يجب أن تستدعي طبيبا. - كان الله في رعايتك وحفظك يا ولدي. إذا مرضت فهو الذي سيشفيني. أما التعب فإن لطيفة الصغيرة تساعدني كثيرا وتقرب لي كل ما يبعد عن متناولي.

- سأنهي دراساتي في العاجل وستأتي خديجة لتجنبك كل المتاعب وتدعك لصلاتك ودعائك. لقد كانت والدتي بالفعل ربة بيت فائقة، على علتها، وكانت تقوم بكل شيء من طهي وغسيل ونظافة لأن إمكانياتنا لا تسمح باستقدام خادمة. أحسست، وأنا أودعها، بنظرتها العميقة وهي تلفني بحدة جعلت يدي ترتعش على الحقيبة. كانت واقفة في السلم. عندما وصلت الباب التفت فرأيت لآخر مرة عينيها الجميلتين مغرورقتين بالدموع: - أه يا أمي إنك تبكين. - توكل على الله، يا بني رعاك الله، أنا لا أبكي، ثم سكبت على السلم كأس من ماء، الماء الذي يدل في الرمزية الإسلامية على ضمان العودة. اجتزت عتبة المنزل وأغلقت الباب دون أن أحس بأني أصبحت بعيدا، بعيدا جدا عن والدتي التي لن أراها أبدا في هذه الحياة الدنيا. وكالعادة، كانت العودة إلى باريس في جو الدخول: البيئة الصاخبة للحي اللاتيني والأحاديث مع الأصدقاء والزملاء بعد غيبة دامت ثلاثة أشهر. ثم استئناف حياة الجد والكد ببرامجها وساعاتها وأفراحها وأتراحها. كنت لا أزال أسكن وزوجتي في ذات العمارة التي آوتنا السنة السابقة، غير أننا غيرنا الشقة وأصبحنا مستأجرين لدى تاجر أصباغ كانت زوجته تشتغل سائر اليوم في المتجر الكائن في الطابق الأرضي مما يجعلنا في راحة تامة.

ضاعفت من الجهد في العمل لأن تضحية والدي كانت تثقل ضميري أكبر من أي وقت مضى. ولم أعد أظهر في نادي اتحاد الشبان المسيحيين إلا مرات متباعدة. غير أن رفاقي كانوا يزورونني يوم الأحد. وكانت زوجتي تعد لنا طبقا من الحلوى ونتبادل أطراف الحديث طوال الزوال , وكان موضوع مناقشاتنا يدور، كما هو الحال لدى الجميع، حول صعود هتلر إلى سدة الحكم. وكان المشكل اليهودي مطروحا. فكانت المواقف منقسمة بين المؤيدين والمعارضين. (المعارضون) كانوا يبتهجون عند كل فضيحة على غرار فضيحة ستافيسكي (¬1)، التي كادت هذه السنة أن تقضي على الحكومة. (المساندون) كانوا ينظمون صلوات من أجل (اليهود المساكين) الذين يلاحقهم البطش وتغلق متاجرهم في ألمانيا. ثم إني حضرت محاضرة لماسينيون لم أعد أتذكر أين ألقاها. وتحدث هو الآخر عن هذا (الاضطهاد الأعمى). وكان مما قال: - لقد كلمتني امرأة يهودية مسكينة هذه الأيام قائلة أنه لم يبق (لجنسها الملعون غير الانتحار). غير أن هذه التمثيلية وهذا التظاهر أثارا تعجبي، ففكرت: تغلق المساجد في الجزائر وتحدث ملاحقات في فلسطين ولا يندد أحد. تغلق محال في برلين، فيستتبع الحدث سخطا عاما. ¬

_ (¬1) Stavisky: نصاب فرنسي مشهور من أصل يهودي، كادت قضيته أن تعصف بالحكومة الفرنسية وقتها. فقد تمكن من رشوة العديد من الوزراء والبرلمانيين والشخصيات النافذة للتغطية على أعماله الإجرامية وتحويله ملايين الفرنكات الفرنسية. أثار موته المريب في 1934، والتي ادعت السلطات أنه انتحار، موجة من الغضب لدى الرأي العام الفرنسي الذي طالب باستقالة الحكومة ورحيلها. (المترجم).

طرحت على عقلي قضية الضمير والدين المسيحي بكل قوة، فأصبحت تشغلني وحاولت أن أفهم المشكلة. وساح فكري في مسائل تاريخية حاولت بكل شغف أن أجد لها تفسيرا. فقد اعتقدت أن الفكر المسيحي مرتبط عاطفيا وفكريا، ومتواصل مع فكر الحواري بولس (Paul) . من كان القديس بولس هذا الذي ينشط ويلهم كل الفلسفة المسيحية منذ تسعة عشر قرن؟ وبدأت أدرس بكل قوة الإنجيل والقرآن. فظهرت لى حقيقة تاريخية. لقد اضطهد بولس التلاميذ الأولين للمسيح في أورشليم حيث كان يتابع دروسه التلمودية. وهذه الحقيقة تؤكدها وتشهد عليها الصيحة التي ينسبها الكتاب المقدس إلى عيسى عليه السلام بعد وفاته، عندما التقى القديس بولس وهو في طريقه إلى دمشق: - لماذا تضطهدني يا بولس؟ ونحن نعرف بقية القصة: أصبح بولس، بسحر ساحر، حواري الدين الجديد ومؤسس الفلسفة الجديدة الناشئة وأقعدها على فكرة (انتخاب إسرائيل). وكانت ثمة أسئلة أخرى تفرض نفسها علي: لماذا سعى بولس دوما لتحويل رفيقه تيموتي (Timothée) وصرفه عن (بلدان الشرق) حتى وكأنه يريد أن يخص أوروبا دون سواها بالدين المسيحي. ثم إني كنت أرى في تاريخ إسرائيل ظاهرة محيرة: عندما أزفت ساعة الشتات، أي الخروج الثاني لهم خارج فلسطين، توجه اليهود نحو أوروبا التي لا تزال حينها متوحشة ودون تجارة،

عوض التوجه نحو آسيا المتحضرة التي كانت تزدهر فيها التجارة. لم يطرح أي مؤرخ هذا السؤال الذي بدا لي مسلمة قطعية. وكان الجواب يفرض نفسه على ضميري. لقد أحس اليهود غريزيا أن نفوذهم سيكون في أوروبا، أي في البلدان الوحيدة التي يمكن لهم أن يسيروا فيها الأفكار والرجال على هواهم. تجلت لي لدغة العقل اليهودي (للروح المسيحية) في الصيحة التي أطلقها القيلسوف الكاثوليكي ماريتان (Maritain) الذي أجاب، بالمناسبة، شابا نصرانيا، تأثر بجو معاداة السامية السائد في تلكم الأيام، وهو يحدثه عن عيسى: (إني أمضي نصف عمري وأنا منحني أمام قدمي يهودي قلبه ممزق). هذه العناصر تترتب في ذهني وكأنها أجزاء من عقيدة ترى في اليهودي المحرك الخفي للحروب الصليبية والاستعمار مرورا بمحاكم التفتيش، وهي عقيدة لا يمكن إدراكها من خلال بطرس المتنسك، ذلكم الجاهل الوحشي. ثم لاحظت كيف بدأ فكري يلح تدريجيا الميدان الخفي حيث أرى فاعلا وحيدا هو اليهودي، بينما لم يظهر لي المسيحي سوى أداة، رغم بعض وعيه، فهو إنسان يحمل حقيبته ويذهب كل صباح إلى مكتبه، إنسان يحمل مزودته ويذهب إلى مصنعه خدمة لأغراض إسرائيل في هذا العالم. ورغم أني كنت أعي الخطورة الكبيرة لأفكاري، فإني كنت أجاهر بها في كل مكان. وكنت أحدث بها أصدقائي مساء كل سبت في

الهوقار وكانوا لا يشاطرونني آرائي. غير أن صالح بن ساعي قال لي سبع سنوات بعدها: - لقد كنت محقا، فاليهودي يؤدي كل شيء. لقد أدركت أنت الأمر في عالم الأفكار أما أنا فقد أخذت وعيا بذلك في عالم المال والأعمال. وكانت حججي لا تنصب على أشكال الأشياء ولكن على مضمونها، مما سيجعل مني (العقل الأخطر) الذي يمكن أن يتجلى لدى أحد (الأهالي) من سكان المستعمرات في شمال إفريقيا، وأنا أعي المسألة اليوم جيدا. واليوم حيث اعتقد أن نهايتي قريبة بطريقة أو بأخرى، فإني لا أفكر في أي فخر: فلا أعتقد أن ملفي الحقيقي موجود لدى الحاكم العام أو في وزارة الداخلية وإنما في الفاتيكان أو في المجمع الديني اليهودي. وأنا واثق أن الذي يدرك الوزن النسبي للأمور سيفهمني بكل بساطة. ومهما يكن، وكلما تعمقت في الأشياء، بدت لي مقاربة (الوطنيين) و (العلماء) سطحية، فالطرف الأول يعتقد أن بإمكانه حل قضية سياسية بالمهرجانات الخطابة في قاعة بوهلييه أو في قاعة لا ميتييل (¬1)، أما الطرف الثاني فكان يعتقد أنه بمقدوره حله بالنحو العربي. غير أني حافظت على الصلة بالطرف الأول وكنت أدافع دوما عن الطرف الثاني، وكنت أقول أننا سنضع أنا ومحمد بن ساعي - بعد الدراسة - الأسس الحقيقية لسياسة جزائرية. ¬

_ (¬1) la mutuelle: وهي القاعة التي كان الوطنيون الجزائريون يخطبون فيها ويثرثرون ويطالبون بالحقوق. (المترجم).

ثم إن (الوطنية) (¬1) بدأت تبرز أهدافها الربحية في باريس: فمصالي افتتح مقهى شرقيا في مومبارناس سماه (تلمسان) ... ويجب الإقرار أني لم أنظر في حينها الأمر بملامة باعتبار أن من واجبـ (قائد الوطنية) أن يضمن قوت عائلته بطريقة أو بأخرى. إلا أنها، وللأسف، الطريق المعبدة (للوطنية الجزائرية)، الطريق التي يسلكها حتما كل مغامر، يتطلع إلى فتح مطعم شعبي أو مقهى عربي، أو قيادة نقابة أصحاب المطاعم. غير أننا لا زلنا-باستثناء مصالي- في مرحلة النشوة العاطفية. والمثير هو أنه في الوقت الذي ابتعدت فيه عن (الوطنية) أصبح بومنجل وطنيا وأصبح فيما أذكر، محرر جريدة (L'Oumma) (الأمة) إلى جانب الهادي نويرة وتونسيين آخرين. وللحقيقة فإني كنت أخطو، أنا المنهجي المنظم والكريم، خطوات متأنية على درب الخطأ، درب الوطنية الاشتراكية. وسيكون الخطأ قاضيا وسيظهر لي أنني لم أكن منظما ولكن كنت كريما فقط. فعشر سنوات بعد الواقعة، كان علي أن أتعلم أن الوطنية الاشتراكية أدت إلى تكريس المبتغى اليهودي المرسوم منذ ألف سنة بإنشاء نزعة توحيدية أوروبية وسيادتها على العالم المستعمر. ولكني كنت بعيدا عن هذه الحقيقة. ¬

_ (¬1) تتجرد (الوطنية) أحيانا من أي بعد مقدس. وليتأمل القارئ عنوانا ورد في جريدة جزائرية: (تفكيك شبكة وطنية مختصة في سرقة السيارات بتلمسان) المقصود عند محرر هذا العنوان هو الامتداد الجغرافي للشبكة الإجرامية وتفرعها وليس حبها للوطن طبعا. (الخبر ليوم 26 أكتوبر 2006). (المترجم).

كما أن حماسي الوطني الاشتراكي كانت تبرره الأحداث الدولية نفسها. لقد كانت السلطات الانجليزية تضطهد الفلسطينيين وكان المفتي الأكبر يستغيث باستمرار. ومن جهة أخرى، أعلنت الصحافة فجأة في حدود شهر ماي أن (أحداثا خطيرة يتم الإعداد لها على حدود الحجاز). فكان للخبر وقع على نفسي، لأن السلفي، بل قل الوهابي، الذي كنت وقتها، فهم بصورة دقيقة جدا معناه. فهمت أن اليهود، وهم يتحركون كمستشارين علنيين أو خفيين للاستعمار، قد أعدوا مؤامرة ضد ابن سعود. كنت أعلم أنهم وبعد أن استعملوا ضده كل (الأسلحة الداخلية) (انتفاضات متعددة قادها الدرويش وابن رفادة وغيرهما)، فسيلجأون إلى (الأسلحة الخارجية). ولم أجانب الصواب. كانت الفاشية الموسولونية تسعى وقتها لبعث الإمبراطورية الرومانية. عشت أياما في تأثر بالغ. فكنت أدعو الله في صلواتي، والدموع في عيني، أن يحبط الحسابات الخفية التي كانت تريد استعمال الإمام يحيى لتحطيم ابن سعود. كنت أتبين إيطاليا بصورة جلية وراء إمام اليمن، ومن بعدها انجلترا وفرنسا، ثم اليهود من وراء الجميع. وبعد أن رجعت يوما من قضاء بعض حاجاتها، روت لي زوجتي أنها سمعت رجلين يتحدثان أمام متجر. قال أحدهما: - سوف تدمر انجلترا هؤلاء المتعصبين ومعهم ابن سعود. وعندما تثاقلت زوجتي في مشيتها لتسترق السمع أكثر، دخل الرجلان المتجر. وفي الغد أو بعده، نشرت الصحف خبرا مفاده أن

الجيش السعودي بقيادة الأمير فيصل قد أفشل بمناورة سريعة كل خطة الحرب التي أعدها الإمام يحيى إذ تم الاستيلاء على ميناء الحديدة في ظرف أربع وعشرين ساعة، كما تم حرق أو إغراق جميع المركبات التي سلحت بغرض الاستيلاء على جدة وساعد على ذلك انتفاضة داخلية، وفر حاكم مدينة الحديدة سباحة حاملا معه محتوى الخزينة العامة قبل أن يلحق به جنديان سعوديان ويعودا به ويسلم للسلطات. لم يحصل نهب ولا عنف ولا تجاوزات من قبل السلطات الوهابية. وقد لفتت جميع هذه التفاصيل انتباهي وكانت لها مغزى عندي. وقد أوردت الصحافة الأحداث وتحدثت عنها كما يجري الحديث عن كارثة مجملة بمشاريع وأفكار ونتائج. لقد خسر موسولوني بوضوح، أما الآخرون فاندحروا كذلك إلا أنهم لم يفصحوا عن خيبتهم التي أبانتها عناوين الصحف التي كانت تتضمن تعليقات عن الوضع الذي خلقته (قبائل متزمتة ومتوحشة تسمى الوهابية). ولم أزدد إلا فهما وإدراكا لأهداف الاستعمار وحقيقته. ولهذا فقد أصبت بالخيبة المريرة إثر مطالعتي، بعد الأحداث بوقت، في مجلة (الشهاب) مقالا لابن باديس يتأسف فيه على (إراقة دماء الإخوة المسلمين) , هذا ما استخلصه الشيخ الموقر من هذه المأساة التي تقابل فيها روح الإسلام و (خيانة) المسلمين. تحسرت على السلفية الجزائرية ونظرتها الضيقة والجبانة. لم تزدني نهاية السنة الدراسية إلا إغراقا في معادلاتي وفي مخططاتي الرياضية. وكنت على عجلة للذهاب للعطلة , وفي يوم من

الأيام، وجدت لدى عودتي من المدرسة رسالة من زوج شقيقتي، حررها بإملاء من والدتي، التي أمدني بشأنها بأخبار جيدة. ولكنها طلبت قدوم زوجتي في الحين إلى تبسة. كنت أعرف الكثير عن العقل السامي والمهذب لوالدتي فافترضت أنها ترغب فقط في إعداد زواج ابنها حسب الأصول والمقتضيات. وفي كل الظروف لم أكن لأخطئ لعلمي أن والدتي كانت تأسف على زواجي الذي لم يحدث تحت إشرافها وفي منزلها. فكأنما لم أتزوج أصلا. وهكذا بدأت أساعد زوجتي بفرح وغبطة لإعداد سفرها. وغادرت بعد ثلاثة أو أربعة أيام. ولم يبق لي إلا عشرين يوما للانتهاء من الامتحانات وللحاق بها. طلبت من الحاكم العام الاستعادة من تخفيض في سعر تذكرة السفر إلى النصف فأجابني بأن ليس لي الحق لأن والدي من (المالكين) (propriétaire) (ونحن لا نملك سوى سكننا)، في ذات الوقت الذي استفاد من التخفيض طلبة في الهندسة من سيدي بلعباس من أبناء المعمرين. ولتمام القصة فقط، فقد كنت طالبا متفوقا أي استحق التخفيض. ومهما يكن، فقد كنت سعيدا يوم مغادرتي باريس. وأثناء الطريق، في القطار أو في الباخرة، كنت أتخيل والدتي وزوجتي تخيطان معا وهما في انتظاري. وكنت أتصور تبادل آرائهما حول عديد من المسائل. فأنا أعلم أن والدتي فضولية تحب الإطلاع وأن زوجتي حبوبة وذات رقة وستشبع فضولها. وكنت أعلم أيضا أن في مقدور زوجتي أن تحول حياتنا العائلية وأن لأمى من الذكاء ما يشجعها على ذلك.

وصلت إذن بنشوة طالب اجتهد وعمل جيدا وابن وزوج تنتظره العائلة. ولم يكن ثمة ما يفسد هذه النشوة. وفي محطة تبسة، وجدت عددا كبيرا من الأصدقاء في انتظاري. سماء تبسة تعجبني دائما. وكان لجمالها غير الحسي- لأن السحب نادرة في فصل الصيف- يتناغم مع طبعي السعيد. عندما تجاوزنا أسرار المحطة، انتبهت أن والدي غاب عن استقبالي. فأبديت ملاحظة في هذا الشأن وأنا ابتسم للصديق العزيز، الشيخ صادق، رحمه الله، وقد كان يشد على معصمي الأيمن برقة وحنان. فزاد في الضغط على معصمي. واخترق نور حزين فكري وتوجهت للشيخ صادق صارخا بعد أن توقفت: ماذا أصاب والدي؟ طأطأ رأسه وضغط أكثر على معصمي: - لا إن والدك في صحة جيدة ... غير أن العجوز ... فصحت: ماذا؟ - رحمها الله، أجابني الصديق بتهتهة. أحسست وكأن الأرض انشقت من تحت قدمي وسقطت فى هاوية، لم أدر ما نوع الهاوية التي تنبثق منها الآلام الكبرى التي تحيط فجأة بالضمير وتقضي عليه. فكان النواح وخارت قواي وانطلقت في الدموع كالطفل. أحاط بي الأصدقاء ليربطوا على قلبي بصداقتهم. بيد أني اعتقدت أن لا شيء يستطيع أن يخفف عني اللوعة من يومها. ثم انطلقت أجري حتى وصلت المنزل ولم أكن أدري لفرط الصدمة أني لن أجد والدتي أبدا.

الخونة - الأبطال على الدرب

الخونة - الأبطال على الدرب كانت عطلتنا صعبة للغاية، فقد خيم الحزن على البيت الذي كان طلقا ضاحكا بوجود والدتي. أما والدي فبدا وكأن لا عزاء له. في حين أحسست بشعور اليتم وكنت أزور يوميا تقريبا قبر الراحلة العزيزة. زوجتي المسكينة، من جهتها، أصابها التيه أمام هذا المصاب الذي بدت عاجزة تجاه الموقف. في البلد أيضا كان هناك حداد لم يظهر للعين وبدأ يجول في العقول. جرى ذلك، كما يذكر، في الصائفة المشهودة التي رفض فيها شوطان (¬1) Chautemps استقبال وفد بقيادة بن جلول، فقدم جميع المنتخبين المسلمين في الجزائر استقالتهم. عندما وصلت عنابة قبل أن أبلغ الخبر الحزين الذي كان ينتظرني بتبسة كنت شاهدا على حماس أدرك جيدا عمقه وبعده السياسي. كان سي الجندي وسي الجنيدي أكثر العنابيين الذين عرفتهما طيبة ومودة، وكانا يقودان حركة الاستقالات التي جاءت ردا على صفعة شوطان. فكان الأعضاء يضعون احتجاجاتهم في مكتب سي الجندي. ¬

_ (¬1) كميل شوطان (1885 - 1963) كان رئيسا لوزراء فرنسا من 930 اإلى سنة 1934. وحكومته هي التي اهتزت على وقع فضيحة ستافيسكي التي تحدث عنها بن نبي سابقا. (المترجم).

ثم انتقلت الحمى التي أصابت منطقة قسنطينة لتعم باقي الولايات. إنه أول عمل سياسي بهذا الحجم يسجل في الجزائر. غير أن القادة كانوا من طينة الرجال الذين يستغلون لصالحهم مثل هذه الظروف النادرة التي تبين كيف يكون الشعب الجزائري حاضرا عندما يدغدغ شعوره وشرفه. ولكن هل كان ثمة شعور في قلب ابن جلول أو في قلوب نائبيه المدعو الدكتور بومالي أو المدعو بن جامع، هذا الأخير لا أحد يعرف كيف رقي إلى رتبة أمين اتحادية المنتخبين؟ بل أنا أعرف الآن الكثير عن ذلك. كان الشك يخامر ذهني وسيبدي لي المستقبل أني على صواب. غير أن الكثيرين كانوا يلومونني في تبسة عندما أعبر عن شكوكي في قدرات وإمكانات بن جلول، وأخصهم الشيخ العربي التبسي. وكنت ألاحظ أن هذا الأخير ليس لديه إحساس، كما هو شأني، بأن حركة بن جلول ليست سوى مجرد تلهية تصد عن حركة الإصلاح. وقد تبينت جيدا وأقولها صراحة أن إنشاء فدرالية المنتخبين إنما هو بمثابة دفن للسلفية، فالأولى كانت تجذب الضمير الشعبي نحو (الفرنسة) والثانية نحو الأسلمة. ولم يدرك الشيخ العربي أيا من هذه المعاني ولم يكن لديه حدس بهذه الأحداث ولم يفهم تحليلي وإثباتاتي. على أن نيته كانت حسنة رغم ذلك (¬1). وهكذا بدأت العوارض الأولى للبغضاء تتجلى بيننا وزادها استفحالا سوء نية الشيخ والعجب وغياب النزاهة لديه. ¬

_ (¬1) رغم المآخذ الكثيرة والقاسية أحيانا لابن نبي على الشيخ العربي التبسي رحمه الله، إلا أنه كان دوما يفصل بين أمرين: تصرفات الشيخ العربي التي تنم عن غياب وعي تام بالأحداث وألاعيب الاستعمار من جهة، وفضائل الشخص الذاتية، من جهة أخرى. أنظر مثلا (الصراع الفكري في البلدان المستعمرة). وفيه يتحدث بن نبي عن الجانب الأخلاقي للشيخ التبسي ويندد بجريمة اغتياله النكرة ولكنه يكرر مآخذه عليه بأنه (لا يفقه شيئا في الصراع الفكري). (المترجم)

وزيادة على ذلك، وباستثناء عودة محمد وصالح بن ساعي وعلي بن أحمد، رحمه الله، لم أكن أتفق حول هذه النقطة مع أحد، حتى مع الخالدي الذي أنهى دراسته الثانوية , أما أنا فلم تكن لدي صعوبة في تمتين مواقفي المناهضة لبن جلول، لأن الأحداث كانت للأسف تثبت حججى. فقد تناهى إلى سمعي ذات مساء أن الدكتور بومالي، عليه رحمة الله، وصل إلى تبسة، فبدت لي هذه الزيارة في الليل غامضة، فرغبت في لقاء الرجل والتحدث إليه. التقيته بالفعل خلال نزهة بالمدينة وهو يتحدث مع أحدهم وهو المدعو ولد فيلالي محمد الذي تبين أنه عميل للمكتب الثاني، وقد اعترف هو شخصيا بالأمر بعد ذلك. قدمني قريبي مسكادجي إلى الدكتور بومالي الذي لم أكن أعرفه من قبل. فباشر الحديث عن غرض زيارته الليلية. لقد قدم تبسة لتعليق حركة الاستقالات التي بدأت ترتسم وتلوح في الأفق. قد يكون تعجبي ارتسم على محياي إذ خاطبني قائلا: - إن الوالي استدعاني ليحذرني إن لم تعلق الاستقالات فسيضطر لاستدعاء الجيش ... الزواوة (Les zouaves)، كما أوضح لي للتدليل على خطورة الوضع. لقد كنت أمام أول خائن - بطل (Traitre - héros) للفديرالية. أدركت المسألة للتو وتركت غضبي ينفجر أكثر من اللزوم إذ صرخت:

- يفهم من كلامك أن السيد الوالي قد أرسل عبرك إنذارا أخيرا للسكان. ربما كانت هذه أول مرة يواجه فيها بومالي معارضه، وهو الذي اعتقد أنه من الواجب أن يشرح لي نبل مهمته فقال: يجب أن تفهم أني لا يمكن أن أدع السكان يتجهون إلى المذبحة. - إن مذبحة يرتكبها الزواوة أفضل من صفعة شوطان، أجبت محدثي الذي اندهش ولم تكن لحيته الكثه تكفي لتستر الإحراج الذي أوقعته فيه أو الزيف المحيط بكامل شخصه. تقدم محمد الفيلالي الذي كان بعيدا، بعض الخطوات وقال: - سي بومالي الجماعة في انتظارك! لاحظت كيف أنه اجتهد لينقذ شريكه من الإحراج. إنه اليقين المادي الأول الذي بحوزتي حول أبطال الفيدرالية. أصبح موقفي المناهض لابن جلول أكثر منهجية واشتد سوء تفاهمي مع العربي التبسي. وأضحت عزلتي في تبسة تزداد لتبلغ أوجها. انفجرت اضطرابات 5 أوت 1934 بقسنطينة كأنها صاعقة. وانتشرت تداعياتها في كامل المقاطعة لتعم بعدها تدريجيا باقي الوطن، لتتجاوزه للخارج. قتل بعض اليهود واغتالت الشرطة بعض المواطنين العرب في المدينة. رفضنا في تبسة أن تمس الأقلية اليهودية بسوء إلى حد أننا بتنا نحرس المدعو مورالي تحت شرفة بيته بعد أن قدرنا أنه كان أكثر أبناء جاليته عرضة للانتقام، وكان

إمام المدينة جليلا إذ رافق في إحدى المرات يهوديا مسكينا اعتدى عليه شخص مارق. بيد أن هذه الأحداث ستفرز في الجزائر أثرا سياسيا كبيرا. فقد ظهرت لنا من هذا التاريخ مسألة الصنم بن جلول، دون أن يفهم هو نفسه ماذا جرى له، وأنا على يقين بذلك. لقد نطح شرطيا كان ينظر إليه بازدراء، في ساحة (الغاليت) بقسنطينة غير أن ضربة رأس بن جلول أفقدت الجزائر وعيها، وهي التي خرجت في ذلك اليوم عن السبيل التي رسمها لها الإصلاح بغموض. فأنصار الإصلاح أنفسهم لم يفهموا مطلقا المعنى العميق للأحداث، وأمدوا هم أيضا الصنم الجديد بأصواتهم الانتخابية. حتى الشيخ بن باديس الذي ظهر أثناء الأحداث العصيبة وهو متحل بشجاعة سامية، وبكرامة تامة، كان أبعد من أن يعي مغزى الأحداث. وأخيرا، ورغم أنفي، فإن بن جلول رفع إلى درجة (الحكيم) والبطل الوطني رقم واحد. حتى الصحافة المصرية تحدثت عنه كبطل للإسلام. ولم يشك أحد في الجزائر في معرفة من كان وراء التنظيم المحكم للتمثيليه. ولم يتبادر الشك إلى الأذهان حتى عندما رفضت (فيدرالية المنتخبين المسلمين) أموالا وجهتها لجنة إسلامية في فلسطين لصالح (الضحايا المسلمين في قسنطينة). فحتى بعد هذا العمل الشنيع الذي قام به (الحكيم) لم يرتفع صوت للتنديد به. هكذا كان حال الجزائر في سبتمبر 1934.

بما أنني كنت سأغادر الوطن عبر سكيكدة فقد ارتأيت أنه من الواجب أن أتوقف بقسنطينة لرؤية البطل الذي تتحدث عنه الجزائر قاطبة، طولا وعرضا، والذي كان الناس يسمون أبناءهم باسمه تيمنا وكذا أنواع من القماش. ثم بدأت (طريقة بن جلون) تطبع لباس الحرير للمتزوجين الجدد، وفسق داعرات بسكرة اللواتي كن يتغنين بنبي الله الجديد. عندما وطأت قدماي عيادة الدكتور بن جلول، كنت لا أزال أشعر بالإحساس الذي يواجه الإنسان وهو يقابل شخصية كبيرة ذات وزن وقيمة، أو حتى الشعور الذي ينتابه عند لقاء (قاطع طريق كبير). وكانت الخيبة التامة. فقد بدا لي الرجل عاديا في تفكيره وحركاته. ففي هذه العيادة التي ستصبح لعشرية كاملة القلب النابض للبلاد، رأيت المثقف (الأهلي) (indigène) الأكثر فظاظة في حياتي. الخطة الانتخابية كانت أسمى أفكار هذا الرجل السياسي الكبير. رأيته محاطا بمساعديه فرحات عباس وآخرين، والكل منحن ومنكب على حساب عدد الأصوات التي يمكن أن تمنحها هذه البلدة أو تلك. عجبت لرجل ولد ليملأ الكلمات المتقاطعة في صحيفة وضيعة وملء الفراغات في ألعاب الجرائد، كيف أصبح قائدا لبلد رهنت مستقبلي ومستقبل عائلتي في سبيل مستقبله. فقد بدأت أشعر أكثر فأكثر بمثل هذا الإحساس وتراودني الأفكار بشأنه. حاولت دون جدوى أن أسمو بمستوى الحديث. كان ذلك مستحيلا، بل أني أحسست أن الرجل كان محرجا، عندما ذكرت له بعض الأفكار حول المشكل التاريخي والنفسي والاجتماعي الذي

يقع في قلب المأساة الجزائرية. ففهمت من ساعتها أن كل ما لا يخص الانتخابات لا يدخل في ميدان السياسة، من وجهة نظر (الحكيم). وعندما هممت بمغادرته، ظن أن من الواجب أن يقنعني برهبانيتي، فقال بنبرة تعاطف حتى يقنعني بخطئي: - أنتم الشباب، تريدونها صوفية. لا أعرف إن كانت صدرت مني حركة إشفاق على هذه (الواقعية) الجديرة بواقعية عجوز قسنطينية مقتنعة أن واد الرمال هي حدود الكون، وأن أفكارها المسبقة تمثل عالم الأفكار الماضية والحاضرة والمستقبلية. غير أني لما أقوم بعملية إسقاط على المستوى الإداري على الرجل الذي قابلته في الحين والأفكار التي ألهمني بها، فإني لم أر (مستقبلا سعيدا) للجزائر. اللهم إلا إذا .... أه! كم كنت استعجل وبن ساعي إنهاء دراستنا. أما راهنا فإني كنت احتقفل ببعض الآمال في (العلماء) وفي فريق مصالي. وصلت باريس في مثل هذه الاستعدادات النفسية لإنهاء دراستي. غير أن هذه السنة بدأت سيئه. فقد حل في المدرسة مدرب أظهر لي البغض والمقت. هل كان موقفه يعبر عن آثار أحداث قسنطينة في نفس صهيونية؟ كان شعره المتجعد يوحي لي بالأمر، علاوة على لون بشرته. كما أن عينيه القاتمتين توجهان لي ومضات كالسهام. فلو كان في ظروف أخرى لكنت سخرت من موقف هذا الغر الذي قدم إلينا من المدرسة العليا للكهرباء.

غير أن الحداد الذي أعقب رحيل والدتي قد ملأ روحي. وكان الظلم يثير حفيظتي. وقد عزمت مرة على تأديبه إلا أن الاحترام الذي أكنه للمدير أثناني عن الانسياق وراء هذه الرغبة. ومن جانب آخر، فإن موقفي من هذا المدرب هو موقف شخص اخترق نفسيته. وهكذا كان السخط يتعاظم من الجانبين إلى درجة أني قررت في آخر الثلاثي وقبل أعياد الميلاد أن أذهب إلى مدينة درو حيث كانت زوجتي في ضيافة أمها. في هذه الأثناء، سنحت لي الفرصة التعرف في المدرسة على بعض التلاميذ الجزائريين الذين التحقوا بالسنة الأولى كبوقادوم وبواعنيني. كان بواعنيني أكثرهم جدية وودا، وقد أصبح صديقا لي ولم أبخل على مساعدته لاستيعاب مادة حساب التوجيه والكهرباء النظرية. وبقيت باتصال مع هذا الفريق من الطلبة المهندسين حتى أثناء وجودي بدرو وكنت أتوسم فيهم اتجاها جديدا للطبقة المثقفة الجزائرية التي كانت إلى عهد قريب تختار دراسة الحقوق والطب. وكنت أسعى لتبليغ مواطني كل تعلقي الشديد بالتقنية وأسباب ذلك. ولم أكن أضيع وقتي في درو بل كنت ألتهم البرنامج الخاص بهندسة مسح الأراضي بالمراسلة مع مدرسة الأشغال العمومية إذ كنت أعتقد أن هذا التخصص سيكمل بنجاح تكويني كمهندس كهربائي، عزمي وحزمي أكثر من ذي قبل، على التحول والإقامة بالحجاز حيث كنت أفكر في أن أعمل في مجالات الطرقات والمناجم. وتحت ضغط الظروف، أصبحت اتصالاتي بـ (الوطنية الجزائرية) قليلة في الوقت الذي بدأ فيه حضورها بباريس يتسع ويأخذ أهمية. ومن جهة أخرى، فقد غادر فريد

زين الدين العاصمة الفرنسية بعد أن قدم أطروحة في القانون بامتياز، فتشتت جماعة (الجامعة العربية). عندما أحل بباريس -مرة أو مرتين في الشهر- كنت أذهب لاتحاد الشبان المسيحيين وأزور بواعنيني. غير أني كنت التقي الأخوين بن ساعي وكذا علي بن أحمد. ورغم خلافاتنا واختلافاتنا فقد كانت رؤانا تتقارب وبخاصة أنها كانت على طرفي نقيض مع أفكار الآخرين. كان علي بن أحمد وبن ساعي يريان في مصالي مجرد شرطي، وكنت أرى فيه إنسانا نزيها دون أن يرقى هو نفسه إلى (وطنيته) فيحققها. وكنت متفقا مع أصدقائي حول عدم فعالية هذه القوة العمياء وعلى خطورتها إذ يمكن أن تصبح أداة في يد الإدارة الاستعمارية. وكان ما يصدمني دائما هو (البوليتيك) Boulitique)) ، هذا الشيء الذي يقال ويعاد إلا أنه لا يطبق بسبب غياب مذهب، فالبوليتيك لا يطرح أبدا مسألة الوسائل. كان مصالي يبدو لي من نوع (البوليتيك) على غرار بن جلول ولكنه كان أكرم وأكثر حفظا للوجه وأكثر عفة. بيد أني لم أر مطلقا، سواء لدى (العلماء) أو لدى غيرهم، أثرا لما يسمى السياسة (Politique)، فالسياسة ليست ما يقال بل ما ينجز. وللأسف كان علينا أن ننتظر طويلا حتى ظهور القضية الفلسطينية، لنرى تشكيل (روح سياسية) في العالم الإسلامي لا تطرح المشكلة الانتخابية كمشكل أساسي ولكن تتحدث عن مشاكل الإنسان والتراب والزمن، سواء عبرت عنها بهذه الكلمات أو بعبارات أخرى أقل منهجية ونسقا.

أما مشكلة الثقافة فلم يحن الوقت بعد لسياسي جزائري أن يفهمها على أنها هي أساس السياسة وقاعدتها. وسوف أكون أول من طرح مشكلة الثقافة في الجزائر بعد خمس عشر سنة دون أن يشجعني المسؤولون. والأمر أبعد من ذلك كما سأبين لاحقا. ومهما يكن فإن الأخبار التي استجمعها في الحي اللاتيني عندما أكون في باريس عابرا، تعلن عن تعاظم شهرة بن جلول في البلاد. كان نجمه يسطع هناك في البلاد. وكان نجم مصالي يتلألأ هنا في فرنسا. أصبح علي بن أحمد منغلقا على نفسه أكثر من أي وقت مضى، وامتدت شكوكه لتصل إلى الأمين الحسيني الذي كان يرى فيه شخصا غريبا استخلف به الإنجليز مفتي القدس. حتى تشابه الملامح الجسدية الضرورية حتى يقوم شخص مقام شخص آخر لم تكن لتثني علي بن محمد عن رأيه إذ كان يرى أن المسألة ممكنة بفضل الجراحة التجميلية. محمد بن ساعي أيضا أصبح منطويا. وكان يشك في كل الناس , وإلى عادته في البصق على يمينه ويساره وهو يتحدث، أضاف هوسا جديدا مقلقا، فكان لا يتحدث دون أن يلتفت من حوله لينظر إن لم يكن هناك من يسمع كلامه. كانت هذه الآثار الأولى للإحساس بالاضطهاد التي بدأنا نشعر به في مجموعتنا. فقد أزعج بن ساعي في دراسته، وكانت أطروحته في جامعة السوربون تحت وحمة

ماسينيون. وكان صديقي يشكو من تقييد في اختيار موضوعها (¬1). وقد تحول اشمئزازه إلى هوس وإحساس بالاضطهاد والمضايقة. إلا أن حالته كانت في الواقع أكثر تعقيدا إذ يجب أن تضاف مأساة غامضة عند هذا الفتى الذي بقي طاهرا عفيفا حتى سن الثلاثين لخجله أمام الفتيات. غير أن هذا الخجل أصبح يستبد به مع كل ما يحرك الحواس والعواطف، إلى درجة أنه أصبح يتخذ مواقف تثير السخرية بطريقة لا يمكن تصورها. أذكر مرة أننا كنا ذات مساء من هذه السنة جالسين في مقهى بالحي اللاتيني، حيث كنت مع محمد بن ساعي وبن عبد الله , كنت أحدثهم عن موضوع من المواضيع ذات الصلة بالعالم الإسلامي، لأننا لم نكن نتحدث إلا عن هذه المسألة. أحسست فجأة بأن بن ساعي غاب تماما عن الحديث. ولاحظت بأنه كان يطوي ورقة صغيرة كان يرسم فيها للتو. اعتقدت بداية أنه كان يدون ملاحظات حول موضوع حديثنا، على عادته. غير أني أدركت أنه كان يريد أن يتوجه بكلمة لفتاة كانت جالسة مع زميلتها في طاولة مجاورة. وبمجرد ما أدركت أني كنت أتعب نفسي سدى، وثبت بغضب وانتزعت منه الورقة وسلمتها للمعنية بها وخاطبتها: - آنستي، لم أطلع على فحوى الورقة، صدقيني، إلا أن قلبي رق لهذا الفتى، أرجو أن تباديله نفس الإحساس. ¬

_ (¬1) حسب بعض الذين تقوبوا منه بباتنة -وما أقلهم- فقد اختار محمد حمودة بن ساعي فلسفة الإمام الغزالي موضوعا لأطروحته لنيل دكتورة الدولة من جامعة السوربون قبل أن (يهتم) به ماسينيون. (المترجم)

ضحكت الفتاة مع زميلتها واحمر وجه صديقي واحتج وتذمر ساخطا قبل أن يتابع الحديث بجدية. هذا هو بن ساعي من زاوية معينة , إلا أنه كان مثالا للاستقامة وكان يجسد الدقة والحرص وأكثر من ذلك كان هو أستاذي في فلسفة الإسلام. وأنا مدين له هنا بالتحية التي سبق لي أن وجهتها له في الإهداء الذي صدرت به كتابـ (الظاهرة القرنية). فقد علمني ومكنني من الولوج ل (روح) القرآن بطريقة لم يكن لأستاذ أزهري أن يقدر عليها. وقد أفادني معناه للقيمة الخلقية وأرشدني أكثر من مرة. واعتقد، أيضا، أن أفكاري هي ذات الأفكار التي لم تنضج عنده أو قل أنها لم تقطف فتهاجر عندي. عندما كنا نتناقش حول القضايا كان هو الذي يقدم الأفكار في الغالب وكنت أرتبها وأضمنها معنى مذهبيا. وما أكثر المشكلات التي تناولناها أنا وبن ساعي! والفضل لصديقي فهو الذي كشف لى موقعة صفين المشهورة وأثار انتباهي لها، وقد منحتها فيما بعد معنى منهجيا في دورة الحضارة الإسلامية وأطوارها. (¬1) وكان الموضوع الوحيد الذي لم نتفق بشأنه هو (العلماء) إذ كنت مع الجمعية وكان هو ضدها على غرار علي بن أحمد. بيد أن اختلافنا لم يكن منصبا حول مضمون المسألة، فقد كان نشاط أعضاء الجمعية يبدو لي سطحيا خاصة بعد أن قدموا جمعهم ¬

_ (¬1) في تناوله للحضارة الإسلامية يعتبر بن نبي أن موقعة صفين تؤرخ لنهاية طور الروح في هذه الحضارة وتأذن لمرحلة العقل التي تسبق بدورها مرحلة الغريزة التي بدأت مع سقوط دولة الموحدين, (انظر كتابه (شروط النهضة)، مثلا) المترجم.

ووضعوه تحت إمرة بنجلول وتصرفه، ولكن حول الفرص فقط، وعلى العموم نبقى متفقين. وبالطبع لم نكن غير مكترثين أمام القضايا والأحداث العالمية، فقد كنا نتابع تطورات الحرب الأهلية في إسبانيا والحرب في إثيوبيا. غير أن جل اهتمامنا كان متابعة ماسينيون في محاضراته حول الإسلام التي كان يلقيها بباريس. واعتقد أني حكمت على نفسي بعد حضوري محاضرة من محاضرات المستشرق الكبير التي ألقاها في مقر اتحاد الشبان المسيحيين. ومن دون ميعاد التقيت مع الإخوة بن ساعي وعلي بن أحمد. وعلى عادته فكلما رأى ماسينيون مسلمين بين الحضور في القاعة، عالج موضوع محاضرته بحذر. غير أن علي بن محمد وبطبعه الاستفزازي، وهو ما كنت أستهجنه فيه، كان يفصح أكثر مما يجب عن أي شيء لم يعجبه. في هذه الأمسية بالذات وبعد أن أنهى البروفيسور ماسينيون تدخله أمام حضور أبدى انتباها كبيرا لكلام المحاضر، طلب علي بن أحمد الكلمة. وكان وقحا إلى درجة كبيرة إذ وصف ماسينيون، دون مواربة، بالكذاب. وقد ندد الحضور به واحتج بالصفير، فتدخلنا نحن المسلمين إلى جانب المسيحيين ضد صديقنا الذي لم يغفل أن يدعي بأنه (المستشار التقني للحزب الوطني) (نجم شمال إفريقيا). وأنا ألح على أن هذا محض ادعاء لا يقوم على أساس ولكنه سيقدم حجة ضدي سنة بعد هذه الحادثة.

وعلى أية حال، غادر علي بن أحمد القاعة بعد أن ترك انطباعا سيئا ونظرة سلبية للمسلمين. همس صالح بن ساعي في أذني طالبا ضرورة إصلاح الزلل. طلبت الكلمة، وبعد أن خاطبت ماسنيون بأدب جم ووقار، قدمت له بعض التوضيحات حول الحركة الوهابية التي حصر وجودها في منطقة الحجاز. وكل من تغيب عنه خطورة الأفكار الدينية في الميدان السياسي، وفي الميدان الاستعماري على الوجه الأخص، لا يمكن أن يدرك خطورة الموقف الذي أظهرته أمام (المستشار التقني) للحكومة الفرنسية (ولكنه مستشار حقيقي، هذه المرة). لقد أكدت في حضوره أن الوهابية ليست ظاهرة عربية بل ظاهرة إسلامية. وأضفت بأنها مسألة شبيهة بالبروتستانتية في المسيحية، علاوة على أني أنا شخصيا وهابي. إن كل من يدرك أن كلمات مثل هذه توجه باحترام وتقدير لكاثوليكي في وسط بروتستانتي وإلى كاثوليكي (¬1) يعمل كذلك مستشارا تقنيا، فلا شك أنه سيحس غضبة ماسينيون الباردة المغلفة بابتسامة. وتأثرت القاعة ربما بعد التشبيه الذي قمت به بين الوهابية والبروتستانتية فصفقت لتدخلي. ها هي زلة علي بن أحمد قد أصلحت غير أني شعرت وأنا أجلس أن خطئي كان أشد وأعظم. كانت ملامح ماسينيون دكناء وهو ما زال يبتسم، بينما راح الإخوة بن ساعي يثنيان علي علي مهنئين (بموقفي المثير للإعجاب). فكرت ¬

_ (¬1) كان نادي اتحاد الشبان المسيحيين يرتاده البروتستنت بينما كان ماسينيون كاثوليكيا. (المترجم).

في والدي الذي زدت وضعه سوء للتو، وتأملت في كلمة قالها ماسينيون في عرضه والموقف الذي اتخذه بشأن رشيد رضا. لقد توقف عن الحديث دقيقة وكأنه مستعرق بتفكير باطني، وختم قولته بهذه العبارة: - المهم أن هذا الرجل مات! عندما انتهت المحاضرة التففنا حول البروفيسور. كان يحمل خريطة جغرافية كبيرة استعان بها في محاضرته وطواها وحملها تحت إبطه. وكان يستعد ليركب مترو الأنفاق في هذه الساعة المتأخرة للعودة إلى منزله. لقد تأثرت ببساطة هذا العالم المسيحي وحضر مخيلتي تحذلق (بئر العلم) المسلم في الجزائر الذي يبدي وجها مكشرا ويظهر الاستياء ويتأفف من تعب يحرص على إبرازه بعد درس صغير يلقيه في الفقه. هذا دون أن ننسى العديد من المرافقين الذين يحملون عنه أغراضه. عندما وصلنا أسفل حجرة الثياب ليأخذ معطفه الواقي من المطر، أخذني أحد التلاميذ الجزائريين جانبا، والذي يبقى في نظري فتى طيبا مهما قيل عنه، وأقصد هنا شريط، ويشغل حاليا منصب المتصرف الإداري المنتدب لدى مجلس الاتحاد الفرنسي، وقال لي: - هل تعلم أن البروفيسور ماسينيون لا يكن لك ودا بالمطلق. أجبته وأنا أحيي ماسينيون وهو خارج: - وهذا ما اعتقده. رغم أني تخلفت عن الدروس خلال سنة 1935 في المدرسة، فلم تكن السنة دون جدوى على دراستي. فقد عززت تكويني في

الرياضيات حتى أضيف ورقة رابحة في يدي كأستاذ بالحجاز، إذا اقتضى الأمر. وفكرت أني سأكون أكثر فائدة بتأسيس مدرسة تقنية إعدادية في المدينة المنورة حتى لا يغادر تلاميذي المفترضين إلى أوروبا إلا لاستكمال دراستهم لا للشروع في الدراسة في صف المهندسين. كما ظننت أنه ليس من الضروري أن أقضي سنة أخرى بباريس للظفر بشهادة من المدرسة الخاصة للميكانيكا والكهرباء. ففي نظري كان لدي كل التكوين المتعلق بها وهذا يكفيني لا لأباشر تحقيق مشاريعى. وعليه تقدمت بطلب الحصول على جواز سفر لي ولزوجتي التي بدأت بإعداد الملابس التي تناسب البلاد الحارة. وفي انتظار أن يكتمل التجهز للسفر، ذهبت إلى منطقة نورمانديا للعمل كحارس في مخيم صيفي على بعد كيلومترات من ليزيو. ولم تكن لدي أية رغبة في العودة لمدينة تبسة لأمضي العطلة فيها هذه السنة. فقد خبا اهتمامي بالجزائر بعد وفاة والدتي وها أنا أخطط لدفع والدي باللحاق بي بعد أن أستقر بأرض الحجاز. وقد كانت الأسابيع القليلة التي أمضيتها قرب ليزيرو في أرض نورماديا المعطاءة بمثابة وداع للحضارة في أوروبا. وفي حدود منتصف سبتمبر، أخبرتني زوجتي أن السلطات قد سلمت لنا الجوازين. وبعد انقضاء العطلة في المخيم الصيفي، عدت إلى درو لإعداد آخر مستلزمات السفر. وأخيرا اتخذنا القرار بالسفر في العشرة أيام الأولى من شهر أكتوبر. واتفقنا على أن أذهب صباحا إلى باريس لتأشير الجوازين على أن

تلتحق بي زوجتي في الزوال حتى نركب سويا القطار المتجه مساء إلى مرسيليا لنبحر في السفينة المتجهة نحو الإسكندرية أو السويس. ودعت حماتي ذات صباح من أكتوبر واتجهت رأسا لسفارة مصر بباريس. كانت القاعة التي كنت انتظر فيها دوري غاصة بالنساء والرجال، عسكريين ومدنيين. وكنت المسلم الوحيد في القاعة. وربما رجوت في أعماق نفسي من خلال هذه الصفة أن أستفيد من معاملة خاصة بدت لي طبيعية كتعويض عادل عن كل المزايا وأنواع التفضيل التي يجدها الأوروبي تلقائيا عند المسلم في أي ظرف وشرط. وفي انتظار دوري، تفرست في الحضور في القاعة بعد أن سلمت جوازي السفر للحاجب المصري الذي أخذهما مني بمجرد وصولي. حاولت أن استخلص من ملامح كل واحد منهم سببا لسفره إلى مصر. فبدا لي أن العسكريين منهم في إجازة سيقضونها في مستعمرة من المستعمرات الفرنسية وكان عليهم أن يعبروا إليها عن طريق مصر. أما المدنيين فقد أحسست فيهم الشبهة والريب. أما النساء فقد أدركت أن أغلبهن سيذهبن لبيع مفاتن أوروبا للبشوات وكبار التجار في مصر الذين يقضون إجازتهم الفصلية في الإسكندرية. وعلى الجملة فقد كنت الوحيد الذي جاء يطلب تأشيرة لسفر له صلة، على تواضعها، بمستقبل الإسلام ومصالحه. وبينما كنت استرجع هذه التخمينات، كان الحاجب في حركة ذهاب وإياب، يظهر في قاعة الانتظار ثم يختفي، يسلم هذا جوازه ويطلب من ذاك معلومة إضافية ويقود آخر إلى مكتب من مكاتب

السفارة. وكان انطباعي الكامل أن طلبات جميع الحضور قد لبيت دون أي رفض. وأخيرا جاء دوري. لم يقدم لي الحاجب جوازي السفر الاثنين وإنما طلب مني أن أتبعه. وكنت أعتقد أن لدى (أخي في الدين. من السفارة فضولا مقبولا لرؤية مهندس جزائري ينوي الذهاب إلى الأماكن المقدسة في هذا الفصل من السنة. أدخلت قاعة واسعة وجدت فيها رجلين سلمت عليهما. طلب مني الحاجب أن أتقدم نحو أحدهما ظهر لي أنه الأهم بسبب مكان مكتبه المقابل لباب الدخول. دعاني للجلوس ليبدأ الاستجواب، وتداولا علي بالأسئلة. أدركت بسرعة أنه ما كان لمثقف مسلم جزائري أن يطلب تأشيرة من سفارة جلالة الملك فؤاد الأول ولكن من (الكي دورسي) (¬1) وأدركت أنني شخص غير مرغوب فيه بمصر حفاظا على المصالح الفرنسية. ورغم ذلك حاولت أن أقنع مخاطبي أني لا أطلب تأشيرة للإقامة في بلاد الفراعنة ولكن مجرد تأشيرة عبور. وزدت على ذلك أني مستعد لأدفع تكاليف تنقل شرطي يرافقني من ميناء الإسكندرية التي أضطر فيها أن أغادر السفينة - لعدم وجود خط مباشر- إلى ميناء بور سعيد أو السويس حيث أبحر نحو جدة. غير أن ممثلي جلالته كانا متصلبين في موقفهما. وللخروج من الإحراج قام الشخص المهم منهما، وكان مسلما في حين يبدو أن زميله قبطيا، وطرح علي السؤال التالي: ¬

_ (¬1) Quai d'Orsay: مقر وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية. (المترجم)

- وستؤدي بالطبع فريضة الحج في مكة بما أنك ستذهب إلى الحجاز؟ كنت لم أزل نصف مغفل بخصوص الشعور الإسلامي الذي منحته لمخاطبي فأجبته: - ربما سأقوم بفريضة الحج أيضا. سقطت في الفخ. فهذا ما كان ينتظره كجواب ليتخلص مني. أخرج بنشوة المنتصر ملفا من درج مكتبه وقال لي: - في مثل هذه الحال، سيدي، يجب الخضوع للأنظمة الدولية الخاصة بالحج، يجب إيداع مبلغا ضروريا من المال في سفارتنا لإجلائك وقت الحاجة وأن تفي بجميع أنواع التطعيم المطلوبة. لم يكن معي المبلغ الذي طلبه ولم يكن معي ما يكفيني من مال حتى أقوم بجولة حول إفريقيا حتى أصل من خلالها إلى الحجاز أو باب المندب. وأوضحت له أني لم آت للسفارة بصفتي حاجا وإنما كمهندس يرغب في الإقامة في بلد مسلم. رأيت فيه بعض التردد فنظر إلى زميله القبطي، إلا أن هذا الأخير أنهى التردد بصورة قطعية: - يقول السيد بأنه سيؤدي كذلك فريضة الحج، في حال كهذه يجب تطبيق النظام المعمول به. من الواضح أن الموقف قد حسم، غير أني حافظت على اتزاني واستدرت نحو القبطي وأبديت له الملاحظة التالية: - سيدي، لم أقل أني سأذهب للحج. عندما نصل باريس، فإننا لا نأتي بالضرورة من أجل (برج إيفل) ولكنك عندما تطرح السؤال على أجنبي قدم العاصمة الفرنسية، فمن الطبيعي أن يجيبك بأنه قد

يزور مآثرها ويطلع على معالمها. وربما يصل بك الحال أن تبادر وتطلب منه أن يدفع مسبقا ثمن زيارته لبرج إيفل. قلتها وأنا أنظر إليهما في عينيهما بالتناوب. ثم خيم بيننا صمت ثقيل وأخذت جوازي الاثنين من فوق المكتب، من أمام الموظف المسلم، وقمت وحدقت فيه ثم قلت له: - شكرا جزيلا، سيدي. ثم انصرفت. كل خطة حياتي انقلبت. وأدركت للمرة الأولى وبصورة واضحة عفن العالم الإسلامي واستبقني إحساس بالمصير الذي ينتظرني بين هذا العفن وتقنية المسيحية. في الأوقات الحرجة كنت دائما اتخذ قرارات سريعة أرجع فيها إلى الحكمة الإلهية عندما تنحرف خطاي فجأة عن هدف كنت قد رسمته. وقد أظهرت لي هذه الفلسفة في موقف سفارة مصر تجاهي، إشارة يبين لي الله سحانه وتعالى من خلالها أنه من الضروري أن أقضي عاما آخر بباريس للظفر بشهادة مهندس من المدرسة الخاصة للميكانيكا والكهرباء. وبالفعل فقد حالفني الحظ إذ وجدت غرفة صغيرة غير مؤثثة في الطابق السادس لعمارة تقع على مسافة خمس دقائق من مدرستي. كان مالكها من نوع الرجال الذين يقضون أسبوعهم في دعة وراحة أمام نار هادئة ليذهبوا يوم الأحد للكنيسة للإقرار والاعتراف بذنوبهم، أي النموذج الصافي الممثل للجمهورية الفرنسية الثالثة، وقد أرغمني على دفع سنتين مسبقا بسب اسمي ربما.

فرحت زوجتي كثيرا وأقرت بأني لي بعض الحظ السعيد إذ اكتشف دائما مأوى مناسبا. وخلال شهر كامل، وبينما استغرقت في دراساتي التي شغلتني عن أي شيء آخر، قامت هي بأعمال الخياطة والتثبيت والصيانة والفراش والتسوية وإعداد حياة سعيدة في حجرتنا الوحيدة. لقد كانت زوجتي آلة متعددة الأشغال باستطاعتها أن تقوم بأشغال الدهان والفراش والخياطة والنجار والبستاني. وكانت تؤدي ذلك بأحسن الأذواق، فأعدت الغرفة بطريقة كادت أن تتسبب في هلاك المالك العجوز، عندما تجرأ وصعد الطوابق الست يوما، لينظر كيف يعيش إنسان من (الأهالي) (Indigène) . فعندما فتحت له زوجتي الباب، وفي الوقت الذي كان يتوقع أن يرى ركنا تندثر فيه الأمتعة القديمة في فوضى، وجد غرفة صغيرة مرتبة أيما ترتيب ترغم فيها ربة البيت بإعداد الأكل وحتى الغسيل. ولم يكن عند الرجل العجوز إلا ضمير المالك. وكان ضمير يحركه بعض الشعور فأحس صاحبه ببعض الارتباك وهو على مدخل شقتنا. قضينا في هذه الغرفة الصغيرة في الطابق السادس من بناية باريسية تسعة أشهر من أوهامنا حول المستقبل. كانت زوجتي تعد نفسها لدور ربة البيت وكنت استعد لمهنة مهندس. وكانت جماعة أصدقائنا من اتحاد الشبان المسيحيين تزورنا كل يوم أحد تقريبا. وكانت أوقات ممتعة إذ كانت زوجتي تحسن كيف تضفي بعض البهجة على لقائنا بإعداد بعض الحلوى فيسر بها أصدقاؤنا الذين لم يزالوا عزابا.

أثناء بقية الأسبوع، كانت الزيارة الوحيدة لنا هي تلك التي يقوم بها محمد بن ساعي مساء كل الجمعة. وكنا نسهر متأخرين مستعرضين المشكلات التي تواجه العالم الإسلامي. وهذه السهرات هي بداية تذوقي واهتمامي بمختلف هذه المشكلات. وكنا ندقق بعمق المسائل التي نتناولها، أنا وبن ساعي. وكان الفقر الخلقي والفكري للعالم الإسلامي يبدو لنا مرعبا أمام عالم غربي له روح أوروبية وتقنية ديكارتية. ويتعاظم الفراغ الرهيب الذي نحس به بمجرد ما نغوص في المشكلات. وكنا ندرك أننا المسلمون الوحيدون الذين كنا نتناقش في مثل هذه القضايا. فحتى (العلماء) -أي المسلمين الأقرب منا-كانوا بعيدين عن النظر إلى الأشياء بعمق. فكان جوهر المأساة الدنيوية غائبا عنهم تماما. فقد كانوا هم أنفسهم صيغا بنجلونية بصبغة إصلاحية خفيفة. كانت الآية الكريمة {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} تتداول في الأوساط الإصلاحية، غير أن الحركة الإصلاحية تعطي انطباعا بأنها تسعى لتجسيد هذا التغيير الأساسي بوسائل البلاغة العربية فقط. فقد كان الأمر يبدو لنا وكأنه إصلاح النحويين. فالمشكل الإنساني بقي كاملا دون تغيير وحتى في معطياته الآنية والبديهية كالجهل والمجاعة. ويحصل أحيانا، إثر مناقشاتنا مساء الجمعة، أن نتخذ، أنا وصديقي، قرارا عمليا. ففي إحدى المرات وبعد أن أدركنا فراغ (المطالب الحازمة) لبن جلول في ميدان التدريس علما بأن هذه

(المطالب) لا تحل المشكل الخطير للأمية وإنما تعمل على إدامته واستفحاله، قررنا أن نعرض المسألة ليس على الساحة الإدارية وإنما على الضمير الجزائري. وهكذا قمت بتحرير مقال عرضت فيه كيف يجب أن تحل المشكلة بإمكانياتنا الذاتية وأشرح من خلاله كيف أن (المطالب) تصب في خانة مصالح الإدارة الاستعمارية التي كانت على يقين بأن المسلمين لا يقومون بشيء أبدا من تلقاء أنفسهم. وقد بينت (وسائل) حل المشكلة بتوزيع عدد الأميين على عدد المثقفين حتى الذين كانوا في طور الابتدائي، وكنت مدركا تماما أني حولت خطة المشكلة جذريا وبطريقة خطرة جدا. وكانت الطريقة فعالة، وبالتالي خطرة في نظر الإدارة التي سترى نفسها مرغمة إما على العمل جديا لحل المشكلة أو أن ترى ظهور مبادرات خاصة تشكل دولة داخل دولة. غير أني لم أتحدث في مقالي بالطبع إلا عن (المبادرات) دون أن أتحدث عن آثارها. وكان من الضروري أن أخذ في الحسبان (عقلية الأهالي) (l'esprit indigène) العاجز عن إدراك المرامي الخفية إلى درجة أن مقالي لم ينشر في صحيفة (La Défense) (الدفاع) التي تلقت المقال. وأنا أدرك الآن ماذا أوحى هذا المقال للإدارة الاستعمارية بخصوصي. وأفهم على الوجه الأخص كيف يتلقى ماسينيون، المستشار التقني لهذه الإدارة، هذا المقال الخطير، صاحبه جزائري لم تكن تحركه (العقلية الأهلية)، بل كان يسعى لإحداث نظام يمكن أن يفرض موقفا جديدا على الإدارة الاستعمارية الميكيافلية.

نعم، ها أنا أدرك الآن، للأسف، أن الشخص الوحيد الذي كان يفهمني هو ماسينيون. كما أن الوضع لم يتغير بعد ستة عشر سنة من (المطالب) العقيمة. والسؤال هو ما هو الثمن الذي دفعته عائلتي كل هذه السنوات الستة عشر؟ ومهما يكن وبعد أن خيبت صحيفة (La Défense) ظننا قررنا، أنا وبن ساعي، أن نتوجه إلى صحيفة (L Entente) (الوفاق) لسان حال التيار البنجلولي التي كانت تصدر بقسنطينة، وكان ذلك حول موضوع آخر. وكان أكثر ما يؤلمنا هو الغياب التام لروح جماعية في الجزائر، حيث كان البرجوازي يقفل عائدا في المساء إلى منزله المريح دون أن يتأثر بتاتا بالطفل الذي يكون قد صادفه في طريقه وهو في الشارع نائم تحت حائط. كيف نخلق هذه الروح الجماعية؟ لا ريب أن الله هو الذي يحدد الأمور بقوله سبحانه: (كن)، فتكون. ولكن كيف نحقق أشياء بوسائل بشرية بسيطة دون اللجوء إلى المنهجية التعليمية التدريجية؟ فقررنا بالتالي أن نتوجه بمنشور مجهول المصدر (تفاديا لكل شعور بالعجب الشخصي والخيلاء) لبعض البرجوازيين الجزائريين وللسيد بن جلول شخصيا، واعتقدنا أن غياب اسم يمكن أن يمس بشهرته وبهالته سيجعله يمنح الإشهار الضروري لرسالتنا في صحيفته، كل هذا في مصلحة إخواننا البسطاء الجائعين. وفي الواقع فقد كنا نتوجه في النص إلى (أخواتنا المسلمات). وعندما لخصته

قبل أن أشرع في تحريره، رأيت الدموع في عيني بن ساعي. وكنت أقاسمه رقة الشعور والتأثير الذي سعيت تضمين رسالتي بهما. وكان النداء، بالفعل، مؤثرا يحرك الشفقة. وقد احتفظ بن ساعي على ما اعتقد بالنسخة , وقد حمل إمضاء بسيطا هو (رفقاء الإسلام). وقد شكلنا، أنا وصديقي، صندوقا صغيرا جمعنا فيه عشرين فرنكا لتغطية نفقات إرسال بعض النسخ إلى جميع جهات الجزائر. تتوالى الأيام وتتلاحق ونحن ننتظر بقلق صدى ندائنا في الصحيفة الناطقة باسم فديرالية المنتخبين في قسنطينة. ربما لم يجد بن جلول وفرحات عباس - هذا الأخير بدأ يخطو خطوته الأولى في ساحة (البوليتيك) (¬1) - أية مصلحة في نص ليست له صلة بالمطالب أو الانتخابات. غير أني مدرك الآن أن الإدارة سجلته بكل عناية وبتوقيع (رفقاء الإسلام) الذي لا شك أنه أثار قلق ماسينيون. وهكذا فإن لم تشتهر (جمعيتنا) ويرفع ذكرها فتعرف مباشرة في الحياة العامة الجزائرية، فلا بد أنها أثارت انتباه الإدارة حول هذا الجانب الجديد ل (العقلية الأهلية)، وجانبها الأخطر الذي انتبهنا له مبكرا، أنا وصديقي بن ساعي وقتذاك. وأنا أدرك جيدا الآن مرامي الإشهار الذي قام به الوسط الاشتراكي بباريس في سنة 1936 لصالح (النشاط الوطني) لمصالي. ¬

_ (¬1) البوليتيك (boulitique) : كلمة بالعامية الجزائرية استخلصت من تحريف كلمة Politique ويقصد بها بن نبي السياسية العقيمة التي تغيب فيها الفعالية وتبنى على الكذب والخداع والدجل، يحترفها المرتزقة والمشبوهون والجهلة، ويفرق بن نبي بينها وبين السياسة التي يعتبرها علما ترسم أهدافا وتجند وسائل ولا تخطئ إلا في حدود خطأ العلم. والعبارة من مفردات قاموس الفكر البنابي. (المترجم).

كانت المهرجانات الخطابية لمصالي تتعدد بالفعل في العاصمة الفرنسية بمشاركة بومنجل طبعا، الذي بدأت هالة البطل الوطني تصبغ عليه. نعم أفهم كل هذا، وبخاصة أنني وعلي بن أحمد وبن ساعي كنا ندرك الأمر في تلك الحقبة ونحن نرى الخطر الذي تمثله وطنية المنصات هذه التي يغيب فيها كل انشغال ذي طابع اجتماعي. وقد أثرت انتباه بوقادوم الذي ترك مقاعد الدراسة ليفتح محل مقهى ومطعم (وطني)، إذ قلت له: - إن من الصعوبة الجمة أن تكون رجلا واحدا من أن تدهش آلاف المستمعين وتجذب اهتمامهم بالخطب الوطنية. بيد أن الطريق قد خططت: فالمثقف الجزائري لم يتطلع للظفر بمنصب نائب الوالي فحسب بل يسعى لدور يدر ربحا كذلك هو دور (الوطني) (Nationaliste). في نهجنا، كل بشيء عرضة للخسارة مع شعب لا يفهم المواقف المثيرة ومع إدارة استعمارية تعرف بالمقابل كيف تقدر الخطورة الفعلية للأمور. من الممكن، في النهج (الوطني) أن نظفر على الأقل بشهرة أو بمطعم. واختار بوقادوم ومعه ثلة من الشباب نهح الوطنية في هذا العام، وهم الذين سعيت لأبقيهم في خطنا المبهم. وأنا أتفهم الأمر. لم أقطع الصلة أيضا بمصالي الذي كنت أراه أقل خطورة، رغم كل شيء، مقارنة بقيم الشهرة والرياء التي كانت تحرك (البوليتيك) الجزائري في قسنطينة. وبقي كبير الوطنيين من جهته يكن لي بعض

المجاملة عندما نلتقي. ولم أكن لأتخلف عن إبداء اعتراضاتي أو أن أبلغها له في كل ما ظهر لي غير عاد في تنظيمه أو في موقفه الشخصي. ويجب القول بأنه كان يتقبل هذه الاعتراضات برحابة صدر. وهكذا حصل في يوم من الأيام أن أرسلت له ملاحظاتي عبر شاب مثقف من محيط بوقادوم بخصوص موقف مزعج اتخذه في حضور شخصين من باريس ذهبا لمقابلته بتوصية مني في مقهى (تلمسان). استقبل مصالي الصديقين اللذين أرادا ربما قياس مدى قوة مراس الوطنية الجزائرية , بيد أنه قام بمراقصة شابة أرمينية، كانت تعمل نادلة في مطعمه، عوض التحلي بموقف مشرف كما كنت أتمنى، وقد ترك الزائرين يحكمان عليه عوض التحدث إليه. بلغته إذن ملاحظاتي في هذا الشأن وتقبلها بصورة جيدة غير أنه اعترض أمام حامل الرسالة أني كنت (متشددا) بعض الشيء وأن كل ما في الأمر أن لكل لحظة موقفا يناسبها ومن الضروري أن يسترخي الإنسان ويروح عن نفسه بعض الشيء. وفهمت مرة أخرى أن مصالى رجل نزيه ولكن كان عليه أن يكتفي بهذه الصفة وكفى. وعلى أية حال فإن المصالية بدت لي أقل تعريض المستقبل للخطر من البنجلونية التي تجلت مرة أخرى روحها المجافية للإسلام. قامت جريدة (Le Temps) (الزمن) الفرنسية، لسبب لم أعد أذكره، بشتم الإسلام والمسلمين، ويجب أن أقر هنا أني لم أطلع بتاتا على المقال الذي حوى الشتم. بيد أني اطلعت في ظرف وجيز على

المقال الحقير الموسوم (فرنسا هي أنا)، الذي قدر من خلاله، المساعد الرئيسي لبن جلول - وأقصد هنا فرحات عباس - بأنه من الضروري الرد على صحيفة (Le Temps) . لقد كان مقالا سافلا وكفى. وهكذا دخل البطل الوطني رقم اثنين أو ثلاثة معترك (البوليتيك) من باب الفضيحة. فقد أنكر بكل بساطة وجود الجزائر بصفتها (أمة)، مدعيا أنه (بحث في كل مكان، حتى في رماد المقابر دون أن يعثر على شهادة بوجودها). اغتاظ علي بن أحمد واستشاط غضبا، أصفر وجه بن ساعي وكنت مشوش الذهن. ما العمل؟ نصح بن ساعي بالتريث وانتظار رد فعل الوطنيين و (العلماء). كان الردان دون المستوى. فقمت بتحرير مقال، لا شك أن بن ساعي يحتفظ بنسخة منه (¬1)، وتم تداوله في الحي اللاتيني والإطلاع على محتواه وخاصة من قبل السيد كسو بشخصيا. وقد قدم هذا الأخير إلى العاصمة الفرنسية حاملا الشارة الاشتراكية في انتظار منصب، لا أعرف ما هو، في حكومة بلوم التي تشكلت حديثا. وعلى أية حال فإن الاشمئزاز ¬

_ (¬1) وهذا الذي حصل بالفعل إذ احتفظ المرحوم محمد حمودة بن ساعي بنسخة من المقال المشار إليه ولم ينشر إلا بعد مرور أكثر من ستين سنة بعد تحريره وقامت مجلة (الرواسي) المتواضعة التي تصدر بباتنة بنشره في عدد شهر جمادى الأول 1412 الموافق لشهر نوفمبر 1991، وأعاد نشره عبد الرحمان بن عمارة في كتابـ (colonisabilite). الظاهر أن الظروف النفسية والاجتماعية الصعبة التي عاشها بن ساعي في الجزائر تفسر هذا التأخير في نشر هذا المقال. (لمترجم).

الكبير الذي انتابني وأنا أحرر المقال سيوحي إلي اللفظة الجديدة التي أصبحت كلاسيكية اليوم في الجزائر. فقد عنونت مقالي: (مثقفون أم مثيقفون؟ (¬1)). وألقيته كالبصاق في وجه فرحات عباس. وقد انتظرنا، أنا ومحمد بن ساعي، بتلهف شديد صدور المقال في صحيفة (La Défense) لصاحبها الأمين لعمودي الذي أرسلته له بالبريد المضمون. وخاب انتظارنا, فشهران بعدها وبمناسبة وصول وفد المؤتمر الإسلامي الجزائري الذي كان قد ولد في جو من الحماس الشعبي، بفضل جهود لعمودي نفسه، شرح لنا هذا الأخير رفضه نشر مقالي لأنه (يتسم بالعنف). لقد كان (يتضمن درجة من العنف بحيث لن يترك أملا لفرحات عباس في الساحة السياسية). وأضاف لعمودي: - لدينا قلة من رجال السياسة ولا ينبغي تحطيمهم. حكمة (الأهالي) (sagesse(indigène) هذه سأجدها وبمزيد من غياب الوعي لدى (العلماء) الذين لاموني لوما شديدا لتهجماتي على بن جلول وزمرته، زمرة استولت على قيادة المؤتمر الإسلامي، وهو العمل السياسي الوحيد الذي رأى النور في الجزائر منذ أن أصبح هناك (بوليتيك) جزائري. ¬

_ (¬1) ? Intellectuels ou intellectomanes ترجم بن نبي نفسه كلمة (intellectomane)، وهي من وحي فكره، بعبارة (مثيقف). أنظر (مذكرات شاهد القرن، الجزء الثاني: الطالب). (المترجم).

ما إن وصل وفد المؤتمر إلى باريس حتى قمنا بالطبع بزيارة أعضائه، أنا وبن ساعي. نزل الوفد ومن ضمن أعضائه (العلماء)، في الفندق الكبير. تأسفت لممثلي الإصلاح وللكرامة الدينية في الإصلاح، فهذا الفندق لا يمكن أن يناسبـ (رجال سياسة) جديين ولكنه يواتي أمثال بن جلول وفرحات عباس وحتى مصالي ربما. غير أنه لا يناسب إنسانا يمثل كرامة دينية ... ويفهمني القارئ. ولم أغفل أن أعبر بصراحة عن عتابي لابن باديس الذي صادفته في بهو الفندق محاطا بالعقبي والإبراهيمي وشخصيات أخرى كالمحامي المعمم خفيف الروح الأستاذ بلقاضي، رحمه الله. وكان هذا المحامى هو الذي حاول إقناعى بالضرورة البروتوكولية لنزول الوفد بالفندق الكبير. فحتى محاميا من الأهالي لا يدرك مرامي وخفايا بروتوكول يفرض أن مكانا تنزل فيه فاتنات وغانيات ومن رواده أصحاب الملايين، لا يصلح أن يكون مكانا ل (عالم)، أو قسيس أو حتى رجل سياسة جدي. كما صدمتني جميع التفاصيل. ففي مدخل الفندق استقبلنا أنا وبن ساعي من قبل الشيخ عبد الرحمان يعلاوي الذي كان يمثل جمعية العلماء بطريقة ذكية، ولا يزال يمثلهم اليوم رسميا. فالشيخ المحترم تلقانا مبتسما مادا يده للمصافحة ليخبرنا بكل برودة أن الوفد في زيارة للمدينة حيث سيلتقي أعضاء من البرلمان الفرنسي. وقد اكتسبنا بن ساعي وأنا، وأخص نفسي أكثر بالمزية، حاسة تمكننا من استشعار رجال ماسينيون. وبما أن المستشار التقني

للحكومة الفرنسية المكلف بالشؤون الإسلامية، لا يمكن أن يبقى غير مكترث بوجود الوفد في باريس فأدركت أن الاتصال به غير مرغوب فيه لدى (السلطات العليا). وبناء عليه، قررت مع ذلك أن أدخل الفندق لأتحقق بنفسي من الأمر ... وبهذا الإصرار استطعنا أن نشاهد جماعة (العلماء) التي كانت تهمنا دون سواها في الفندق. وقد أحسست بأن ملاحظاتي كانت تحرج ابن باديس كثيرا دون أن ينبس بكلمة. فكان هو الذي دفع ثمن محادثتنا إذ اختفى العقبي دون أن أدري أين؟ بينما جلس الإبراهيمي بحذر منزويا عن جماعتنا. ثم ظهر لنا بن جلول، وبعد تحية عابرة ذهب ليجلس بعيدا ليرتشف مشروبا كحوليا بصحبة مندوبة جميلة، تم انتدابها على الأرجح خصيصا لدى رئيس (الوفد الأهلي)، كما يمكن أن نتصور. كان المشهد بائسا يثير الشفقة: فقد صاحبت الفاحشة والمشروبات الكحولية وفدا ضم الأعضاء البارزين للإصلاح الجزائري. وأدركت من يومها أنه لا يرجى خير كثير من الأزهر والزيتونة وكلية الجزائر. كما لم أكن متفقا على أي من المبادئ التي تأسس عليها تشكيل وفد الانديجين وسفره. وقلت ذلك للتو لمحدثي دون أن يخرج ابن باديس من صمته. وعبرت عن دهشتي بداية من تسليم رئاسة المؤتمر لبن جلول بينما بدا لي من الطبيعي أن تعود قيادته لجمعية (العلماء). وقد أجيبت بأن السبب هي اللغة الفرنسية التي يجهلها (العلماء). والواقع، وأنا أدرك الأمر أفضل اليوم، أن لرجل الزيتونة والأزهر رد فعل

نسوي أمام المسؤولية الحقيقية. وقد أعطاني العربي التبسي والشيخ خير الدين الدليل القطعي، بعد إحدى عشرة سنة بعد ذلك، أثناء رمضان سنة 1947 عندما كان علي أن أقدم للشرطة إما ضميري وإما حياتي. فقد أجمع الشيخان المحترمان أن أرضخ للشرطة بدل مقاومتها، وهذا ما تمليه علي مصلحتي، إلا أنها مصلحة تخيلها ضميران من الأهالي. لا نستبق الأمر، إذ سأعود للحادثة في الجزء الثالث من هذا العرض. مهما يكن، فقد كبرت أربعا على (العلماء) وأقمت عليهم الحداد منذ سنة 1936 هذه، واعتبرتهم أعجز من فهم فكرة ناهيك عن تصورها وتنفيذها. كما أن ابن باديس الذي بقي بباريس بعض الأسابيع بعد أن غير الفندق الذي نزل به أول مرة (مما يدل على أن انتقاداتي أتت أكلها)، كان يقضي أمسياته بمقهى الهقار أين كان يلتقي بن ساعي) (¬1). وكان يعرض وقتها الفيلم المشهور (نداء الصمت، L'appel du silence) الذي أثار حماس جميع الباريسيين التواقين لمشاهدة الذكرى القوية للأب دو فوكو. وذات مساء طرقت فكرة مخيلة بن ساعي، وهي فكرة ¬

_ (¬1) بقي محمد بن ساعي يكن كل المحبة والتقدير للشيخ عبدالحميد بن باديس. وطوال حياته البائسة التي قضاها بباتنة لم ينشر بن ساعي إلا كتيبا صغيرا صدر سنة 1987 تحت عنوان: (في سبيل عقيدتي - au service de ma foi)، وقد خصصه للإمام بن باديس تقريبا حيث امتدحه كثيرا, وبغض النظر عن الانتقادات التي وجهها له، قد اتخذ بن نبي الموقف نفسه إزاء الأستاذ الإمام إذ لم تفته فرصة إلا وكال له المدح والاحترام الكبير. (المترجم).

كان فريقنا وحده هو القادر على تصورها وفهمها، وتتمثل في دعوة بن باديس لمشاهدة الفيلم الكبير , وكانت نية صديقي هي إعطاء الزعيم الإسلامي درسا ولكن بطريقة خفية، حول مفهوم المهمة والرسالة , فكان ما يحيرنا أنا وأصدقائي هو بالضبط الفتور الكبير لزعماء الإصلاح الجزائري الذين كانوا ينتظرون قدوم العامة إليهم حتى كراسيهم، عوض نقل الكلمة الطيبة حتى في أكثر أماكن لهو هذه العامة مجونا وفسادا. وقد قدر بن ساعي أن الدرس كان ضروريا للشيخ بن باديس للاعتبار. بيد أن هذا الأخير كان مدعوا في ذلك المساء وفي ذات الوقت المخصص لعرض الفيلم من طرف صاحب مقهى الهقار الذي اقترح عليه فيلما آخر موضوعه تسلية خالصة. والفرق هو أن مالك الهقار يمتلك سيارة بينما ليس لبن ساعي سوى فكرة. وظفرت السيارة بالشيخ ابن باديس. ويمكن أن يدرك الأثر النفسي، علي وعلى بن ساعي، الذي تركه الموقف الغريب للشيخ بن باديس، رحمه الله، غير أن الشيخ الموقر خصنا بمفاجأة أخرى. فعوض أن يتوجه إلينا (وخاصة أنا الذي حملت لواء (العلماء) بباريس واقترحت اسم رئيسهم للرئاسة الشرفية لجمعية الطلبة الجزائريين زمن المرحوم نارون)، قام الشيخ بإسناد مصالح جمعية (العلماء) بباريس للشيخ الورتيلاني الذي كان ربما نجمه يسطع في صنعاء أو القاهرة حيث يمكن للكلمات البراقة والمفخمة أن تقوم مقام الأفكار ولكنها تعجز عن ذلك في بلد غربي يفرض ليس فقط معرفة دقيقة بخصوصياته ولكن يتطلب أفكارا

واضحة ومظبوطة حول مشكلات المجتمع الإسلامي. ولإدراك معنى هذا الفعل، يجب إسقاطه على المستوى الإداري. في ذلك اليوم، كان باستطاعة ماسينيون أن يفهم جيدا أن يتصرف معي ومع بن ساعي، كيفما يحلو له دون أن يحرك الوسط الإسلامي ساكنا مطلقا. وقد أدركت المسألة في حينها وفهمت أننا كنا في نظر ماسينيون معزولين ومكشوفين دون أدنى حماية. وقلت ذلك لابن ساعي وكنا نذكر بعضنا بهذه الحقيقة ونحن نردد الحديث النبوي المشهور: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء). غير أن ماسينيون كان مبتهجا ومرتاحا - وأنا أتفهم شعوره! -وهو يرى موظفا مكلفا بتسيير الضمير المسلم بباريس عوض أن يتولى الأمر دعاة مسلمون تكونوا في المدرسة الديكارتية. وأريد أن أسجل هنا انطباعاتي حول معرض باريس الذي نظم سنة 1936 حيث زرته رفقة بواعنيني. فمشهد معرض باريسي هو في الغالب. مفيد جدا لمسلم سكنته أفكارنا. فقد رأينا جناحا يديره يهودي كان يحاول إخفاء هويته وكان يقدم الآلية التي تحرك عجلة ماكينة وعجلة ... التاريخ. وبجانبه كان مسلم - مشرقي أو مغربي -يقدم سجادة وثيرة وعطور مثيرة. الأول كان يركز على كل ما يخلق القوة والثاني يدعو إلى الراحة والدعة ... لم أر مطلقا هذا المشهد براحة ومن غير أن أكترث.

المرحلة الثانية المنبوذ

المرحلة الثانية المنبوذ

في جوان 1936، وقبل أسبوعين أو ثلاثة من الامتحان الأخير الذي كان علي أن أتقدم له لنيل شهادة مهندس من المدرسة الخاصة للميكانيكا والكهرباء، استيقظت صباحا والدموع في مقلتي. كنت أعيش مثل هذه الحالة أحيانا عند الاستيقاظ من النوم منذ رحيل والدتي التي رأيتها ربما في المنام مرة أخرى. غير أن تباشير الصباح التي انسابت من الكوة الصغيرة لباب حجرتنا الصغيرة في الطابق السادس، أعادت وعيي إلى الحقيقة، فاستبشرت بالأفق الساحر الذي يتراءى أمام عيني: سوف أصبح مهندسا وكنت أعي أني من أفضل الأقلام الجزائرية. كنت أعلم وكنت أرى ماذا يمكن أن يجني المرء بمثل هذه الرتبة وبقلم مثيل. وكان طيف والدتي يمر أمام عيني في خضم هذا المستقبل الواعد. لم أعلم وقتها ما هو النقيض الذي انبثق من أعماق وعيي، وبالتحديد من أكثر جوانبه غورا وعمقا، أقصد شعوري الباطني. أدركت فقط أن هذا النقيض انتزع مني شهيقا وأتذكر الدعاء الذي تمتمته بين الدموع: - إلهي، إني لا أريد نصيبي في هذه الدنيا، بل أريده في الآخرة. ثم انصرف فكري إلى المهام اليومية لطالب جدي ونجيب ينتظره امتحان مصيري. غير أن تذكر ما حصل هذا الصباح بقي في ذاكرتي كمعلم غرزه القدر في وجودي ليأذن لمرحلة جديدة. فكم من مرة فكرت في هذه المسألة من يومها؟ وكم من مرة سأفكر فيها؟ لقد مرت عليها ست عشرة سنة.

وبالفعل، لم أنل شيئا إلى يومنا، ولم أرج حتى الآن شيئا في الدنيا. وينتابني خوف رهيب عندما أرى الغنى يهدد آفاقي الشخصية. فالدعاء الذي دعوته من ست عشرة سنة خلت أصبح نوعا منذ اللغز، ونوعا من القدر المحتوم في حياتي. ولقد تلقيت بالفعل في مدة قصيرة خيبة أملي الكبرى الأولى في جويلية 1936 حيث تسارعت أحداث كثيرة في حياتي. كنت من الطلبة النجباء في دفعتي. ولم تكن عندي نقطة ضعف إلا في الرسم. غير أن مصادفة أراها من أسعد المصادفات جعلت موضوع الامتحان رسما كنت قد تدربت عليه من قبل. ثم إن المرء لا يواجه الرسوب من أجل الرسم عندما تكون عنده نقاط جيدة. ومن جانب آخر، طرح علي أستاذ الكهرباء التقنية سؤالا من خارج المقرر، ومنحني نقطة أمام بقية المرشحين وهو يقول: -لم تحفظ درسك وحسب بل فهمته. هنأني بواعنيني -صهر كسوس- على جوابي بتأثر نابع من وطنيته. لقد كنت سعيدا. غير أني ذهبت لمقابلة المدير ليطمئن قلبي تماما، هذا المدير الذي اعتبرته (قديسا) وطالما كنت معجبا به لعلمه ولتواضعه الكبير. وكنت سعيدا بالحديث معه طيلة الأربع سنوات التي استغرقتها دراستي. ومن جانبه، كان يستقبلني دوما بتلطف لم يكن خافيا علي. استقبلني على عادته، غير أني لاحظت توا بأن ابتسامته المعهودة غابت هذه المرة عن قسمات وجهه. قلت في نفسي بأن مرد ذلك هو التعب الذي انجر عن فترة الامتحانات. وبعد أن عرضت عليه

موضوع زيارتي، رأيت فجأة وميضا، لم أعهده من قبل، يتلألأ من عينه. ثم خاطبني بكل برودة، وهو لا يزال واقفا لينبهني إلى أن الدقائق ثمينة: - السيد بن نبي، لم يظلمك أحد في هذه المدرسة، أليس كذلك؟ كان لهذه العبارة التي تلفظ بها رجل يكن لي دوما الاحترام أثر الماء البارد أو الصعقة الكهربائية. فأدركت أن تأثير ماسينيون وصل المدرسة عن طريق التعبد والتضرع. حييته بإيماء وقلت قبل أن أغادر: - استسمحكم السيد المدير. يجب تصور الآثار المتعددة لهذا اللقاء القصير على ضميري. لم أكن أتصور مطلقا أن (رجلا قديسا) يقبل بالتآمر على طالب وهو يتذرع بمسوغ (العدالة). وظهرت لي بشاعة القضية. ويا لها من بشاعة! فقد كنت ذاكرة دفعتي في العديد من المواد. فكمان زملائي يطلبون مني حلولا لمسألة أو شرحا لنظرية من النظريات. زد على ذلك أن أحد زملائي من الهند الصينية أصابته الدهشة بعد النتائج وحدث في الموضوع بويعناني كما روى لي هذا الأخير: - أنا أبعد من أن يكون لي تكوين بن نبي ولن أحصل على الشهادة السنة القادمة. والحال هذه، فإني أنوي تسجيل نفسي في مدرسة أخرى لأتم دراستي. لم يفهم هذا المواطن الهند الصيني أن المقاسات والمعايير التي خضعت لها كانت استثنائية ولم تستهدف في شخصي مجرد فرد مستعمر من الأهالي، بل قضية أخرى أكثر دقة. فقد كان المعنى هو ضرورة توقيف نفسي وضمير وذكاء في الحال.

كان الانشغال منصبا في المفهوم الاستعماري على المخطط المعد للجزائر المثير للقلق أصلا ولم يلتفت للمخطط المخصص للهند الصينية. ومهما يكن من أمر فقد أدركت من الوهلة الأولى للقائي بالمدير أني سأصبح حائزا على لقبـ (طالب سابق) للمدرسة الخاصة للميكانيكا والكهرباء لكن دون شهادة موقعة من طرف نائب كاتب الدولة المكلف بالتعليم العالي والتقني. كانت الضربة قاسية. فقد تم المساس بكبريائي الشرعى وبمصالحي المادية بعد ما أجلت سفري حتى أتسلح بشهادة رسمية، كوثيقة ضمان. ثم أني أحسب أن والدي دفع ما يكفي من تضحيات إلى درجة أني ظننت أن من الواجب أن استغني عن مساعدته، وكنت أصرف من المبلغ الذي خصصته أنا وزوجتي لسفرنا وإقامتنا بالحجاز. طرحت مشكلة مواجهة أعباء الحياة فجأة علي وعلى زوجتي بطريقة لم تكن في الحسبان، فعدنا إلى درو. يجب أن أقول أني قمت بمسعى لدى الحكومة الإيطالية ملتمسا التدريب في مصنع للمصابيح الكهربائية. فعلى عادتي ودون أن أضيع دقيقة واحدة، قمت بهذا المسعى قبل الانتهاء من الامتحانات. وقد استخلصت من الرد السلبي أن (مهندسا من الأهالي) غير مرغوب فيه سيان في روما كما في باريس. كانت الأحداث في الجزائر تتسارع , عاد وفد المؤتمر الإسلامي لعرض نتائح مهمته. وعاد (العلماء) أيضا، وما كان لهم أن يقوموا بصفة رسمية بهذه الزيارة، وأكثر من ذلك ما كان لهم أن ينضووا

تحت لواء بن جلول وفرحات عباس. ثم أن ميرانتي (Mirante) انتظر عودتهم وأعد لهم مؤامرة محبوكة بإتقان. نتذكر وقائع قتل كحول. لقد أحدثت الواقعة هلعا في صفوف أبطال الفديرالية. ونتذكر العودة المفاجئة لبن جلول إلى فرنسا أين التقى في ميناء مرسيليا بمراسل صحيفة (Marseille - Matin) (¬1) (صباح مرسيليا)، ونستحضر الكلام الغريب والإجرامي للبرجوازي الصغير القادم من قسنطينة الذي بلغ مصف البطل الوطني الأول بإرادة الإدارة الاستعمارية وغباوة الأهالي. - (لولا فرنسا، لكنت مجرد سماش) (¬2) هكذا استهل البطل الوطني كلامه. ربما لا يكفي هذا الإطراء الموجه للاستعمار النابع من مصدر واحد على غرار (فرنسا هي أنا) لتهدئة عطايا بيجو (Bugeaud) . يجب تقديم شيء عملي للاستعمار. فأضاف بن جلول: - (ليس لي أي شيء مشترك أتقاسمه مع أناس أيديهم ملطخة بالدماء.) ¬

_ (¬1) عدد 12 أوت 1936 كما وجدتها في (مذكرات مصالي الحاج). وعلى غرار مالك بن نبي، فقد وجه المرحوم مصالي انتقادا لاذعا لابن جلول على كلامه الشنيع الذي كما قال: (يصعب التصور بأنه يخرج من فم عربي). (المترجم). انظر: Les mémoires de Messali Hadj 1898 - 1938; pp; 231 - 232 Editions ANEP Alger, 2005. (¬2) أي (أجلس أتدفأ من أشعة الشمس) والمقصود بهذه العبارة الجزائرية، (العاطل عن العمل وبدون قيمة). والكلمة المقابلة المستعملة في الجزائر اليوم هي (الحيطيست) (كلمة مركبة من (حيط) في اللهجة الجزائرية - ومعناها الحائط - و (hitiste) الفرنسية، في خضم الفوضى اللغوية السائدة في البلاد) والمقصود الذين يتكئون من العاطلين على الحائط طوال النهار لـ (قتل) الوقت. (المترجم).

لقد عنى بكلامه (العلماء) بكل وضوح. وهذا يعني التنديد بالمؤتمر الإسلامي. كنت وبن ساعي نترقب الأسوأ. وهكذا تناهى إلى سمعنا خبر توقيف العقبي. كان الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذ الحركة الجزائرية هو دعوة المؤتمر لمواجهة تكالب الاستعمار. غير أن المؤتمر قد سد وكان المفتاح بأيدي بن جلول. لم يكن (العلماء) سوى مجموعة مسكينة من الخانعين الفاترين، من غير اقتدار يسمو بهم لمستوى الوضع، فقد كانوا يستظلون بعدالة الإله ويستكينون إليها لمواجهة الظلم الشرس الذي حاق بهم. فأي إنسان يدرك قيمة المبدأ السلفي أو لديه مجرد إلمام بسيط بالفلسفة السياسية، لا يمكن أن يفهم سفر هؤلاء العلماء إلى باريس ولا، الأحرى، خضوعهم لبن جلول. بعد اندلاع هذه الأحداث، فهمنا جيدا أنا وعلي بن أحمد وبن ساعي، أن الحركة الجزائرية ستنقلب وتنتكس وتتراجع. وعندما أسجل ذلك بعد خمس عشرة سنة في كتابـ (شروط النهضة) حيث قلت أن (المؤتمر بلغ القمة ولكنه هوى بعد 1936)، لم يفهم الكثير من الأهالي الأندجين (les indigènes) وقتها شيئا. لأن عقلهم المتحجر الفظ لا يعرف ترتيب العناصر والعوامل، فهم يرون في الفوران الحالي المنبثق من الأحداث الدولية تقدما لا يربطونه بالجهد، أي لا يعزونه للإرادة وإنما للصدفة. آه! لو لم تقع الحرب العالمية التي كانت بمثابة رحمة من الله لشعوب الأندجين، لرأى محترفو البوليتيك الجزائريون أين سيكون موقعنا وكيف يكون حالنا اليوم بقيادة بن جلول وزمرته. أما الذين

يطرحون المسائل كما ينبغي، فإن سنة 1936، شكلت في الجزائر منعطفا أضاعت من خلاله البلاد دفعة واحدة جني عشرات السنين من الجهود المضنية والمريرة التي تجسدت بشكل رائع في (المؤتمر) الذي لم يدرك أهميته إلا الإدارة الاستعمارية. وقد أدركت مجموعتنا كذلك الأمر جيدا ولكن ما هي الوسائل التي كانت في متناولنا للتأثير في الضمير الشعبي الذي نومه بن جلول. كما أن ضروريات الحياة كانت تضغط علينا وتحد من نشاطنا. فبن ساعي فقد الأمل في الظفر بشهادته بعد أن أخضعه ماسينيون (¬1) لمراقبته الشديدة، أما علي بن أحمد فكان يقدم درسا أسبوعيا لمجموعة من العمال تحت إشراف مصالي الذي بدأ، كما أكد لي صديقي، ينظر للأمر بريبة واستهجان، لأن بومنجل كان هناك يحرص، أي بعبارة أخرى، كان ماسينيون يراقب. أما أنا وبعد أن أدركت أني لن أستطيع أن أفعل شيئا في بلد خاضع لفرنسا فقد بدأت أخطط للسفر للمشرق. وقد عززني في فكرتي هذه وفد جامعي قدم من مصر، علاوة على لقاء بالصدفة في الحي اللاتيني بيهودي كان تلميذا سابقا بمدرستي وكنت أعرف قيمته النسبية كمهندس. ¬

_ (¬1) عاد محمد بن ساعي إلى الجزائر دون شهادة الدكتورة من جامعة السوربون والتي سافر من أجلها وكابد كثيرا. نجا من المجموعة أخوه صالحا الذي تخرج كأول مهندس جزائري مختص في الزراعة الاستوائية. لم يدع ماسينيون ومن ورائه كل ماكينة الصراع الفكري ومصلحة الحرب النفسية Psychological service محمد حمودة بن ساعي إلا بعد أن نال منه وأحاله إنسانا محطعا نفسيا عاش بائسا في كوخ دون صاحبة أو ولد، ومات فقيرا معدما بمدينة باتنة لا يقوى على قوت يومه. (المترجم).

شرح لي هذا المهندس كيف كان يشتغل في مؤسسة خاصة بأجهزة التبريد بمدينة الإسكندرية حيث أكد لي أنه كان منعما بهذا العمل الذي يكسبه قوتا جيدا. وكان ذلك باديا على ملامحه. ثم أخبرني هذا اليهودي، الذي كان روسيا ثم أصبح فرنسيا، أنه تحصل على الجنسية المصرية. كنت أعلم أنه من السهل عليه وهو اليهودي الإقامة في بلاد الفراعنة مني أنا المسلم. غير أن الأمل كان يحدوني مع البعثة الجامعية المصرية التي وصلت إلى باريس. قدمت دروسا فى اللغة الفرنسية لبعض أعضائها كما تعرفت على رؤساء البعثة الشيوخ تاج ودراز (¬1) وعفيفي الذين وعدوني بالمساعدة للحصول على تأشيرة من سفارتهم. مع هذه المساعدة التي افتقرت إليها السنة الماضية، كنت متيقنا تقريبا بالحصول على تأشيرتي. أجل! ولكن ماسينيون يحرص ويراقب. فكللت جميع مساعي الشيوخ لدى سفارتهم بالفشل المطلق. فأدركت أنه إذا كان من اليسير على مهندس يهودي أن يذهب ليقيم في مصر، فإن الأمر يستحيل على مهندس مسلم. واعتقد أنني لم أكن بعيدا جدا عن الردة عن الإسلام في تلكم الأيام، هذا الإسلام الذي خانه المسلمون والذي لم أر فيه أي روح أو مهب عقل. إني أسجل هذه النقطة لأن لها أهميتها فيما بعد. لقد أدركت بعدها أن هذا بالذات هو هدف ماسينيون: إلهامي بغضا شديدا لإخواني في الدين. وكان بن ساعي يثور عندما أحدثه عن حنقى وغضبي على المسلمين. ¬

_ (¬1) الشيخ عبد الله دراز هو الذي وضع تقديما بالفرنسية لكتاب بن نبي المشهور الموسوم (الظاهرة القرآنية) الذي صدر في 1946 في منشورات النهضة. (المترجم).

ومهما يكن فقد استسلمت لفشلي مع سفارة مصر فقررت أن أدق باب مندوبيه افغانستان. كان الاستقبال حارا غير أن رئيس المفوضية نصحني أن أتوجه بطلبي إلى (مكتب الهندسة الفرنسية) للحصول على توصية تقدمني بموجبها للحكومة الأفغانية كمهندس. بخلاصة فقد أرسلني الدبلوماسي المحترم مباشرة، ولكن بحسن نية، إلى ماسينيون. انسحبت إذن ولكن بعد أن علمت أن صالح بن ساعي قد دق هذه الباب كمهندس زراعي بعد أن بقي عاطلا عن العمل لمدة ثلاث سنوات. فبدأت أعرف أن الاستعمار يمكن أن يقبل محامين وصيادلة وأطباء من الأهالي ولكنه يرفض في الغالب المهندسين. ومن باب أولى إذا كان هؤلاء المهندسون تحركهم روح كالتي تحركني وتحرك صالح بن ساعي. كنت أفهم جيدا ذلك ولكني لم أفهم، أو قل لم أرد أن أتقبل فكرة أننا نواجه صعوبات وعراقيل حتى من إخواننا في الدين. وازداد إدراكي أكثر لهذا الواقع. كان على أحد أعضاء البعثة المصرية أن يسافر إلى لندن فحملته رسالة ورجوته أن يسلمها للمفوضية السعودية بمجرد وصوله. شرحت للدبلوماسي السعودي في الرسالة قضيتي وصلاتي الوهابية وكل ما انجر عن ذلك بالنسبة لمسلم مستعمر، وذكرت ما جرى لوالدي الذي كان ضحية أفكاري وحدثته عن قدراتي سواء كتقني أو كمرب. حررت الرسالة بالفرنسية حتى أستطيع أن أقول فيها كل ما أريد في صفحة ونصف. وترقبت الجواب. جاء الرد فعلا، وكم كان

مخيبا. فالدبلوماسي الذي كانت لديه بكل تأكيد كل إمكانيات قراءة رسالتي أو تحويلها لحكومته، وهي وجهتها الأصلية، طلب مني أن أحرر طلبي بالعربي. أدركت في الحال أن الدبلوماسي النزيه كان إنسانا شرقيا لا يمكن أن يفهم مأساة مثقف مسلم أراد أن ينقذ من الاستعمار أفكاره الأخلاقية وقدراته التقنية أكثر من مستقبله الشخصي. لم يفهم حتى السبب البسيط الذي حداني بأن أوجه له رسالتي عن طريق خاص عوض أن أستعمل البريد الذي يخضع بطبيعة الحال للرقابة الإدارية. كان باختصار يطلب مني أن أضع مسعاي تحت هذه المراقبة، إذ لا يمكنني بداهة أن أجد كل يوم شخصا يحمل مراسلتي. لم يبق لي سوى تنفيذ المطلوب. حررت رسالتي كيفما كان باللغة العربية وأرسلتها بالبريد ثم انتظرت الرد الذي لم يأت ولن يأتي أبدا. ولكني علمت عاما بعدها عن طريق شيخ حاج من تبسة أنه سمع بمكة أن مهندسا من تبسة سيقدم للإقامة بالحجاز. وبما أن الشيخ يعرفني وأدرك أن الشخص الذي كان موضوع الحديث هو أنا شخصيا فقد سألني: - لماذا لم تسافر هناك؟ كان هذا هو الصدى الوحيد الذي وصلني بخصوص الطلب الذي تقدمت به في مرحلة عصيبة من حياتي. وأكثر ما كان يحز في نفسي ويؤلمها هو موقف المسلمين، الخواص منهم والرسميون، الذين خاطبتهم آنذاك، وهو موقف يوافق تماما الرغبة العادية والرقابة

المحكمة المفهومة للإدارة الاستعمارية. وبالنسبة لي، سيستوي الماء والخشب للأسف طوال الست عشرة سنة القادمة (¬1). وأنا ألخص اليوم هذه الحالة فأقول بأن قابلية الاستعمار عند الأهالي (indigènes) هي أهم وسيلة في متناول الاستعمار. بيد أنه يجب، أن أعيش سنوات عديدة أخرى لأرى الأمور بصورة أكثر دقة وأكثر تركيزا. فأنا لم أصلها بعد. بعد أن فقدت الأمل من جانب السفارة المصرية والمفوضية السعودية، صممت رغم ذلك على مغادرة فرنسا عبر ألبانيا. تحصلت على التأشيرة بسهولة متناهية بمفوضية هذا البلد بباريس مع إعفاء من دفع ثمن الطابع. وبعد أن تركت زوجتي بدرو (Dreux)، ركبت القطار ذات مساء في اتجاه إيطاليا ومنها سأبحر من باري (Bai) في الباخرة المتجهة إلى دورازو (Durazzo) . لم أخبر حتى زوجتي بهذا السفر الذي كان ممتعا حتى باري. وبعد العشاء، أخذت طريق الميناء، وكان الإبحار كما قيل لي بباريس على الساعة العاشرة ليلا. أردت اقتصاد ثمن العربة فوصلت منهكا تماما، لأن الميناء كان بعيدا جدا عن وسط المدينة وكنت أحمل حقيبتين ثقيلتين، كانت إحداهما مليئة بالكتب التقنية أي كل علمي. يا لها من خيبة! لما وصلت، علمت أن الباخرة تبحر كل يومين وأن الرحلة القادمة ستكون يوم غد. ¬

_ (¬1) أي حتى سنة 1956 حين هرب بن نبي من فرنسا عبر إيطاليا برفقة صالح بن ساعي واستقر بالقاهرة، وكان حاملا معه مخطوط كتابه الشهير: (فكرة الإفريقية الآسيوية). (المترجم).

آه! كم من مرة لعنت فيها هذا الاختلاف المشؤوم في التوقيت. اضطررت أن أقفل عائدا للمدينة مع كل حمولتي. وفي الغد صباحا وبينما أنا على شرفة المقهى حيث قدم لي فنجان قهوة وكوب من الماء، سمعت صوتا نسويا ورائي يسألني: - سيدي هل أنت فرنسي؟ بدا لي ذلك من خلال لكنتك عندما تحدثت مع النادل. كانت امرأة في العقد الرابع من العمر وبصحبة ابنتها ذات الأربعة عشر ربيعا تقريبا. بدأ الحديث. أخبرتني السيدة أنها أقامت بعض الأسابيع بتيرانا. وسيتخيل القارئ أني سأطرح عليها بالطبع كثيرا من الأسئلة حول هذه المدينة التي نويت السفر إليها والتي أجهل عنها كل شيء. كانت الأجوبة تحط تدريجيا من الصورة التي رسمتها في مخيلتي عن الحياة في ألبانيا. هل القدر هو الذي وضع هذه المرأة في طريقي أم ميكيافيلي؟ لا أزال إلى اليوم أطرح السؤال دون أن أستطيع أن أجيب عنه بتأكيد وحزم. على أي حال قررت أن أستزيد التفاصيل بنفسي في القنصلية الفرنسية. فتم تأكيد معلومات المرأة جميعها دون استثناء. هل يتعلق الأمر بإرهاق معنوي وجسدي أو مجرد سذاجة أهلية (indigène)؟ غير أني تركت نفسي تحت تأثير ما سبق، فلم تعد لدي رغبة في الذهاب إلى ألبانيا حيث لم أر أي أفق، إذا وجب علي أن أقيم لمدة طويلة نسبيا في انتظار مغادرة محتملة نحو مصر التي كنت أرى فيها مخارج أكثر. غير أن هذا الاحتمال

تضاءل وصرف من ذهني، فقد أخبرت بأن القنصل المصري في تيرانا لا يمكن أن يمنح لي تأشيرة لبلاده دون أن يستمزج رأي زميله بباريس، باعتباره المعتمد إقليميا بالنسبة لمكان صدور الجواز. سقطت مرة أخرى تحت رحمة باريس أي ماسينيون. بكل تأكيد، أدركت أن هذا الرجل يقف حاجزا أمام كل المخارج التي أحاول عبرها أن أنجو من مقرعة الاستعمار. اضطرني الحال إلى العودة إلى باريس دون أن أفعل شيئا في ظل افتقاري لمبلغ يمكنني الوصول إلى تيرانا أو مدينة باري. وقبل أن أغادر الأراضي الإيطالية، حسبت من الواجب أن أرسل كلمة تضامن للعقبي الذي كان يقبع في السجن (¬1). أنا أعرف أن هذه الالتفاتة القادمة من أرض أجنبية لا يمكن إلا أن يكون لها وقع حسن على الأقل على معنويات السجين. غير أن الحالة لا يستوعبها عقل الأهالي، وهو الأمر الذي سأدركه خلال الثمانية عشر شهرا من السجن التي قضيتها في السجن، بعد تحرير فرنسا. على أية حال، أخذت طريق العودة، وكم هي مضنية وشاقة عودة رجل يشعر بثقل نظام برمته يحط عليه ولا يرى أملا من النجاة منه. تمنيت لو ينحرف القطار سائلا الله في الوقت نفسه أن ينجي المسافرين الآخرين. تسربت فكرة خبيثة بالانتحار في أعماقي. لقد كنت كالحيوان المتوحش الذي كان يلطم رأسه بشدة على القضبان في نوبة هيجان وهو يحس أنه سجين قفص. ¬

_ (¬1) للتذكير، فقد سجن الشيخ العقبي بعد أن اتهمته السلطات الاستعماري بالضلوع في حادث اغتيال المفتي كحول في 1936. (المترجم).

بعد وصولي باريس، ذهبت إلى الإخوة بن ساعي، لم أجد سوى صالح الذي عاد من عمله الليلي كحمال في محطة ليون للقطار. لقد تعب كثيرا حتى عثر على هذا العمل الشاق. وكان غرضه هو ضمان لقمة العيش فقط، وهذا في حد ذاته كثير على مهندس من الأهالي. وهو ما كنت أدركه أكثر فأكثر. وكان صالح قد نبهني للأمر وهو يقص علي مغامراته الأخيرة سعيا وراء عمل عند شركتي رونو أو سيتروان للسيارات، لقد كان طلبه يرفض في مصلحة تشغيل العمال اليدويين البسطاء بمجرد ما كان القائمون يعلمون بصفته. وقد أعدت الكرة أنا شخصيا هذه التجربة القاسية خلال الشهرين أو الثلاثة الموالية. وقد استخلصت أنه ما من شركة صناعية كبيرة في فرنسا إلا وتلقت تعليمات دقيقة بخصوص اليد العاملة الشمال إفريقية وبالطبع عندما يخص الأمر (مثقفا) يهتم بالأفكار ويتسرب في صفوف العمال البسطاء. يجب اكتساب مخيلة واسعة أو تجربة كبيرة لإدراك هذه الأفكار الدقيقة التي هي جوهر العقلية الاستعمارية. أه! كم أفهم الآن كيف أن هواة على شاكلة فرحات عباس لا يدركون مرامى الاستعمار الذي يتحدثون عنه. يجب أن يواجه المرء الوحش عن قرب وجها لوجه وأن يحس بقبضته الخانقة، يجب أن يفتن في مصيره وفي عمقه ليدرك ما معنى الاستعمار. كيف السبيل لإفهام هواة (البوليتيك) الاندجين، الدقائق الأليمة لإنسان يطالع من صحيفة المساء عروض التشغيل اليدوي، وكيف يتفادى عنوة المناصب والأعمال التي تناسب كفاءته وتتماشى وذوقه

لعلمه بعدم جدوى التقدم لها باعتبارها مجالات محرمة عليه، فتبقى له الأشغال المذلة ويسعى لها باكرا دون أن ينال منها شيئا وهو يتقدم لها كعامل بسيط ومجهول. كيف السبيل لإفهام أن هذا هو جوهر الاستعمار الذي يحط من الإنسان ذي القيمة إلى آخر حد، حتى يفقده الشعور بقيمته، وهذا هو هدفه. كان محمد بن ساعي للأسف قد بلغ هذا الانحدار الذي يوصل للهوة السحيقة (¬1). أدركنا الأمر أنا وأخوه صالح وتأسفنا كثيرا وتألمنا لحاله. صالح قاوم ببسالة. أما أنا فإن الله تعالى قد منحني وسيلة لتجديد جلدي عند كل سلخة. فكلما أحسست بتعب وإرهاق بعد ¬

_ (¬1) تمكن الصحافي علي بن بلقاسم، من باتنة، من الحصول على ثلاث أو أربع صفحات من مذكرات حمودة بن ساعي التي كان يحرص على إخفائها عن الأنظار ناهيك على طبعها ونشرها، بسبب عقدة الاضطهاد التي لازمته حتى وفاته والتي حدثنا عنها الكاتب سابقا، وقد يكون عنونها: (Souvenirs de jeunesse à Paris). حسب بعض الذين كانوا يتوقون لمعرفة فكر الرجل ومحطات من حياته بمدينة باتنة. ونورد مقتطفا منها ليرى القارئ كيف أنها تنسجم مع ما يرويه بن نبي وليتأمل مليا ما عانته هذه الجماعة المتميزة التي أدركت مبكرا خفايا الصراع الفكري الرهيب الذي كان يحاك ضد الجزائر من البداية: (في جوان من عام 1935، وبعد مصائب شديدة، اضطرتني الحاجة الماسة لأن أشتغل عاملا بسيطا في مصنع هيسبانو - سويزا بمنطقة بوادي كولومب بباريس. في يوم الجمعة 13 ديسمبر 1935، حضرت محاضرة للويس ماسينيون في مقر اتحاد الشبان المسيحيين حول (عسر الإسلام). لاحظني ماسينيون بين الحضور. في 26 ديسمبر، تلقيت مذكرة من مديرية المصنع تقول: (يؤسفنا أن نعلمكم بقرار فصلكم عن العمل ابتداء من 06 جانفي 1936). للمزيد عن معاناته انظر مقالنا المنشور في جريدة La tribune عدد 28 جويلية 2000 وقد عربه د. عبد الرزاق قسوم في أسبوعية (البصائر) الجزائرية. (المترجم).

أيام كاملة من البحث المضني عن العمل من غير جدوى، أعود لمنزلي بقرية درو. وهناك استعيد معنى كرامتي وقيمتي. وكنت كلما عدت إلى بيتي أتناول كتبي للمذاكرة لأني لم أرد أن أضيع تكويني كمهندس فقد كنت أشعر أن ذلك هو الهدف الذي يسعى له ماسينيون، المستشار التقني للحكومة الفرنسية. وكنت ألزم نفسي بمراجعة شاملة مرة كل ثلاثة أشهر لأهم المواد من رياضيات وإليكترونيك وميكانيكا. بيد أني أجد ماسينيون دوما في طريقي مهما كان المسلك الذي اتخذه. لقد ظهر لي أن لا طائل من وراء المساعي التي أقوم بها والجهود التي أبذلها، وتيقنت أني لن أنال شيئا إن لم ألجأ إلى دعم معين. كنت قد التقيت من سنتين خلتا بتبسة بكاهن طيب احتفظت بذكرى رائعة معه وسجلت عنوانه. طرقت ذهني فكرة الاتصال به ومراسلته. شرحت له حالة القلق التي أصابت مهندسا فاجأته الأزمة وهو في أخريات دراسته وكيف أنه يكتفي بطيبة نفس بعمل بسيط من قبيل مجرب الآلات الكهربائية أو عامل ميكانيكي في مخبر للقياسات الكهرائية. أجابني الراهب الطيب بالبريد ووعدني بكل دعمه كما أخبرني بأنه اتصل في الحال بـ (صديق ذي مركز مرموق ويظهر كثيرا من المودة للمسلمين). خمنوا من هو هذا الصديق؟ إنه ماسينيون نفسه. فبعد أيام، وصلتني رسالة من (صديق المسلمين) هذا يدعوني فيها للقائه

وأفهمني بأن المنصب الذي أبحث عنه (مطلوب بعض الشيء). بالكاد لم يضف أن المنصب مطلوب من أحد (الأهالي). كانت النية الحسنة للراهب مفاجئة وكتبت له للتو شاكرا مسعاه بكل صدق. أما ماسينيون فإني قررت أن ألتقيه مع علمي المسبق بنتيجة الحديث معه. سألني هذا الرجل الذي يعرفني كما يعرف إبليس المؤمن، في مستهل حديثه: - دراستك التقنية كانت في قسنطينة، أليس كذلك؟ إن أي إنسان يعرف معنى الذهنية اليسوعية سيدرك معنى هذا السؤال الذي لا أريد أن أعالج أهميته معالجة مشوهة هنا حتى لا أطيل الحديث. كظمت غيظي رغم ذلك وتظاهرت، من جهتي، بأني لا أعرفه أكثر وكأني أراه لأول مرة في حياتي. ويجب التنبيه من جهة أخرى أن اليسوعي لا يرتاح في جو يسمه النفاق والتظاهر الكاذب. كان ماسينيون مرتاحا في هذا الجو الغامض الذي أوجده سؤاله بعيننا. ثم سألني بغتة: - أين عرفت هذا الكاهن؟ أجبته وأنا أضغط على مقاطع الكلمات: - عرفت السيد الكاهن الذي فاتحكم في شأن مسعاي بتبسة، يا سيدي. في الواقع، استدعاني المستشار التقني للحكومة الفرنسية ليطلع على أفكاري وأحاسيسي وليعرف أين وصلت.

وأعتقد أن إجاباتي لم تكن لتطمئنه لا من ناحية أفكاري ولا من جهة شعوري. ثم قام من مكتبه ليأذن بنهاية الحديث دون أن ينبس ولو بكلمة عن موضوع الاستدعاء. ولم يبق لي إلا أن أذكره به بما يشبه التهكم وأنا أحييه لمغادرة مبناه، فأجابني حين وضعت رجلي على الدرج: - نعم، نعم ... سأكاتبك في الموضوع. من الطبيعي أنه لم يكن ثمة شيء يرجى من جهته. غير أن التجربة أفادتني بيقين مزدوج. الأول أني سأجد ماسينيون دوما في طريقي، والثاني هو أن الضمير المسيحي ليس حرا في قراراته، لأن الكاهن لا يمكن أن يتصرف كما أراد من أجلي، رغم أنه تمنى ذلك وأنا متيقن، دون أن يمر بالنظام المركزي لل (الشؤون الإسلامية). وبديهيا أيضا أن ماسينيون يقف على رأس منصب هام في هذا النظام. وستكون لي فيما بعد جميع الأدلة التي تمنحها تجربة طويلة أن ماسينيون كان على اتصال بالمكتب الثاني وبالمنظمة الكهنوتية. ثم أنني بدأت أحس منذ سنة 1936 أن المكتب الثاني بدأ يضيق الخناق على عائلتي وعلي شخصيا. فبالفعل، ورغم توافر عدة مناصب خاصة بالخوجة وشغورها في عدة بلديات وخاصة بتبسة بعد وفاة صاحبه حلايمية الشريف، رحمه الله، فإن والدي حرم من إعادة الإدماج رغم توسط أهالي مرموقين ومؤثرين على غرار والد الشيخ بن غراب. ومن جهة أخرى، ولسبب أجهله، طلبت من مدرستي شهادة (طالب سابق) بها، وأصر المدير لدى كاتبته لملاقاتي رغم أني عقدت العزم على تجنبه. شعرت بأن لدى الرجل ندما على فعلته الشنيعة

تجاهي حتى وإن لم يتطرق إلى الموضوع ولو بكلمة. إلا أني وجدته في وضع من أراد إصلاح خطأ ارتكبه. طرح علي بعض الأسئلة حول حالتي ثم سألني إن لم أرغب في التقدم لمسابقة حاسب في الدائرة التقنية للمدفعية. كما أخبرني بأن المسابقة ستجرى بعد الغد بإشراف أحد معارفه الذي سيقبل ترشحي رغم تجاوز الآجال المحددة. انطلقت رأسا إلى مديرية المدفعية حيث تم قبول ترشحي وترك المجال مفتوحا لإعداد ملفي بعد المسابقة. هذا الموقف أمدني بتجربة غريبة. كان ترتيبي الأول في الكتابي ... وفي المساء تقدمت للامتحان الشفهي في ظروف عادية تقريبا. حتى أن الجنرال الذي رأس اللجنة تحدث معي بعض الوقت عن الثكنات التي اشتغل فيها بالجزائر وخاصة بباتنة. كان هذا دليل على أني نجحت فعليا في المسابقة. غير أن النتيجة لم تعلن نظريا في ذلك المساء. فمندوب وزارة الحرب وهو عضو في اللجنة وكان بلباس مدني، طلب بعض الأيام كآجال رغم معارضة المدير العسكري لدائرة المدفعية. توجست خيفة من هذا التأجيل ورأيت فيه مؤشرا سيئا. وأدركت سلفا أن لي حظا وحيدا للنجاح وهو أن تعلن النتيجة فورا قبل (التحقيق الإداري)، وبعبارة أخرى قبل أن يتناهى خبر نجاحي إلى مسع ماسينيون. وبناء عليه شعرت بأن أملي قد انهار بمجرد ما سمعت بتأجيل موعد إعلان النتائج. لم يخطئ حدسي. فقد تلقيت بعد أسبوعين إشعارا من وزارة الحرب يخبرني بكل برودة أني (لا أتوفر على شروط الامتحان). وقد فهمت بالفعل ما هي الشروط التي لم تكن متوفرة في.

وجدت مدير مدرستي الذي بلغه الخبر متضايقا ومحرجا. وحاول رغم كل شيء أن يشرح لي رسوبي بالامتحان الشفوي. لم أرد أن أضيف إلى إحراجه، خاصة وأنه أرسلني بتوصية منه إلى طالب سابق للمدرسة ويعمل الآن مدير شركة لرقابة الطاقة الكهربائية لمحافظة السين (Seine). فهذه الشركة طلبت منه إفادتها بطلبة أنهوا دراستهم لتوظيفهم. ذهبت للشركة بمزيد من الأمل معتقدا أن ماسينيون لا يمكن أن يكون له تأثير في شركة خاصة, غير أني أخطأت التقدير هنا أيضا. فجميع مساعي ونشاطاتي كانت بكل تأكيد مراقبة، وكان ثمة من يسبقني. وعليه، عندما وصلت شركة المراقبة الكهربائية استقبلني مديرها بكل عناية ليقول لي بكل برودة أن جميع مناصب المراقبة قد وزعت. ولن أتحدث عن مساع ومحاولات أخرى قمت بها شخصيا حتى بغرض القيام بتربص تقني سواء في صناعة البطاريات أو المصابيح. كانت النتيجة دائما لا شيء. وكانت الحياة تضغط وتداهم. بيد أني لم أكن صاحب عقلية لا تستخلص دروسا تطبيقية من تجاربها. لقد كنت دوما منهجيا منظما. وقد فرضت العبرة نفسها على ذهني وتعززت بعديد الأدلة، أدلتي أنا وأدلة صالح بن ساعي. هكذا خلصت إلى أن النظام الفرنسي لا يسمح، وبالمطلق، أن يكتسب أحد من الأهالي من سكان المستعمرات تكوينا تقنيا، وإذا تمكن جريء من الظفر به، يتكفل النظام بضياعه بجميع الوسائل. هذا ما استشففته بكل براءة لأتخلى مبكرا في قرارة نفسي وأعماقها

عن كل مهنة مهندس. غير أني ما لبثت أن أدركت في الحال بأن هدف ماسينيون كان أكثر اتساعا وأكثر عمقا مما أتصور. تحت ضغط ظروف الحياة وضروراتها، تذكرت شهادة المدارس في الجزائر التي تجيز لي حق الحصول على منصب الوكيل القضائي. وجدت هنا باب خروج أو باب نجدة وجدت نفسي مرغما على أن أطرقه. فقد عولت على ميزة سهولة التعبير عندي لأعد لنفسي وضعية مشرفة تسمح لي بمواجهة الملح من الحاجات في وقت أتطلع فيه بطريقة غير مباشرة إلى مهنة محتملة لمهندس. لأني لم أكن أريد أن أتخلى عن وظيفة المهندس التي دفعت عنها عائلتي تضحيات وكلفتني الكثير من الجهود. ولم أنقطع عن مراجعة دؤوبة لمواد الدراسة. أردت بهذه الوظيفة أن أرضي ظاهريا العقلية الاستعمارية على أن احتفظ في سريرتي بطموحاتي السرية. وحصل أن التقيت بشيخ يعلم القرآن، جاء ليرتشف كوب شاي في مقهى الهقار حيث كنت أذهب أحيانا عندما أتواجد بباريس، لأتناول خبزا يابسا وأنا أسير ذهابا وإيابا حول حديقة لكسومبورغ في بحثي الحثيث عن فرصة عمل، ثم أقضي الليل عند بن ساعي. كان الشيخ يقص علي مغامراته كرب عائلة اضطرته الأحوال إلى الاغتراب سعيا وراء لقمة عيش أبنائه والعمل حفارا. أخبرني أيضا بأن مدينة سيدي بلعباس ليس فيها إلا وكيل واحد بالرغم أن المدينة تعد مركزا هاما. وبناء عليه، وجهت في أواخر 1936 طلبا حسب الأصول لنيابة الجزائر

لألتمس منصب وكيل بسيدي بلعباس. مرت الأيام ولم يصلني شيء. دخلنا سنة 1937، كان ذلك في نهاية جانفي أو بداية فيفري، عندما لمحت شرطيا يجتاز ذات صباح عتبة منزلنا بدرو. كان يحمل تحت إبطه ملفا. سأل زوجتي التي كانت في الجنينة: -هل المدعو بن نبي يقطن هنا؟ وإني أؤكد هنا على عبارة (المدعو) (Le nommé) التي استعملها الشرطي، أؤكد عليها ليس لأنها بدت لي مبتذلة ومزدرية ولكن لأقول للقارئ أن هذه العبارة قد أوحيت له، كما سأدرك ذلك في ظروف مشابهة، خمس عشرة سنة بعد الحادثة. كان هذا جزءا من ترسانة مخبر السموم السيكولوجية، حيث يتربع فيها ماسينيون على أعلى المراكز دون شك. مهما يكن من أمر فإن نبرتي غيرت سلوك الشرطى الذي دعوته للجلوس. - سيدي، هذا ملف وصلنا من الجزائر العاصمة وكلفت بتبليغكم محتواه. ثم قام الشرطي الذي أصبح ودودا بفتح الملف قائلا: - لقد تقدمتم بطلب منصب وكيل قضائي، أليس كذلك؟ أمتنعت عن إجابته فواصل: - رسالتان وبرقية، هلا تفضلتم بالإطلاع على فحواها. أخذت منه الوثائق, كانت البرقية من النائب العام الذي يرجو من وكيل الجمهورية بسيدي بلعباس بإجراء تحقيق حول شخصي وإبداء الرأي.

أما الرسالتان فكانت أولاهما من قاضي سيدي بلعباس موجهة لوكيل الجمهورية والثانية من هذا الأخير للنيابة العامة. يؤكد القاضي في مراسلته لرئيسه المباشر أن المدعو بن نبي معروف في سيدي بلعباسى (وهي المدينة التي لم تطأها قدماي مطلقا ولا أعرف فيها أحدا) ك (مستشار تقني) كما أنه عضو نافذ في حزبـ (نجم شمال إفريقيا)، وبناء عليه، فإن وجوده بسيدي بلعباس غير مرغوب فيه. وكيل الجمهورية يؤكد نقطة بنقطة كل ما قاله مرؤوسه من (الأهلي) (الانديجين) ولكنه زاد بأن منصب الوكيل لا يسمح للسيد بن نبي بأن يعيش حياة كريمة. أترك للقارئ ليستخلص بنفسه المفارقات التي يمكن أن يستشفها إن لم يكن أندجينا، لأني لو توقفت كل مرة للتعليق على هذه التفاصيل الهامة جدا في هذه المأساة التي تقوم على حبكة نفسية، فلن أنتهي أبدا من هذا العرض. ومهما يكن من أمر فقد كنت مشغولا بمسألتين: لم يكن هدف ماسينيون هو منعي من الاحتفاظ بتكويني كمهندس بل منعي من العيش بكل بساطة. يجب أن أهلك أو أن انحط، أو قل انحط حتى تحبط كل (محاولة انديجين) فيستنكف إراديا عن الولوج للمهن التقنية. ثم أني أدركت أن فكري الذي لا يطالب بـ (حقوق) ولا بـ (استقلال) كان في نظر الإدارة أخطر من محترفي (المطالب الحازمة). وباتهامي بأني (عضو نافذ في نجم شمال إفريقيا)، رغم علمها الأكيد

بأني خصم لها خصومة لا تفتأ تزداد عنادا، فإنها لا تسعى إلا لإخفاء التهمة الحقيقية والخطيرة، إذ لا يمكن أن نلوم أحدا باحتشام على رفضه أن يكون مناصرا لأية (مطالبة) كما هو شأن بومنجل، أقصد بومنجل مناضل حزب الشعب الجزائري الذي كان بالفعل (مستشارا تقنيا) لمصالي الحاج حينذاك. ثم إن هذا (المستشار التقني) - وهذه هي صفته الرسمية- عين مع إبراهيم بن عبد الله لعضوية (لجنة لغروزيير) الشهيرة (Commission Lagrosillère) التي سافرت إلى الجزائر لدراسة المشكل الجزائري في عين المكان. وأنا أترك للقارئ عناية فهم أسرار تاريخ الجزائر. على أية حال، لم يتراء لي مخرج للوضعية التي وصلت إليها. حتى زوجتي نفسها، وهي المتفائلة بطبعها بدأ التشاؤم يغزوها. وكنا قاب قوسين أو أدنى من الانتحار. بيد أن الإنسان يجرب حظه دائما ما دام حيا. كنا في مارس 1937، وقتها أعلنت الصحف أن مديرية الأشغال العمومية بتونس تنوي توظيف أعوان تقنيين لإنشاء طرق استراتيجية في الجنوب التونسي. جربت حظي وأعددت طلبا دعمه فيوليت الذي كان رئيس بلدية درو، وكان وزير دولة وقتها. يجب القول أن الوزير دعم الطلب بحرارة، ووصلتني الرسالة التي تم إعلامه بأن طلبي قد حول للمصالح المعنية مع توصية مدعمة. اعتقدت لمدة زمنية أن تأثير وزير ماسوني سيبطل تأثير (صديق المسلمين) ماسينيون. في بدايات ماي، تلقيت جوابا جاء فيه أن الأشغال المنتظرة قد علقت ولن يكون بالتالي ثمة استجابة لطلبي.

أدركت مرة أخرى أن تأثير ماسينيون منتشر في كل مكان وأنه مداهم ومطلق. لم يبق لي شيء أفعله في فرنسا حيث كان الورتلاني، ممثل (العلماء) يغازل ماسينيون ويستعد للحصول على تأشيرته لمصر دون صعوبة، صالح بن ساعي أبعد من فترة وجيزة إلى كايين النائية (Cayenne) مقابل أجر شهري يبلغ ألفا ومائتين أو ألفا وأربعمائة فرنكا. محمد بن ساعى ترك نفسه تتدهور وتتردى. أما علي بن أحمد فازداد سخطا أكثر من أي وقت مضى وأصبح يشتم الجميع من (علماء) وفيدرالية منتخبين وحزب الشعب الجزائري. هكذا تشتتت مجموعتنا وتفرقت. حتما لم يبق لي شيء أفعله في فرنسا.

الفوضى

الفوضى وصلت تبسة وكم كانت دهشتي لما وجدت في حقيبة أرسلت مع أمتعتي نسخة جديدة مجلدة من الأناجيل. أترك القارئ يستخلص معنى هذه المعجزة بتقريبها من الردة المشهودة لعبد الجليل عن الإسلام وتنصره. كنا في أواخر جويلية 1937، وجدت نفسي من جديد بالجزائر التي كانت تسلك بتأن ولكن بثبات سبيل الحضارة تحت راية الإصلاح التي بدأت منذ عام 1925. لم أجد في البلاد ذلك الجو الذي تطبعه وحدة الشعور حيث يتفتح فيه الوعي وينضح حول مشكلات واضحة من قبيل القضاء على الأمية وبناء المساجد للسمو بالأرواح فوق وضع ما بعد الموحدين، أي علو على القابلية للاستعمار التي تشكل قاعدة الاستعمار. لم يكن الحديث يجري حول هذه القضايا أو حتى على الله وإنما الكلام على بلوم (Blum) . حتى والدي، وهو أنزه رجل صادفته في حياتي، كانت له بطاقة المناضل الاشتراكي. كانت الفوضى عارمة: فالإصلاح فر هاربا ومعه بذرة المستقبل التي كان يحملها. وقد أعطى العلماء أنفسهم القدوة والمثل: فبرنار لوكاش (¬1) والعربي التبسي يتعانقان بتبسة وتخالهما أنهما أخوان. وحتى يعطيا ¬

_ (¬1) Bernard Lecache : المناضل الصهيوني الفرنسي المشهور، يعد مؤسس الرابطة الدولية لمحاربة العنصرية ومعاداة السامية (LICRA) في سنة 1927. (المترجم).

شارة التحول المصيري أو بعبارة أصح التحول التام للأمور، كان بن جلول وفرحات عباس يرعيان زردة المعمرين وهي الزردة التي في خضمها، كما قلته في (شروط النهضة): (مسكت النخبة الجزائرية المبخرة التي أحرقت فيها الجزائر ما بقي لها من جاوي)، دون أن يرى أحد من الأهالي من كلامي سوى جملة ساحرة، اللهم إلا المعنيين طبعا والذين فاجأتهم ذاكرتي. هذا هو حال البلاد في 1937. وكان الذين لاحظوا ثورتي في تبسة يتهامسون: - إنه مبعوث موسولوني أو هتلر. عندما كنت ألعن بن جلول قائد آخر زردة جزائرية، كان الشيخ العربي التبسي يقول لمن حوله وبخاصة لصديقي خالدي: - إن بن نبي غير مدرك أن بن جلول (فريد) وإذا حطمناه، فلن يكون هناك من يقدم (مطالبنا). كانت تلزمني الشجاعة الضرورية لأكشف للعالم نفاقه. لأني كنت بالفعل قد اكتشفت لعبته. كان القلق المميت يحدوه إذ يعتقد أنه إذا أطاحت مجموعتنا بالصنم الجزائري، فالخوف هو أن نطالب بالإصلاح دون شيوخه. فالقضية تتلخص في ذهنه الفظ في مشكلة التصدر والبروز. كان هذا هو ضمير (عالم) من الجمعية سنة 1937. كنت أعرف ذلك وأقوله لخالدي دون أن تكون لي جرأة الجهر به أمام الملأ. حتى إذا حاولت أن أفهم الأمر لوالدي، الرجل الطيب النزيه، فكان يجيبني:

- عندما تدرك ما يعلمه الشيخ العربي وبن جلول، يحق لك حينها أن تتكلم. فأفهم أن العقلية الأهلية والقابلية للاستعمار هما دوما أفضل وسائل الإدارة الاستعمارية ضدي وضد أي أحد يسوقه سوء حظه ليطلع على اللعبة بوضوح. فمنذ تلك الفترة، لم يعد (البوليتيك) الجزائري، ومن ضمنه الحركة الإصلاحية (رغم حسن نية ابن باديس) إلا لعبة في متناول الإدارة التي كانت تمسك بكل الخيوط. تأملوا! بن جامع سكرتير الفيدرالية وبن جلول رئيسها. ولم يكن (العلماء) إلا أنصارا لهذه النخبة الرائعة. ولم يكل الشيخ العربي ولم يمل من تحذير الناس مني وتأليبهم ضدي: - نحن نفتقر إلى رجال لاستخلاف بن جلول. وطالما ألححت وأنا ألجأ إلى لغة علم الكلام وهي اللغة الوحيدة التي يمكن أن يفهمها (عالم)، فأقول: - بما أنكم تتمسكون بهذا الرجل الذي يبدو لكم (وحيدا) فلماذا لا تعبدون إبليس فهو أيضا وحيد. كان الشيخ العربي ينتفض غيظا عندما أطرح عليه هذا السؤال، السؤال الوحيد الذي يزعزع عقلية طالب الكتاتيب في الجزائر. لأنه عندما يؤكد عدم وجود رجل لتعويض بن جلول، فإنه لا يدرك أنه يخدم بالضبط أهداف الإدارة الاستعمارية التي تتوفر من جانبها على خبراء يعرفون تقييم الرجل من نظرة واحدة , وبالطبع فليس ثمة مصادفة أن يبدأ التجار اليهود بتسمية قماشهم باسم (البطل القومي رقم واحد) وأن تقوم الغانيات في الأحياء السافلة بالغناء لتمجيده والحديث عن مآثره. إلا أن الشيخ العربي

كان يسايره بنشاط وحبور في هذا الصراط، وحذا حذو (الرجل الفريد) الذي رعى آخر زردة وإحياء الخرافة الشعبية والمرابطية في شكل انتخابي. فالشعب الذي تم إقناعه بعد جهود مضنية بأن الولي لا ينفعه ولا يمكن أن يخفف من معاناته وحظه البائس، والشعب الذي تخلص بالكاد من أحبولة الزوايا عاود السقوط في شرك إداري آخر، هو شرك المنتخب القادر على كل شيء، وشرك ورقة التصويت التي تحدث المعجزات. غير أن العلماء سقطوا هذه المرة في المصيدة. وكان الشيخ العربي يردد دون كلل أو ملل: - ولكن ليس هناك من يعوض بن جلول. والهوس بـ (الرجل الأوحد) فكرة مشتركة لدى (العلماء) الجزائريين. وقد يوحي الأمر بأن في تكوينهم المشترك في الأزهر أو الزيتونة عاهة أصلية. فسنوات بعدها، وبعد أن استولى الإبراهيمي على إرث الشيخ الجليل ابن باديس، أشاع حوله بأن ليس هناك أي إنسان يمكن أن يخلفه إذا قدر وتوفي. أه! كم ستبتهج الإدارة الاستعمارية وتزدهي، وعلى رأسها ماسينيون، بوجود هؤلاء المتحمسين لإقناع الشعب الجزائري بأنه عقيم وبأنه لا يمكن أن يلد رجالا. وللفرار من هذا الجو الشبيه بسوق السلع الرخيصة الذي تعيشه الحياة العامة الجزائرية منذ 1936، يجب أن يكون عندي برج عاجي أو نشاط شخصي. حاولت أن أثير انتباه بعض التبسيين الأغنياء لمشاريع صناعية. فبعد أن تخليت عن فكرة محطة كهربائية بقوة مئة حصان بأفلو في

الجنوب الوهراني الذي أعددت بشأنه مشروعا وحسبت تكلفته وهو مشروع كان سيعطي نتائج جيدة لو تحقق، أردت أن أبني بتبسة مصنعا لورق الحلفة. أحد أبناء عمومتي وعدني بكل صدق بمساعدة مالية. غير أن الإدارة كانت ساهرة فقد أدركت أن كل ما أتفوه به أو أقوله كان يهمها كثيرا. فبالفعل، فبعد أيام من البحث في مشروعي مع شركاء محتملين، تحدث السيد باتيستيني، المتصرف الإداري في تبسة والطالب السابق لدى ماسينيون بالصدفة مع ابن عمي حول مادة الحلفة ... وتمكن تلميذ ماسينيون (الذي قال في أحد أيام سنة 1936 (نريد دفن القرآن، ولن نسمح للآخرين بإحيائه) من إقناع قريبي بأن صناعة الورق من تحويل الحلفة غير ممكنة إلا في انجلترا حيث يوجد ماء (خاص)، كما قال. وقد اقتنع (الاندجين) الطيب المتمثل في ابن عمي، بهذا الزعم. فكرت في مشاريع أخرى، كمشروع مصنع إسمنت أو مدبغة ولكنها عرفت نفس المآل. فأدركت أن الأهالي لم يكونوا من عجين فيه خميرة اصطناعية. عقدت العزم أن أضع بداية هذه الخميرة في هذا العجين ... نسيت أن ألاحظ أني وجهت طلبا في سنة 1936 لمساعد كاتب الدولة للتعليم التقني ملتمسا الحصول على معلومات لإنشاء مدرسة تقنية إعدادية بقسنطينة. كانت نيتي هي تحقيق هدفين، ضمان قوت يومي ونشر الروح التقنية والصناعية في وسط الشباب الذين سأتكفل بإعدادهم. غير أني في هذه الحال أيضا قد

أكون خرقت بجناحي الصغيرين خيوط بيت العنكبونة. لم أتلق حتى مجرد رد. بيد أني عزمت أن أضع بعض الخميرة العلمية في العقل الأهلي، بأسلوب آخر. فحيثما كنت، بين الشباب أو الشيوخ، وخصوصا في النادي الذي افتتح أبوابه حديثا بتبسة، لم يكن لدي موضوع للكلام إلا العلم والصناعة. وفي الواقع، كنت أعطي دروسا حقيقية مجردة من الصيغ حول صناعة الزجاج، والبطارية والورق والجير المائي والصابون وغيرها. وقد تمكنت من إقناع شاب تبسي أن هناك ربحا يمكن جنيه في تربية النحل على شرط إدخال الأساليب العصرية في هذه التربية. ثم بدأ الحديث عن النطاق البيئي المتحرك في منطقة تبسة. فهذه المنطقة بدأت تثير في نفسي العديد من المخاوف. وربما كنت الوحيد الذي انتابني هذا القلق أمام تقدم رمال الصحراء الذي لم يلحظه أحد. وعندما أخصص، بعد اثنتي عشر سنة فصلا للتراب في كتابـ (شروط النهضة)، فإن الكثير من القراء لم يروا ربما إلا نوعا من التسرع أو ملهاة من بنات أفكار مثقف. إلا أن الخطر أثار تخوفي منذ 1937 إذ أنه أصبح واضحا جليا. ارتأيت أنه من الواجب أن أعرض مشكلة البيئة في محاضرة ألقيها في قاعة الحفلات بتبسة. غير أني لم أكن مسلحا إلا بيقيني لإقناع الناس. كان الآخرون يحدثونهم عن (الحقوق) ويكلمونهم عن (الانتخابات)، وكنت أكلمهم عن العمل. فحتما لم يسمعني أحد. مستمع واحد أظهر اهتماما متحمسا للمحاضرة، فطرح علي إثرها

بأدب كبير العديد من الأسئلة: إنه محافظ شرطة المدينة. وأنا أفهمه وكان ثمة سببان يدفعانه للاهتمام بالمحاضرة: فهي المرة الأول التي يسمع فيها أحد (الأهالي) يطرح بكل وضوح قضيتي الإنسان والتراب، من جهة كما أن وظيفته تفرض عليه أن يجمع أقصى ما يمكن من التفاصيل، من جهة أخرى. غير أن الجهد كان ضائعا من وجهة نطر مسلمة. لم أقل للناس انتخبوني ونوموا في سلام. على العكس، كنت أقول لهم لا تنتخبوا أحدا، أفيقوا وانهضوا من سباتكم. سبق أن رأيت في احتيال بن جلول نوعا من القرحة الانتحابية التي بدأت تحمر الوعي الشعبي الذي استيقظ منذ مدة قصيرة بفضل النشاط المناهض للمرابطية التي بدأت آخر أصدائها تضيع الآن وسط زعيق المعرض الانتخابي. الإسلام نفسه أصبح لافتة انتخابية ... وها هو سيسبان يعد ناخبي باتنة في حال انتخابه أنه سيخص مدينته بمسجد جديد. وكان بن ساعي، الذي روى لي الأمر مع شهيق في الصوت، بكل تأكيد الوحيد الذي تبين الانحدار الذي سلكناه. انحدار يوصل بعيدا: حتى الانتخابات البلدية التي خاضتها (الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية) (MTLD) في 1947 باسم الإسلام، وهي انتخابات مكنت أميين وخونة مبرئين وتجار عرفوا كيف ينمون تجارتهم، وعمال عرفوا كيف يحافظون على مناصبهم في زمن نايجيلان (Naegelan) من الفوز على حساب مثقفين مخلصين ونزهاء على غرار الدكتور خالدي.

ومن جهة أخرى، وفي انتخابات الجمعية الجزائرية، فإن (الاتحاد الديمقراطي لأحباب البيان) (UDMA) هو بالصدفة من يهزم خالدي مرة أخرى لصالح مرشح الإدارة: محام من خنشلة الذي ضحت في سبيله بمرشحها نفسه المسمى كموش ببرقية. هذا هو المنحدر الخطير الذي وضع فيه بن جلول وشريكه فرحات عباس الضمير الجزائري منذ 1936. كان يجب انتظار سنة 1947 لنرى أبشع الممارسات والخيانات الجلية تتدثر بلحاف الإسلام والوطن. والحاصل أن التقاليد الجديدة للبوليتيك الجزائري بدأت ترسخ في العادات والذهنيات. في أواخر 1938 أو بدايات 1939، جرت انتخابات للمجلس العام في دائرة تبسة، عين البيضاء وخنشلة. وبدون علمي، قام سكان من تبسة بتقديم اسمي واقترحوه على سكان عين البيضاء وخنشلة ضد اسم بومالي. جرى هذا الاجتماع في منزل أحد أعيان مدينة عين البيضاء. واتفق كل الذين حضروا على ترشيحي. فجأة توقفت سيارة أمام الباب، كانت تقل بطلي البوليتيك الجزائري فرحات عباس وبن جلول متبوعين ببطل من نفس الفصيلة هو بن جامع. فأعيد النظر في الأمر. فالقادمون الجدد لم يجرؤا على مواجهة الرأي العام مباشرة فيأخذوا على أنفسهم اسم بومالي المتورط منذ قضية الاستقالات إلا أنهم ناوروا لإبعاد ترشيحي. وهل تعلمون، أيها الشبان - جزائريو المستقبل- من الذي اقترحه أبطال الجزائر؟ اقترحوا بكل بساطة اسم أحد الأميين، (المنتخب الحر) في الجمعية

الجزائرية بفضل إرادة ماسينيون ونايجيلان، وأنا أقصد هنا الحاج موحاتة نفسه. وفاز مرشح نايجيلان القادم بدعم من فرحات عباس صاحب مقولة (فرنسا هي أنا) وبركة الشيخ العربي التبسي الذي خلصته هذه الانتحابات من كابوس أن يراني ألج معترك الحياة العامة والتنديد بجميع الفضائح ومنها فضائح (العلماء). يمكن، أو قل يجب العودة إلى الوراء، وأن نتساءل من الذي أنذر في الوقت المناسب فرحات عباس ورئيسه بن جلول ليهرعا على جناح السرعة إلى عين البيضاء لأداء مهمتهما؟ إن من شأن الجواب على هذا التساؤل أن يلقي بكل تأكيد الضوء على الطبيعة نفسها لهذه المهمة التي اضطلع بها الأبطال الأندجين. غير أن الستار سيرفع يوما أحببنا أم كرهنا. مهما يكن من أمر، فقد تبينت، ويمكن تصور الألم الذي انتاب الضمير، أنه لم يبق شيء صاف في الجزائر، لا شيء يبارك فيه الله تعالى وينميه. وكان الشيخ العربي هو الذي يمنحني إحساسا حادا بهذه العفونة التي تتحمس لها كل الحياة السياسية الجزائرية. لم أستطع السكوت أمام النفاق الذي أشعر به عند (العلماء) ولم يكن الشيخ ليغفر لي هذا الشعور. ولكني كنت أحافظ على الأصول. بيد أني كلما تحدثت كل مساء جمعة في نادي تبسة، كان الشيخ يحس، وهو محق، بأنه معني بكلامي. وعوض أن يرد علي باستقامة ونزاهة، كما أفعل شخصيا أحيانا، فقد كان يفضل أن يهاجمني من الخلف. دب خلاف مرة بيني وبين

والدري بسبب يتيم آويته من الطريق، ختن من مدة قصيرة وترك لحاله دون علاج، وكان مصابا بالحمى. فقررت مع زوجتي أن نبقيه معنا في المنزل حتى يشفى نهائيا. غير أن زوجة أبي، لأن أبي، وهو من طينة الأهالي- الاندجين، تزوج ثانية بـ (مسلمة) خليقة بأن تكون شقيقة للعربي التبسي، رأت خلاف ذلك. وقد عملت ما في وسعها حتى قام أبي - غفر الله له بسبب براءته - بطرد الصبي. ومن هنا نشأ الخلاف بيننا. وعوض أن يقوم ممثل الإسلام، أقصد الشيخ العربي بإصلاح ذات البين بين الوالد وولده، حسب تعاليم الدين نفسها بل وحتى العمل من أجل إنقاذ اليتيم الصغير الذي ذهب ضحية هذه الخصومة، فإن الشيخ الأزهري والزيتوني لم يكن له من النوايا سوى استغلالها ضدي. وكان يقول بصوت خافت لمن حوله وهو يجمع مبرراته من الخزي والعار: - إن مالكا ابن ملعون لوالده! هذا ما وجد الشيخ الموقر في الأخلاق المقدسة للإسلام. ومن يومها، أصبحت استفظع ثقافة الأزهر والزيتونة التي تقتل الضمائر والأرواح واعتبرها أسوأ كارثة يمكن أن تهدد العالم الإسلامي. وحتى يعيش الإسلام أو يبعث من جديد في الضمائر، يجب تخليصه مما يسمى اليوم (الثقافة الإسلامية)، هذه الثقافة التي تلوث الأرواح وتذل الطبائع وتضعف الضمائر وتخنث الفضائل. وعندي اليوم هذه القناعة أكثر من أي وقت مضى. وليس من قبيل الصدفة أن رجلا كحسن البنا ليس في تكوينه شيء يدين به للأزهر أو للزيتونة.

كم يحز في نفسي ويدمي قلبي أن أرى هذا الجيل الجزائري الرائع المليء بالاقتناع، ومن طيبة النفس والقلب يوجه للذل والهوان. وهذا هو الشعور الذي ينتابني وأنا أسير جوار معهد بن باديس حيث أرى وجوها نيرة لشباب معد بكل أسف لما اصطلح على تسميته (الثقافة الإسلامية). غير أن لله تعالى دون شك أهدافا لا يمكن لأي إنسان أن يدركها. فجمعية (العلماء)، وبخاصة بعد رحيل الشيخ الجليل والطيب بن باديس تعد من هذه الأهداف المغلقة التي تستعصي على إدراك الذكاء الإنساني. والبوليتيك الجزائري أيضا من هذه الأهداف. على أية حال، أصابني التقزز مع بدايات سنة 1938 إلى درجة النفور من الإقامة بتبسة أو بالجزائر قاطبة. وجاءت مصادفة سعيدة بعد أن طلبني بعض المناضلين الذين بقوا على وفائهم للمؤتمر الإسلامي لأقود جمعيتهم في مرسيليا. وكان علي أن أسافر إلى هذه المدينة في شهر أفريل. وكان اللقاء بهؤلاء المناضلين الطيبين غاية في الود والترحاب. ستتوقف معرفتي بالشعب الجزائري - بعظمته وانتكاساته - هنا. فحياة المسلمين بمرسيليا هي مشهد معبر لكل من أراد أن يتعلم نقاط الضعف الداخلية والخارجية للمجتمع المسلم. يجب أن أقول بداية أن وصولي مرسيليا صادف حفلا نظمته (المنظمات الديمقراطية) في مرسيليا على شرف بيرنار لوكاش الذي

تحدث مطولا عن مآسي اليهود. شعرت أن من واجبي أن أنتهز الفرصة لأتحدث عن الممسلمين. من بين النساء اللواتي حضرن، هناك من بكين خلال كلمتي. سارع لوكاش وعانقني. فهمت معنى هذه المعانقة. وتقدم مني يهودي آخر بينما كنت أرد على أسئلة بعض المستمعين المتلهفين لبعض التوضيحات، وقالت لي: - تعلمون أن الذوق الفرنسي مرهف ولا يجب بالتالي نقده بعرض كل الحقيقة. أدركت أن صاحبنا أزعجه الاهتمام الذي أثاره العرض الذي تقدمت به وكان غرضه هو إضعاف هذا الاهتمام بمدح (الذوق الفرنسي) ونقد ذوقي السيء. علاوة على أن (المنظمات الديمقراطية) لم تر فينا شركاء ولكن مجرد مرتزقة للأيام التي تحصل فيها مشاجرة مع (الزمر العنصرية). (¬1) ولما خيبهم موقفي، لم نعد نرى بعضنا بعضا. وهكذا وجدث نفسي مركزا على الموضوع الدقيق الذي عملت على اقتراحه وهو التربية. فوضعت الإصبع على الجرح. كان المسلمون يعيشون أو قل يخملون بمرسيليا في غفلة تامة وغياب وعي كامل بأنفسهم وبكل ما يحيط بهم. فكانوا يبدون في عيني، أنا المتلهف للأحاسيس المعبرة، أكثر المشاهد إثارة للشفقة لقطيع بشري يدعو للرثاء. رأيت سودا وهم مهذبون ومؤدبون ولهم ¬

_ (¬1) لا تزال الجالية العربية والمسلمة في فرنسا تجند وتستعمل من طرف بعض المنظمات المرتبطة بقوى اليسار وتدمج في الصراع ضد عدوها المدرج فيما يسمى اليمين المتطرف. (المترجم).

كرامة في الشوارع التي يرتادونها. المسلمون يتكدسون أولا في نفس الشارع - شارع شابولييه Chapeliers- ذي الصيت السيئ وفيه يعيدون تشكيل إطار الحياة الجزائرية برمتها وبكل ما لها من بشاعة وإثارة للسخرية, السود يتخلصون من الأدغال ومن ذهنية الأدغال عندما يصلون مرسيليا. أما المسلمون فيعمدون إلى نقل كل إشكال (الطباع الطريفة للأهالي) وإسقاطها في الإطار الجديد. فترى في شارع شابولييه مقاهي عربية ومعها لعبة الدومينو التي لا تغيب، ومنضدة عليها مغلاة يتصاعد منها دخان. ثم تجد بعدها مطعما حقيرا وعنزة مسلوخة مغطاة بالذباب معلقه على بابه. وعلى قارعة الطريق سوقا فوضوية يباع فيها بالمزاد كل ما هو مريب، وقذر، وغامض ومثير للشبهة، وممزق. ويريد أكثرهم حكمة، الابتعاد على ما يبدو، من هذا الجو الصاخب، إلا أنهم لا ينأون بعيدا فرادى أو جماعات صغيرة. إنهم يبتعدون بعض الخطوات إلى ساحة إيكس وينتظمون هناك قطعا كالذباب ويتكدسون للجلوس على طريقة الأهالي. الأجنبي الذي يمر بمحاذاة شارع شابولييه أو ساحة إيكس يتوقف لتأمل أفضل مشاهد (الأهالي) أصالة. أما سكان مرسيليا الذين ملوا ربما المشهد منذ مدة، فكانوا بكل بساطة يديرون رؤوسهم ويحملون الانطباعات التي أتخيلها للأسف. وبالطبع، لا ترى أبدا امرأة مرسيلية تخاطر وتدخل شارع شابولييه. بيد أن هذا المشهد الذي شكل كابوسي كان بالضبط، هو مادتي في العمل لأني كنت أدرك إلى أية غاية تسعى لها الإدارة في الواقع

عندما تسمح بمثل هذا المشهد. فكنت أريد القضاء عليه أو محاولة القضاء عليه, على ضوء ذلك، قمت بإعداد برنامج للتربية. فكان علي من جهة أولى أن أكون إطارا من الشبان الذين يمكن أن يؤثروا مباشرة في وسط (شارع شابولييه) بحكم اتصالهم به عن قرب بعدما يحصلون على نصيب من التربية والعلم وذلك حسب إشعاعهم أنفسهم. ومن جهة أخرى، فكرت في محاضرات أسبوعية، كل يوم أحد، لأتحدث أمام الحشد. أضف أنه كان علي أن أخضع نشاطاتي لتوقيت محدد وأضبطه حتى أحصل على أقصى النتائج في أدنى وقت، لعلمي أن أية جمعية منظمة للأهالي لا يمكن أن تدعم عملا يتطلب نفسا طويلا. فكان علي أن أخضع نشاطاتي لتوقيت مضبوط لتحديد قاس حتى أحصل على أقصى ما يمكن من نتائج في أدنى وقت. وقصد تخفيف تكاليفي الشخصية عن الجمعية فقد قررت في بادئ الأمر أن أبيت في المحل ذاته، وهو عبارة عن محل قديم مهجور للحدادة يقع بشارع فوشييه. في بهو هذا المحل الذي صبغت جدرانه بالجير، كنت أعطي دروسا لحضور منتظم كان يدفع مساهمة أسبوعية ضئيلة، ولكنها كانت تضمن لي خبزا وقطعة من الجبن. وهكذا أعفيت الجمعية من مصاريفي. وكنت أقبل بهذه الوضعية حتى أواصل نشاطى أكبر وقت ممكن، ولن يكون على أعضاء المكتب، وكانوا في أغلبهم أصحاب المقاهي والمطاعم المتواضعة، سوى دفع إيجار المحل.

وكان تلاميذي، الذين سيصبحون لاحقا إطارات، من مختلف الأعمار ومن جميع نواحي الجزائر، كلهم أميين. كان من بينهم سعدي بن يحي من برباشة، هو شاب من بلاد القبائل عمره 18 سنة، وقد تجاوز بعضهم السن الموقرة للشيخوخة، وقد أثار انتباهي أحدهم وكانت له قامة عملاق عندما سألته، على غرار الآخرين، عن اسمه لأسجله كتلميذ مثابر، فأجابني بكل بساطة: - ابن تاشفين! استرعى الاسم انتباهي. فخاطبت نفسي: ربما يكون؟ ... طرحت عليه أسئلة أخرى. فعلمت أنه من نواحي تلمسان وأنه حافظ للقرآن الكريم عن ظهر قلب. - واسمك هل تعلم مصدره؟ تعجب تلميذي الشيخ من سؤالي وفكر برهة من الزمن ثم بدا أنه لم يجد شيئا في ذاكرته، فرد: - يا سيدي، أنا لا أعرف من أين جاء اسمي، ولكن سبق لي بتلمسان في يوم من الأيام، أن سألني نائب الوالي من أين جاء اسمي وهل لي وثائق عائلية. لا اعتقد أني حدثت تلميذي عن مغزى الاهتمام الذي أبداه نائب الوالي باسمه. غير أني شعرت شخصيا بعجلة التاريخ تعود بي عدة قرون إلى الوراء في زمن المرابطين. وربما برزت أمام عيني حلول عدة

لمأساة الحضارة الإسلامية. كنت أرى المأساة أمامي، بلحمها ودمها، في جلد حمال كان جده أحد كبار قادة الإسلام. عادت إلى ذهني جملة مزدرية لبزيكاري (Psicari)، وهي جملة كان قد سجلها ابن أخت رينان (Renan) عندما جاء أحد الزعماء الموريتانيين مستسلما للسلطات الفرنسية: - رأيت فيه بقية حضارة مثيرة للشفقة تحولت إلى مأساة. وسجلت في ذهني من جانبي، أن مصير فرد غير مرتبط بسياسة وضيعة (بوليتيك) ولكن بحضارة. وأدركت أكثر فأكثر عملية الاحتيال الجارية في (العالم الإسلامي المعاصر)، بفعل جميع الذين وجدوا، على غرار بن جلول وأمثاله، أن إلقاء الخطب حول الحقوق أكثر ربحية من القيام بأدنى واجب من شأنه أن يسمح الحال بالولوج في حصيلة النهضة الإسلامية. لم أكن أعرف بعد أن مجرد شعور أو فكرة بسيطة يأخذان طريقهما في الوعي الإسلامي ليصبحا مصدرا لكم من المشكلات التي نطرحها، أو أحيانا، مذهبا يتولد عنهما. لم أكن أعرف وأنا أحرر دراستي حول (مشكلة الحضارة) أن تواضعا في غير موضعه دفعني إلى نشرها تحت عنوان: (شروط النهضة الجزائرية). قررت بداية أن أحضر المستمعين لدروسي وأن انتشلهم من التأثيرات الأهلية (influences indigènes) السيئة في شارع شابولييه. فكانت دروسي إذن تعليمية وأخلاقية وجمالية في آن واحد. فكانت دروسي تنصب على تعليم العمليات الحسابية الأولية، والحروف الأبجدية بعض المقتطفات من الجغرافيا، ولكنها تستهدف

بالخصوص إحداث تغيير جوهري في نفسية تلاميذي من خلال استهجان السلوكيات والمواقف وأفكار الأهالي (الأندجين). فكنت أعلم أحدهم كيف يعقد ربطة عنقه، وأبين للآخر كيف نداوي غمص العين ووسخه وللثالث كيف نسير في الطريق وللرابع كيف نجلس في شرفة مقهى. وكنت أحاول أن أرسخ في أذهان الجميع روحا نقدية، وذوق الإبداع. فلم يكن تعليم الحساب في ذهني مخصصا لتكوين مهرة في الحساب بقدر ما كنت أبحث عن منح تلاميذي معنى الأعداد الكبرى ومفهوم اللامتناهي (l'infini). كما أن دروسي في الجغرافيا لم تكن معدة إلا لإعطاء فكرة عن تنوع البلدان، والأجناس، والمنتجات وامتداد الفضاءات واتساعها. افتقر للوقت لأصف هنا مشاعر التأثر التي تنتابني وأنا أتابع تقدم منهجيتي، وكل المشاعر التي يحسها تلاميذي الذين كنت أدعهم ليبادروا من تلقاء أنفسهم، كمثل اليوم الذي كلف فيه أربعة منهم من قبل زملائهم ليشتروا هم أنفسهم خريطة العالم الضرورية لدروس الجغرافيا. ويمكن تصور الإحساس القوي الذي خلفته مثل هذه المبادرة في أربعة شبان، الذين كانوا لم يحسنوا لا القراءة ولا الكتابة ولا الحساب، شهران قبلها. غير أني اكتشفت نتيجة أحدثت في شخصيا تأثرا. فعند أول لقاء بتلاميذي، أدهشتني الهيئة الوحشية التي كانت تسم نظراتهم وتطبع قسمات وجوههم. ثم لاحظت أن نظراتهم تهذبت واكتست طابعا إنسانيا تتجلى الفكرة من خلالها. وأكثر تأثيرا هو أن الطلعة

ذاتها تغيرت. ولن يسعفني الوقت لتسجيل هنا كل تفاصيل التحول الجذري لدى تلاميذي بيد أني فهمت من وقتها أن الفكر يضع قناعا خاصا على الوجه. بمجرد أن يتحرك إصبع الأمي لتحديد سحر حرف، بمجرد أن يتحرك عقله لفهم فكرة، فإن مخلوقا آخر مات فيه (الإنسان الأهلي) بعض الشيء وانبعث منه إنسانا بنفس المقدار. وأنا أتذكر هنا حادثا معبرا، معبر بقوة للأسف. فقد أردت أثناء درسي الثاني أو الثالث أن أختبر أحد التلاميذ، وكان شابا اسمه جوزي وأصله من مدينة عزازقة. - كيف وجدت الدرس يا جوزي؟ أجابني الشاب القبائلي بغتة: - يا شيخ إننا نقتل الوقت هنا بصورة جيدة. هذه هي الاستعدادات النفسية التي قدم بها تلاميذي في البداية. خاب أملي ربما، غير أني أدركت أن هذه النفسية، هذه الذهنية (الأهلية) هي التي يجب أن أزعزعها. وبعد خمسة أشهر، تحسن تلميذي جوزي، فقد أصبح تدريجيا يأتي ليس لقتل الوقت ولكن لاستعماله بفعالية، بصورة لافتة أكثر مما تطيقه صحته العقلية. فذات مساء، جاء جوزي إلى الدرس مع كل مؤشرات الخلل. نعم! كان جوزي مجنونا. فذهنه الذي لم يفكر مطلقا اختل عند أول تفكير. وتعاونا أنا وزملاؤه على إجلائه.

ولكن كان من بين التلاميذ أذكياء يلفتون النظر. فلن أنسى أبدا هدية بن يحيى سعدي فقد أصبح إثر أحد عشر شهرا، وهي المدة التي مكثت فيها بمرسيليا، يحل مسائل رياضية في مستوى الشهادة الابتدائية، أي أبعد من مجرد حل العمليات الحسابية الأولية. ولا يزال إلى اليوم يكتب لي رسائل جديرة أن تصلح كنموذج لبن جلول وتلاميذه من أمثال فرحات عباس، بغض النظر عن أخطائها النحوية. ولم تكن محاضرتي التي ألقيها أيام الأحد دون جدوى أيضا، رغم أن الحضور لم يكن كثيفا كما يمكن تخيله. وهناك بالطبع نشاط الإدارة الاستعمارية التي تعرف، كما تعرف دائما، جميع أسرار وخفايا عقلية (الاندجين). فقد كنت استمد القضايا التي تتناولها محاضرتي من حياة إخواننا في شارع شابولييه. ومن هنا كان من السهل تأليب ضدنا جميع المصالح القذرة لأصحاب المطاعم الوسخة ومقاهي العرب الذين كان من السهل تصوير نشاطنا - نشاطي ونشاط تلاميذي- بأنه يضر بمصالحهم. فأصبح أعضاء المكتب أنفسهم يتغيبون عن الاجتماعات، ثم استنكفوا تدريجيا عن دفع ثمن إيجار المحل، نادي التربية والتعليم. فاعتقدت من الواجب أن أتوجه لجمعية العلماء ممثلة في شخص الفضيل الورتلاني لإنقاذ نادينا الموجه للتربية والتعليم. رد على رسالتي ردا دبلوماسيا ووعدني بعون الله , كنت بالطبع أتفهم موقفه، فقد كان يدعو ل (الثقافة الإسلامية) بينما كنت أدعو للإسلام والحضارة. ولم تكن هناك صلة مشتركة بين العقليتين. في

غضون ذلك، مر علينا الشيخ مبارك الميلي (عليه رحمة الله) فاستبقيناه بمرسيليا ليقدم لنا درسا. كان مريضا وعائدا من فيشي. غير أنه قبل الدعوة. كان (العالم) الوحيد الذي ترك لدي انطباعا بأنه صادق. ولم يخف عني قلقه إزاء الوضع الذي تتخبط فيه جمعية العلماء منذ زيارتها المشهودة لباريس , فالعقبي الذي أفرج عنه اتخذ بكل وضوح موقفا مع الإدارة. أصبحت الجزائر تتأرجح بين بن جلول ومصالي. وتمكن مييو (Millot) الذي خلف ميرانط (Mirante) من فرض عقلية ماسينيون نهائيا في الإدارة الجزائرية. لم يتمكن والدي لحد الآن أن يعود لعمله رغم مساعيه الحثيثة. كنا، والحال هذه، محرجين أكثر فأكثر في مقر النادي بشارع فوشييه. وقد استعملت الإدارة كافة أوراقها. بدأ بعض أنصار مصالي يشنون حملات دعائية لا تهدأ ضد (نادي التربية والتعليم)، وكان ذلك باسم الوطنية طبعا، تماما كما حصل عندما نددت جمعية الطلبة بالجزائر العاصمة بكتابـ (شروط النهضة) في 1949. لقد عرفت الإدارة الاستعمارية كيف تستفيد من وطنية الأهالي (patriotisme indigène) . ثم قامت بالطبع في غضون عشر سنوات بتحسين هذه الوسيلة الرائعة. غير أني وتلاميذي قاومنا. وكانت زوجتي التي التحقت بي في ردهة محل الحدادة القديم عونا لي بقدرتها على إعداد كل شيء من لا شيء. فضاعفت من نشاطي. كانت مرسيليا تحتضن كل مساء منتدى يتبادل فيه الصحفيون والفنانون والعمال البسطاء والفوضويون والفاشيون آراءهم، وأحيانا

شتائمهم. فقررت أن أسمع صوتا مناهضا للاستعمار. فذهبت ومعي بعضا من أحسن تلاميذي المكونين من مرسيليا كمحمد سوالمية وسي حاج بن يونس وغيرهما ... وكنت أواجه أحيانا نيات سيئة لا تخطر على بال، وأصادف مرات أخرى جهلا مطبقا بقضايا الاستعمار. غير أني كنت أنتزع دائما مودة كل الذين تحدوهم نيات صادقة حيث كنت أحدث فيهم تأثيرا عميقا بما أكشف لهم من حقائق عن الوضع بالجزائر. بيد أن الأحداث كانت تتسارع في العالم. وكان الحديث ذات صباح عن لقاء ميونيخ (¬1). وقامت المنظمات الديمقراطية التي نظمت مهرجانا في قاعة لم أعد أذكرها بتوجيه دعوة (لأمين نادي التربية التابع للمؤتمر الإسلامي). لبيت الدعوة واصطحبت معي بعض التلاميذ. كانت القاعة تغص بالحضور. أخذت بدوري الكلمة، فعمت الدهشة لأني طلبت أن يشير جدول الأعمال إلى عريضة تنديد بالوضع الظالم السائد بالجزائر. لم يكن الأمر متوقعا. وعندما تم تجاهل عريضتي، صعدت عنوة إلى المنصة لأكرر احتجاجي في هذا اليوم التاريخي للقاء ميونيخ. خرجت من القاعة مشمئزا وكلفت تلاميذي بدعوة مسلمي شارع شابوليية لمحاضرة في زوال نفس اليوم. لا أعرف إن كان الجو العام ¬

_ (¬1) المقصود اللقاء الذي عقد بميونيخ في عام 1938 وجمع هتلر (ألمانيا) ودلادييه (فرنسا) وموسوليني (إيطاليا) وشمبرلين (بريطانيا)، وهو اللقاء الذي تقرر فيه فصل منطقة السوديت من تشيكوسلوفاكيا وضمها للرايخ الألماني، فتم إبعاد شبح الحرب مؤقتا. وقد أثارت القمة جدلا واسعا في فرنسا وغيرها من البلدان. (المترجم).

هو الذي حرك الهمم أم لا، فالردهة الواسعة لمحل الحدادة القديم كانت غاصة بالحضور، بل كان الناس خارج المحل في شارع فوشييه، فكان رأس الجموع أمام المحل يسمع كلامي لأخره. رددت على مسامع الحضور تنديدي بعد أن فصلت فيه، والذي تقدمت به صباحا أمام ديمقراطيي فيدرالية منطقة بوش دي رون. كنت مدركا تماما أني الجزائري الوحيد الذي رفع تنديدا علنيا ضد نظام سيعبئ المسلمين للدفاع عنه. وكنت أعرف أن آذان الإدارة سمعتني صباحا وستسمعني مساء أثناء خطابي في شارع فوشييه. وكنت أعي أن هذا اليوم لم أخرق ببراءة بيت العنكبوت بجناحي الصغيرين وحسب بل زعزعتها بمهبي بخطورة، ولكن بنية مبيتة. انتظرت توقيفي من لحظة لأخرى. وفي الساعة الخامسة زوالا، أخبرت بأن الحرب لن تقع. هل كان ثمة داع لتوقيفي؟ أترك للقارئ من الأهالي العناية بالإجابة لماذا لم يتم توقيفي؟ أما القارئ المسلم فإنه يفهم الموقف تلقائيا. غير أن مقامي قد طال أكثر من اللزوم في شارع فوشييه في عين الإدارة وعندما فشل (الوطنيون) وأصحاب المطاعم الحقيرة والمقاهي العربية في دفعي لمغادرة المكان، تكفلت ولاية مرسيليا بمهمة إبعادي. فبعد أيام، تلقيت استدعاء من المفتشة الأكاديمية لمنطقة بوش دي رون، فذهبت. التقيت بشخص تظهر عليه علامات الإحراج من المهمة التي كلف بها. كان هو مفتش الأكاديمية وأخبرني بأني لا أتوفر على أي

سند قانوني لأزاول التعليم. فأفهمته أني أعلم الأبجديات لأميين مساكين من كبار السن لم يكن عندهم حظ وجود مدرسة في مناطق سكناهم في صغرهم. وأضفت بأني مهندس. ابتسم الموظف وكأنه حكم علي بأني بدرجة من السذاجة بحيث لا أفهمه، فعزم على إفهامي فقال: - سيدي، أنت تدرك أنه منذ أن بدأ سكان شمال إفريقيا يتعلمون ومنذ بروز (قضايا) فلسطين، لم يعد بالمقدور قيادتهم وحكمهم. أدركت أن الموظف الموقر لا يعرف جميع خبايا هذه القضية التي يوجد بها عامل شخصي يمس بشخص. ثم بقيت في مستوى حديثه ونددت بإجراء يمس المسلمين لأن اليهود لم يكونوا راضين تماما عن علاقاتهم مع إخواني في الدين. ضاق الخناق على الموظف الموقر فقال وكأنه يعترف: - أنت تفهم أن الأمر لم يصدر من هنا ولكن من فوق. فأدركت أن ماسينيون يتابع من باريس خطواتي وأنا بمرسيليا. هل من الواجب مضاعفة الكفاح؟ كنت أستطيع أن أذهب إلى حد دفع الإدارة إلى استعمال القوة تجاهي. غير أن وضعي المادي الصعب أرغم زوجتي على العودة إلى درو. ولم أكن من جهة أخرى لأرفع المساهمات الأسبوعية التي يدفعها تلاميذي بخمس فرنكات لأن معظمهم كان بطالا. فاعتبرت أن مهمتي في مرسيليا قد شارفت على نهايتها. غير أني مكثت بعض الأسابيع بعد ذهاب زوجتي. وحين حل يوم مغادرتي، بكى تلامذتي،

فقد فارقهم أب وصديق لكنه ترك لهم شيئا يدب في روحهم وفي ذكائهم. وهذا الحاصل فعلا إلي يومنا فعندما كان بن يحي يكاتبنا أنا وزوجتي فكان يستهل رسالته بـ (أمي العزيزة) أو بـ (أبي العزيز). بمنعي من ممارسة التعليم الحر، فإن ماسنيون لم يستلهم فعلته من وجهة نظرة عامة للاستعمار الذي يحارب كل مبادرة من شأنها أن تؤثر في عقول وقلوب وأرواح المستعمرين - بفتح الميم الثانية -وحسب، بل يستلهم أيضا وبالأخص من وجهة نظر خاصة أنه من الممكن أن تنبثق من شارع فوشييه حركة لا تعير الانتخابات أهمية وإنما تهتم بالإنسان والتراب والزمن، حركة لا تهتم بـ (الحقوق) وإنما بـ (الواجبات). لأن ماسينيون يعرف جيدا أن مثل هذه الحركة ليست سياسة الدجل المنحطة والعقيمة التي يمتهنها الأهالي (Boulitique indigène) ، (والتي تمنحها الإدارة دفعا وتشجيعا من خلال أبطال وشهداء مزيفين لضمان ديمومتها) ولكن سياسة (Politique) من شأنها أن تغير من شروط الحياة الجزائرية. وهذا بالضبط ما كان ماسينيون يسعى لتفاديه عندما منع عني التدريس الحر. وحتى أنا شخصيا لم تكن لدي للأسف الوسائل الضرورية لإطالة بقائي في مرسيليا. ففارقت تلاميذي مضطرا لأمر على درو قبل أن أعود للجزائر. قضيت أسبوعين أو ثلاثة فقط مع زوجتي ثم عدت إلى تبسة من جديد. كان الجو للهرج والمرج أكثر من أي وقت مضى. دعيت مرة من قبل رجل موقر من تبسة لحضور حفل استقبال نظمه على شرف الدكتور بن جلول، وكأن حفل الاستقبال أعد

خصيصا لي. كان بن جامع حاضرا بطبيعة الحال. كما حضرت الحفل نخبة تبسة برمتها. كانت الفرصة جيدة ولا يجب تضييعها. قررت في أعماق نفسي أن أضع الصنم (¬1) أمام مسؤولياته، أمام معجبيه , للتذكير فقد كان الحديث يجري في الجزائر وقتها عن (بركة) بن جلول (نعم هكذا)، رجل (الطائرة الخضراء)، لون الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا هو الزمن! كان عددنا كبيرا حول الخوان، وكان بين الحضور خالدي، الذي لا يزال طالبا شابا وخجولا. لما فرغنا من الأكل، وبغرض منعي من المبادرة بالكلام، خاطب مضيفنا بن جلول قائلا له: - حكيم! هلا تفضلت ببعض الكلمات. لم أذكر الكلمات التي نطق بها (الحكيم)، إلا أنها كانت عبارة عن تخبط عشوائي مبهم. اغتنمت الفرصة لأطلب منه بعض التوضيح حول أسباب فشل المؤتمر الإسلامي. انتبه الحضور للإصغاء. تحرج (الحكيم) واصفر. لقد أحس أني سأضيق عليه الخناق وأجره ليحدثنا عن خيانته العظمى. أحس بن جامع، الذي يجب الإقرار بذكائه الكبير، بأن الوقت قد حان لينقذ شريكه من الورطة، فأجاب مستعينا بـ (تحليل أهلي) (Analyse indigène) لم أستوعبه جيدا. للأسف كنت أنا شخصيا انديجينا باعتقادي أني سأنظم الأمور بالتوجه ل (الحكيم) الذي التزم الصمت بحذر، وامتنع عن الإجابة شخصيا. ¬

_ (¬1) قابلت كلمة (Idole) بعبارة (صنم) انسجاما مع ما جاء في كتاب بن نبي (شروط النهضة). (المترجم).

استشطت غضبا فرحت أقدم عرضا تاريخيا عن فشل المؤتمر. كان بن جلول متهما بكل جلاء غير أنه كان في منأى عن المناقشة التي كان خطئي أني افتتحتها مع بن جامع. أدركت لما خرجنا أن (الحكيم) لم يكن ذكيا ولكنه كان أكثر دهاء مني. وتحققت من الأمر في حفلة الشاي التي نظمت في النادي والتي حضرها الشيخ العربي التبسي وجمهور كبير. انتاب بن جلول خوف شديد من أن استأنف الجدال. وهكذا، فبمجرد ما ولجت قدماه النادي، توجه الصنم رأسا إلى ركن كان يجلس فيه والدي وعانقه بحرارة. وأدركت للتو خيانة هذا العمل المشهدي غير أني، وبصفتي أنديجانيا جيدا، كنت عاجزا بفعل قبلة الخداع هذه، وأنا أسجل مكر الخائن. كما لاحظت نبرة أخرى للمكر عندما أخذ الصنم الكلمة وأحسن إلى درجة أن عرضه كان اتهاما موجها ضد العلماء. وكنت أراقب العربي التبسي الذي لم يحرك ساكنا. وأنا أتساءل إلى اليوم هل يتعلق الأمر بجبن كبير أم بغباوة عظمى. مهما يكن، وفي الغد اعتقدت أن الخطب الفاترة للشيخ قد أهانتها وقاحة الصنم، فأردت أن أسبر أغواره: - أما زلتم، شيخنا، تعتقدون أن بن جلول لا يمكن تعويضه؟ تحرك الجسم الممتلئ وكان الجواب: - ومن تعتقدون أنه سيعوضه. أدركت نهائيا أن مرض (الثقافة الإسلامية) يستعصى على الشفاء. ثم أصبح لدي إحساس بأن العديد من الناس في تبسة بدأت تعي هذا المرض وتدرك خطورته. ترجاني بعض سكان تبسة وخصوصا

الشاذلي المكي وأخوه سي مكي بأن أهتم بعض الشيء بالمدرسة، فالسكان لم يكونوا راضين عن النتائج التي تحصلوا عليها مع الشيخ العربي التبسي. اقتنعت بعد عدة اتصالات بأني قد أكون مفيدا، بل ورأيت في الفكرة وسيلة لأحصل على خمسمائة فرنك شهريا في انتظار نهايتي أو اندلاع الحرب التي قد تغير شيئا من مصيري ومصير زوجتي ومصير عائلتي. اتفقت وأصدقائي على حفظ ماء وجه الشيخ العربي الذي اضطلع بتسيير المدرسة. غير أن التثاقل الشديد للشيخ لم ييسر لي المهمة مطلقا. فعوض أن يقبل بارتياح، إن لم يكن بفرح، مساعدتي خدمة للصالح العام، لم يجد من القول غير هذه الكلمات: - لم يبق لك إلا أن تصدر المدرسة! هذه هي عقلية الشيخ. هذه هي روح (الثقافة الإسلامية). والحال أني لم أتلق راتبي من ميزانية المدرسة التي يجب الاعتراف أنها عاجزة أصلا. إلا أن أصدقائي تعهدوا أن يدفعوا لي خمسمائة فرنك شهريا هي نصيب مشاركة الأولياء ممن يستفيد أبناؤهم من دروسي باللغتين (العربية والفرنسية). غير أن الشيخ العربي لم يهتم لا بمصلحة هؤلاء الصبيان ولا بإخلاصي وجديتي باعتبار أن الدروس الأخرى كنت أقدمها في المدرسة تطوعا ودون مقابل تماما. غير أني صبرت وتحملت الأمر وشرعت في تقديم دروسي. وحتى أسلط الضوء على (الثقافة الإسلامية) التي يقدمها الأزهر والزيتونة وتجليات جمالياتها أكثر، فإني سجلت نقطة معتبرة. فعوض أن يستعمل

مداركي ويستفيد منها كبار التلاميذ سنا في المدرسة قام الشيخ العربي عندما وزع الدروس على الأساتذة بتكليفي بقسم الحضانة رغم أني كنت من بينهم متطوعا دون مقابل. ويجب أن أضيف أن أحد طلبة السنة الأولى بجامعة الزيتونة كان قد رفض هذا القسم لأنه قدر بأنه لا يناسبـ (ثقافته الإسلامية) الواسعة. فتكفلت بالقسم إذن دون مقابل، ورأيت بأنه يستحق كل العناية. أما دروسي الخصوصية فكنت أعطيها في المساء بعد مغادرة المدرسة. وكان علي أيضا أن أعد بعض التلاميذ لمسابقات متنوعة بمنحهم دروسا خصوصية. وعلي هنا أن أسجل كذلك أمر، فيه من العبرة ما فيه. فقد كان أحد تلاميذي إبنا للوكيل القضائي للمدينة وكان قد رافع في إحدى المرات ضد الشيخ العربي التبسي في قضية طلاق. وكان من الطبيعي أن يأتي ابن الوكيل هذا إلى مدرسة تتوفر على صبورة وطاولة. الأمر طبيعي أليس كذلك؟ كلا! ف (الثقافة الإسلامية) كانت ترى المسألة بنظرة أخرى: فقد أخبرني الشيخ العربي التبسي عبر تاجر من تبسة (هو والد الشيخ علي لوكسي) أني استقبل ابن (خائن) في المدرسة، وعليه يتعين علي أن أغادرها شخصيا دون عودة. في قرارة نفسي، كنت أرى أنه حتى وإن كان الوكيل القضائي أكثر (خيانة) (من العربي التبسي شخصيا)، فلا يجب أن يتحمل ابنه البريء تبعات تصرفات والده. غير أني ذكرت مرارا لرسول الشيخ العربي أن القرآن الكريم يأمر

محمدا صلى الله عليه وسلم باستقبال مشرك وإيوائه: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه}. (¬1) غير أن الشيخ العربي بقي متصلبا في رأيه بخصوص الصبي المسكين بسبب والده المتهم بـ (الخيانة) لأنه رافع ضده. هذا ما تفعله (الثقافة الإسلامية) بتعاليم القرآن. اللهم إلا إذا كان القرآن بالنسبة للشيخ العربي وأمثاله ليس الإسلام أو أنه كتاب الكلمة الطيبة وليس العمل الصالح. يجب إضافة أن ربيع ما قبل الحرب كان غنيا بالحوادث مع الشيخ. كنا في مارس أو أبريل 1939، ولم يكن لقاء ميونيخ سوى تأجيل وليس حلا لوضع دولي ما فتئ يزداد تفاقما كل يوم. فموسوليني استأثر بألبانيا، واستغل الاستعمار هذا الحادث الشنيع ليمتدح روح الجهاد ضد دول المحور. بقيت في الجزائر بعض الأماكن لم يدنسها الاستعمار وهي المقابر البائسة التي يجد فيها المسلم مأوى آمنا ضد الاستعمار، بالنظر لطابعها المقدس على الأقل. غير أن بن جلول وفرحات عباس لم يشاءا أن يتركا حتى هذا المأوى مقدسا لموتانا. فقام البطلان بتنظيم (يوم ألبانيا) المعروف والذي جرت وقائعه في مقابر الجزائر العاصمة، وهناك، وبحجة التنديد بالاستعمار الإيطالي الفاشي، قام كل الخونة الحقيقيين بالاحتفاء بالاستعمار الفرنسي الفعلي. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية 6.

وعلى غرار باقي مدن الجزائر، قامت تبسة بتدنيس مقبرتها. ودعي الجميع لهذا الفعل المنكر الذي أمرت به الإدارة بكل جلاء. وتجرأ بعضهم لترشيحي، عبر عبد الحفيظ مسكالجي، وهو من أقاربي، لأتحدث في الجمع حتى (أكفر عن ذنبي) أمام الإدارة ويستعيد والدي منصب عمله. فرفضت. ناهيك أني قررت أن لا أغادر بيتي مطلقا زوال هذا اليوم فأغيب عن المقبرة وحتى عن المدينة حيث سيتم التعبير عن الاحتجاج على احتلال ألبانيا. وكان قصدي التنديد بخيانة (الأبطال). في هذا اليوم بالذات، وبينما أنا في طريقي متجها صوب منزل زوج أختي عبد الحميد في حدود منتصف النهار لتناول الغداء، صادفت الشيخ العربي التبسي يرافقه الشيخ عيسى الذي يلازمه كالظل. استوقفني (العالم المسلم) ليعرف هل سأكون في المقبرة بعد الزوال. أجبته بالنفي. لاحظت قسمات وجه (العالم) تتشنج وفورة من العرق في جبينه تتشكل وخاطبني وهو محرج: - وددت لو تحضر معي. أدهشتني هذه الدعوة التي لم أكن انتظرها. وبعد أن لاحظ الشيخ ربما التعجب باديا على محياي شرح كلامه قائلا: - نعم وددت أن يرافقني شخص يكون صافيا على شاكلتك، فأنت تدرك ... أدركت فعلا أن (عالما مسلما) لا تعوزه الشجاعة لرفض المشاركة في تدنيس طلبته الإدارة وحسب بل ولإخفاء هذا العيب عن أعين

الناس فضل أن يجر في تدنيسه (شخصا صافيا). لم أعرف ما هو الاشمئزاز الذي تحملته لأقول بأدب ل (العالم): - وأنت؟ هل أنت مرغم على الذهاب؟ أجابني: نعم فأنت تعرف أن الإدارة تراقبني. هكذا الحال إذن. لقد كان الشيخ يولي حكم الرجال والإدارة أهمية أكبر مما يولي أهمية لحكم الله تعالى ومراقبته. رأيت أنه كان محرجا كثيرا وكان يثير الشفقة أمامي فلم أجرؤ على أن أقضي عليه بأن أقول له مثلا أني مراقب من الإدارة أكثر وأن حالتي المادية وحالة أسرتي كانت أصعب وأقسى بكثير من حالته. فأجبته ببساطة: - الشيخ، أنا لا أعتقد أني مضطر أن أشارك في تدنيس المقبرة، إلى اللقاء. هل شارك الشيخ شخصيا في هذا العمل الشنيع أم هل اتعظ من موقفي فاستخلص منه درسا؟ لا أعرف ولا يمكن أن أؤكد مشاركته أو أن أنفيها. أهل تبسة يعرفون. مهما يكن من أمر فإن من الواجب بسط هذا (اليوم المشهود) في خضم خطة السياسة الاستعمارية في الجزائر حتى نفهم المأساة التي أقدم لمحة عنها هنا: إنه يوم سعت فيه القيادة الاستعمارية، التي تضم ماسينيون، للتعرف على حال الوسط الإسلامي وقد سجلت ارتياحها في مساء ذلك اليوم، وكل شيء عاد إلا بعض النقاط) (كما يقال). وقد كنت حتما إحدى تلك النقاط في نظر الإدارة ووضعي الشخصي سيتأثر بذلك وأحس به.

كنت أكسب خمسمائة فرنك كان أصدقائي يقومون بجمعها ببعض الصعوبة لدى أولياء تلاميذي، لقاء الدروس التي كنت أقدمها. استقدمت رغم ذلك زوجتي التي كانت بدورها تعطي دروسا دون مقابل لصالح البنات في فن تسيير المنزل والحياكة. في غضون ذلك اختمرت فكرة طيبة في ذهن الشيخ العربي. فقد اقترح علي ترجمة مقدمة مثيرة لكتاب باللغة العربية كان صاحبه، وهو من الحجاز، لاجئا في القاهرة ويحس الأشياء ويقولها بروح نيتشوية (âme nietzschéenne). وكانت رغبة الشيخ هي تعريف الشباب الجزائري المفرنس بهذه المقدمة. استحسنت الفكرة واتفقت مع الشيخ على ترجمة المقدمة على أن أضيف لها جزءا شخصيا. وقد وعد الشيخ بالسعي لطباعة الكتيب من طرف جمعية العلماء المسلمين، فالكل يعرف أني كنت فقيرا خاوي اليدين. اشترط أن ينشر الكتيب باسمه وباسمي، فقبلت. تسارعت الأحداث وأدركت أن لا أحد في الجزائر يعمل على إعداد الوعي الشعبي للمأساة التي ستنفجر. فقررت أن أقوم بالمهمة بنشر هذا الكتيب. قام أصدقائي سي المكي والخالدي ونوري ومشري بدعم مشروعنا. بعد أن فرغنا منه، قدر الشيخ أنه خطير جدا واقترح تغيير النص وتلطيفه. عندما فهمت التعديلات التي اقترحها أدركت أن الشيخ يريد أن يبرز اسمه في كتيب ولكن ليس في كتيب خطير. بيد أن هذه

التعديلات تفقد كل الطابع الذي أردت أن اصبغه على العمل. فرفض الشيخ أن يشارك في مثل هذه الشروط. انتدبنا مشري نوري، أحد أصدقائي، ليعرض الكتيب على اللجنة المديرة لحزب الشعب الجزائري بالجزائر العاصمة حتى يتكفل هذا الحزب بنشره. غير أن اللجنة وبعد عدة لقاءات اكتفت بتهنئتي وبموافاتي برغبتها في عرض الكتيب على أعضائها بعد رجوعهم لأن أغلبهم كانوا في عطلة. هكذا كان القادة الجزائريون يعدون بلادهم للمأساة التي ستنزل عليها وعلى العالم قاطبة. كان الصف في نهايته وكانت الأحداث ترهص بكل جلاء للحرب. لم استطع أن أفعل شيئا لإيصال هذه الرسالة وتبليغها للبلاد. وضعي المادي لم يعرف تحسنا. ظهر إعلان في صحيفة (La Dépêche de Constantine) (برقية قسنطينة) فقمت بمحاولة يائسة في خضم محاولات كثيرة أخرى. فحوى الإعلان هو تنظيم مسابقة لتوظيف حاسب في الدائرة التقنية للجسور والطرقات لمدينة عنابة. تذكرت بصورة مبهمة تكويني التقني فقمت في الحال بتحرير طلب لتسجيل اسمي في هذه المسابقة. تلقيت بعد أيام ظرفا كبيرا حوى برنامج وشروط الامتحان الخاص برسم تصميمات الجسور والطرقات. حسبت أن الأمر مجرد خطأ فذكرت بطلبى الخاص بمسابقة الحاسب. يومان بعدها، أجابني كبير المهندسين في ركن من رسالتي ذاتها بأنه يجب أن (يفهم من عبارة الحاسب

(calculateur) ليس معنى المحاسبـ (comptable) ولكن حاسب في مقاومة المواد). أخذت قلمي مجددا لأنبه السيد المهندس أني لم أقل له مطلقا أني أجهل معنى مقاومة المواد كما أني أعرف جيدا الفرق بين - -المحاسب والحاسب، وأني أنا شخصيا مهندس وأن ترتيبي كان الأول في الامتحان الكتابي لمنصب حاسب في الدائرة التقنية للمدفعية، علاوة على أني لم أطلب منصب عمل وإنما التسجيل في مسابقة ستتكفل وقتها، بإقصائي لعدم كفاءتي، إذا كان ذلك هو المآل. وفي خضم تسارع الأحداث، جاءني خالدي ليخبرني بإعلان الحرب في هذا اليوم المشهود من الفاتح من سبتمبر 1939، مما فاقم من حالتي المزرية وزادها صعوبة. علي أن أضيف أنه أسبوع قبل إعلان الحرب، كان بن جلول قد أعد تصريحا معبرا عن الأحداث، فقمت برد مفحم على تصريحه. غير أن صحيفة (le Parlement) (البرلمان)، لسان حزب الشعب، إضافة إلى صحيفة تونسية أرسلت لها الرد، رفضتا نشره. لقد وضعت وطنية الأهالي نفسها خارج المعترك. أيام بعدها، لم أجد ولو لترا من بترول الاستصباح عند قريبي عبد الحفيظ مسكالجي الذي اكتفى عندما لقيته ذات مساء بأن قال لي بأنه لم يتزود بعد بالبترول من المستودع. فهمت المقصود. انقطع التيار الكهرباء ذلك المساء، فقضيت وزوجتي الليلة على نور شمعة. استعد المسلمون الأغنياء للسوق السوداء. كان الشخص

الوحيد الذي قال لي كلمة مشجعة في تلك الأيام القاتمة هر قريبي صالح حواس الذي أدرك ربما الهم الذي يكدر أيامي وينغصها: - لا تخش شيئا سنتقاسم كسرة الخبز سويا. المسلمون الفقراء، من جانبهم، استعدوا للحرب. ولإذكاء حماسهم، قام الدكتور بن جلول وفرحات عباس بالانخراط في الجيش الفرنسي. تلقى والدي في نفس اليوم برقية تعيد إدماجه في وظيفته -بعد سبع سنوات من السكوت المنظم- وتلقيت من جهتي، كتيبا يتضمن الرد على النازية. فهمت جيدا المساومة المقترحة علي ضمنيا. إلا أنني اعتقدت من الواجب أن لا أحذو حذو بن جلول وفرحات عباس، والنتيجة هي أن والدي لم يعد إلى عمله. أما أنا فقررت أن أغادر الجزائر إلى فرنسا ومعي زوجتي. وقبل ذلك كان علي أن أجني بعض الذكريات السيئه بتبسة. كنت قد أنشأت (جمعية حماية الفتاة المسلمة). فالعديد من الفتيات العذارى يشتغلن كخادمات لدى عائلات يهودية. وكان من العادي أن ينادى على هاته الشابات باسم (فاطمة) وكن في أغلب الوقت يحملن سفاحا، ولم أجد مسلما واحدا يقترح وسيلة لإنقاذ الفتيات المسكينات من وضعهن المزري ك (فاطمات) وكأمهات عازبات. قمت، والحال هذه، بتحرير أنظمة مشروع الجمعية بطريقة يمكن تعميم التجربة تدريجيا في كامل الجزائر. وكان النظام بسيطا: إيجاد مأوى لهؤلاء الفتيات اللواتي سيقمن تحت مراقبة زوجين مسلمين طاعنين في السن تقيين إما بالعمل باليوم عند عائلات مسلمة محترمة أو القيام بغسل الثياب التي تجلب لهن.

وتقترح الأنظمة كذلك جائزة سنوية تخصص ل (الشابة المسلمة العفيفة). وجاء اليوم الذي دعوت فيه سكان تبسة، وكان من بينهم بالطبع الشيخ العربي التبسي، لتلاوة أنطمة مؤسستنا والإعلان عن تأسيسها. كانت قاعة (نادي الشباب) غاصة بالحضور. تلوت مواد النظام وعلقت عليها. وتقبل الناس كلهم الفكرة وصفقوا لها. أخذ الشيخ العربي فجأة الكلمة. وكنت انتظر بديهيا منه ذلك معتقدا أنه سيدعم مبادرتنا. ولكنه قام بالعكس مبررا موقفه بأن (مؤسسة حماية الفتاة المسلمة) غير مناسبة. فالسكان يجدون مشقة في دعم المدرسة. لم أفهم مقولة علي بن أبي طالب: (كلمة حق أريد بها باطل)، أفضل من ذلك اليوم. ذهلنا أنا وأصدقائي. وفهمت ما يجول في نفس (عالم) مسلم: المهم عنده هو المجابهة ومقابلة هيبته الشخصية بهيبتي في نشاط ارتأى فيه غياب مصلحة له ك (مستشار) أو (رئيس). وأسفاه على العمل الخيري حتى وإن تعلق بالشرف، المهم هو أن يبرز الشيخ هيبته وسمعته. ها هي تجليات (الثقافة الإسلامية). وعند خروجنا من الاجتماع قام شاب متعصب بترجمة شعوره تجاه الشيخ بصوت مرتفع. وتحضرني ذكرى أخرى. عندما حررت رسالتي للشعب الجزائري، فيها عن (نصف ساعة من الواجب)، وهي فكرة كررتها عشر سنوات

فيما بعد في كتابـ (شروط النهضة). غير أني أردت أن أجسد مفهوم (استعمال) الوقت هذا في إنجاز من شأنه أن يشرح أهميته من خلال مقارنة الفعل والكلمة. فمن ضمن المقابر الموجودة بتبسة، كانت مقبرة المسلمين أكثرها إهمالا دون سياج ولا ممرات: كانت عبارة عن مغرغة للموت عوض أن تكون مكانا للراحة الأبدية. ولاحظت، من جهة أخرى، أن العديد من شباب تبسة يحدوهم حماس وطني فياض فيستهلكونه في الكلام في المقاهي. فارتأيت أنه من المفيد استعمال هذا الحماس فيصبح تدريبا نفسيا وإنجازا ميدانيا في آن واحد. فاقترحت على بعض هؤلاء الشبان تخصيص (نصف ساعة) من كل جمعة للاعتناء بالمقبرة ووعدتهم بالسعي لإيجاد المال والبنائين لبناء سور إن هم جمعوا كل الحجارة المنتشرة داخل المقبرة. تبخر (الحماس الوطني) بمجرد أن أصبحت القضية عملا عوض مجرد كلام. فأدركت أن الناس في الجزائر تحب أن تتكلم عن (الوطن) ولا تحب خدمته. هذه بإيجاز شديد وبصورة ملخصة الذكريات التي حملتها معي من بلادي وأنا أغادرها متجها نحو فرنسا. في مثل هذه الظروف غادرت الجزائر في منتصف سبتمبر 1939، بعد أن قمت بحل العديد من المشاكل الإدارية والمالية التي فرضها علي هذا السفر. عندما أبحرت السفينة من ميناء عنابة، كنت مستندا على متراس ظهر السفينة، تراب الجزائر ينمحي أمام عيني تدريجيا في الأفق.

ثم صعد من أعماقي، التي حملت أكبر مقدار من النفور والاشمئزاز لم يحملها أبدا إنسان وهو يغادر وطنه، شيء كالذكر، فتمتمت: - يا أرضا عقوقا! تخصين الرجل وتهينينه. يا أرضا قاسية! تقتلين أبناءك وتتركينهم للجوع وتطعمين الأجنبي! أتمنى أن لا أراك ولن أعود إليك أبدا حتى تصبحي حرة! تمتمت هذا الدعاء بينما كانت النظرة الأخيرة لأرض ميلادي تبتعد وتنمحي في الأفق. تذكرت هذا الدعاء، كما أتذكر دوما أمنيتي في جوان 1936: - ربي لا أريد نصيبي في هذه الدنيا! فمنذ ثلاث سنوات خلت وأنا أتحقق من أن دعائي هذا مستجاب, غير أني لم أصدق مطلقا أنه سيتحقق طول هذه المدة: فأنا لم أحصل من هذه الدنيا سوى تجربة محزنة تثير الرثاء. غصت في مغامرة ستطول سبع سنين، بينما كان العالم يغوص في الحرب العالمية الثانية.

الحرب

الحرب وافتني حماتي بتكاليف السفر. وقام عزوز خالدي، الذي سافر معنا لاستئناف دراسته في الطب، بإضافة باقي المبلغ لأننا انتظرنا مطولا بعنابة الباخرة التي تقلنا إلى مرسيليا. وصلنا فرنسا التي كانت تعيش في أجواء ما سمي (الحرب الطريفة) (Drôle de guerre) . وكان علي أن أضمن بسرعة لقمة عيشي. اعتقدت أن الكثير من التقنيين سيجندون مما يسمح لي بتجريب حظي. أخبرني أحد معارفي بأن شركة سينمائية تبحث عن (مهندس صوت مبتدئ). توجهت لهذا الغرض إلى وكالة هافاس. وبما أني كنت مجربا فقد اتخذت بعض الاحتياطيات، فلم أشر إلى اسمي إلا بالرمز (م). فيمكن بالتالي أن يكون الاسم لكورسيكي أو إيطالي. لم أخطئ حتى وإن فشلت المحاولة. فقد ردت علي الشركة وهي ستيديوهات (فوكس أوروبا). وطلب مني أن أتقدم في أقرب وقت ممكن إلى المديرية. وصلت باريس أياما بعدها واتصلت بمديرية (فوكس أوروبا). استقبلت بأدب جم. ثم طلب مني المدير بعض التوضيحات حول حياتي ومساري الدراسي. ودعاني إلى تحرير نبذة عنهما في الحين على استمارة معدة سلفا.

كان علي أن أشير إلى أن اسمي مالك وأني ولدت بقسنطينة. لم يبق ثمة شك ممكن: أنا من (الاندجين). ومن حسن حظ المدير أني سجلت نفسي بصفتي رجلا متزوجا. وكانت هذه المعلومة بمثابة قارب نجاة تعلق بها بكل قوة. فقال لي: - أأنت متزوج؟ أدركت الأمر وأجبته بهدوء: - للأسف، نعم، السيد المدير! - الأمر مزعج كثيرا لأننا نبحث عن أعزب حتى نقضي له أجرة (المبتدئ). - فليكن السيد المدير، يجب أن أقول لك أن الأجرة لا تهمني مطلقا ولكن المهنة هي المهم لأني لا أريد أن أضيع تكويني كمهندس. غير أن محدثي بقي متعلقا بقارب النجاة وخاطبني بأدب: - أنت تعي أنه لا يمكن أن نسدد أجرة رجل متزوج وكأنه مبتدئ. عزمت على الإلحاح غير أني رأيت في ملامح المدير إحراجا واضحا إلى حد قلت في نفسى: ربما وصلته تعليمات بشأني بعد جوابه الإيجابي على رسالتي. فقررت أن لا أكون أكثر قسوة على مدير (فوكس أوروبا) ففارقته بأدب وكان سعيدا ورافقني حتى باب الخروج. بقيت عاطلا دون عمل وبدأت تكاليف المعيشة ترتفع. كان مصنع (غرو دي مونج) في بلدة درو يبحث عن كهربائيين. فتقدمت له أيضا. استقبلت بأدب وتم تسجيل اسمي وعنواني.

ولم أنل شيئا. حاولت كذلك في جميع الاتجاهات ولم أحصد إلا الفشل والخيبة. تحفزت لإعلان آخر فقمت بمسعى كاد أن يكلل بالنجاح بسبب تقاعس ماسينيون ربما. كانت شركة (العتاد الهاتفي) تطلب تقنيين وكانت واحدة من أكبر المؤسسات الصناعية في منطقة باريس. وردا على رسالتي طلب مني التقدم إلى مديرية المستخدمين التقنيين. فاتصلت ذات صباح بالمؤسسة التي تقع خارج باريس. كانت الحراسة العسكرية منتشرة مما يوحي بأن مؤسسة (العتاد الهاتفي) تعمل في التسليح. ومن حسن الحظ، الذي كاذن سيفيد أي إنسان غيري، فقد كان المدير نفسه طالبا سابقا في المدرسة التي تكونت بها، أي كان زميلا لي، إن جاز القول. فبعد أن عرف صفتي كطالب سابق للمدرسة الخاصة للميكانيكا والكهرباء، اتخذ الحديث بيننا صبغة الكلام بين زميلين. في الأخير قال لي المدير: - بما أنك انتميت إلى المدرسة الخاصة للميكانيكا والكهرباء، فإن تكوينك جيد في الرياضيات فهل تقبل بمنصب مراقب التصنيع؟ تتصورون كيف أقبل هذا الاقتراح، الأول الذي يقدم لي منذ نهاية دراستى. بيد أني قلت له حفاظا على الأصول: - السيد المدير، إذا قدرتم ورأيتم أني أهل لهذا المنصب الذي أجهل صعوباته، فإني من جهتي أؤكد لكم فقط كل إرادتي الحسنة.

وبما أن التوقيت شارف على منتصف النهار، فقد طلب مني المدير أن أعود بعد الظهيرة لأتصل بالمصلحة التي عينها لي، وأخبرني بأنه سيعطي التعليمات الضرورية في هذا الشأن. وأدع القارئ يتخيل هنا الحالة النفسية التي كنت فيها إثر هذا اللقاء. عدت حوالي الساعة الثالثة بعد الزوال. كانت قاعة الانتظار واسعة ومضيئة جيدا بفضل نوافذ كبيرة كانت تطل على حقل ظريف. طاف بي الخيال في هذا المشهد الرائع وسرح، وفكرت في ألف مشروع صغير فيما يخص حياتي العائلية في انتظار أن تضع الحرب، التي طالت في رأي، أوزارها. غير أن الساعة قاربت الخامسة دون أن يعود الحاجب الذي سلمت له بطاقتي. بدأ صبري ينفد. لسوء الحظ لم يتم تقديمي لمصلحتي بل ليخبرني المدير بفظاظة أن شركة (العتاد الهاتفي) لا توظف حاليا مستخدمين تقنيين ولكنها تستعمل عمالا بسطاء. ثم واصل: - إذا أردت الاشتغال على آلة ... غير أني قاطعته وتناولت أوراقي من يديه. فهمت المسألة: لقد مر ماسينيون من هنا أيضا بين منتصف النهار والساعة الثالثة بعد الزوال. ... ببلوات (فرنسا) في 13 ماي 1951 الساعة الخامسة و 17 دقيقة. وتمت الترجمة بالجزائر في 28 رمضان المبارك 1417 الموافق ل 21 أكتوبر 2006.

فهرس الأسماء

فهرس الأسماء

_ -أ- الأطرش، السلطان باشا: 33. الإبراهيمي، الشيخ: 74 - 75 - 116 - 117 - 150. ابن باديس، الشيخ عبد الحميد: 44 - 45 - 65 - 84 - 91 - 116 - 157 - 150 - 149 - 119 - 118 - 117. ابن تاشفين: 161. ابن رفادة: 83. ابن سعود: 72. العيمش: 58 - 62. إيبعزيزن: 23. -ب- بن عبد الله، إبراهيم: 32 - 40 - 55 - 67 - 145. باتيستيني (39 - 151: (Batistini) . بن أحمد، علي:42 - 48 - 89 - 95 - 96 - 98 - 99 - 100 - 112 - 146 - 128 - 127 - 114. بن جامع: 88 - 149 - 154 - 171 - 172. بزيكاري (162: (Psicari) .

_ بن ساعي، الأخوان محمد وصالح: 6 - 22 - 25 - 26 - 29 - 31 - 32 - 35 - 36 - 41 - 42 - 45 - 46 - 48 - 49 - 55 - 59 - 60 - 63 - 64 - 81 - 112 - 111 - 110 - 108 - 100 - 99 - 98 - 97 - 96 - 95 - 93 - 89 - 153 - 146 - 142. بن بلاد: 24 - 34 - 53 - 58 - 62. بن غراب، الشيخ: 139. بلافريج: 24 - 29 - 64 - 37. بن يحي، سعدي: 161 - 165 - 170. بلقادي، المحامي: 116. بلوم، ليون (L. Blum) 147 - 114 - 32: بومنجل:22 - 27 - 28 - 32 - 34 - 35 - 37 - 52 - 53 - 56 - 58 - 60 - 145 - 128 - 112 - 82 - 66 - 65. بن لهوان: 24. بن جلول: 13 - 65 - 87 - 88 - 89 - 90 - 91 - 92 - 95 - 96 - 108 - 149 - 148 - 128 - 127 - 126 - 117 - 116 - 115 - 114 - 111 - 110 - 175 - 172 - 171 - 170 - 166 - 165 - 162 - 155 - 154 - 153 - 150 - 181 - 180. بن سليمان: 24. بواعتيني: 94 - 95 - 120 - 123 - 124. بومالي، الدكتور: 88 - 89 - 90 - 154.

_ بن يوسف: 24 - 27 - 28 - 34 - 36. بورقيبة: 24. بوقادوم:112 - 113. بولس، القديس 79: (Saint Paul). بيجو (126: (Bugeaud). - ت- توريز: 129. تيموتي (79: (Timothée). - ث - ثامر، الدكتور لحبيب: 24 - 56 - 57. - ج - جوزي: 164. الجندي: 87. الجنيدي:87. جيلاني: 58 - 62. -ح- الحسيني، الحاج أمين، (المفتي الأكبر): 96. حواس، صالح: 181. حلايمية، الشريف: 139.

_ - خ - خديجة (زوجة بن نبي الفرنسية): 74 - 75 - 76 - 77. خير الدين، الشيخ: 118. - د - دراز، الشيخ: 129. الدرويش: 83. دي فركر، الأب: (Père de Foucauld). 26 - 28 - 118 . - ر- راجف: 58. رضا، رشيد: 101. رينان 162: (Renan). - ز- زكرياء، مفدي: 43. زين الدين، فريد: 33 - 48 - 95. -س- ساحلي: 25 - 34 - 53. ستافيسكي: 78. سومر: 58. سيسبان: 153. سليب فريد: 33 - 48.

_ -ش- شوطان (90 - 87: (Chautemps). شريط: 101. شكيب أرسلان: 33. - ص - صادق، الشيخ: 86 , - ع- عبابسة: 66. عباس، فرحات: 27 - 29 - 91 - 92 - 111 - 114 - 115 - 116 - 126 - 181 - 175 - 165 - 155 - 154 - 147 - 135. عبد الجليل، الأب 147 - 26 - 25: (Le Père Adbeljalil). عفيفي، الشيخ: 129. العقبي، الشيخ: 43 - 44 - 45 - 46 - 47 - 49 - 63 - 66 - 67 - 68 - 166 - 134 - 127 - 117 - 116. - غ - غودان 43: (Godin). - ف - فاغنر: 54. الفاسي، محمد: 24 - 28 - 29 - 34 - 37 - 54 - 55 - 56 - 57 - 58. فيصل، الأمير: 84. فيوليت 43 - 145: (Violette).

_ - ك - كموش: 154. كحول: 126 - 134. كسو: 114 - 123. - ل - لبنا، حسن: 156. لحمق، حسين: 23. لوكاش، برنار 158 - 157 - 147: (B. Lecache). لوكسي، الشيخ علي: 174. - م - ماسينيون، لويس: 15 - 22 - 24 - 25 - 26 - 28 - 29 - 30 - 35 - 36 - 101 - 100 - 99 - 97 - 68 - 65 - 57 - 55 - 52 - 46 - 41 - 39 - 37 - 143 - 116 - 111 - 110 - 109. - 155 - 151 - 150 - 146 - 145 - 144 - 188 - 187 - 177 - 170 - 169 - 166. مورالي: 90. مسكادجي: 90. الميلي، مبارك: 166. موفق، الدكتور: 23 - 30 - 32 - 34 - 58. العمودي، لمين. 32. مارسولين 55: (Marcellin). ماريتان 80: (Maritain).

_ مورينو 23: (Morinaud). ميرانتي 126:. (Mirante). مشري، نوري -: 178 - 179. موسوليني: 84 - 148 , مصالي الحاج: 23 - 30 - 32 - 34 - 36 - 58 - 59 - 60 - 61 - 62 166 - 128 - 128 - 116 - 113 - 95 - 93 - 82 - 66 - 65 - 64 - 63. مشيري، شريف: 22 - 23. موحاتة، الحاج: 155. مييو 166: (Millot). المكي الشاذلي: 173 - 178. - ن - نارون: 23 - 32 - 34 - 52 - 53 - 58 - 65 - 119. نايجيلان 155 - 153: (Naegelan). نويرة، الهادي: 24 - 34 - 82. - و - ولد فيلالي، محمد: 89. الورتيلاني، الفضيل: 119. - ي - يحيى، الإمام: 83 - 84. يعلاوي، الشيخ عبد الرحمان: 116.

طباعة دار الأمة 2007 ص. ب 109 برج الكيفان 16120 الجزائر هاتف / فاكس 04 22 0210

رأيت أشياء كثيرة، منذ عشرين سنة. لقد شبعت لحد التخمة فأنا كالنحلة عندما تستبد بها الكظة من عسلها وتستفيض الجني وتدخر جنيها. للأسف فإن (العسل) الذي أضعه بين دفات هذه الصفحات مصدره ليس رحيق الزهور العبق ولكن خلاصة ما يختلج في نفس أريد لها التحطيم عبر الإكراه الحسي والسم المعنوي. فقصة هذه النفس وتجربتها منذ عشرين سنة هي نفسها قصة هذا الكتاب، إنها باختصار (اعترافات) أو (مذكرات)، وقد استهوتني عناوين كثيرة أسم بأحدها هذا الكتاب، غير أني اخترت عنوانا يلخصها جميعا: (العفن). ويوافق هذا العنوان بالفعل الانطباع الأكيد الذي أحمله معي من متحف أو معرض يحويان وجوها وأشياء أعرفها منذ عشرين سنة، وأجدها مرتبة ومصنفة بطريقة استذكارية معززة بشروحها وبطاقاتها الخاصة: فنحن الآن أمام مجموعة من (لوحات الخونة ...) مثلا، وبجانبها، لوحة خاصة بـ (أصدقاء المسلمين) من أمثال (ماسينيون)، أما في هذا الجانب فتوجد قاعة خاصة (بأشياء القابلية للاستعمار وقصص الأهالي) سكان المستعمرات، ونقف بعدها أمام (قاعة الاستعمار والإحسان المسيحي)، أما في هذا الركن المظلم المناسب، فنجد (قاعة الأسرار اليهودية)، وتليها (مخابر السموم السيكولوجية).

§1/1