منهج الإمام جمال الدين السرمري في تقرير العقيدة

خالد المطلق

المقدمة

العام الجامعي 1434 - 1435 بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] أما بعد: فإن من سنن الله في خلقه أن الحق والباطل في صراع دائم وحرب مستمرة، وكانت الأمم السابقة إذا استشرى الضلال بينها واستحكم طوقه، آذن الله له بالزوال، ببعثة رسول من الرسل يجدد للناس ما اندرس من الدين، ويعيد للحق دولته وكيانه. وإن من رحمة الله بهذه الأمة، أن هيأ لها على مر العصور والدهور، واختلاف الأحوال والأمور، طائفة على الحق منصورة، متمسكة بدين ربها، ومنهج أسلافها، لايضرها من خالفها أو تخلف عنها، قادتها أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، ممن حملوا على عواتقهم دعوة من ضل إلى الهدى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بهدي المصطفى أهل الضلالة والعمى، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، بنور علمهم تحيا الأمة ويندحر ظلام البدعة، بهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وبهم قام الكتاب وبه قاموا. ويعد القرن الثامن - وهو القرن الذي عاش فيه الإمام يوسف السرمري - أحد القرون العصيبة، والفترات التي استوى فيها سوق البدعة، وحلت الفرقة بين هذه الأمة، وتحقق في أهل

السنة وصف الغربة. وفي هذا الجو المشحون بالبدع , كان للإمام جمال الدين أبي مظفر يوسف السرمري - رحمه الله - جملة من المؤلفات في تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة والدفاع عنها حتى تململ من منهجه فيها المتهالكون من أهل الأهواء والبدع, فقال عنه القِذِّيف الشَّغَّاب زاهد الكوثري (¬1): "وكان صاحب الترجمة -يعني الإمام السرمري- بعيداً عن علم الكلام وأصول الدين منصرفاً إلى مجالس الرواة يسير وراء ابن تيمية في شواذه حذو النعل بالنعل كغالب مقلدة الرواة من أهل زمنه ... " (¬2). ومن تلك المؤلفات منظومة [الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية] رد فيها على تقي الدين السبكي في أبياته التي لمز فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ذكرها الحافظ ابن ناصر الدين في [الرد الوافر] وقال: "ولقد أحسن في هذا الرد المقبول وهدم تلك الأبيات بنظام المنقول وجلال المعقول" (¬3). ومن مؤلفاته [نهج الرشاد في نظم الاعتقاد] وهي منظومة في عقيدة أهل السنة والجماعة, قد حوت درراً ثمينة وجواهر نفيسة, مع عذوبة في النظم وجزالة في المعاني, أورد فيها عقيدة أهل السنة في (أسماء الله وصفاته, وكتاب الله, والقضاء والقدر, والمحرمات, والتعامل مع ولاة الأمر, واليوم الآخر, والإيمان بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - , والصحابة الكرام - رضي الله عنهم -). ومن مؤلفاته كتاب [إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة] وهو كتاب في أدلة الأحكام من القرآن والسنة معاً, لكن قد بدأه المؤلف بكتاب الإيمان والسنة فقال: (وافتتحته بكتاب الإيمان والسنة اتباعاً لطريقة السلف, وترغيباً لمن بعدهم من الخلف) (¬4). ¬

(¬1) سيأتي الحديث عنه -إن شاء الله-. (¬2) انظر: هامش (لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ لابن فهد) ص 161، للكوثري, دار إحياء التراث العربي. (¬3) الرد الوافر على من زعم أن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر ص 232، لابن ناصر الدين الدمشقي, تحقيق: زهير الشاويش، الطبعة الرابعة 1426، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، عَمان. (¬4) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة ص 72، لجمال الدين السرمري, تحقيق: أبي عبدالله حسين بن عكاشة رمضان، الطبعة الأولى 1427، دار الكيان، الرياض.

ومن مؤلفاته [كتاب نشر القلب الميت بفضل أهل البيت] , وكتاب [غيث السحابة في فضائل الصحابة] , وغيرها؛ إضافة إلى بعض المسائل العقدية التي أشار لها في كتبه المؤلفه في النحو والحديث والطب وغير ذلك, والإمام جمال الدين السرمري من المكثرين في التأليف, فمؤلفاته تزيد على المائة مصنف, قال ابن حجي (رأيت بخطه ماصورته: مؤلفاتي تنيف على مائة مصنف كبار وصغار, في بضعة وعشرين علماً, ذكرتها على حروف المعجم في "الروضة المورقة في الترجمة المونقة") (¬1). وكان من جملة هذا المصنفات في باب الاعتقاد كتاب [خصائص سيد العالمين وماله من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام] الذي جمع فيه المؤلف ما من به الله تبارك وتعالى على رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - من معجزات عظيمة لم يسبق لها مثيل، وآيات باهرات توضح وتبين لنا مقامه وفضيلته وعلو قدره، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين وأنه سيد الأولين والآخرين. وإن القارئ للمخطوطة ليشعر من صفحاتها الأولى بعظيم قدرها, فقد جمع فيها بين الرواية والدراية , كيف لا يكون وهو من أهل الحديث, كما أن موضوعها مهم في زمن كثر المخالفون فيه من أهل الديانات الباطلة والمنسوخة الطاعنون في الرسالة وفي القرآن بل وفي كل الشريعة والدين, وإن معرفة فضائله - صلى الله عليه وسلم - وما أيده الله من الآيات وخوارق العادات من الأمور العظيمة التي تطمئن بها النفوس وتركن بها القلوب إلى تقبل ما جاء به وتطبيقه والسير على منهجه - صلى الله عليه وسلم -. فلذلك - وبعد الاستخارة والاستشارة - اخترت أن يكون موضوع بحثي لمرحلة "الماجستير": [منهج الإمام جمال الدين السُّرَّمَرِّي في تقرير العقيدة, مع تحقيق ودراسة كتابه "خصائص سيد العالمين وما له من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام"]. ¬

(¬1) شذرات الذهب (5/ 249) , والمنهج الأحمد للعليمي (5/ 144).

- أهمية الموضوع وأسباب اختياره

- أهمية الموضوع وأسباب اختياره: 1 - مكانة الإمام جمال الدين السرمري رحمه الله، والجهد العلمي الذي قدمه للأمة، ففي دراسة منهجه إبراز لهذا الجهد وإظهار له، ومحاولة جمع ماتفرق من هذه المادة العلمية ليسهل الرجوع إليها والاستفادة منها. 2 - أن الحافظ جمال الدين السرمري رحمه الله من الأعلام في مدرسة شيخ الاسلام ابن تيمية كما كانت له جهود في الدفاع عن منهجه رحمه الله، ومن ذلك [الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية]، وهي منظومة يرد بها على أبيات السبكي، قال ابن ناصر الدين في [الرد الوافر]: "ولقد أحسن في هذا الرد المقبول وهدم تلك الأبيات بنظام المنقول وجلال المعقول" (¬1). 3 - أن دراسة منهج مثل هؤلاء الأئمة تبرز عقيدة السلف غضة طرية، بعيدة عن التعقيدات الكلامية والمقدمات المنطقية، وبهذا يرتبط المسلم بسلفه الصالح. 4 - هناك تشابه كبير بين الفترة التي عاشها هذا الإمام وبين عصرنا الحاضر، من حيث انتشار البدع، وغلبة الأهواء، فدراسة منهجه في تقرير العقيدة، قد تعين على تصحيح الواقع العقدي للأمة. 5 - كون الموضوع شاملاً لجل أبواب العقيدة، مما يستلزم من الباحث أن يمر أثناء بحثه على كثير من المسائل العقدية، فيعود ذلك عليه بالنفع الكبير. 6 - أن هذا الكتاب - حسب علمي - لم يسبق أن طبع أو حقق، فقد بحثت عنه في الجامعات والمكتبات العامة داخل السعودية وخارجها ولم أجد له تحقيقاً أو طباعة. 7 - حسن التقسيم ودقيق الاستنباط من المؤلف - رحمه الله -، فقد جعل لكل نبي فصلاً يذكر فيه ما أوتي من المعجزات ثم يورد نظائر هذه المعجزات التي وقعت لنبينا صلى الله عليه وسلم أو الكرامات لصالحين من أمته ثم يوازن بينها ويستنبط فضله صلى الله عليه وسلم، ¬

(¬1) الرد الوافر ص 232.

- الهدف من الدراسة

ثم ذكر بعد ذلك فصلاً أورد فيه ما اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم من المعجزات والمزايا الكريمة مما فاق به عليهم. 8 - إيراد المؤلف لجملة من المسائل المشكلة والجواب عنها، مثال ذلك قال رحمه الله: "فإن قيل: في قوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: من الآية 26] وأن الله سبحانه استجاب له فأغرق الأرض ومَن عليها دليل على أن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان مُرسلاً إلى جميع أهل الأرض فكيف يقال: بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - وحده أُرسِل إلى الناس كافةً، فالجواب. . . " (¬1)، والكتاب مملوء بـ (فإن قيل/ فالجواب). 9 - أن النسخة الأصل نفيسة جداً وعليها قيد سماع المؤلف وإجازته، ونسخت في سنة (770) أي قبل وفاة المؤلف بست سنوات. 10 - لم يقتصر المؤلف - رحمه الله - في كتابه على سرد الأحاديث والآثار وإنما كان له شرح وبيان في كثير من المواضع، والكتاب فيه تحقيق كبير فالمؤلف يمايز بين معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وبين معجزات كل نبي ثم يبين الأمور التي تميزت بها معجزاته صلى الله عليه وسلم، ويورد المسائل المشكلة ويجيب عنها، إضافة إلى مايذكره من الفوائد والاستنباطات. - الهدف من الدراسة: 1 - التعريف بالإمام جمال الدين أبي المظفر يوسف السرمري - رحمه الله - ومكانته وآثاره العلمية، وإبراز منهجه في تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة، والدفاع عنها. 2 - إخراج هذا المخطوط الجليل ليكون في متناول أيدي الدارسين والباحثين للوقوف عليه، والاستفادة مما جاء فيه. ¬

(¬1) [ق 7/ظ].

خطة البحث: تشمل على مقدمة، وقسمين، وخاتمة.

خطة البحث: تشمل على مقدمة، وقسمين، وخاتمة. المقدمة: وتشمل أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، وخطة البحث، والمنهج المتبع فيه. القسم الأول: منهج الإمام جمال الدين السرمري في تقرير العقيدة، وفيه سبعة فصول: الفصل الأول: عصر جمال الدين السرمري وحياته، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: عصر جمال الدين السرمري. المبحث الثاني: حياته الشخصية. المبحث الثالث: حياته العلمية. الفصل الثاني: منهج جمال الدين السرمري في التلقي والاستدلال، وفيه مبحثان: المبحث الأول: مصادر جمال الدين السرمري في التلقي. المبحث الثاني: منهجه في الاستدلال. الفصل الثالث: منهج جمال الدين السرمري في تقرير التوحيد، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: توحيد الربوبية. المبحث الثاني: توحيد الألوهية. المبحث الثالث: توحيد الأسماء والصفات. الفصل الرابع: منهج جمال الدين السرمري في سائر أصول الإيمان، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: الإيمان بالملائكة والإيمان بالرسل. المبحث الثاني: الإيمان باليوم الآخر. المبحث الثالث: الإيمان بالقضاء والقدر. الفصل الخامس: منهج جمال الدين السرمري في مسائل الإيمان، وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: مسمى الإيمان. المبحث الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه. المبحث الثالث: الاستثناء في الإيمان.

المبحث الرابع: الكبيرة وحكم مرتكبها. الفصل السادس: منهج جمال الدين السرمري في الصحابة والإمامة، وفيه مبحثان: المبحث الأول: الصحابة. المبحث الثاني: الإمامة. الفصل السابع: موقف جمال الدين السرمري من أهل الأهواء والبدع، وفيه مبحثان: المبحث الأول: لزوم الجماعة وذم الفرقة. المبحث الثاني: موقفه من أهل البدع. القسم الثاني: تحقيق كتاب "خصائص سيد العالمين وما له من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام" مقدمة التحقيق: وفيها ثلاثة مباحث: المبحث الأول: التعريف بالكتاب، وفيه سبعة مطالب: المطلب الأول: اسم الكتاب. المطلب الثاني: توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف. المطلب الثالث: موضوع الكتاب، ومجمل مباحثه. المطلب الرابع: أهمية الكتاب، وقيمته العلمية. المطلب الخامس: منهج المؤلف فيه. المطلب السادس: مصادره في كتابه. المطلب السابع: تقويم الكتاب. المبحث الثاني: التعريف بالخصائص والمناقب والمعجزات. المبحث الثالث: وصف النسخ الخطية. الخاتمة: وفيها النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا البحث.

منهجي في البحث

منهجي في البحث: ويكون على المنهج الوصفي التحليلي، ويتلخص في النقاط التالية: 1 - استقراء المسائل العقدية التي نص جمال الدين السرمري - رحمه الله - على رأيه فيها، في كتبه، أو الكتب الناقلة عنه، وترتيب هذه المسائل حسب خطة البحث. 2 - دراسة هذه المسائل ونقدها وفق مايلي: أعرض قول جمال الدين السرمري - رحمه الله - في كل مسألة. ب الاستدلال على المسائل بنصوص الكتاب والسنة وكلام أهل العلم. ج بيان مدى موافقة جمال الدين السرمري - رحمه الله - في المسألة لمذهب السلف. 3 - تحقيق المخطوط وفق مايلي: أمقابلة النسخ؛ وقد اتبعت فيها ما يلي: - اعتمدت نسخة "أ" أصلاً، بحيث أشير إلى كل ما زاد عليها؛ إلا إذا كان ما في "ب" صواباً أو الأولى ففي هذه الحالة أثبته في المتن، وما رأيته خطأ أو خلاف الأولى في "أ" أثبته في الحاشية. - كل زيادة عن نسخة "أ" سواء من نسخة "ب" أو من أحد الكتب التي نقل عنها المؤلف أو من عندي، أضعها بين معقوفتين هكذا: [] وأشير في الحاشية إلى أنه زيادة من "ب" أو أحد الكتب أو من عندي. وإذا كانت الزيادة من عندي أقول: ولعل الصواب ما أثبتُّ أو ما أثبتُّه. - إذا كانت الكلمة في إحدى النسختين خطأ أو خلاف الأولى وفي الأخرى صواباً أو الأولى إثباته، فإني أثبت الصواب أو الأولى في الأصل وأشير إلى الأخرى في الحاشية، دون أن أنص على النسخة التي أثبته منها اختصاراً. فإذا أشرت في الحاشية إلى ب فما أثبته في الأصل من أ وإذا أشرت في الحاشية إلى أفما أثبته في الأصل من ب

- كل نص وجد في النسخة الأصل "أ" ولم يوجد في النسخة الأخرى "ب" أضعه بين قوسين هكذا () وأشير في الحاشية إلى أنه ليس في ب. - لم أذكر ضمن الفروق بين النسخ الاختلافات اليسيرة كالاختلاف في وضع النقط مثل "يدركها، تدركها، يحيط، تحيط"، والاختلاف في حرف العطف مثل: "فكل، وكل، فكانتا، وكانتا" مالم يترتب على ذلك اختلاف في المعنى. وأثبت ما كان فيه تغيير لمبنى الكلمة كزيادة حرف ونحوه. - لم أتقيد بالرواية على كِتْبَةِ الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذكره، ولا الترضي على الصحابة - رضي الله عنهم - عند ذكرهم، وهكذا الأمر في الثناء على الله سبحانه عند ذكر اسمه نحو "عز وجل" و "سبحانه وتعالى"؛ لأن ذلك دعاء وثناء أثبته لا كلام أرويه (¬1). ب كتابة النص وضبطه وفق الرسم الإملائي. ج وضع عناوين جانبية للفقرات. د التعليق على مايحتاج إلى تعليق. 4 - عزو الآيات، بذكر اسم السورة ورقم الآية، وجعلت ذلك في الأصل بين معقوفتين هكذا [] حتى لا أثقل الحواشي. 5 - تخريج الأحاديث، فما كان في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بالعزو إليه، وإلا خرجته من المصادر الأخرى، مع نقل حكم الأئمة عليه. 6 - تخريج الآثار ونقل الحكم عليها إن وجد، وعزو النقول والأمثال. 7 - يستثنى مما سبق في التخريج ما ذكر في قسم المنهج من الأحاديث والآثار ضمن نص منقول عن كتاب فإني أكتفي فيها بالإحالة إلى الكتاب المنقول عنه, وذلك لأنها إما منقولة عن كتب قد خرجت تلك الأحاديث تخريجاً مستوفياً ككتاب "الأربعون الصحيحة فيما دون ¬

(¬1) هذه النقطة في المنهج استفدتها من العلامة عمدة المحققين الشيخ أحمد شاكر في مقدمة تحقيقه لسنن الترمذي ص 26 - 27.

أجر المنيحة" وكتاب "إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة" و"كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون", وإما منقولة عن كتاب "خصائص سيد العالمين" وسيأتي تخريجها في قسم التحقيق. 8 - الترجمة لغير المشهورين من الأعلام، وممن تستدعي الحاجة التعريف بهم. 9 - اعتمدت التأريخ الهجري في التراجم وغيرها دون أن أرمز له بحرف (هـ) لأن التأريخ الهجري هو الأصل وهو تأريخ المسلمين، فإن ذكرت تأريخاً سواه أشرت إلى ذلك. 10 - التعريف بالفرق والطوائف والأماكن والقبائل. 11 - التعريف بالمصطلحات والألفاظ الغريبة مع ضبطها. 12 - أشرت إلى صفحات نسخة الأصل "أ" في داخل النص، فأضع معقوفين وبداخلهما رقم الورقة ورمز الصفحة، وقد استخدمت فيها الرموز التالية: ق ... الورقة و ... الوجه ظ ... الظهر وقد قمت بترقيم جميع الأوراق ما عدا الورقة (29) ففي أسفلها خرم. 12 - وضع الفهارس المساعدة على الإفادة من البحث، وهي: أ. فهرس الآيات الكريمة. ب. فهرس الأحاديث الشريفة. ج. فهرس الآثار. د. فهرس الأعلام. هـ. فهرس الفرق والطوائف. و. فهرس الأماكن والبقاع. ز. فهرس المصطلحات والغريب. ح. فهرس الأشعار والأمثال. ط. فهرس المصادر والمراجع. ي. فهرس المحتوى.

لقد كانت أولى الخطوات التي بدأها الباحث بعد تسجيل هذا الموضوع هي البحث عن كتب السرمري المطبوعة والمخطوطة، فبحث لدى المكتبات العامة المحلية والعالمية وفي دور النشر ولدى المهتمين بجمع الطبعات والمخطوطات، فوجد الباحث في مكتبة الأمير سلمان المركزية بجامعة الملك سعود مخطوطة للسرمري بعنوان (المولد الكبير للبشير النذير - صلى الله عليه وسلم -) وهي نسخة مصورة عن المكتبة الأحمدية بحلب، ثم سافر الباحث إلى المدينة فوجد في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة مخطوطة للسرمري بعنوان (فوائد مخرجه عن شيوخ العدل الأمين الثقة بقية السلف جمال الخلف شمس الدين أبي عبدالله محمد بن عبدالعزيز بن علي ابن المؤذن الوراق البغدادي)، كما وجد في مكتبة المسجد النبوي كتاباً للسرمري بعنوان (الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة) وهو مطبوع لكنه قد نفد من المكتبات، ثم قام الباحث بالسفر إلى الكويت فوجد في مكتبة جامعة الكويت مخطوطة للسرمري بعنوان (شفاء الآلام في طب أهل الإسلام)، ووجد في مركز المخطوطات للتراث والوثائق بالكويت مخطوطة بعنوان (منامات رؤيت لشيخ الإسلام ابن تيمية)، بعد ذلك وجد الباحث في فهرس مكتبة الاسكندرية بالاسكندرية مخطوطاً للسرمري بعنوان (عجائب الاتفاق وغرائب ماوقع في الآفاق) فراسل المكتبة طالباً منهم الحصول على المخطوط، ثم وجد الباحث رسالة علمية في الأردن قُدمت لنيل درجة الماجستير في الجامعة الأردنية سنة 1995 م، وكان موضوعها دراسة وتحقيق (شرح اللؤلؤ في النحو للسرمري) لإبراهيم بن حمد الدليمي، وكان كتاب (شرح اللؤلؤ في النحو) موجود عند الباحث بتحقيق أمين عبدالله سالم قبل تسجيل الموضوع، لكنه حرص على تحقيق الدليمي لأنه رسالة علمية من عراقي، وقد يكون وقف على بعض مخطوطات السرمري في العراق فيذكرها في ترجمته، فاستعان الباحث بالشيخ شوكت بن رفقي شوكت من الأردن وهو محقق (كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون للسرمري) للحصول على الرسالة، وقد قام الشيخ شوكت مشكوراً بتصويرها من الجامعة الأردنية وإرسالها إلى الرياض فجزاه الله خير الجزاء. ثم شرع الباحث بالعمل بما لديه مستعيناً بالله طالباً منه التيسير والإعانة والتوفيق، فاستقرأ جميع كتب السرمري المطبوعة والمخطوطة التي وجدها قبل تسجيل الموضوع وبعده، وحاول أن يستخرج

منها ما يتعلق بمنهجه في تقرير العقيدة، كما عانى في بداية بحثه من جمع المتناثر في بطون الكتب عن ترجمة السرمري، وخاصة أن جمال الدين السرمري ممن خمل ذكرهم في العصور المتأخرة عند كثير من الباحثين، فالمادة العلمية في ترجمته تحتاج إلى بحث كثير، ووفِّق بحمد الله وهدايته إلى إثبات مادة وافية في ثبت شيوخه وتلاميذه ومصنفاته وحياته الشخصية، وهو جهد غير منظور لا يدركه إلا من عاناه أو من له باع طويل في هذا المجال. أما ما يتعلق بالتحقيق فقد كان الباحث حين تسجيل الموضوع لم يجد إلا نسخة فريدة لمخطوط (خصائص سيد العالمين) ثم هُدي بتوفيق الله بعد تسجيل الموضوع إلى نسخة أخرى لكتاب (خصائص سيد العالمين) موجودة في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث ومصورة عن مكتبة آستان قدس رضوي المركزية بمشهد الإيرانية باسم (الخصائص والمفاخر)، ولم يكن مركز جمعة الماجد قد أتم فهرسة المخطوطة، فالمخطوطة مسجلة عندهم بعنوانها فقط ولم يذكر اسم مصنفها، ولعلها من المخطوطات الحديثة في المركز، وقام الأخ عادل العوضي مشكوراً بإرسالها إلى الباحث فجزاه الله عنه خير الجزاء، وهذا قاد الباحث للبحث عن نسخ أخرى باسم (الخصائص والمفاخر) في المكتبات المحلية والعالمية فلم يجد إلا ما ذكره بروكّلمان في تاريخه عن نسخة موجودة في مكتبة برلين، فقام بمراسلة مكتبة برلين عن طريق مركز الملك فيصل فاعتذروا عن التصوير. ثم شرع الباحث العمل في التحقيق بمقابلة النسختين لكتاب (خصائص سيد العالمين)، وقد بذل جهداً في سبيل إبراز النص كما كتبه المؤلف أو في سبيل الترجمة لعلم التبس عليه أو أثر لم يقف على من خرجه، ودرس الباحث في دورة علمية تأهيلية بعنوان "تحقيق المخطوط" يحاضر فيها أ. د بشار عواد معروف وأ. د حاتم صالح الضامن , كما كان الباحث يستشير في كثير من موضوعات علم التحقيق: الشيخ عمار بن سعيد تمالت -الباحث في قسم المخطوطات بمركز الملك فيصل-، والشيخ صالح بن محمد عبدالفتاح -الباحث في علم المخطوط العربي بدار الكتب المصرية-، فجزاهما الله عنه خير الجزاء. ثم قام في نهاية بحثه برحلة إلى مكتبة برلين علَّه أن يطلع على النسخة الموجودة فيها ولكنه لم

يُمكن لأسباب سيأتي ذكرها -إن شاء الله- في وصف النسخ الخطية. وأخيراً فأشكر الله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، فله الحمد والمنة من قبل ومن بعد على ما يسر لي ووفقني إليه من إتمام هذا البحث. ثم أشكر بعد شكر الله لمن قرن الله حقهما بحقه, وهما والديَّ الكريمين على ما قاما وقدَّما وبذلا كل ما فيه نفع وخير وصلاح وإعانة, فاسأل الله أن يبارك فيهما, ويمتِّع بهما, ويطيل في أعمارهما على طاعته ومرضاته, ويُحسن لهما الختام. كما أتقدم بالشكر والعرفان لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على إتاحة الفرصة لي لمواصلة تعليمي العالي, وأخص بالشكر مجلس عمادة الدراسات العليا ومجلس كلية أصول الدين ومجلس قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة على ما بذلوه من جهد في رعاية البحث. ثم إن أقل ما يمكن أن أسديه لمن أعانني وغمرني بكريم معاملته وحسن معروفه أن أقدم له وافر الشكر وجزيل الامتنان، وعلى رأسهم فضيلة الأستاذ الدكتور علي بن محمد الدخيل الله السويلم، الذي تفضل بالإشراف على الرسالة، ولم يبخل عليّ بوقته، ولم يأل جهداً في إسداء النصح والإرشاد وإبداء الملحوظات، ولقد استفدت كثيراً من ثاقب رأيه وسديد توجيهاته وحسن درايته بالتحقيق، وهو الذي أخرج كتاب (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)، كل هذا وسط دماثة خلق عالية، وليس هذا غريباً على مثله، فكل من عاشره وجالسه لمس منه هذا الشيء، أسأل الله بمنه وكرمه أن يجزيه عني خير ما جزى أستاذاً عن تلميذه. ولا أستجيز إغفال شكري لأهل بيتي الأوفياء على ما لقيته منهم من مؤازرة ودعم وتشجيع فبارك الله لي فيهم، ولكل مشايخي وإخواني الذين استفدت مما عندهم ولم يبخلوا عليّ بنصح أو رأي أو توجيه أو إعانة. وفي الختام هذا هو جهد المقل، فإن أصبت فمن الله وحده لا شريك له، وإن اخطأت فمن نفسي والشيطان، واستغفر الله وأتوب إليه. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الفصل الأول عصر جمال الدين السرمري وحياته

الفصل الأول عصر جمال الدين السرمري وحياته وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: عصر جمال الدين السرمري. المبحث الثاني: حياته الشخصية. المبحث الثالث: حياته العلمية.

المبحث الأول عصر جمال الدين السرمري

المبحث الأول عصر جمال الدين السرمري قبل الحديث عن ترجمة الإمام جمال الدين السرمري، لابد من نبذة مختصرة عن عصره، فإن الظروف التي تحيط بالشخص، والبيئة التي يعيش فيها، لهما أثر كبير في تكوين حياته، وطبعها بطابع خاص، وذلك لأن الإنسان كما يقال: ابن بيئته، فيتأثر - غالباً - بما يدور حوله من أحداث سياسية وحروب ونزاعات، كما يتأثر بالوضع الإجتماعي والعلمي. ولما لهذه الجوانب من أثر في حياة العالم أو إنتاجه العلمي، فإني سألقي الضوء باختصار على أهم هذه الجوانب. المطلب الأول: الحالة السياسية: لقد ولد وعاش جمال الدين السرمري في أوضاع سياسية قلقة وغير مستقرة، فقد مُني العالم الإسلامي في هذه الفترة بأحداث جسام، كان من أبرزها: 1 - سقوط مدينة بغداد عاصمة الخلافة العباسيّة: كانت الخلافة الإسلامية في بغداد قبل وصول التتار (¬1) قد تداعت أركانها، ولم يكن زمام الأمور في بغداد في يد واحدة، فكان الوزراء كل منهم ينقم على الآخر. وكان سكان بغداد من أهل السنة والشيعة والنصارى واليهود، وبينهم من الخلاف الشيء الكثير. ¬

(¬1) التتار: شعب بدوي يعيش بأطراف بلاد الصين، وهم سكان البراري، ومشهورون بالشر والغدر، يعبدون الكواكب، ويسجدون للشمس أثناء شروقها، وتنتشر عندهم الإباحية، وتعرف ديانتهم القديمة بالشامانية، يقدمون الأضاحي لبعض الحيوانات الشريرة، ويقدسون أرواح الأجداد، والتتار هم أصل القبائل المتفرعة عنهم جميعاً من مغول وترك وسلاجقة وغيرهم، ولما سيطر المغول أيام جنكيز خان على قبائل التتار شمل الجميع اسم المغول، ولما سيطر التتار أيام تيمور لنك شمل الجميع اسم التتار. انظر: التاريخ الإسلامي (6/ 329)، محمود شاكر، الطبعة السادسة 1421، المكتب الإسلامي.

في هذه الظروف كان الوزير الشيعي ابن العلقمي (¬1) يدير مؤامرة كبرى للقضاء على دولة الخلافة، وإبادة أهل السنة، وإقامة دولة على مذهب الشيعة الرافضة، فاستغل منصبه، وحظوظه عند الخليفة، وبدأ ينفث سمومه رويداً رويداً في قلب الخلافة العباسية ليضعفها، وقد حاك خيوط المؤامرة بوسائل متعددة، ومن أهمها (¬2): 1 - تقليل قوام الجيش: قال ابن كثير - رحمه الله -: "وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر -والد المستعصم- قريباً من مائة ألف مقاتل ... فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف" (¬3). 2 - معاداة أهل السنة: فقد زادت تحركات العناصر الشريرة في الدولة تحت وصاية الوزير ابن العلقمي ضد علماء السنة وأكابر البلد (¬4). 3 - اتصالات سرية مع العدو: قال ابن كثير عنه: "كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله مطمعاً منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر بدعة الرافضة، وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتين ... " (¬5). وكان يناصره في هذه الخيانة نصير الشرك الطوسي (¬6). ¬

(¬1) محمد بن أحمد (أو محمد بن محمد بن أحمد) بن علي، مؤيد الدين المعروف بابن العلقمي البغدادي الرافضي، كان غالياً في التشيع إلى غاية ما يكون، وكان وزيراً للمستعصم بالله، توفي سنة 656. انظر: سير أعلام النبلاء (23/ 361 - 362)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، الطبعة التاسعة 1413، مؤسسة الرسالة، بيروت؛ الأعلام (5/ 321)، الطبعة الخامسة عشر، عام 2002 م، دار العلم للملايين، بيروت، وقد وصفه مؤلف الأعلام بقوله: "صاحب الجريمة النكراء". (¬2) انظر: أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (2/ 1003 - 1004)، لعلي الصلابي، مكتبة الصحابة، الإمارات، 1425. (¬3) البداية والنهاية (13/ 235)، تحقيق: علي شيري، الطبعة الأولى 1408، دار إحياء التراث العربي. (¬4) انظر: مقدمة تحقيق (الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية) ص 11، لصلاح الدين مقبول أحمد، الطبعة الأولى 1412، مجمع البحوث الإسلامية، الهند. (¬5) البداية والنهاية (13/ 235). (¬6) هو محمد بن محمد بن الحسن، أبو جعفر، وكان يقال له: نصير الدين، فيلسوف، توفي سنة 672. انظر: الأعلام (7/ 30)، قال عنه ابن القيم في إغاثة اللهفان (2/ 267)، تحقيق: محمد حامد الفقي، الطبعة الثانية 1395، دار المعرفة، بيروت: "نصير الشرك والكفر وزير الملاحدة وزير هلاكو ... قتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين واستبقى الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين والسحرة ... ".

وفي تلك الظروف، أرسل هلاكو إلى الخليفة رسالة، يهدده فيها، ويأمره بتسليم بغداد. فلم يكترث الخليفة للأمر. فقرر الزحف إلى بغداد مع مائتي ألف مقاتل إلى بغداد، وأول من برز إليه مهنئاً له ومرحباً به هو ابن العلقمي ثم رجع وأشار على الخليفة بالمثول بين يديه لتقع المصالحة، فخرج الخليفة مع سبعمائة راكب من أعيان الدولة وأكابر البلد فسلم نفسه وعاصمته بلا قيد أو شرط بعد أن وعده هولاكو بالأمان - وأنَّى لكافر أمان - فغدر بهم. وأشار ابن العلقمي والنصير الطوسي وغيرهم من المنافقين على هولاكو بقتل الخليفة: "فقتلوه رفساً ... وقيل: بل خنق، ويقال بل أغرق" (¬1). ثم مالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار، إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، ولم ينج منهم سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار جاسوسهم ابن العلقمي الرافضي (¬2). كما خربوا المساجد، وأتلفوا المكتبات، بإحراق الكتب، أو بإلقائها في نهر دجلة، ودخل كثير من الناس الآبار، وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لايظهرون، وما زال السيف يقتل أهل بغداد أربعين يوماً، حتى قد قدر المؤرخون القتلى بمليون، وثمانمائة ألف! (¬3)، وكان قصدهم إفناء النوع وإبادة العالم لا قصد الملك والمال (¬4). ¬

(¬1) البداية والنهاية (13/ 234 - 235). (¬2) البداية والنهاية (13/ 235). (¬3) انظر: البداية والنهاية (13/ 235)، العبر في خبر من غبر (3/ 278)، تحقيق: أبو هاجر محمد السعيد، الطبعة الأولى 1405، دار الكتب العلمية، بيروت؛ حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة (1/ 57)، د. جميل عبد الله المصري، الطبعة الأولى، 1407، مطابع الجامعة الإسلامية، المدينة. (¬4) انظر: تاريخ الخلفاء ص 403، للسيوطي, تحقيق: محمد محي الدين عبدالحميد، الطبعة الأولى 1371، مطبعة السعادة، مصر.

2 - حملة التتار على الشام ومصر

ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى (¬1) فإنا لله وإنا إليه راجعون. وبعد الاستيلاء سنة 656 صارت العراق تابعة إلى حكم المغول، ودام حكمهم إلى عام 738 (¬2). تلك هي حالة بغداد والعراق، وقد نتج من جراء ذلك السقوط، تعرض الوحدة السياسية للمسلمين لضربة قاسية. 2 - حملة التتار على الشام ومصر: لم تسلم الشام ومصر من حملات التتار، فبعد أن سقطت بغداد نزل هولاكو على مدينة حلب وراسل متوليها على أن يسلمه البلد ويؤمنه ورعيته، فلم يجبه إلى طلبه وأبى إلا محاربته، فحاصرها التتار سبعة أيام وأخذوها بالسيف، وقتلوا خلقاً كثيراً وأسروا النساء والذرية ونهبوا الأموال مدة خمسة أيام، وامتنعت قلعة حلب، فنازلها هولاكو حتى أخذها في عاشر صفر سنة 658 (¬3)، ثم توجهوا إلى دمشق ووجدوا المدافعين قد هجروها فأخذوا المدينة دون قتال، ثم استمر الجيش المغولي في زحفه نحو مصر ومعه بعض الصليبين، وكانت مصر تحت قيادة السلطان المظفر سيف الدين قطز (¬4)، فخرج للقاء التتار بعدما سمع بمسيرهم إلى مصر، ووصولهم إلى غزة فالتقى معهم وهزمهم هزيمة منكرة في معركة عين جالوت، في رمضان، سنة 658 (¬5). ¬

(¬1) البداية والنهاية (13/ 236). (¬2) انظر: تاريخ العراق بين احتلالين (1/ 546)، لعباس العزاوي، مطبعة بغداد، 1353. (¬3) السلوك لمعرفة دول الملوك (1/ 511)، للمقريزي، تحقيق: محمد عبدالقادر عطا، الطبعة الأولى 1418، دار الكتب العلمية، بيروت. (¬4) المظفر سيف الدين قطز، من مماليك الأتراك، القائد الشجاع، أعز الله به الإسلام في كسر التتار، قتله الظاهر بيبرس! سنة 658. انظر: الأعلام (5/ 201 - 202)، سير أعلام النبلاء (23/ 200 - 201)، شذرات الذهب (7/ 507 - 508)، تحقيق: عبدالقادر الأرنؤوط ومحمود الأرناؤوط، الطبعة الأولى 1412، دار ابن كثير، دمشق - بيروت. (¬5) انظر: البداية والنهاية (13/ 255 - 256)، شذرات الذهب (5/ 291).

3 - الحروب الصليبية

وفي ذلك الوقت أضحت القاهرة أهم المدن الإسلامية؛ باعتبارها عاصمة أقوى دولة في ذلك العصر؛ فوجد الهاربون إليها من أهل العراق والشام ملاذاً آمناً من خطر المغول. واستمرت الحروب بين المسلمين والتتار طيلة تلك الفترة، ومنها معركة شقحب سنة 702 (¬1) التي شارك فيها شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمة الله عليه، ومجموعة من العلماء. 3 - الحروب الصليبية: شهد العالم الإسلامي، قبل هذه المدة حروباً عظيمة، ومحاولات لإزالة الدين الإسلامي، وعلى رأس ذلك ماعرف بالحملات الصليبية، التي استمرت من سنة (490) إلى سنة (690) (¬2)، وهي وإن كانت قد انقضت قبل ولادة السرمري رحمه الله إلا أنها تركت أثراً في نفوس المسلمين في عصر السرمري رحمه الله. آثار هذه الحملات على العالم الإسلامي: هذه الحروب والحملات على العالم الإسلامي والتي راح ضحيتها الكثير والكثير من الأرواح والأموال، والتي دمرت فيها المدارس والمعاهد ودور العلم، وأحرقت فيها المكتبات، كان لها أثر إيجابي، رغم ذلك كله، فقد كان من آثارها، أن وجدت في المسلمين روح التحدي، والحماس لدينهم، ومقدساتهم، فأيقظت فيهم الإيمان، والجهاد والتضحية مما جعلهم يردون هذه الحملات على أعقابها، بعد سنوات قليلة، كما علمتهم الكثير من فنون الحرب والقتال (¬3). 4 - النزاعات الداخلية: يدلنا على هذا كثرة السلاطين الذين تولوا زمام الأمور، والمدة الوجيزة التي يقضيها الواحد منهم حاكماً. ¬

(¬1) البداية والنهاية (14/ 29 - 30). (¬2) البداية والنهاية (13/ 376). (¬3) مقدمة تحقيق "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" (1/ 35)، د. علي الدخيل الله، الطبعة الثالثة 1418، دار العاصمة، الرياض.

ففي سنة 693 تولى السلطان الناصر محمد بن قلاوون (¬1). وفي سنة 694 اغتصب السلطان العادل كتبغا المنصوري السلطنة (¬2). وفي سنة 696 تولى السلطنة حسام الدين لاجين بعد أن عزل السلطان "كتبغا" (¬3). وفي سنة 698 عاد السلطان الناصر محمد إلى السلطة، وحكم إلى سنة 708، حتى فسد مابينه وبين "بيبرس"، فرحل الناصر من القاهرة معلناً بأنه يرحل للحج، ولكنه عندما وصل إلى الكرك، خلع نفسه (¬4). وفي سنة 708 اختار الأمراء بيبرس الجاشنكير سلطاناً (¬5)، بعد تنازل السلطان الناصر محمد. وبعد أقل من عام، عاد السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى سلطنته العودة الثانية، ولما دخل القاهرة وصعد إلى القلعة، بايعه الخليفة المستكفي بالله، والقضاة الأربعة، وسائر الأمراء، ثم قبض على الملك السابق وأعدمه، وقد امتاز عهده بطول المدة الزمنية، إذ تولى من سنة 709 حتى سنة 741 (¬6). وبعد وفاة الناصر سنة 741 بويع بالسلطنة المنصور سيف الدين أبو بكر وهو ابن الناصر محمد بن قلاوون (¬7). وفي سنة 742 تولى السلطنة الأشرف علاء الدين كجك بعد خلع أخيه (¬8). ¬

(¬1) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (1/القسم الأول/31)، محمد رزق سليم، الطبعة الثانية 1381، مكتبة الآداب. (¬2) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (1/القسم الأول/31). (¬3) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (1/القسم الأول/32). (¬4) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (1/القسم الأول/32 - 33). (¬5) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (1/القسم الأول/33). (¬6) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (1/القسم الأول/34). (¬7) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (1/القسم الأول/35). (¬8) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (1/القسم الأول/35).

وفي سنة 742 تولى السلطنة شهاب الدين أحمد وهو أكبر أبناء الناصر بن قلاوون بعد خلع أخيه (¬1). وفي سنة 743 تولى السلطنة الصالح علاء الدين إسماعيل بعد عزل أخيه (¬2). وفي سنة 746 تولى السلطنة الكامل شعبان بن الناصر محمد بعد موت شقيقه بعهد منه (¬3). وفي سنة 747 جلس على سرير الملك المظفر حاجي بن الناصر محمد بعد خلع أخيه، وكانت سنه دون العشرين (¬4). وفي سنة 484 تولى السلطنة الناصر أبو المحاسن حسن بن الناصر محمد، بعد أن مات أخوه في السجن مخنوقاً، وكان عمره حينئذ ثلاث عشرة سنة، فعاونه بعض الأمراء في تدبير ملكه (¬5). وفي سنة 752 بويع بالسلطنة الصالح صلاح الدين بن الناصر محمد بعد خلع أخيه حسن (¬6). وفي عام 755 عاد الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون بعد خلع أخيه الصالح (¬7). وفي سنة 762 بويع بالسلطنة المنصور محمد بن المظفر حاجي وهو حفيد الناصر بن قلاوون، بعد مقتل عمه الناصر حسن (¬8). ¬

(¬1) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (1/القسم الأول/35). (¬2) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (1/القسم الأول/36). (¬3) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (1/القسم الأول/36). (¬4) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (1/القسم الأول/36). (¬5) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (1/القسم الأول/ 36 - 37). (¬6) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (1/القسم الأول/37). (¬7) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (1/القسم الأول/38). (¬8) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (1/القسم الأول/38).

وفي سنة 764 ولي الملك الأشرف شعبان بن حسين، وكانت سنه العاشرة، وقد حكم نحو أربع عشرة سنة، حتى خنق سنة 778 (¬1). علاقة هذه الأحداث في حياة السرمري: لقد عاش السرمري رحمه الله بدمشق في فترة تولي أولاد وأحفاد الناصر محمد، وهي الفترة التي كان الصراع على السلطة فيها على أشده، وعاش قبل ذلك في العراق مايقارب الاثنين والأربعين سنة تحت حكم التتر، وقد لخص ما تقدم من الحالة السياسية في عصره فقال: "وقد جاء الحديث عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لم تظهر الفاحشة في قوم إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولانقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وإذا لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتفكروا فيما أنزل الله إلا جعل الله عز وجل بأسهم بينهم» رواه ابن ماجه في سننه (¬2) -ثم علق على الحديث بقوله: - وهذه الأمور قد ظهرت عقوباتها -كما ترى- قد وقعت، وإنا لله وإنا إليه راجعون" (¬3) وفي هذا إشارة لما كان في عصره من جور السلطان وتسلط العدو والنزاعات الداخلية؛ ويُعدُّ نبوغه وسط هذه الظروف السيئة دليلاً قوياً على عبقرية هذا العالم الذي كان نجماً يتلألأ في سماء ذلك الظلام الحالك في ذلك الزمان، الذي هو من أشد القرون فتنة واضطراباً، فلا يمر عامٌ إلاَّ وقد تكرر فيه وقوع أحداثٌ مؤلمةٌ. ¬

(¬1) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (1/القسم الأول/39 - 40). (¬2) أخرجه ابن ماجه (3/ 425 - 426) بنحوه في كتاب الفتن، باب العقوبات، ح 4019؛ قال الألباني: "حسن". انظر: صحيح سنن ابن ماجه (3/ 316) ح 4091, لمحمد ناصر الدين الألباني, الطبعة الأولى 1417, مكتبة المعارف, الرياض. (¬3) كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون ص 37، ليوسف السرمري، تحقيق: شوكت بن رفقي شوكت، الطبعة الأولى 1424، دار الأثرية بعَمان، دار المحبة بدمشق.

المطلب الثاني: الحالة الإجتماعية

المطلب الثاني: الحالة الإجتماعية: من بداهة الأمور أن تتأثر الحياة الاجتماعية بالحياة السياسية التي تحيط بها؛ فاستقرار الأحوال الاجتماعية مرهون باستقرار الأحوال السياسية، ويكون هناك مد وجزر، كما يكون في الأخرى. وقد تمثلت أهم ملامح الحالة الاجتماعية فيما يلي: 1 - أدت الفتن والمنازعات الداخلية بين طوائف المماليك، إلى خلق فوضى اجتماعية، إذ كان مجرد إشاعة موت أحد السلاطين، يسبب فزعاً شديداً للناس فتغلق الأسواق والحوانيت، وتبدو المدينة وكأن سكانها من الموتى (¬1). 2 - كثر الغش واحتكار الأقوات، والتطفيف في الكيل والميزان، فاشتد الغلاء، وانتشرت الفاقة وعم البؤس، فألف العلماء بسبب ذلك المؤلفات ليشاركوا في حل هذه المشكلة حلاً إسلامياً، ودعوا إلى النظر في مصالح العامة وفرض التسعيرات الجبرية عند اشتداد الغلاء، والضرب على أيدي المطففين والمحتكرين (¬2). 3 - حدثت في هذا العصر عدة مجاعات وأوبئة كان سببها في غالب الأحوال راجعاً إلى قصور فيضان نهر النيل (¬3)، وكان أشدها ماحدث بين سنتي 694 - 695 فقد وصل الأمر بالناس إلى أكل الحمر والخيل والبغال والكلاب، ولم يبق شئ من هذه الحيوانات يلوح إلا أكلوه (¬4)، وماحدث سنة 749 من ذلك الوباء المروع الذي اجتاح الأرض من أقصاها إلى أقصاها، وقد تراوحت أعداد ضحاياه ما بين عشرة آلاف وعشرين ألف نسمة يومياً (¬5). ¬

(¬1) انظر: عصر سلاطين المماليك التاريخ السياسي والاجتماعي ص 345، د. قاسم عبده قاسم، الطبعة الأولى 1988، الناشر: عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية. (¬2) انظر: مقدمة تحقيق "الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية" (1/ 29)، لسالم محمد القرني، الطبعة الأولى 1419، مكتبة العبيكان، الرياض. (¬3) انظر: عصر سلاطين المماليك التاريخ السياسي والاجتماعي ص 347 - 348. (¬4) انظر: البداية والنهاية (13/ 405). (¬5) انظر: عصر سلاطين المماليك التاريخ السياسي والاجتماعي ص 349.

4 - شهدت هذه المدة نزاعاً مذهبياً عقدياً حاداً، حيث كان في بعض ملوك التتار ميل إلى عقيدة الرافضة، ففي سنة 707 أظهر خدابنده (¬1) شعار الشيعة، وحذف ذكر الشيخين من الخطبة ونقش أسماء الأئمة الاثني عشر (¬2). وفي المقابل كان سلاطين دولة المملاليك وأمرائهم يشجعون المذهب السني قولاً وعملاً ويحاربون المذهب الشيعي الباطني والعقائد الإسماعيلية التي خلفتها الدولة الفاطمية. كما انتشر أصحاب وحدة الوجود، يدل على ذلك ما كتبه أئمة ذلك العصر، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيهم: "ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا وظهروا وانتشروا ... لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأقوال وإيضاح هذا الضلال" (¬3). 5 - تفشت كثير من المنكرات والمعاصي بشكلٍ علني، كانتشار البغاء، والرشوة، والمخدرات وعرف الحشيش، كما انتشرت الأغاني، وآلات اللهو والطرب، وانتشرت الحيل في الأعمال، فظهر المحلل والمحلل له بشكل معلن، وقد أشار السرمري إلى ذلك بقوله: "وقد جاء الحديث عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لم تظهر الفاحشة في قوم إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولانقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وإذا لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتفكروا فيما أنزل الله إلا جعل الله عز وجل بأسهم بينهم» رواه ابن ماجه في سننه (¬4) -ثم علق على الحديث بقوله: - وهذه الأمور قد ¬

(¬1) هو محمد بن أرغون بن أبغا بن هولاكو، خدابندا معناه بالعربي: عبدالله، وإنما الناس غيروه فقالوا: خربندا، ملك العراق وأذريبجان وخراسان بعد أخيه غازان، أظهر الرفض في بلاده سنة 709 بعد أن كان على السنة، توفي سنة 716. انظر: الوافي بالوفيات (2/ 129 - 130)، لصلاح الدين الصفدي، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، 1420، دار إحياء التراث، بيروت؛ العبر في خبر من غبر (4/ 44)؛ البداية والنهاية (14/ 63). (¬2) انظر: تاريخ العراق بين احتلالين (1/ 407)، عباس العزاوي. (¬3) مجموع الفتاوى 2/ 357، جمع وترتيب: عبدالرحمن بن قاسم وابنه محمد، 1416، مجمع الملك فهد، المدينة. (¬4) تقدم تخريجه, انظر: ص 22.

ظهرت عقوباتها -كما ترى- قد وقعت، وإنا لله وإنا إليه راجعون" (¬1) وفي هذا إشارة لما كان في عصره من الفواحش ونقص المكيال والميزان ومنع الزكاة ونقض العهود وغير ذلك؛ ولكن ذلك لم يدم طويلاً بسبب جهود العلماء والدعاة والمصلحين (¬2). 6 - لقد مكن التتار - إبّان غزوهم البلاد الإسلامية - كثيراً من اليهود والنصارى، حتى تسلطوا على رقاب المسلمين، ولاسيما في الشام، فسارت مواكبهم تحمل الصلبان، وأُلزم المسلمون بالقيام لها واحترامها، ومن امتنع تعرض للسب والإهانة (¬3)؛ وقد تمتع اليهود والنصارى في بداية عهد المماليك ببسطة العيش، فقد تولى كثير منهم مناصب الوزارة والمناصب الديوانية، وكان منهم كبار التجار والصيارفة والأطباء والصيادلة، وكانوا يلبسون أفخر الثياب. ولم يدم ذلك، فقد مُنعوا من الركوب على الخيول والبغال ونحوها، تمييزاً لهم عن المسلمين: "ونودي بدمشق في يوم عرفة أن لا يركب أحدٌ من أهل الذمّة خيلاً ولا بغالاً، ومن رأى من المسلمين أحداً من أهل الذمّة قد خالف ذلك فله سلبُه! " (¬4)، وفي جمادى الأولى عام 700 هـ " ... في يوم الإثنين قُرئت شروط الذمّة على أهل الذمّة وألزم بها، واتفقت الكلمة على عزلهم عن الجهات، وأخذوا بالصغار، ونودي بذلك في البلد وأُلزم النصارى بالعمائم الزرق، واليهود بالصفر، والسامرة بالحمر، فحصل بذلك خيرٌ كثير، وتميزوا عن المسلمين" (¬5). ¬

(¬1) كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون ص 37. (¬2) مقدمة تحقيق "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" (1/ 40 - 41)، د. علي الدخيل الله. (¬3) انظر: حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة (1/ 58). (¬4) انظر: البداية والنهاية (13/ 401). (¬5) انظر: البداية والنهاية (14/ 19).

المطلب الثالث: الحالة الثقافية والعلمية

المطلب الثالث: الحالة الثقافية والعلمية: مما سبق في عرض الحالة السياسية، تبين مدى الاضطراب والتزعزع في كيان الأمة، وهذا العصر رغم مافيه من زوابع وغوائل إلا أن الحالة الثقافية والعلمية في القطر العراقي لم تتأثر كبيراً، أما في مصر والشام فقد وجدت نهضة علمية مباركة متميزة. فالعراق - وهو الذي ولد وعاش فيه السرمري حياته الأولى - بعد أن فقد استقلاله، وزال عنه الطابع الإسلامي ولو صورة، وبعد أن صار نهباً بيد الغزاة، لم يبق ما يعول عليه، أو يركن إلى قوته سوى الأوقاف الإسلامية؛ وهذه كانت في عهدها العباسي مكينة، وتسابق الخلفاء ورجال الدولة إلى أعمال البر لتقوية الثقافة وتنميتها. ولما لم يتعرض المحتل للمؤسسات الدينية - أيام احتلاله - كان من نتائج ذلك الاحتفاظ بالمعارف والعلوم ومن أوضح ظواهرها المدارس الكبرى مثل المستنصرية والنظامية والبشيرية، والرباطات ومشيخاتها، فصارت خير واسطة للم الشعث واستبقاء الحضارة، مما دعا أن ينبغ كثيرون ذاعت شهرتهم وطبقت الآفاق. والعراق لم يقف عند مؤسساته القديمة أو بقاياها وإنما أسس معاهد جديد مثل المدرسة العصمتية إلا أنها قليلة ولا تقاس بما بقي إلى مابعد الاحتلال من المؤسسات العباسية. والمدارس كانت إدارتها مودعة إلى رجالات العراق وغالب أيامها إلى قاضي القضاة أو إلى صدر الوقوف ينظر فيها وفي المعاهد الخيرية والدينية، ولم يستول على أوقافها غيرهم إلا في مدة يسيرة، وفي هذه أيضاً لم يهمل شأنها، غير أن المحتلين بسبب أنهم لم يكونوا مسلمين فقد راعوا مايوافق رغبتهم من العلوم والثقافات كالعلوم الفلكية والرياضية والطب، ومن الفنون الموسيقى والرسم وأمثال ذلك، إضافة إلى أن كثيراً من علماء العراق قد هاجروا أيام الواقعة وبعدها هرباً من المغول (¬1)، ووجدوا في مصر والشام ملاذاً لهم، ينهلون من معارفهما وتحيطهم رعاية الأمراء واهتمامهم. ¬

(¬1) انظر: تاريخ العراق بين احتلالين (1/ 543 - 545)، لعباس العزاوي.

1 - وقوع كثير من البلاد الإسلامية في يد المغول

أما دمشق -وهي التي قضى فيها السرمري الثلاثون سنة الأخيرة من عمره - فقد كانت كالقاهرة وريثة لبغداد في رعاية العلم والعلماء (¬1)، ووجدت فيهما نهضة علمية مباركة متميزة، وأصبحت مصر والشام من ذلك الحين مركزاً للعلوم الإسلامية والعربية. وهناك عوامل متعددة طرأت كان لها الأثر الواضح في هذه النهضة العلمية من أبرزها: 1 - وقوع كثير من البلاد الإسلامية في يد المغول: بعد أن طغى سيل التتار الجارف من أواسط آسيا إلى شمالها مكتسحاً ما أمامه، كان لابد للمسلمين من أن تلتف قلوبهم حول المدافعين عنهم من سلاطين المماليك، وأن يشدوا أزرهم ويدعموا ملكهم، ومن أهم وسائل تدعيم الملك إحياء العلوم والمعارف، فجهد في ذلك علماء المسلمين، وأتوا بما يعد فريداً في بابه، عجيباً في صنعه (¬2). 2 - قتل العلماء وإتلاف الكتب العلمية: نتيجة لما أصاب الأمة في أعز ما تملك وهو تراثها الفكري وذلك في حروبها مع أعدائها الذين خربوا المدارس والمساجد وأحرقوا الكتب والمعاهد ودور العلم، فقد شحذ العلماء والحكام هممهم لتعويض هذا الذي فات بكرة التأليف والتصنيف، وهكذا بدأ عصر الموسوعات والمتون العلمية والشروح على المتون، وهي السمات البارزة في النتاج الثقافي والعلمي خلال القرن الثامن الهجري (¬3). 3 - وفود العلماء والأدباء: ولاشك أن مما عاون على هذه النهضة العلمية في مصر والشام، كثرة من أمّهما من بني الأقطار الإسلامية الأخرى، سواء أكانوا فارين من وجه الطغيان والظلم، أم كانوا طامعين في كرم وحسن إفادتها (¬4). ¬

(¬1) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي) 1/ القسم الثاني /9) (بتصرف). (¬2) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (2/القسم الأول/17). (¬3) سمات العطاء الأدبي والفكري في القرن الثامن الهجري، للأستاذ هلال ناجي، مجلة مجمع اللغة العربية الأردني - العدد 63. (¬4) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (2/القسم الأول/18 - 19).

4 - غيرة السلاطين والأمراء

4 - غيرة السلاطين والأمراء: أبدى السلاطين والأمراء غيرة دينية بارزة، وقد تجلت فيهم في كفاحهم للتتار، ومحاربتهم للفرنجة، وفيما أفاضوا من معونة وما بذلوا من رعاية للبيت الحرام وسكان الحجاز، ولغيرهم من أهل البلاد الإسلامية القريبة والبعيدة. هذه الغيرة من دأبها أن توقظ أمثالها في نفوس العلماء، وتحفز أهل الدين إلى حياطته ورعايته، ونشر رايته، وأداتهم إلى ذلك: التعليم والتأليف ومواصلة البحث والاطلاع (¬1). 5 - تعظيم المماليك لأهل العلم: قد أقام سلاطين المماليك وأمرائهم وزناً كبيراً لعلماء الدين وبجلوهم وقدموهم في مسائل كثيرة، ولا ريب أن تعظيم السلاطين والأمراء لهم، له الأثر المباشر في نفوسهم على أن يظلوا مجاهدين في سبيل الدين، حريصين على الشريعة، مستزيدين من العلم والفضل، باثين هذه الروح في طلابهم وناشئتهم (¬2). 6 - انتشار المدارس ودور التعليم: لاشك أن انتشار المدارس ودور التعليم، يعتبر سبباً أساسياً وحيوياً لتنشيط الحركة العلمية، وقد عمرت دمشق وبلاد الشام بكثير من المدارس ودور التعليم، فقد تنافس السلاطين وغيرهم على بناء المدارس وأجروا عليها الأوقاف، مما كان سبباً لاستمرارها في أداء رسالتها، فأقبل عليها الواردون من كل حدب وصوب ينهلون من معين المعرفة وأنواع العلوم. وسأذكر بعضاً من هذه المدارس على سبيل الإجمال: 1 - المدرسة الأتابكية، أنشأتها زوجة الملك الأشرف موسى، وقد توفيت سنة 740 (¬3). 2 - المدرسة الأسدية، وقد بناها شيركوه بن شادي بن مروان الملقب أسد الدين سنة ¬

(¬1) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (2/القسم الأول/20 - 21). (¬2) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (2/القسم الأول/22 - 25). (¬3) انظر: منادمة الأطلال ومسامرة الخيال ص 77، لعبدالقادر بدران, تحقيق: زهير الشاويش، 1985 م، المكتب الإسلامي، بيروت.

564 (¬1). 3 - المدرسة البدرية، وقد بناها الأمير بدر الدين حسن بن الداية في سنة 638 (¬2). 4 - المدرسة الجوزية: أنشأها الإمام يوسف بن عبدالرحمن ابن الجوزي، قتل مع الخليفة عند سقوط بغداد سنة 656 بمكيدة ابن العلقمي الوزير الرافضي، وقد فرغ من بنائها سنة 652 (¬3). 5 - المدرسة الصاحبة، أنشأتها ربيعة خاتون الصاحبة أخت صلاح الدين والعادل، وقد توفيت سنة 643 (¬4). 6 - المدرسة الصدرية: أنشأها أسعد بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي صدر الدين الدمشقي، المتوفى سنة 657، وهي مدرسة للحنابلة (¬5). 7 - المدرسة الصلاحية، أنشأها صلاح الدين الأيوبي عام 572 (¬6). 8 - المدرسة الصمصأمية، وهي مدرسة المالكية (¬7). 9 - المدرسة الضيائية المحمدية، وقد بناها الفقيه ضياء الدين محمد بن عبدالواحد المقدسي الحنبلي، المتوفى سنة 643 (¬8). وقد كتب عبدالقادر بن محمد النعيمي الدمشقي، المتوفي سنة 927، كتابه "الدارس في تاريخ المدارس"، وعبدالقادر بدران، المتوفى سنة 1346، كتابه "منادمة الأطلال ومسامرة الخيال"، في مدارس دمشق، ولولا كثرتها وتنوعها لما كانت محط أنظار المؤرخين والمؤلفين. ¬

(¬1) انظر: منادمة الأطلال ص 79. (¬2) انظر: منادمة الأطلال ص 153، الدارس في تاريخ المدارس (1/ 365)، لعبدالقادر بن محمد النعيمي الدمشقي, تحقيق: إبراهيم شمس الدين، الطبعة الأولى 1410، دار الكتب العلمية. (¬3) انظر: منادمة الأطلال ص 227 - 228. (¬4) انظر: منادمة الأطلال ص 237 - 238. (¬5) انظر: الدارس في تاريخ المدارس (2/ 67 - 68). (¬6) انظر: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي (2/القسم الأول/37). (¬7) انظر: الدارس في تاريخ المدارس (2/ 6). (¬8) انظر: الدارس في تاريخ المدارس (2/ 71).

المبحث الثاني حياته الشخصية

المبحث الثاني حياته الشخصية وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: اسمه ونسبه. المطلب الثاني: مولده وموطنه. المطلب الثالث: أسرته. المطلب الرابع: وفاته.

المطلب الأول: اسمه ونسبه

المطلب الأول: اسمه ونسبه: هو أبو المظفر (¬1)، يوسف بن محمد بن مسعود بن محمد بن علي (¬2) بن إبراهيم العُبَادي (¬3) "السُّرَّمَرِّي مولداً ومنشأً, البغدادي داراً, الدمشقي مهاجراً, العُقَيلي محتداً (¬4) " (¬5) , الحنبلي. عُرف بجمال الدين (¬6) السُّرَّمَرِّي (¬7). والسُّرَّمَرِّي نسبة إلى (سُرَّ من رأى) المدينة التي كانت اسمها قديماً (ساميرا) سميت بسامير ابن نوح، ولما اتخذها المعتصم عاصمة له، بعد أن شيد فيها مدينة كبيرة (سنة 221) سمّاها (سُرَّ من رأى)، وقد خففها الناس فقالوا سامرّاء، وتقع بين بغداد وتكريت على شرقي دجلة (¬8) , وعلى بعد حوالي 100 كم شمال بغداد. ¬

(¬1) في هدية العارفين (2/ 585)، طبع بعناية وكالة المعارف الجليلة في مطبعتها البهية، استانبول، سنة 1955: "أبو مظفر" بدل (أبو المظفر) وهذا خلاف ما اتفق عليه في جميع المصادر ونساخ كتب السرمري. (¬2) في رفع النقاب ص 329، تحقيق عمر بن غرامة العمروي، الطبعة الأولى 1418، دار الفكر، بيروت: "يوسف بن محمد بن مسعود بن محمد بن محمد بن علي" والصواب ماهنا نقلاً عن السرمري نفسه. (¬3) ضبطت بضم العين: بخط السرمري نفسه على (مخطوط) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد (ل 8/ب)، وضبطت أيضاً في: تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476)، تحقيق عدنان درويش، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية، دمشق، 1994 م؛ والدرر الكامنة (6/ 247)، تحقيق محمد عبدالمعيد ضان، مجلس دائرة المعارف العثمانية، 1392، الهند؛ وكتب فوقها ابن ناصر الدين في التبيان لبديعة البيان (2/ 319)، تحقيق حسين بن عكاشة، الطبعة الأولى 1429، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر: "خف": يعني أنها غير مشددة. (¬4) المحتد: الأصل، يقال: إنه لكريم المحتِد. المعجم الوسيط (حتد) ص 154، الطبعة الرابعة 1425، مكتبة الشروق الدولية، مصر. (¬5) نقلته عن خط السرمري نفسه على ثبت النذرومي. انظر صورته في الأعلام للزركلي (8/ 215). (¬6) اتفق على هذا اللقب في جميع المصادر، وجاء في بغية الوعاة (2/ 360)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت؛ ووجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام (1/ 210)، تحقيق بشار عواد وعصام الحرستاني وأحمد الخطيمي، الطبعة الأولى 1416، مؤسسة الرسالة: "الجمال" - بدون إضافة - ولعله اختصار. (¬7) في البدر الطالع (1/ 50)، الطبعة الأولى 1418، دار الكتب العلمية، بيروت: "السرمدي"؛ وفي كشف الظنون (1/ 758)، تحقيق محمد شرف الدين يالتقيا ورفعت بيلكه الكليسي دار إحياء التراث العربي، بيروت: "الترمذي"، وهما تصحيف. (¬8) انظر: معجم البلدان (3/ 173 - 178)، لياقوت الحموي، الطبعة الثانية 1955 م، دار الصادر، بيروت؛ معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع (3/ 734)، تحقيق: مصطفى السقا، الطبعة الثالثة 1403، عالم الكتب، بيروت؛ الأنساب للسمعاني (7/ 14 - 15)، تحقيق: محمد عوامة، الطبعة الأولى 1396، مكتبة ابن تيمية، القاهرة.

المطلب الثاني: مولده وموطنه

المطلب الثاني: مولده وموطنه: ولد "بسر من رأى" (¬1) في يوم الثلاثاء (¬2) سابع عِشْرِي رجب من سنة ست وتسعين وستمائة (¬3) , كما حكى هو عن نفسه فقال: "مولدي في سابع عشري رجب المعظم من سنة ست وتسعين وستمائة" (¬4). موطنه: عاش الإمام جمال الدين السرمري حياته متنقلاً بين "سر من رأى" وبغداد ودمشق، فموطنه الأصلي الأول هو: "سر من رأى"، وفيها نشأ، ثم انتقل إلى بغداد سنة 729 (¬5) وعمره آنذاك في حدود الثلاثة والثلاثين سنة، وابتنى بها داراً (¬6)، ثم رحل إلى دمشق سنة 746 (¬7) أسوةً بالعلماء الذين توافدوا عليها من مختلف بلدان العالم الإسلامي، فلقد كانت دمشق كالقاهرة وريثة لبغداد في رعاية العلم والعلماء خاصة بعدما حل ببغداد من تدمير على أيدي التتار وسقوط الخلافة العباسية. المطلب الثالث: أسرته: لقد كانت أسرة جمال الدين السرمري أسرة علم ودين ¬

(¬1) جاء في تاريخ الأدب العربي (7/ 20)، أشرف على الترجمة: محمود فهمي جازي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1955: "ولد في بغداد" وهذا خلاف ماحكى السرمري عن نفسه. (¬2) نقلاً عن ترجمة جيدة كُتبت على طرة النسخة الخطية لكتابه: إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة. انظر صورتها في المطبوع ص 65, تحقيق: أبي عبدالله حسين بن عكاشة رمضان، الطبعة الأولى 1427، دار الكيان، الرياض. (¬3) جاء في فهرس الفهارس (2/ 926)، بإعتناء: إحسان عباس، الطبعة الثانية 1982، دار الغرب الإسلامي، بيروت: "27 رجب عام 694" وهذا خلاف ماحكى السرمري عن نفسه. (¬4) الأعلام للزركلي (8/ 215) نقلاً عن نموذج خطه على ثبت النذرومي. (¬5) إنباء الغمر (1/ 150)، تحقيق: د. محمد عبدالمعيد خان، الطبعة الثانية 1406، دار الكتب العلمية، بيروت. (¬6) انظر: الأعلام للزركلي (8/ 215) نقلاً عن نموذج خطه على ثبت النذرومي. (¬7) انظر: تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476)، إنباء الغمر (1/ 150)، إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة ص 65 نقلاً عن ترجمة كُتبت على طرة النسخة الخطية.

أما والده فهو شمس الدين أبو عبدالله محمد بن مسعود بن محمد السرمري، ذكر العليمي وابن عماد والزركلي في ترجمة جمال الدين: "ونظم الغريب في علوم الحديث لأبيه نحو ألف بيت" (¬1). قال الدكتور الطريقي في هامش معجم مصنفات الحنابلة: "نسبة كتاب (علوم الحديث) لوالد المترجم دليل على أنه من أهل العلم، ولم أقف له على ترجمه مستقلة " (¬2) وكذلك قال بنحو هذه العبارة الدكتور عبدالرحمن العثيمين في هامش (الدر المنضد) (¬3). وعلق الأخ حسين بن عكاشة محقق كتاب إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة فقال: "أخشى أن يكون وقع في اسم الكتاب تحريف وأن يكون الصواب (نظم التقريب في علوم الحديث لامية)، كما سبق عن الذهبي والله أعلم" (¬4). والأمر مشكل والترجيح صعب إذ إن التصحيف محتمل في الجميع، ففي الترجمة التي كُتبت على طرة النسخة الخطية لكتاب إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة (¬5) ذُكِر أن الذهبي في "المعجم المختص" (¬6) قال: "ونظم (التقريب) في علوم الحديث (لامية) نحو ألف بيت"، وذكر ابن قاضي شهبة في تاريخه (¬7) أن الذهبي في "المعجم المختص" قال: "ونظم (الغريب) في علوم الحديث (لامية) نحو ألف بيت"، والعليمي وابن عماد والزركلي قالوا في ترجمة جمال الدين: "ونظم (الغريب) في علوم الحديث (لأبيه) نحو ألف بيت" (¬8)، والله أعلم بالصواب. ¬

(¬1) انظر: "المنهج الأحمد" (5/ 144)، تحقيق حسن إسماعيل مروة وعبدالقادر الأرناؤوط، الطبعة الأولى 1997 م، دار الصادر، بيروت؛ "شذرات الذهب" (8/ 429)، "الأعلام" (8/ 251). (¬2) انظر هامش "معجم مصنفات الحنابلة" (4/ 183)، الطبعة الأولى 1422. (¬3) الدر المنضد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، تحقيق: عبدالرحمن العثيمين، الطبعة الأولى 1412، مكتبة الناشر، السعودية. (¬4) انظر: مقدمة كتاب "إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة" ص 46. (¬5) انظر صورتها في المطبوع ص 65 تحقيق أبي عبدالله حسين بن عكاشة رمضان. (¬6) لم أقف على ترجمته في (المعجم المختص) المطبوع. (¬7) " تاريخ ابن قاضي شهبة" (3/ 476). (¬8) انظر: "المنهج الأحمد" (5/ 144)، الدر المنضد (2/ 555)، "شذرات الذهب" (8/ 429)، "الأعلام" (8/ 251).

وقد ذُكِر والد السرمري في طبقة سماع شرح القلادة السمطية للإمام الصّغاني (¬1). وأما زوجه فهي تركان بنت خليل الشريفي سمعت بإفادة زوجها كثيرًا من صالح بن الكسار البغدادي وغيره وحدثت (¬2). وأما أولاده الذين وقفت عليهم فأربعة، وهم: محمد وكان فقيهاً، وإبراهيم وكان محدثاً، ولد في حدود الخمسين وسبعمائة، وأُسمع على ابن الخبَّاز وبشر بن إبراهيم البعلي، سمع منه الفضلاء، وأجاز لابن حجر، وتوفي رحمه الله سنة 803 (¬3)، قال ابن ناصر الدين الدمشقي (¬4) في ترجمة السرمري: حدثنا عنه ابنه إبراهيم. ومن أولاده أيضاً فاطمة، وأسماء؛ وقد ذكرهم في طلبه الإجازة من الصَّلاح الصَّفدي (¬5) وفيها: هل أنتم تتصدقون ليوسف الـ ... ــــسُّرَّمرِّي وهو العقيلي المحتد ولِعُرْسِهِ أمَة العزيزِ ووُلْدِه ... منها الأُلَى شرُفوا بِمَذهب أحمد البَرِّ إبراهيم يتبع فاطماً ... وكذلك أسْما والفقيه محمد وكذا ابن عمهم الشقيق تفضلاً ... بإجازةِ المرْويِّ عند النُّقَّد (¬6) تلك هي أسرة جمال الدين السرمري أسرة علم ومعرفة وإرشاد. ¬

(¬1) نقله الدكتور عبدالرحمن العثيمين في مقدمة تحقيق: المقدمة اللؤلؤة في النحو عن نسخة مكتبة لاله لي رقم 1891/ 1. انظر: مقدمة تحقيق: المقدمة اللؤلؤة في النحو ص 171، الطبعة الأولى 1410، مكتبة الخانجي، القاهرة. (¬2) توضيح المشتبه (5/ 184)، تحقيق: محمد نعيم العرقسوسي، الطبعة الأولى 1993 م، مؤسسة الرسالة، بيروت. (¬3) انظر: الضوء اللامع (1/ 182)، الطبعة الأولى 1412، دار الجيل، بيروت؛ السحب الوابلة (1/ 78)، تحقيق: بكر أبو زيد وعبدالرحمن العثيمين، الطبعة الأولى 1416، مؤسسة الرسالة، بيروت. (¬4) التبيان (2/ 319). (¬5) هو صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي ولد سنة 699، كان إماماً عالماً أديباً بليغاً، طلب العلم، وشارك في الفضائل، وقرأ الحديث، وجمع وصنف، أما عقيدته ومذهبه: فلقد كان شافعياً متعصباً، معظماً لأئمة الأشاعرة والصوفية، توفي سنة 764. انظر: المعجم المختص بالمحدثين (ص 91 - 92 رقم 107)، تحقيق: محمد الحبيب الهيلة، الطبعة الأولى 1408، مكتبة الصديق، الطائف؛ الأعلام (2/ 315)؛ موقف خليل بن أيبك الصفدي من شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية رحمة الله تعالى عليه (50، 74، 77 - 79)، محمد بن عبدالله أحمد، الطبعة الأولى 1426، أضواء السلف، الرياض. (¬6) السحب الوابلة (3/ 1184).

المطلب الرابع: وفاته

المطلب الرابع: وفاته: توفي جمال الدين السرمري وقد جاوز الثمانين (¬1) بعد حياة حافلة بالتصنيف والتأليف والرواية والإفادة والإملاء في علوم شتى نظماً ونثراً، ومدافعاً عن العقيدة الصحيحة، ومنافحاً عن منهج السلف الصالح, حتى بلغت مصنفاته المائة وزادت، في بضعة وعشرين علماً (¬2). وقد كانت وفاته رحمه الله في يوم السبت (¬3) واختلف في تعيين تأريخ اليوم من الشهر فقيل (الحادي والعشرين) (¬4) ولعله الصواب إذ ممن ذكره: ابن ناصر الدين الدمشقي وابن حجر وهما ممن لقي ابن السرمري "إبراهيم" وسمع منه، وقيل (العشرين) (¬5) وقيل (الحادي عشر) (¬6) من جمادى الأولى سنة ست وسبعين وسبعمائة (¬7)، وصلي عليه بالجامع الأموي (¬8)، ودفن بمقبرة الصوفية بظاهر دمشق جوار تربة الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمهما الله (¬9) رحمة واسعة. ¬

(¬1) إنباء الغمر (1/ 150)، الدرر الكامنة (6/ 247)، وجيز الكلام (1/ 210). (¬2) انظر: تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476)، الدرر الكامنة (6/ 247)، إنباء الغمر (1/ 151)، وجيز الكلام (1/ 210)، المنهج الأحمد (5/ 144)، شذرات الذهب (8/ 430)، معجم مصنفات الحنابلة (4/ 175 - 176). (¬3) الرد الوافر ص 232، تحقيق: زهير الشاويش، الطبعة الرابعة 1426، المكتب الإسلامي، بيروت ودمشق وعَمان؛ لحظ الألحاظ ص 161، دار إحياء التراث العربي؛ درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة (3/ 558)، تحقيق: د. محمود الجليلي، الطبعة الأولى 1423، دار الغرب الإسلامي، بيروت. (¬4) الرد الوافر ص 232، الدرر الكامنة (6/ 247)، لحظ الألحاظ ص 161، فهرس الفهارس (2/ 926). (¬5) نقلاً عن ترجمة كُتبت على طرة النسخة الخطية لكتابه: إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة, انظر صورتها في المطبوع ص 65 , تحقيق: أبي عبدالله حسين بن عكاشة رمضان. (¬6) بغية الوعاة (2/ 360)، السحب الوابلة (3/ 1182)، درر العقود الفريدة (3/ 558). (¬7) في تاريخ الأدب العربي (7/ 20): "وتوفي سنة 736/ 1335" والصواب ماهنا نقلاً عن جميع من ترجم للسرمري، قال الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي: "السُّرَّمَرِّيُّ يوسفُ القويمُ ... ذكيُّهم وَازنه عُلومُ ... إلى أن قال: وفي الذال والواو والعين الرمز المعمى إلى وفاة السرمري المسمى". انظر: التبيان (2/ 319)؛ والذال والواو والعين لو عددناها حسب الجُمّل صارت 776، فإن الذال في حساب الجُمّل = 700، والواو =6، والعين = 70. انظر: أسرار الحروف وحساب الجمُّل ص 24، طارق القحطاني، رسالة ماجستير في قسم العقيدة بكلية الدعوة وأصول الدين في جامعة أم القرى، 1429 - 1430. (¬8) نقلاً عن ترجمة كُتبت على طرة النسخة الخطية لكتابه: إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة, انظر: صورتها في المطبوع ص 65 , تحقيق: أبي عبدالله حسين بن عكاشة رمضان. (¬9) الرد الوافر ص 232.

المبحث الثالث حياته العلمية

المبحث الثالث حياته العلمية وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: نشأته وطلبه للعلم. المطلب الثاني: مكانته وثناء العلماء عليه. المطلب الثالث: شيوخه. المطلب الرابع: تلاميذه. المطلب الخامس: مؤلفاته.

المطلب الأول: نشأته وطلبه للعلم

المطلب الأول: نشأته وطلبه للعلم: نشأ جمال الدين السرمري رحمه الله في سر من رأى، وحفظ القرآن في صباه، وتفقه على سراج الدين الحسين بن يوسف التستري وغيره (¬1)، وقد برز في شبابه حتى كتب إليه الصلاح الصفدي بقوله: أيا فاضلاً في سر من را حوى العلا ... فكان له بدر الدياجي مسامرا (¬2) ثم انتقل إلى بغداد سنة 729 (¬3) وعمره آنذاك في حدود الثلاثة والثلاثين سنة، وأخذ عن الأئمة والمسندين من شيوخ بغداد، منهم: محمود بن علي الدقوقي أبو الثناء، والصفي عبدالمؤمن بن عبدالحق وغيرهما من العلماء (¬4)، كما أجازه من متقدمي شيوخ بغداد ابن الخراط الدواليبي، قال السرمري: "ومن شيوخي العوالي بالإجازة المسند عفيف الدين أبو عبدالله محمد بن عبدالمحسن بن أبي الحسن الواعظ البغدادي، والمسند شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحجار الصالحي وغيرهم" (¬5) وسمع الكتب الستة ومسند الإمام احمد والسنن الكبير للبيهقي وغير ذلك مما يطول ذكره (¬6)، ثم انتقل إلى دمشق سنة ست وأربعين وسبعمائة، قال الإمام الذهبي في المعجم المختص " تفقه على جماعة، ثم قدم علينا سنة ست وأربعين وسبعمائة، وقرأ علي، وله نظم جيد، ومعرفة بالمذهب وغيره، ونظم في الفقه مختصر ابن رزين، ¬

(¬1) انظر: إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة ص 65 نقلاً عن ترجمة كُتبت على طرة النسخة الخطية، وهو في الدرر الكامنة (6/ 247)، والسحب الوابلة (3/ 1182): "التبريزي"، وفي إنباء الغمر (1/ 150): "التستري". (¬2) السحب الوابلة (3/ 1185). (¬3) إنباء الغمر (1/ 150). (¬4) انظر: تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476)، التبيان (2/ 319)، درر العقود الفريدة (3/ 558)، إنباء الغمر (1/ 150)، الدرر الكامنة (6/ 247)، لحظ الألحاظ ص 160، المنهج الأحمد (5/ 144)، بغية الوعاة (2/ 360)، رفع النقاب ص 329. (¬5) انظر: الأعلام للزركلي (8/ 215) نقلاً عن نموذج خطه على ثبت النذرومي. (¬6) انظر: الأعلام للزركلي (8/ 215) نقلاً عن نموذج خطه على ثبت النذرومي.

ونظم التقريب في علوم الحديث لامية نحو ألف بيت" (¬1) وسمع بها من جماعة من أصحاب الفخر ابن البخاري، وأصحاب ابن عبدالدائم المقدسي الصالحي وغيرهم (¬2)، وقد كان من شيوخه ابن تيمية (¬3) وابن القيم (¬4)، وكانت بينه وبين الحافظ المزي مراسلات قال السرمري في شرح اللؤلؤة: " ... حكاية طريفة في المعنى أخبرنا بها الحافظ أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبدالرحمن المزي في كتابه لي بخطه مراراً" (¬5)، فأكثر وبرع في علوم كثيرة منها الحديث والفقه والعربية والفرائض والطب، ونظم عدة أراجيز في عدة فنون، وخرج لغير واحد، وكتب بخطه الجميل (¬6) كثيراً، حتى بلغت مصنفاته المائة وزادت، في بضعة وعشرين علماً (¬7)، وقد تصدى جمال الدين السرمري للتدريس والدعوة فتتلمذ عليه نخبة من النابهين في سائر الفنون، منهم: الإمام المقرئ ابن الجزري (¬8)، والإمام اللغوي الفيروزآبادي (¬9)، وأخذ عنه ابن رافع مع تقدمه ¬

(¬1) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة ص 65 نقلاً عن ترجمة كُتبت على طرة النسخة الخطية، تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476) وفيهما: "الغريب" بدل (التقريب)، وجاء في إنباء الغمر (1/ 150 - 151): "قدم علينا سنة ست وأربعين وقرأ عليّ، وله معرفة بالمذهب، ونظم جيد في علوم الحديث وغيرها". (¬2) انظر: تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476)، إنباء الغمر (1/ 150)، الدرر الكامنة (6/ 247). (¬3) وصفه في الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية بـ: "شيخنا"، في البيت رقم (102) و (147). (¬4) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 3 ب قال: "قال شيخنا شمس الدين ابن القيم رحمه الله" وقد وصفه بـ"شيخنا" في أكثر من موضع في كتابه هذا. (¬5) انظر: حاشية المقدمة اللؤلؤة في النحو للسرمري ص 169، تحقيق: عبدالرحمن العثيمين. (¬6) قال الدكتور: عبدالرحمن العثيمين في حاشية السحب الوابلة (3/ 1182) في ترجمة السرمري "ورأيت نماذج من خط السرمري وهو في غاية الإتقان والضبط"، وقال في حاشية المقدمة اللؤلؤة في النحو ص 167: "ويوجد نسخة من (القلادة السمطية في توشيح الدريدية) للحسن بن محمد الصغاني ... كلها بخط السرمري هذا، منسوخة سنة 729 بخط جميل". (¬7) انظر: تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476)، الدرر الكامنة (6/ 247)، إنباء الغمر (1/ 151)، وجيز الكلام (1/ 210)، المنهج الأحمد (5/ 144)، شذرات الذهب (8/ 430)، معجم مصنفات الحنابلة (4/ 175 - 176). (¬8) قال ابن الجزري في كتابه (أسنى المطالب في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب): "أخبرنا الإمام العالم المحدث الكبير أبو المظفر يوسف بن محمد السرمري الحنبلي رحمه الله مشافهة منه لي بمنزله من المدرسة الحنبلية داخل دمشق المحروسة في الثالثة عشرة من ذي الحجة سنة ست وستين وسبعمائة". انظر: أسمى المناقب في تهذيب أسنى المطالب ص 117، تهذيب وتحقيق الرافضي: محمد باقر المحمودي، 1403، بيروت؛ وجاء في طبعة أخرى للكتاب باسم (مناقب الأسد الغالب) ص 45، تحقيق: طارق الطنطاوي، مكتبة القرآن، مصر: "سنة ست وسبعين وسبعمائة" وهو خطأ. ؛ وروى الأيوبي في المناهل المسلسلة ص 24 الحديث المسلسل بالمصافحة من طريق ابن الجزري عن السرمري. (¬9) روى الأيوبي في المناهل المسلسلة الحديثَ المسلسل بمناولة السبحة من طريق الفيروز آبادي عن السرمري. انظر: المناهل المسلسلة في الأحاديث المسلسلة ص 33 - 34، لمحمد الأيوبي، الطبعة الأولى 1403، دار الكتب العلمية، بيروت.

وحدث عنه ومات قبله (¬1)، وأجاز الخليفة العباسي المصري: المعتضد بالله (¬2)، فقد جاء في كتابه (شرح اللؤلؤة) في قصة طريفة وقعت له في مجلس الخليفة، يقول: "فصل كنا عند الإمام أمير المؤمنين المعتضد بالله، الخليفة المصري العباسي بدمشق حين قدمها في سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة فقرأت له جزءاً من مسموعاتي والتمسته أن يكتب الطبقة بخطه الشريف، فكتبها ثم كتب في آخرها: كتبه أبا - بالنصب - بكر بن سليمان، فتناول الجزء بعض الحاضرين من يده فقرأه، فالتفت إلى آخر عن جانبه فغمزه، فانتبهت لهما، وقد كنت رأيته حين كتب ذلك، ولم يحتمل المجلس تلحين الخليفة، ولا هان عليّ مادار بين ذينك الشخصين، فانشدت في الحال قولهم: إنَّ أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتها فطرب من في المجلس لذلك، أما الحاضرون فإنهم عجبوا لإستحضار دليل جواز ذلك بسرعة، وأما مولانا أمير المؤمنين فإنه اتخذه في معرض المدح له ولآبائه ... " (¬3). وكان رحمه الله قائماً بالمعروف والنهي عن المنكر متحملاً في سبيل ذلك مايلقاه من أذى، فقد رد بقصيدة على التقي السبكي في قصيدته البائية المشهورة دفاعاً عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، فتململ بها المتهالكون من أهل البدع والأهواء لوقعها الشديد على قلوبهم، فرماه ¬

(¬1) انظر: الدرر الكامنة (6/ 247)، إنباء الغمر (1/ 150)، شذرات الذهب (8/ 429)، معجم المؤلفين (13/ 332)، لعمر كحالة، مكتبة المثنى ودار إحياء التراث، لبنان. (¬2) هو المعتضد بالله الثاني أبو الفتح أبو بكر بن المستكفي بالله من خلفاء العباسيين بمصر، ولي الخلافة بعد وفاة أخيه سنة 753 بعهد منه، وكان خيّراً متواضعاً محباً لأهل العلم، وقد توفي سنة 763. انظر: شذرات الذهب (6/ 197)، تاريخ الخلفاء ص 430، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد محي الدين عبدالحميد، الطبعة الأولى 1371، مطبعة السعادة، مصر. (¬3) شرح اللؤلؤ في النحو ص 85، تحقيق: إبراهيم حمد الدليمي، رسالة ماجستير في اللغة العربية وآدابها بكلية الدراسات العليا في الجامعة الأردنية، 1995 م.

أحدهم بعميه في البصيرة وافتتانه بابن تيمية (¬1)، ونبزه ثان (¬2) بالحشوي، ووصفه ثالث (¬3) بأنه يسير وراء ابن تيمية في شواذه حذو النعل بالنعل، ومن أبياته فيها: يا أيها المعتدي قولاً ومعتقداً ... على ابن تيمية ظلماً ومذهبه بيّن لنا بصريح القول معتمد ال ... إنصاف والعدل فيه ماتريد به (¬4) وحين لمز السبكي ابن تيمية بعد موته وتعالى في لمزه فقال: لو كان حياً يرى قولي ويسمعه ... رددت ما قال رداً غير مشتبه كما رددت عليه في الطلاق وفي ... ترك الزيارة أقفو إثر سبسبه (¬5) رد عليه السرمري: فضحت نفسك في هذا المقال ولم ... تشعر وعجت عن المرعى وأخصبه عرفتنا أن ماقد قلت ليس لوجـ ... ــه الله بل للمرا أقبح بمنصبه إذ لو أردت بيان الحق قلت به ... في محضر الخصم إما في مغيبه (¬6) ¬

(¬1) انظر: التوفيق الرباني في الرد على ابن تيمية الحراني ص 77. (¬2) وهو (النبهاني) في كتابه: شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - ص 126، المطبعة الميمنية، مصر، 1323؛ قال عنه الشيخ سليمان بن سحمان - رحمه الله - "مَن يوسف النبهاني وما يوسف؟ لا أكثر الله في الناس أمثاله ... صنَّف كتاباً في الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ورد عليه أئمة أهل الإسلام وبيَّنوا ما في كتابه من الأغلاط والأوهام والغلو المفرط الذي خرج به من دين الإسلام، إلى دين عبادة القبور من المشركين، وكان في عقيدته على طريقة أهل الاتحاد كابن عربي وأمثاله من أهل الكفر والعناد {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر: 11 - 12]، وهم من أكفر خلق الله على الإطلاق، ومن أهل الزندقة والنفاق، وكان يجحد علو الله على خلقه واستواءه على عرشه، وأنه ليس فوق السماء إله يُعبد، ولا يُصلى له ويُسجد ... ". كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام ص 297 - 298، الطبعة الأولى 1426، أضواء السلف، الرياض. (¬3) وهو (الكوثري) في هامش: لحظ الألحاظ ص 161، ولا عجب أن يصف هذا القِذِّيف الشَّغَّاب السَّبَّاب الطَّعَّان الشَّتَّام هذا الوصف القبيح فقد اجتمعت فيه أمراض متنوعة من التقليد الأصم، والتمشعر بغلو وجفاء، والتصوف السادر، والقبورية المكِبَّة للمخلوق عن الخالق. انظر: براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة ص 6، 34، لبكر أبو زيد، الطبعة الثانية 1408، إدارة المطبوعات بوزارة الإعلام، الرياض. (¬4) الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية ص 53. (¬5) الحمية الإسلامية ص 75. (¬6) الحمية الإسلامية ص 76.

المطلب الثاني: مكانته وثناء العلماء عليه

إلى أن قال: لكن إذا الأسد الضرغام غاب عن الـ ... ــالعرين تسمع فيه ضبح (¬1) ثعلبه كذا الجبان خلا في البر صاح ألا ... مبارز وتغالى في توثبه (¬2) وكان - رحمه الله - يسكن بالمدرسة الحنبلية وفي آخر عمره أقعد فصار الناس يقصدونه بها يقرؤن عليه (¬3) حتى توفي رحمه الله رحمة واسعة، وهكذا قضى السرمري حياته حافلة بالتفقه، والإستجازة، والسماع، والتدريس، والإملاء، والتصنيف في علوم شتى نظماً ونثراً، ومدافعاً عن العقيدة الصحيحة، ومنافحاً عن منهج السلف الصالح، ولا غرابة فهو القائل في مطلع اللؤلؤة: "وبعد فالعلم زين فافن عمرك في ... تحصيل ما اسطعت منه واعص من عذلا" (¬4). المطلب الثاني: مكانته وثناء العلماء عليه: لقد تبوّأ الإمام جمال الدين السرمري مكانة رفيعة عند كثير ممن ترجم له، إذ نبغ في علوم شتى، وصنّف في أنواع كثيرة نثراً ونظماً، وخرّج وأفاد وأملى روايةً وعلماً، فخلد الأئمة ذكرَه، وأثنوا عليه ثناء عاطراً. قال عنه الحافظ ابن ناصر الدين: "الشيخ الإمام العلامة الحافظ البركة القدوة، ذو الفنون البديعة والمصنفات النافعة، جمال الدين، عمدة المحققين ... كان إماماً ثقةً عمدةً زاهداً عابداً محسناً جهده، صنف في أنواع كثيرة نثراً ونظماً، وخرج وأفاد، وأملى روايةً وعلماً ... وكان عمدةً في نقد رجال الحديث وضبطه" (¬5). ¬

(¬1) ضبحَ الثعلبُ ضَبْحاً، وضُبَاحاً: صوَّت. المعجم الوسيط ص 533. (¬2) الحمية الإسلامية ص 77. (¬3) انظر: إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة ص 65 نقلاً عن ترجمة كُتبت على طرة النسخة الخطية، إنباء الغمر (1/ 150)، الدرر الكامنة (6/ 247)، وجيز الكلام (1/ 210). (¬4) المقدمة اللؤلؤة في النحو ص 183، تحقيق: الدكتور عبدالرحمن العثيمين. (¬5) الرد الوافر ص 232.

وقال عنه أيضاً في (بديعة البيان): "السرمري يوسف القويمُ ... ذكيهم وازنه علوم" (¬1). وقال أيضاً: "كان إماماً علامة ذا فنون ثقة عمدة، لم نر أكثر تصنيفاً منه بعده" (¬2). وقال الإمام تقي الدين المقريزي: "كان إماماً عالماً ثقة عمدة، زاهداً عابداً ... وله نظم ونثر ومعرفة برجال الحديث وضبطه وبالعربية والفرائض" (¬3). وقال الإمام العليمي: " الشيخ العالم المحدّث / المفنّن " (¬4). وقال العلامة ابن عماد: "الشيخ العالم المفنّن الحافظ ... ذكره الذهبي في (المعجم المختص) وأثنى عليه" (¬5). وكتب السرمري إلى الصلاح الصفدي استجازة فأجابه الصفدي بقوله: "لبيك ياحلف النهى والسؤدد ... ومن امتطى بالعلم فوق الفرقد ومن اغتدى فينا وثغر علومه ... عذب مقبَّله شهي المورد وإذا أفاض الطالبين مسائلاً ... يسقى بريّا ريقه العطش الصدي وإذا جلى نظماً رأينا عقده ... من لؤلؤ متتابع متسرد شرفت ربع دمشق حين سكنته ... بفضائل بين الورى لم تجحد إلى أن قال الصفدي: أنت الإمام الحبر أمرك طاعة ... بك أقتفي سبل البيان وأقتدي" (¬6). وقال الإمام الذهبي: "له نظم جيد، ومعرفة بالمذهب وغيره" (¬7) ¬

(¬1) التبيان لبديعة البيان (2/ 319). (¬2) التبيان لبديعة البيان (2/ 319). (¬3) درر العقود الفريدة (3/ 558). (¬4) المنهج الأحمد (5/ 143)، الدر المنضد (2/ 555). (¬5) شذرات الذهب (8/ 429). (¬6) السحب الوابلة (3/ 1184 - 1185). (¬7) تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476)، إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة ص 65 نقلاً عن ترجمة كُتبت على طرة النسخة الخطية.

وقال عنه الحافظ ابن حجر: "برع في العربية والفرائض، ونظم عدة أراجيز في عدة فنون، وخرج لغير واحد وحدث ... وتفقه" (¬1). وقال الحافظ السخاوي: "كان عارفاً بالمذهب ذا نظم جيد مع مشاركة في العربية والفرائض" (¬2). وقال العلامة ابن قاضي شهبة: "العالم المحدّث المفنّن" (¬3). ووصفه التقي ابن فهد: بـ" الإمام العلامة الحافظ ... كان عمدة ثقة ذا فنون إماماً علامة، له مصنفات عدة في أنواع كثيرة نثراً ونظماً، خرج وأفاد وأملى رواية وعلماً " (¬4). وقال العلامة شهاب الدين ابن حجي: "كانت له مشاركة جيدة في العربية واللغة والفرائض" (¬5). وقال الكتاني: "الحافظ الرحال" (¬6). وقال صالح آل عثيمين: "الإمام العلامة الحافظ" (¬7). ¬

(¬1) الدرر الكامنة (6/ 247). (¬2) وجيز الكلام (1/ 210). (¬3) تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476). (¬4) لحظ الألحاظ ص 160. (¬5) تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476). (¬6) فهرس الفهارس (2/ 925). (¬7) تسهيل السابلة لمريد معرفة الحنابلة (2/ 1170)، لصالح آل عثيمين، تحقيق: بكر أبو زيد، الطبعة الأولى 1421، مؤسسة الرسالة، بيروت.

المطلب الثالث: شيوخه

المطلب الثالث: شيوخه: تتلمذ جمال الدين السرمري رحمه الله على طائفة كبيرة من من علماء عصره في سائر الفنون، حتى صار من الصعب حصرهم، وسأذكر لك جملة من شيوخه: 1 - أحمد بن أبي طالب بن نعمه بن حسن بن علي الصالحي الحجار، مسند الدنيا رحلة الآفاق أَبو العباس المعروف بابن الشحنة، حدّث بـ (صحيح البخاري) أكثر من سبعين مرة، وعمّر حتى ألحق الأحفاد بالأجداد، ورحل إليه من البلاد، وقد توفي سنة 730 (¬1)؛ وقد صرح السرمري بأنه من شيوخه العوالي بالإجازة (¬2). 2 - أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية النميري الحراني، شيخ الإسلام تقي الدين، المتوفى سنة 728؛ وقد وصفه السرمري بـ (شيخنا) في موضعين من كتابه (الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية) (¬3). 3 - أحمد بن محمد المعروف بابن الجوخي ويقال له أيضاً ابن الزقاق، الحافظ بدر الدين، توفي سنة 764 (¬4)؛ خرّج له السرمري "مشيخة" وروى عنه (¬5). 4 - الحسين بن يوسف بن محمد بن أبي السري الدجيلي البغدادي، سراج الدين، المتوفى سنة 732 (¬6)؛ أخذ السرمري عنه الفقه (¬7). 5 - خليل بن أيبك الصفدي، صلاح الدين، المتوفى سنة 764 (¬8)؛ كتب إليه السرمري ¬

(¬1) الدرر الكامنة (1/ 152)، السحب الوابلة (3/ 1090). (¬2) انظر: الأعلام للزركلي (8/ 215) نقلاً عن نموذج خطه على ثبت النذرومي. (¬3) الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية، البيت رقم (102) و (147). (¬4) الدرر الكامنة (1/ 265)، الأعلام (1/ 216). (¬5) معجم المعاجم والمشيخات (1/ 464)، ليوسف المرعشلي، الطبعة الأولى 1423، مكتبة الرشد، الرياض. (¬6) ذيل طبقات الحنابلة (5/ 30 - 33)، لابن رجب، تحقيق: عبدالرحمن العثيمين، الطبعة الأولى 1425، مكتبة العبيكان، الرياض. (¬7) انظر: إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة ص 65 نقلاً عن ترجمة كُتبت على طرة النسخة الخطية، وهو في الدرر الكامنة (6/ 247)، والسحب الوابلة (3/ 1182): "التبريزي" وفي إنباء الغمر (1/ 150): "التستري". (¬8) الأعلام (2/ 315).

قصيدة يستجيزه فيها له ولزوجته ولأولاده ولابن أخيه فأجازهم الصلاح الصفدي شعراً، وقد ذكرها الصفدي في كتابه (ألحان السواجع) (¬1). 6 - صالح بن الحافظ صدر الدين أحمد بن الأنجب ابن الكَسَّار الواسطي، القاضي المقرئ قوام الدين أبو الفضل، توفي سنة 744 (¬2)؛ خرّج له السرمري "مشيخة" وروى عنه (¬3). 7 - عبدالله بن محمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن أبي البركات الزريراني، تقي الدين، إمام من متقدمي علماء الحنابلة، المتوفى سنة 729 (¬4)؛ ذكره السرمري في شرح اللؤلؤة ووصفه بـ "شيخنا الإمام العلامة" (¬5). 8 - عبدالرحمن ابن الشيخ الصالح نجم الدين عبدالله بن أحمد الدجيلي، ثم الدوري الحريري الأصولي الحنبلي، تاج الدين أبو الفرج؛ ذكر العليمي في (المنهج الأحمد) أنه من مشايخ جمال الدين السرمري، ولم يؤرِّخ لوفاته (¬6). 9 - عبدالمؤمن بن عبدالحق بن عبدالله بن علي بن مسعود البغدادي الحنبلي، صفي الدين، صاحب "مراصد الاطلاع" وغيره، وهو ممن قام في الانتصار لابن تيمية عندما سجن في مسألة شد الرحال إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكتب بموافقته (¬7)، توفي سنة 739 (¬8). أخذ السرمري عنه الفقه وسمع الحديث منه ببغداد (¬9). 10 - عبد المنعم بن التقي أحمد بن سليمان بن البوري ابو منصور؛ ذكره ابن ناصر الدين ¬

(¬1) السحب الوابلة (3/ 1183 - 1185). (¬2) معجم المعاجم والمشيخات (1/ 438). (¬3) معجم المعاجم والمشيخات (1/ 438)، توضيح المشتبه (5/ 184). (¬4) ذيل طبقات الحنابلة (5/ 1 - 7). (¬5) شرح اللؤلؤ ص 47، تحقيق: إبراهيم الدليمي. (¬6) المنهج الأحمد (5/ 145). (¬7) مجموع الفتاوى (27/ 199 - 200). (¬8) انظر: شذرات الذهب (6/ 121). (¬9) انظر: تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476)، التبيان (2/ 319)، إنباء الغمر (1/ 150)، الدرر الكامنة (6/ 247)، لحظ الألحاظ ص 160، بغية الوعاة (2/ 360)، رفع النقاب ص 329.

في (توضيح المشتبه) وقال: "حدث عن أبيه وعنه أبو المظفر يوسف بن محمد السرمري" (¬1). 11 - المبارك بن بركات بن المبارك اللبناني ثم الحموي، الأمين أبو سعيد. ذكره ابن ناصر الدين في (توضيح المشتبه) وقال: "حدث عن التاج عبد الخالق بن عبد السلام وغيره وعنه العلامة أبو المظفر يوسف بن محمد السرمري" (¬2). 12 - محمد بن إبراهيم بن عمر بن أبي البدر بن حسن الحنبلي الخالدي البغدادي، تقي الدين أبو البدر، توفي سنة 741 (¬3)؛ ذكره السرمري في (شفاء الآلام) ووصفه بـ "شيخنا الصالح" (¬4). 13 - محمد بن إبراهيم بن محمد ابن أبي بكر بن إبراهيم الأنصاري الخزرجي، المعروف بابن إمام الصخرة، المتوفى سنة 766 (¬5)؛ قرأ عليه السرمري كتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لشيخ الإسلام ابن تيمية، مناولة من مؤلفه (¬6). 14 - محمد بن الشيخ الصالح أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي ثم الدمشقي الحنبلي، المشهور بابن قيم الجوزية، المتوفى سنة 751 (¬7)؛ قال السرمري في كتابه (شفاء الآلام في طب أهل الإسلام) قال: "قال شيخنا شمس الدين ابن القيم رحمه الله" (¬8)، وقد وصفه بـ (شيخنا) في أكثر من موضع في هذا الكتاب. 15 - محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبدالله التركماني الأصل، ثم الدمشقي، ¬

(¬1) في توضيح المشتبه (1/ 634) المطبوع "السرمسري" وهو تصحيف، وقد نقله الشيخ عبدالرحمن المعلمي على الصواب في حاشية الإكمال للحافظ ابن ماكولا (1/ 588)، الطبعة الثانية 1993 م، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة. (¬2) توضيح المشتبه (7/ 364). (¬3) المنتقى من معجم شيوخ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن رجب الحنبلي ص 26، تحقيق: عبدالله الكندري، الطبعة الأولى 1426، غراس، الكويت. (¬4) شفاء الآلام (مخطوط) ورقة: 153 أ. (¬5) الرد الوافر ص 80، تحقيق: زهير الشاويش. (¬6) انظر: الرد الوافر ص 81، تحقيق: زهير الشاويش. (¬7) ذيل طبقات الحنابلة (5/ 170 - 179). (¬8) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 3 ب.

الحافظ شمس الدين الذهبي، المتوفى سنة 748 (¬1)؛ وقد تقدم قول الذهبي أن السرمري قدم عليهم سنة ست وأربعين وقرأ عليه، وقال السرمري في كتابه (شفاء الآلام في طب أهل الإسلام): "فأخبرني شيخنا شمس الدين الذهبي ... وهو مسموم بين الطلبة والله المستعان" (¬2). 16 - محمد بن عبدالعزيز بن علي ابن المؤذن الوراق البغدادي، شمس الدين أبي عبدالله، توفي نحو 750 (¬3)؛ خرَّج له السرمري "معجم" ووصفه فيه بـ"شيخنا العدل الأمين الثقة بقية السلف" (¬4). 17 - محمد بن عبدالمحسن بن أبي الحسن البغدادي، عفيف الدين الواعظ المعروف بابن الدواليبي، المتوفى سنة 728 (¬5)؛ وقد صرح السرمري بأنه من شيوخه العوالي بالإجازة (¬6). 18 - محمد بن محمد بن منصور اليزدي الخوزي أبو المجد، سمع على ابن الدواليبي وشرف الدين اليونيني والذهبي والمزي وغيرهم، وصحب شيخ الإسلام ابن تيمية، توفي سنة 742 (¬7)؛ ذكره ابن ناصر الدين في (توضيح المشتبه) وقال: "حدث عن أبي الحسين علي بن اليونيني، وعنه الإمام أبو المظفر يوسف بن محمد السرمري" (¬8). 19 - محمد بن محمود العدل البغدادي الحنبلي، جمال الدين أبو طالب؛ قال جمال الدين السرمري في كتابه (الأربعون الصحيحة): "أخبرني الشيخ أبو طالب محمد بن محمد بن محمود العدل بقراءتي عليه برباط الأرجوانية (¬9) من درب زاخي شرقي بغداد في يوم الجمعة سادس عشر ¬

(¬1) السحب الوابلة (3/ 1091). (¬2) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام: ورقة: 204 أ. (¬3) معجم المعاجم والمشيخات (1/ 454). (¬4) فوائد مخرجة عن شيوخ شمس الدين الوراق (مخطوط) ورقة: 85 أ. (¬5) الدرر الكامنة (4/ 27 - 28). (¬6) انظر: الأعلام للزركلي (8/ 215) نقلاً عن نموذج خطه على ثبت النذرومي. (¬7) المنتقى من معجم شيوخ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن رجب الحنبلي ص 34. (¬8) توضيح المشتبه (2/ 530). (¬9) الأرجوانية: نسبة إلى أرجوان أم الخليفة المقتدي بأمر الله، كانت جارية أرمنية وكان لها بر ومعروف، بَنت ببغداد رباطاً (أي: وقفاً) كبيراً للصوفية، أدركت خلافة ابنها المقتدي وخلافة ابنه المستظهر وخلافة ابنه المسترشد، توفيت سنة 512. انظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (9/ 200)، لابن الجوزي، الطبعة الأولى 1358، دار صادر، بيروت؛ الوافي بالوافيات (24/ 174).

المطلب الرابع: تلاميذه

شعبان من سنة ثلاثين وسبعمائة" (¬1)؛ وقد ذكر العليمي في (المنهج الأحمد) أنه من مشايخ جمال الدين السرمري، ولم يؤرِّخ لوفاته (¬2). 20 - محمود بن علي بن محمود بن مقبل الدقوقي الحنبلي أبي الثناء، المتوفى سنة 733 (¬3)؛ سمع السرمري الحديث منه ببغداد (¬4). 21 - يوسف بن إسماعيل بن إلياس بن أحمد البغدادي الشافعي، المعروف بابن الكتبي، صنف كتاب "مالا يسع الطبيب جهله"، وهو ممن قام في الانتصار لابن تيمية عندما سجن في مسألة شد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى السلطان يرجو منه إخراجه من السجن (¬5)، وقد توفي سنة 754 (¬6)؛ قال جمال الدين السرمري في كتابه (شفاء الآلام): "سمعت شيخنا نصير الدين بن الكتبي أستاذ الطب في وقته" (¬7). المطلب الرابع: تلاميذه: 1 - ابنه: إبراهيم بن يوسف بن محمد السرمري، ولد في حدود الخمسين وسبعمائة، وأُسمع على ابن الخبَّاز وبشر بن إبراهيم البعلي، سمع منه الفضلاء، وأجاز لابن حجر، وتوفي رحمه الله ¬

(¬1) الأربعون الصحيحة ص 151 - 152، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف، الطبعة الأولى 1421، المكتب الإسلامي، بيروت ودمشق وعَمان. (¬2) المنهج الأحمد (5/ 145). (¬3) الدرر الكامنة (4/ 330). (¬4) انظر: تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476)، التبيان (2/ 319)، إنباء الغمر (1/ 150)، الدرر الكامنة (6/ 247)، لحظ الألحاظ ص 160، بغية الوعاة (2/ 360)، رفع النقاب ص 329. (¬5) مجموع الفتاوى (27/ 194 - 196). (¬6) معجم المؤلفين (13/ 274). (¬7) شفاء الآلام (مخطوط) ورقة: 90 أ.

سنة 803 بدمشق (¬1)؛ قال ابن ناصر الدين الدمشقي (¬2) في ترجمة السرمري: "حدثنا عنه ابنه إبراهيم"، وقال ابن فهد في (لحظ الألحاظ): "روى عنه جماعة منهم ابنه إبراهيم" (¬3). 2 - أحمد بن حجي بن موسى السَّعدي بن الحسباني الدمشقي الشافعي، مؤرخ الإسلام أبو العباس، توفي سنة 816 (¬4)؛ نقل ابن قاضي شهبة في تاريخه عن ابن حجي أنه قال: "سمعت منه" (¬5). 3 - أحمد بن يوسف البانياسي الدمشقي المقرئ، شهاب الدين أبو العباس، توفي سنة 803 (¬6)؛ روى السيوطي في "الحاوي للفتاوي" الحديث المسلسل بالسبحة من طريقه عن السرمري (¬7). 4 - سعيد بن عبدالله الحريري الحنبلي، المحدث الحافظ المؤرخ نجم الدين أبو الخير، وتوفي سنة 749 (¬8)؛ سمع من السرمري منظومة (نهج الرشاد في نظم الاعتقاد) في الرابع عشر من صفر سنة ثلاثين وسبعمائة ببغداد، وقد أجاز له روايتها عنه ورواية جميع ماله روايته من مسوعات ومجازات ومنظومات ومنثورات وجميع مايدخل تحت روايته من جميع الفنون، وكتب السرمري طبقة السماع بيده آخر النسخة الخطية (¬9). 5 - صواب بن عبدالله الحر الهندي عتيق الشيخ جمال الدين السرمري، سمع منه (نهج الرشاد) في الرابع عشر من صفر سنة ثلاثين وسبعمائة ببغداد، وقد أجاز له روايتها عنه ورواية جميع ماله روايته من مسوعات ومجازات ومنظومات ومنثورات وجميع مايدخل تحت روايته من جميع الفنون، وكتب السرمري طبقة السماع بيده آخر النسخة الخطية (¬10). 6 - عبد الرحمن بن عمر بن عبد الرحمن بن حسن المصري الحموي الأصل القبابي ثم المقدسي الحنبلي، توفي سنة 838 (¬11)؛ ذكر السخاوي في ترجمته أنه سمع على الجمال يوسف السرمري. 7 - المأمون بن السعيد المرحوم مجد الدين إسماعيل بن الشيخ الصالح جمال الدنيا والدين أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن الرشيد الهاشمي العباسي؛ سمع من السرمري منظومة (نهج الرشاد في نظم الاعتقاد) في الرابع عشر من صفر سنة ثلاثين وسبعمائة ببغداد، وقد أجاز له روايتها عنه ورواية ¬

(¬1) انظر: "الضوء اللامع" (1/ 182)، و"السحب الوابلة" (1/ 78). (¬2) " التبيان" (2/ 319). (¬3) لحظ الألحاظ ص 160. (¬4) التبيان (2/ 329)، الأعلام (1/ 110). (¬5) تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476). (¬6) إنباء الغمر (2/ 157). (¬7) الحاوي للفتاوي (2/ 5)، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: عبداللطيف حسن عبدالرحمن، الطبعة الأولى 1421، دار الكتب العلمية، بيروت؛ وفيه "الترمذي" بدل (السرمري) وهو تصحيف. (¬8) ذيل طبقات الحنابلة (5/ 148 - 149). (¬9) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد ص 48 - 49، تحقيق: مطلق الجاسر، الطبعة الأولى 1430، دار التواصل، الكويت. (¬10) نهج الرشاد ص 48 - 49. (¬11) الضوء اللامع (4/ 113 - 114).

جميع ماله روايته من مسوعات ومجازات ومنظومات ومنثورات وجميع مايدخل تحت روايته من جميع الفنون، وكتب السرمري طبقة السماع بيده آخر النسخة الخطية (¬1). 8 - محمد بن هجرس بن رافع السلامي المصري ثم الدمشقي الشافعي، الحافظ تقي الدين أبو المعالي، عمل لنفسه معجماً في أربع مجلدات وهو في غاية الإتقان والضبط مشحون بالفوائد ويشتمل على أزيد من ألف شيخ، توفي سنة 774 (¬2)؛ قال ابن حجر: "أخذ عنه ابن رافع مع تقدمه، وذكره في معجمه وحدَّث عنه، ومات قبله" (¬3). 9 - محمد بن محمد بن بن علي بن يوسف الجزري الدمشقي العمري الشيرازي الشافعي، الإمام المقرئ، المتوفى سنة 833 بشيراز (¬4)؛ قال ابن الجزري في كتابه (مناقب الأسد الغالب): "أخبرنا الإمام العالم المحدث الكبير أبو المظفر يوسف بن محمد السرمري الحنبلي رحمه الله مشافهة منه لي بمنزله من المدرسة الحنبلية داخل دمشق المحروسة في الثالثة عشرة من ذي الحجة ¬

(¬1) نهج الرشاد ص 48 - 49. (¬2) الدرر الكامنة (3/ 439 - 440). (¬3) إنباء الغمر (1/ 150). (¬4) شذرات الذهب (7/ 204 - 206).

المطلب الخامس: مؤلفاته

سنة ست وستين وسبعمائة" (¬1)، وروى الأيوبي في "المناهل المسلسلة" (¬2) والفاداني في "العجالة في الأحاديث المسلسلة" (¬3) الحديث المسلسل بالمصافحة من طريق ابن الجزري عن السرمري. 10 - محمد بن يعقوب الفيروزآبادي الشيرازي، الإمام اللغوي مجد الدين أبو طاهر، صاحب "القاموس المحيط"، المتوفى سنة 817 (¬4)؛ وروى الأيوبي في "المناهل المسلسلة" (¬5) الحديث المسلسل بمناولة السبحة من طريق الفيروزآبادي عن السرمري. المطلب الخامس: مؤلفاته: تفنن جمال الدين السرمري - رحمه الله - في التصنيف والتأليف نظماً ونثراً لتبحره في مختلف العلوم والفنون، فقد كتب في بضعةٍ وعشرين علماً، وزادت مؤلفاته على المائة مصنف (¬6). قال العلامة شهاب الدين ابن حجي: "رأيت بخطه ماصورته: مؤلفاتي تزيد على مائة مصنف كبار وصغار في بضعة وعشرين علماً، ذكرتها على حروف المعجم في (الروضة المورقة في الترجمة المونقة) " (¬7). ¬

(¬1) أسمى المناقب في تهذيب أسنى المطالب ص 117؛ وجاء في طبعة أخرى للكتاب باسم (مناقب الأسد الغالب) ص 45: "سنة ست وسبعين وسبعمائة" وهو خطأ فالسرمري في شهر ذي الحجة من سنة ست وسبعين وسبعمائة كان ميتاً كما ثبت في تأريخ وفاته. (¬2) المناهل المسلسلة ص 42. (¬3) العجالة في الأحاديث المسلسلة ص 11، لأبي فيض محمد ياسين الفاداني المكي، الطبعة الثانية 1985 م، دار البصائر، دمشق. (¬4) الضوء اللامع (10/ 79). (¬5) "المناهل المسلسلة" ص 33 - 34. (¬6) انظر: تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476)، الدرر الكامنة (6/ 247)، إنباء الغمر (1/ 151)، وجيز الكلام (1/ 210)، المنهج الأحمد (5/ 144)، شذرات الذهب (8/ 430)، معجم مصنفات الحنابلة (4/ 175 - 176). (¬7) تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476)، شذرات الذهب (8/ 430)، المنهج الأحمد (5/ 144).

1 - "الأحاديث القدسية" جزء.

وقال ابن رافع في معجمه: "بلغت مصنفاته مائة" (¬1). وقال الحافظ ابن ناصر الدين: "لم نر أكثر تصنيفاً منه بعده" (¬2). وقد ترجم له في (الرد الوافر) بقوله: "ذو الفنون البديعة والمصنفات النافعة ... صنف في أنواع كثيرة نثراً ونظماً وخرّج وأفاد وأملى رواية وعلماً" (¬3). وهذه قائمة بمؤلفاته التي وقفت عليها من خلال المصادر المثبتة: 1 - "الأحاديث القدسية" جزء. ذكره ابن حميد في (السحب الوابلة) (¬4) وابن ضويان في (رفع النقاب) (¬5) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬6) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬7). 2 - أحاديث منقولة عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - متضمنة شفاء من أصبح على شفى. قال جمال الدين السرمري في (شفاء الآلام في طب أهل الإسلام): "فحينئذ جمعت أحاديث منقولة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم متضمنة شفاء من أصبح على شفى، جعلتها كالأصول، وتكلمت عليها بما فتح الله من المأثور والمعقول، وشرحت مشكلها، وفتحت مقفلها، وذكرت خلال ذلك ما قاله جهابذة الأطباء، ووافق عليه نحارير الحكماء الألباء، لتسكن إليه النفس بالكلية، فلما طال اشتغالي بالحديث ومطالعتي ومراجعتي كتب الطب والأطباء، وذاكرتهم في قواعده، وأخذت من أفواههم نُكَتاً عديدة من فوائده، توفرت ¬

(¬1) بغية الوعاة (2/ 360). (¬2) التبيان (2/ 319). (¬3) الرد الوافر ص 232. (¬4) السحب الوابلة (3/ 1183). (¬5) رفع النقاب ص 329. (¬6) تسهيل السابلة (2/ 1172). (¬7) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 176).

3 - إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة.

الهمة على جمع كتاب أجمع من ذلك، وبناء أرفع وأوسع من ذلك، فجمعت هذا الكتاب ضمنته ما لم يتسع ذلك له، ووضعته على منهاج آخر، وأسلوب غير أسلوب الأول" (¬1). 3 - إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة. ذكره الزركلي في (الأعلام) (¬2) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬3) وبكر أبو زيد في (المدخل المفصل) (¬4) وذُكِر أيضاً في (الفهرس الشامل للتراث العربي المخطوط) قسم مخطوطات الفقه وأصوله (¬5). وقد طبع سنة 1427 بتحقيق أبو عبدالله حسين بن عكاشة، وطبعه في دار الكيان بالرياض. قال السرمري في مقدمته: "فإن المنهل الصافي من الكدر، والمنهج الآمِن من الخطر، منهج الوحي المحفوظ بالتنزيل، ومنهج الرسول المحروس من التبديل، فلما كان الشأن والقصة هذا أحببت أن انتخب مما اشتملا عليه من الأحكام كتاباً لطيفاً، يرغب الطالب في حفظه لقلة لفظه، وينشرح صدره للأخذ بحكمة حُكمه لصغر حجمه، ويربح كلفة ترجيح أحد أقوال العلماء والانتصار لفلان وفلان من الفقهاء، فيقول: قال الله وقال الرسول وناهيك بما في ذلك من إدراك السؤال، فاستخرت الله - تعالى - في ذلك، وافتتحت كل باب بآية فصاعداً من الكتاب العزيز تتعلق بأحكامِهِ، وتشهد بتهذيبه وإحكامِهِ، وتوخيت قصار الأخبار طلباً للاختصار؛ وعزوت كل حديث إلى من رواه من الأئمة، وربما حذفت من الحديث قصة غير مهمة ... وافتتحته بكتاب الإيمان والسنة اتباعاً لطريقة السلف، وترغيباً لمن بعدهم من ¬

(¬1) شفاء الآلام (مخطوط) ورقة: 7 ب، 8 أ. (¬2) الأعلام (8/ 250). (¬3) تسهيل السابلة (2/ 1171). (¬4) المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد (2/ 992)، دار العاصمة. (¬5) الفهرس الشامل للتراث العربي المخطوط، مخطوطات الفقه وأصوله (1/ 182)، المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت).

4 - الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة.

الخلف" (¬1). وقد رتب السرمري هذا الكتاب على الأبواب الفقهية، وافتتحه بكتاب الإيمان والسنة، ثم ذكر كتاب الطهارة فالصلاة فالزكاة فالحج فالبيوع إلى آخر الأبواب الفقهية، وقسم كل كتاب إلى أبواب وفصول، ولما انتهى من ذكر الأحكام الفقهية ذكر كتاب الأدب، وختم السرمري الكتاب بطائفة عطرة من الآيات القرآنية (¬2). 4 - الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة. ذكره ابن ناصر الدين في (التبيان) (¬3) وابن حجر في (إنباء الغمر) (¬4) وفي (الدرر الكامنة) (¬5) وابن فهد في (لحظ الألحاظ) (¬6) والعليمي في (المنهج الأحمد) (¬7) وفي (الدر المنضد) (¬8) وحاجي خليفة في (كشف الظنون) (¬9) وابن عماد في (شذرات الذهب) (¬10) وابن حميد في (السحب الوابلة) (¬11) والبغدادي في (هدية العارفين) (¬12) وابن ضويان في (رفع النقاب) (¬13) والزركلي في (الأعلام) (¬14) والكتاني في (فهرس الفهارس) (¬15) وبروكّلمان في (تاريخ الأدب العربي) (¬16) وصالح ¬

(¬1) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة ص 71 - 72. (¬2) انظر: مقدمة تحقيق (إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة) ص 55 - 57. (¬3) التبيان (2/ 320). (¬4) إنباء الغمر (1/ 150). (¬5) الدرر الكامنة (6/ 247). (¬6) لحظ الألحاظ ص 161. (¬7) المنهج الأحمد (5/ 144). (¬8) الدر المنضد (2/ 555). (¬9) كشف الظنون (1/ 56). (¬10) شذرات الذهب (8/ 429). (¬11) السحب الوابلة (3/ 1182) ونقله باسم "كتاب الأربعين الصحيحة فيما دون أجر المنيحة". (¬12) هدية العارفين (2/ 558). (¬13) رفع النقاب ص 329 وفي المطبوع "كتاب الأربعين الصحيحة فيما دون أجزاء المنتخبة". (¬14) الأعلام (8/ 250) وذكره مختصراً باسم "كتاب الأربعين الصحيحة". (¬15) فهرس الفهارس (2/ 926) وذكره مختصراً باسم "كتاب الأربعين الصحيحة". (¬16) تاريخ الأدب العربي (7/ 20).

5 - الأرجوزة الجلية في الفرائض الحنبلية.

آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬1) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬2). وقد طبع سنة 1421 بتحقيق محمد خير رمضان يوسف، وطبعه في دار ابن حزم ببيروت. وقد بنى السرمري كتابه هذا على حديث أخرجه الإمام البخاري وهو: "أربعون خصلة، أعلاهن منيحة العنز، مامن عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها، إلا أدخله الله بها الجنة". فالكتاب - باختصار - في موجبات الجنة (¬3). 5 - الأرجوزة الجلية في الفرائض الحنبلية. ذكره الزركلي في (الأعلام) (¬4) وبروكّلمان في (تاريخ الأدب العربي) (¬5) وبكر أبو زيد في (المدخل المفصل) (¬6) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬7). وقد طبع سنة 1431 بعناية فيصل بن يوسف أحمد العلي، وطبعه في دار البشائر الإسلامية ببيروت. وقد أراد أن يجمع في هذه المنظومة أصول علم الفرائض، وعدد أبياتها 167. ¬

(¬1) تسهيل السابلة (2/ 1171). (¬2) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 176). (¬3) انظر: مقدمة تحقيق (الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة) ص 5 - 6، لمحمد خير رمضان يوسف. (¬4) الأعلام (8/ 251) وذكره باسم "الأرجوزة الجلية في الفرائد الحنبلية". (¬5) تاريخ الأدب العربي (7/ 21). (¬6) المدخل المفصل (2/ 992). (¬7) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 177) وقد ذكره باسم "الأرجوزة الجلية في الفرائد الحنبلية".

6 - الإفادات المنظومة في العبادات المختومة.

6 - الإفادات المنظومة في العبادات المختومة. ذكره حاجي خليفة في (كشف الظنون) (¬1) والبغدادي في (هدية العارفين) (¬2) وكحالة في (معجم المؤلفين) (¬3) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬4) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬5). 7 - تخريج الأحاديث الثمانيات. ذكره ابن ناصر الدين في (التبيان) (¬6) والمقريزي في (درر العقود الفريدة) (¬7) وابن حجر في (إنباء الغمر) (¬8) وفي (الدرر الكامنة) (¬9) وابن فهد في (لحظ الألحاظ) (¬10) والعليمي في (المنهج الأحمد) (¬11) وفي (الدر المنضد) (¬12) وحاجي خليفة في (كشف الظنون) (¬13) وابن العماد في (شذرات الذهب) (¬14) وابن حميد في (السحب الوابلة) (¬15) وابن ضويان في (رفع النقاب) (¬16) والكتاني في ¬

(¬1) كشف الظنون (1/ 131). (¬2) هدية العارفين (2/ 558). (¬3) معجم المؤلفين (13/ 332). (¬4) تسهيل السابلة (2/ 1171). (¬5) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 177). (¬6) التبيان (2/ 320). (¬7) درر العقود الفريدة (3/ 558) وذكره مختصراً باسم "الثمانيات". (¬8) إنباء الغمر (1/ 150) وذكره مختصراً باسم "الثمانيات". (¬9) الدرر الكامنة (6/ 247) وذكره مختصراً باسم "الثمانيات". (¬10) لحظ الألحاظ ص 161. (¬11) المنهج الأحمد (5/ 144) وذكره مختصراً باسم "الثمانيات". (¬12) الدر المنضد (2/ 555) وذكره مختصراً باسم "الثمانيات". (¬13) كشف الظنون (1/ 524). (¬14) شذرات الذهب (8/ 429) وذكره مختصراً باسم "الثمانيات". (¬15) السحب الوابلة (3/ 1182) ونقله مختصراً باسم "الثمانيات". (¬16) رفع النقاب ص 329 وذكره مختصراً باسم "الثمانيات".

8 - ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية.

(فهرس الفهارس) (¬1) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬2) والمرعشلي في (معجم المعاجم) (¬3) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬4). وهو جزء في الحديث من تخريجه لنفسه، فيه خمسة عشر حديثاً سمعه منه القبابي، قال الحافظ ابن حجر في (المشيخة الباسمة): "ثمانيات من رواية خراش عن أنس رضي الله - تعالى - عنه. وخراش: أحد الكذابين لايفرح بعلو حديثه إلا من قصر نظره في هذا الفن، والله المستعان " (¬5). 8 - ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية. قال ابن ناصر الدين في (الرد الوافر): "وترجم الشيخ تقي الدين بشيخ الإسلام فيما كتبه بخطه، وجمع في شمائله اللطيفة، ترجمة مؤنقة منيفة، إعلاماً بقدره وتنبيهاً، قال فيما وجدته بخطه فيها: حدثني غير واحد من الفضلاء ... " (¬6). 9 - التشوف. ذكره ابن ناصر الدين في (النكت الأثرية) (¬7). ¬

(¬1) فهرس الفهارس (2/ 926). (¬2) تسهيل السابلة (2/ 1171). (¬3) معجم المعاجم (1/ 36، 477) وذكره باسم "ثمانيات السرمري". (¬4) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 177) وذكره مختصراً باسم "الثمانيات". (¬5) نقله الدكتور عبدالرحمن العثيمين في مقدمة (اللؤلؤة) ص 176. (¬6) الرد الوافر ص 232 - 233 تحقيق: زهير الشاويش. (¬7) النكت الأثرية على الأحاديث الجزرية ص 448، تحقيق: مشعل بن باني المطيري، الطبعة الأولى 1422، دار ابن حزم.

10 - الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية.

10 - الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية. ذكره ابن ناصر الدين في (الرد الوافر) (¬1) والمقريزي في (درر العقود الفريدة) (¬2) والزركلي في (الأعلام) (¬3) وكحالة في (معجم المؤلفين) (¬4) والكتاني في (فهرس الفهارس) (¬5) وبروكّلمان في (تاريخ الأدب العربي) (¬6) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬7) وبكر أبو زيد (المدخل المفصل) (¬8) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬9). وقد طبع عدة طبعات، فطبع في مقدمة (منهاج السنة النبوية) لشيخ الإسلام ابن تيمية في طبعتيه: الطبعة البولاقية، وطبعة الدكتور / محمد رشاد سالم، وطبع بتحقيق: صلاح الدين مقبول أحمد، وطبعه في مجمع البحوث الإسلامية بالهند سنة 1412. وهي قصيدة يرد بها الإمام جمال الدين السرمري على التقي السبكي دفاعاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد احتوت قصيدة السبكي على ستة عشر بيتاً، وجاء رد السرمري في مائة واثنين وخمسين بيتاً (¬10)، بحيث أورد أبيات السبكي ضمن قصيدته ورد على كل بيت منها على حدة. قال ابن ناصر الدين: "ومن مؤلفاته النظامية كتاب (الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ¬

(¬1) الرد الوافر ص 232. (¬2) درر العقود الفريدة (3/ 558) (¬3) الأعلام (8/ 251). (¬4) معجم المؤلفين (13/ 332). (¬5) فهرس الفهارس (1/ 276). (¬6) تاريخ الأدب العربي (7/ 21). (¬7) تسهيل السابلة (2/ 1171). (¬8) المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد (2/ 992). (¬9) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 178). (¬10) وهم بروكّلمان في "تاريخ الأدب العربي" (7/ 21) في عدة أبياتها فقال أنها في 149 بيتاً.

11 - خصائص سيد العالمين وماله من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام.

ابن تيمية) معارضاً فرقة قد قال أمثلهم ... إن الروافض قوم لاخلاق لهم وقد أحسن في هذا الرد المقبول، وهدم تلك الأبيات بنظام المنقول، وجلال المعقول" (¬1). 11 - خصائص سيد العالمين وماله من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام. وهو كتابنا هذا، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - الكلام عليه. 12 - ذكر الجراد ومافي شأنه من الصلاح والفساد. ذكره حاجي خليفة في (كشف الظنون) (¬2) والبغدادي في (هدية العارفين) (¬3) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬4) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬5). ولعل أصل هذا الكتاب هو المجلس الذي وضعه السرمري في الجراد، الذي أشار إليه ابن المبرد بقوله "وذكر السرمري بسند في المجلس الذي وضعه في الجراد ... " (¬6). 13 - رفع الباس في حياة الخضر وإلياس. ذكره ابن حميد في (السحب الوابلة) (¬7) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬8). ¬

(¬1) الرد الوافر ص 232. (¬2) كشف الظنون (1/ 857). (¬3) هدية العارفين (2/ 558). (¬4) تسهيل السابلة (2/ 1171) وقد نقله باسم "رسالة في الجراد وما فيه من الصلاح والفساد". (¬5) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 178) وذكره باسم "رسالة في الجراد وما في شأنه من الصلاح والفساد". (¬6) محض الصواب لابن المبرد (3/ 967)، تحقيق عبدالعزيز الفريح، الطبعة الأولى 1420، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة. (¬7) السحب الوابلة (3/ 1183). (¬8) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 178).

14 - الروضة المورقة في الترجمة المونقة.

14 - الروضة المورقة في الترجمة المونقة. ذكره ابن قاضي شهبة في (تاريخه) (¬1) والعليمي في (المنهج الأحمد) (¬2) وابن العماد في (شذرات الذهب) (¬3) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬4) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬5). وقد تقدم قول ابن حجي: "رأيت بخطه ماصورته: مؤلفاتي تزيد على مائة مصنف كبار وصغار في بضعة وعشرين علماً، ذكرتها على حروف المعجم في (الروضة المورقة في الترجمة المونقة) " (¬6). 15 - شرح اللؤلؤة في النحو. ذكره بروكّلمان في (تاريخ الأدب العربي) (¬7) والزركلي في (الأعلام) (¬8) وكحالة في (معجم المؤلفين) (¬9) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬10)، وقد طبع عدة طبعات، فطبع سنة 1988 بتحقيق الدكتور سعيد عرفة وسمّاها (الدرة البهية)، وطبع سنة 1412 بتحقيق الدكتور أمين عبدالله سالم وسمّاها: (اللؤلؤة في علم العربية وشرحها) وطبعه في مطبعة الأمانة بمصر، وقد حقق هذا الكتاب أيضاً إبراهيم حمد الدليمي في رسالة علمية لنيل درجة الماجستير بكلية ¬

(¬1) تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476). (¬2) المنهج الأحمد (5/ 144). (¬3) شذرات الذهب (8/ 430). (¬4) تسهيل السابلة (2/ 1171). (¬5) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 179). (¬6) تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476)، شذرات الذهب (8/ 430)، المنهج الأحمد (5/ 144). (¬7) تاريخ الأدب العربي (7/ 21). (¬8) الأعلام (8/ 251) وذكره باسم "شرح اللؤلؤة في علم العربية". (¬9) معجم المؤلفين (13/ 332). (¬10) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 182) وذكره باسم "شرح اللؤلؤة في علم العربية".

16 - شفاء الآلام في طب أهل الإسلام.

الدراسات العليا في الجامعة الأردنية سنة 1995 م. والكتاب هو شرح لمنظومته (اللؤلؤة) في النحو، بلغت أبياتها 163. 16 - شفاء الآلام في طب أهل الإسلام. ذكره ابن فهد في (لحظ الألحاظ) (¬1) وابن حميد في (السحب الوابلة) (¬2) والبغدادي في (إيضاح المكنون) (¬3) وفي (هدية العارفين) (¬4) وابن ضويان في (رفع النقاب) (¬5) والزركلي في (الأعلام) (¬6) وكحالة في (معجم المؤلفين) (¬7) والكتاني في (فهرس الفهارس) (¬8) وبروكّلمان في (تاريخ الأدب العربي) (¬9) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬10) وبكر أبو زيد في (المدخل المفصل) (¬11) وصلاح الدين المنجد في (معجم ما ألف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬12) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬13). قال ابن حميد (¬14) في (السحب الوابلة): "رأيت له كتاباً عجيباً في الطب سماه: (شفاء ¬

(¬1) لحظ الألحاظ ص 161. (¬2) السحب الوابلة (3/ 1183). (¬3) إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون (2/ 49)، تحقيق: رفعت بيلكه الكليسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. (¬4) هدية العارفين (2/ 558). (¬5) رفع النقاب ص 329 وذكره باسم "شفاء السقام في طب أهل الإسلام". (¬6) الأعلام (8/ 251). (¬7) معجم المؤلفين (13/ 332). (¬8) فهرس الفهارس (2/ 926). (¬9) تاريخ الأدب العربي (7/ 21). (¬10) تسهيل السابلة (2/ 1171). (¬11) المدخل المفصل (2/ 992) وذكره باسم "شفاء السقام في طب أهل الإسلام". (¬12) معجم ما ألف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ص 298، الطبعة الأولى 1402، دار الكتاب الجديد، لبنان؛ وذكره باسم "شفاء الأنام في طب أهل الإسلام". (¬13) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 179 - 180). (¬14) هو الشيخ محمد بن عبدالله بن حُميد النجدي ثم المكي الحنبلي، كان قد بلغ من العلم مبلغاً وشدا، وأمَّ في المسجد الحرام وخطب ودرَّس وأفتى، وألف في المذهب الحنبلي وحقق وأسند وأرخ، توفي سنة 1295. انظر: مقدمة تحقيق "السحب الوابلة" ص 5، لبكر أبو زيد ود. عبدالرحمن العثيمين.

17 - شفاء القلوب في دواء الذنوب.

السقام في طب أهل الإسلام) جمع فيه بين الطب النبوي والطب المتعارف مجلد" (¬1)، عندي نسخة مصورة عن مكتبة جامعة الكويت برقم [3150] في 252 ق، وقد قرأت المخطوط فوجدته بحق كما وصفه ابن حميد رحمه الله. 17 - شفاء القلوب في دواء الذنوب. ذكره ابن حميد في (السحب الوابلة) (¬2) وابن ضويان في (رفع النقاب) (¬3) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬4) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬5). 18 - صحاح الأحكام وسلاح الحكام. ذكره حاجي خليفة في (كشف الظنون) (¬6) والبغدادي في (هدية العارفين) (¬7) وكحالة في (معجم المؤلفين) (¬8) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬9) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬10). جمعه في قوله عليه الصلاة والسلام "بني الإسلام على خمس ... " (¬11). ¬

(¬1) السحب الوابلة (3/ 1183). (¬2) السحب الوابلة (3/ 1183). (¬3) رفع النقاب ص 329 وفي المطبوع "شقاء القلوب في دواء الذنوب" ولعله خطأ مطبعي. (¬4) تسهيل السابلة (2/ 1172) ونقله باسم "شفاء القلوب من أدواء الذنوب". (¬5) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 180). (¬6) كشف الظنون (2/ 1070). (¬7) هدية العارفين (2/ 558). (¬8) معجم المؤلفين (13/ 332). (¬9) تسهيل السابلة (2/ 1171). (¬10) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 180). (¬11) كشف الظنون (2/ 1070).

19 - عجائب الاتفاق وغرائب ماوقع في الآفاق.

19 - عجائب الاتفاق وغرائب ماوقع في الآفاق. ذكره ابن ناصر الدين في (التبيان) (¬1) والمقريزي في (درر العقود الفريدة) (¬2) وابن حجر في (الدرر الكامنة) (¬3) وفي (إنباء الغمر) (¬4) وابن فهد في (لحظ الألحاظ) (¬5) والعليمي في (المنهج الأحمد) (¬6) وفي (الدر المنضد) (¬7) وحاجي خليفة في (كشف الظنون) (¬8) وابن العماد في (شذرات الذهب) (¬9) وابن حميد في (السحب الوابلة) (¬10) والبغدادي في (هدية العارفين) (¬11) وابن ضويان في (رفع النقاب) (¬12) والزركلي في (الأعلام) (¬13) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬14) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬15). وقد وقفت في فهرس مكتبة الاسكندرية على مخطوط باسم (عجائب الآفاق للسرمري) فراسلت المكتبة عن طريق مركز الملك فيصل طالباً منهم المخطوط، فأرسلوا لي خطاب اعتذار، ذكروا فيه أنه بعد المراجعة والفهرسة تبين أن هناك خطأ سابق في الفهرسة, وأن الكتاب غير متوفر لديهم، وفيما يلي صورة الخطاب: ¬

(¬1) التبيان (2/ 320). (¬2) درر العقود الفريدة (3/ 558) وذكره مختصراً باسم "عجائب الاتفاق". (¬3) الدرر الكامنة (6/ 247) وذكره مختصراً باسم "عجائب الاتفاق". (¬4) إنباء الغمر (1/ 150) وذكره مختصراً باسم "عجائب الاتفاق". (¬5) لحظ الألحاظ ص 161. (¬6) المنهج الأحمد (5/ 144). (¬7) الدر المنضد (2/ 555) وذكره مختصراً باسم "عجائب الاتفاق". (¬8) كشف الظنون (2/ 1125). (¬9) شذرات الذهب (8/ 429). (¬10) السحب الوابلة (3/ 1182) ونقله مختصراً باسم "عجائب الاتفاق". (¬11) هدية العارفين (2/ 558). (¬12) رفع النقاب ص 329 وذكره مختصراً باسم "عجائب الاتفاق". (¬13) الأعلام (8/ 251). (¬14) تسهيل السابلة (2/ 1171). (¬15) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 180) وذكره باسم "عجائب الاتفاق في غرائب ماوقع في الآفاق".

20 - عقود اللآلي في الأمالي.

20 - عقود اللآلي في الأمالي. ذكره ابن ناصر الدين في (التبيان) (¬1) وابن حجر في (الدرر الكامنة) (¬2) وفي (إنباء الغمر) (¬3) وابن فهد في (لحظ الألحاظ) (¬4) والعليمي في (المنهج الأحمد) (¬5) وفي (الدر المنضد) (¬6) وحاجي خليفة في (كشف الظنون) (¬7) وابن العماد في (شذرات الذهب) (¬8) وابن حميد في (السحب الوابلة) (¬9) والبغدادي في (هدية العارفين) (¬10) وابن ضويان في (رفع النقاب) (¬11) والزركلي في (الأعلام) (¬12) والكتاني في (فهرس الفهارس) (¬13) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬14) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬15). قال ابن ناصر الدين في (الرد الوافر): "وقال الإمام أبو مظفر السرمري في المجلس السابع والستين من (أماليه) في الذكر والحفظ: ومن عجائب ماوقع في الحفظ في أهل زماننا شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية، فإنه كان يمر بالكتاب فيطالعه مرة فينقش في ذهنه فيذاكر به، وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه؛ ومن أعجب ماسمعته عنه ما حدثني به بعض أصحابه: أنه لما كان صبياً في بداية أمره، أراد والده أن يخرج بأولاده يوماً إلى البستان ¬

(¬1) التبيان (2/ 319). (¬2) الدرر الكامنة (6/ 247). (¬3) إنباء الغمر (1/ 150) وذكره باسم "عقد اللآلي في الآمالي". (¬4) لحظ الألحاظ ص 161 وذكره باسم "عنقود اللآلي في الأمالي". (¬5) المنهج الأحمد (5/ 144). (¬6) الدر المنضد (2/ 555). (¬7) كشف الظنون (2/ 1157). (¬8) شذرات الذهب (8/ 429). (¬9) السحب الوابلة (3/ 1182). (¬10) هدية العارفين (2/ 558). (¬11) رفع النقاب ص 329. (¬12) الأعلام (8/ 250). (¬13) فهرس الفهارس (2/ 962). (¬14) تسهيل السابلة (2/ 1171). (¬15) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 180 - 181).

21 - عمدة الدين في فضل الخلفاء الراشدين.

على سبيل التنزه. فقال له: يا أحمد تخرج مع إخوتك تستريح، فاعتلّ عليه، فألح عليه والده، فامتنع أشد الإمتناع. فقال: أشتهي أن تعفيني من الخروج، فتركه وخرج بإخوته، فظلوا يومهم في البستان، ورجعوا آخر النهار فقال: يا أحمد أوحشت إخوتك اليوم، وتكدّر عليهم، بسبب غيبتك عنهم فما هذا؟ فقال ياسيدي إنني اليوم حفظت هذا الكتاب، لكتاب معه، فقال: حفظته! ! كالمنكر المتعجب من قوله، فقال له: استعرضه عليّ، فاستعرضه، فإذا به قد حفظه جميعه، فأخذه وقبَّله بين عينيه، وقال: يابني لاتخبر أحداً بما قد فعلت، خوفاً عليه من العين، أو كما قال" (¬1) وقد أيضاً أورد هذا القول عن السرمري مختصراً الشوكاني في (البدر الطالع) (¬2). 21 - عمدة الدين في فضل الخلفاء الراشدين. ذكره ابن ناصر الدين في (التبيان) (¬3) وابن فهد في (لحظ الألحاظ) (¬4) والزركلي في (الأعلام) (¬5) والكتاني في (فهرس الفهارس) (¬6) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬7) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬8). ¬

(¬1) الرد الوافر ص 234 - 235. (¬2) البدر الطالع (1/ 50). (¬3) التبيان (2/ 319). (¬4) لحظ الألحاظ ص 161. (¬5) الأعلام (8/ 250 - 251). (¬6) فهرس الفهارس (2/ 926). (¬7) تسهيل السابلة (2/ 1171). (¬8) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 181).

22 - غيث السحابة في فضائل الصحابة.

22 - غيث السحابة في فضائل الصحابة. ذكره ابن ناصر الدين في (التبيان) (¬1) والمقريزي في (درر العقود الفريدة) (¬2) وابن حجر في (الدرر الكامنة) (¬3) وفي (إنباء الغمر) (¬4) والسخاوي في (وجيز الكلام) (¬5) وابن فهد في (لحظ الألحاظ) (¬6) والسيوطي في (بغية الوعاة) (¬7) والعليمي في (المنهج الأحمد) (¬8) وفي (الدر المنضد) (¬9) وحاجي خليفة في (كشف الظنون) (¬10) وابن العماد في (شذرات الذهب) (¬11) وابن حميد في (السحب الوابلة) (¬12) والبغدادي في (هدية العارفين) (¬13) وابن ضويان في (رفع النقاب) (¬14) والزركلي في (الأعلام) (¬15) والكتاني في (فهرس الفهارس) (¬16) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬17) وصلاح الدين المنجد في (معجم ما ألف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬18) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬19). ¬

(¬1) التبيان (2/ 319). (¬2) درر العقود الفريدة (3/ 558) (¬3) الدرر الكامنة (6/ 247). (¬4) إنباء الغمر (1/ 150). (¬5) وجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام (1/ 210). (¬6) لحظ الألحاظ ص 161. (¬7) بغية الوعاة (2/ 360). (¬8) المنهج الأحمد (5/ 144). (¬9) الدر المنضد (2/ 555). (¬10) كشف الظنون (2/ 1213). (¬11) شذرات الذهب (8/ 429). (¬12) السحب الوابلة (3/ 1182) ونقله باسم "غيث السحابة في فضائل الصحابة". (¬13) هدية العارفين (2/ 558). (¬14) رفع النقاب ص 329. (¬15) الأعلام (8/ 250). (¬16) فهرس الفهارس (2/ 926). (¬17) تسهيل السابلة (2/ 1171). (¬18) معجم ما ألف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ص 151 وذكره باسم "غيث السحابة في فضائل الصحابة". (¬19) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 181).

23 - "الفوائد السرمرية من المشيخة البدرية"، أو "مشيخة ابن الجوخي".

23 - "الفوائد السرمرية من المشيخة البدرية"، أو "مشيخة ابن الجوخي". ذكره ابن رجب في (المنتقى من معجم شيوخ أحمد بن رجب الحنبلي) (¬1) وابن قاضي شهبة في (تاريخه) (¬2) وابن حجر في (الدرر الكامنة) (¬3) والكتاني في (فهرس الفهارس) (¬4) وبروكّلمان في (تاريخ الأدب العربي) (¬5) والزركلي في (الأعلام) (¬6) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬7) والمرعشلي في (معجم المعاجم) (¬8) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬9). قال الكتاني: "خرجها الحافظ الرحال أبو مظفر يوسف بن محمد بن مسعود السرمري نزيل دمشق وبه مات، من مرويات الشيخ الحافظ بدر الدين أحمد بن محمد المعروف بابن الجوخي، فرغ منها مخرجها سنة 757، وهي في نحو عشر كراريس، عندي منها نسخة عتيقة مسموعة على جماعة من المسندين، منهم البرهان بن أبي شريف وغيره؛ ترجم فيها ستة وأربعين شيخاً ... وقد افتتحها مخرجها بحديث الأولية، وختمها بقصيدة ميمية نبوية حلوة سلسة على نسق (غرامي صحيح) وهي للمخرج المذكور، قال: وقلت أمدح النبي صلى الله عليه وسلم على لسان أهل الحديث، وما اصطلحوا عليه من العبارات، ورتبت ذلك على فصول منظومي (المعسول في علوم حديث الرسول) " (¬10). ¬

(¬1) المنتقى من معجم شيوخ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن رجب الحنبلي ص 144. (¬2) تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 255). (¬3) الدرر الكامنة (1/ 250). (¬4) فهرس الفهارس (2/ 925 - 926). (¬5) تاريخ الأدب العربي (7/ 21). (¬6) الأعلام (8/ 250) وذكره مختصراً باسم "الفوائد السرمرية". (¬7) تسهيل السابلة (2/ 1171) ونقله مختصراً كما ذكر الزركلي في "الأعلام". (¬8) معجم المعاجم (1/ 464، 477). (¬9) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 182). (¬10) فهرس الفهارس (2/ 925 - 926).

24 - فوائد مخرجه عن شيوخ العدل الأمين الثقة بقية السلف جمال الخلف شمس الدين أبي عبدالله محمد بن عبدالعزيز بن علي ابن المؤذن الوراق البغدادي.

24 - فوائد مخرجه عن شيوخ العدل الأمين الثقة بقية السلف جمال الخلف شمس الدين أبي عبدالله محمد بن عبدالعزيز بن علي ابن المؤذن الوراق البغدادي. ذكره المرعشلي في (معجم المعاجم) (¬1) وهو مخطوط في الظاهرية، المجموع 52/ 7، في 9 ق (85 - 93) (¬2)، عندي نسخة مصورة عنه، يقول فيه: "فإني وقفت على إجازة بيد شيخنا العدل الأمين الثقة بقية السلف شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد العزيز بن علي الوراق الدارقزي، بلغه الله أمله وختم بالصالحات عمله، فيها أسماء جماعة من المشايخ الصلحاء، قد أجازوا له فيها، وتحريرها في يوم الجمعة سابع عشر من شوال سنة ثمان وستين وست مائة، فأحببت أن أخرج له عن كل شيخ منهم شيئًا من مروياته، لتحصل فائدة هذه الإجازة المباركة لمن تصل إليه، وأن أذكر ما وقع إلي من مواليدهم ووفياتهم، وبالله التوفيق، نرتبهم على نسق حروف المعجم، وخرجت عن كل واحد حديثين في مكان واحد لتسهيله للطلبة" (¬3). 25 - كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون. وقد طبع سنة 1424 بتحقيق شوكت بن رفقي بن شوكت، وطبعه في دار الأثرية بعَمان، ودار المحبة بدمشق. وقد جمع رسالة ذكر فيها الأحاديث الواردة في الطاعون، وبين كيف العمل عند وقوعه وحلوله، وعمل على التنبيه على مسائل أخرى مهمة مثل: العدوى والطيرة، والرضا بالقضاء ¬

(¬1) معجم المعاجم (1/ 454، 477) وذكره مختصراً باسم "فوائد مخرجة عن شيوخ شمس الدين الوراق"، وذكر له أيضاً اسماً آخر وهو "معجم محمد بن عبدالعزيز ابن المؤذن الوراق". (¬2) انظر: الفهرس الشامل (2/ 1216). (¬3) فوائد مخرجة عن شيوخ شمس الدين الوراق (مخطوط) ورقة: 85 أ.

26 - الكلم الطيب والعمل الصالح.

والتسليم لأمر الله تعالى، إلى غير ذلك (¬1). 26 - الكلم الطيب والعمل الصالح. ذكره السرمري في كتابه (إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة) في كتاب الأدب في فصل الإحسان إلى اليتامى والمساكين وغيرهم فقال: "وقد استوفينا الكلام في هذا الباب في آخر كتاب (الكلم الطيب والعمل الصالح) فمن أراد الزيادة فليطالعه، ففيه الكفاية إن شاء الله" (¬2). 27 - مسلسلات السرمري. ذكرها المرعشلي في (معجم المعاجم) (¬3)، وقال: "ذكرها النجم ابن فهد في (معجمه) ص 142". 28 - مشيخة ابن السلار. ذكرها ابن حجر في (الدرر الكامنة) (¬4) وفي (إنباء الغمر) (¬5) والمرعشلي في (معجم المعاجم) (¬6). خرجها من مرويات الإمام المقرئ أمين الدين أبو محمد عبدالوهاب بن يوسف بن إبراهيم ابن السلار الشافعي، توفي سنة 782 (¬7). ¬

(¬1) انظر: مقدمة تحقيق (كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون) ص 9، شوكت بن رفقي بن شوكت. (¬2) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة ص 658، تحقيق أبو عبدالله حسين عكاشة. (¬3) معجم المعاجم (1/ 477). (¬4) الدرر الكامنة (2/ 431). (¬5) إنباء الغمر (1/ 255). (¬6) معجم المعاجم (1/ 477، 483). (¬7) الأعلام (4/ 186).

29 - مشيخة ابن الكسار.

29 - مشيخة ابن الكسار. ذكرها ابن حجر في (الدرر الكامنة) (¬1) والمرعشلي في (معجم المعاجم) (¬2). خرجها من مرويات القاضي قوام الدين صالح بن أحمد بن الأنجب ابن الكسار الواسطي المقرئ، توفي سنة 744 (¬3). 30 - مشيخة محيي الدين أبي نصر محمد بن شرف الدين أحمد العباسي. ذكرها الكتاني في (فهرس الفهارس) وقال: "وهي في كراسة أرويها بالسند إلى القبابي عن يوسف السرمري الحافظ بقراءته على المخرجة له، وهي عندي في كراسة عليها سماعات وإجازات" (¬4). 31 - المعسول في علوم حديث الرسول. نقل الكتاني في (فهرس الفهارس) عن السرمري أنه قال في آخر (الفوائد السرمرية): "وقلت أمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - على لسان أهل الحديث، وما اصطلحوا عليه من العبارات، ورتبت ذلك على فصول منظومي (المعسول في علوم حديث الرسول) " (¬5)، ولعله هو (نظم "التقريب أو الغريب" في علوم الحديث) الآتي، والله أعلم. 32 - المقدمة اللؤلؤة في النحو. ذكره الطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬6). ¬

(¬1) الدرر الكامنة (2/ 199). (¬2) معجم المعاجم (1/ 438، 477). (¬3) معجم المعاجم (1/ 438). (¬4) فهرس الفهارس (2/ 628 - 629). (¬5) فهرس الفهارس (2/ 926). (¬6) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 182) وذكره باسم "اللؤلؤة في علم العربية".

33 - المولد الكبير للبشير النذير - صلى الله عليه وسلم -.

وقد طبع سنة 1410 بتحقيق الدكتور عبدالرحمن بن سليمان العثيمين وصدر عن مكتبة الخانجي بالقاهرة، وطبع سنة 1412 بتحقيق الدكتور أمين عبدالله سالم وسمّاها: (اللؤلؤة في علم العربية) وطبعه في مطبعة الأمانة بمصر. وهي منظومة على بحر البسيط، وقافية اللام المطلقة المفتوحة، نظم فيها المهم من قواعد النحو في (162) بيتاً وجعلها للمبتدئين في هذا الفن (¬1). 33 - المولد الكبير للبشير النذير - صلى الله عليه وسلم -. له نسخة مصورة في جامعة الملك سعود بالرياض عن المكتبة الأحمدية بحلب/308، برقم حفظ (883/ 2 م ص)، وعدد أوراقها: 16 ورقة، وقد ذُكِر في صفحة العنوان: "المولد الكبير للبشير النذير صلى الله عليه وسلم تأليف الشيخ الإمام العالم العامل المحدث الداعي إلى السنة الكريمة جمال الدين يوسف بن محمد بن مسعود بن محمد بن علي بن إبراهيم العُقيلي الحنبلي المذهب السرمري المولد والدار ثم البغدادي نزيل دمشق مولده سنة ست وتسعين وستمائة رحمه الله تعالى وجزاه خير الجزاء"، والنسخة مصححة ومقابلة؛ وقد ذكر فيها الإمام جمال الدين السرمري حكم الاحتفال بالمولد النبوي فقال بعد حكايته للخلاف في أيّ شهر ولد وفيما مضى من الشهر فقال: "وفي هذا الخلاف ما يدل على أن السلف لم يكونوا يجعلون ذلك موسماً للاجتماع والولائم والاحتفال في صُنع الأطعمة والأشربة والسماعات إذ السلف كانوا أعظم الناس توقيراً ومحبة وتعظيماً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأحرص الخلق على نشر محاسنه فلو كان يوم مولده عندهم موسماً لتوفّرت هِمَمُهم على حفظه ولم يكن عندهم ولا عند غيرهم فيه خلافٌ ولاتفقوا عليه كما اتفقوا على يومي العيدين وأيام التشريق ويوم عرفة ويوم عاشوراء وليلة النصف من شعبان ونحو ذلك فإن هذه أيام مواسم الأعمال الصالحات مشروعةً منقولةً محفوظة, فلو كان المولد مثلها لحفظ كما حفظت, ولكن الاجتماع على قراءة القرآن ونشر معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) انظر: مقدمة تحقيق (المقدمة اللؤلؤة في النحو) ص 179، د. عبدالرحمن العثيمين.

34 - نتيجة الفكر في الجهر بالذكر.

وذكر أخلاقه وآدابه والتعريف لحقوقه وامتثال أوامره والوقوف لزواجره وتعليم سننه مستحب في كل وقت بل واجب ... " (¬1) 34 - نتيجة الفكر في الجهر بالذكر. ذكر ابن حميد (السحب الوابلة) (¬2) وابن ضويان في (رفع النقاب) (¬3) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬4) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬5). 35 - نشر القلب الميْت بفضل أهل البيت. ذكره ابن ناصر الدين في (التبيان) (¬6) والمقريزي في (درر العقود الفريدة) (¬7) وابن حجر في (الدرر الكامنة) (¬8) وفي (إنباء الغمر) (¬9) والسخاوي في (وجيز الكلام) (¬10) وابن فهد في (لحظ الألحاظ) (¬11) والعليمي في (المنهج الأحمد) (¬12) وفي (الدر المنضد) (¬13) وابن العماد في (الشذرات) (¬14) وابن حميد في (السحب الوابلة) (¬15) والبغدادي في (هدية العارفين) (¬16) وفي (إيضاح المكنون) (¬17) ¬

(¬1) المولد الكبير للبشير النذير - صلى الله عليه وسلم - (مخطوط) ورقة: 10 ب. (¬2) السحب الوابلة (3/ 1183). (¬3) رفع النقاب ص 329 وفي المطبوع "نتيجة الفكر في الخيم بالذكر". (¬4) تسهيل السابلة (2/ 1172). (¬5) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 182). (¬6) التبيان (2/ 319) وقد ذكره باسم "نشر القلب الميت بنشر فضل أهل البيت". (¬7) درر العقود الفريدة (3/ 558) (¬8) الدرر الكامنة (6/ 247). (¬9) إنباء الغمر (1/ 150). (¬10) وجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام (1/ 210). (¬11) لحظ الألحاظ ص 161 وذكره باسم "نشر القلب الميت بنشر فضل أهل البيت". (¬12) المنهج الأحمد (5/ 144). (¬13) الدر المنضد (2/ 555). (¬14) شذرات الذهب (8/ 429). (¬15) السحب الوابلة (3/ 1182) ونقله باسم "بشرى القلب الميت بفضائل أهل البيت". (¬16) هدية العارفين (2/ 558). (¬17) إيضاح المكنون (1/ 543).

36 - نظم (الغريب أو التقريب) في علوم الحديث.

وابن ضويان في (رفع النقاب) (¬1) والزركلي في (الأعلام) (¬2) والكتاني في (فهرس الفهارس) (¬3) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬4) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬5). 36 - نظم (الغريب أو التقريب) في علوم الحديث. وقد تقدم الكلام عنه (¬6). 37 - "نظم مختصر ابن رزين" في الفقه. ذكره ابن قاضي شهبة في (تاريخه) (¬7) والعليمي في (المنهج الأحمد) (¬8) وفي (الدر المنضد) (¬9) وابن العماد في (الشذرات) (¬10) والزركلي في (الأعلام) (¬11) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬12) وبكر أبو زيد في (المدخل المفصل) (¬13) والطريقي في (معجم مصنفات الحنابلة) (¬14). ¬

(¬1) رفع النقاب ص 329 وفي المطبوع "سرى القلب الميت بفضائل البيت". (¬2) الأعلام (8/ 251). (¬3) فهرس الفهارس (2/ 926) وذكره باسم "نشر القلب الميت بنشر فضائل أهل البيت". (¬4) تسهيل السابلة (2/ 1171) وقد نقله باسم "نشر القلب الميت بنشر فضل أهل البيت". (¬5) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 183). (¬6) انظر: ص 33. (¬7) تاريخ ابن قاضي شهبة (3/ 476). (¬8) المنهج الأحمد (5/ 144). (¬9) الدر المنضد (2/ 555). (¬10) شذرات الذهب (8/ 429). (¬11) الأعلام (8/ 251). (¬12) تسهيل السابلة (2/ 1171). (¬13) المدخل المفصل (2/ 697، 992). (¬14) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 183).

38 - نهج الرشاد في نظم الاعتقاد.

38 - نهج الرشاد في نظم الاعتقاد. ذكرها البغدادي في (هدية العارفين) (¬1) والزركلي في (الأعلام) (¬2) وبروكّلمان في (تاريخ الأدب العربي) (¬3) وكحالة في (معجم المؤلفين) (¬4) وصالح آل عثيمين في (تسهيل السابلة) (¬5) والطريقي (معجم مصنفات الحنابلة) (¬6). وقد طبعت في العدد الأول من مجلة جامعة صدام للعلوم الإسلامية- بغداد 1993 - بتحقيق: هلال ناجي، وطبعت أيضاً بتحقيق مطلق بن جاسر الجاسر وطبعها في دار التواصل بالكويت سنة 1430. وهي منظومة في عقيدة أهل السنة والجماعة، عدد أبياتها 151 بيتاً (¬7)، قد حوت درراً ثمينة وجواهر نفيسة، مع عذوبة في النظم وجزالة في المعاني (¬8)، أورد فيها عقيدة أهل السنة في (أسماء الله وصفاته، وكتاب الله، والقضاء والقدر، والمحرمات، والتعامل مع ولاة الأمر، واليوم الآخر، والإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، والصحابة الكرام - رضي الله عنهم -). ¬

(¬1) هدية العارفين (2/ 558). (¬2) الأعلام (8/ 251). (¬3) تاريخ الأدب العربي (7/ 21). (¬4) معجم المؤلفين (13/ 332). (¬5) تسهيل السابلة (2/ 1171). (¬6) معجم مصنفات الحنابلة (4/ 184). (¬7) وهم البغدادي في "هدية العارفين" (2/ 558) في عدة أبياتها فقال أنها في ثلاثمائة بيت، وهذا خلاف مانص عليه السرمري في آخر المنظومة فقال: وأبياتها خمسون مع مائة لها ... سنا البدر مع صوب الغمام على البذر؛ إلا إن قصد البغدادي بالبيت الشطر, فهذا صحيح فإن عدد أشطر المنظومة 302. (¬8) انظر: مقدمة تحقيق (نهج الرشاد في نظم الاعتقاد) ص 5، لمطلق الجاسر.

الفصل الثاني منهج جمال الدين السرمري في التلقي والاستدلال

الفصل الثاني منهج جمال الدين السرمري في التلقي والاستدلال وفيه مبحثان: المبحث الأول: مصادر جمال الدين السرمري في التلقي. المبحث الثاني: منهجه في الاستدلال.

المبحث الأول مصادر جمال الدين السرمري في التلقي

المبحث الأول مصادر جمال الدين السرمري في التلقي وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: القرآن الكريم. المطلب الثاني: السنة النبوية. المطلب الثالث: أقوال السلف في فهم الكتاب والسنة.

المطلب الأول: القرآن الكريم

المطلب الأول: القرآن الكريم: اعتمد جمال الدين السرمري رحمه الله في تلقي العقيدة اعتماداً مباشراً على كتاب الله سبحانه وتعالى، ومن تتبع مؤلفاته رحمه الله وجدها تزخر بالنصوص القرآنية، فهو يعتبر القرآن أول المصادر التي تُتلقى منها مسائل العقيدة. يقول رحمه الله في معرض كلامه عن الأدلة الشرعية: "إذا سألوه عن دليل مقاله أجاب بقول الله في محكم الذكرِ وإن يستزيدوا قال: قال محمد وإن يستزيدوا قال: قال أبو بكرِ" (¬1) ويعتبر أن كتاب الله هو الصراط المستقيم الذي لاتزيغ به الأهواء، قال رحمه الله: "فإن المنهل الصافي من الكدر، والمنهج الآمِنَ من الخطر، منهج الوحي المحفوظ بالتنزيل، ومنهج الرسول المحروس من التبديل" (¬2). والقارئ لكتب السرمري رحمه الله يجد أنه غالباً مايصدر الأدلة من القرآن الكريم، وهذا المنهج تجده واضحاً عند القراءة في كتبه، وانظر على سبيل المثال: كتابه (إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة) فقد تميز كتابه هذا عن كثير من كتب أدلة الأحكام أن مؤلفه جعل من منهجه أن يستفتح أبواب الكتاب بذكر الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام الشرعية، قال جمال الدين السرمري في مقدمته: "وافتتحت كل باب بآيةٍ فصاعداً من الكتاب العزيز تتعلق بأحكامه، وتشهد بتهذيبه وإحكامه" (¬3)، فجعل معقد الترجيح فيه كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فكفى الطالب "كلفة ترجيح أحد أقوال العلماء، والانتصار لفلان وفلانٍ من الفقهاء، فيقول: قال الله وقال الرسول، وناهيك بما في ذلك من إدراك السؤال" (¬4). ¬

(¬1) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 28. (¬2) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 71. (¬3) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 71. (¬4) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 71.

وهذا المنهج من السرمري رحمه الله هو منهج السلف الصالح الذين يسلمون لنصوص القرآن الكريم تسليماً مطلقاً فلا يحرفون منها شيء، ولا يعارضونها بشيء، لا بعقل، ولا وجد ولاغير ذلك، يمتثلون قول الله عز وجل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]. وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحُجُرات: 1]. وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: من الآية 10] وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92]. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنتي» (¬1)، وغيرها من النصوص التي يضيق المقام عن حصرها. قال الإمام أحمد رحمه الله: "لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا، إلا ما كان في كتاب الله، أو حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو عن أصحابه، أو عن التابعين، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود" (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان منهج السلف في ذلك: "وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه, ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات، والآيات البينات أن ¬

(¬1) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 899)، كتاب القدر، باب النهي عن القول بالقدر، ح 1594. (¬2) سير أعلام النبلاء (11/ 286).

الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم ... فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به، ولهذا لايوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة" (¬1). وقال أيضاً: "فكل ما يحتاج الناس إلى معرفته واعتقاده والتصديق به من هذه المسائل فقد بينه الله ورسوله بياناً شافياً قاطعاً للعذر ... وإنما يظن عدم اشتمال الكتاب والحكمة على بيان ذلك من كان ناقصاً في عقله وسمعه، ومن له نصيب من قول أهل النار الذين قالوا: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: من الآية 10] " (¬2). وقال ابن أبي العز: "وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة، وإنما يتلقاه من قول فلان ... ومن يتكلم برأيه وما يظنه من دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب والسنة، فهو مأثوم وإن أصاب، ومن أخذ من الكتاب والسنة فهو مأجور وإن أخطأ، لكن إن أصاب يضاعف أجره" (¬3). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (13/ 28 - 29). (¬2) درء تعارض العقل والنقل (1/ 27 - 28)، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1411. (¬3) شرح العقيدة الطحاوية، ص 115.

المطلب الثاني: السنة النبوية

المطلب الثاني: السنة النبوية: تمهيد: تعريف السنة: السنة في اللغة: هي الطريقة والسيرة حسنة كانت أو قبيحة (¬1)، ومنه قوله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 77]، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (¬2)، ومنه أيضاً قول خالد بن عتبة الهذلي: "فلا تجْزَعَنْ من سيرةٍ أنت سرتها ... فأول راضٍ سنة من يسيرها" (¬3) أما في الاصطلاح: فتطلق على عدة معانٍ، بحسب اختلاف أغراض مستعمليها، والذي يهمنا هنا هو اصطلاح الأصوليين والمحدثين: فالسنة عند الأصوليين هي: ما صدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، مما يصلح أن يكون دليلاً لحكم شرعي (¬4). أما عند المحدثين فهي: كل ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقية ¬

(¬1) انظر: لسان العرب (13/ 220)، الطبعة الأولى، دار الصادر، بيروت. (¬2) أخرجه مسلم (2/ 705)، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، ح 1017. (¬3) لسان العرب (13/ 220). (¬4) انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 223)، تحقيق: د. سيد الجميلي، الطبعة الأولى 1404، دار الكتاب العربي، بيروت؛ إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول للشوكاني (1/ 95)، تحقيق: أحمد عزو عناية، الطبعة الأولى 1419، دار الكتاب العربي؛ السنة قبل التدوين ص 16، لمحمد عجاج الخطيب، الطبعة الثانية 1408، مكتبة وهبة، مصر.

السنة النبوية مصدر تلقي عند جمال الدين السرمري

أو خُلقية أو سيرة سواء أكان ذلك قبل البعثة كتحنثه في غار حراء أم بعدها (¬1). والسنة بهذا التعريف هي المقصودة هنا في هذا المطلب، أما قبل النبوة فيستفاد منها في دلائل النبوة ونحوها، وأما بعد النبوة فالأمر فيها ظاهر. السنة النبوية مصدر تلقي عند جمال الدين السرمري: اعتمد جمال الدين السرمري رحمه الله على سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلقي مسائل العقيدة، لأنها وحي من عند الله، وهي مخبرة عن القرآن الكريم ومبينة له، ومن محاسن كلام جمال الدين السرمري رحمه الله قوله: "فعليك باتباع الأخبار النبوية، والإعراض عن الآراء الجاهلية، فإنه متى بدرت فرسان النصوص في ميدان البحث، تنكست حينئذ رايات الرأي على وجه الثرى، وفرت صناديد الجدل لوجوهها ذُللاً لهيبة من يَرى ولا يُرى (¬2) " (¬3). وقال أيضاً في بيان أن السنة هي الصراط المستقيم التي لا تزيغ بها الأهواء: " فإن المنهل الصافي من الكدر، والمنهج الآمِنَ من الخطر، منهج الوحي المحفوظ بالتنزيل، ومنهج الرسول المحروس من التبديل" (¬4). والقارئ لكتب السرمري رحمه الله يجد أنه غالباً مايصدر الأدلة من السنة النبوية، حتى كتبه المؤلفة في الطب والعربية وغيرها كان استشهاده بالحديث النبوي كثيراً، وانظر على سبيل المثال: كتابه (شرح اللؤلؤة في النحو) تقف عليه تارة يذكر سند الحديث توثيقاً: "عن ابن منية عن ابن ¬

(¬1) السنة قبل التدوين ص 16. (¬2) أي في الدنيا بعينه سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - , يدل على ذلك إثبات السرمري للرؤية في الآخرة في منظومته (نهج الرشاد في نظم الاعتقاد ص 38) بقوله: ولا يُمتَرى في رؤية الله ربِّنا ... وهل يُمترى في الشمس في ساعة الظهر؛ وسيأتي -إن شاء الله- ذكر السرمري للخلاف في مسألة رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه في الدنيا في كتابه: "خصائص سيد العالمين" (¬3) كتاب فيه ذكر الوباء والطاعنون، ص 83 - 84. (¬4) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 71.

أبي نجيح عن مجاهد ... ". وتارة يعنى فيه بذكر الروايات الأخرى للحديث -إن كانت تحمل شاهداً لما هو بسبيله - كقوله: "ومنها في حديث الملاعنة: إن جاءت به أحيمر، وفي رواية: أديعج". ولربما نص على الروايات الواردة في الحديث - وإن لم يختلف عليها شاهد - كقوله: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع، وفي رواية بحمد الله، وفي رواية: فهو أجذم" وتتجلى علاقته بالحديث النبوي وقربه منه وعنايته به في الكشف عن درجة الحديث ومصدره من مثل قوله: " ... حديث حسن رواه أبو داود وابن ماجة في سننهما", أو: " ... متفق عليه"، أو: " ... حديث صحيح"، أو: " ... أخرجه مسلم في صحيحه"، أو: " ... كذا بخطه في غير موضع من مسند الإمام أحمد بن حنبل" (¬1). هذا والكتاب مصنف في العربية فكيف بك لو قرأت كتبه في المقاصد، والسرمري -كما سبق في ترجمته- حافظٌ، ومؤلفٌ في علوم السنة، وناظمٌ ما يتعلق بها من تآليف. وهذا الاعتصام من السرمري بالسنة النبوية هو المنهج الذي سار عليه السلف الصالح - رحمهم الله - فكانوا معتصمين بالسنة، بها يحتجون وإليها يتحاكمون، ولم يعترضوا على ما جاء فيها، وليس لقول أحد منهم كائناً من كان تقديم بين يديها، ملتزمين قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحُجُرات: 1] وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: من الآية 7] قال الشافعي رحمه الله في بيان منهج السلف في الاعتصام بالسنة: "ولا أعلم من الصحابة ولا من التابعين أحداً أخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قبل خبره وانتهى إليه، وأثبت ذلك سنة ... ¬

(¬1) انظر: مقدمة تحقيق "اللؤلؤة في علم العربية وشرحها" ص 19 - 20، د. أمين عبدالله سالم، الطبعة الأولى 1412، مطبعة الأمانة، مصر.

كلهم يثبت الأخبار ويجعلها سنة، يحمد من تبعها، ويعاب من خالفها، فمن فارق هذا المذهب كان عندنا مفارق سبيل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأهل العلم بعدهم إلى اليوم، وكان من أهل الجهالة" (¬1). وقال ابن بطة: "فإذا سمع أحدكم حديثاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه العلماء، واحتج به الأئمة العقلاء، فلا يعارضه برأيه وهوى نفسه، فيصيبه ما توعّده الله - عز وجل - به، فإنه قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: من الآية 63]، وهل تدري ما الفتنة ههنا؟ هي والله الشرك بالله العظيم، والكفر بعد الإيمان، فإن الله - عز وجل - قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: من الآية 193]، يقول: حتى لا يكون شرك، فإنه قال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: من الآية 191] يقول: الشرك بالله أشد من قتلكم لهم ... " (¬2). وقال ابن أبي العز رحمه الله: "فالواجب كمال التسليم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن نعارضه بخيال باطل نسميه معقولاً، أو نُحَمِّله شبهةً أو شكاً، أو نُقدم عليه آراء الرجال وزبالة أذهانهم، فنوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما نوحد المرسِل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل" (¬3). ¬

(¬1) مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة للإمام السيوطي ص 34 - 35، الطبعة الثالثة 1399، الجامعة الإسلامية، المدينة. (¬2) منهج الإمام ابن بطة في تقرير عقيدة السلف والرد على أهل الأهواء والبدع (1/ 39)، رسالة دكتوراه (مخطوط)، لحمد بن عبدالمحسن التويجري، كلية أصول الدين بالرياض، 1417. (¬3) شرح العقيدة الطحاوية ص 166، تحقيق: أحمد شاكر، 1418، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية.

المطلب الثالث: أقوال السلف في فهم الكتاب والسنة

المطلب الثالث: أقوال السلف في فهم الكتاب والسنة: تمهيد: إن صحة الفهم ركيزة رئيسة لصحة التلقي، ولا يستطيع المرء أن يعرف مراد الله عز وجل، ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا حينما يستقيم فهمه لدلائل الكتاب والسنة، وكثير من البدع والضلالات إنما حدثت بسبب غلط الفهم. قال ابن القيم رحمه الله: "صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما أمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم وهم أهل الصراط المستقيم الذين أُمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة" (¬1). وإن الرجوع إلى فهم السلف وأقوالهم وتفسيراتهم لنصوص القرآن والسنة متعين قطعاً في أمور الدين عامة، وفي نصوص العقيدة بصفة خاصة. فالصحابة هم خير القرون وأفضلها، ولا شك أن هذه الخيرية متمثلة في كمال العلم وتمام الفهم لما ورد عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد حصل لهم ذلك لفضل صحبتهم، وكثرة ملازمتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوماً اختارهم الله تعالى لصحبه نبيه - صلى الله عليه وسلم - وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" (¬2). ¬

(¬1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 87)، تحقيق: طه عبدالرؤف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973. (¬2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 198)، لأبي عمر بن عبدالبر، تحقيق: فواز أحمد زمرلي، الطبعة الأولى 1424، مؤسسة الريان-دار ابن حزم.

اعتصام جمال الدين السرمري بفهم السلف

اعتصام جمال الدين السرمري بفهم السلف: قد اعتمد جمال الدين السرمري رحمه الله في تلقي العقيدة اعتماداً مباشراً على فهم سلف الأمة، فهو يعتبر السنة والصراط المستقيم هو ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح، قال رحمه الله في عقيدته: "وما السنة البيضاء إلا التي قضى ... عليها رسول الله مع صحبه الغُرِّ وتَابِعُهُم فيها بإحسانٍ الأُلى ... رضوا ورضي عنهم بها عَالِمُ السِّرِّ وإنِّي على ما مات عنه محمد ... وأصحابه والتابعون إلى حشري" (¬1). وقال رحمه الله في معرض كلامه عن الأدلة الشرعية: "إذا سألوه عن دليل مقاله أجاب بقول الله في محكم الذكرِ وإن يستزيدوا قال: قال محمد وإن يستزيدوا قال: قال أبو بكرِ" (¬2). والمتتبع لمؤلفات السرمري رحمه الله يجد السمة الواضحة والعلامة البارزة هي أثريَّة آرائه، حتى قال عنه القِذِّيف الشَّغَّاب زاهد الكوثري (¬3): "وكان صاحب الترجمة -يعني الإمام السرمري- بعيداً عن علم الكلام وأصول الدين منصرفاً إلى مجالس الرواة يسير وراء ابن تيمية في شواذه حذو النعل بالنعل كغالب مقلدة الرواة من أهل زمنه ... " (¬4). وكان جمال الدين السرمري رحمه الله حريصاً على تتبع منهج السلف حتى في طرائقهم في التأليف، قال رحمه الله "وافتتحته بكتاب الإيمان والسنة اتباعاً لطريقة السلف، وترغيباً لمن ¬

(¬1) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 30. (¬2) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 28. (¬3) سبق الحديث عنه , انظر هامش ص 40. (¬4) انظر: هامش (لحظ الألحاظ) ص 161.

بعدهم في اتباعهم من الخلف" (¬1) , وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلامه عن أن أول الواجبات هو الإيمان لا النظر: "وتقرير الحجة في القرآن بالرسل كثير ... ولهذا كان طائفة من المصنفين للسنن على الأبواب، إذا جمعوا فيها أصناف العلم، ابتدءوها بأصل العلم والإيمان، كما ابتدأ (البخاري صحيحه) ببدء الوحي ونزوله، فأخبر عن صفة نزول العلم والإيمان على الرسول أولاً، ثم أتبعه بكتاب الإيمان الذي هو الإقرار بما جاء عنه، ثم بكتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به، فرتبه الترتيب الحقيقي، وكذلك الإمام أبو محمد الدرامي صاحب (المسند) ابتدأ كتابه بدلائل النبوة، وذكر في ذلك طرفاً صالحاً، وهذا الرجلان أفضل بكثير من مسلم والترمذي ونحوهما، ولهذا كان أحمد بن حنبل يعظم هذين ونحوهما، لأنهما فقهاء في الحديث أصولاً وفروعاً" (¬2). وهذا الاعتصام من جمال الدين السرمري بمنهج السلف هو ما كان عليه الأئمة والعلماء من قبله، فقد اعتبروا أن من أصول أهل السنة والجماعة هو تمسكهم بمنهج السلف والاقتداء بهم واتباع سبيلهم والنهي عن مخالفتهم. قال الأوزاعي: "اصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم وقل بما قالوا وكف عما كفوا واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم ... ولو كان خيراً ما خصصتم به دون أسلافكم فإنه لم يدخر عنهم خير خبئ لكم دونهم لفضل عندكم وهم أصحاب نبيه - صلى الله عليه وسلم - الذين اختارهم وبعثه فيهم ووصفهم بما وصفهم به فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: من الآية 29] " (¬3). وقال الإمام أحمد رحمه الله: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله ¬

(¬1) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 72. (¬2) مجموع الفتاوى (2/ 3 - 4). (¬3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للإمام اللالكائي (1/ 174).

- صلى الله عليه وسلم - والاقتداء بهم وترك البدع ... " (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطنا وظاهراً، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ... " (¬2). وقال ابن عبدالهادي: "ولايجوز إحداث تأويل في آية أو سنة، لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المستأخر، فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه ... " (¬3). وقال ابن أبي العز: "وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة، وإنما يتلقاه من قول فلان، وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول ولا ينظر فيها، ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان المنقول إلينا عن الثقات النقلة الذي تخيرهم النقاد، فإنهم لم ينقلوا نظم القرآن وحده، بل نقلوا نظمه ومعناه، ولا كانوا يتعلمون القرآن كما يتعلم الصبيان، بل يتعلمونه بمعانيه، ومن لا يسلك سبيلهم فإنما يتكلم برأيه، ومن يتكلم برأيه وما يظنه من دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب والسنة، فهو مأثوم وإن أصاب ... " (¬4). ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (1/ 241)، لأبي الحسين محمد بن أبي يعلى، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت؛ شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 176)، للإمام اللالكائي، تحقيق: د. أحمد الغامدي، الطبعة الرابعة 1416، دار طيبة، الرياض. (¬2) مجموع الفتاوى (3/ 157). (¬3) الصارم المنكي في الرد على السبكي ص 318، لابن عبدالهادي، تحقيق: عقيل بن محمد اليماني، الطبعة الأولى 1424، مؤسسة الريان، بيروت. (¬4) شرح العقيدة الطحاوية، ص 115.

المبحث الثاني منهج جمال الدين السرمري في الاستدلال

المبحث الثاني منهج جمال الدين السرمري في الاستدلال وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: منهجه في الاستدلال بالقرآن الكريم. المطلب الثاني: منهجه في الاستدلال بالسنة النبوية. المطلب الثالث: موقفه من علم الكلام.

المطلب الأول: منهجه في الاستدلال بالقرآن الكريم

المطلب الأول: منهجه في الاستدلال بالقرآن الكريم: سبق بيان أن القرآن مصدر من مصادر التلقي عند جمال الدين السرمري رحمه الله، وقد سار على منهج أهل السنة في تقرير الاستدلال بنصوص القرآن، يتبين ذلك من خلال المسائل التالية: المسألة الأولى: الإكثار من الاستدلال بنصوص القرآن: حتى إنه رحمه الله يحشد في الموضع الواحد عدة آيات مقرراً ما يتعلق بها من مباحث، وما ذاك إلا لسعة علمه، واعتصامه بالكتاب العزيز. ومن أمثلة ذلك ما ساقه في مسألة أن المقتول وغيره مات بأجله فقال: "والدليل عليه الكتاب والسنة، فالكتاب قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: من الآية 34] وذم سبحانه بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: من الآية 156] وبقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: من الآية 168] فرد الله عليهم وأكذبهم، وبيَّن لهم خطأهم بقوله تعالى: {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: من الآية 168]، وبقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: من الآية 154] وبقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] وبقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: من الآية 78] وبقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:

من الآية 145] وبقوله تعالى: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [الحِجر: 5] " (¬1). وقال في موضع آخر في ذكر أحكام الشهادة: "قال الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: من الآية 282] وقال: { ... كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ... } الآية [المائدة: من الآية 8] وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: من الآية 2] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: من الآية 135] وقال: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: من الآية 283] وقال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] وقال: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72] " (¬2). وقال في موضع آخر في بيان إخباره - صلى الله عليه وسلم - بالغائبات: " فمن ذلك ما أخبره الله تعالى به في القرآن كقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} [آل عمران: من الآية 12] ... ، ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: من الآية 7] فهزم الله المشركين، ومن ذلك قوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ ¬

(¬1) كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون، ص 79 - 80. (¬2) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 630.

يَنْصُرُهُ} [الحج: من الآية 40] ... ، ومن ذلك قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: من الآية 55] ... ، ومن ذلك قوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 4] ... ، ومن ذلك قوله سبحانه تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ} [الفتح: من الآية 27] فدخلوه كذلك، ومن ذلك قوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح: من الآية 21] ... ، ومن ذلك قوله سبحانه: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة: من الآية 7] ... ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [المائدة: من الآية 13] وقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: من الآية 76] يعني من بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [البقرة: من الآية 76] فأعلمه الله تعالى بذلك فقال: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77] ومن ذلك قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: من الآية 18] ... ، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} [محمد: من الآية 25] إلى قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد: من الآية 26] " (¬1). ¬

(¬1) خصائص سيد العالمين [ق 32/و-ظ].

المسألة الثانية: تفسير القرآن بالقرآن

المسألة الثانية: تفسير القرآن بالقرآن: وهذا من أفضل طرق تفسير القرآن، فإن كلام الله يبين بعضه بعضاً. ومن شواهد هذا المنهج قول جمال الدين السرمري رحمه الله: "وأما قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] أي وفى بما ابتلاه به من قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: من الآية 124] " (¬1). وقال في موضع آخر عند قوله تعالى: " {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: من الآية 12] فلا هنا زائدة بدليل قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: من الآية 75] " (¬2). المسألة الثالثة: تفسير القرآن بالسنة: وعلى هذا سار أئمة الإسلام في تفسير كلام الله عز وجل. ومن شواهد هذا المنهج قول جمال الدين السرمري رحمه الله في رفع قدر ومنزلة النبي - صلى الله عليه وسلم -: "روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشَّرح: 4] قال: «قال لي جبريل: قال الله تعالى: إذا ذُكِرتُ ذُكِرتَ معي» " (¬3). وقال في موضع آخر عند الكلام على العِدد: "عن أبي بن كعب قال: قلت: يا رسول الله {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: من الآية 4] للمطلَّقة ثلاثاً أو للمتوفى عنها؟ فقال: هي للمطلقة ثلاثاً وللمتوفى عنها" (¬4). وقال في موضع آخر في أحكام المسافر: "وقال يعلى بن أمية لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: من الآية 101] ¬

(¬1) خصائص سيد العالمين [ق 11/و]. (¬2) شرح اللؤلؤ في النحو، ص 148 - 149. (¬3) خصائص سيد العالمين [ق 37/ظ]. (¬4) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 494.

المسألة الرابعة: تفسير القرآن بأقوال السلف

فقد أمِنَ الناس، فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: «صدقة تصدق الله - عز وجل - بها عليكم فاقبلوا صدقته» " (¬1). وقال في موضع آخر على قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]: "فلما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله قد علمنا كيف السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: «قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنّكَ حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» " (¬2). المسألة الرابعة: تفسير القرآن بأقوال السلف: والمراد بهم هنا الصحابة والتابعون وتابعوهم، ومن أخذ عنهم وسار على نهجهم. ومن شواهد هذا المنهج قول جمال الدين السرمري رحمه الله: "وعن أبي جنيح قال: سمعت عمرو بن دينار يقول في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: من الآية 243] قال: وقع الطاعون في قريتهم فخرج ناس وأقام ناس فنجا الذين خرجوا وهلك الذين أقاموا، فلما وقع الطاعون الثانية، خرجوا بأجمعهم فأماتهم الله تعالى" (¬3). وقال في موضع آخر عند الكلام على أحكام الصيام: "وعن عطاء سمع ابن عباس يقرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: من الآية 184] قال ابن عباس: ليست بمنسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً" (¬4). ¬

(¬1) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، 195. (¬2) شرح اللؤلؤ في النحو، ص 42. (¬3) كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون، ص 81. (¬4) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 272.

المسألة الخامسة: عنايته بأسباب النزول

وقال في موضع آخر في انتصار الله لرسول - صلى الله عليه وسلم - بالريح: " قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: من الآية 9]؛ روى أبو نعيم: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كان يوم الأحزاب انطلقت الجَنُوبُ إلى الشَّمال فقالت: انطلقي بنا ننصر محمّداً - صلى الله عليه وسلم -، فقال الشمال: إن الحُرّة لا تسري إلا بليل، فأرسل الله عليهم الصَّبا، فذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: من الآية 9] " (¬1). وقال في موضع آخر في باب الأيمان: "عن عائشة قالت: أنزلت هذه الآية: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: من الآية 225] في قول الرجل: لا والله، وبلى والله" (¬2). المسألة الخامسة: عنايته بأسباب النزول: وذلك لأن معرفة سبب نزول الآية مؤثر عند أهل العلم في معرفة معناها ودلالة ألفاظها، مع الأخذ بالاعتبار أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد اعتنى جمال الدين السرمري رحمه الله بهذا الجانب في مؤلفاته. فمن شواهد هذا المنهج قوله عند الكلام عن الإيمان: "وعن البراء قال: لما حولت القبلة قال رجل: كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، فنزلت: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: من الآية 143] " (¬3). وقال في موضع آخر في أحكام المناسك: "وعن كعب بن عُجْرَةَ قال: كان بي أذًى من رأسي، فحُملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي، فقال: «ماكنت أرى أن الجُهْدَ بلغ بك ما أرى، أتجد شاةً؟ »، قلت: لا، فنزلت الآية {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] قال: «هو صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، نصف صاع طعام لكل ¬

(¬1) خصائص سيد العالمين [ق 37/ظ]. (¬2) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 600. (¬3) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 76.

مسكين» " (¬1). وقال في موضع آخر في كتاب البيوع: "وعن ابن عباس قال: ولما نزلت: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: من الآية 152] عزلوا أموال اليتامى حتى جعل الطعام يفسُدُ واللحم ينتن، ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: من الآية 220] قال: فخالطوهم" (¬2). وقال في موضع آخر عند الكلام على اللعان: "وقال رجل: يا رسول الله، أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشةٍ كيف يصنع إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك، فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه ابتُليت به، فأنزل الله - عز وجل - هؤلاء الآيات في سورة النور {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ... [النور: 6] ... " (¬3). وقال في موضع آخر في صفة الكفارة: "فقد كان الرجل يقوت أهله قوتاً فيه سعة، وكان الرجل يقوت أهله قوتاً فيه شدة، فنزلت: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ... [المائدة: 89] " (¬4). وقال في موضع آخر عند الكلام على عظم منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الله في المحبة: " لما قال من قال من الكفّار حين اشتكى فلم يقم ليلة أو ليلتين أنه قد وُدِّع فأنزل الله - عز وجل -: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضُّحى: 1 - 5] " (¬5). ¬

(¬1) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 294. (¬2) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 371. (¬3) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 489. (¬4) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 613. (¬5) خصائص سيد العالمين [ق 26/و-ظ].

المسألة السادسة: عنايته بالقراءات الواردة في الآية

المسألة السادسة: عنايته بالقراءات الواردة في الآية: قد اعتنى جمال الدين السرمري رحمه الله بهذا الجانب، فكان يوضح القراءات الواردة في الآية عند الحاجة لذلك. ومن شواهد هذا المنهج قوله عند الكلام على حروف الجزم: "إلا أنَّ الأفصح التسكين مع الواو والفاء، والكسر مع ثم، وعلى هذا قراءة أبي عمرٍ {ثم ليقطع فلينظر} [الحج: من الآية 15] وقرأ {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: من الآية 29] " (¬1). وقال في موضع آخر عند الكلام على الاستثناء: "وعلى اللغتين قُرئ قوله تعالى: {مافعلوه إلا قليلٌ منهم} [النساء: من الآية 66] رفعاً وإلا {قليلاً} نصباً" (¬2). وقال أيضاً: "أن تنصبهما جميعاً بلا تنوين كما قرئ {لا بيعَ فيه ولا خلالَ} " (¬3). وقال في موضع آخر عند الكلام على الترخيم: "روى البخاري في صحيحه: عن علي بن عبدالله، نبأنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن صفوان بن علي عن أبيه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ على المنبر {ونادوا يا مالِ} [الزخرف: من الآية 77]، قال سفيان: في قراءة عبدالله {ونادوا يا مالِ} " (¬4). وقال في موضع آخر عند الكلام على الممنوع من الصرف: "وللتناسب يجوز الصرف أيضاً كقراءة نافع والكسائي {سلاسلاً} [الإنسان: من الآية 4] {وقواريراً} [الإنسان: من الآية 15 - 16] وقراءة الأعمش {ولايغوثاً ويعوقاً} [نوح: من الآية 23] مصروفين ليناسبا ودّاً وسواعاً ونسراً" (¬5). ¬

(¬1) شرح اللؤلؤ في النحو، ص 220 - 221. (¬2) شرح اللؤلؤ في النحو، ص 144. (¬3) شرح اللؤلؤ في النحو، ص 151. (¬4) شرح اللؤلؤ في النحو، ص 175. (¬5) شرح اللؤلؤ في النحو، ص 206 - 207.

المسألة السابعة: اجتهاده في تفسير القرآن على طريقة أهل العلم

المسألة السابعة: اجتهاده في تفسير القرآن على طريقة أهل العلم: وبهذا تظهر قوة جمال الدين السرمري رحمه الله العلمية، وتوفر آلة الاجتهاد لديه، وتمكنه من العلوم الأصلية وعلوم الآلة. ومن شواهد هذا المنهج قوله عند الكلام على جمع المذكر السالم: "فأمّا قوله عن السماء والأرض: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فُصِّلَت: من الآية 11] فإنّه لما وصفهما بالقول الذي هو من خصائص من يعقل، جمعهما جمعَ من يعقل ليطابق أول الكلام آخرة ونظائره كثيرة في القرآن وغيره" (¬1). وقال في موضع آخر عند الكلام على الخبر الذي يتنزل منزلة المبتدأ على وجه التشبيه: "ومنه قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: من الآية 6] يعني أنّ زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - يتنزلن عند المسلمين في احترامهن وتحريم نكاحهنَّ بمنزلة أمهاتهم لا أنَّهُنَّ أمهاتهم حقيقةً" (¬2). وقال في موضع آخر عند الكلام على (كان): "وقد يقصد بها الداوم كما يقصد بـ (لم يزل) كقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: من الآية 27] " (¬3). وقال في موضع آخر عند الكلام على الآل: "وقد قال تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: من الآية 46] وأراد بذلك قومه كلهم" (¬4). ¬

(¬1) شرح اللؤلؤ في النحو، 91. (¬2) شرح اللؤلؤ في النحو، 116 - 117. (¬3) شرح اللؤلؤ في النحو، 164. (¬4) شرح اللؤلؤ في النحو، ص 230.

المطلب الثاني: منهجه في الاستدلال بالسنة النبوية

المطلب الثاني: منهجه في الاستدلال بالسنة النبوية: سبق أن السنة هي أحد مصادر التشريع وهي مصدر من مصادر التلقي عند جمال الدين السرمري رحمه الله، وقد سار رحمه الله على معالم واضحه في تقرير استدلاله بالسنة النبوية، فمن ذلك: المسألة الأولى: الإكثار من الاستدلال بنصوص السنة: حتى إنه رحمه الله يحشد في الموضع الواحد عدة آحاديث مقرراً ما يتعلق بها من مباحث، وما ذاك إلا لسعة علمه، واعتصامه بالسنة النبوية. ومن أمثلة ذلك ما ساقه عند الكلام على فضل المنيحة (¬1) وعِظَم أجرها فقال: "روى أبو سعيد - رضي الله عنه - قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأله عن الهجرة فقال: «ويحك الهجرة شأنها شديد، فهل لك من إبل» قال: نعم، قال: «فتعطي صدقتَها» قال: نعم، قال: «فهل تمنحُ منها» قال: نعم، قال: «فتحلبُها يومَ ورودها» قال: نعم، قال: «فاعملْ من وراءِ البحار، فإن الله تعالى لن يَتِرَك من عملك شيئاً» متفق عليه. ومنها عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «نعمَ الصدقةُ اللقحةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً، والشاةُ الصفيُّ مِنْحَةً، تغدو بإناء، وتروح بإناء» أخرجه البخاري. ومنها عن كُدير الضبِّي: أن رجلاً أعرابيًّا أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أخبرني بعلمٍ يُقرِّبني من طاعتهِ ويُباعدني من النار، قال: «أوَ تعملُ بما أعلمناك»، قال: نعم، قال: «تقولُ العدلَ، وتُعطي الفضلَ»، قال: والله ما أستطيعُ أن أقولَ العدلَ كلَّ ساعة، وما أستطيعُ أن أعطيَ فضلَ مالي، قال: «فتُطعم الطعام، وتُفشي السلام»، قال: هذه شديدةٌ، قال: «فهل لكَ من إبل»، قال: نعم، قال: «فانظر بعيراً من إبلِكَ وسِقاء، ثم اعمدْ إلى أبياتٍ لا يشربونَ الماءَ إلا غِبًّا، ¬

(¬1) المنيحة المقصودة هنا: هي أن يمنح الرجلُ صاحبَه شاةً أو ناقةً ينتفع بلبنها ووَبَرها زماناً ثم يردّها. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 798)، تحقيق: طاهر الزاوي - محمود الطناحي، 1399، المكتبة العلمية، بيروت.

فلعلَّكَ أن لا يهلِكَ بعيرُك، ولا يَنخرِقُ سِقاؤك، حتى تجبَ لك الجنة» قال: فانطلق الأعرابي يكبِّر، قال: فما تخرَّق سِقاؤه، ولا هَلَك بعيرُهُ حتى قُتِلَ شهيداً؛ أخرجه عبدالرزاق بن همام في جامعه عن معمر عن أبي إسحاق عن كُدير. ومنها عن البراء - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: دُلَّني على عمل يقرِّبني من الجنةِ ويُباعدني من النار، قال: «لئن كنتَ أقصرتَ الخُطبةَ لقد أعرضْتَ المسألة، أعتق النَّسَمة، وفُكَّ الرَّقَبة» قال: يا رسول الله، أو ليستا واحدة، قال: «لا عِتقُ النسمة أن تفرد بعتقها، وفكُّ الرقبةِ أن تعينَ في ثمنها، والمِنْحَةُ الوكوفُ، والفيءُ على ذي الرَّحِمِ الظالم، فإن لم تُطِق ذلك فكفَّ لسانك إلا من خير» رواه الدارقطني في سننه. ومنها عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يبلغُ به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا رجلٌ يمنح أهل بيتٍ ناقةً تغدو بعُس وتروح بعُس، إن أجرَها لعظيم» أخرجه مسلم. ومنها عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون أيُّ الصدقةِ أفضل» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «المنيحةُ: أن تمنحَ أخاكَ الدرهمَ، أو ظهرَ الدابَّةِ، أو لبنَ الشاة، أو لبنَ البقرة» رواه الإمام أحمد في المسند " (¬1). وقال في موضع آخر عند الكلام على حفظ اللسان والفرج: "عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من توكَّل لي ما بين لحييه وما بين رجليه توكلتُ له بالجنة» أخرجه البخاري، وفي رواية: «من يضمن لي» وفيها: «أضمن له» ... وقد جاء الحديث: «طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه» ... وفي حديث وصيَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً - رضي الله عنه -: «احفظ عليك لسانك» وفيه: «وهل يكبُّ الناسَ على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم» ... وقد جاء الحديث: «احفظ فرجك إلا ما ملكت يمينُك أو من زوجتك» أو كما جاء، وفي الحديث أيضاً: «أكثر ما يُدخلُ الناسَ النارَ الأجوفان: البطنُ والفرج» " (¬2). ¬

(¬1) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، 18 - 22. (¬2) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 52 - 53.

المسألة الثانية: ظهور الصناعة الحديثية على مؤلفاته

المسألة الثانية: ظهور الصناعة الحديثية على مؤلفاته: فكثيراً ما يُتبع جمال الدين السرمري رحمه الله الحديث بالحكم عليه، أو الكلام على رواته أو نحو ذلك، ولا غرو فالسرمري -كما سبق في ترجمته- محدث حافظ، ومؤلف في علوم السنة، وناظم ما يتعلق بها من تآليف. ومن أمثلة ذلك قوله رحمه الله في مقدمة كتابه (إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة): "وعزوت كل حديثٍ إلى من رواه من الأئمة ... فما كان من مسند الإمام أحمد وصحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه والترمذي قلت: رواه الجماعة، وما كان من المسند والصحيحين: متفق عليه، وما كان من الصحيحين: أخرجاه، وما كان ممَّا عداهما: رواه الخمسة، وما لم يتفق كذلك سميت من رواه" (¬1). وقال في موضع آخر عند الكلام على مكان الصلاة: "وعن زيد بن جَبِيرَةَ، عن داود بن حصين، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه -: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أن يصلى في سبع مواطن: في المزبلَة، والمجزَرَة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله» رواه عبد بن حميد في مسنده، وابن ماجه، والترمذي وقال: ليس إسناده بذاك القوي، قد تُكُلِّم في زيد بن جَبِيرَةَ مِن قِبَلِ حفظهِ، ورواه الليث بن سعد، عن عبدالله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلَهُ، وحديث داود، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشبه وأصح من حديث الليث بن سعد، وعبدالله بن عمر العمري ضعَّفه بعض أهل الحديث من قِبَلِ حفظِه، منهم: يحيى بن سعيد" (¬2). وقال في موضع آخر عند الكلام على ترك الحسد والغش للمسلمين: "عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنا جلوساً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة» ... رواه الإمام ¬

(¬1) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 71 - 72. (¬2) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 151 - 152.

المسألة الثالثة: شرح مفردات الحديث والكلام عليها

أحمد بن حنبل رحمه الله في مسنده عن عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك؛ وهذا الإسناد على شرط الصحيحين" (¬1). وساق في آخر كتابه (الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة) حديثاً مسنداً فقال: "فأرودته بإسنادٍ لئلا يخلوَ كتابي من حديث مسند؛ وهو ما أخبرني الشيخ أبو طالب محمد بن محمد بن محمود العدل بقراءتي عليه برباط الأرجوانية من درب زاخي شرقيِّ بغداد في يوم الجمعة سادسَ عشرَ شعبانَ من سنةِ ثلاثين وسبعمائة قال: أنبأنا أبو أحمد عبدالصمد بن أحمد بن عبدالقادر بن أبي الجيش المقرئ قال: أخبرنا أبو الفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي إذناً، حدثنا أبو جعفر زيد بن جامع الشامي الحموي من لفظهِ في شعبان من سنة ثمانٍ وأربعين وخمسمائة قال: أخبرنا أبو طالب عبدالقادر بن محمد اليوسفي قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن لؤلؤ الوراق قال: أخبرنا أبو حفص عمر بن أيوب السَّقَطي، وحدثنا أبو الوليد بشر بن الوليد القاضي، حدثنا الفرج بن فضالة، وحدثنا هلال أبو جبلة، عن سعيد بن المسيب عن عبدالرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ ونحن في مسجد المدينة فقال: «إني رأيتُ الليلةَ عجباً» ... " (¬2). وقال في موضع آخر عند الكلام على ما يطول الأعمار: "وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «إن البر والصلة ليطولان الأعمار ويعمران الديار، ويثريان الأموال، وإن كان القوم فُجاراً، وإن البر والصلة ليخفقان السوء سوء الحساب يوم القيامة» رواه الحافظ ابن الجوزي في كتاب البر والصلة تأليفه وأدْرَجَ عليهما" (¬3). المسألة الثالثة: شرح مفردات الحديث والكلام عليها: فقد كان جمال الدين السرمري رحمه الله يعلق على المفردات المشكلة في الحديث، ويوضح ¬

(¬1) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 110 - 111. (¬2) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 151 - 152. (¬3) كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون، ص 112 - 113.

المراد منها، وهذا دليل على سعة علمه ودرايته بالحديث. ومثال ذلك قوله عند الكلام على أحاديث المنيحة: "أما حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما الذي أسَّسنا عليه الكتاب، فقوله: «منيحة»، المنيحة: هي الناقة أو البقرة أو الشاةُ يُعطيها الرجلُ الرجلَ يحتلبُها ويشربُ لبنَها ويُعيدها إليه، والمنيحة في اللغة: العطية، يُقال: مَنَحَهُ كذا إذا أعطاه؛ وأما حديث أبي سعيد فقوله: «ويحك إن الهجرةَ شأنُها شديد» يعني أن الالتزام لأحكامها مُشِقٌّ: من ترك الأهل، والولد، والوطن، والتغرُّب، والفقر، والخوف، لاسيَّما وهو صاحب ماشيةٍ، والافتتان بها أسرع، فخشيَ عليه أن لا يصبرَ على اللأواء، فيرفضَ الهجرةَ ويرتدَّ، فدلَّه على الأسهل ليقوى إيمانُه، وربما آمنَ بإيمانهِ إذا رجعَ إلى أهله غيرُه، والذي دلَّه عليه فيه أجرٌ عظيم: التصدُّقُ، والإمناح، وسقيُ اللبنِ على المورد؛ وقوله: «فاعمل من وراءِ البحار» أي إذا كانَ هذا عملَكَ فدُمْ عليه، ولو أنكَ غائبٌ عني، بعيدٌ مني، ولو خلفَ البحار، لأن اللهَ تعالى «لن يَتِرَكَ» أي يَظْلِمُكَ ويُنْقِصُكَ مما عملتَ له شيئاً، ولكنَّهُ يؤتيكَ أجرَهُ موفوراً والله أعلم؛ وأما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - «اللِّقحةُ»: الناقة التي تُحلب، والجمع لقاح؛ و «الصفيُّ»: الناقة الكثيرةُ اللبن؛ و «النحلة» الكثيرة الحمل، وقوله: «تغدو بإناء وتروح بآخر» يعني أنها تُحلبُ غُدْوَةً وعشيَّة، فنعم المنحةُ ما كان على هذه الصفة و«نعم» للمدح، يقال: نعمَ الرجلُ زيدٌ؛ وأما حديث كُدير فقوله: «تقولُ العدل» أي الحقَّ والصدق ولا تقلْ غيرَ ذلك، وقوله: ما أستطيعُ أن أقولَ الحقّ كل ساعة؛ وذلك لأن الحقَّ ثقيل، ومنه الأمانة التي عجزت السمواتُ والأرضُ عن حملها وأشفقنَ منها، وسُمِّي الإنسانُ بتحمُّلِها {ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: من الآية 72] لأنه أقدمَ على ما أحجم عن حَمْلهِ السمواتُ والأرض والجبال وقال الله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: من الآية 152]؛ وقوله «وتعطي الفضل» أي تتفضَّلُ بالإعطاءِ من مالِكَ، ويجوز أن يكون: تعطي الفضلَ من مالِكَ عن قدرِ كفايتِكَ وكفايةِ من تعول لأنه قد جاء في الحديث أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - حضَّ الناسَ على التصدق بفضل الزاد والظهر وأصناف من المال في بعض سفراته،

قال الرواي: حتى رأينا أن لا حق لأحد منّا في فضل أو كما جاء، وقد روي «طوبى لمن أعطى الفضل من ماله، وأمسك الفضلَ من لسانه» وهذا على سبيل الندب والاستحباب ألا تراه عدل عنه إلى ما هو أسهل منه، وهو قوله: «فتطعم الطعام، وتُفشي السلام» ... " (¬1). وقال في موضع آخر عند الكلام على شرح صدر النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كما ذكره مسلم في حديثه وبيّن فيه أنه «أخرَج منه علقة فألقاها وقال: هذا حظ الشيطان منك» والعلقة: قطعةُ دم تكون في تجويف القلب وتسمّى السُويداء والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ومن القلب تَجري الحياةُ في البدن وهي التي يقول لها الأطباء الروح والقوة والشهوة والحياة تنبعث من القلب ولهذا كان القلب ملك البدن وكان إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله والقلب ما دامت فيه تلك العَلقَة يدخل الشيطان فيه فهي بَيْتُه منها يتصرف بالوسوسة فأُخرِجت من النبي - صلى الله عليه وسلم - وغُسل مكانها فلم يبق للشيطان عليه سبيل أصلاً ولا بقي له بيت يدخل فيه ولا مسكن وكان يقول - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أحد إلا وقد وكل به قرينه، قالوا: وأنتَ يا رسول الله، قال: وأنا لكن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» وليس المراد أسلم أنا بل أسلم هو من الاستسلام لا من إيمان لأنه قال: «فلا يأمرني إلا بخير» لأنه انقاد وانطاعَ فبقي لا يأمره إلا بما يناسبُ حاله من الخير - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). وقال في موضع آخر عند الكلام على التواضع والمسكنة لله تعالى وترك التكبُّر والتجبُّر: "عن حارثة بن وهب الخزاعي - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ألا أخبركم بأهل الجنة، كل ضعيفٍ متضعِّف، لو أقسمَ على الله لأبرَّهُ، ألا أخبركم بأهلِ النار، كل عُتُلِّ جوَّاظٍ مستكبر» ... وقوله في الحديث «عُتُلِّ» العتلُّ: الشديد الخصومة الجافي، اللئيمُ الضريبة، وقال ابن عرفة: هو الفظُّ الغليظُ الذي لا ينقادُ لخير؛ وقوله: «جوَّاظ» الجواظ: هو الكثيرُ اللحم، المختالُ في مشيته" (¬3). ¬

(¬1) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 22 - 24. (¬2) خصائص سيد العالمين [ق 79/ظ]-[ق 80/و]. (¬3) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 140، 137 - 141.

المسألة الرابعة: الجمع بين النصوص النبوية التي يوهم ظاهرها التعارض

المسألة الرابعة: الجمع بين النصوص النبوية التي يوهم ظاهرها التعارض: فمن منهج جمال الدين السرمري رحمه الله دفع إيهام تعارض أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو منهج أهل السنة، وعدم ضرب بعضها ببعض كما هو منهج أهل البدعة فقد قال في كتابه (شفاء الآلام في طب أهل الإسلام) في باب الجذام عند ذكر المرأة التي تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد البياض بكشحها فقال لها: «الحقي بأهلك» قال: "وقد ظن طائفة من العلماء أن هذه الأحاديث معارضة بأحاديث أخر تبطلها وتناقضها منها ما رواه الترمذي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد مجذوم فأوصلها معه في القصعة وقال: «كل باسم الله ثقة بالله وتوكلاً على الله» وبما في الصحيح أنه قال: «لا عدوى ولا طيرة» - قال: - ونحن نقول: لا تعارض بحمد الله في أحاديثه الصحيحة، فإذا وقع التعارض فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه - صلى الله عليه وسلم -، أو قد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتاً فالثقة يغلط، أو يكون التعارض في فهم السامع لا في نفس كلامه - صلى الله عليه وسلم -، فلا بد من خروجه من هذه الوجوه الثلاثة، فأما حديثان صحيحان صريحان متعارضان من كل وجه ليس أحدهما ناسخاً للآخر فهذا لا يوجد أصلاً، ومعاذ الله أن يوجد في كلام الصادق المصدوق إلا الحق، فالآفة من التقصير في معرفة المقول والتمييز بين الصحيح والمعلول، أو من القصور في فهم مراده - صلى الله عليه وسلم - وحمل كلامه على غير ما قصد به، أو منهما معاً، ومن هنا وقع في الاختلاف والفساد ما وقع" (¬1). ومن أمثلة ذلك قوله عند الكلام على التواضع والمسكنة لله تعالى وترك التكبُّر والتجبُّر: "عن حارثة بن وهب الخزاعي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ألا أخبركم بأهل الجنة، كل ضعيفٍ متضعِّف، لو أقسمَ على الله لأبرَّهُ، ألا أخبركم بأهلِ النار، كل عُتُلِّ جوَّاظٍ مستكبر» ... وأما الحديثُ الذي وردَ أن: المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، فليس هذا بالمناقض لما نحن فيه، فإن المقصودَ هنا بالقوةِ القوةُ في دين الله تعالى وعبادتهِ وامتثالِ أوامرهِ ¬

(¬1) انظر: شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 257 ب - 258 أ؛ بلوغ المُنى والظفر في بيان لاعدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، ص 61 - 63، جار الله محمد بن عبدالعزيز ابن فهد، تحقيق: أحمد المصلحي، الطبعة الأولى 1417، دار الأندلس الخضراء، جدة، نقلاً عن كتاب السرمري (شفاء الآلام).

بالوجباتِ تضاعفاً والانزجارِ عما نهى" (¬1). وقال في موضع آخر في سياق الكلام على الطيرة: "وأما ما روي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الطيرة في ثلاث: في الدار والمرأة الفرس» فالجواب عنه: أن عائشة رضي الله عنها طعنت عليه وبيَّنت تثبيت الحديث وذنك أنها ذُكر لها قول أبي هريرة فقالت: لم يحفظ أبو هريرة، دخل علينا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قاتل الله اليهود؛ يزعمون أن الشؤم في الدار والمرأة والفرس» فسمع أبو هريرة آخر الحديث ولم يسمع أوله؛ وفي رواية: أن رجلين دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الطيرة في ثلاث: في الدار والمرأة والفرس» فغضبت عائشة رضي الله عنها غضباً شديداً، وقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما قاله، إنما قال: «أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك» فقد بيَّنت عائشة وجه الحديث وسببه، وأن ذلك من قول اليهود والجاهلية، وبيَّنت أن أبا هريرة لم يسمع أول الحديث؛ وقد تأول قوم حديث أبي هريرة في أن الشؤم في المرأة إذا كانت لا تلد أو سيئة الخلق، وفي الدار إذا كانت بعيدة عن المسجد أو ضيقة وجيرانها جيران سوء، وفي الدابة إذا كانت تعضُّ أو ترفُس، أو كانت مربوطة للفخر والخيلاء ... ؛ فأما ما روى أنس أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنا نزلنا داراً فكثر فيها عددنا وكثرت فيها أموالنا، ثم تحولنا عنها إلى أخرى، فقلَّت فيها أموالنا، وقل فيه عددنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فَذَرُوها ذميمةً» فالجواب: أنه قال لهم: «فَذَرُوها ذميمةً» لما كان استقر في أنفسهم في زمان الجاهلية من شؤم الدار، فأمرهم بالنقلة عنها ليزول ما توهموه في قلوبهم من أن الشؤم في المسكن وما لحقهم من الاستيحاش فيها، والتثاقل بها، يستعجلوا الراحة ويزول عنهم توقع البلاء الذي قد استشعروه من نزول الحوائج، وإن لم يكن لذلك في الحقيقة أصل، ولئلا يعتقدوا التشاؤم بالدار، ويفهم من قوله: «فَذَرُوها ذميمةً» وعدم التصريح لهم والتعريف بذكر الشؤم أن ذلك قد كان قدَّره لهم بقوله: «لا عدوى ولا طيرة» وكان سؤال السائل في ذلك على سبيل الاستفهام لما أشكل عليه وقوع النقص ¬

(¬1) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 141، 137.

المسألة الخامسة: تفسير السنة بالقرآن

بسكن الدار الثانية دون الأولى، كما قال ذلك الرجل: إن النُقبة تكون في مشفر البعير، فتدخل في الإبل فتجرب، فقال له: «فَمن أعدى الأوَّل» وقال هنا: «فَذَرُوها ذميمةً» حسماً لوهم صاحب البعير أن بعيره خالط غيره فأعداه، ويتسلسل ذلك في ظنه، فقطعه بهذا الجواب، وقال لصاحب الدار: «فَذَرُوها ذميمةً» خوفاً عليه أن يقوى وهمه باستمرار النقص عليه بالمقام بها، فيؤدي ذلك إلى سوء اعتقاده فيما أخبره به أولاً أنه لا عدوى ولا طيره" (¬1). المسألة الخامسة: تفسير السنة بالقرآن: قد سلك الإمام جمال الدين السرمري مسلك الأئمة الأعلام في التعامل مع نصوص السنة، فالتمس من آيات القرآن ما يقوي به وجه الاستشهاد بالسنة؛ تارةً تأكيداً، وتارة بياناً. ومثال ذلك قوله عند الكلام على تفسير الآل: "في الصحيح أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل فقيل: يا رسول الله قد عَلِمْنا كيف السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك لي محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنَّك حميد مجيد» واختلف الناس في آله من هم، فقيل: أهل بيته، وهذا هو الصحيح إن شاء الله، وقيل: جميع أمته فيدخل فيه أهله وأزواجُهُ وكل مؤمن به وقد قال تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: من الآية 46] وأراد بذلك قومه كُلهم" (¬2). وقال في موضع آخر عند الكلام على حفظ اللسان والفرج: "عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من توكَّل لي ما بين لحييه وما بين رجليه توكلتُ له بالجنة» أخرجه البخاري ... والمراد بما بين الرجلين الفرج، وقد أمر الله تعالى بحفظه في كتابه ووعد على حفظه بالفلاح في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] ثم قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ¬

(¬1) كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون، ص 57 - 66. (¬2) شرح اللؤلؤ في النحو، ص 230.

المسألة السادسة: تفسير الحديث بالحديث

(5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 - 6] " (¬1). وقال في موضع آخر عند الكلام على عظم أجر الصائم: "وجاء في الحديث أيضاً: «إن الله تعالى يقول: الصومُ لي وأنا أجزي به» يشيرُ إلى عظم ثوابه لأنه لم يُحِدَّهُ، ولم يوقفْ عليه بشراً فهو من قبيل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: من الآية 17] " (¬2). المسألة السادسة: تفسير الحديث بالحديث: وهذا من أولى ما فُسرت به النصوص الشرعية، لأن الشارع أعلم من غيره بالمراد من النص الشرعي، وعلى هذا سار أئمة الإسلام. ومثال ذلك قوله عند الكلام على حفظ اللسان والفرج: "عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من توكَّلَ لي ما بين لَحْيَيْه، وما بين رجليه توكلتُ له بالجنة» أخرجه البخاري ... وقد جاء الحديث: «طوبى لمن أمسكَ الفضل من لسانه» وقد سبق وذلك لأن «كلام ابن آدم كلَّهُ عليه لا له، إلا أمرٌ بالمعروف، أو نهيٌ عن منكر، أو تلاوةُ كتابِ الله» كذا جاء الحديث" (¬3). وقال في موضع آخر: "قوله: «فإن لم تُطق فأمسك لسانك إلا من خير» وهذا من جوامع الخير؛ لأنه قد جاء الحديث «كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر, أو قراءة القرآن» فإذا سَلِمَ الإنسانُ من غائلة اللسانِ سَلِمَ من غائلة الإثم والعصيان كما قال: «وهل يكبُّ الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم» " (¬4). وقال في موضع آخر عند الكلام على ترك التهاجر والتشاجر: "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن ¬

(¬1) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 52 - 53. (¬2) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 81. (¬3) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 52. (¬4) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 26.

المسألة السابعة: تفسير السنة بأقوال السلف

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تُفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا» أخرجه مسلم، يشترط في هذه الهجرة أن تكون في غير ذات الله تعالى، كمن هجر مسلماً غير مبتدع ... لأنه ورد أن: «من سلَّم على صاحب بدعةٍ فقد أعانَ على هدم الإسلام» " (¬1). المسألة السابعة: تفسير السنة بأقوال السلف: لا ريب أن السلف كانوا أدرى الناس بأحكام السنة وألفاظها، وأن أقوالهم مقدمة على أقوال غيرهم في فهم النصوص الشرعية، وقد نقل الإمام جمال الدين السرمري بعض الآثار عن السلف الدالة على تفسيرهم للسنة، ومن ذلك قوله عند الكلام على حسن الخلق: "وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخلُ الناسَ الجنة فقال: «تقوى الله وحسن الخلق» ووصف ابنُ المبارك رحمة الله عليه حسن الخلق فقال: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكفُّ الأذى" (¬2). وقال في موضع آخر عند الكلام على الإيمان: "وعن عامر بن سعد عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى رجالاً ولم يعط رجالاً، قال: فقلت: أعطيت فلاناً وتركت فلاناً لم تعطه وهو مؤمن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أو مسلم» فأعدتها عليه ثلاثاً وهو يقول: «أو مسلم» ثم قال: «إني لأعطي رجالاً وأمنع رجالاً ممن هو أحبُّ إلي منهم مخافة أن يكَبُّوا في النارِ على وجوههم» أو قال: «على مناخرهم»؛ قال الزهري: فيرى أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل" (¬3). وقال في موضع آخر عند الكلام على أحكام بيع الأصول والثمار: "وفي لفظ قال: «إن بعت من أخيك ثمراً فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بِمَ تأخذ مال أخيك ¬

(¬1) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 71. (¬2) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 93. (¬3) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 75.

المسألة الثامنة: إيراد الروايات والألفاظ الموضحة للحديث

بغير حق» رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. فصل، قال عطاء: الجوائح كل ظاهرٍ مفسدٍ من مطرٍ أو بردٍ أو جرادٍ أو ريحٍ أو حريقٍ" (¬1). المسألة الثامنة: إيراد الروايات والألفاظ الموضحة للحديث: فجمع روايات الحديث الواحد، وذكر ألفاظه مما يبين المراد منه. مثال ذلك قوله عند الكلام على أحكام الهبة والهدية: "عن النعمان بن بشير أن أباه أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكُلُّ ولدكَ نحلتَهُ مثل هذا» فقال: لا، فقال: «فارجعه» متفق عليه؛ وفي روايةٍ «فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق»؛ وفي روايةٍ: «لا تشهدني على جور، إن لبَنِيك عليك من الحق أن تعدلَ بينهم»؛ وقال في روايةٍ: «فاتقوا الله واعْدِلوا بين أولادكم» قال: فرجع فردَّ عطيتَهُ" (¬2). وقال في موضع آخر عند الكلام على أحكام صلاة الكسوف: "و «صلَّى في كسوف قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، والأخرى مثلها» وفي رواية: «ثماني ركعات في أربع سجدات» روى ذلك أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود؛ و «جَهَر في صلاة الخسوف بقراءَته، فصلى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات» أخرجاه، وفي روايةٍ: «فجَهَر بالقراءة، وأطال القيام» رواه أحمد" (¬3). وقال في موضع آخر عند الكلام على إحياء الموات: "وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحيا أرضاً ميتةً فهي له» رواه أحمد والترمذي وصححه، وفي رواية: «من أحاط حائطاً على أرض فهي له» رواه أحمد وأبو داود، وفي رواية أخرى زاد: «وليس لِعِرْقٍ ظالمٍ حقٌ» رواه أحمد وأبو داود والترمذي" (¬4). ¬

(¬1) إحكام الشريعة إلى أحكام الشريعة، ص 345. (¬2) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 407 - 408. (¬3) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 213 - 214. (¬4) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 392.

المسألة التاسعة: تقديم الحديث على القياس

وقال في موضع آخر عند الكلام على فضل المشي إلى المساجد: "وقال لقوم أرادوا أن يحوِّلوا بيوتَهم إلى قربِ المسجد: «دياركم تُكتب آثاركم» يعني الزموا دياركم البعيدة من المسجد لتكثُرَ حسناتكم بكثرةِ الخُطا إلى المسجد, والله أعلم؛ وفي روايةٍ قال لهم: «إن لكم بكلِّ خطوة درجة» والقوم هم بنو سلمة من الأنصار، وفي أفراد البخاري من حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: كان رجلٌ لا أعلم رجلاً أبعدَ من المسجدِ منه، وكان لا تُخطئه صلاةً - يعني في المسجد جماعة - قال: فقيل له، أو قلتُ له: لو اشتريتَ حماراً تركبهُ في الظلماء أو في الرمضاء، قال: ما يسرُّني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريدُ أن يُكتَبَ لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعتُ إلى أهلي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قد جمع اللهُ لك ذلك كله» وفي رواية: «إن لك ما احتسبت» " (¬1). المسألة التاسعة: تقديم الحديث على القياس: ليس أحد من الأئمة إلا وهو يقدم الحديث على القياس، فقدم أبو حنيفة حديث القهقهة في الصلاة على محض القياس وأجمع أهل الحديث على ضعفه، وقدم الشافعي خبر جواز الصلاة بمكة وقت النهي مع ضعفه ومخالفته لقياس غيرها من البلاد، وأما مالك فإنه يقدم الحديث المرسل والمنقطع والبلاغات وقول الصحابي على القياس (¬2)، وقال عبدالله بن أحمد سمعت أبي يقول: الحديث الضعيف أحب إلي من الرأي، فقال عبدالله: سألت أبي عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه وأصحاب الرأي فتنزل به النازلة، فقال أبي: يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث أقوى من الرأي (¬3). ¬

(¬1) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 47 - 48. (¬2) انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 31 - 32)، تحقيق: طه عبدالرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973 م. (¬3) إعلام الموقعين (1/ 76 - 77).

وقد سلك جمال الدين السرمري رحمه الله مسلك السلف في الاعتصام بالسنة وتقديمها والاعتناء بها، ومن أمثلة ذلك قوله عند الكلام على الطب النبوي وتقديمه على طب الفلاسفة: "ليس حال من وصّل إلينا الحديث النبوي من أهل الإسلام ولو كان مهما كان من الوهن بأدنى مقالة ممن وصل إلينا عنه طب بقراط وجالينوس" (¬1). وقال في موضع آخر: " ومن هنا توسعنا في الرواية عن الصغار في الأحاديث الطبية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مالم نتوسعه في الأحاديث الدينية لأنا وجدنا بين ما نقلنا عنه بعض الأحاديث الطبية من الضعفاء وبين من نقلها عن بقراط وجالينوس ونحوهما بوناً عظيماً بل غالبهم كفار" (¬2). وقال في موضع آخر عند الكلام على العدوى: "وقد زعم قوم جهال ينتسبون إلى العلم وليسوا من أهله، ويجرون في ميدانه وليسوا بخيله ولا رجله، أن هذا الداء وغيره من بقية الأدواء يُعدي ... وهذا خُلف من القول وزيف من النقل، لا يجوز استماعه، ولا يَحِلُّ اعتقاده لما جاء في ذلك من الأحاديث الصحيحة بالعبارات الواضحة الصريحة" (¬3). وقال في موضع آخر عند الكلام على أن لبس الحرير يمنع تولد القمل: "ولما روى أنس - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخّص لعبدالرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما»، وفي رواية: «أنهما شكوا إليه القمل فرخص لهما في قمص الحرير في غزاة لهما» أخرجاه في الصحيحين؛ فلبس الحرير يمنع تولد القمل خلافاً لابن سينا فإنه يزعم أن لبسه يولد القمل وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أصدق وأولى بالقبول" (¬4). ¬

(¬1) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 206 أ. (¬2) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 170 ب. (¬3) كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون، 44 - 50. (¬4) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 94 أ.

المطلب الثالث: موقفه من علم الكلام

المطلب الثالث: موقفه من علم الكلام: تمهيد: تعريف علم الكلام: تعددت تعريفات علم الكلام، وبيان حده وحقيقته. فقال الإيجي والتهانوي أنه: "علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينيّة بإيراد الحجج ودفع الشبه" (¬1). وقال التفتازاني أنه: "العلم بالقواعد الشرعيّة الاعتقاديّة المكتسب من أدلتها اليقينيّة" (¬2). وقال الجرجاني أنه: "علم يبحث فيه عن ذات الله وصفاته وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام"، ثم قال: "والقيد الأخير - على قانون الإسلام- لإخراج العلم الإلهي للفلاسفة" (¬3). وأولى التعريفات به أن يعرف بأنه: "علم يقتدر به على المخاصمة والمناظرة والمجادلة في العقائد بإيراد الحجج والشبه ودفع إيرادات الخصوم" (¬4) فهو مراء متعلق بإظهار المذاهب والانتصار لها. سبب تسميته: تعددت أسباب تسمية هذا الجدل المذموم بعلم الكلام، وأكثر من جمع هذه الأسباب هو التفتازاني في شرح العقائد النسفية، وهي (¬5): ¬

(¬1) كتاب المواقف (1/ 31)، لعضد الدين الإيجي، تحقيق د. عبدالرحمن عميرة، الطبعة الأولى 1977 م، دار الجيل، بيروت؛ كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم (1/ 29)، لمحمد التهانوي، تحقيق: د. علي دحروج، الطبعة الأولى 1996 م، مكتبة لبنان، بيروت. (¬2) شرح المقاصد في علم الكلام (1/ 6)، لسعد الدين التفتازاني، 1401، دار المعارف النعمانية، باكستان. (¬3) التعريفات ص 237، لعلي الجرجاني، تحقيق: إبراهيم الأبياري، الطبعة الأولى 1405، دار الكتاب العربي، بيروت. (¬4) علم الكلام والتأويل وأثرهما على العقيدة الإسلامية، مجلة البحوث الإسلامية - العدد 68، ص 281، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية. (¬5) انظر: حقيقة التوحيد بين أهل السنة والمتكلمين ص 47 - 48، لعبدالرحيم السلمي، الطبعة الأولى 1421، دار المعلمة، الرياض.

1 - لأن عنوان مباحثه كان قولهم: الكلام في كذا وكذا. 2 - لأن مسألة الكلام كانت أشهر مباحثه، وأكثرها نزاعاً وجدالاً، حتى إن بعض المتغلبة قتل كثيراً من أهل الحق، لعدم قولهم بخلق القرآن؛ وهذا السبب قد نقده شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "وأيضاً فما ذكره الشهرستاني ليس بصحيح في اسم المتكلمين كانوا يسمون بهذا الاسم قبل منازعتهم في مسألة الكلام، وكانوا يقولون عن واصل بن عطاء أنه متكلم، ويصفونه بالكلام، ولم يكن الناس اختلفوا في مسألة الكلام" (¬1). 3 - لأنه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات، وإلزام الخصم كالمنطق للفلسفة؛ قال الباحث: وهذا السبب باطل، بل علم الكلام يورث صاحبه العيَّ والسفسطة العقلية بشهادة أئمته. 4 - لأنه أول ما يجب من العلوم التي إنما تُعلم وتُتعلم بالكلام، فأطلق عليه هذا الاسم لذلك ثم خص به، ولم يطلق على غيره تمييزاً؛ قال الباحث: وهذا السبب باطل، بل أول واجب من العلوم هو الإيمان بالكلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. 5 - لأنه إنما يتحقق بالمباحثة وإدارة الكلام من الجانبين، وغيره قد يتحقق بالتأمل ومطالعة الكتب. 6 - لأنه أكثر العلوم خلافاً ونزاعاً فيشتد افتقاره إلى الكلام مع المخالفين، والرد عليهم. 7 - لأنه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه من العلوم كما يقال للأقوى من الكلامين: هذا هو الكلام؛ قال الباحث: وهذا السبب واضح البطلان، فأيُّ قوة توصل صاحبها إلى الشك والحيرة. 8 - لأنه لابتنائه على الأدلة القطعية المؤيدة أكثرها بالأدلة السمعيّة أشد العلوم تأثيراً في القلب، وتغلغلاً فيه، فسُمي بالكلام المشتق من الكَلْم وهو الجرح؛ قال الباحث: وهذا السبب كسابقه. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (3/ 184).

ذم جمال الدين السرمري لعلم الكلام

9 - لأن المتكلمين كانوا يتكلمون حيث ينبغي الصمت اقتداء بالصحابة والتابعين الذين سكتوا عن المسائل الاعتقادية لا يخوضون فيها، فأصبح الكلام هنا ضد السكوت؛ قال الباحث: وهذا السبب إن أريد به أن المتكلمين خاضوا بالكيفيات حتى عطلوا الصفات فهذا صحيح، وإن أريد أن الصحابة والتابعين صمتوا في معاني الصفات وفوضوها فهذا باطل. 10 - لأن المتكلمين قوم يقولون في أمور ليس تحتها عمل، فكلامهم نظري لفظي لا يتعلق به فعل، فأصبح الكلام - هنا - ضد الفعل؛ قال الباحث: وهذا السبب ضعيف، فكثير من العلوم الخبرية لا يتعلق بها فعل ومع ذلك لا تسمى علم كلام، ثم القول بأن المتكلمين يقولون في أمور ليس تحتها عمل غير دقيق، فبعض المسائل التي يذكرها أهل الكلام يتعلق بها فعل، فالمتكلم الذي ينفي العلو مثلاً ويقول بالحلول فسيعبد الخلق، والمتكلم الذي ينفي الرؤية في الآخرة لن يدعو بها، والترك عمل. ذم جمال الدين السرمري لعلم الكلام: إن الإمام جمال الدين السرمري جعل قطب الرحى في التلقي الكتاب والسنة، وهما الركيزة الأساسية، ومن الأمور التي انحرف بسببه كثير من أهل الزيغ والضلال عن منهج الكتاب والسنة، بل يعد منعطفاً خطيراً زلت فيه أقدامهم، ألا وهو علم الكلام. ففي بيان خطر هذا المزلق يقول رحمه الله: "ولاخير في علم الكلام لأنَّه ... خلافُ كلامِ المصطفى الطَّاهر الطُهْرِ أدِلَّتُهُ لا مِنْ كتابٍ وسنةٍ ... بَلى مِن كلامِ الأخطل الفَاجرِ العِرِّ (¬1) يدورُ على التعطيل لا دَرّ دَرُّه ... بتمويهِ قولٍ في المَخارجِ مُزْوَرِّ وما قصْده نفيُ المَخارج ويحه ... بلى قصْدُهُ نَفْيُ الكلام من السِّفْرِ ¬

(¬1) العر: الجرب، وقولهم فلان عرة: العرة الذي يجني على أهله وإخوانه ويلحقهم من الجناية والأذى مثل ما يلحق العر صاحبه، وقال قوم: العرة عند العرب القذر الدنس الذي يلحق أهله دنساً وقذراً. انظر: الزاهر في معاني كلمات الناس (1/ 133)، لأبي بكر الأنباري، تحقيق: د. حاتم الضامن، الطبعة الأولى 1412، مؤسسة الرسالة، بيروت.

فتبّاً لهذا المَذهبِ المُذهبِ الذي ... أقَلُّ أذى فيه بصاحبِهِ يُزْري" (¬1). وذم أهله وبَيَّن الفرقان بينه وبينهم في التلقي، وأن مصدرهم آراء الرجال وزبالة أذهانهم فيقدمون العقل على القرآن والسنة فقال: "ويكفي سُواي أنَّه مُتمسِّكٌ ... بتعليم عِلْم المنطقِ السَّيئ النَّشْرِ عقيدته أنَّ الكتاب وسُنَّـ ... ـــة النَّبي معاً ليسا دليلاً على أمْرِ ولكن دليلُ الأمر والنهي عنده ... نتيجة أفكارٍ على عقْله يَحْري" (¬2). وقد حذر السلف من هذا المنهج الباطل وأجمعوا على ذم الكلام وأهله. قال أبو عمر بن عبدالبر: "أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم" (¬3). وقال الشافعي رحمه الله: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام" (¬4). وقال أيضاً: "اعلم أني اطلعتُ من أهل الكلام على شيء ماظننته قط، ولأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام" (¬5). وقال الإمام أحمد: "لا يفلح صاحب كلام أبداً، علماء الكلام زنادقة" (¬6). وقال الإمام البربهاري: "واعلم أنها لم تكن زندقة، ولا كفر، ولا شكوك، ولا بدعة، ولا ¬

(¬1) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 29 - 30. (¬2) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 28. (¬3) جامع بيان العلم وفضله (2/ 193). (¬4) جامع بيان العلم وفضله (2/ 193). (¬5) جامع بيان العلم وفضله (2/ 192). (¬6) تلبيس إبليس ص 75، لابن الجوزي، الطبعة الأولى 1421، دار الفكر، بيروت.

ضلالة، ولا حيرة في الدين إلا من الكلام وأهل الكلام والجدل والمراء والخصومة والعجب، وكيف يجترئ الرجل على المراء والخصومة والجدال والله يقول: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4] " (¬1). وقال ابن حجر رحمه الله: "وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه من خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرهاً، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف" (¬2). ¬

(¬1) شرح السنة ص 38، للحسن البربهاري، تحقيق: د. محمد القحطاني، الطبعة الأولى 1408، دار ابن القيم، الدمام. (¬2) فتح الباري شرح صحيح البخاري (13/ 253)، لابن حجر، 1397، دار المعرفة، بيروت.

الفصل الثالث منهج جمال الدين السرمري في تقرير التوحيد

الفصل الثالث منهج جمال الدين السرمري في تقرير التوحيد وفيه تمهيد وثلاثة مباحث: تمهيد: تعريف التوحيد وأقسامه. المبحث الأول: منهج جمال الدين السرمري في تقرير توحيد الربوبية. المبحث الثاني: منهج جمال الدين السرمري في تقرير توحيد الألوهية. المبحث الثالث: منهج جمال الدين السرمري في تقرير توحيد الأسماء والصفات.

تمهيد في تعريف التوحيد وأقسامه

تمهيد في تعريف التوحيد وأقسامه 1 - تعريف التوحيد: أ- التوحيد لغة: هو تفعيل وحد يقال: "وحده توحيداً: أي جعله واحداً" (¬1). قال ابن فارس: "الواو والحاء والدال: أصل واحد يدل على الانفراد" (¬2). وقال أبو القاسم الأصبهاني (¬3): "التوحيد على وزن التفعيل وهو مصدر وحّدته توحيداً ... ومعنى وحّدته: جعلته منفرداً عما يشاركه أو يشبهه في ذاته وصفاته، والتشديد فيه للمبالغة أي بالغت في وصفه بذلك، وقيل: الواو فيه مبدلة من الهمزة، والعرب تبدل الهمزة من الواو، وتبدل الواو من الهمزة كقولهم: وشاح وأشاح ... ويقال: جاؤوا أحاد أحاد، أي واحداً واحداً، فعلى هذا: الواو في التوحيد أصلها الهمزة، قال الهذلي: ليث الصريمة أحدان الرجال له صيد ومجتزئ بالليل هجّاس وتقول العرب: واحد وأحد ووحد ووحيد، أي: منفرد، فالله تعالى واحد، أي منفرد عن الأنداد والأشكال في جميع الأحوال. فقولهم: وحّدت الله، من باب عظمت الله، وكبرته، أي علمته عظيماً وكبيراً، فكذلك وحّدته، أي علمته واحداً، منزهاً عن المثل في الذات والصفات" (¬4). ¬

(¬1) القاموس المحيط ص 324، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، الطبعة الثامنة 1426، مؤسسة الرسالة، بيروت. (¬2) معجم مقاييس اللغة (6/ 90)، تحقيق: عبدالسلام هارون، 1399، دار الفكر. (¬3) هو إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني الملقب بقوام السنة، قال عنه الذهبي: "الإمام العلامة الحافظ شيخ الإسلام"، توفي سنة 535. سير أعلام النبلاء (20/ 80 - 81). (¬4) الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة (1/ 305 - 306)، لأبي القاسم الأصبهاني، تحقيق: محمد بن ربيع بن هادي المدخلي، دار الراية.

وقال الجرجاني: "التوحيد في اللغة: الحكم بأن الشيء واحد والعلم بأنه واحد" (¬1). وقال السفاريني: "والتوحيد تفعيل للنسبة كالتصديق والتكذيب لا للجعل، فمعنى وحدت الله نسبت إليه الوحدانية، لا جعلته واحداً، فإن وحدانية الله تعالى ذاتية له ليست بجعل جاعل" (¬2). ب- التوحيد اصطلاحاً: تقسمت الطوائف في مفهوم التوحيد، وسمّى كل طائفة باطلهم توحيداً. فأتباع الفلاسفة، عندهم التوحيد: إثبات وجود مجرد عن الماهية والصفة، بل هو وجود مجرد مطلق، لا يعرض لشيء من الماهيات ولا يقوم به وصف، ومن فروع هذا التوحيد: إنكار ذات الرب، والقول بقدم الأفلاك؛ فتوحيد هؤلاء: هو غاية الإلحاد والجحد والكفر (¬3). وأما الاتحادية، فالتوحيد عندهم: أن الحق المنزه هو عين المشبه، وأنه سبحانه هو عين وجود كل موجود وحقيقته وماهيته، فهو عندهم عين الناكح وعين المنكوح، وعين الذابح وعين المذبوح (¬4)، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. وأما أهل الكلام، فالتوحيد عندهم: "إفراد القديم من الحدث" (¬5). وقيل: "اعتقدته منفرداً بذاته وصفاته لا نظير له ولا شبيه" (¬6). ¬

(¬1) التعريفات، ص 96. (¬2) لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية غي عقد الفرقة المرضية (1/ 56 - 57)، للسفاريني، الطبعة الثانية 1402، مؤسسة الخافقين ومكتبتها، دمشق. (¬3) مدارج السالكين بين منازل "إياك نعبد وإياك نستعين" (3/ 466)، لابن القيم، الطبعة الأولى, دار الكتب العلمية، بيروت. (¬4) مدارج السالكين (3/ 466). (¬5) فتح الباري (13/ 344)؛ إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (10/ 357)، للقسطلاني، الطبعة السابعة 1323، المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق، مصر. (¬6) فتح الباري (13/ 345)، عمدة القاري شرح صحيح البخاري (25/ 122)، لبدر الدين العيني، ضبط وتصحيح: عبدالله عمر، الطبعة الأولى 1421، دار الكتب العلمية، بيروت؛ إرشاد الساري (10/ 357).

وقيل: "سلبت عنه الكيفية والكمية فهو واحد في ذاته لا انقسام له، وفي صفاته لا شبيه له، وفي إلهيته وملكه وتدبيره لا شريك له ولا رب سواه ولا خالق غيره" (¬1). وقيل: "إثبات ذات غير مشبهة بالذوات ولا معطلة عن الصفات" (¬2). وقيل: "نفي التقسيم لذاته ونفي التشبيه عن حقه وصفاته ونفي الشريك معه في أفعاله ومصنوعاته فلا تشبه ذاته الذوات ولا صفته الصفات" (¬3). وقيل: "تجريد الذات الإلهية عن كل ما يتصور في الأفهام ويتخيل في الأوهام والأذهان وهو ثلاثة أشياء: معرفة الله تعالى بالربوبية والإقرار بالوحدانية ونفي الأنداد عنه جملة" (¬4). وقيل: "إن الله تعالى واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته الأزلية لا نظير له، وواحد في أفعاله لا شريك له" (¬5). وقيل: "واحد في ذاته لا قسمه له ولا صفة له، وواحد في أفعاله لا شريك له، فلا قديم غير ذاته، ولا قسيم له في أفعاله" (¬6). وقيل: "إثبات الوحدة لله في الذات والفعل في خلق الأكوان وأنه وحده مرجع كل كون ومنتهى كل قصد" (¬7). وفي الجملة فمفهوم التوحيد عند أهل الكلام هو نفي الصفات بدعوى التشبيه، وغالب تعريفات أهل الكلام لا تتعرض لتوحيد العبادة ولا تعرج عليه، وبخاصة الأشاعرة فهم مرجئة في التوحيد كما أنهم مرجئة في الإيمان (¬8)، فلا يرون أن توحيد الألوهية من حقيقة التوحيد الذي يقع ¬

(¬1) فتح الباري (13/ 345). (¬2) عمدة القاري (25/ 122). (¬3) إرشاد الساري (10/ 357). (¬4) التعريفات، ص 96. (¬5) الملل والنحل (1/ 40)، للشهرستاني، تحقيق: محمد كيلاني، 1404، دار المعرفة، بيروت. (¬6) الملل والنحل (1/ 40)، للشهرستاني. (¬7) رسالة التوحيد ص 5، لمحمد عبده، دار الكتاب العربي 1966 م. (¬8) حقيقة التوحيد بين أهل السنة والمتكلمين ص 126، لعبدالرحيم السلمي.

2 - أقسام التوحيد

فيه الشرك، وذلك بسبب اعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الألوهية الذي جاءت به النصوص، وأن معنى لا إله إلا الله لا خالق إلا الله أو لا قادر على الاختراع إلا الله، فأفنوا أعمارهم بما لم ينازع فيه المشركون. وأما القدرية فالتوحيد عندهم: هو إنكار قَدَر الله، وعموم مشيئته للكائنات وقدرته عليها، ومتأخروهم ضموا إلى ذلك: توحيد الجهمية، فصار حقيقة التوحيد عندهم: إنكار القدر، وإنكار حقائق الأسماء الحسنى والصفات العلى (¬1). وأما الجبرية، فالتوحيد عندهم: هو تفرد الرب تعالى بالخلق والفعل، وأن العباد غير فاعلين على الحقيقة، وأن الرب تعالى لم يفعل لحكمة، ولا غاية تطلب بالفعل، بل ما ثم إلا مشيئة محضة (¬2). وأما مفهوم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله، ونزلت به كتبه، فوراء ذلك كله وهو: "أن الله واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له، وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له، وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له" (¬3). وهذا ما فسر به جمال الدين السرمري التوحيد بقوله: "وأشهد أن لا إله إلا الله الغني عن الشركاء، المنزه عن الأشباه والنظراء، المقدس عن الصاحبة والوزراء، المبرئ عن الآباء والأبناء" (¬4). 2 - أقسام التوحيد: من العلماء من قسّمه إلى ثلاثة أقسام وهو المشهور (¬5)، ومنهم من قسّمه إلى قسمين. ¬

(¬1) مدارج السالكين (3/ 467). (¬2) مدارج السالكين (3/ 467). (¬3) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (1/ 120)، لسليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، تحقيق: أسامة العتيبي، الطبعة الأولى 1428، دار العصيمي، الرياض. (¬4) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 1 ب. (¬5) انظر: شرح العقيدة التدمرية ص 46، لعبدالرحمن البراك، إعداد: سليمان الغصن، الطبعة الأولى 1425، دار كنوز إشبيليا، الرياض.

فالقسمة الثلاثية هي: 1 - توحيد الأسماء والصفات. 2 - توحيد الربوبية. 3 - توحيد الألوهية (¬1). أما القسمة الثنائية فهي: 1 - توحيد الإثبات والمعرفة. 2 - توحيد القصد والطلب (¬2). ولامشاحة بين الطريقتين في التقسيم، ولا منافاة بينهما فمن جعله ثنائياً فقد أجمل ومن جعله ثلاثياً فقد فصل. أما منهج الإمام جمال الدين السرمري في ذلك فمنهج من ذهب إلى القسمة الثلاثية، دل على هذا قوله في معرض كلامه على علاج الكرب والهم والغم والحزن: "ويحتاج إلى استفراغ كلّي: الأول: توحيد الربوبية. الثاني: توحيد الإلهية. الثالث: توحيد العلمي الاعتقادي" (¬3). وقال في موضع آخر في معرض كلامه على سورة الفاتحة: "المتضمنة لجميع معاني كتب الله، المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب ومجامعها وهي: الله، والرب، والرحمن؛ وإثبات المعان، وذكر التوحيدين: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية" (¬4). ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوى (10/ 284، 331)، التدمرية ص 6، تحقيق: د. محمد السعوي، الطبعة السادسة 1421، مكتبة العبيكان، الرياض؛ شرح الطحاوية ص 27، تيسير العزيز الحميد (1/ 120 - 124). (¬2) انظر: مجموع الفتاوى (17/ 107)، التدمرية ص 4 - 5، مدارج السالكين (1/ 33، 3/ 468)، شرح العقيدة الطحاوية ص 41، تيسير العزيز الحميد (1/ 120)، (¬3) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 305 أ. (¬4) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 299 ب.

المبحث الأول منهج جمال الدين السرمري في تقرير توحيد الربوبية

المبحث الأول منهج جمال الدين السرمري في تقرير توحيد الربوبية المطلب الأول: تعريف توحيد الربوبية: أ- تعريفه لغة: توحيد الربوبية مركب من كلمتين: "توحيد" وتقدم تعريفها، و"الربوبية" وهي مأخوذة من الرب. يقول ابن فارس -رحمه الله-: "الراء والباء يدل على أصول: فالأول: إصلاح الشيء والقيام عليه. فالرّبُّ: المالك، والخالق، والصاحب؛ والرب: المصلح للشيء، يقال: ربَّ فلان ضَيعتَه، إذا قام على إصلاحها. والأصل الآخر: لزوم الشيء، والإقامة عليه. وهو مناسب للأصل الأول، يقال: أربَّت السّحابة بهذه البلدة، إذا دامت. والأصل الثالث: ضم الشيء للشيء، وهو أيضاً مناسبٌ لما قبله. يقال للخرقة التي يُجعل فيها القداح: رِبابَةٌ، وسمي العهد رِبابة لأنه يجمع ويؤلِّف. ومتى أنعم النظر كان الباب كله قياساً واحداً" (¬1). ولا يطلق غير مضاف إلا على الله تعالى، فلا يقال "الرب" إلا عليه سبحانه، وإذا أطلق على غيره أضيف، فيقال: رب كذا (¬2). ¬

(¬1) انظر: معجم مقاييس اللغة (2/ 383). (¬2) النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 450).

ب- تعريفه في الاصطلاح: قال الشيخ سليمان بن عبدالله: "هو الإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء، ومالكه، وخالقه، ورازقه، وأنه هو المحيي والمميت، النافع الضار، المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، القادر على ما يشاء، ليس له في ذلك شريك" (¬1). وقد أشار جمال الدين السرمري رحمه الله إلى هذا المعنى، فمن ذلك قوله في بيان وحدانية الباري - جل جلاله - بالخلق والرزق: "فالله تعالى لم يخلق شيئاً فقدِر الخلق أن يعملوا مثله، فإنه تعالى أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض وأخرج به من كل الثمرات، ولا يقدر أحد من الخلق على فعل شيء من ذلك، وخلق الحيوانات والهوام وغير ذلك من ذوات الأرواح فلا يستطيع أحد من الخلق أن يعملوا مثلها ... فلا يمكنهم نقل نوع مخلوق من الحيوان والنبات والمعدن إلى آخر مخلوق" (¬2). وقال في موضع آخر في مقدمة (كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون): "الحمد لله القدير الصانع، المعطي المانع، الضار النافع، المفرق الجامع، الخافض الرافع، الذي ليس لما قضاه دافع، ولا له في حكمه منازع" (¬3). وقال في موضع آخر في معرض كلامه على شروط العبودية: "وإلقاء مقاليد الأمور كلها إليه، وأن يعترف له بالقدرة على جميع المخلوقات، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] ... " (¬4). وقال في في موضع آخر في معرض كلامه على نفي العدوى: "فبطل أن يقال: حدث هذا المرض بالإعداء، وثبت أنه فعل الله تعالى، فَعَلَه بالقدرة والاختيار، إن شاء فعله مع ملابسته ذي الداء والعامة، وإن شاء فعله منفرداً عنه ابتداءً واستقلالاً {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} ¬

(¬1) تيسير العزيز الحميد (1/ 120 - 121). (¬2) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 130 أ. (¬3) كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون، ص 19. (¬4) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 138.

المطلب الثاني: منهج جمال الدين السرمري في تقرير توحيد الربوبية

[الأعراف: من الآية 54]، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] إنما قوله لشيء إذا أراد أن يكون أن يقول له: كن فيكون، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب" (¬1). وقال في موضع آخر: "والغرض هاهنا أنه لا يُمرض إلا الله، ولا يُعافي سواه، ولا يحيي ولا يميت إلا إياه، وهذه الأسباب التي تحصل منها التأثيرات من حمة وسقم كلها خلق من خلق الله، جارية بمشيئته وواقعة بإرادته، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين، وكل يجري لأجل مسمى ليقضي الله أمراً كان مفعولاً" (¬2). المناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي: إن كل معاني لفظ الرب في اللغة صادقة على الله سبحانه وتعالى، فهو المالك لها، والسيد عليها، والمدبر لمصالحها، والقائم بحفظها، والمؤلف بينها، لا يشاركه فيها أحد من خلقه، تعالى الله الواحد الفرد الصمد. المطلب الثاني: منهج جمال الدين السرمري في تقرير توحيد الربوبية: 1 - أدلة توحيد الربوبية: قرر جمال الدين السرمري رحمه الله أن الإيمان بوجود الله قد دلت عليه بعثة الأنبياء وآياتهم, ونفى أن يكون الدليل العقلي متقدم عليها كما يزعم أهل الكلام، بل إنه أبطل دلالة العقل من القياس في الرب على معرفة الله، وقرر أنه لا يحصل للعقل من القياس في الرب إلا ¬

(¬1) كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون، ص 57. (¬2) كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون، ص 36.

العلم بالسلب، والعدم؛ إذا كان القياس صحيحاً، يقول رحمه الله: ويكفي سُواي أنه متمسك ... بتعليم علم المنطق السَّيئِ النَّشْرِ عقيدته أن الكتاب وسُنَّـ ... ـــة النَّبي معاً ليسا دليلاً على أمْرِ ولكن دليلُ الأمر والنَّهي عنده ... نتيجةُ أفكارٍ على عقله يحري وذاك دليلٌ في الشريعةِ باطِلٌ ... لأنّا عرفنا الله بالنَّقل لا الفِكْرِ ومعرفةُ الرحمن بالعقل فِريَةٌ ... عليه وليس العُرْفُ بالشيء كالنُّكرِ وما قرره جمال الدين السرمري رحمه الله هو قول الأئمة في هذا الباب، فأما كون أن العقل لا يحصل له من القياس في الرب إلا السلب فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: "لكن هذا القدر يعرف انتفاء غيره أن يكون إياه، وأما عينه فلا يعرف بمجوع تلك القضايا الكلية، فلا يحصل للعقل من القياس في الرب إلا العلم بالسلب، والعدم؛ إذا كان القياس صحيحاً. ولهذا جاءت الأمثال المضروبة في القرآن -وهي المقاييس العقلية- دالة على النفي في مثل قوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ ... } الآية [الروم: 28] ومثل قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ ... } الآيات [النحل: 76] وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } الآية [الحج: 73] وقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ ... } الآية [الإسراء: 42] وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: من الآية 91] وأمثال ذلك من الأمثال -وهي القياسات- التي مضمونها نفي الملزوم لانتفاء لازمه، أو نحو ذلك؛ ولهذا كان الغالب على أهل القياس من أهل الفلسفة، والكلام، في جانب الربوبية: إنما المعارف السلبية" (¬1). وأما أن الإيمان بوجود الله قد دلت عليه بعثة الأنبياء وآياتهم فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قال القاضي أبو يعلى في عيون المسائل: [مسألة] ومثبتو النبوات حصل لهم المعرفة بالله ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (2/ 61 - 62).

تعالى بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول، خلافاً للأشعرية في قولهم: لا تحصل حتى تنظر وتستدل بدلائل العقول ... وقال البيهقي في كتاب الاعتقاد ماذكره الخطابي أيضاً في "الغنية عن الكلام وأهله": وقد سلك بعض من بحث في إثبات الصانع وحدوث العالم طريق الاستدلال بمقدمات النبوة ومعجزات الرسالة، لأن دلائلها مأخوذة من طريق الحس لمن شاهدها، ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها، فلما ثبتت النبوة صارت أصلاً في وجوب قبول ما دعا إليه النبي، وعلى هذا الوجه كان إيمان أكثر المستجيبين للرسول؛ وذكر قصة جعفر وأصحابه مع النجاشي، وقصة الأعرابي الذي قال: من خلق السماء، وغير ذلك. -ثم قال شيخ الإسلام-: وأما الطريقة التي ذكرها المتقدمون فصحيحة إذا حررت، وقد جاء القرآن بها في قصة فرعون فإنه كان منكراً للرب، قال تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء: 16 - 18]-إلى قوله-: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء: 23 - 33] فهنا قد عرض عليه موسى الحجة البينة التي جعلها دليلاً على صدقه في كونه رسول رب العالمين، وفي أن له إلهاً غير فرعون يتخذه. وكذلك قال تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [هود: من الآية 14] فبين أن المعجزة تدل على الوحدانية والرسالة" (¬1). وقال في موضع آخر: "قيل لابن عباس: بماذا عرفت ربك؟ فقال: من طلب دينه بالقياس لم يزل دهره في التباس، خارج عن المنهاج، ظاعناً في الاعوجاج، عرفته بما عرف به نفسه، ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (11/ 277 - 279).

ووصفته بما وصف به نفسه؛ فأخبر أن معرفة القلب حصلت بتعريف الله: وهو نور الإيمان، وأن وصف اللسان حصل بكلام الله: وهو نور القرآن" (¬1). وقال ابن القيم: "وهذه الطريق -يعني دلالة بعثة الأنبياء وآياتهم على وجود الله- من أقوى الطرق وأصحها وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله, وارتباط أدلة هذه الطريق بمدلولاتها أقوى من ارتباط الأدلة العقلية الصريحة بمدلولاتها، فإنها جمعت بين دلالة الحس والعقل، ودلالتها ضرورية بنفسها، ولهذا يسميها الله آيات بينات" (¬2). وبيان هذا الدليل من وجهين: الوجه الأول: الآيات والبراهين -وهي المعجزات: من المعلوم أن الرسول إذا جاء قومه وادعى أنه رسول الله يُوحَى إليه بأنه لا إله إلا الله، أيده الله وصدقه بآية، فههنا أمور: الأول: دعواه أنه رسول. الثاني: أن الله هو الذي أرسله سواء كان المُخاطَب يقر بوجوده أو لا يقر. الثالث: أنه مرسل لدعوة الناس إلى إفراد الله بالألوهية. فإذا جاء الرسول بآية وهي العلامة التي تدل على صدقه ثبتت الرسالة وكذلك الربوبية ضمناً. الوجه الثاني: العلوم والأحكام المتضمنة لمصالح الخلق التي جاءوا بها: أولا: العلوم: لا يُعقل أن يتحدث الإنسان ويخبر بأشياء غيبية ويصدق فيها دائماً دون تردد، ودون أن يجرب عليه كذب إلا إذا كان مُوحى إليه، فيدل ذلك على صدقه في الرسالة، وعلى وجود الخالق سبحانه، لأنه هو الذي أطلعه على ذلك. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (2/ 18). (¬2) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (3/ 1197).

2 - أثر توحيد الربوبية وثمراته

ثانياً: الأحكام المتضمنة لمصالح الخلق: فقد تضمنت شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - أموراً عظيمة، يقطع الإنسان أنها لا يمكن أن تكون إلا من خالق عليم حكيم (¬1). 2 - أثر توحيد الربوبية وثمراته: قرر جمال الدين السرمري رحمه الله أثر توحيد الربوبية وثمراته على العبد مما يبين أهمية هذه المسألة. ومن أمثلة ذلك ما ذكره في أول دواء الهم والغم والحزن فقال: "وهذه الأدوية تتضمن خمسة عشر نوعاً من الدواء فإن لم يقوى على إذهاب الهم والغم والحزن فهو ذا قد استحكم وتمكنت أسبابه ويحتاج إلى استفراغ كلي: الأول: توحيد الربوبية ... " (¬2). وقال في موضع آخر في بيان أن السحر أكثر ما يصيب ضعيف التوحيد: "وعند السحرة إنما يتم سحرهم في القلوب الضعيفة المنفعلة والنفوس الشهوانية التي معلقة بالسّفليات، ولهذا غالب ما يؤثر في النساء والصبيان والجهال وأهل البوادي، ومن ضعف حظه من الدين والتوكل والتوحيد ... " (¬3). وقال في موضع آخر في أن التوحيد من أعظم الوسائل إلى الله تعالى: "فالاعتراف بالعبودية والإخلاص في الخضوع والذل وإظهار الفقر والحاجة من أعظم الوسائل إلى الله تعالى" (¬4). ¬

(¬1) منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله (1/ 292 - 297)، لخالد بن عبداللطيف بن محمد نور، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية. (¬2) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 305 أ. (¬3) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 294 ب. (¬4) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 46 ب.

3 - مسألة تسلسل الحوادث

3 - مسألة تسلسل الحوادث: وهذه المسألة من المسائل الطويلة التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً فيها بطلان مذهب الفلاسفة, وأدلة المتكلمين حول إثبات الصانع وحدوث العالم، وهي مباحث عويصة قال عنها شيخ الإسلام: إنها من محارات العقول (¬1)، بل قال عن بعض مسائلها وفروعها: إنها من الكلام المذموم (¬2)، ولا شك أن شيخ الإسلام خاض فيها مضطراً؛ ليبين خطأ وضلال أولئك الذين خاضوا فيها مخالفين لمنهج الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم-؛ وإلا فمسألة إثبات الصانع وحدوث المخلوقات من المسائل البدهية التي يعرفها عوام المسلمين. وقد اشتهر عن ابن تيمية أنه يقول بجواز حوادث لا أول لها، وتلقفها مناوئوه وحساده من أعداء مذهب السلف فرموه صراحة بأنه يقول بقدم العالم كالفلاسفة، وممن اتهمه بذلك تقي الدين السبكي، فإنه لما اطلع على كتابه "منهاج السنة النبوية" أنشد أبياتاً مدح فيها الكتاب إلا إنه ناقره بأبيات فيها مغالطات واتهامات مختصرة، ومما قال فيها: "يحاول الحشو أنّى كان فهو له ... حثيث سيرٍ بشرقٍ أو بمغربه يرى حوادث لا مبدا لأولها ... في الله سبحانه عما يُظنّ به" (¬3) وكان قد كتب التقي السبكي قصيدته البائية المذكورة بعد وفاة شيخ الإسلام كما يدل عليه قوله: لو كان حيّاً يرى قولي ويسمعه رددتُ ما قال رداً غير مشتبه فتصدى للتشنيع على شيخ الإسلام بذلك، والرد عليه بمثل البحر والقافية جمال الدين السرمري رحمه الله، ومما جاء فيها: ¬

(¬1) منهاج السنة النبوية (1/ 207)، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، الطبعة الأولى، مؤسسة قرطبة. (¬2) المصدر السابق (1/ 133). (¬3) ذكرها التاج السبكي في ترجمة أبيه التقي السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" (10/ 176)، تحقيق: د. محمود الطناحي ود. عبدالفتاح محمد الحلو، الطبعة الثانية 1413، دار هجر.

"أما حوادثُ لا مبدا لأوّلها ... فذاك من أغرب المحكي وأعجَبِهِ قصَّرت في الفهم فاقصر في الكلام فما ... ذا عُشُّك ادرُجْ فما صقرٌ كعُنْظُبِهِ (¬1) لو قلتَ قال كذا ثم الجواب كذا ... لبان مُخطِئُ قولٍ من مُصَوِّبِهِ أجْمَلْتَ قولاً فأجملتُ الجوابَ ولو ... فصَّلتَ فصَّلتُ تبياناً لأغرَبِهِ إن قلتَ كان ولا علم لديه ولا ... كلام لا قدرةٌ أصلاً كفرتَ بهِ أو قلتَ أحدثها بعد استحالتها ... في حقه سَمْتُ نقصٍ ما احتججت بهِ وكيف يوجدها بعد استحالتها ... منه أيقدر ميتٌ رفع مَنْكِبِهِ أو قلتَ فعل اختيار منه ممتنع ... ضاهيتَ قول امرئ مُغوٍ بأنصُبِهِ ولم يزل بصفات الفعل مُتَّصفاً ... وبالكلام بعيداً في تقرُّبِهِ سبحانه لم يزل ما شاء يفعلُهُ ... في كلِّ ما زمن ما من معقِّبِهِ نوعُ الكلام كذا نوعُ الفعالِ قديـ ... ــــــم لا المعيَّنُ منه في ترتُّبِهِ وليس يفهمُ ذو عقلٍ مقارنة الـ ... ـــــــمفعولِ مع فاعلٍ في نفس مَنْصبِهِ يُحبُّ يبغض يرضى ثم يغضب ذا ... من وصفه، أرضه، بُعداً لِمُغضِبِه والخلقُ ليس هو المخلوق تحسبه ... بل مصدر قائم بالنفس فادر به وقول كن ليس بالشيء المكوَّن والصـ ... ـغير يعرفُ هذا مع تلعُّبِهِ فالمصطفى قال كان الله قبل ولا ... شيء سواه تعالى في تحجُّبِهِ" (¬2). ويمكن تلخيص المسألة كما يأتي: أولاً: مذاهب أهل القبلة في تسلسل الحوادث: 1 - استدل المتكلمون بدليل حدوث العالم على توحيد الربوبية، وزعموا أن مساق دليلهم ¬

(¬1) العنظب: الجراد الذكر. انظر: لسان العرب (1/ 631). (¬2) الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية، ص 68 - 75.

يقتضي: أ- القول بأن الفعل كان ممتنعاً على الله - سبحانه وتعالى - ثم صار ممكناً، لأنه لو قيل بجواز أن يكون قادراً على الخلق قبل ذلك لأدى ذلك إلى صحة القول بقدم العالم، لأنه ما من زمن يفترض فيه خلق العالم إلا وجائز أن يقع الفعل قبله، لأن الله قديم -عندهم-، وهذا ممتنع - بزعمهم -. ب- نفي عن الله تعالى أن تقوم به صفات الأفعال، لأنه لما قيل لهم: إن قولكم إن الله خالق العالم بعد أن لم يكن العالم موجوداً هو قول بحلول الحوادث به تعالى، أجابوا بمذهبهم المشهور: إن الخلق هو المخلوق، أما أهل السنة يقولون: إن الفعل غير المفعول؛ فيفرق أهل السنة بين ثلاثة أشياء: الخالق تعالى، وصفة الخلق التي قامت به تعالى كغيرها من الصفات، والمخلوق المنفصل عنه تعالى. وبناء على شبه المتكلمين في منع التسلسل، صارت أقوالهم في التسلسل في الآثار على قسمين: - منعه في الماضي والمستقبل، وهذا قول جهم والعلاف، وحجة هؤلاء أنه إذا كان ممتنعاً في الماضي فيجب أن يكون ممتنعاً في المستقبل، فقال الجهم: بفناء الجنة والنار، وقال العلاف: بفناء حركات أهلهما. - منعه في الماضي وتجويزه في المستقبل، وهذا القول المشهور عند أهل الكلام الذين يقولون بدوام نعيم الجنة (¬1). 2 - قال الفلاسفة: إن العلة التامة التي تسمى المؤثر يجب أن يقارنه معلوله في الزمان بحيث لا يتأخر عنه، وهذا سبب قولهم بقدم العالم (¬2). ¬

(¬1) انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 996 - 998)، د. عبدالرحمن المحمود، الطبعة الأولى 1415، مكتبة الرشد، الرياض. (¬2) انظر: درء تعارض العقل والنقل (8/ 270).

ولما رأى الفلاسفة دليل المتكلمين في إثبات حدوث العالم اعترضوا عليهم بأن في ذلك -لم يكن قادراً ثم صار قادراً- ترجيحاً لأحد طرفي الممكن بلا مرجح، والترجيح لابد له من مرجح تام يجب به، ثم قالوا: والقول بوجود سبب يقتضي الترجيح يحتاج إلى سبب آخر وهكذا إلى غير نهاية فيلزم التسلسل وهو ممتنع عندكم، فوقع المتكلمون في مأزق لم يستطيعوا التخلص منه وقامت عليهم الشناعات في هذا الموضع، يقول شيخ الإسلام: "وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية وغيرهم: يقرون بالصانع المحدث من غير تجدد سبب حادث، ولهذا قامت عليهم الشناعات في هذا الموضع وقال لهم الناس: هذا ينقض الأصل الذي أثبتم به الصانع، وهو أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح؛ فإذا كانت الأوقات متماثلة، والفاعل على حال واحدة لم يتجدد فيه شيء أزلاً وأبداً، ثم اختص أحد الأوقات بالحدوث فيه، كان ذلك ترجيحاً بلا مرجح" (¬1). 3 - لما رأى شيخ الإسلام ابن تيمية بطلان مذهب الفلاسفة وأدلة المتكلمين حول إثبات الصانع وحدوث العالم، خاض فيها مضطراً لبيان الحق في المسألة، فقال: "والمقصود هنا أن هؤلاء المتكلمين الذين جمعوا في كلامهم بين حق وباطل، وقابلوا الباطل بباطل، وردوا البدعة ببدعة، لما ناظروا الفلاسفة وناظروهم في مسألة حدوث العالم ونحوها استطال عليهم الفلاسفة لما رأوهم قد سلكوا تلك الطريق التي هي فاسدة عند أئمة الشرع والعقل، وقد اعترف حذاق النظار بفسادها، فظن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بامتناع حوادث لا أول لها، وأقاموا الدليل على دوام الفعل، لزم من ذلك قدم هذا العالم ومخالفة نصوص الأنبياء وهذا جهل عظيم، فإنه ليس للفلاسفة ولا لغيرهم دليل واحد عقلي صحيح يخالف شيئاً من نصوص الأنبياء، وهذه مسألة حدوث العالم وقدمه، لا يقدر أحد من بني آدم أن يقيم دليلاً على قدم الأفلاك أصلاً، وجميع ما ذكروه ليس فيه ما يدل على قدم شيء بعينه من العالم ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل (8/ 107).

أصلاً، وإنما غايتهم أن يدلوا على قدم نوع الفعل، وأن الفاعل لم يزل فاعلاً، وأن الحوادث لا أول لها، ونحو ذلك مما لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم، وهذا لا يخالف شيئاً من نصوص الأنبياء، بل يوافقها؛ وأما النصوص المتواترة عن الأنبياء بأن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وأن الله خالق كل شيء، فكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن، فلا يمكن أحداً أن يذكر دليلاً عقلياً يناقض هذا ... " (¬1). وقال في موضع آخر: "أنهم -أي المتكلمين- لما اعتقدوا أن هذا هو دين الإسلام أخذوا يحتجون عليه بالحجج العقلية المعروفة لهم، وعمدتهم التي هي أعظم الحجج، مبناها على امتناع حوادث لا أول لها، وبها أثبتوا حدوث كل موصوف بصفة، وسموا ذلك إثباتاً لحدوث الأجسام، فلزمهم على ذلك نفي صفات الرب - عز وجل -، وأنه ليس له علم ولا قدرة ولا كلام يقوم به، بل كلامه مخلوق منفصل عنه ... وكان ذلك مما سلط الدهرية القائلين بقدم العالم، لما علموا حقيقة قولهم وأدلتهم وبينوا فساده، ثم لما ظنوا أن هذا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - واعتقدوا أنه باطل، قالوا: إن الرسول لم يبين الحقائق، سواء علمها أو لم يعلمها، وإنما خاطب الجمهور بما يخيل لهم وما ينتفعون به، فصار أولئك المتكلمون النفاة مخطئين في السمعيات والعقليات، وصار خطؤهم من أكبر أسباب تسلط الفلاسفة، لما ظن أولئك الفلاسفة الدهرية أنه ليس في هذا المطلوب إلا قولان: قول أولئك المتكلمين وقولهم؛ وقد رأوا أن قول أولئك باطل، فجعلوا ذلك حجة في تصحيح قولهم، مع أنه ليس للفلاسفة الدهرية على قولهم بقدم الأفلاك حجة عقلية أصلاً، وكان من أعظم أسباب هذا أنهم لم يحققوا معرفة ما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). وموقف شيخ الإسلام ابن تيمية إجمالاً هو: جواز تسلسل المخلوقات في الماضي والمستقبل، وأنه تعالى لم يزل مريداً، خالقاً، فاعلاً، فما من زمن يفترضه العقل حدًّا لابتداء الخلق إلا أمكنه أن يتصور قبله زماناً وقع فيه الخلق، فيكون هذا الزمان الآخر سابقاً له، ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل (8/ 279 - 280). (¬2) مجموع الفتاوى (18/ 224 - 225).

وماتصوره العقل في الثاني يصدق عليه ما صدق على الأول، وهكذا إلى ما لا نهاية، مع القطع بأن أعيان الحوادث مخلوقة كائنة بعد أن لم تكن (¬1). ثانياً: أقوال أهل السنة في تسلسل الحوادث: أما أقوال أهل السنة في المسألة فهي على ما يأتي: القول الأول: أن جنس الحوادث لا أول له، وأن القول بأن جنس الحوادث له أول يلزم منه أنه سبحانه كان معطلاً عن الصنع في الماضي -تعالى عن ذلك-، فصفة الخلق لابد لها من مفعول، وأنه كما أن صفة الكلام قديمة النوع حادثة الآحاد فكذلك صفة الخلق قديمة النوع حادثة الآحاد، وأن من عسر عليه فهم هذا فليعتبر بما لا يزال يخلق في الجنة من أنواع النعيم كقوله تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: من الآية 35] فثمرها الذي يؤكل لا ينقطع، ثمرة بعد ثمرة، وإن كان أعيان الثمار فانياً، فكذلك جنس الحوادث لا أول له وإن كان أعيانها حادثة، وأن الأحاديث الواردة في أول الخلق المقصود فيها هو: أول هذا العالم المشهود لا جنس الحوادث، وذهب إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم فقال: "والآخرون أولو الحديث كأحمد ... ذاك ابن حنبل الرضى الشيباني قد قال إن الله حقاً لم يزل ... متكلماً إن شاء ذو إحسان جعل الكلام صفات فعل قائم ... بالذات لم يفقد من الرحمن وكذا نص على دوام الفعل بالـ ... إحسان أيضاً في مكان ثان وكذا ابن عباس فراجع قوله ... لما أجاب في مسائل القرآن وكذا جعفرٌ الإمام الصادق الـ ... ــمقبول عند الخلق ذي العرفان قد قال لم يزل المهيمن محسناً ... براً جواداً عند كل أوان ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوى (18/ 210 - 243)؛ النبوات ص 43، المطبعة السلفية، 1386، القاهرة؛ درء تعارض العقل والنقل (8/ 270).

وكذا الإمام الدرامي فإنه ... قد قال ما فيه هدى الحيران قال الحياة مع الفعال كلاهما ... متلازمان فليس يفترقان صدق الإمام فكل حي فهو فعا ... ل وذا في غاية التبيان إلا إذا ما كان ثم موانع ... من آفة أو قاسر الحيوان والرب ليس لفعله من مانع ... ما شاء كان بقدرة الديان ومشيئتة الرحمن لازمة له ... وكذاك قدرة ربنا الرحمن هذا وقد فطر الإله عباده ... أن المهيمن دائم الإحسان أولست تسمع قول كل موحد ... يا دائم المعروف والسلطان وقديم الإحسان الكثير ودا ... ئم الجود وصاحب الغفران من غير إنكار عليهم فطرة ... فطروا عليها لا تواص ثان أو ليس فعل الرب تابع وصفه ... وكماله أفذاك ذو حدثان وكماله سبب الفعال وخلقه ... أفعالهم سبب الكمال الثاني أو ما فعال الرب عين كماله ... أفذاك ممتنع على المنان أزلاً إلى أن صار فيما لم يزل ... متمكناً والفعل ذو إمكان تالله قد ضلت عقول القوم إذ ... قالوا بهذا القول ذي البطلان ماذا الذي أضحى له متجدداً ... حتى تمكن فانطقوا ببيان والرب ليس معطلاً عن فعله ... بل كل يوم ربنا في شان (¬1) إلى أن قال: هذا وما دون المهيمن حادث ... ليس القديم سواه في الأكوان والله سابق كل شيء غيره ... ما ربنا والخلق يقترنان (¬2) ¬

(¬1) توضيح المقاصد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم (1/ 345 - 346)، لأحمد بن عيسى، الطبعة الثالثة 1406، المكتب الإسلامي، بيروت. (¬2) توضيح المقاصد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم (1/ 353).

ثم قال: فلئن زعمتم أن ذاك تسلسل ... قلنا صدقتم وهو ذو إمكان كتسلسل التأثير في مستقبل ... هل بين ذينك قط من فرقان والله ما افترقا لذي عقل ولا ... نقل ولا نظر ولا برهان في سلب إمكان ولا في ضده ... هذي العقول ونحن ذو أذهان فليأت بالفرقان من هو فارق ... فرقاً يبين لصالح الأذهان وكذاك سوى الجهم بينهما كذا ... العلاف في الانكار والبطلان ولأجل ذا حكما بحكم باطل ... قطعاً على الجنات والنيران فالجهم أفنى الذات والعلاف ... للحركات أفنى قاله الثوران وأبو علي وابنه الأشعري ... وبعده ابن الطيب الرباني وجميع أرباب الكلام الباطل الـ ... مذموم عند أئمة الإيمان فرقوا وقالوا ذاك فيما لم يزل ... حق وفي أزل بلا إمكان قالوا لأجل تناقض الأزلي والـ ... أحداث ما هذان يجتمعان لكن دوام الفعل في مستقبل ... ما فيه محذور من النكران فانظر إلى التلبيس في ذا الفرق تر ... وريجاً على العوران والعميان ما قال ذو عقل بأن الفرد ذو ... أزل لذي ذهن ولا أعيان بل كل فرد فهو مسبوق بفر ... د قبله أبداً بلا حسبان ونظير هذا كل فرد فهو ملـ ... ــحوق بفرد بعده حكمان النوع والآحاد مسبوق وملـ ... ـــــــحوق وكل فهو منها فان والنوع لا يفنى أخيراً فهو لا ... يفنى كذلك أولاً ببيان" (¬1). وممن قال بهذا القول جمال الدين السرمري رحمه الله كما تقدم، وغيرهم. ¬

(¬1) توضيح المقاصد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم (1/ 368 - 369).

وأما الفرق بين هذا القول وقول الفلاسفة فمن وجوه: منها: أن أصحاب هذا القول يقررون أن الله متصف بصفات الكمال، كالعلم والإرادة والقدرة والخلق والكلام وغيرها، أما الفلاسفة فينكرون هذه الصفات جميعها، وهذا غاية التعطيل والنقص، ولذلك آلت أقوالهم في التسلسل إلى القول بقدم العالم، وإذا أقروا بوجود الله سموه علة فاضت منها نفوس وعقول وأفلاك بلا إرادة منه، إلى غير ذلك من أقوالهم الفاسدة. ومنها: أن الفلاسفة لم يفرقوا بين الآحاد والنوع في المفعولات، وقالوا بقدم الآحاد، وهذا هو التسلسل الباطل الممتنع. ومنها: أنه يلزم على قول الفلاسفة أن لا يحدث في العالم شيء، وهذا باطل مخالف للمحسوس، وقولهم: إن الفلك أزلي مقارن لفاعله بالزمان، وهذا باطل لأن الخالق لابد أن يتقدم على مخلوقة (¬1). القول الثاني: منع تسلسل الحوادث في الماضي، وأنه لا يلزم من هذا القول أنه كان معطلاً عن الصنع، فليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري، وأن القول بأن جنس الحوادث لا أول لها يلزم منه القول بأن أعيان الحوادث لا أول لها، فإن الجملة ليست شيئاً أكثر من الأفراد مجتمعة (¬2)، وأن الكلام في أن جنس الحوادث لا أول لها دون الأعيان شبيه بالفلسفة وعلم الكلام، وممن ذهب إلى هذا القول -منع تسلسل الحوادث في الماضي- الشيخ الألباني رحمه الله في تعليقه على حديث «إن أول شيء خلق الله تعالى القلم» فقال: "وفيه ردٌّ أيضاً على من يقول بحوادث لا أول لها، وأنه ما من مخلوق إلا وهو مسبوق بمخلوق قبله، وهكذا إلى ما لا بداية له، بحيث لا يمكن أن يقال: هذا أول مخلوق، فالحديث يبطل هذا القول، ويعين أن القلم هو أول مخلوق، فليس قبله قطعاً أي ¬

(¬1) انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1003 - 1004) (¬2) انظر: ابن تيمية السلفي ص 122، 127 - 128، لمحمد خليل هراس، الطبعة الأولى 1404، دار الكتب العلمية، بيروت.

مخلوق؛ ولقد أطال ابن تيمية رحمه الله في الكلام في رده على الفلاسفة محاولاً إثبات حوادث لا أول لها، وجاء في أثناء ذلك بما تحار فيه العقول، ولا تقبله أكثر القلوب، حتى اتهمه خصومه بأنه يقول بأن المخلوقات قديمة لا أول لها، مع أنه يقول ويصرح بأن ما من مخلوق إلا وهو مسبوق بالعدم، ولكنه مع ذلك يقول بتسلسل الحوادث إلى ما لا بداية له، كما يقول هو وغيره بتسلسل الحوادث إلى ما لا نهاية، فذلك القول منه غير مقبول، بل مرفوض بهذا الحديث، وكم كنا نود أن لا يلج ابن تيمية رحمه الله هذا المولج، لأن الكلام فيه شبيه بالفلسفة وعلم الكلام الذي تعلمنا منه التحذير والتنفير منه، ولكن صدق الإمام مالك رحمه الله حين قال: ما منا من أحد إلا رَدَّ ورُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). وقال في موضع آخر: "قلت: ذكر الشارح هنا أن العلماء اختلفوا: هل القلم أول المخلوقات أو العرش؟ على قولين لا ثالث لهما، وأنا وإن كان الراجح عندي الأول، كما كنت صرحت به في تعليقي عليه ... فإني أقول الآن: سواء كان الراجح هذا أم ذاك، فالاختلاف المذكور يدل بمفهومه على أن العلماء اتفقوا على أن هناك أول مخلوق، والقائلون بحوادث لا أول لها، مخالفون لهذا الاتفاق، لأنهم يصرحون بأن ما من مخلوق إلا وقبله مخلوق، وهكذا إلى ما لا أول له، كما صرح بذلك ابن تيمية في بعض كتبه، فإن قالوا: العرش أول مخلوق، كما هو ظاهر كلام الشارح، نقضوا قولهم بحوادث لا أول لها، وإن لم يقولوا بذلك خالفوا الاتفاق، فتأمل هذا فإنه مهم، والله الموفق" (¬2). ولعل من الذين ذهبوا إلى هذا القول الإمام الطحاوي رحمه الله كما رجح ذلك الإمام ابن أبي العز عند شرحه على قول الإمام الطحاوي: "ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري" (¬3) يشير أنه موصوف بهذه الصفات وإن لم تظهر آثارها، وأنه لا يلزم من القول بأن جنس الحوادث لها أول أنه كان معطلاً عن الصنع، وهذا مخالف لقول ¬

(¬1) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 258)، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض. (¬2) العقيدة الطحاوية شرح وتعليق ص 20 - 21، لمحمد ناصر الدين الألباني. (¬3) شرح العقيدة الطحاوية، ص 87.

من يقول: أن صفة الخلق تستلزم المفعول. القول الثالث: التوقف في المسألة، وأن هذه من الغيبيات التي لم يخبرنا الله تعالى عنها، وممن ذهبوا إلى هذا الشيخ ابن جبرين رحمه الله فقال: "ونتوقف عن تسلسل الحوادث في الماضي، ونقول: الأمر غيبٌ، ولم يخبرنا الله تعالى بشيء من ذلك، وليس لنا التدخل في هذه الأمور، لأنها من الأمور التي لا يضر جهلها، ولا يفيد علمها، وقد توقع في شيء من الحيرة والاضطراب، والمسلم عليه أن يقتصر على ما فيه فائدة له في العقيدة، وأنه يعتقد ما ينفعه، ويكون دافعاً له لمعرفة ربه بأسمائه وصفاته، وإلى التقرب إلى الله تعالى بموجب تلك الأسماء" (¬1). هذا ما وقفت عليه من أقوال أهل السنة في مسألة تسلسل الحوادث، وقد قصدت توضيح الأقوال باختصار، وليس حصر القائلين. رأي الباحث في مسألة تسلسل الحوادث: لا ريب أن المسألة بتفصيلاتها ولوازمها دقيقة المنزع، وعرة المسلك، بعيدة الغور، إلا أن هناك أصلين من أقر بهما فقد برئ من البدعة، وهما مما أجمع عليه أهل السنة حتى المختلفون في بعض تفاصيل المسألة، وإنما وقع الخلاف في لوازم الأقوال أنها تقدح في أحد هذين الأصلين: 1 - أن الله تعالى لم يزل مريداً، خالقاً، فاعلاً، فلم يأت عليه زمن كان معطلاً فيه عن صفة الخلق؛ وهذا الأصل ضل فيه المتكلمون. 2 - أن أعيان الحوادث مخلوقة كائنة بعد أن لم تكن؛ وهذا الأصل ضل فيه الفلاسفة. ¬

(¬1) الرياض الندية على شرح العقيدة الطحاوية (1/ 454)، تعليق: د. عبدالله عبدالرحمن الجبرين، الطبعة الأولى 1431، دار الصميعي، الرياض.

المبحث الثاني منهج جمال الدين السرمري في تقرير توحيد الألوهية

المبحث الثاني منهج جمال الدين السرمري في تقرير توحيد الألوهية المطلب الأول: تعريف توحيد الألوهية وخصائصه: أ- تعريفه لغة: توحيد الألوهية مركب من كلمتين: "توحيد" وتقدم تعريفها، و"الألوهية" وهي مأخوذة من إله كفعال بمعنى مألوه أي معبود، وكل ما اتُّخذ معبوداً إلهٌ عند متخذه، ومنه قرأ بن عباس رضي الله عنهما: {ويذرك وإلاهَتَكَ} بكسر الهمزة أي: وعبادتك، وكان يقول: إن فرعون كان يُعبد، ومنه اشتق -على الراجح- قولنا: الله (¬1). والتأله: التنسك والتعبد قال رؤبة (¬2): لله در الغانيات المُدَّهِ (¬3) سبحن واسترجعن من تألهي (¬4). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والإله المعبود الذي تألهه القلوب، وكونه يستحق الإلهية مستلزم لصفات الكمال، فلا يستحق أن يكون معبوداً محبوباً لذاته إلا هو، وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل، وعبادة غيره وحب غيره يوجب الفساد، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ¬

(¬1) انظر: القاموس المحيط ص 1603، تاج العروس من جواهر القاموس (36/ 321)، للمرتضى الزبيدي، دار الهداية؛ لسان العرب (13/ 467)، مختار الصحاح ص 20، لمحمد الرازي، تحقيق: محمود خاطر، 1415، مكتبة لبنان، بيروت. (¬2) هو: رؤبة -بضم أوله وسكون الواو بعدها- بن العجاج الراجز المشهور التميمي ثم السعدي، لين الحديث فصيح، مات بالبادية سنة 145. انظر: تقريب التهذيب ص 211، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: محمد عوامة، 1406، دار الرشيد، سوريا. (¬3) التمده: التمدح. انظر: الصحاح (6/ 2249)، لإسماعيل الجوهري، تحقيق: أحمد عطار، الطبعة الرابعة 1990 م، دار العلم للملايين، بيروت. (¬4) الصحاح (6/ 2224، 2249).

آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: من الآية 22] ... " (¬1). هذا هو معنى الإله لغة وشرعاً. ب- تعريفه في الاصطلاح: عرفه الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله بتعريف جامع، ذكر فيه حد هذا التعريف، وتفسيره، وأركانه، فقال: "أن يعلم العبد ويعترف على وجه العلم واليقين أن الله هو المألوه وحده، المعبود على الحقيقة، وأن صفات الإلهية ومعانيها ليست موجودة بأحدٍ من المخلوقات، ولا يستحقها إلا الله تعالى. فإذا عرف ذلك واعترف به حقاً أفرده بالعبادة كلها الظاهرة والباطنة، فيقوم بشرائع الإسلام الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبر الوالدين وصلة الأرحام وقيام بحقوق الله وحقوق خلقه، ويقوم بأصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ويقوم بحقائق الإحسان وروح الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، مخلصاً ذلك كله لله، لا يقصد به غرضاً من الأغراض غير رضا ربّه وطلب ثوابه، متابعاً في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعقيدته ما دلّ عليه الكتاب والسنّة، وأعماله وأفعاله ما شرعه الله ورسوله، وأخلاقه وآدابه الاقتداء بنبيه - صلى الله عليه وسلم - في هديه وسمته وكل أحواله" (¬2). وقال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله في منظومته: "هذا وثاني نوعي التوحيد إفراد رب العرش عن نديد أن تعبد الله إلهاً واحداً معترفاً بحقه لا جاحداً" (¬3). ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم، تحقيق: د. ناصر العقل، الطبعة السابعة 1419، دار عالم الكتب، بيروت. (¬2) الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين ص 112 - 113، لعبدالرحمن السعدي، الطبعة الثانية 1407، دار ابن القيم، الدمام. (¬3) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول (1/ 31)، لحافظ الحكمي، تحقيق: عمر بن محمود، الطبعة الأولى 1410، دار ابن القيم.

جـ- خصائص توحيد الألوهية: 1 - أنه الغاية من خلق الثقلين الجن والإنس كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. فتوحيد العبادة غاية محبوبة لله تعالى لأجلها خلق الثقلين. 2 - أنه المقصود الأعظم من إرسال الرسل وإنزال الكتب وهو مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وأخبر عن رسله نوح، هود، صالح، شعيب، أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: من الآيات 59، 65، 73، 85 / هود: من الآيات 50، 61، 84 / المؤمنون: من الآيات 23، 32]. 3 - أنه أول واجب على المكلف فإن توحيد الألوهية هو معنى لا إله إلا الله، وهي أول دعوة الرسل، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - حين بعثه إلى اليمن: «إنك تقدم على قومٍ أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله ... » (¬1). قال ابن أبي العز: "ولهذا كان الصحيح أن أول واجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال أرباب الكلام المذموم، بل أئمة السلف كلهم متفقون أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان ... " (¬2). 4 - أن الشارع احتاط لهذا التوحيد أعظم الحيطة عن كل قول وفعل وقصد يكون شركاً أو ¬

(¬1) رواه البخاري (2/ 119) ح 1458، كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، تحقيق: محمد الناصر، الطبعة الأولى 1422، دار طوق النجاة. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية، ص 27.

وسيلة إلى الشرك، كالرياء والحلف بغير الله والطيرة وبناء المساجد على القبور والعكوف عندها، وكذلك الألفاظ التي توهم الندية بين الله وبعض خلقه؛ كل ذلك حياطة لجناب التوحيد ورعاية له. فهذا النوع من التوحيد له أهمية عظيمة، قال الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب: "وهذا التوحيد، هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول (لا إله إلا الله) ... ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة، وأشقياء أهل النار ... " (¬1). وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله: "يكاد القرآن أن يكون كله لتقرير التوحيد ونفي ضده، وأكثر الآيات يقرر الله فيها توحيد الإلهية وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، ويخبر أن جميع الرسل تدعو قومها إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأن الله تعالى إنما خلق الجن والإنس ليعبدوه، وأن الكتب والرسل اتفقت على هذا الأصل الذي هو أصل الأصول كلها، وأن من لم يدن بهذا الدين الذي هو إخلاص العمل لله فعمله باطل {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزُّمَر: من الآية 65]، {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: من الآية 88]. ويدعو العباد إلى ما تقرر في فطرهم وعقولهم، من أن المنفرد بالخلق والتدبير والمتفرد بالنعم الظاهرة والباطنة هو الذي لا يستحق العبادة إلا هو، وأن سائر الخلق ليس عندهم خلق ولا نفع ولا دفع، ولن يغنوا عن أحد من الله شيئاً، ويدعوهم أيضاً إلى هذا الأصل بما يمتدح به ويثني على نفسه الكريمة، من تفرده بصفات العظمة والمجد والجلال والكمال، وأن من له هذا الكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه مشارك أحق من أخلصت له الأعمال الظاهرة والباطنة. ويقرر هذا التوحيد بأنه هو الحاكم وحده فلا يحكم غيره شرعاً ولا جزاء {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا ¬

(¬1) تيسير العزيز الحميد (1/ 124 - 125).

لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: من الآية 40]. وتارة يقرر هذا بذكر محاسن التوحيد وأنه الدين الواجب شرعاً وعقلاً وفطرة على جميع العبيد، وبذكر مساوئ الشرك وقبحه، واختلال عقول أصحابه بعد اختلال أديانهم وتقليب أفئدتهم وكونهم في شك وأمر مريج. وتارة يدعو إليه بذكر ما رتب عليه من الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة والحياة الطيبة في الدور الثلاث، وما رتب على ضده من العقوبات العاجلة والآجلة، وكيف كانت عواقبهم أسوأ العواقب وشرها. وبالجملة: فكل خير عاجل وآجل فإنه من ثمرات التوحيد، وكل شر عاجل وآجل، فإنه من ثمرات ضده، والله أعلم" (¬1). ¬

(¬1) القواعد الحسان لتفسير القرآن ص 20 - 21، لعبدالرحمن السعدي، الطبعة الأولى 1420، مكتبة الرشد، الرياض.

المطلب الثاني: منهج جمال الدين السرمري في تقرير توحيد الألوهية

المطلب الثاني: منهج جمال الدين السرمري في تقرير توحيد الألوهية: 1 - إثبات توحيد العبادة: أثبت جمال الدين السرمري رحمه الله في مؤلفاته توحيد العبادة، فقال في معرض كلامه عن أدوية الهم والغم والحزن: "وهذه الأدوية تتضمن خمسة عشر نوعاً -وذكر منها-: الثاني: توحيد الإلهية. السابع: الاستعانة به وحده. التاسع: تحقيق التوكل عليه" (¬1). وقال في موضع آخر في معرض كلامه على فضل الترياق بسورة الفاتحة: "المتضمنة لجميع معاني كتب الله، المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب ومجامعها وهي: الله، والرب، والرحمن؛ وإثبات المعان، وذكر التوحيدين: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وذكر الافتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإعانة وطلب الهداية، وتخصيصه سبحانه بذلك، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعه وأفرضه وأحوج العباد إليه وهو الهداية إلى الصراط المستقيم، المتضمن كمال معرفته، وتوحيده، وعبادته ... " (¬2). وقال أيضاً في موضع آخر: "فما تضمنه من إخلاص العبودية، والثناء على الله، وتفويض الأمر كله، والاستعانة به، والتوكل عليه، وسؤاله مجامع النعم كلها، وهي: الهداية التي تجلب النعم وتدفع النقم من أعظم الأدوية الشافية الكافية، وقيل: إن موضع الرقية منها قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ولا ريب أن هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء، فإن فيهما من عموم التفويض والتوكل والإلتجاء والاستعانة والافتقار والقلب والاجماع بين أعلى الغايات: وهي عبادة الرب وحده، وأشرف الوسائل: وهي الاستعانة به على عبادته، ¬

(¬1) انظر: شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 305 أ. (¬2) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 299 ب.

ما ليس في غيرها" (¬1). وقال في موضع آخر في شرح حديث: «سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... » (¬2): "وأما مخفي الصدقة فلأنَّ النفس تحب الثناء العاجل، فإذا حسم النفس عن هذه المرتبة كان بالمنزلة التي وصفها الله تعالى، لأن ذلك إنما يحصل لذي الجأش القوي، والإيمان المتين ... وأما ذكر الله تعالى خالياً فهو على حال عظيم، قال الله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: من الآية 45] وإنما خصه هاهنا بالخلوة لأنه يكون في الخلوة عريّاً عن الرياء والسمعة، والبكاء حينئذ أفضل من البكاء في الملأ، لأنه خلا عن النفاق، وبعد عن الظنة، وتمحص لله تعالى جده، فلذلك عظم شأنه، قال الله تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق: 33 - 34]، وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة لا تمسهم النار، منهم: «عين بكت من خشية الله - عز وجل -»، فإذا كانت عين بكت من خشية الله محرمة على النار في الجملة، فهذه التي لم يشب بكاءها ريبة أولى من أن تكون من ربها قريبة، وكذلك سائر أعمال النوافل، كلما أُخفي منها كان أعظم أجراً، لأنه النفس تسلم حينئذ من عجب ورياء، ولأن القلب يكون بالعبادة في الخلوة أشغل، وإلى الخشوع والخضوع بين يدي الرب تعالى أميل" (¬3). وقال في موضع آخر أن إخلاص الخضوع من أعظم الوسائل إلى الله تعالى: "فالاعتراف بالعبودية والإخلاص في الخضوع والذل وإظهار الفقر والحاجة من أعظم الوسائل إلى الله تعالى" (¬4). ¬

(¬1) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 305 أ. (¬2) رواه البخاري (1/ 133) ح 660، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، (2/ 111) ح 1423، كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين؛ ورواه مسلم (2/ 715) ح 1031، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. (¬3) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 64 - 65. (¬4) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 46 ب.

2 - مسائل تنافي توحيد الألوهية

2 - مسائل تنافي توحيد الألوهية: تعرض جمال الدين السرمري رحمه الله لبعض المسائل التي تنافي أصل توحيد الألوهية، أو تنافي كماله، مفصلاً في بعضها، ومكتفياً بذكر الأدلة في أكثرها. أ- الطيرة: - مفهوم الطيرة: قال النووي رحمه الله: "الطيرة: فبكسر الطاء وفتح الياء على وزن العنبة، هذا هو الصحيح المعروف في رواية الحديث وكتب اللغة والغريب ... والتطير: التشاؤم، وأصله الشيء المكروه من قول أو فعل أو مرئي، وكانوا يتطيرون بالسوانح والبوراح (¬1)، فينفرون الظباء والطيور، فإن أخذت ذات اليمين تبركوا به، ومضوا في سفرهم وحوائجهم، وإن أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحاجتهم، وتشاءموا بها، فكانت تصدهم في كثير من الأوقات عن مصالحهم، فنفى الشرع ذلك وأبطله، ونهى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير بنفع ولا ضر" (¬2). وقال ابن عبدالبر: "أصل التطير واشتقاقه عند أهل العلم باللغة والسير والأخبار هو: مأخوذ من زجر الطير، ومروره سانحاً أو بارحاً، منه اشتقوا التطير، ثم استعلموا ذلك في كل شيء من الحيوان وغير الحيوان، فتطيروا من الأعور والأعضب والأبتر ... " (¬3). - حكم الطيرة: قرر جمال الدين السرمري رحمه الله أن الطيرة محرمة، وأجاب عن الإشكال فيما جاء عن أبي هريرة وفيما جاء عن أنس رضي الله عنهما في صحة الطيرة، يقول جمال الدين السرمري ¬

(¬1) السانح: ما ولاك ميامنه، والبارح: ما ولاك مياسره. الصحاح في اللغة (1/ 400). (¬2) شرح صحيح مسلم (14/ 382)، للإمام النووي، إعداد: علي عبدالحميد أبو الخير، الطبعة الخامسة 1420، دار الخير، بيروت. (¬3) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (9/ 282)، لابن عبدالبر، تحقيق: مصطفى العلوي ومحمد البكري، مؤسسة قرطبة.

رحمه الله في سياق حديثه على النهي عن اعتقاد العدوى: "وكذلك الطيرة التي هي قرينة العدوى ... وممن روى: «لا طيرة» ابن عباس، وأنس، وأبو هريرة، وغيرهم؛ وعن عمرو بن العاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أرجعته الطيرة من حاجة فقد أشرك» قالوا: فما كفارة ذلك يا نبي الله؟ قال: «أن يقول أحدهم: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، ثم يمضي في حاجته» ... وأما ما روي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الطيرة في ثلاث: في الدار والمرأة والفرس»، فالجواب عنه: أن عائشة رضي الله عنها طعنت عليه وبيَّنت تثبيت الحديث، وذنك أنها ذُكر لها قول أبي هريرة، فقالت: لم يحفظ أبو هريرة، ودخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قاتل الله اليهود، يزعمون أن الشؤم في الدار والمرأة والفرس» فسمع أبو هريرة آخر الحديث ولم يسمع أوله، وفي رواية: أن رجلين دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الطيرة في ثلاث: في الدار والمرأة والفرس» فغضبت عائشة رضي الله عنها غضباً شديداً، وقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما قاله، إنما قال: «أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك»؛ فقد بينت عائشة وجه الحديث وسببه، وأن ذلك من قول اليهود والجاهلية، وبينت أن أبا هريرة لم يسمع أول الحديث. وقد تأول قوم حديث أبي هريرة في أن الشؤم في المرأة إذا كانت لا تلد أو سيئة الخلق، وفي الدار إذا كانت بعيد عن المسجد أو ضيقة وجيرانها جيران سوء، وفي الدابة إذا كانت تعضُّ أو ترفس أو كانت مربوطة للفخر والخيلاء، كما جاء في الحديث: «الخيل ثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأما الذي عليه وزر فرجل ربطها فخراً ورياءً وبطراً لأهل الإسلام فهي له وزر» وأعظم الشؤم ما جرَّ لصاحبه الوزر، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سعادة المرء: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقوة المرء: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء». فأما ما روى أنس أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنا نزلنا داراً فكثر فيها عددنا وكثرت فيها أموالنا، ثم تحولنا عنها إلى أخرى، فقلَّت فيها أموالنا، وقل فيها عددنا، فقال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فذروها ذميمة»، فالجواب: أنه قال لهم: «فذروها ذميمة» لما كان استقر في أنفسهم في زمان الجاهلية من شؤم الدار، فأمرهم بالنقلة عنها ليزول ما توهموه في قلوبهم من أن الشؤم في المسكن وما لحقهم من الاستيحاش فيها، والتثاقل بها، يستعجلوا الراحة ويزول عنهم توقع البلاء الذي قد استشعروه من نزول الحوائج، وإن لم يكن لذلك في الحقيقة أصل، ولئلا يعتقدوا التشاؤم بالدار، ويفهم من قوله: «فذروها ذميمة» وعدم التصريح لهم والتعريف بذكر الشؤم أن ذلك قد كان قدَّره لهم بقوله: «لا عدوى ولا طيرة»، وكان سؤال السائل في ذلك على سبيل الاستفهام لما أشكل عليه وقوع النقص بسكن الدار الثانية دون الأولى ... وقال لصاحب الدار: «فذروها ذميمة» خوفاً عليه أن يقوى وهمه باستمرار النقص عليه بالمقام بها، فيؤدي ذلك إلى سوء اعتقاده فيما أخبره به أولاً أنه لا عدوى ولاطيرة" (¬1). وما قرره جمال الدين السرمري رحمه الله من تحريم التطير هو منهج أهل السنة والجماعة في هذا الباب. قال ابن عبدالبر: "من تطير فقد أثم، وإثمه على نفسه في تطيره لترك التوكل وصريح الإيمان، لأنه يكون ما تطير به على نفسه في الحقيقة، لأنه لا طيرة حقيقة ولا شيء إلا ما شاء الله في سابق علمه، والذي أقول به في هذا الباب تسليم الأمر لله - عز وجل - وترك القطع على الله بالشؤم في شيء ... قال الله تبارك اسمه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51] وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] فما قد خط في اللوح المحفوظ لم يكن منه بد، وليست البقاع ولا الأنفس بصانعة شيئاً من ذلك ... " (¬2). وقال ابن القيم رحمه الله: "فالطيرة باب من الشرك، وإلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته ¬

(¬1) كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون، ص 50 - 66. (¬2) التمهيد (9/ 285).

ب- التبرك الممنوع

يكبر ويعظم شأنها على من اتبعها نفسه، واشتغل بها، وأكثر العناية بها، وتذهب وتضمحل عمن لم يلتفت إليها، ولا ألقى إليها باله، ولا شغل بها نفسه وفكره، واعلم أن من كان معتنياً بها، قائلاً بها، كانت إليه أسرع من السيل إلى منحدره، وتفتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه، وينكد عليه عيشه. . . " (¬1). قال ابن رجب رحمه الله: "والطيرة من أعمال أهل الشرك والكفر، وقد حكاها الله تعالى في كتابه عن قوم فرعون، قوم صالح، وأصحاب القرية التي جاءها المرسلون" (¬2). ب- التبرك الممنوع: - مفهوم التبرك: التبرك: مصدر تبرَّك يتبرَّك تبرُّكاً، وهو طلب البركة، والتبرك بالشيء طلب البركة بواسطته (¬3). وأصل البركة: الثبوت واللزوم، قال ابن فارس رحمه الله: "بَرَكَ: الباء والراء والكاف أصل واحد، وهو ثبات الشيء، ثم يتفرع فروعاً يقارب بعضها بعضاً" (¬4). وتطلق أيضاً على النماء والزيادة، جاء في كتاب جمهرة اللغة: "يقال: لا بارك الله فيه: أي لا نمّاه" (¬5). وفي معجم مقاييس اللغة: "قال الخليل: البركة من الزيادة والنماء" (¬6). ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (2/ 229 - 230)، لابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت. (¬2) لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ص 142، لابن رجب الحنبلي، تحقيق: ياسين السواس، الطبعة الخامسة 1420، دار ابن كثير، دمشق. (¬3) التبرك أنواعه وأحكامه ص 30، لناصر الجديع، الطبعة الخامسة 1421، مكتبة الرشد، الرياض. (¬4) معجم مقاييس اللغة (1/ 227). (¬5) جمهرة اللغة (1/ 325)، لابن دريد، تحقيق: رمزي بعلبكي، الطبعة الأولى 1987 م، دار العلم للملايين، بيروت. (¬6) معجم مقاييس اللغة (1/ 230).

وتطلق أيضاً على السعادة، قال الفراء في قوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: من الآية 73] قال: "البركات: السعادة" (¬1). وقال أبو منصور الأزهري بعد ذكره قول الفراء: "وكذلك قوله في التشهد: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، لأن من أسعده الله بما أسعد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد نال السعادة المباركة الدائمة" (¬2)، وأما معنى السعادة فهي التوفيق للخير (¬3). أما التبرك الممنوع: طلب حصول الخير بمقاربة شيء وملابسته بما لم يقم عليه دليل من الشرع. - صورة التبرك الممنوع: للتبرك الممنوع صور عديدة، لكن الصورة التي تطرق لها جمال الدين السرمري رحمه الله هي: التبرك بقبور الصالحين، قال جمال الدين السرمري رحمه الله بعد كلامه عن التداوي بالأتربة: "وإذا كان هذا في هذه التربات فما ظنك بأطيب تربة على وجه الأرض وأبركها، وقد خالطت ريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقارنت رقيته باسم ربه وتفويض الأمر إليه ... وأبلغ من هذا ما رأيته من شيخنا الصالح تقي الدين محمد بن إبراهيم الخالدي (¬4)، فإنه جاء إليّ يوماً ومعه قليل من طين من قبر الإمام أبي عبدالله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، فقال لي: كنت في زيارة الإمام، وقد أخذت هذا من طين قبره، وهو مشدود في طرفي منديله، فقلت: ما تصنع به؟ فقال: أداوي به عيني، فإن لي مدة ما تشتكي عيني إلا أخذت من تراب قبره فاكتحلت به، فأبرأ بإذن الله؛ وأظن أنه أثر مثل هذا عن بعض أشياخه، فإذا كان تراب قبر الإمام أحمد يبرئ أمراض العين، فما ظنك بتراب قبر سيد الرّسل وأفضل الخلق عليه الصلاة ¬

(¬1) معاني القرآن (2/ 23)، لأبي زكريا الفراء، تحقيق: أحمد نجاتي ومحمد نجار وعبدالفتاح شلبي، دار المصرية، مصر. (¬2) تهذيب اللغة (10/ 131)، لأبي منصور الأزهري، تحقيق: محمد عوض مرعب، الطبعة الأولى 2001 م، دار إحياء التراث العربي، بيروت. (¬3) التبرك أنواعه وأحكامه ص 25 - 27، لناصر الجديع. (¬4) تقدمت ترجمته في شيوخ السرمري.

والسلام، فحينئذٍ إما أن يكون نفع هذه الأطيان بالطبع أو بالبركة الحاصلة فيها بمن أثر فيها أو بهما، فإن كان الأول فلا شك أن للبقاع من الأرض خواص ومنافع كالأتربة والمعادن وما يتولد فيها، إن كان الثاني فضيلة بركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشهر وأظهر من أن يحتاج إلى أدلة، وكل ذلك إن كان منهما، وبركة الإمام أحمد قد ثبتت من غير وجهٍ في حياته وبعد وفاته ... " (¬1). وقال في موضع آخر: "فما ظنك بتربة هي أطيب تربة على وجه الأرض وأبركها، وقد خالطت ريق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقارنت ريقه باسم ربه وتفويض الأمر إليه، ولا يستعب الشفاء ببعض الترب المضافة إلى بعض الأنبياء والصالحين والأئمة على هذا التقدير، فقد دخل علي بعض شيوخنا ببغداد، وكان في زيارة قبر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وفي منديل الشيخ شيء مصرور، فقلت: ما هذا؟ فقال: شيء من تربة قبر الإمام أحمد، فقلت: ما يفعل به، فقال: اكتحلت به، فقلت: وهل يكتحل بالتراب؟ فقال: إني منذ سنين ما ترمد عيني إلا اكحلها بتراب قبره فتبرأ؛ وأظنه أثر مثل ذلك عن بعض شيوخه، وقد بعد عهدي بالحكاية" (¬2). وقد أعاد نفس الحكاية في موضع آخر بعد ذكره حديث «تربة أرضنا، بريقة بعضنا، تشفي سقيمنا، بإذن ربنا» فقال: "وإذا كان قد تبرك بتراب قبر بعض صالحي أمته واستشفى به من الرمد ونحوه كما ذكرنا عن بعض مشائخنا أنه كان يستشفي من وجع عينيه بتراب قبر الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، فتراب أرض قبره فيها الأولى وأحرى أن يكون شفاء من كل داء، والله أعلم" (¬3). وما قرره جمال الدين السرمري رحمه الله من فضل التداوي بتربة قبور الصالحين لتناله بركتهم غير صحيح، ومحل التبرك الممنوع في كلام جمال الدين السرمري ليس التداوي بالتراب, وإنما ¬

(¬1) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 156 ب - 157 أ. (¬2) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 303 أ. (¬3) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 258 ب.

تفضيل تربة قبور الصالحين على سائر الأتربة بالتداوي, وهذا من التبرك الممنوع المخالف لمنهج أهل السنة والجماعة من عدة أوجه: أ- أن هذا التبرك لم يرد فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينقل عن الصحابة، ولا عمن تبعهم بإحسان، وإنما فعله بعض المتأخرين من غير دليل شرعي. ب- أن ذلك ناشئ عن اعتقاد في ذات صاحب ذلك القبر أنها سبب للنفع, ولم يجعلها الله سبباً شرعياً ولا قدرياً في هذا المسبب -الاستشفاء بها من الرمد-. ج- أن في المنع من ذلك سداً لذريعة الغلو في قبور الصالحين. قال العلامة حافظ الحكمي في الاستشفاء بتربة القبور: "تربة القبور وما أكثر ما يستشفى بها لا شفاهم الله، واستعمالهم لها على أنواع: فمنهم من يأخذها ويمسح بها جلده، ومنهم من يتمرغ على القبر تمرغ الدابة، ومنهم من يغتسل بها مع الماء، ومنهم من يشربها، وغير ذلك، وهذا كله ناشئ عن اعتقادهم في صاحب ذلك القبر أنه ينفع ويضر، حتى عدوا ذلك الاعتقاد فيه إلى تربته، فزعموا أنها فيها شفاء وبركة لدفنه فيها، حتى إن منهم من يعتقد في تراب بقعة لم يدفن فيها ذلك الولي بزعمه، بل قيل له: إن جنازته قد وضعت في ذلك المكان، وهذا وغيره من تلاعب الشيطان بأهل هذه العصور، زيادة على من تلاعب بمن قبلهم، نسأل الله العافية" (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما التمسح بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقبيله فكلهم -أي الفقهاء- كره ذلك ونهى عنه، وذلك لأنهم علموا ما قصده النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حسم مادة الشرك، وتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله رب العالمين" (¬2). وقد أنكر الإمام أحمد إنكاراً شديداً على من تمسح به طلباً للبركة بله بمن يتبرك بتربة قبره: "روى الخلال في أخلاق أحمد عن علي بن عبدالصمد الطيالسي قال: مسحت يدي على ¬

(¬1) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول (2/ 498 - 499). (¬2) مجموع الفتاوى (27/ 80).

ج- التوسل الممنوع

أحمد بن حنبل، ثم مسحت يدي على بدني وهو ينظر، فغضب غضباً شديداً وجعل ينفض يده، ويقول: عمن أخذتم هذا؟ وأنكره إنكاراً شديداً" (¬1). ج- التوسل الممنوع: - مفهوم التوسل: قال ابن الأثير: "هي في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، وجمعها وسائل، يقال: وَسَلَ إليه وسيلة وتَوَسَّل" (¬2). وقال ابن فارس: "الواو والسين واللام كلمتان متباينتان جداً. الأولى: الرغبة والطلب، يقال: وسل، إذا رغب، والواسل: الراغب إلى الله - عز وجل -، وهو في قول لبيد: بلى كل ذي دين إلى الله واسل ومن ذلك القياس الوسيلة ... " (¬3). وقال الجوهري: "الوسيلة: ما يتقرب به إلى الغير، والجمع الوسيل والوسائل، والتوسيل والتوسل واحد، يقال: وسل فلان إلى ربه وسيلة، توسل بوسيلة: أي تقرب إليه بعمل ... " (¬4). أما التوسل الممنوع: هو التقرب إلى الله - جل جلاله - بوسيلة بدعية أو شركية. - صورة التوسل الممنوع: للتوسل الممنوع صور عديدة، لكن الصورة التي أشار لها جمال الدين السرمري رحمه الله ¬

(¬1) الآداب الشرعية (2/ 225)، لابن مفلح، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعمر القيام، الطبعة الثالثة 1419، مؤسسة الرسالة، بيروت. (¬2) النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 402)، لابن الجزري. (¬3) معجم مقاييس اللغة (6/ 110)، لابن فارس. (¬4) الصحاح في اللغة (5/ 119)، للجوهري.

هي: التوسل بغير الله من المخلوقين، وذلك بأن يدعوهم ويستغيث بهم ويطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ولو بزعم أنهم واسطة فيما يطلبه من الله، وهذا الصورة من التوسل هي من الشرك الأكبر، لأنها دعاء لغير الله والتجاء إليه فيه المهمات، وهي من صرف العبادة لغير الله كما قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5]. وفي هذا يقول جمال الدين السرمري في (منامات رؤيت لشيخ الإسلام ابن تيمية)، وهي رؤى فيها الثناء على منهج ابن تيمية في الاعتقاد، وأنه سالك طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى قدمه، وقد ذكرها السرمري في سياق فضائله، وفي ذلك إشارة لتأييد السرمري لما جاء فيها، فلو كان يعتقد السرمري مخالفة المعاني العقدية التي تضمنتها هذه الرؤى لما ذكرها في سياق شمائله، قال جمال الدين السرمري في الرؤيا الرابعة: "حدثني الشيخ الصالح شهاب الدين أبو العباس أحمد بن علي بن محمد الأنصاري البعلبكي الخياط قال: رأيت في المنام في أول شوال من سنة نيف وخمسين وسبعمائة بدمشق، وقد كنت أنكرت على بعض الفقراء التوسل بغير الله من المخلوقين، وكان قال: إني كنت مريضاً فاستغثت بالشيخ فلان والشيخ فلان فلم يجبني منهم أحد، فاستغثت بالشيخ فلان والشيخ فلان وسماهم، قال: فرأيت الشيخ فلاناً وهو راكب فيلاً والشيخ الآخر وهو راكب فرساً، فقالا لي: قم، فقمت معافاً في الحال، قال: فقلت له: هذا خطأ منك، لو أنك استغثت بالله أصبت، فإن الشيخ فلاناً وغيره من المخلوقين لا يمكلون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فقال: أنت مالك اعتقاد في الفقراء؟ ! وجرى بيني وبينه في هذا الكلام، فرأيت تلك الليلة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في النوم وهو يكلمني كلاماً خفياً، فقلت: يا سيدي الشيخ والله ما أفهم ما تقول، فقال: هل عندك لوح؟ فقلت: نعم، وأتيته به، فكتب لي في سطرين، فأخذته وجعلت أنظر فيه، فما عرفت اقرأ شيئاً منه إلا قوله: صَحِّحْ تَصِحُّ، وبقيت مفكراً فيه

( ... ) (¬1)، ومضى علي هذا مدة نحو من خمسة وثمانين يوماً، فجرى بيني وبين فقير آخر شيء من الكلام من جنس ما جرى بيني وبين ذلك الرجل، فنمت تلك الليلة فرأيت الشيخ تقي الدين وهو على صورة طائر أخضر عظيم المنظر أكبر من الطاووس، فقال لي: يا فلان أما حفظت الذي كتبت لك، فعرفت أنه الشيخ تقي الدين، فقلت: يا سيدي والله ما حفظت منه إلا قولك: صحح تصح، فقال لي: قل: صحح تصح لك الأمور جميع ... إياك عن طرق الهداة تضيع وامحوا واثبت ما تحقق يا فتى ... إن الإله على القلوب طليع لا تصحبن الأرذلين فإنهم ... يوم التغابن جيلهم مقطوع (¬2) " (¬3). وما أشار إليه جمال الدين السرمري رحمه الله في هذه الرؤيا من منع التوسل بغير الله من المخلوقين هو منهج أهل السنة والجماعة في هذا المسألة كما سيأتي بيانه. لكن الإشكال ورود في المقابل بعض الألفاظ الموهمة في كلام جمال الدين السرمري، والتي ظاهرها التوسل الممنوع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبآله - رضي الله عنهم - والاستعانة بهم في حصول المنفعة ودفع المضرة، كقوله في النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا خيرة الرسل ويا من له ... في حضرة القدس المحل الرفيع أنت المُرَجَّى لدفاع الأذى ... وكل خطب للبرايا فظيع" (¬4). وهذا غلو بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، بزعم أن دفع الأذى يكون بالتوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم -. وقد يكون تأثر في ذلك بالشيخ يحيى الصرصري (¬5) رحمه الله، وبخاصة إذا رجحنا أن ثناء ¬

(¬1) كلمة غير واضحة. (¬2) ذكرت هذه الأبيات أيضاً في آخر (جامع الرسائل لابن تيمية) المجموعة الأولى ص 290، تحقيق: محمد رشاد سالم، 1405، دار المدني، جدة. (¬3) منامات رؤيت لشيخ الإسلام ابن تيمية (مخطوط) ورقة: 2 ب. وقد ذكر ابن ناصر الدين الدمشقي أنه وجد بخط السرمري ستة منامات رؤيت لشيخ الإسلام ابن تيمية، انظر: الرد الوافر ص 233، تحقيق: زهير الشاويش. (¬4) المولد الكبير للبشير النذير - صلى الله عليه وسلم - (مخطوط) ورقة: 1 ب. (¬5) هو يحيى بن يوسف بن يحيى الصرصري، الفاضل المادح الحنبلي الضرير البغدادي، معظم شعره في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، توفي سنة 656. انظر: الذيل على طبقات الحنابلة (4/ 32)، البداية والنهاية (13/ 244).

السرمري العاطر للشيخ حسان في مقدمة منظومته (نهج الرشاد في نظم الاعتقاد) أنه يقصد الصرصري (حسان السنة) (¬1)، وتخصيص السرمري للصرصري -على الراجح (¬2) - بالذكر مع عدم إدراكه له، وتصريحه بأنه متبع لمنهاجه في الاعتقاد وأنه مقتفي أثره، يشعر بشدة تأثر السرمري به، يقول جمال الدين السرمري: "فلولا مكان الشيخ حسان أصبحت ... مدينة سامراء في غاية الضر ولولا خلال سدها لتعطلت ... رسوم الهدى واستوسقت دولة الشر (¬3) هو العالم المرضي والقثم الذي ... يفتح أقفال المسائل بالسبر" (¬4). إلى أن قال: "كفاني أني أنتمي بعقيدتي ... إليه وأني في طريقته أجري" (¬5). ¬

(¬1) وقد وصفه بـ (حسان السنة) عدد من العلماء، كابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية" ص 200، الطبعة الأولى 1404، دار الكتب العلمية، بيروت؛ وابن رجب في "الذيل على طبقات الحنابلة" (4/ 32)، وابن كثير في "البداية والنهاية" (6/ 331)، وصديق حسن خان في "التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول" ص 236، الطبعة الثانية 1428، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر؛ وقد يكون (¬2) وقد يكون قصد السرمري بـ"حسان" هو شيخه (أبا محمد حسان بن أحمد السرّمرّي) وقد ذكره في موضعين من كتابه: شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 297 ب, 295 أ, ولم أقف له على ترجمه, والثناء الذي سيأتي ذكره في الأبيات يرجح أن يكون المقصود به "حسان السنة: الصرصري" كما سيأتي في التعليق على الأبيات. (¬3) كان الصرصري رحمه الله شديداً في السنة، مدافعاً عنها، منحرفاً على المخالفين لها، وهو القائل: بالله يا أنصار دين محمد ... نوحوا على الدين الحنيف وعددوا لعبت بدينكم الروافض جهرة ... وتألبوا في دحضه وتحشدوا. وقد توفي رحمه الله شهيداً عند اجتياح التتار لبغداد، فقد دخل عليه التتار وكان ضريراً، فطعن بعكّازه بطن أحدهم فقتله، ثم قُتل، وهو القائل: طوبى لمن قتلوه منّا إنّه ... أبداً مع الشهداء حي يرزق. انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية ص 204، مقدمة تحقيق "الدرة اليتيمة والمحجة المستقيمة" للصرصري ص 25، جاسم الدوسري، الطبعة الأولى 1424، دار ابن حزم، بيروت. (¬4) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 27 - 28. (¬5) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 28.

وقد كان الصرصري رحمه الله، شديداً في السنة، منحرفاً عن المخالفين لها، وشعره مملوء بذكر أصول السنة ومدح أهلها، وذم مخالفيها (¬1)، غير أنه له أبيات في التوسل والاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنكرها العلماء، ومن ذلك قوله في النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنت جاري وعدّتي ونصيري وعمادي في شدتي ورخائي فأعني على زمان فظيع الخط ... ـب في أهله شديد العناء وأسألِ اللهَ حين تُعرض أعما ... لي عليك الغفران لي يا رجائي" (¬2). وقوله: "نصحت له نصحاً برئياً من القذى إذا شاب قومٌ نصحهم بالعبائث فقلتُ له إن رُمتَ أمناً وعزة ... فعُذ من عوادي النائبات الكوارث بأفضل مبعوث إلى خير أمة ... بخير كتاب جاء من خير باعث" (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا أنكرنا على الشيخ يحيى الصرصري ما يقوله في قصائده في مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الاستغاثة به مثل قوله: بك أستغيث وأستعين وأستنجد" (¬4)، والله أعلم بالصواب. ومن الألفاظ الموهمة التي وردت في كلام جمال الدين السرمري قوله في آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليهم سلامي ما حييت وإن أمت ... تحييهم عني عظامي من قبري هم عدتي في شدتي وذخيرتي ... لآخرتي مصباح ديني غنى فقري" (¬5). وهذا أيضاً من الغلو في آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالعدة في الشدة، والذخيرة للآخرة ليست التوسل بذواتهم - رضي الله عنهم -، بل ظاهر هذا القول هو من قبيل قول المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا ¬

(¬1) وصفه بذلك ابن رجب في "الذيل على طبقات الحنابلة" (4/ 34). (¬2) ذيل مرآة الزمان (1/ 259)، لليونيني، الطبعة الأولى 1374، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر اباد. (¬3) ذيل مرآة الزمان (1/ 266 - 267). (¬4) مجموع الفتاوى (1/ 70). (¬5) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 44.

لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزُّمَر: من الآية 3]. لكن لعل الإمام جمال الدين السرمري عفا الله عنه لم يرد هذا، وإنما قصد محبتهم التي هي من العمل الصالح، لا سيما أن هذه الألفاظ الموهمة جاءت في سياق نظم، والوزن أحياناً يعيق عن الإفصاح. أما منهج أهل السنة والجماعة في هذه المسألة هو منع التوسل بغير الله من المخلوقين: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإن أراد بالواسطة: أنه لابد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار مثل: أن يكون واسطة في رزق العباد، ونصرهم، وهداهم، يسألونه ذلك، ويرجون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء، يجتلبون بهم المنافع ويجتنبون المضار" (¬1). وقال الإمام العز بن عبد السلام: "ومن أثبت الأنبياء وسواهم من مشايخ العلم والدين وسائط بين الله وبين خلقه كالحجّاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله تعالى حوائج خلقه، وأن الله تعالى إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملك حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، ولأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطلب، فمن أثبتهم وسائط على هذه الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء مشبِّهون لله، شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أنداداً ... " (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (1/ 123 - 124). (¬2) التوسل أنواعه وأحكامه ص 97، لمحمد ناصر الدين الألباني، تنسيق: محمد عيد عباسي، الطبعة الخامسة 1406، المكتب الإسلامي.

د- شد الرحال إلى القبور

د- شد الرحال إلى القبور: - تمهيد: زيارة القبور مشروعة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عنها أولاً من باب سد الذرائع، لأن الأمم السابقة فتنت بقبور أنبيائها وصالحيها حتى أوقعهم الشيطان كرات ومرات في هوة الشرك واتخاذهم أنداداً مع الله. فمن أجل صيانة لجانب التوحيد، وقطعاً للتعلق بالأموات، وسداً لذريعة الشرك نهى رسول الله أولاً عن زيارة القبور، ولما رسخت عقيدة التوحيد في قلوب أصحابه الكرام وأمن عليهم الفتنة رخص لهم في زيارتها، وبين لهم الغاية من زيارتها وهي أنها تذكر الآخرة، هذه واحدة، والأخرى ليستفيد الأموات من دعاء إخوتهم الأحياء. وإذا كان الأمر كذلك، والهدف الأول وهو تذكر الآخرة أمر يتحقق بزيارة القبور القريبة والمجاورة، اكتفى الشارع الحكيم بالحد الأدنى الذي يحقق الغرض الشرعي مع تحفظات كثيرة تسد ذرائع الفتنة والشرك: منها أن لا تتخذ مساجد، ومنها أن لا يبنى عليها، ولا تجصص، ولا يصلى عليها، ولا إليها، وغير ذلك. ولم يشرع أبداً السفر إليها، لا بقوله ولا بفعله , وآية ذلك: أن هذا الأمر لم ينزل فيه قرآن، ولم يثبت فيه حديث من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو فعله، فلو كان مشروعاً لتحقق فيه كل ذلك، ولسنَّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك برحلات ورحلات إلى الأنبياء والصالحين، ولملئت الدواوين برحلات الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان، ونحن نجد دواوين الإسلام من صحاح وسنن ومسانيد وكتب فقه السلف الصالح قد سجلت كل حقوق الأموات: من عيادتهم وهم مرضى، إلى غسلهم، وتشييعهم، ودفنهم، وزيارتهم، والدعاء لهم، والنهي عن الجلوس على قبورهم. كل هذا قد طفحت به دواوين الإسلام، خالية خلواً كاملاً من حديث نبوي صحيح أو حسن، ومن أقوال الصحابة والقرون المفضلة، ومن أقوال أئمة الهدى من الحث على شد

الرحال إلى القبور (¬1). - قول جمال الدين السرمري في المسألة: لما تطرقت البدع إلى أوساط المسلمين، وبدأوا يعتقدون في المشاهد والقبور والأضرحة والمزارات مالم ينزل الله به سلطاناً، من شد الرحال إليها والاستغاثة بأهلها، صارت هذه القضية مفروغاً من الكلام فيها عند العلماء، فضلاً عن العامة من الناس، واعتُبرت من القضايا الحساسة التي تستغل لإثارة غضب الجماهير ضد من يتكلم فيها. ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية الذي أشرب قلبه بالإيمان الخالص، والعقيدة الصحيحة، لما سُئل عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة حينما كان في القاهرة، فردّ عليه رداً مستنبطاً من الكتاب والسنة، ونهى عنه استدلالاً بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومسجد الأقصى» (¬2). فاستغل هذه الفتيا سنة 726 القاضي المالكي الإخنائي (ت 750) بعد صدورها ببضع عشرة سنة، وزاد فيها ونقص، ورماه بالتنقيص بمنزلة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحرض السلطان عليه تقرّباً إليه، وكسباً لعواطف الجماهير من الناس أيضاً، وألف رسالة أسماها "المقالة المرضية في الرد على من ينكر الزيارة المحمدية"، فرد شيخ الإسلام على الإخنائي وغيره ممن رد عليه في هذه المسألة (مثل الزملكاني، والسبكي، وابن الحاج، وغيرهم) في عديد من كتبه، ومنها: "الرد على الإخنائي واستحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية"، "المنسك القديم والجديد"، "الجواب الباهر في زوار المقابر" (¬3)، فأوضح الحق في المسألة، ودحض الشبه التي كانت تشنع عليه، إلا أن السبكي عفا الله عنه أعاد التشغيب على ابن تيمية بعد موته في التعريض بهذه المسألة، فقال: ¬

(¬1) انظر: كشف زيف التصوف وبيان حقيقته وحال حملته 206 - 207، لربيع بن هادي المدخلي، الطبعة الأولى 1427، مجالس الهدى، الجزائر. (¬2) رواه البخاري (2/ 60) ح 1189، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة؛ ورواه مسلم (2/ 1014) ح 1397، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، بمثله. (¬3) انظر: التعليق على "الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية" ص 80 - 81، لصلاح الدين مقبول أحمد.

"لو كان حيّاً يرى قولي ويسمعه ... رددت ما قال ردّاً غير مشتبه كما رددت عليه في الطلاق وفي ... ترك الزيارة أقفو إثر سبسبه (¬1) " (¬2). فتصدى للتشغيب على شيخ الإسلام بذلك، والرد عليه جمال الدين السرمري رحمه الله، فقال: "وفي الزيارة لم تُنْصف رددتَّ على ... ما لم يقلهُ ولم تَمرر بِسَبْسَبِه (¬3) ردّاً ملخصه أشياء أذكرها ... إما حديث ضعيف عند مطلبه إما صحيح ولكن لا دليل به ... على مُرادك بل هدم لمنصبه إما بمجمل لفظٍ قولُ خصمكَ من ... أقوى المقال به قسراً وأصوبه إما بلا علم لي والجهل غايته ... أيعذر الشخص فيما لا أحاط به فأيُّ رد لعمري قد رَدَدْتَّ وما ... ذا قلتَ إذ قلتَ أقفو إثر سبسبه إن كان عندك في شد الرحال إلى الـ ... ــــقبور نقل فعارضه بموكبه ليعرف الحق من كان أخا نظر ... خالٍ من العلم ناءٍ عن تعصبه أنَّى وذلك كالعنقاء (¬4) في عدم ... وكالسَّمندل (¬5) يحكى مع تغيبه ما أنت إلا كما قد قيل في مثل ... خالف لتعرف مشهور لِضُرَّبِهِ فشيخنا بصريح الحق حجته ... ونقد نقلك زيف في تقلبه فمن أحق بحق القول إن ظهر الـ ... إنصاف مرتفعاً من فوق مرقبه" (¬6). ¬

(¬1) السبسب: المفازة أو الأرض المستوية البعيدة. القاموس المحيط ص 123، ويقصد بـ"أقفو إثر سبسبه": أتتبع غرائبه وشوارده. (¬2) ذكرها التاج السبكي في ترجمة أبيه التقي السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" (10/ 176). (¬3) يشير إلى قول السبكي المتقدم آنفاً. (¬4) العنقاء: طائر عظيم معروف الاسم مجهول الجسم. الصحاح في اللغة (4/ 220). (¬5) السمندل: قيل: "طائر إذا انقطع نسله وهرم ألقى نفسه في الجمر فيعود إلى شبابه"، وقيل: "هو دابة يدخل النار فلا تحرقه". انظر: لسان العرب (11/ 348). (¬6) الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية، ص 80 - 83.

ويبين كلام السرمري ويؤيده قول العلامة ابن عبدالهادي في كتابه (الصارم المنكي في الرد على السبكي) من إهمال السبكي النظر في الحديث صحة وضعفاً، وإلزام شيخ الإسلام بما لا يلزم، فقال: "فإني وقفت على الكتاب الذي ألفه بعض قضاة الشافعية في الرد على شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد ابن تيمية في مسألة شد الرحال وإعمال المطيّ إلى القبور، وذكر أنه كان قد سمّاه (شن الغارة على من أنكر سفر الزيارة) ثم زعم أنه اختار أن يسميه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) فوجدت كتابه مشتملاً على تصحيح الأحاديث المضعفة والموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة والآثار القوية المقبولة، وتحريفها عن مواضعها، وصرفها عن ظواهرها بالتأويلات المستنكرة المردودة, ورأيت مؤلف هذا الكتاب المذكور رجلاً ممارياً معجباً برأيه متبعاً لهواه" (¬1). وما قرره جمال الدين السرمري هو قول الأئمة في هذه المسألة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين فهذا لم يكن موجوداً في الإسلام في زمن مالك، وإنما حدث هذا بعد القرون الثلاثة، قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فأما القرون التي أثنى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن هذا ظاهراً فيها، ولكن بعدها ظهر الإفك والشرك ... " (¬2). وقال في موضع آخر: "وأما إذا كان قصده بالسفر زيارة قبر النبي دون الصلاة في مسجده فهذه المسألة فيها خلاف، فالذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أن هذا غير مشروع، ولا مأمور به، لقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى» " (¬3). وقال الشيخ سليمان بن عبدالوهاب تعليقاً على حديث: «لا تتخذوا قبري عيداً، ولا ¬

(¬1) الصارم المنكي في الرد على السبكي، ص 13. (¬2) الجواب الباهر في زوار المقابر ص 50، لابن تيمية، تحقيق: سليمان الصنيع وعبدالرحمن المعلمي، 1404، الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والافتاء، الرياض. (¬3) مجموع الفتاوى (27/ 26 - 27).

بيوتكم قبوراً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم»: "وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره - صلى الله عليه وسلم -، وإلى غيره من القبور والمشاهد، لأن ذلك من اتخاذها أعياداً، بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها، كما وقع من عباد القبور الذين يشدون إليها الرحال، وينفقون في ذلك الكثير من الأموال، وليس لهم مقصود إلا مجرد الزيارة للقبور تبركاً بتلك القباب والجدران فوقعوا في الشرك" (¬1). هـ- أما المسائل التي اكتفى فيها جمال الدين السرمري رحمه الله بذكر الأدلة في النهي عنها، فهي: السحر، الحلف بغير الله، تجصيص القبور، والبناء عليها، واتخاذها مساجد، ونحو ذلك من المسائل. وبالجملة لم أقف على كلام كثير للإمام جمال الدين السرمري رحمه الله في تقرير مسائل هذا النوع من أنواع التوحيد، حتى إنه أهمل ذكره في منظومته البديعة (نهج الرشاد في نظم الاعتقاد)، مع أنه ذكر فيها جل مباحث الاعتقاد، وقد يكون توسع في تقرير مسائل توحيد الألوهية في كتبه الأخرى التي لم أقف عليها، ككتابه (صحاح الأحكام وسلاح الحكام) فإنه "جمعه في قوله عليه الصلاة والسلام: «بني الإسلام على خمس ... الخ» " (¬2)، والله أعلم. ¬

(¬1) تيسير العزيز الحميد، ص 312. (¬2) كشف الظنون (2/ 1070).

المبحث الثالث منهج جمال الدين السرمري في تقرير توحيد الأسماء والصفات

المبحث الثالث منهج جمال الدين السرمري في تقرير توحيد الأسماء والصفات - تمهيد: يعتبر هذا المبحث من أوسع المباحث التي تطرق لها جمال الدين السرمري، وذلك -والله أعلم- بسبب أن أهل البدع في عصره قد استشرى شرهم، وانتشر مذهبهم، كما أن هذه المسألة -مسألة الأسماء والصفات- تعتبر محكاً للتمييز بين أهل السنة ومخالفيهم، خاصة لما كثر أهل الأهواء، وأرباب المقالات الفاسدة. المطلب الأول: معنى توحيد الأسماء والصفات: عرفه الشيخ عبدالرحمن السعدي بتعريف جامع حيث قال: "هو اعتقاد انفراد الرب - جل جلاله - بالكمال المطلق من جميع الوجوه، بنعوت العظمة والجلال والجمال التي لا يشاركه فيها مشارك بوجه من الوجوه، وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من جميع الأسماء والصفات، ومعانيها وأحكامها، الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله من غير نفي لشيء منها ولا تعطيل، ولا تحريف ولا تمثيل؛ ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من النقائص والعيوب وعن كل ما ينافي كماله" (¬1). وقد أشار جمال الدين السرمري رحمه الله إلى هذا المعنى، فمن ذلك قوله عن أهل الحق: "قوم أتاهم صحيح النقل فاتبعوا ... سبيله وحموه من مكذبهِ وأثبتوا لإله العرش ما ثبتت ... فيه النقول بلا شبه يُقاس بهِ فرام بعض أولي التعطيل دحضهم ... فآب من قصده الأدنى بأخيبهِ" (¬2). ¬

(¬1) القول السديد شرح كتاب التوحيد ص 40، لعبدالرحمن السعدي، تحقيق: صبري شاهين، الطبعة الأولى 1425، دار الثبات، الرياض. (¬2) الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية، ص 66.

المطلب الثاني: منهج جمال الدين السرمري في تقرير توحيد الأسماء والصفات

وقال في موضع آخر في معرض كلامه على قوله - صلى الله عليه وسلم - «لوجدتني عنده»: "ولا يجوز أن يُتعدَّى في هذه الأحاديث ونحوها ما وردت به السنة، لأنها من أحاديث الصفات التي لا يجوز تأويلها بما ينافي مقتضاها، نسأل الله تعالى العصمة والعافية من التأويل والتعطيل والتحريف والتكييف والتبديل" (¬1). وهذا التوحيد أجل المعارف لأنه معرفة الله بأسمائه وصفاته، وعلى هذه المعرفة تبنى العبادة، فإذا لم يعرف العبد ربه فكيف يعبده؟ كيف يعبد إلهاً يجهله؟ لذا استفاضت الأدلة بذكره والتنويه به لأنه كلما كان الأمر مهماً كثر إيضاحه وبيانه. المطلب الثاني: منهج جمال الدين السرمري في تقرير توحيد الأسماء والصفات: 1 - إثبات الصفات مع نفي العلم بالكيفية: قرر جمال الدين السرمري رحمه الله إثبات الصفات وإمرارها كما جاءت بلا كيف، وأنه لا تلازم بين إثبات الصفات وبين تكييفها، وقد أولى هذه المسألة اهتماماً كبيراً، إذ أكد عليها في مواضع متعددة فقال: "وينزل لا تكييف لي في نزوله ... تعالى سما الدنيا يقول سلو سَتري وذلك إذ يبقى من الليل ثلثه ... كذلك حتى يُفصل الليل بالفجرِ وربي كما قد جاء في قوله استوى ... على العرش أما كيف ذاك فلا أدري ومذهبنا لا كيف لا مثل لا لما ... بالاقرار والإمرار من غير ما فسرِ" (¬2). ¬

(¬1) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 124. (¬2) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 31.

وقال في موضع آخر: "وإن أحاديث الصفات وآيُها ... تمر كمر السحب من غير ما نشر وما جاء عن القرآن أوضح نقله ... عن السيد المختار من ناقلي الأثر تلقته منَّا بالقبول قلوبنا ... وذلّت له الأسماع في العُسر واليسر" (¬1). وما قرره جمال الدين السرمري رحمه الله هو منهج أهل السنة والجماعة في هذا الباب. قال سفيان بن عيينة: "سئل ربيعة عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ المبين، وعلينا التصديق" (¬2). وروي هذا الكلام بنحوه عن الإمام مالك، واشتهر عنه فعن جعفر بن عبدالله قال: "جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبدالله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف استوى؟ قال " فما رأيت مالكاً وجد من شيء كموجدته من مقالته وعلاه الرحضاء -يعنى العرق- قال: واطرق القوم وجعلوا ينتظرون ما يأتى منه فيه، قال: فسُرِّي عن مالك فقال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فإني أخاف أن تكون ضالاً وأمر به فأخرج" (¬3). قال الإمام الذهبي عقبه: "هذا ثابت عن مالك، وتقدم نحوه عن ربيعة شيخ مالك، وهو قول أهل السنة قاطبة أن كيفية الاستواء لا نعقلها، بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به، لا نعمق ولا نتحذلق ولا نخوض في لوزام ذلك نفياً ولا إثباتاً، بل نسكت ونقف كما وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون، ولما وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عنه، ونعلم يقيناً مع ذلك أن الله - جل جلاله - لا مثل له ¬

(¬1) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 32. (¬2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ص 442، للإمام اللالكائي. (¬3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ص 441، للإمام اللالكائي.

في صفاته ولا في استوائه ولا في نزوله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً" (¬1). وقال الحافظ أبو القاسم التيمي: "وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات ... وعلى هذا مضى السلف" (¬2). وقال الوليد بن مسلم: "سألت الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي جاءت في الصفات، فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف" (¬3). قال شيخ الإسلام: "فقولهم - رضي الله عنهم -: (أمروها كما جاءت) رد على المعطلة، وقولهم: (بلا كيف) رد على الممثلة ... -إلى أن قال: - فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة. ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه - على ما يليق بالله - لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهولاً بمنزلة حروف المعجم. وأيضاً: فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ المعنى؛ وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات. وأيضاً: فإن من ينفي الصفات الخبرية - أو الصفات مطلقاً - لا يحتاج إلى أن يقول بلا كيف، فمن قال: إن الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا بلا كيف. وأيضاً: فقولهم: أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ماهي عليه، فإنها جاءت ¬

(¬1) العلو للعلي الغفار ص 139، للإمام الذهبي، تحقيق: أشرف بن عبدالمقصود، الطبعة الأولى 1995 م، مكتبة أضواء السلف، الرياض. (¬2) الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة (1/ 166 - 163)، لأبي القاسم التيمي، تحقيق: محمد بن ربيع المدخلي، 1419، دار الراية، الرياض. (¬3) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/ 149).

2 - تعطيل الصفات أو بعضها تكذيب للوحي

ألفاظ دالة على معاني، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ بلا كيف، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول" (¬1). 2 - تعطيل الصفات أو بعضها تكذيب للوحي: المعطلة: هم الذين عطلوا الرب - سبحانه وتعالى - عما يجب أن يثبت له من الأسماء والصفات، وهم على ثلاثة أقسام: - أهل التخييل: وهم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متكلم ومتصوف، فإنهم يقولون: إن ما ذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما هو تخييل للحقائق، لينتفع به الجمهور، لا أنه بين به الحق، ولا هدى به الخلق، ولا أوضح الحقائق؛ وليس فوق هذا الكفر كفر. - أهل التأويل: هم الذين يقولون: إن النصوص الواردة في الصفات، لم يقصد بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعتقد الناس الباطل، ولكن قصد بها معاني، ولم يبين لهم تلك المعاني، ولا دلهم عليها، ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص عن مدلولها، ومقصوده امتحانهم وتكليفهم وإتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوه كلامه عن مدلوله ومقتضاه، ويعرفوا الحق من غير جهته، وهذا قول الجهمية والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك؛ ولا يخفى ما في ضمن كلام هؤلاء من قصد الإضلال، وعدم النصح، ومناقضة ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما وصفه الله به من الرأفة والرحمة. - أهل التجهيل: هم الذين يقولون: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعرف معاني ما أنزل الله عليه من آيات الصفات، ولا جبريل يعرف معاني الآيات، ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (5/ 39 - 42). (¬2) انظر: الفتوى الحموية الكبرى ص 277 - 285، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق د. حمد التويجري، الطبعة الثانية 1425، دار العصيمي، الرياض.

وقد قرر جمال الدين السرمري رحمه الله بطلان هذا المذهب، وبين أن مقصود أصحابه تكذيب الوحي، فقال: "يدور على التعطيل لا دَرّ دَرُّه بتمويه قولٍ في المخارج مُزْورِّ وما قصده نفي المخارج ويحه بلى قصده نفيُ الكلام من السِّفر فتبًّا لهذا المذهب المُذهب الذي ... أقلُّ أذى فيه بصاحبه يُزري" (¬1). كما رد على من شنع على أهل السنة لإثباتهم معاني الصفات وعدم تعطيلها بالحشو، وأن العبرة بالحقائق لا بالألقاب والشناعات، فقال في رده على السبكي: "وسمت بالحشو أهل الحق إذ ملأوا ... وظائف العلم من قولٍ بأطيبه قومٌ أتاهم صحيح النقل فاتبعوا ... سبيله وحموه من مكذبه وأثبتوا لإله العرش ما ثبتت ... فيه النقول بلا شبه يُقاس به فرام بعض أولي التعطيل دحضهم ... فآب من قصده الأدنى بأخيبه فكل من قصرت في العلم رتبته ... وقلَّ ديناً تجرَّا في توثبه فأحمد المصطفى عُودي وقيل له ... مُذمَّمٌ وتعالوا في تجنُّبه وقيل ساحرٌ أو مجنون أو رجل ... معلمٌ كاهنٌ يسمو بأكعُبه لو كان الاسم يشين الفعل في رجل ... لشان خير البرايا من ملقبه" (¬2). وقال أيضاً في (منامات رؤيت لشيخ الإسلام ابن تيمية)، وهي رؤى فيها الثناء على منهج ابن تيمية في الاعتقاد، وبطلان مذهب المعطلة: "وجدت بخط المحدّث الفاضل العالم نجم الدين ¬

(¬1) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 30. (¬2) الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية، ص 65 - 67.

إسحاق ابن أبي بكر بن ألْمى التركي (¬1)، قال: أخبرنا فقير يعرف بعبدالله، وذهب عني اسم والده، ورأيت جماعة من أصحابنا يثنون على دينه، ويذكرونه بالصلاح والخير، قال: رأيت بدمشق في النوم ليلة الجمعة في رجب سنة خمس وسبعمائة، وكأنني خرجت من بيتي، لبعض حاجة، وكأن قائلاً يقول لي: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، فأتيت إليه فرأيته جالساً على دكان خباز، فسلمت عليه وذهبت لأتكلم فلم أُطق الكلام، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عبدالله قل ما عندك، فقلت: يا رسول الله ما تنظر ما الناس فيه من الاختلاف وكثرة الأهواء والفتن؟ قال: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال لي: يا عبدالله الحق مع أحمد ابن تيمية، وهو سالك على طريقي، وعلى قدمي، وما جئت إلا لأفصل بينهم، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضب وتكلم بكلام لم أفهمه، إلا أنني فهمت في آخره وهو يقول: أيقدرون أن ينكروا معراجي؟ فوالذي نفسي بيده لقد أُسري بي من سماء إلى سماء، ورأيت ربي، ووضع - صلى الله عليه وسلم - إصبعه اليمنى تحت عينه اليمنى، أو كما قال" (¬2). يشير بهذا إلى بطلان مذهب من يعطل صفة العلو لله - سبحانه وتعالى -. وما قرره جمال الدين السرمري رحمه الله من بطلان مذهب التعطيل هو ما صرح به الأئمة. قال عبدالرحمن بن مهدي: "إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن الله كلّم موسى وأن يكون على العرش، أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم" (¬3). وقال علي بن عاصم شيخ الإمام أحمد: "ما الذين قالوا: إن لله سبحانه ولداً أكفر من الذين قالوا: إن الله سبحانه لم يتكلم" وقال أيضاً: "احذروا من المريسي وأصحابه فإن كلامهم من الزندقة، وأنا كلمت أستاذهم فلم يثبت أن في السماء إلهاً" (¬4). ¬

(¬1) هو الشيخ المحدث، العالم الفقيه نجم الدين أبو الفضل إسحاق بن ابن أبي بكر ابن ألمى بن أطُز التركي، توفي بعد 720. انظر: الرد الوافر، ص 159 - 160. (¬2) الرد الوافر، ص 234. (¬3) اجتماع الجيوش الإسلامية، ص 134. (¬4) اجتماع الجيوش الإسلامية، ص 135.

3 - تنزيه صفات الله - جل جلاله - عن مماثلة صفات المخلوقين

وقال وهب بن جرير: "إياكم ورأي جهم فإنهم يحاولون أن ليس في السماء شيء وما هو إلا من وحي إبليس وما هو إلا الكفر" (¬1). وقال الإمام ابن القيم في معرض ذكره لأنواع الإلحاد في أسمائه تعالى: "ورابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها، وجحد حقائقها، كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم: إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني، فيطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم والمريد ويقولون: لا حياة له، ولا سمع، ولا بصر، ولا كلام، ولا إرادة تقوم به، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً وشرعاً ولغةً وفطرة، وهو يقابل إلحاد المشركين، فإن أولئك أعطوا أسماءه لآلهتهم، وهؤلاء سلبوه صفات كماله، وجحدوها، فكلاهما ملحد في أسمائه ... وكل من جحد شيئاً عما وصف الله به نفسه، أو وصف به رسوله فقد ألحد في ذلك فليستقل أو ليستكثر" (¬2). والأقوال في ذلك من السلف متواترة، ويضيق المقام عن حصرها. 3 - تنزيه صفات الله - جل جلاله - عن مماثلة صفات المخلوقين: من قواعد أهل السنة والجماعة تنزيه الله - جل جلاله - عن مماثلة صفات المخلوقين، وهذه المسألة تكلم فيها أهل السنة بناءاً على النصوص الواردة في نفي التمثيل، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: من الآية 11]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: من الآية 65]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] وغيرها من الأدلة. وبينوا بطلان مذهب المشبهة: وهم الذين يمثلون صفات الله بصفات المخلوقين كقول بعضهم: لله سمع كسمعي، وبصر كبصري؛ وأن هذا نوع من الإلحاد في أسماء الله وصفاته الوارد في قوله - عز وجل -: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]. ¬

(¬1) اجتماع الجيوش الإسلامية، ص 136. (¬2) بدائع الفوائد (1/ 180)، لابن القيم، تحقيق: هشام عطا وعادل العدوي وأشرف أحمد، الطبعة الأولى 1416، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة.

وقد قرر جمال الدين السرمري رحمه الله هذا الأصل في أكثر من موضع، ومن ذلك قوله: "أقرُّ بأنَّ الله جل جلاله ... تعالى عن التشبيه والوصف والحصر (¬1) سميع بصير ليس شيء كمثله ... كما جاء في القرآن إن كنت من تدري فسبحانه من مالكٍ متكبرٍ ... تفرَّد دون الخلق بالعزِّ والقهر" (¬2). ويقصد بقوله: "تعالى عن الوصف" أي مما هو من خصائص المخلوقين. وقال في موضع آخر: "وأشهد أن لا إله إلا الله الغني عن الشركاء، المنزه عن الأشباه والنظراء، المقدّس عن الصاحبة والوزارء، المبرئ عن الآباء والأبناء ... " (¬3). وقال في موضع آخر عن أهل الحق -أهل السنة-: "وأثبتوا لإله العرش ما ثبتت ... فيه النقول بلا شبه يُقاس به" (¬4). وما قرره جمال الدين السرمري رحمه الله من تنزيه صفات الله - جل جلاله - عن مماثلة صفات المخلوقين هو معتقد أهل السنة والجماعة - كما تقدم -. قال الحافظ المقدسي رحمه الله ناقلاً اتفاق السلف على نفي التشبيه والتمثيل: "اعلم وفقنا الله وإياك لما يرضيه من القول والنية والعمل، وأعاذنا وإياك من الزيغ والزلل، أن صالح السلف، وخيار الخلف، وسادة الأئمة، وعلماء الأمة، اتفقت أقوالهم، وتطابقت آراؤهم على الإيمان بالله - عز وجل -، وأنه أحد فرد صمد، حي قيوم، سميع بصير، لا شريك له ولا وزير، ولا شبيه له ولا نظير، ¬

(¬1) أسماؤه تعالى ليست محصورة بعدد، يدل لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الهم: «أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» فهذا يدل على أن لله أسماء استأثر بعلمها، وهذه الأسماء متضمنة لصفات لا يعلمها العباد، فأسماؤه تعالى وصفاته لا يحيط بها إلا هو، وأما العباد فلا يحيطون بها علماً، فتبين بهذا أن صفاته تعالى وأسماءه ليست محصورة بعدد، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» فالعباد لا يحصون الثناء على الله، لأنهم لا يعلمون كل ما لله من الأسماء والصفات التي يكون بها الثناء عليه سبحانه. (¬2) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 31. (¬3) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 1 ب. (¬4) الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية، ص 66.

4 - أزلية الصفات

ولا عدل ولا مثل" (¬1). وقال ابن القيم في معرض ذكره لأنواع الإلحاد في أسمائه تعالى: "وخامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه، تعالى الله عما يقول المشبهون علواً كبيراً، فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة فإن أولئك نفوا صفات كماله وجحدوها، وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه، فجمعهم الإلحاد، وتفرقت بهم طرقه" (¬2). 4 - أزلية الصفات: قرر جمال الدين السرمري رحمه الله هذه المسألة تقريراً بيناً واضحاً، لا لبس فيه ولا غموض، إذ كان منهجه في ذلك إثبات أن الله متصف بهذه الصفات منذ الأزل، لم يخل - عز وجل - من هذه الصفات طرفة عين، قائمة به أزلاً وأبداً، وأن من قال أن الله وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها فقد كفر. قال رحمه الله في معرض رده على السبكي: "إن قلتَ كان ولا علم لديه ولا ... كلام لا قدرة أصلاً كفرتَ به أو قلتَ أحدثها بعد استحالتها ... في حقه سمت نقصٍ ما احتججت به أو قلتَ فعلُ اختيارٍ منه ممتنعٌ ... ضاهيت قول امرئٍ مُغوٍ بأنصُبِهِ ولم يزل بصفات الفعل متصفاً ... وبالكلام بعيداً في تقربه" (¬3). وما قرره جمال الدين السرمري رحمه الله هو منهج أهل السنة والجماعة في هذا الباب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، وهذا قول أئمة السنة، ¬

(¬1) الاقتصاد في الاعتقاد ص 78، لعبدالغني المقدسي، تحقيق: أحمد الغامدي، الطبعة الأولى 1414، مكتبة العلوم والحكم، المدينة. (¬2) بدائع الفوائد (1/ 180). (¬3) الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية، ص 71 - 73.

5 - التفسير السلفي لنصوص الصفات

وهو الحق الذي يدل عليه العقل والنقل؛ وكذلك أفعاله، فإن الفعل والكلام صفة كمال، فإن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يخلق أكمل ممن لا يخلق، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17]، وحينئذ فهو ما زال متصفاً بصفات الكمال، منعوتاً بنعوت الإكرام والجلال" (¬1). وقال الإمام ابن أبي العز: "أن الله - سبحانه وتعالى - لم يزل متصفاً بصفات الكمال: صفات الذات وصفات الفعل، ولا يجوز أن يعتقد أن الله وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها، لأن صفاته -سبحانه- صفات كمال، وفقدها صفة نقص، ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفاً بضده" (¬2). وهذه المسألة لها ارتباط مباشر بمسألة تسلسل الحوادث -وقد تقدم الكلام عنها-. 5 - التفسير السلفي لنصوص الصفات: تكلم جمال الدين السرمري رحمه الله على تفسير بعض نصوص الصفات، وكان في تفسيره سائراً على منهج أهل السنة والجماعة، ومن ذلك قوله في تفسير حديث «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: أي رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ... »: "وأما قوله: «لوجدتني عنده» فهو مثل قوله: «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي» وقوله: «أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما الآخر»، ويجوز أن يكون أراد (قريب) من العائد والمطعم والساقي بالقبول والإنابة على ما نووه وأمَّلوه من الأجر فيما فعلوه، ويكون المراد بقوله: «لوجدتَ ذلك عندي» أي وجدتَ أجرَ ذلك، أو أجر ذلك مكتوباً، أو موفوراً عندي، والله أعلم. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى، ص 384. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية، ص 79.

وهو من قبيل: «من تقرَّب إليَّ شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرَّب إليَّ ذراعاً تقرَّبت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيتُه هرولة» ولا يجوز أن يتعدَّى في هذه الأحاديث ونحوها ما وردتْ به السنة، لأنها من أحاديث الصفات التي لا يجوز تأويلها بما ينافي مقتضاها، نسأل الله العصمة والعافية من التأويل والتعطيل والتحريف والتكييف والتبديل" (¬1). وقال في موضع آخر عند كلامه على صفة التردد في قبض نفس المؤمن والكراهية لله - جل جلاله - الواردة في الحديث القدسي «ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته»: "وليس هذا التردد كتردد الجاهل الذي لا يعرف العاقبة، ولا كراهيته كراهة العاجز الذي لا يمكنه دفع ما يكره، فإنه سبحانه عالم بالعواقب، قادر على ما يشاء، لا يكون إلا ما شاء، ولا يشاء إلا ما يكون، وهو سبحانه يقدِّر مع كراهته أشياء من مقدوراته التي يبغضها ويقضيها ويشاؤها من أنواع الكفر والفسوق والعصيان، فتجتمع الإرادة والكراهة في شيء واحد، فهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] " (¬2). وما ذكره جمال الدين السرمري رحمه الله من تفسير هذا الحديث صحيح موافق لمنهج السلف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية حينما سئل عن هذا الحديث: "هذا حديث شريف رواه البخاري من حديث أبي هريرة وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء، وقد رد هذا الكلام طائفة وقالوا: إن الله لا يوصف بالتردد وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور والله أعلم بالعواقب، وربما قال بعضهم: إن الله يعامل معاملة المتردد، والتحقيق: أن كلام رسوله حق وليس أحد أعلم بالله من رسوله ولا أنصح للأمة منه ولا أفصح ولا أحسن بياناً منه فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس، وأجهلهم وأسوئهم أدباً بل يجب تأديبه ¬

(¬1) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 123 - 124. (¬2) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 128.

6 - تعداد بعض الأسماء والصفات

وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الظنون الباطلة، والاعتقادات الفاسدة، ولكن المتردد منا وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور، لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ثم هذا باطل، فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد فيريد الفعل لما فيه من المصلحة ويكرهه لما فيه من المفسدة، لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يُحب من وجه ويكره من وجه ... ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث ... " (¬1). 6 - تعداد بعض الأسماء والصفات: تعرض جمال الدين السرمري رحمه الله في مواضع من كتبه إلى ذكر عدد من أسماء وصفات الله - سبحانه وتعالى - إجمالاً من غير تعليق عليها، وهو يذكرها عرضاً في سياق مسائل أخرى، وفيما يلي ذكر لبعض تلك الأسماء والصفات: المسألة الأولى: تعداد بعض الأسماء: 1) اسم الله (¬2). 2) اسم الرب (¬3). 3) اسم الرحمن، وذكر أن الأسماء الثلاثة السابقة هي أصول أسماء الرب ومجامعها (¬4). 4) الحي (¬5). 5) القيوم، ورجح أن اسم الله الأعظم هو (الحي القيوم) لما تضمنته صفة الحياة لجميع ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (18/ 129). (¬2) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 299 ب. (¬3) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 299 ب. (¬4) انظر: شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 299 ب. (¬5) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 305 أ.

المسألة الثانية: تعداد بعض الصفات

صفات الكمال، وصفة القيومية لجميع صفات الأفعال (¬1). المسألة الثانية: تعداد بعض الصفات: 1) صفة العَجَب (¬2). 2) صفة الحلم (¬3). 3) صفة القرب (¬4). 4) صفة المحبة (¬5). 5) صفة الكره (¬6). 6) صفة التردد في قبض نفس المؤمن (¬7). 7) صفة المشيئة (¬8). 8) صفة العلم (¬9). 9) صفة القدرة (¬10). 10) صفة البغض (¬11). 11) صفة الإرادة (¬12). ¬

(¬1) انظر: شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 305 أ. (¬2) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 63. (¬3) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 87. (¬4) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 123. (¬5) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 127. (¬6) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 128. (¬7) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 128. (¬8) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 128. (¬9) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 128؛ الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية، ص 71. (¬10) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 128؛ الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية، ص 71. (¬11) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 128. (¬12) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 128.

12) صفة الحكم (¬1). 13) صفة السمع (¬2). 14) صفة البصر (¬3). 15) صفة العزة (¬4). 16) صفة القهر (¬5). 17) صفة النزول (¬6). 18) صفة الاستواء (¬7). 19) صفة الكلام (¬8). 20) صفة الكبر (¬9). 21) صفة الرؤية (¬10). 22) صفة الحياء (¬11). 23) صفة الستر (¬12). 24) صفة العلو (¬13). ¬

(¬1) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 128. (¬2) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 31. (¬3) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 31. (¬4) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 31. (¬5) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 31. (¬6) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 31. (¬7) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 31. (¬8) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 33؛ ؛ الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية، ص 71. (¬9) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 33. (¬10) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 38. (¬11) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 120. (¬12) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 120. (¬13) خصائص سيد العالمين [ق 79/و].

25) صفة الأناة (¬1). وما ذكره جمال الدين السرمري رحمه الله من إثبات هذه الأسماء والصفات هو الحق الذي دلت عليه النصوص وقال به أهل السنة الجماعة عدا الصفة الأناة لله - جل جلاله -، فإني لم أقف على نص صريح في إثباتها، والسرمري قد استدل عليها بدليلين: الأول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبدالقيس «إن فيك خصلتين يحبها الله تعالى: الحلم والأناة» فالأناة صفة يحبها الله تعالى (¬2). الثاني: أدلة صفة الرفق لله - سبحانه وتعالى -، وذلك لأن الرفق والأناة مترادفان في المعنى. وما ذكره جمال الدين السرمري في إثبات صفة الأناة لله - جل جلاله - مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة من أن صفات الله توقيفية، والله أعلم. ¬

(¬1) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 87. (¬2) انظر: الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 87.

الفصل الرابع منهج جمال الدين السرمري في سائر أصول الإيمان

الفصل الرابع منهج جمال الدين السرمري في سائر أصول الإيمان وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: الإيمان بالملائكة والإيمان بالرسل. المبحث الثاني: الإيمان باليوم الآخر. المبحث الثالث: الإيمان بالقضاء والقدر.

المبحث الأول: الإيمان بالملائكة والإيمان بالرسل

المبحث الأول: الإيمان بالملائكة والإيمان بالرسل لما كانت المادة العلمية لدى جمال الدين السرمري فيما يتعلق بالملائكة قليلة، أما ما يتعلق بالرسل فأكثرها سيأتي الكلام عليه في القسم الثاني من خطة البحث -قسم التحقيق-، جعلت هذه المادة في مطلبين تحت مبحث واحد. المطلب الأول: الإيمان بالملائكة: الملائكة خلق من خلق الله تعالى خلقهم من نور، يجب الإيمان بوجودهم، وأنهم {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 - 27]، ويجب الإيمان بالملائكة جملة وتفصيلاً، جملة فيما أجمل، وتفصيلاً فيما فصل من أسمائهم، وأوصافهم، وأعمالهم التي كلفهم الله بها، كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة. فالإيمان بالملائكة: أحد أركان الإيمان وأصوله الذي لا يصح اعتقاد مسلم ولا يتم إيمانه إلا به، قال - جل جلاله -: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: من الآية 177]. وقال - سبحانه وتعالى -: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: من الآية 285]. وقال - عز وجل -: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: من الآية 136]. وفي حديث جبريل المشهور عندما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان، قال: «الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خير وشره ... » الحديث (¬1). ¬

(¬1) رواه مسلم (1/ 39)، كتاب الإيمان، باب الإيمان ماهو وبيان خصائله, ح 9.

وقد أجمل الإمام جمال الدين السرمري القول في هذا الأصل، ولم يتطرق -فيما وفقت عليه من كتبه- إلى الذين تخبطوا فيه كما هي الحال عند من يسمون بـ"فلاسفة الإسلام" الذين أنكروا حقيقة الملائكة، وزعموا أنها خيالات وأشكال نورانية يتخيّلها النبي في نفسه، وهي مجردات ليست داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق السماء، ولا تحتها، وليست موصوفة بالصعود، ولا النزول، وليس لها تدبير البتة، ولا تتكلم، ولا تنتقل من مكان إلى مكان ... ونحو ذلك؛ وإنما ذكر السرمري بعضاً من أخبار الملائكة كما دلت عليها النصوص من الكتاب أو السنة, والتي تتضمن إيمانه بوجودهم حقيقة، وما ثبت من أسمائهم وصفاتهم وما وكلوا به من أعمال، وأنهم أحياء ناطقون، لا كما تزعم الفلاسفة. فمن ذلك قوله في الإيمان بإسرافيل - عليه السلام -، وأنه الموكل بالنفخ بالصور: "وينفخ إسرافيل في الصور نفخة ... لصعق وأخرى فيه ينفخ للنشر" (¬1). ومن ذلك ذكره لخبر الملائكة السيارة، فقال في فضل مجالسة أهل الذكر: "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فُضلاً يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكرٌ قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم، حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا افترقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله - عز وجل - وهو أعلم، من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض، يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك، قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا يا رب، قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يارب، قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: قد غفرتُ لهم، وأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا، قال: فيقولون: رب فيهم فلانٌ عبدٌ خطّاء، إنما مر فجلس معهم، قال: فيقول: وله ¬

(¬1) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 38.

قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم» متفق عليه" (¬1). ومن ذلك ذكره لخبر تأمين الملائكة خلف الإمام، فقال في فضل التأمين خلف الإمام عند قوله {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: من الآية 7]: "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه، وذلك أنه جاء في الحديث: إن الملائكة إذا سمعت الإمام يقول: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: من الآية 7] تقول: آمين، فإذا قال العبد: آمين، فقد وافق الملائكة في التأمين، فيغفر له ما تقدم من ذنبه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). ومن ذلك ذكره لخبر ملك الموت، فقال: "عن سعيد بن المسيب عن عبدالرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ونحن في مسجد المدينة فقال: «إني رأيت الليلة عجباً» فقالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: «رأيت رجلاً من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه، فجاءه بره بوالديه فرده عنه ... » (¬3). ومن ذلك ذكره لخبر لعن الملائكة للمرأة الممتعنة عن الفراش لغير عذر، فقال في باب عشرة النساء: "وقال: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء، فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح» متفق عليه" (¬4). ومن ذلك قوله في محبة الملائكة للرائحة الطيبة: "وفي الطيب خاصية أن الملائكة تحبه، والشياطين تنفر منه، وأحب شيء إلى الشياطين الرائحة الكريهة والمنتنة، فلهذا كانت المساجد ومواضع الذكر مهابط الملائكة ومجتمعهم، والحشوش مأوى الشياطين، والأرواح الطيبة تحب الرائحة الطيبة، والأوراح الخبيثة تحب الأرواح الخبيثة، فالخبيثات للخبيثين، والطيبات للطيبين، ¬

(¬1) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 94. (¬2) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 118. (¬3) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 152. (¬4) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 473.

والطيبون للطيبات" (¬1). ومن ذلك قوله في صلاة الملائكة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وقد أمر الله سبحانه المؤمنين بالصلاة والسلام عليه، وأخبر أنه وملائكته يصلون عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] " (¬2). ومن ذلك ذكره لخبر صف الملائكة مع الأنبياء في الإسراء وصلاتهم خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ففي حديث الإسراء عنه - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى جمع الأنبياء والملائكة صفوفاً قال فقدّمني وأمرني أن أصلّي بهم فصليت بهم ركعتين ... " (¬3). ومن ذلك ذكره لخبر تغسيل الملائكة لحنظلة بن أبي عامر - رضي الله عنه -، فقال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضّة» قال أبو أسيد الساعديّ: فذهبنا فنظرنا فإذا رأسه يقطر ماء فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فأرسل إلى امرأته يسألها فأخبرته أنه خرج وهو جنب فولده يقال لهم بنو غسيل الملائكة" (¬4). ومن ذلك ذكره لخبر دنو الملائكة لسماع قراءة ابن خضير - رضي الله عنه -، فقال: "قال: «تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبح الناس ينظرون إليها لا تتوراى منها» وكان حسن الصّوت، فدنوّ السكينة والملائكة لسماع قراءة ابن خضير أعظم من تسمّع الجبال والطير والوحش لصوت داود عليه الصلاة والسلام" (¬5). ومن ذلك قوله في نصرتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "فقال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: من الآية 4] فأيّ ¬

(¬1) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 154 ب. (¬2) شرح اللؤلؤ في النحو، ص 41. (¬3) خصائص سيد العالمين [ق 2/ظ]. (¬4) خصائص سيد العالمين [ق 36/ظ]. (¬5) خصائص سيد العالمين [ق 40/و].

ظهير أعظم من هذا وأيّ ناصر أقوى من هذا فكانت الملائكة المقرّبون أنصاره - صلى الله عليه وسلم - وأعوانه يقاتلون بين يديه في الحروب كفاحاً ويمنعون عنه ويدافعون دونه ولمّا تواعدت قريش ليأخذوه فيقتلوه وقد دخل المسجد يصلّي فسمعوا صوتاً ما ظنّوا أنّه بقي بتهامة جبل إلا نتق فغشي عليهم فما عقلوا حتى قضى صلاته ثم رجع إلى أهله سالماً ثم تواعدوا عليه مرّة أخرى فنهضوا عليه فجاء الصَّفا والمروة حتى التقى أحدهما بالأخرى فحالتا بينه وبينهم ولمّا حلف أبو جهل ليطأنّ عنقه إن رآه مصلّياً فلما همّ بذلك لم يفجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه وقال: رأيت بيني وبينه خندقاً من نار وأهوالاً وأجنحة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضواً عضواً ... " (¬1). ومن ذلك ذكره لخبر ملك الجبال، فقال: "على أنّ محمّداً - صلى الله عليه وسلم - أعطي من تسخير الجبال ما لو شاء لصارت جبال مكّة معه ذهَباً وقال له مَلَكُ الجبال: إن شئت أن أُطْبِقَ عليهم الأخْشَبَينِ يعني جَبلي مكّة على الكفّار فقال - صلى الله عليه وسلم -: «بل أرجو أن يُخْرِجَ اللهُ من أصلابهم من يعبد الله تعالى لا يشرك به شيئاً» " (¬2). ومن ذلك ذكره لخبر سؤال الملكين في القبر: "وذلك أن الميت إذا وضع في قبره جاءه ملكان فيُقعدانِه ويسألانه: من ربك، ومن نبيك، وما دينك ... " (¬3). ومن ذلك ذكره لخبر وصف ملك من الملائكة، فقال: "وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها: «يا عائشة لو شئتُ لسارت معي جبال الذّهب، جاءني ملك إنّ حُجزته لَتُسَاوِي الكعبةَ ... " (¬4). وقال في موضع آخر: "وعن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله أعطى ملكاً من الملائكة أسماع الخلائق فهو قائم على قبري إلى يوم القيامة لا يصلي عليّ ¬

(¬1) خصائص سيد العالمين [ق 44/و-ظ]. (¬2) خصائص سيد العالمين [ق 41/و]. (¬3) خصائص سيد العالمين [ق 29/ظ]. (¬4) خصائص سيد العالمين [ق 41/ظ].

أحد إلا سمّاه باسمه واسم أبيه وقال: يا أحمد صلّى عليك فلان بن فلان وتكفّل لي الربّ - عز وجل - أن أردّ عليه بكل صلاة عليه عشراً - صلى الله عليه وسلم -» " (¬1). ومن ذلك ذكره لخبر وصف الملائكة الذين مر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة المعراج، فقال: "قال: ثم مررت بملك آخر جالس على كرسي قد جُمِعَ له الدنيا بين ركبتيه وفي يديه لوح مكتوب من نور ينظر فيه لا يلتفت يميناً وشمالاً ينظر فيه كهيئة الحزين فقلت: من هذا يا جبريل وما مررت بملك أنا أشدّ خوفاً منه مني من هذا, قال: وما يمنعك كلنا بمنزلتك هذا ملك الموت دائبٌ في قبض الأرواح وهو من أشد الملائكة عملاً وأدأبهِم, قلت: يا جبريل كل من مات ينظر فيه إلى هذا، قال: نعم، قلت: كفى بالموت طامةً، فقال: يا محمّد ما بعد الموت أطمّ وأعظم، قلت: يا جبريل ادنني من ملك الموت أُسَلِّم عليه وأسأله فأدناني منه فسلمت عليه فأومئ إلي فقال له جبريل: هذا محمد نبيّ الرحمة ورسول العرب فرحّب بي وحيّاني وأحسن بشارتي وإكرامي وقال: أبشر يا محمد فإني أرى الخير كله في أمتك, فقلت: الحمد لله المنّان بالنعم, ما هذا اللوح الذي بين يديك؟ قال: مكتوب فيه آجال الخلائق، قلت: فأين أسماء من قبضت أرواحهم في الدهور الخالية؟ قال: تلك الأرواح في لوح آخر قد أعلمت عليها وكذلك أصنع بكل ذي روح إذا قبضتُ روحَه حَلَّقتُ عليها, فقلت: يا ملك الموت سبحان الله كيف تقدر على قبض أرواح جميع أهل الأرض وأنت في مكانك هذا لا تبرح، قال: ألا ترى أن الدنيا كلها بين ركبتيّ وجميع الخلائق بين عينيّ ويداي تبلغان المشرق والمغرب وخلفهما فإذا نفدَ أجل عبد من عباد الله نظرت إليه وإلى أعواني فإذا نظر أعواني من الملائكة أني نظرت إليه عرفوا أنه مقبوض فعمدوا إليه يعالجون نزع روحه فإذا بلغ الروحُ الحلقومَ علمتُ ذلك ولا يخفى عليّ شيء من أمري مَددت يدي إليه فقبضتُه فلا يَلِي قبضَه غيري فذلك أمري وأمر ذوي الأرواح من عباد الله، قال: فأبكاني حديثُه وأنا عنده ثم جاوزنا فمررنا بملك آخر ما رأيت من الملائكة خلقاً مثله عابس كالح الوجه كريه المنظر شديد البطش ظاهر الغضب فلما نظرت إليه رُعبت ¬

(¬1) خصائص سيد العالمين [ق 61/و].

منه جدّاً, فقلت: يا جبريل من هذا فإنّي رُعبت منه رعباً شديداً, قال: فلا تعجب أن تُرعَب منه كلّنا بمنزلتك في الرّعب منه هذا مالك خازن جهنم لم يتبسّم قط ولم يزل منذ ولّاه الله جهنّم يزداد كلّ يوم غضباً وغيظاً على أعداء الله تعالى وأهل معصيته لينتقم منهم, قلت: ادنني منه فأدناني منه فسلم عليه جبريل فلم يرفع رأسه, فقال: جبريل يا ملك هذا محمّد رسول العرب فنظر إليّ وحيّاني وبشّرني بالخير, فقلت: مُذ كَم أنت وَاقِدٌ على جهنم، فقال: منذ خُلقتُ حتى الآن وكذلك حتى تقوم الساعة، قلت: يا جبريل مُره فليُرني طريقاً من النار فأمره ففعَل فخرج منه لهبٌ ساطع أسوَد معه دخان كدر مُظلم امتلأ منه الآفاق فرأيت هولاً عظيماً وأمراً فظيعاً أعجز عن صفته لكم فغشي علي وكاد يذهب نفسي فضمّني جبريل إليه وأمره أن يَرُدّ النارَ فردّها فجاوزناها ... " (¬1). إلى نحو ذلك من الأخبار التي ذكرها جمال الدين السرمري، والتي تتضمن إيمانه -كما تقدم- بوجودهم حقيقة. وما ذكره جمال الدين السرمري هو الحق الذي دلت عليه النصوص وقال به أهل السنة الجماعة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إنه من المتواتر عن الأنبياء صلوات الله عليهم أن الملائكة أحياء ناطقون يأتونهم عن الله بما يخبر به ويأمر به تارة، ويقاتلون معهم تارة، وكانت الملائكة أحياناً تأتيهم في صورة البشر والحاضرون يرونهم، وقد أخبر الله عن الملائكة في كتاب بأخبار متنوعة، وذلك يناقض ما يزعمونه من أن الملك إنما هو الصورة الخيالية التي ترتسم في الحس المشترك أو أنها العقول والنفوس" (¬2). ¬

(¬1) خصائص سيد العالمين [ق 71/و]-[ق 72/و]. (¬2) الرد على المنطقيين ص 489 - 490، لابن تيمية، دار المعرفة، بيروت.

المطلب الثاني: الإيمان بالرسل

المطلب الثاني: الإيمان بالرسل: لقد بعث الله إلى خلقه {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: من الآية 165] وأمر بالإيمان بهم جميعاً: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] فيجب الإيمان بهم جملة وتفصيلاً، وذلك يتضمن الإيمان بمن سمى الله في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأنبياء وبما ثبت من أخبارهم، ومن لم يقص علينا خبرهم يجب الإيمان بهم جملة لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: من الآية 78] ويجب الإيمان بأن الأنبياء جميعاً بشر ليس لهم من خصائص الربوبية شيء، فهم من عباد الله، يجري عليهم ما يجري على البشر، يأكلون ويشربون ويتزوجون ويمرضون ويموتون ويقتلون، ولا يعلمون الغيب، قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: من الآية 20] وأن كلهم جاءوا بالدعوة إلى توحيد الله ونبذ الشرك وإن اختلفت بعض شرائعهم {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: من الآية 36] وأن من كفر بنبي واحد منهم فقد كفر بهم جميعاً، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150 - 151]. فالإيمان بالرسل أحد أركان الإيمان الذي لا تصح عقيدة المسلم إلا بتحقيقه. هذا ما يتعلق بالإيمان بالأنبياء والرسل جملة، أما نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فيجب الإيمان به على وجه الخصوص، مع الاعتقاد بوجوب طاعته في جميع ما أمر به وشرعه، والانتهاء عن جميع ما عنه نهى وزجر، والإيمان بعموم رسالته، وأنه مبعوث للناس عامة قال - عز وجل -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ

إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: من الآية 28] والإيمان بأن الرسالة والنبوة ختمت به، إذا لا نبي بعده، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: من الآية 40]. هذا من أهم ما تضمنه الإيمان بالرسل جملة، والإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه الخصوص. وقد ذكر الإمام جمال الدين السرمري رحمه الله عدداً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما ورد من أخبارهم، وذكر أيضاً ما اختص به المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في كتابه "خصائص سيد العالمين وماله من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام" كما سيأتي دراسته في القسم الثاني من خطة البحث -قسم التحقيق-.

المبحث الثاني: الإيمان باليوم الآخر

المبحث الثاني: الإيمان باليوم الآخر الإيمان باليوم الآخر أصل من أصول الإيمان التي لا يصح إيمان عبد إلا بتحقيقه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: من الآية 177]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، وقال تعالى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: من الآية 232]، وقال تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: من الآية 39]، وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره» (¬1)، والنصوص في ذلك كثيرة. ويجب الإيمان باليوم الآخر جملة وتفصيلاً، فيجب الإيمان بكل ما ورد في الكتاب والسنة من التفصيلات المتعلقة باليوم الآخر، من حياة البرزخ، والنفخ في الصور، والبعث، والحشر، والميزان، والحوض، والصراط، والجنة والنار، والشفاعة، ورؤية المؤمنين لربهم. وقد تطرق جمال الدين السرمري رحمه الله لهذه المسائل، وفيما يلي تقسيم لهذه المسائل وعرض لها بمشيئة الله تعالى. المطلب الأول: حياة البرزخ: البرزخ: هو الحائل بين الشيئين، ومنه قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19 - 20] والمراد به هنا: الفترة من وقت الموت إلى القيامة، فهي برزخ ¬

(¬1) تقدم تخريجه , انظر: ص 184.

بين الدنيا والآخرة (¬1)، قال تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: من الآية 100]. ومن أصول مذهب أهل السنة والجماعة، ولوازم الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بما يحصل في حياة البرزخ. وقد أشار الإمام جمال الدين السرمري إلى هذه الحياة، ونص على ما ورد فيها من ضمة القبر، وتسمية الملكين اللذين يسألان العبد في القبر أنهما منكر ونكير، وأنه يستثنى من هذا السؤال الرسل عليهم السلام. فقال في منظومته في الاعتقاد: "وموت الورى حق ومن بعد بعثهم ... وبينهما لا شك في عصرة القبر ويسألهم فيه نكير ومنكر ... عدا الرسل أرجوا الله يلهمني عذري" (¬2). وما أشار إليه الإمام جمال الدين السرمري من إثبات حياة البرزخ وما يحصل فيها هو مذهب أهل السنة والجماعة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "مذهب سائر المسلمين بل وسائر أهل الملل إثبات (القيامة الكبرى) وقيام الناس من قبورهم والثواب والعقاب هناك، وإثبات الثواب والعقاب في البرزخ -مابين الموت إلى يوم القيامة- هذا قول السلف قاطبة وأهل السنة والجماعة، وإنما أنكر ذلك في البرزخ قليل من أهل البدع، لكن من أهل الكلام من يقول: هذا إنما يكون على البدن فقط كأنه ليس عنده نفس تفارق البدن، كقول من يقول ذلك من المعتزلة والأشعرية، ومنهم من يقول: بل هو على النفس فقط بناء على أنه ليس في البرزخ عذاب على البدن ولا نعيم كما يقول ذلك ابن مسرة وابن حزم، ومنهم من يقول: بل البدن ينعم ويعذب بلا حياة فيه كما ¬

(¬1) انظر: معجم مقاييس اللغة (1/ 333)؛ لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية (2/ 4)، لشمس الدين السفاريني، الطبعة الثانية 1402، مؤسسة الخافقين ومكتبتها، دمشق؛ إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد، لصالح الفوزان، الطبعة الثالثة 1423، مؤسسة الرسالة. (¬2) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 38.

قاله طائفة من أهل الحديث وابن الزاغوني يميل إلى هذا في مصنفه في حياة الأنبياء في قبورهم وقد بسط الكلام على هذا في مواضع، والمقصود هنا: أن كثيراً من أهل الكلام ينكر أن يكون للنفس وجود بعد الموت ولا ثواب ولا عقاب ويزعمون أنه لم يدل على ذلك القرآن والحديث كما أن أن الذين أنكروا عذاب القبر والبرزخ مطلقاً زعموا أنه لم يدل على ذلك القرآن وهو غلط، بل القرآن قد بين في غير موضع بقاء النفس بعد فراق البدن وبيَّن النعيم والعذاب في البرزخ ... " (¬1). وقد أنكر بعض المعتزلة وغيرهم سؤال الملكين، قال التفتازاني: "اتفق الإسلاميون على حقيقة سؤال منكر ونكير في القبر وعذاب الكفار وبعض العصاة فيه ونسب خلافه إلى بعض المعتزلة قال بعض المتأخرين منهم حكي إنكار ذلك عن ضرار بن عمرو وإنما نسب إلى المعتزلة وهم براء منه لمخالطة ضرار إياهم وتبعه قوم من السفهاء المعاندين للحق" (¬2). أما قول جمال الدين السرمري: " وبينهما لا شك في عصرة القبر" (¬3)، فصحيح موافق لما ثبت في النصوص، وعصرة القبر هي: هي أول ما يلاقيه الميت حين يوضع في قبره، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن للقبر ضغطة، ولو كان أحد ناجياً منها نجا منها سعد بن معاذ» (¬4)، وقد علق الألباني على هذا الحديث في الصحيحة (1695) فقال: "وجملة القول أن الحديث بمجموع طرقه وشواهده صحيح بلا ريب، فنسأل الله تعالى أن يهون علينا ضغطة القبر إنه نعم المجيب" (¬5). وأما قول جمال الدين السرمري أنه يستثنى الرسلُ عليهم السلام من فتنة القبر وسؤال الملكين، فلعل ما ذهب إليه السرمري هو الظاهر في المسألة، ويدل على ذلك الأحاديث ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (4/ 262). (¬2) شرح المقاصد في علم الكلام (2/ 220). (¬3) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 38. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (40/ 327) ح 24283، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، الطبعة الثانية 1420، مؤسسة الرسالة. (¬5) سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 271).

المطلب الثاني: النفخ في الصور، والبعث من القبور

الصحيحة التي وردت في أن الشهيد لا يسأل، وألحق به من مات مرابطاً لظاهر حديث: «كل ميت يختم على عمله إلا المرابط، فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة، ويؤمَّن من فتان القبر» (¬1) , وألحق القرطبي بالشهيد الصديق لأنه أعلى مرتبة من الشهيد، ومنه يؤخذ انتفاء السؤال في حقه - صلى الله عليه وسلم - وفي حق سائر الأنبياء (¬2). وعلى كل حال فمسألة استثناء الرسل عليهم السلام من سؤال الملكين ليس وراءها كثير فائدة، وليست من أصول الإيمان، والله أعلم. المطلب الثاني: النفخ في الصور، والبعث من القبور: الصور: هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل - عليه السلام - عند بعث الموتى إلى المحشر (¬3)، ومن أصول الإيمان باليوم الآخر ومستلزماته: الإيمان بالنفخ في الصور. وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري هذا الأصل في منظومته في الاعتقاد، فقال: "وينفخ إسرافيل في الصور نفخة لصعق وأخرى فيه ينفخ للنشر وموت الورى حق ومن بعد بعثهم وبينهما لا شك في عصرة القبر" (¬4). وما قرره جمال الدين السرمري من النفخ في الصور هو الحق الذي دلت عليه النصوص، ومنها: قوله - جل جلاله -: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف: 99] ، وقوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه: 102]، وقوله ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (3/ 9)، كتاب الجهاد، باب في فضل الرباط، ح 2500؛ وقال الألباني: "إسناده صحيح، وصححه ابن حبان". صحيح أبي داود (7/ 260). (¬2) الإيمان والرد على أهل البدع ص 82، لعبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب، الطبعة الثالثة 1412، دار العاصمة، الرياض. (¬3) انظر: النهاية في غريب الأثر (3/ 122)، لسان العرب (4/ 471). (¬4) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 38.

تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87]، وقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51]، وقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزُّمَر: 68]، وقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق: 20]، وقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة: 13 - 15]، وقوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ: 18]. أما ما ذكره جمال الدين السرمري من أن صاحب الصور من الملائكة هو إسرافيل فصحيح موافق لمذهب السلف. قال القرطبي: "والأمم مجمعة على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه السلام " (¬1)، وقد نقل الحليمي أيضاً الإجماع على ذلك (¬2). وقد أشار الإمام جمال الدين السرمري في البيت السابق إلى عدد النفخات في الصور أنها اثنتان، وهذا أصح الأقوال في النفخات، وقد قيل: إن عددها ثلاث، وقيل: أربع (¬3). وأما ما يتعلق بالشق الثاني مما قرره جمال الدين السرمري وهو البعث، أي قيام الناس من قبورهم لرب العالمين، فهذا من المعلوم من الدين بالضرورة، بل من الأديان السماوية جميعاً. وقد قرر القرآن هذا الأصل العظيم بأساليب متعددة، قال ابن القيم: "وقد أعاد الله سبحانه هذا المعنى وأبداه في كتابه، وبأوجز العبارات، وأدلها، وأفصحها، وأقطعها للعذر، ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن (7/ 20)، تحقيق: هشام البخاري، 1423، دار عالم الكتب، الرياض. (¬2) انظر: فتح الباري (11/ 368). (¬3) انظر: فتح الباري (6/ 446)، التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ص 200، للإمام القرطبي، تحقيق: الصادق بن محمد بن إبراهيم، الطبعة الأولى 1425، دار المنهاج، الرياض.

المطلب الثالث: الحشر

وألزمها للحجة" (¬1). بل لم يكن إثبات هذا مقتصراً على ورود الشرع وحده، إذا قد ثبت بدلالة العقل، والفطر السليمة (¬2). ولقد ألحد في عقيدة البعث، وقيام الناس من قبورهم لرب العالمين، ليجازي كل إنسان بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وتخبطوا فيها بعض من يتسمون (بفلاسفة الإسلام) وزعموا أنه من باب التخييل والخطاب الجمهوري، قال ابن أبي العز: "ومحمد - صلى الله عليه وسلم - لما كان خاتم الأنبياء، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين، وكان هو الحاشر المقفي، بيَّن تفصيل الآخرة بياناً لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء، ولهذا ظن طائفة من المتفلسفة ونحوهم أنه لم يُفصح بمعاد الأبدان إلا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجعلوا هذا حجة لهم في أنه من باب التخييل والخطاب الجمهوري ... وهذا كذب، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء، من آدم إلى نوح، إلى إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام" (¬3). المطلب الثالث: الحشر: قال القرطبي: "الحشر: ومعناه الجمع؛ وهو على أربعة أوجه: حشران في الدنيا وحشران في الآخرة. أما الذي في الدنيا، فقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: من الآية 2] ... الثاني: ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين وراهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وتحشر بقيتهم النار تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا» ... ، ¬

(¬1) إعلام الموقعين (1/ 140 - 141). (¬2) شرح العقيدة الطحاوية, ص 272. (¬3) شرح العقيدة الطحاوية، ص 272.

المطلب الرابع: الميزان

قال القاضي عياض: هذا الحشر في الدنيا قبل قيام الساعة، وهو آخر أشراطها ... والحشر الثالث: حشرهم إلى الموقف ... قال تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47]. والرابع: حشرهم إلى الجنة والنار، قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85] ... وقال: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه: من الآية 102] " (¬1). والإيمان بالحشر من أصول الإيمان باليوم الآخر. وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري هذا الأصل بقوله: "وفي الحشر ميزان ونار وجنة وفيه صراط للمزلة والعبر" (¬2). وقد ذكر الإمام جمال الدين السرمري في هذا البيت بعض من أحوال ومواقف ومقامات الحشر، فحالات الناس في الحشر خمسة: حال البعث من القبور، وحال السوق إلى مواضع الحساب، وحال المحاسبة، وحال السوق إلى دار الجزاء، وحال مقامهم في الدار التي يستقرون فيها (¬3)؛ وسيأتي بيان وتفصيل المواقف التي ذكرها الإمام جمال الدين السرمري في البيت السابق في المطالب القادمة -إن شاء الله تعالى-. المطلب الرابع (*): الميزان: دل الكتاب، والسنة، وإجماع أهل السنة على إثبات الميزان يوم القيامة، وهو ميزان حقيقي له لسان وكفتان. قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8 - 9]، وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ¬

(¬1) التذكرة، ص 225. (¬2) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 38. (¬3) انظر: التذكرة، ص 232. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: بالمطبوع (الخامس)

وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102 - 103]، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 6 - 9]. أما من السنة: فإن الأحاديث التي جاءت في إثبات الميزان قد بلغت حد التواتر، حكى ذلك غير واحد من العلماء (¬1). كما أن أهل السنة أجمعوا على القول بإثباته كما ورد في النصوص. قال الزجاج: "أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان، ويميل بالأعمال" (¬2). وقال السفاريني: "والحاصل أن الإيمان بالميزان كأخذ الصحف ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ... - إلى أن قال: - وانعقد إجماع أهل الحق من المسلمين عليه ... " (¬3). فالإيمان بالميزان من أصول الإيمان باليوم الآخر. وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري هذا الأصل بقوله: "وفي الحشر ميزان ونار وجنة وفيه صراط للمزلة والعبر" (¬4). وقال في موضع آخر: "وقد جاء أن الله تعالى يوقفُ عبداً في الحساب، فتوزن حسناته وسيِّئاته ... " (¬5). ¬

(¬1) نظم المتناثر من الحديث المتواتر ص 231، لمحمد بن جعفر الكتاني، الطبعة الثانية، دار الكتب السلفية، مصر؛ لوامع الأنوار البهية (2/ 185)؛ السلسلة الصحيحة (1/ 134) غير أن الألباني -رحمه الله- لم يجزم ببلوغها حد التواتر، وإنما قال: "والأحاديث في ذلك -أي الميزان- متضافرة إن لم تكن متواترة". (¬2) فتح الباري (13/ 538). (¬3) لوامع الأنوار (2/ 184 - 185). (¬4) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 38. (¬5) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 106.

وما قرره جمال الدين السرمري من الإيمان بالميزان هو مذهب أهل السنة والجماعة -كما تقدم-، وقد خالف في هذا الأصل الجهمية وجمهور المعتزلة، بل إن بعض العلماء ذهب إلى أن جميع المعتزلة تنكره، فنفوا أن يكون الميزان حقيقي، إذ زعموا أن الأعمال أعراض، والأعراض لا توزن، وإن أمكن إعادتها فلا يمكن وزنها إذ لا توصف بالخفة والثقل، وقالوا أيضاً: الوزن للعلم بمقدارها، وهي معلومة لله تعالى، فلا فائدة فيه، فيكون قبيحاً تنزه عنه الرب تعالى، وتأولوا النصوص الواردة في الميزان بأنه العدل (¬1)، وقد رد عليهم العلماء وأوضحوا خطأهم في هذا التأويل الباطل، حتى إن أحد كبار أئمتهم -وهو القاضي عبدالجبار- رد على من يؤول ذلك التأويل. يقول القاضي عبدالجبار: "أما وضع الموازين فقد صرح الله تعالى في محكم كتابه، قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: من الآية 47] وقوله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ ... } الآية ... [الأعراف: 8] إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمن هذا المعنى، ولم يرد الله تعالى بالميزان إلا المعقول منه المتعارف فيما بيننا دون العدل وغيره على ما يقوله بعض الناس، لأن الميزان وإن ورد بمعنى العدل في قوله: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد: من الآية 25] فذلك على طريق التوسع والمجاز، وكلام الله تعالى مهما أمكن حمله على الحقيقة لا يجوز أن يعدل به عنه إلى المجاز؛ يبين ذلك ويوضحه، أنه لو كان الميزان إنما هو العدل، لكان لا يثبت للثقل والخفة فيه معنى، فدل على أن المراد به الميزان المعروف الذي يشتمل على ما تشمل عليه الموازين فيما بيننا ... " (¬2). ¬

(¬1) انظر: شرح المقاصد في علم الكلام (2/ 223) للتفتزاني؛ التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص 98، لأبي الحسين الملطي، تحقيق: محمد زاهد الكوثري، الطبعة الثانية 1977 م، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة؛ فتح الباري (13/ 538)؛ مقالات الإسلاميين ص 472 - 473، لأبي الحسن الأشعري، تحقيق: هلموت ريتر، الطبعة الثالثة، دار إحياء التراث، بيروت؛ كتاب المواقف (3/ 524)؛ روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني (17/ 6)، محمود الألوسي، دار إحياء التراث، بيروت. (¬2) شرح الأصول الخمسة ص 735، للقاضي عبدالجبار بن أحمد، تحقيق: عبدالكريم عثمان، الطبعة الثالثة 1416، مكتبة وهبة، القاهرة.

وقال الزجاج بعد أن ذكر الأقوال في معنى الميزان، -ومنها قول من قال: إنه العدل-: "هذا سائغ من جهة اللسان والأولى أن يتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان" (¬1)، قال القشيري تعليقاً على كلام الزجاج: "وقد أحسن الزجاج فيما قال، إذ لو حمل هذا فليحمل الصراط على الدين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة - ثم قال: - وقد أجمعت الأمة في الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل، وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر، وصارت هذه الظواهر نصوصاً" (¬2). وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي: "ويا خيبة من ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة كما أخبر الشارع لخفاء الحكمة عليه، ويقدح في النصوص بقوله: لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال! وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزناً، ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه لجميع عباده، فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه" (¬3). ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن (7/ 147)، للإمام القرطبي؛ فتح القدير (2/ 216)، للإمام الشوكاني، الطبعة الأولى 1414، دار ابن كثير - دار الكلم الطيب، دمشق -بيروت. (¬2) المصدران السابقان. (¬3) شرح العقيدة الطحاوية، ص 282.

المطلب الخامس: الحوض

المطلب الخامس (*): الحوض: الحوض في اللغة: مجتمع الماء (¬1)، المراد بالحوض هنا: هو المورد الموعود به النبي - صلى الله عليه وسلم - في عرصات القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر، وعرضه شهر، من يشرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً (¬2). ومن أصول الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بالحوض. وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري هذا الأصل في منظومته في الاعتقاد، فقال: "وللمصطفى حوض لورد أولى التقى أباريقه في العدِّ كالأنجم الزهر" (¬3). وما قرره الإمام جمال الدين السرمري هو الحق الذي دلت عليه النصوص، وأجمع عليه أهل السنة والجماعة. قال ابن كثير رحمه الله: "ذكر ما ورد في الحوض المحمدي سقانا الله منه يوم القيامة من الأحاديث المشهورة المتعددة من الطرق المأثورة الكثيرة المتضافرة، وإن رغمت أنوف كثير من المبتدعة المكابرة القائلين بجحوده، المنكرين لوجوده ... " (¬4). وقال الإمام ابن أبي العز: "الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حد التواتر، رواها من الصحابة بضع وثلاثون صحابياً - رضي الله عنهم - ... " (¬5). وقال القاضي عياض - رحمه الله - فيما ينقله النووي: "أحاديث الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان، وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة، لا يتأول ولا يختلف فيه -وقال القاضي: - وحديثه متواتر النقل رواه خلائق من الصحابة ... " (¬6). ويقول ابن حجر: " وقال القرطبي في (المفهم) تبعاً للقاضي عياض في غالبه -أي أغلب الكلام الآتي-: مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله سبحانه وتعالى قد خص نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي ¬

(¬1) لسان العرب (7/ 141). (¬2) مجموع الفتاوى (3/ 146). (¬3) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 38. (¬4) النهاية في الفتن والملاحم (1/ 374)، لابن كثير، تحقيق: محمد أحمد عبدالعزيز، الطبعة 1408، دار الجيل، بيروت. (¬5) شرح العقيدة الطحاوية ص 145، وانظر: نظم المتناثر من الحديث المتواتر ص 236 - 238. (¬6) شرح صحيح مسلم (15/ 53). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: بالمطبوع (السادس)

المطلب السادس: الصراط

يحصل بمجموعها العلم القطعي ... وأجمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف، وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة وأحالوه على ظاهره وغلوا في تأويله من غير استحالة عقلية ولا عادية تلزم من حمله على ظاهرة وحقيقته ولا حاجة تدعو إلى تأويله فخرق من حرفه إجماع السلف وفارق مذهب أئمة الخلف" (¬1). المطلب السادس: الصراط: الصراط: وهو جسر ممدود على ظهر جهنم مدحضة مزلة، أحدّ من السيف وأدق من الشعر، وأحر من الجمر، عليه خطاطيف تأخذ الأقدام، وعبوره بقدر الأعمال، مُشاة وركباناً وزحفاً، يمر عليه المسلم والكافر، فيجوزه المؤمن كالبرق والريح وأجاويد الخيل والركبان والمشاة، فناج مسلم ومخدوش ومكردس في النار (¬2). وقد دلت الأدلة في الكتاب والسنة على إثبات الصراط قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71 - 72] ذهب أكثر المفسرين أن المقصود بورود النار هنا: المرور على الصراط، وهو منقول عن ابن مسعود وجابر والحسن وقتادة وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم والكلبي وغيرهم (¬3). وقال ابن جرير رحمه الله بعد أن حكى الخلاف في تفسير الآية: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: يردها الجميع ثم يصدر عنها المؤمنون، فينجيهم الله، ويهوي فيها الكفار، وورودها هو ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مرورهم على الصراط المنصوب على متن جهنم، فناج مسلم، ومكدس فيها" (¬4). ¬

(¬1) فتح الباري (11/ 467). (¬2) التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق وتذكرة أولي الألباب في طريقة الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1/ 126)، لسليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، الطبعة الأولى 1404، دار طيبة، الرياض. (¬3) التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار ص 249، لابن رجب الحنبلي، 1399، مكتبة دار البيان، دمشق. (¬4) جامع البيان في تأويل القرآن (18/ 234)، لابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد شاكر، الطبعة الأولى 1420، مؤسسة الرسالة.

وقال ابن أبي العز: " واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: من الآية 71] ما هو؟ والأظهر والأقوى أنه المرور على الصراط، قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72]، وفي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده، لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة»، قالت حفصة: فقلت: يا رسول الله، أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: من الآية 71] فقال: «ألم تسمعيه قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72]» أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله، بل تستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه عدوه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه، يقال: نجاه الله منهم ... وكذلك حال الوارد في النار، يمرون فوقها على الصراط، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً، فقد بين - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر المذكور: أن الورود هو الورود على الصراط" (¬1). أما من السنة: فقد حكى بعض العلماء أن أحاديث الصراط بلغت حد التواتر المعنوي (¬2). والإيمان بالصراط من أصول الإيمان باليوم الآخر. وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري هذا الأصل بقوله: "وفي الحشر ميزان ونار وجنة وفيه صراط للمزلة والعبر" (¬3). وما قرره جمال الدين السرمري من الإيمان بالصراط المنصوب على متن جهنم هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافاً للمعتزلة الذين يأولون النصوص الواردة في الصراط عن ظاهرها. قال السفاريني: "اتفقت الكلمة على إثبات الصراط في الجملة، لكن أهل الحق يثبتونه على ظاهره من كونه جسراً ممدوداً على متن جهنم، أحد من السيف وأدق من الشعر، وأنكر هذا الظاهر القاضي عبد الجبار المعتزلي، وكثير من أتباعه زعماً منهم أنه لا يمكن عبوره، وإن أمكن ففيه تعذيب، ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة، وإنما المراد طريق الجنة ¬

(¬1) شرح العقيدة الطحاوية، ص 280. (¬2) انظر: نظم المتناثر من الحديث المتواتر، ص 231. (¬3) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 38.

المشار إليه بقوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 5]، وطريق النار المشار إليه بقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: من الآية 23]. ومنهم من حمله على الأدلة الواضحة، والمباحات والأعمال الرديئة ليسأل عنها ويؤاخذ بها، وكل هذا باطل وخرافات، لوجوب رد النصوص على حقائقها، وليس العبور على الصراط بأعجب من المشي على الماء أو الطيران في الهواء، والوقوف فيه، وقد أجاب - صلى الله عليه وسلم - عن سؤال حشر الكافر على وجهه بأن القدرة صالحة لذلك، وأنكر العلامة القرافي كون الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف، وسبقه إلى ذلك شيخه العز بن عبد السلام، والحق أن الصراط وردت به الأخبار الصحيحة، وهو محمول على ظاهره بغير تأويل كما ثبت في الصحيحين والمسانيد والسنن والصحاح مما لا يحصى إلا بكلفة من أنه جسر مضروب على متن جهنم يمر عليه جميع الخلائق، وهم في جوازه متفاوتون. وقال المنكر لكون الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف: هذا إن ثبت حمل على غير ظاهره لمنافاته للأحاديث الأخر من قيام الملائكة على جنبتيه، وكون الكلاليب والحسك فيه، وإعطاء كل من المارين عليه من النور قدر موضع قدميه. قال القرافي: والصحيح أنه عريض، وقيل: طريقان يمنى ويسرى، فأهل السعادة يسلك بهم ذات اليمين، وأهل الشقاوة يسلك بهم ذات الشمال، وفيه طاقات كل طاقة تنفذ إلى طبقة من طبقات جهنم، وجهنم بين الخلق وبين الجنة، والجسر على ظهرها منصوب فلا يدخل أحد الجنة حتى يمر على جهنم، وهو معنى قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: من الآية 71] على أحد الأقوال. ثم قال القرافي تبعاً للحافظ البيهقي: كون الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف لم أجده في الروايات الصحيحة، وإنما يروى عن بعض الصحابة، فيؤول بأن أمره أدق من الشعر، فإن يسر الجواز عليه وعسره على قدر الطاعات والمعاصي، ولا يعلم حدود ذلك إلا الله تعالى، وقد جرت العادة بضرب دقة الشعر مثلا للغامض الخفي، وضرب حد السيف لإسراع الملائكة في المضي لامتثال أمر الله، وإجازة الناس عليه.

المطلب السابع: الجنة والنار

ورد هذا الإمام القرطبي وغيره من أئمة الآثار، وقد أخرج مسلم تلك الزيادة في صحيحه عن أبي سعيد بلاغاً، وليست مما للرأي والاجتهاد فيه مجال فهي مرفوعة، وقد مر من الأخبار ما يوجب الإيمان بذلك، ثم إن القادر على إمساك الطير في الهواء قادر على أن يمسك عليه المؤمن ويجريه ويمشيه، على أنه أخرج الإمام عبد الله بن المبارك، وابن أبي الدنيا عن سعيد بن أبي هلال قال: بلغنا أن الصراط يوم القيامة يكون على بعض الناس أدق من الشعر، وعلى بعض مثل الوادي الواسع، وأخرج أبو نعيم عن سهل بن عبد الله التستري قال: من دق الصراط عليه في الدنيا عرض عليه في الآخرة، ومن عرض عليه الصراط في الدنيا دق له في الآخرة" (¬1). وقال أبو الحسن الأشعري: "وأجمعوا -يعني: أهل الحديث- على أن الصراط جسر ممدود على جهنم، يجوز عليه العباد بقدر أعمالهم، وأنهم يتفاوتون في السرعة والإبطاء على قدر ذلك" (¬2). المطلب السابع: الجنة والنار: من لوازم الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بالجنة والنار، وأنهما مخلوقتان موجودتان، وأن الجنة لا تفنى ونعيمها لا يزول، وأن أهل النار خالدين فيها. وقد دل على ذلك الكتاب والسنة. فمن أدلة الكتاب: الآيات الكثيرة التي دلت على أن آدم وحواء أسكنهما الله الجنة، وأهبطهما منها، كقوله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: من الآية 35]، وقوله تعالى: {وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 19]، وقوله تعالى: {يَابَنِي ¬

(¬1) لوامع الأنوار البهية (2/ 192 - 194). (¬2) رسالة إلى أهل الثغر ص 286، لأبي الحسن الأشعري، تحقيق: عبدالله شاكر الجنيدي، الطبعة الأولى 1988 م، مكتبة العلوم والحكم، دمشق.

آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: من الآية 27]، وقوله تعالى: {فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117]. ومن أدلة الكتاب قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] فالجنة والنار بدلالة الآيتين قد أعدتا وفرغ من إعدادهما، مما يقتضي أنهما مخلوقتان موجودتان الآن. وأما الأدلة على أن الجنة لا تفنى ونعيمها لا يزول فكثيرة، ومن ذلك: قوله تعالى في الجنة: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: من الآية 35]، وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54]، وقوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: من الآية 56]. وأما الأدلة على خلود أهل الجنة والنار فيهما، فقد جاء في غير آية من القرآن الكريم {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 57/ 122/169، المائدة: 119، التوبة: 22/ 100، الأحزاب: 65، التغابن: 9، الطلاق: 11، الجن: 23، البينة: 8]، إلى غير ذلك من الأدلة. وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري الإيمان بالجنة والنار وخلود أهلهما فيهما في منظومته في الاعتقاد، فقال: "ويدخل ناس بالمعاصي جهنماً ... فيأخذهم منها على قدر الوزر إلى أن قال: ويُذبَح كبش الموت فالناس بعده ... فريقان ذو ربح وآخرُ ذو خسر" (¬1). ولا شك أن ما قرره الإمام جمال الدين السرمري هو مذهب أهل السنة والجماعة قاطبة. قال الإمام الصابوني: "ويشهد أهل السنة: أن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما باقيتان لا ¬

(¬1) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 38.

المطلب الثامن: الشفاعة

يفنيان أبداً، وأن أهل الجنة لا يخرجون منها أبداً، وكذلك أهل النار الذين هم أهلها خلقوا لها، لايخرجون منها أبداً، وأن المنادي ينادي يومئذ "يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت" على ما ورد به الخبر الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). وقد قال ابن حزم رحمه الله في المسائل التي أجمع عليها أهل السنة: "وأن الجنة حق، وأنها دار نعيم أبداً، لا تفنى ولا يفنى أهلها بلا نهاية ... وأن النار حق، وأنها دار عذاب أبداً، لا تفنى ولا يفنى أهلها أبدا بلا نهاية ... " (¬2). أما قول جمال الدين السرمري: " ويُذبَح كبش الموت" (¬3) فصحيح ثابت في السنة، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح، قال: ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت» قال: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] وأشار بيده إلى الدنيا» واللفظ لمسلم (¬4). المطلب الثامن: الشفاعة: الشفاعة في اللغة كما قال الراغب: "الانضمام إلى آخر ناصراً له، وسائلاً عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى. ومنه الشفاعة في القيامة" (¬5). ¬

(¬1) عقيدة السلف وأصحاب الحديث ص 264، لأبي عثمان الصابوني، تحقيق: ناصر الجديع، الطبعة الثانية 1419، دار العاصمة، الرياض. (¬2) مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات ص 173، لابن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت. (¬3) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 38. (¬4) رواه البخاري (6/ 93)، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (وأنذرهم يوم الحسرة) , ح 4730؛ ورواه مسلم (4/ 2188)، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء, ح 2849. (¬5) المفردات في غريب القرآن ص 263، للراغب الأصفهاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، لبنان.

وقال القرطبي: "أصل الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع وهو الزوج في العدد، ومنه الشفيع، لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعاً، ومنه ناقة شفوع إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة، وناقة شفيع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها، والشفع ضم واحد إلى واحد، والشفعة ضم ملك الشريك إلى ملكك؛ فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال المنفعة إلى المشفوع له" (¬1). أما الشفاعة في الاصطلاح كما قال ابن الأثير: "هي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم بينهم" (¬2). وقد دل الكتاب والسنة على وقوع الشفاعة يوم القيامة، وهي تقع بشرطين: أحدهما: أن يكون بعد إذن الله تعالى للشافع. والثاني: أن يرضى الله عن المشفوع له. وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: من الآية 255] وقال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: من الآية 28]. أما من السنة: فإن الأحاديث التي جاءت في إثبات الشفاعة قد بلغت حد التواتر (¬3). والإيمان بالشفاعة من أصول الإيمان باليوم الآخر التي أجمع عليها أهل السنة والجماعة، خلافاً للمعتزلة والخوراج. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن أحاديث الشفاعة في أهل الكبائر ثابتة متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد اتفق عليها السلف من الصحابة وتابعيهم بإحسان وأئمة المسلمين، وإنما نازع في ذلك أهل البدع من الخوارج والمعتزلة ونحوهم" (¬4). وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري هذا الأصل في غير ما موضع. ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن (5/ 295). (¬2) النهاية في غريب الأثر (2/ 1184). (¬3) انظر: نظم المتناثر ص 234 - 236. (¬4) مجموع الفتاوى (4/ 309).

ومن ذلك قوله في منظومته في الاعتقاد: "ويدخل ناس بالمعاصي جهنمَّا ... فيأخذهم منها على قدر الوزر ويشفع فيهم سيد الخلق أحمد ... عليه صلاة الله ما غرد القمري ويخرج من في قلبه وزن ذرة ... بلا شك منها من مقارفة البر" (¬1). وقال في موضع آخر في ذكر ما خص الله به نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة: "ومنها شفاعاته في الآخرة فإن له - صلى الله عليه وسلم - عدّة شفاعات، الأولى: الشفاعة في عموم الخلق ليحاسَبُوا ويُراحُوا من الموقف كما سبق، وشفاعَةٌ في أهل الكبائر من أمّته، وشفاعة لمن في قلبه مثقال ذرّة من إيمان؛ إلى ما دون ذلك من الشفاعات الخاصّة والمشتركة هو وغيره فيها" (¬2). وقال في موضع آخر: "فجملة الشفاعة خمسة مقامات، المقام الأول: في أهل الموقف لفصل القضاء وهي الشفاعة العظمى، وهي من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، والمقام الثاني: في من يدخل الجنة بغير حساب وهي من خصائصه أيضاً - صلى الله عليه وسلم -، والمقام الثالث: فيمن يخرج من النّار وابتداؤها له - صلى الله عليه وسلم - فإنه أول شافع وأول مشفع كما سَبَق، المقام الرابع: فيمن يدخل الجنة واختصاصه منها أنه لا يدخل الجنة أحد بالشفاعة أكثر ممن يدخلها بشفاعته، المقام الخامس: شفاعته في قوم لرفع درجاتهم من الجنة" (¬3). وهذه المقامات السابقة التي ذكرها جمال الدين السرمري سوى المقام الثالث ليست هي التي جرى فيها الخلاف بين الأمة، وإنما أكثر ما وقع الخلاف والإشكال والتنازع فيه هو في الشفاعة فيمن يخرج من النار، وهذا هو المحل الذي ذكر العلماء لأجله موضوع الشفاعة في كتب العقيدة وكرروا ذلك لأهميته بالنسبة للرد على أهل البدع، ولا يزال أهل البدع إِلى اليوم ينكرون هذا النوع، وهو شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النار أن يخرجوا منها، فالمعتزلة والخوارج ينكرون الشفاعة لأهل الكبائر وأن الله سبحانه وتعالى لا يأذن لأحد أن ¬

(¬1) نهج الرشد في نظم الاعتقاد، ص 38. (¬2) خصائص سيد العالمين [ق 62/و]. (¬3) خصائص سيد العالمين [ق 85/و].

المطلب الثامن: رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة

يشفع في أهل الكبائر فيخرجون من النار، والسبب في ذلك لأنهم يرون فيها تعارضاً مع ما أصَّلوه وهو: أن صاحب الذنب لا بد أن يُجازى بذنبه وجوباً، فيدخل النار ولا يخرج منها، هكذا قررت عقولهم دون الرجوع إِلى الآيات وإلى الأحاديث. يقول ابن القيم رحمه الله: "رد الخوارج والمعتزلة النصوص المتواترة الدالة على خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة وكذبوا بها، وقالوا: لا سبيل لمن دخل النار إلى الخروج منها بالشفاعة ولا غيرها، ولما بهرتهم نصوص الشفاعة وصاح بهم أهل السنة وأئمة الإسلام من كل قطر وجانب ورموهم بسهام الرد عليهم أحالوا بالشفاعة على زيادة الثواب فقط لا على الخروج من النار فردوا السنة المتواترة قطعاً ... " (¬1). المطلب الثامن: رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة: وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمَّر إليها المشمرون، وتنافس المتنافسون، وحُرمها الذين هم عن ربهم محجوبون، وعن بابه مردودون (¬2)، فإن أعظم نعيم وعده الله عباده المؤمنين هو رؤيته تعالى في الآخرة، وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة. فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] وهي من أظهر الأدلة, فإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية، وتعديته بأداة إلى الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلافه، حقيقة موضوعة صريحة في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب - جل جلاله - (¬3). ¬

(¬1) طريق الهجرتين وباب السعادتين ص 568 - 569، لابن القيم، تحقيق: عمر بن محمود أبو عمر، الطبعة الثانية 1414، دار ابن القيم، الدمام. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية، ص 110. (¬3) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، ص 110.

أما من السنة: فإن الأحاديث التي جاءت في إثبات الرؤية قد بلغت حد التواتر، حكى ذلك غير واحد من العلماء (¬1). وقد أجمع السلف وأئمة المسلمين على إثبات رؤية المؤمين لربهم سبحانه في الآخرة عياناً بأبصارهم، وممن نقل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2)، وابن أبي العز (¬3). وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري مذهب السلف في هذه المسألة فقال: ولا يُمتَرى في رؤية الله ربِّنا ... وهل يُمترى في الشمس في ساعة الظهر (¬4). وأما من خالف في إثبات الرؤية: فهم الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية (¬5)، وأما الأشاعرة: لما لم يمكنهم إنكار الأدلة من الكتاب والسنة أثبوا الرؤية وقالوا: يُرى ولكن ليس في جهة، وهذا من التناقض العجيب، إذ ليس هناك شيء يُرى وهو ليس في جهة. نقل شيخ الإسلام عن ابن رشد قوله: " أنكرها -أي الرؤية- المعتزلة، وردت الآثار الواردة في الشرع بذلك مع كثرتها وشهرتها، فشنع الأمر عليهم، وسبب وقوع هذه الشبهة في الشرع أن المعتزلة لما اعتقدوا انتفاء الجسمية عنه سبحانه وتعالى، واعتقدوا وجوب التصريح بها لجميع المكلفين، ووجب عندهم إذا انتفت الجسمية أن تنتفي الجهة، وإذا انتفت الجهة انتفت الرؤية، إذ كل مرئي في جهة من الرائي، فاضطروا لهذا المعنى لرد الشرع المنقول، واعتلوا للأحاديث بأنها أخبار آحاد وأخبار الآحاد لا توجب العلم ... وأما الأشعرية فراموا الجمع بين الاعتقادين أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس فعسر ذلك عليهم ولجؤوا في ذلك إلى حجج سوفسطائية مموهة" (¬6). ¬

(¬1) انظر: نظم المتناثر، ص 242 - 243. (¬2) مجموع الفتاوى (3/ 37). (¬3) شرح العقيدة الطحاوية، ص 110. (¬4) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 38. (¬5) شرح العقيدة الطحاوية، ص 110. (¬6) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 361)، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد بن عبدالرحمن بن قاسم، الطبعة الأولى 1392، مطبعة الحكومة، مكة.

المبحث الثالث: الإيمان بالقضاء والقدر

المبحث الثالث: الإيمان بالقضاء والقدر الإيمان بالقضاء والقدر من أصول الإيمان الستة التي لا يتم الإيمان إلا بها، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة. ومن أدلة الكتاب قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: من الآية 38]. ومن السنة حديث جبريل وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في جواب سؤاله عن الإيمان: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» (¬1). والإيمان بالقضاء والقدر هو نظام التوحيد، فمتى اختل هذا الأصل العظيم، اختل توحيد العبد. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "القدر نظام التوحيد فمن وحَّدَ الله سبحانه وكذَّب بالقدر كان تكذيبه للقدر نقضاً للتوحيد، ومن وحَّد الله وآمن بالقدر كانت العروة الوثقى" (¬2). وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري -رحمه الله- هذا الأصل في عدة مواضع، ومن ذلك قوله في منظومته في الاعتقاد: "وما لم يقدره المهيمنُ لم يكن ... وما قدَّره الرحمن لا بد أن يجري إلى أن قال: وما جاء من خير وشر مقدَّرٌ ... كذلك ما يأتي من الحُلو والمُرِّ" (¬3). وقال في موضع آخر: "ومجمل شروط العبودية تلقي أوامر السيد بالقبول -إلى أن قال: - ¬

(¬1) رواه مسلم (1/ 36) ح 1، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، والإسلام، والقدر وعلامة الساعة. (¬2) كتاب الشريعة (6/ 877)، للإمام أبي بكر الآجري، تحقيق: عبدالله الدميجي، الطبعة الأولى 1418، دار الوطن، الرياض. (¬3) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 34.

المطلب الأول: معنى الإيمان بالقضاء والقدر

وأن يعترف له بالقدرة على جميع المخلوقات، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ... " (¬1). كما اعتنى الإمام جمال الدين السرمري -رحمه الله- ببيان هذا الأصل، وقرر بعض مسائله بما يتفق مع دلالة الكتاب والسنة، كما سيتضح من خلال المطالب التالية. المطلب الأول: معنى الإيمان بالقضاء والقدر: القضاء لغة: أصله من قضى، قال ابن فارس: "القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته" (¬2). أما القضاء شرعاً فيأتي على عدة أوجه، ومنها (¬3): 1 - الأمر، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: من الآية 23] 2 - الإنهاء، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} [الحِجر: من الآية 66]، أي: تقدمنا إليه وأنهينا. 3 - الحكم، ومنه قوله تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: من الآية 72] 4 - الفراغ، ومنه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فُصِّلَت: من الآية 12]. 5 - الإعلام، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: من الآية 4]. أما القدر لغة: قال ابن فارس: "القاف والدال والراء أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء ¬

(¬1) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة ص 137 - 138. (¬2) معجم مقاييس اللغة (5/ 99)؛ وانظر: لسان العرب (15/ 186)، المفردات في غريب القرآن ص 406 - 407. (¬3) انظر: القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس فيه ص 34 - 35، د. عبدالرحمن المحمود، الطبعة الثانية 1418، دار الوطن.

المطلب الثاني: مراتب القدر

وكُنهه ونهايته" (¬1). ويطلق القدر على الحكم والقضاء، ويطلق على التقدير، ويأتي على وجوه أخرى كذلك (¬2). أما معنى الإيمان بالقضاء والقدر في الشرع: "فهو الإيمان بتقدير الله تعالى الأشياء في القدم، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، وكتابته لذلك، ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها، وخلقه لها (¬3). المطلب الثاني: مراتب القدر: إن حقيقة الإيمان بالقدر لابد أن يشتمل على الإيمان والتصديق بمراتبه، بل إن هذه المراتب تمثل أركان الإيمان بالقدر، ومتى اختل ركن فقد اختل إيمان الشخص بهذا الأصل العظيم. قال الإمام ابن القيم: "الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر ... " (¬4). وهي أربع مراتب (¬5): 1): العلم يجب الإيمان بعلم الله عز المحيط بكل شيء، وأنه علم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وأنه علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وأنه يعلم كل شيء بعلمه القديم ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة (5/ 62)؛ وانظر: لسان العرب (5/ 74)، المفردات في غريب القرآن ص 395 - 396. (¬2) انظر: القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس ص 36 - 39، د. عبدالرحمن المحمود. (¬3) القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس ص 39 - 40، د. عبدالرحمن المحمود. (¬4) شفاء العليل، ص 29. (¬5) انظر: شفاء العليل ص 29 - 65؛ القضاء والقدر ص 54 - 83، د. عبدالرحمن المحمود.

المتصف به أزلاً وأبداً. وأدلة هذه المرتبة كثيرة، منها قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: من الآية 12]، وقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: من الآية 73]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98]، وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]. وقد اتفق على الإيمان بالعلم السابق الرسلُ عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى خاتمهم، واتفق عليه جميع الصحابة ومن تبعهم من الأمة، ولم يخالف إلا مجوس الأمة -غلاة القدرية- (¬1). 2) الكتابة: وهي أن الله تعالى كتب مقادير المخلوقات، والمقصود بهذه الكتابة: الكتابة في اللوح المحفوظ، وهو الكتاب الذي لم يُفرِّط فيه الله من شيء، فكل ما جرى ويجري فهو مكتوب عند الله. وأدلة هذه المرتبة كثيرة، منها قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: من الآية 38]، وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61]. قال ابن القيم: "وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم ¬

(¬1) شفاء العليل، ص 29

القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب" (¬1). 3) المشيئة: كل ما يجري في هذا الكون فهو بمشيئة الله - سبحانه وتعالى - فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يخرج عن إرادته الكونية شيء. وقد وردت أدلة كثيرة جداً لهذه المرتبة، منها قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة: من الآية 48]، والله - سبحانه وتعالى - وجَّه نبيه قائلاً: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24]. قال الإمام الصابوني: "ومن مذهب أهل السنة والجماعة: أن الله - عز وجل - مريد لجميع أعمال العباد خيرها وشرها، ولم يؤمن أحد إلا بمشيئته، ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولو شاء أن لا يُعصى ما خلق إبليس، فكفر الكافرين، وإيمان المؤمنين، بقضائه - سبحانه وتعالى - وقدره، وإرادته ومشيئته، أراد كل ذلك وشاءه وقضاه" (¬2). 4) الخلق: يجب الإيمان بأن الله خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد، فلا يقع في هذا الكون شيء إلا وهو خالقه. وأدلة هذه المرتبة كثيرة، منها قوله تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 - 96]، وقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزُّمَر: من الآية ¬

(¬1) شفاء العليل، ص 41 (¬2) عقيدة السلف وأصحاب الحديث، ص 285 - 286.

المطلب الثالث: أصلا الضلال في القدر

62]، وفي آية أخرى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [غافر: من الآية 62]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع إيمانهم بالقضاء والقدر وأن الله خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يضل من يشاء، ويهدي من يشاء ... " (¬1). تقرير الإمام جمال الدين السرمري لمراتب القدر: وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري مراتب القدر الأربع في عدة مواضع، علماً بأنه لم يتحدث عنها مرتبة، أو بعناوين مستقلة، بل جاء الحديث عنها في ثنايا كلامه، ومن ذلك قوله: "والغرض ها هنا أنه لا يُمرض إلا الله ولا يُعافي سواه، ولا يحيي ولا يميت إلا إياه، وهذه الأسباب التي تحصل منها التأثيرات من حمة وسقم كلها خلق من خلق الله -قال الباحث: في هذه إشارة إلى مرتبة الخلق-، جارية بمشيئته وواقعة بإرداته -مرتبة المشيئة-، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء -مرتبة العلم-، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين -مرتبة الكتابة- ... " (¬2). المطلب الثالث: أصلا الضلال في القدر: وهذا الأصلان قد زلت فيهما أقدام، وضلت فيهما أفهام، ونشأ بسببهما الضلال في القدر، وهما مما اتفق عليهما الجبرية والقدرية بالقول بهما على اختلاف مذاهبهم. 1) التسوية بين المشيئة والإرادة وبين الرضا والمحبة: موضوع الإرادة وهل هي مستلزمة للرضا والمحبة مما خاض فيه أهل الأهواء، وضلوا فيه عن ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (8/ 459). (¬2) كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون، ص 36.

الحق، وأدى بهم ضلالهم إلى انحراف خطير جداً في مسألة القضاء والقدر، وهي مسألة الأمر والنهي، وعلاقة هذه بتلك، والخلاف: هل الإرادة تستلزم الرضا والمحبة؟ وقع على قولين: القول الأول: إن الإرادة تستلزم الرضا والمحبة: وهذا قول المعتزلة، والجهمية، وأغلب الأشاعرة، ولكن اتفاق هؤلاء في هذا، لم يجعلهم يتفقون فيما يترتب على ذلك من كون ما يقع من الكفر والمعاصي محبوباً لله لكونه مراداً له، بل اختلفوا: أ- فقالت المعتزلة القدرية: قد علم بالكتاب والسنة وإجماع السلف أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ويكره الكفر والفسوق والعصيان، ولما كان هذا ثابتاً لزم أن تكون المعاصي ليست مقدرة له ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه. يقول عبدالجبار الهمذاني المعتزلي: "ولا يصح أن يقال: إن المحبة غير الإرادة، وإنما استحال ما ذكرناه، لأن كل واحد منهما يحتاج إلى صاحبه" (¬1)، ثم يقول: "أن كل مَن جازت عليه الإرادة، جازت عليه المحبة، وأنه تعالى إذا صح كونه مريداً، فيجب كونه محباً، وكل ما صح أن يريده صح أن يحبه، وكل ما أوجب قبح محبته، أوجب قبح إرادته" (¬2). ويقول في الرضا: "وإنما قلنا في الرضا أنه الإرداة، لأنه لو كان غيرها لم يمتنع أن نرضى الشيء وإن لم نُرِده على وجه، أو نريده ويقع على ما أراده، ولا نرضى به على وجه، فإذا بطل ذلك صح أنه الإرادة" (¬3). ب- وقالت الجهمية، ومن معها من الأشاعرة: قد علم بالكتاب والسنة والإجماع أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وكل ما في الوجود فهو بمشيئته وقدرته، وعلى هذا فالكون كله، قضاؤه وقدره، وطاعته ومعاصيه، وخيره وشره، فهو ¬

(¬1) المغني في أبواب التوحيد والعدل - الإرادة- ص 51، لعبدالجبار الأسد آبادي، تحقيق: محمود قاسم. (¬2) المغني في أبواب التوحيد والعدل - الإرادة- ص 54. (¬3) المغني في أبواب التوحيد والعدل - الإرادة- ص 56.

محبوب لله، لأنه مريده وخالقه. يقول الباقلاني: "واعلم: أنه لا فرق بين الإرادة، والمشيئة، والاختيار، والرضى، والمحبة ... واعلم: أن الاعتبار في ذلك كله بالمآل لا بالحال، فمن رضى سبحانه عنه لم يزل راضياً عنه لا يسخط عليه أبداً، وإن كان في الحال عاصياً، ومن سخط عليه فلا يزال ساخطاً عليه ولا يرضى عنه أبداً، وإن كان في الحال مطيعاً" (¬1). القول الثاني: إن الإرادة لا تستلزم الرضا والمحبة، بل بينهما فرق: وهذا قول أهل السنة المثبتين للقدر، وقد دل على ذلك الشرع والفطرة والعقل. قال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: من الآية 39] وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: من الآية 125]، هذا من نصوص المشيئة والإرادة. ومن نصوص المحبة قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: من الآية 205] وقوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] فالآيات الأولى تدل على أن ما شاء الله كان، ومالم يشأ لم يكن -كما هو إجماع المسلمين- ثم تدل النصوص الأخرى أن هناك أشياء يكرهها الله، ولا يحبها، ولا يرضاها، فدل ذلك على افتراق المشيئة عن المحبة، والآيات في ذلك كثيرة جداً. وقد فطر الله عباده على أن يقولوا: هذا الفعل يحبه الله، وهذا يكرهه الله، وفلان يفعل ما يغضب الله ... والكل واقع بقدرة الله ومشيئته، فدل على أن هناك فرقاً بينهما. وأما العقل: فلا يمتنع في بداهة العقول أن يريد الإنسان شيئاً وهو لا يحبه كما في الدواء ¬

(¬1) الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص 13، للباقلاني

2) التسوية بين الفعل والمفعول

وغيره (¬1). وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري رحمه الله مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، فقال: "وهو سبحانه يقدِّر مع كراهته أشياءَ من مقدوراته التي يبغضها ويقضيها ويشاؤها من أنواع الكفر والفسوق والعصيان، فتجتمع الإرادة والكراهة في شيء واحد ... " (¬2). وهذا القول الذي ذهب إليه أهل السنة من التفريق بين المشيئة والمحبة هو الذي ينجي من الورطة في هذا الأصل العظيم، كما قال ابن القيم: "والذي يكشف هذه الغمة، ويبصر من هذه العماية، وينجي من هذه الورطة: إنما هو التفريق بين ما فرق الله بينه، وهو المشيئة والمحبة، فإنهما ليسا واحداً، ولا هما متلازمين" (¬3). 2) التسوية بين الفعل والمفعول: وهذا الأصل الثاني الذي نشأ بسببه الخلاف في القدر، وهو هل الخلق هو المخلوق أو غيره؟ فالذين يقولون بنفي الصفات الاختيارية بناءًا على منع حلول الحوادث، أجابوا عن ذلك بأن قالوا: إن الخلق هو المخلوق، والفعل هو عين المفعول، وهذا الأصل مما اتفق عليه الجبرية والقدرية، والتزموا بسببه لوازم باطله على اختلاف أقوالهم، فقالت المعتزلة: الكفر والفسوق والعصيان أفعال قبيحة، والله منزه عن القبيح باتفاق المسلمين، فلا تكون فعلاً له، وزعمت الجهمية ومن تبعهم من الأشاعرة أن العبد مجبور على أفعاله، دون أن يكون له اختيار أو أي فعل ينسب إليه، وإنما فعل العبد هو فعل الله، وقد دخل من بابهم أهل الاتحاد والحلول. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ثم من هؤلاء -أي المائلون إلى الجبر- من قال: إنه ليس لله فعل يقوم به فلا فرق عنده بين فعله ومفعوله وخلقه ومخلوقه ... وأكثر المعتزلة يوافقون هؤلاء على أن فعل الرب تعالى لا يكون إلا بمعنى مفعوله، مع أنهم يفرقون في العبد بين الفعل ¬

(¬1) انظر: القضاء والقدر ص 291 - 298، د. عبدالرحمن المحمود. (¬2) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 128. (¬3) مدارج السالكين بين منازل "إياك نعبد وإياك نستعين" (1/ 13)، لابن القيم.

المطلب الرابع: الأحكام الشرعية والأحكام القدرية

والمفعول، فلهذا عظم النزاع، وأشكلت المسألة على الطائفتين وحاروا فيها" (¬1). وقال في موضع آخر: "ولكن طائفة من أهل الكلام -المثبتين للقدر- ظنوا أن الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق، فلما اعتقدوا أن أفعال العباد مخلوقة مفعولة لله، قالوا فهي فعله، فقيل لهم مع ذلك: أهي فعل العبد؟ فاضطربوا؛ فمنهم من قال: هي كسبه لا فعله ولم يفرقوا بين الكسب والفعل بفرق محقق، ومنهم من قال: بل هي فعلٌ بين فاعلين، ومنهم من قال: بل الرب فعل ذات الفعل والعبد فعل صفاته؛ والتحقيق ما عليه أئمة السنة وجمهور الأمة من الفرق بين الفعل والمفعول والخلق والمخلوق، فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة مفعولة لله، كما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة مفعولة لله وليس ذلك نفس خلقه وفعله، بل هي مخلوقة ومفعولة، وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به ليست قائمة بالله، ولا يتصف بها، فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته، وإنما يتصف بخلقه وفعله كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته، والعبد فاعل لهذه الأفعال وهو المتصف بها، وله عليها قدرة وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل العبد ومفعولة للرب ... " (¬2). وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري مذهب أهل السنة الجماعة من التفريق بين الفعل والمفعول، فقال في معرض رده على السبكي: "والخلق ليس هو المخلوق تحسبه ... بل مصدر قائم بالنفس فادر به وقول كن ليس بالشيء المكوَّنِ والصَّـ ... ـــــــــغيرُ يعرفُ هذا مع تلَعُّبِه" (¬3) وقد تقدم الإشارة إلى ما يتعلق بهذا الأصل في مسألة (تسلسل الحوادث). المطلب الرابع: الأحكام الشرعية والأحكام القدرية: ومن مزلات الأقدام ومضلات الأفهام منازعة الأحكام الشرعية بالأحكام القدرية، وقد ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (8/ 122 - 123). (¬2) مجموع الفتاوى (2/ 119 - 120). (¬3) الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية، ص 74.

حارت القدرية في الجمع بينهما، وقد فصل شيخ الإسلام أقوالهم فيها إلا ثلاثة أصناف: 1 - القدرية المشركية: وهم الذين اعترفوا بالقضاء والقدر، وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي، وقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: من الآية 148]، فهؤلاء يئول أمرهم إلى تعطيل الشرائع والأمر والنهي، حتى يخرج من يخرج منهم إلى الإباحة للمحرمات وإسقاط الواجبات ورفع العقوبات، ويكثر هذا المذهب عند غلاة الصوفية، وهذا حاصل مذهب الجبرية، وهؤلاء شر الخلق. 2 - القدرية المجوسية: الذين يجعلون لله شركاء في خلقه، فيقولون: خالق الخير غير خالق الشر، ويقولون: إن الذنوب الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله تعالى، وغلا بعضهم فقال: ولا يعلمها، ويقولون: إن جميع أفعال الحيوان واقع بغير قدرة الله ولا صنعه، فيجحدون مشيئته النافذة وقدرته الشاملة، ويزعمون أن هذا هو العدل، وهذا قول المعتزلة، والشيعة المتأخرين، وهؤلاء أقرب إلى الكتاب والسنة والدين من القدرية المشركية، المعطلة للأمر والنهي. 3 - القدرية الإبليسية: وهم الذين صدقوا بأن الله صدر عنه الأمران الشرعي والقدري، لكن عندهم هذا تناقض وهم خصماء الله كما جاء في الحديث، ويكثر هذا عند بعض سفهاء الشعراء، ونحوهم من الزنادقة (¬1). وأما مذهب أهل السنة والجماعة فهو التصديق بالقدر والخلق، والتصديق بالشرع والوعيد، فقوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] إثبات للقدر بقوله: {فَأَلْهَمَهَا}، وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى إلى نفسه، لِيعلم أنها هي الفاجرة والمتقية، وقوله بعد ذلك: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10] إثبات لفعل العبد والوعد والوعيد بفلاح من زكى نفسه، وخيبة من دساها، وهذا صريح في الرد على القدرية المجوسية وعلى الجبرية، وأما المظلمون للخالق فإنه قد دل على عدله بقوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] والتسوية: التعديل، فبيَّن أنه عادل في تسوية النفس التي ألهمها ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوى (8/ 256 - 260)، (16/ 239).

المطلب الخامس: السبب والمسبب

فجورها وتقواها (¬1). وقد قرر جمال الدين السرمري مذهب أهل السنة والجماعة من الإيمان بالأحكام الشرعية والأحكام القدرية والتسليم لهما، فقال في منظومته في الاعتقاد: "وما جاء من خير وشر مقدَّر ... كذلك ما يأتي من الحلو والمر ولو شاء لا يعصى تقدس ذكره ... لما خلق الشيطان في سالف العصر ولا أمر إلا من كتاب وسنة ... كذا الضد كالتحليل للشيء والحِظر" (¬2). فالبيت الأول والثاني فيه رد على القدرية المجوسية الذين قالوا: خالق الخير غير خالق الشر، وأن الذنوب الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله تعالى؛ والبيت الثالث فيه رد على القدرية المشركية الذين عطلوا الشرائع والأمر والنهي. المطلب الخامس: السبب والمسبب: تأثير الأسباب في المسببات أمر معلوم بالعقل والمشاهدة، وقد ذكر الله ذلك في كتابه، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: من الآية 57]، وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: من الآية 164]، وقال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: من الآية 14] وغيرها من الآيات. والله سبحانه وتعالى هو خالق السبب والمسبَّب، فلا يجوز نسبة الانفراد بالخلق في صفة الفعل لغير الله تعالى، فمثل هذه الإضافة بالانفراد لا تخرج في حكمها عن كونها شركًا في الربوبية. ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوى (16/ 242 - 244). (¬2) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 34.

وعلى الضد من ذلك يدخل في الانحراف -أيضاً- نفي التأثير للأشياء التي جعلها الله تعالى أسبابًا ووسائط على المسبّبات. وقد ضل في هذه المسألة الأشاعرة والمعتزلة على اختلاف مذاهبهم. فأما الأشاعرة فقد نحوا منحى الجبرية، حيث لا يثبتون في المخلوقات قوًى وطبائع، ويقولون: إنَّ الله فعل عندها لا بها، وإنَّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل، فليس في النار قوة الإحراق لكن عند وجود النار يخلق الله الإحراق بلا تأثير من النار، وليس في الماء قوة الإغراق، وإنما عند وجود الماء يخلق الله الإغراق بلا تأثير من الماء، ولا في السكِّين قوة القطع، وإنما عند وجود السكين يخلق الله القطع بلا تأثير من السكين، ولا في الماء والخبز قوة الرَّي والتغذِّي به، وإنما عند وجود الماء والخبز يخلق الله الرَّي والتغذيةَ بلا تأثير من الماء والخبز، ونحو ذلك مما قد أجرى الله العادة بخلق المسبَّبات عند وجود هذه الأسباب. وهذا المعنى -بلا شك- طردٌ لعقيدة الجبرية على قاعدة: «أنه لا فاعل إلا الله». وعلى النقيض من هذا المذهب ما قررته القدرية من أنَّ العبد هو الموجِد لفعله، ويضاف إليه الانفراد بالتأثير، وكذا الأسباب فهي مؤثرة بذاتها من غير أن يكون لله تقدير ومشيئة. وأما وأهل السنة لا ينكرون تأثير القوى والطبائع في مسبَّباتها، والله تعالى خالق السبب والمسبَّب، وحدوث المسبَّب بالسبب لا عند السبب، فرجع الكل إلى محض خلق الله وأمره وفضله ورحمته، وضمن هذا المعنى يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "فالذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أهل السنة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر المخالفون للمعتزلة إثبات الأسباب، وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير الأسباب في مسبَّباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسبَّبات، والأسباب ليست مستقلة بالمسبَّبات، بل لا بدَّ لها من أسباب أُخَر تعاونها، ولها -مع ذلك- أضداد تمانعها، والمسبَّب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته، كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعل العبد لا يكون بها وحدها، بل لا بد من الإرادة الجازمة مع القدرة، وإذا أريد بالقدرة القوة القائمة بالإنسان فلا بد من إزالة الموانع كإزالة القيد والحبس ونحو ذلك، والصاد عن السبيل كالعدو وغيره" (¬1). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (8/ 487 - 488).

المطلب السادس: آجال الخلائق

وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، فقال: "واعلم أن الأسباب تؤثر في المخلوقات بما أودع الله تعالى فيها من الحكم الغامضة، إذا شاء أن يُؤثر، وقد أجرى العادة بأشياء من ذلك كما جعل حرَّ الشمس منضجاً للثمار، وبرد الليل والرياح الشمال مربية للزروع والحبوب، ونور القمر منضج للخضروات ... ونحوها، وجعل رياح الجنوب مؤذية لذلك، مع أنها لواقح للسحاب والشجر في منافع أخر، وهذه أمور قد عرفها من يباشرها من أرباب الزراعات. واعلم أنه ليس كلما وقعت هذه الحوادث أثرت هذا التأثير، لأنها ليست لها قوة تفعلها بنفسها، ولكن إذا شاء الله أن يفعل بها شيئاً من ذلك فعله إذا شاء، ألا ترى أن العادة قد جرت بأن المطر يُنبت به النباتُ فإذا لم يُرد الله أن يُنبت لم ينفع كثرة المطر، كما جاء في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ليس السنة أن لا تمطروا، إنما السنة أن تمطروا ثم تمطروا ولا تنبت الأرض شيئاً»، فهذه الأشياء كذلك، على أن المؤثرات في العالم من أكل الأشياء وشربها وشم أريجها ومقارنتها وملابستها واستعمالها، كذلك بمشيئة الله تعالى ... وهذه الأشياء في كثير من هذا الباب قد عُرفَت بالاستقراء والتتبع في العادات، تفعل هذه الأفعال غالباً، وقد تختل هذه فيها، ولو كان ذلك من فعلها أنفُسها لما انخرمت القاعدة فيها، ولكن بمشيئة الله تعالى، فإذا شاء أن يمضي حكمه في شيء أمضاه" (¬1). المطلب السادس: آجال الخلائق: الأجل: هو الوقت المضروب المحدود في المستقبل (¬2) , فإن أجل الشيء هو نهاية عمره، وعمره مدة بقائه، فالعمر مدة البقاء، والأجل نهاية العمر بالانقضاء (¬3). ¬

(¬1) كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون، ص 27 - 29. (¬2) لسان العرب (11/ 11). (¬3) مجموع الفتاوى) 8/ 516).

ولقد وقع النزاع بين أهل السنة وأهل البدع في هذه المسألة امتداداً للنزاع في أفعال المخلوقين، واختلفوا بالجواب عن مسائلها، وهي: إذا كان الله قد قدر لعبدٍ من عباده أجلاً ما فقتل قبل غاية أجله، فهل كانت حياته تمتد به حتى أجلها لو لم يقتل؟ بمعنى هل القاتل خرم على المقتول حياته ولولا القتل لعاش أجله؟ وهل صحيح لو صبر القاتل على المقتول لمات لوحده؟ . فقال بعض المعتزلة: إنه كان يعيش، وأن المقتول مقطوع عليه أجله، وقالوا: لو كان المقتول قُتل بأجله فأين الظلم ممن قد استوفى كل أجله وفنيت حياته، وقال بعض نفاة الأسباب من الجبرية: إنه يموت وجزموا في ذلك (¬1)، وكلاهما خطأ. وأجاب أهل السنة: بأنه لا فرق بين أجل من مات حتف أنفه وبين من مات قتلاً، فأجلهما في علم الله واحد لا يتقدم ولا يتأخر، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران: من الآية 145]، وأن القتل هو سبب من أسباب كثيرة وذريعة من ذرائع الموت لا يقع بها الموت إلا بإذن الله، ولهذا ورد في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران: من الآية 145]، قال الشوكاني: "هذا كلام مستأنف يتضمن الحث على الجهاد والإعلام بأن الموت لا بد منه ومعنى {بِإِذْنِ اللَّهِ} بقضاء الله وقدره، وقيل: إن هذه الجملة متضمنة للإنكار على من فشل بسبب ذلك الإرجاف بقتله - صلى الله عليه وسلم - فبين لهم أن الموت بالقتل أو بغيره منوط بإذن الله" (¬2). وأما القاتل إن كان قَتل بغير حق فإنه ظالم لتعديه على الحكم الشرعي. وأما قول نفاة الأسباب من الجبرية: "لو صبر القاتل على المقتول لمات وحده" فغير ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوى (8/ 517). (¬2) فتح القدير (1/ 581).

صحيح، والصواب عدم القطع، والحكم بالإمكان والجواز. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "المقتول كغيره من الموتى لا يموت أحد قبل أجله ولا يتأخر أحد عن أجله ... والله يعلم ما كان قبل أن يكون، وقد كتب ذلك، فهو يعلم أن هذا يموت بالبطن، أو ذات الجنب أو الهدم أو الغرق أو غير ذلك من الأسباب، وهذا يموت مقتولاً: إما بالسم وإما بالسيف وإما بالحجر وإما بغير ذلك من أسباب القتل، وعلم الله بذلك وكتابته له بل مشيئته لكل شيء وخلقه لكل شيء لا يمنع المدح والذم والثواب والعقاب، بل القاتل: إن قتل قتيلاً أمر الله به ورسوله كالمجاهد في سبيل الله أثابه الله على ذلك، وإن قتل قتيلاً حرمه الله ورسوله كقتل القطاع والمعتدين عاقبه الله على ذلك ... ولو لم يقتل المقتول فقد قال بعض القدرية إنه كان يعيش، وقال بعض نفاة الأسباب: إنه يموت، وكلاهما خطأ؛ فإن الله علم أنه يموت بالقتل، فإذا قدر خلاف معلومه كان تقديراً لما لا يكون لو كان كيف يكون، وهذا قد يعلمه بعض الناس وقد لا يعلمه، فلو فرضنا أن الله علم أنه لا يُقتل، أمكن أن يكون قدَّر موته في هذا الوقت، وأمكن أن يكون قدَّر حياته إلى وقت آخر، فالجزم بأحد هذين التقدرين على التقدير الذي لا يكون جهل، وهذا كمن قال: لو لم يأكل هذا ما قدر له من الرزق كان يموت أو يرزق شيئاً آخر" (¬1). وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري -رحمه الله- مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، فقال: "وكل من مات بمرض أو غرق أو جرف أو هدم أو قتل أو في وباء أو بطاعون أو غير ذلك من أسباب الهلاك، فإنما يموت بأجله، لم يكن ليتأخر عن أجله ولا ليتقدم قبل أجله، والدليل عليه الكتاب والسنة. فالكتاب قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: من الآية 34] وذمَّ سبحانه بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (8/ 516 - 518).

قُتِلُوا} [آل عمران: من الآية 156]، وبقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: من الآية 168]، فرد الله عليهم وأكذبهم وبيَّن خطأهم بقوله تعالى: {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: من الآية 168]، وبقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: من الآية 154]، وبقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]، وبقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: من الآية 78]، وبقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران: من الآية 145]، وبقوله تعالى: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [الحِجر: 5]. وهذه الآيات -كما ترى- قد دلت على أن الإنسان لا يتأخر ولا يتقدم عن أجله، ولا يقع إلا على الوجه الذي أعلمه الله تعالى أن يموت فيه. وأما السنة: فما روى ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يمكث خلق أحدكم نطفة أربعين يوماً، ثم علقة أربعين يوماً -إلى أن قال: - ثم يقول الملك: ما رزقه؟ ما أجله؟ أشقي أم سعيد؟ فيقضي الله، ويكتب الملك». وقوله - عليه السلام -: «فرغ ربنا من أربع: الخَلق والخُلق والأجل والرزق» ... فعليك باتباع الأخبار النبوية، والإعراض عن الآراء الجاهلية، فإنه متى بدرت فرسان النصوص في ميدان البحث، تنكست حينئذ رايات الرأي على وجه الثرى، وفرت صناديد الجدل لوجوهها ذُللاً لهيبة من يَرى ولا يُرى، فنسأل الله تعالى السلامة من بلائه، والتسليم لأمره وقضاءه، والقبول لما أنزله على رسله وأنبيائه، والعمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه من أوله إلى انتهائه" (¬1). ¬

(¬1) كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون، ص 79 - 84.

المطلب السابع: الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي

المطلب السابع: الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي: من المعلوم أن كثيراً من الكافرين والمشركين الضالين، والمقصرين في عبادة الله، والمنحرفين عن منهج الله، قد وجدوا مجالاً للاحتجاج به على كفرهم وفسادهم وتقصيرهم، وتوهموا التعارض بين الشرع -المقتضي للتكليف ثم الحساب والجزاء- والقدر المقتضي لكمال ربوبيته تعالى ونفوذ مشيئته وكمال قدرته في خلقه، ولذلك ورد في أقوال العلماء ما يرد على هؤلاء جميعاً ويدحض حججهم كلها، ومن ذلك ما يلي: 1 - أنه قد علم بالاضطرار أن الاحتجاج بالقدر حجة باطلة وداحضة باتفاق كل ذي عقل، ودين من جميع العالمين، ويوضح هذا: أن الواحد من هؤلاء إما يرى القدر حجة للعبد، وإما أن لا يراه حجة للعبد، فإن كان القدر حجة للعبد فهو حجة لجميع الناس، فإنهم كلهم مشتركون في القدر، فحينئذ يلزم أن لا ينكر على من يظلمه ويشتمه، ويأخذ ماله، ويفسد حريمه، ويضرب عنقه، ويهلك الحرث والنسل، وهؤلاء جميعاً كذابون متناقضون، فإن أحدهم لا يزال يذم هذا، ويبغض هذا، ويخالف هذا، حتى إن الذي ينكر عليهم يبغضونه ويعادونه، وينكرون عليه، فإن كان القدر حجة لمن فعل المحرمات، وترك الواجبات، لزمهم ألا يذموا أحداً، ولا يبغضوا أحداً، ولا يقولوا في أحد: إنه ظالم ولو فعل ما فعل، ومعلوم أن هذا لا يمكن أحداً فعله، ولو فعل الناس هذا لهلك العالم، فتبين أن قولهم فاسد في العقل كما أنه كفر في الشرع. وهذا يدل على ما يختلج في النفوس من شهوات وشبهات، ولذلك تراهم يحتجون بالقدر على أفعالهم ومعاصيهم، وفي نفس الوقت ينتقمون ممن اعتدى عليهم أو ظلمهم، ولو احتج عليهم بالقدر لما قبلوا، بل لو كان الاعتداء بما يحسن الاحتجاج بالقدر عليه كالمصائب التي يقدرها الله سبحانه وتعالى لاعترضوا ولم يقبلوا أن يحتج بالقدر من كانت على يديه هذه المصائب دون عمد منه أو تفريط، وعند الاستقراء تجد أن هؤلاء يحتجون بالقدر في ترك حق ربهم، ومخالفة أمره، لا في ترك ما يرونه حقاً لهم، ولا مخالفة أمرهم.

2 - أنه يلزم على الاحتجاج بالقدر لازم باطل ألا وهو تعطيل الشرائع، وحين تعطل الشرائع يلزم عليها أن يكون إبليس، وفرعون، وقوم نوح، وعاد وكل من عذبه الله بسبب مخالفته أمره معذوراً، ويلزم أيضاً ألا يفرق بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الله وأولياء الشيطان، وهذه كلها لوازم معلوم بطلانها بالضرورة. ولو كان القدر حجة للعباد لم يعذب أحد من الخلق لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولم تقطع يد سارق، ولا أقيم حد على زان، ولا جوهد في سبيل الله. 3 - أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وهو متمكن من الإيمان قادر عليه، وكما هو معلوم فإن القدرة التي هي شرط في الأمر تكون موجودة قبل الفعل لكل مكلف، ومن ثم فالإنسان قادر متمكن، وقد خلق الله فيه القدرة على الإيمان، وحينئذ فحين لا يؤمن يكون هو الذي لا يريد الإيمان، ومادام الأمر كذلك فليس لأحد أن يقول: لماذا لم يجعلني الله مريداً للإيمان، لأنه لو أراد الإيمان لقدر عليه، ومادام الإنسان مريداً قادراً فاحتجاجه بالقدر باطل. وينبغي أن يعلم أن الاحتجاج بالقدر إنما يَرِد على من لا يقر للإنسان بإرادة ولا قدرة كالجهمية والأشاعرة، أما على مذهب أهل السنة الحقيقي فلا يَرِد، لأنهم يقولون إن الإنسان مريد وفاعل حقيقة، وله قدرة يقع بها الفعل. 4 - وأقرب مثال على بطلان الاحتجاج بالقدر أن يقال: إذا كان معلوماً أن الله قد علم وكتب أن فلاناً يتزوج امرأة ويطؤها ويولد له، وأن فلاناً يبذر البذر فينبت الزرع ... إلخ، ولا يمكن لأحد أن يحتج بالقدر هنا فيقول: أنا لا أتزوج أو أطأ امرأة، فإن كان قدر الله أن يولد لي ولد فسيولد، أو يقول: أن لا أبذر البذر، فإن كان قدر الله أن تنبت أرضي زرعاً فستنبت، لأن من قال هذا عد من أجهل الجاهلين؛ إذا وضح هذا المثال فنقول: إن الله تعالى علم وكتب أن فلاناً يؤمن ويعمل صالحاً فيدخل الجنة، وفلاناً يعصي ويفسق فيدخل النار، وحينئذ فمن قال: إن كنت من أهل الجنة فأنا سأدخلها بلا عمل صالح، كان قوله قولاً باطلاً متناقضاً، لأنه علم أنه يدخل الجنة بعمله الصالح، فلو دخلها بلا عمل كان هذا مناقضاً لما علمه الله وقدره، وهذا

شبيه بمن قال: أنا لا أطأ امرأة، وإن كان قد قدر أن يأتيني منها ولد فسيأتيني. ومن ثم فالاحتجاج بعلم الله السابق باطل، وبهذا تبطل كثير من الشبه التي تثار حول الاحتجاج بالقدر (¬1). وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري مذهب أهل السنة والجماعة من التسليم والاستسلام لله تعالى في كل ما يقضيه ويقدره، وفي كل ما يشرعه ويأمر به وينهى عنه، ومن التحذير من الاحتجاج بالقدر، ومن ذلك قوله: "ولا نجعل التقدير للذنب حجة ... لنا بل علينا حجة الله بالنذر" (¬2). ¬

(¬1) انظر: القضاء والقدر، ص 413 - 420. (¬2) نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 34.

الفصل الخامس منهج جمال الدين السرمري في مسائل الإيمان

الفصل الخامس منهج جمال الدين السرمري في مسائل الإيمان وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: مسمى الإيمان. المبحث الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه. المبحث الثالث: الاستثناء في الإيمان. المبحث الرابع: الكبيرة وحكم مرتكبها.

المبحث الأول مسمى الإيمان ومفهومه

المبحث الأول مسمى الإيمان ومفهومه الإيمان في اللغة: قال ابن فارس رحمه الله: "الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان: أحدهما الأمانة التي هي ضد الخيانة، ومعناها سكون القلب، والآخر التصديق؛ والمعنيان متدانيان ... " (¬1). وقال الراغب: "أصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف" (¬2). وقال شيخ الإسلام: "فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد" (¬3). ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- رأي سديد في معنى الإيمان اللغوي، وهو من آرائه الدقيقة، واختياراته الموفقة؛ حيث اختار معنى (الإقرار) للإيمان على معنى التصديق، لأنه رأى أن لفظة (أقر) أصدق في الدلالة والبيان على معنى الإيمان الشرعي من غيرها، قال رحمه الله: " ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار، لا مجرد التصديق، والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق، وعمل القلب الذي هو الانقياد" (¬4). وقال رحمه الله في رده على من ادعى الترادف بين الإيمان والتصديق: " أنه -أي الإيمان- ليس مرادفاً للتصديق في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب، يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت؛ فمن قال: السماء فوقنا، قيل له: صدق، كما يقال: كذب، وأما لفظ الإيمان، فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب، لم يوجد في الكلام أن من أخبر عن ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة (1/ 133). (¬2) المفردات في غريب القرآن ص 25. (¬3) الصارم المسلول على شاتم الرسول (1/ 519)، لابن تيمية، تحقيق: محمد عبدالله الحلواني ومحمد كبير أحمد شوردي، الطبعة الأولى 1417، دار ابن حزم، بيروت. (¬4) مجموع الفتاوى (7/ 638).

مشاهدة، كقول: طلعت الشمس وغربت أنه يقال: آمناه، كما يقال: صدقناه، ولهذا المحدثون والشهود ونحوهم، يقال: صدقناهم، وما يقال: آمنا لهم؛ فإن الإيمان مشتق من الأمن، فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر؛ كالأمر الغائب الذي يؤمن عليه المخبر، ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ: آمن له؛ إلا في هذا النوع" (¬1). وقال أيضاً: "أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب، كلفظ التصديق؛ فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت أو كذبت، ويقال: صدقناه، أو كذبناه، ولا يقال: لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه، ولا يقال: أنت مؤمن له أو مكذب له؛ بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر، يقال: هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب" (¬2). تعريف الإيمان شرعاً: يحدد الإمام جمال الدين السرمري مفهوم الإيمان شرعاً: بأنه تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، يزيد بكثرة العمل والطاعة وينقص بترك العلم والمعصية. يقول في ذلك: "وإيمانُنا قول وفعل ونيّة ... فقولٌ كمن يقرا وفعل كمن يقري يَقل بعصيان وينمو يضده ... وإن قل حتى كان في زنة الذَّر" (¬3) وقال في كتاب الإيمان من كتابه إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة: "وهو -أي الإيمان- قول وعمل يزيد وينقص" (¬4). وهذا الذي قرره هو مذهب أهل السنة. قال الإمام الشافعي: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين مِن بعدهم ممن أدركناهم: أن ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (7/ 291). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 292). (¬3) نهج الرشاد ص 31 - 32. (¬4) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة ص 74.

الإيمان: قول وعمل ونية، ولا يجزي واحد من الثلاثة إلا بالآخر" (¬1). وقال الإمام البخاري: كتبت عن ألف نفر من العلماء وزيادة ولم أكتب إلا عن من قال: الإيمان قول وعمل" (¬2). وقال يحيى بن سليم: "سألت عشرة من الفقهاء -وذكر منهم: الثوري، وابن جريج، وافع، ومالك، وابن عيينة، وغيرهم- عن الإيمان؟ فقالوا: قول وعمل" (¬3). وقال الآجري رحمه الله: "باب القول بأنَّ الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، لا يكون مؤمناً إلا بأن تجتمع فيه هذه الخصال الثلاث -ثم قال: - اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين: أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح؛ ثم اعلموا أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقاً، ولا تجزئ معرفة بالقلب ونطق اللسان حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كمُلت فيه هذه الخصال الثلاث كان مؤمناً دلَّ على ذلك القرآن والسنة وقول علماء المسلمين" (¬4). وقال ابن عبدالبر: " أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل, ولا عمل إلا بنية والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, والطاعات كلها عندهم إيمان ... " (¬5). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن أصول أهل السنة: أن الدين والإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية" (¬6). ¬

(¬1) رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (5/ 957) ح 1593. (¬2) المصدر السابق (5/ 959) ح 1598. (¬3) المصدر السابق (4/ 930) ح 1584. (¬4) الشريعة (3/ 611). (¬5) التمهيد (9/ 238). (¬6) مجموع الفتاوى (3/ 151).

المبحث الثاني زيادة الإيمان ونقصانه

المبحث الثاني زيادة الإيمان ونقصانه الكلام في هذا الفصل مترتب على الكلام في الفصل السابق، ونتيجة للخلاف في تحديد حقيقة الإيمان، وهل الأعمال داخلة فيه أم لا؟ فمن قال إن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان ذهب إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا ما قرره جمال الدين السرمري وانتصر له بذكر الأدلة عليه. قال رحمه الله في ذلك: "وإيمانُنا قول وفعل ونيّة ... فقولٌ كمن يقرا وفعل كمن يقري يَقل بعصيان وينمو يضده ... وإن قل حتى كان في زنة الذَّر" (¬1). وقال في كتاب الإيمان من كتابه إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة: "وهو -أي الإيمان- قول وعمل يزيد وينقص، وقال الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: من الآية 4]، وقوله: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: من الآية 13]، وقوله: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدَّثر: من الآية 31]، وقوله: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة: من الآية 124] " (¬2). وهذا الذي قرره هو مذهب أهل السنة. قال عبدالرزاق الصنعاني: "لقيت اثنين وستين شيخاً ... كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" (¬3). وقال عقبة بن علقمة: "سألت الأوزاعي عن الإيمان أيزيد؟ قال نعم حتى يكون كالجبال، ¬

(¬1) نهج الرشاد ص 31 - 32. (¬2) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة ص 74. (¬3) رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (5/ 1029) ح 1737.

قلت: فينقص؟ قال: نعم، حتى لا يبقى منه شيء" (¬1). وقال يعقوب بن سليمان: "الإيمان عند أهل السنة: الإخلاص لله بالقلوب والألسنة والجوارح وهو قول وعمل يزيد وينقص، على ذلك وجدنا كل من أدركنا من عصرنا بمكة والمدينة والشام والبصرة والكوفة" (¬2). وقال سهل بن المتوكل: "أدركت ألف أستاذ وأكثر كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" (¬3). ¬

(¬1) رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (5/ 1030) ح 1740. (¬2) رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (5/ 1035) ح 1753. (¬3) رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (5/ 1036) ح 1754.

المبحث الثالث الاستثناء في الإيمان

المبحث الثالث الاستثناء في الإيمان المراد بالاستثناء في الإيمان: هو قول الرجل: "أنا مؤمن إن شاء الله"، وهذه المسألة مرتبط بالكلام في المبحثين السابقين، وثمرة من ثمرات الخلاف فيهما، وحاصل الأقوال التي قيلت في المسألة على ثلاثة أقوال قد جلاها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال: "وأما الاستثناء في الإيمان بقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، فالناس فيه على ثلاثة أقوال: منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجوز الأمرين باعتبارين وهذا أصح الأقوال. فالذين يحرمونه: هم المرجئة والجهمية ونحوهم ممن يجعل الإيمان شيئًا واحدًا يعلمه الإنسان من نفسه كالتصديق بالرب ونحو ذلك مما في قلبه، فيقول أحدهم: أنا أعلم أني مؤمن كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين وكما أعلم أني قرأت الفاتحة وكما أعلم أني أحب رسول الله وأني أبغض اليهود والنصارى، فقولي: أنا مؤمن كقولي: أنا مسلم وكقولي: تكلمت بالشهادتين وقرأت الفاتحة وكقولي: أنا أبغض اليهود والنصارى، ونحو ذلك من الأمور الحاضرة التي أنا أعلمها وأقطع بها، وكما أنه لا يجوز أن يقال: أنا قرأت الفاتحة إن شاء الله، كذلك لا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لكن إذا كان يشك في ذلك فيقول: فعلته إن شاء الله، قالوا: فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه وسموهم الشكاكة. والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان: أحدهما أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً وكافراً باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه وما قبل ذلك لا عبرة به، قالوا: والإيمان الذي يتعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان كالصلاة التي يفسدها صاحبها قبل الكمال، وكالصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وصاحب هذا هو عند الله كافر لعلمه بما يموت عليه، وكذلك قالوا في الكفر، وهذا المأخذ مأخذ كثير من المتأخرين من الكلابية وغيرهم ممن يريد أن ينصر ما اشتهر عن أهل السنة

والحديث من قولهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ويريد مع ذلك أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود منه وإنما يشك في المستقبل، وانضم إلى ذلك أنهم يقولون: محبة الله ورضاه وسخطه وبغضه قديم ... فهؤلاء يقولون: إذا علم أن الإنسان يموت كافراً لم يزل مريداً لعقوبته فذاك الإيمان الذي كان معه باطل لا فائدة فيه بل وجوده كعدمه، فليس هذا بمؤمن أصلاً، وإذا علم أنه يموت مؤمناً لم يزل مريداً لإثابته وذاك الكفر الذي فعله وجوده كعدمه، فلم يكن هذا كافرا عندهم أصلاً، فهؤلاء يستثنون في الإيمان بناء على هذا المأخذ، وكذلك بعض محققيهم يستثنون في الكفر مثل أبي منصور الماتريدي فإن ما ذكروه مطرد فيهما ... " (¬1). وقال في موضع آخر مبيناً مأخذ أهل السنة والجماعة: "والقول الثالث أوسطها وأعدلها: أنه يجوز باعتبار وتركه باعتبار، فإذا كان مقصوده أني لا أعلم أني قائم بكل ما أوجب الله علي وأنه يقبل أعمالي، ليس مقصوده الشك فيما في قلبه، فهذا استثناؤه حسن، وقصده أن لا يُزكي نفسه بأنه عمل عملاً كما أُمر فقبل منه، والذنوب كثيرة والنفاق مخف على عامة الناس" (¬2). وقال أيضاً: "والذين استثنوا من السلف والخلف لم يقصدوا في الإنشاء وإنما كان استثناؤهم في إخباره عما قد حصل له من الإيمان فاستثنوا إما أن الإيمان المطلق يقتضي دخول الجنة وهم لا يعلمون الخاتمة كأنه إذا قيل للرجل: أنت مؤمن، قيل له: أنت عند الله مؤمن من أهل الجنة، فيقول: أنا كذلك إن شاء الله، أو لأنهم لا يعرفون أنهم أتوا بكمال الإيمان الواجب" (¬3). واستدل أهل السنة على جواز الاستثناء على الأمور اليقينية بأدلة منها: قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: من الآية 27] مع العلم أن الله يعلم أنهم سيدخلون لا محالة. وقال الفضل بن زياد: "سمعت أبا عبد الله يقول: إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله فليس هو ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (7/ 229 - 231). (¬2) مجموع الفتاوى (13/ 41). (¬3) مجموع الفتاوى (13/ 42).

بشاك، قيل له: إن شاء الله، أليس هو شكاً؟ فقال: معاذ الله، أليس قد قال الله تعالى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: من الآية 27] وفي علمه أنهم يدخلونه، وصاحب القبر إذا قيل له: وعليه تبعث إن شاء الله، فأي شك هاهنا؟ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» " (¬1). وعن الأثرم قال: "حدثنا أبو عبدالله -يعني الإمام أحمد- بحديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله»، فقال: هذا أيضاً أرجو، أي هو حجة في الاستثناء في الإيمان، أي: إنه قال أرجو وهو أخشاهم" (¬2). ولم أقف على كلام صريح للإمام جمال الدين السرمري رحمه الله في مسألة الاستثناء في الإيمان، لكنه ممن يرى أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص كما تقدم، ومن قال بهذين الأصلين قال بالاستثناء في الإيمان. قال الخلال: "دخل عليه -أي الإمام أحمد- شيخ فسأله عن الإيمان، فقال له: قول وعمل، يزيد وينقص، فقال له: أقول: مؤمن إن شاء الله؟ قال: نعم، فقال له: إنهم يقولون لي: إنك شاك، قال: بئس ما قالوا، ثم خرج، فقال: ردوه، فقال: أليس يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؟ قال: نعم، قال: هؤلاء يستثنون، قال له: كيف يا أبا عبد الله؟ قال: قل لهم: زعمتم أن الإيمان قول وعمل، فالقول قد أتيتم به، والعمل لم تأتوا به، فهذا الاستثناء لهذا العمل" (¬3). ¬

(¬1) الشريعة للآجري (3/ 660). (¬2) رواه الخلال في السنة (3/ 596 - 597) ح 1055، قال محقق الكتاب -د. عطية الزهراني-: "إسناده صحيح". (¬3) مجموع الفتاوى (7/ 451).

المبحث الرابع الكبيرة وحكم مرتكبها

المبحث الرابع الكبيرة وحكم مرتكبها إن مسألة حكم مرتكب الكبيرة من المسائل الكبار التي زلت فيها بعض الأقدام، وجرى بسببها خلاف كبير بين أهل السنة وبين الفرق الأخرى، وصار الناس فيها طرفين ووسطاً: فمنهم من غلب جانب نصوص الوعد، وأهمل نصوص الوعيد، وهؤلاء هم المرجئة، حيث زعموا أن من قال لا إله إلا الله محمداً رسول الله وحرم ما حرم الله وأحل ما أحل الله دخل الجنة إذا مات، وإن سرق وقتل وشرب الخمر وقذف المحصنات وترك الصلاة والزكاة والصيام إذا كان مقراً بها يُسوِّف التوبة لم يضره وقوعه على الكبائر وتركه للفرائض وركوبه الفواحش، وإن فعل ذلك استحلالاً كان كافراً بالله مشركاً وخرج من إيمانه وصار من أهل النار، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وإيمان الملائكة والأنبياء والأمم وعلماء الناس وجهالهم واحد لا يزيد منه شيء على شيء أصلاً (¬1). وقابل هؤلاء من غلَّب جانب نصوص الوعيد وأهمل نصوص الوعد، وهؤلاء هم الوعيدية -الخوارج والمعتزلة-، وزعموا أن مرتكب الكبيرة حكمه في الدنيا كافرٌ كفراً أكبر -على حد زعم جمهور الخوارج- (¬2)، وفي منزلة بين المنزلتين -على حد زعم المعتزلة- (¬3)؛ أما في حكمه في الآخرة -إن لم يتب- فهو خالد مخلد في النار وقولهما في هذا واحد، غير أن الخوارج يقولون إن مرتكبي الكبائر ممن ينتحل الاسلام يعذبون عذاب الكافرين والمعتزلة يقولون إن عذابهم ليس كعذاب الكافرين (¬4). ¬

(¬1) التنبيه والرد، ص 43. (¬2) الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية ص 56، لعبدالقاهر بن طاهر البغدادي، الطبعة الثانية 1977 م، دار الآفاق الجديدة، بيروت. (¬3) مقالات الإسلاميين ص 270. (¬4) مقالات الإسلاميين ص 124.

وهدى الله أهل السنة للجمع بين النصوص فكان منهجهم وسطاً بين الإفراط والتفريط، فقالوا: إن مرتكب الكبيرة -عدا الشرك- لا يكفر -إذا لم يستحل ذلك- ولا يخرج من الإسلام بهذه المعصية، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته، وإذا مات من غير توبة فهو تحت المشيئة, إن شاء الله غفر له ابتداءاً وأدخله الجنة رحمه منه وفضلاً، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم أدخله الجنه بعدله وحكمته. ولا شك أن هذا المعنى هو ما تواترت عليه أدلة الكتاب والسنة: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]. قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: "وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرة شركًا بالله" (¬1). وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحُجُرات: 9]. فسمى الله تعالى كلا من الطائفتين المقتتلتين مؤمنة وأمر بالاصلاح بينهما ولو بقتال الباغية (¬2). وكذلك في آية القصاص أثبت الإيمان للقاتل والمقتول من المؤمنين وأثبت لهم أخوة الإيمان فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: من الآية 178]. ¬

(¬1) تفسير الطبري (8/ 450). (¬2) معارج القبول (3/ 1018).

وحديث أبي ذر - رضي الله عنه - الطويل، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن جبريل عرض له في جانب الحرة، فقال: «بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، قلت يا جبريل، وإن سرق؟ وإن زنى؟ قال: نعم، قال: قلت: وإن سرق؟ وإن زنى؟ قال: نعم وإن شرب الخمر» (¬1). وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أن رجلاً كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبدالله وكان يُلقب "حمَاراً"، وكان يُضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأُتي به يوماً فأمَر به فجُلِد، فقال رجلٌ من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله» (¬2). وأحاديث الشفاعة لأهل الكبائر جميعها دالة على هذا المعنى، وقد تقدمت في مطلب الشفاعة. وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري رحمه الله هذا الأصل، وبيَّن أن لا يكفر أحد من أهل القبلة بكل ذنب، ولا يخرج من الإسلام بمعصية، وأنه يُرجى للمحسن، ويُخاف على المسيء، فقال: "ولا يخرج الإيمان من قلب مؤمن مصرٍّ على فعل المآثم مستجري ونرجوا الرِّضا عمَّن قضى وهو مؤمن ويُخشى على من مات وهو على شرِّ" (¬3). وقال في موضع آخر في بيان عدم خلود أهل الكبائر في النار: "ويدخل ناسٌ بالمعاصي جهنماً ... فيأخذهم منها على قدر الوزر ويشفع فيهم سيد الخلق أحمد ... عليه صلاة الله ما غرَّد القمري ويخرج مَن في قلبه وزن ذرة ... بلا شك منها مِن مُقارفة البِرِّ" (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (8/ 94)، كتاب الرقاق، باب المكثرون هم المقلون، ح 6443. (¬2) أخرجه البخاري (8/ 158)، كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وإنه ليس بخارج من الملة، ح 6780. (¬3) نهج الرشاد، ص 36. (¬4) نهج الرشاد، ص 38.

وما قرره الإمام جمال الدين السرمري رحمه الله هو ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة في هذه المسألة. قال ابن بطة: "وقد أجمعت العلماء لا خلاف بينهم أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بمعصية، نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء" (¬1). وقال أبو الحسن الأشعري: " وأجمعوا -يعني أهل السنة- على أن المؤمن بالله تعالى وسائر ما دعاه النبي إلى الإيمان به لا يخرجه عنه شيء من المعاصي ولا يحبط إيمانه إلا الكفر، وأن العصاة من أهل القبلة مأمورين بسائر الشرائع غير خارجين عن الإيمان بمعاصيهم" (¬2). وقال الإمام الصابوني: "ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة صغائر وكبائر فإنه لا يكفر بها، وإن خرج من الدنيا غير تائب منها ومات على التوحيد والإخلاص، فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة يوم القيامة سالماً غانماً غير مبتلى بالنار ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عفا عنه وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار" (¬3). وقال شيخ الإسلام في معرض ذكره لأصول أهل السنة: "وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي ... ولا يسلبون الفاسق الملِّي الإيمان بالكلية ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة ... ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم" (¬4). ¬

(¬1) منهج الإمام ابن بطة في تقرير عقيدة السلف والرد على أهل الأهواء والبدع (2/ 639)، د. حمد بن عبدالمحسن التويجري. (¬2) رسالة إلى أهل الثغر، ص 274. (¬3) عقيدة السلف وأصحاب الحديث، ص 276. (¬4) مجموع الفتاوى (3/ 151 - 152).

وقال ابن أبي العز الحنفي: "أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية ... ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود مع الكافرين" (¬1). ¬

(¬1) شرح الطحاوية، ص 301 - 302.

الفصل السادس منهج جمال الدين السرمري في الصحابة والإمامة

الفصل السادس منهج جمال الدين السرمري في الصحابة والإمامة وفيه مبحثان: المبحث الأول: منهج جمال الدين السرمري في الصحابة - رضي الله عنهم -. المبحث الثاني: منهج جمال الدين السرمري في الإمامة.

المبحث الأول منهج جمال الدين السرمري في الصحابة - رضي الله عنهم -

المبحث الأول منهج جمال الدين السرمري في الصحابة - رضي الله عنهم - تمهيد: تعريف الصحابي: لغة: الصاد والحاء والباء، أصل واحد، يدل على مقارنة شيء ومقاربته من ذلك الصَّاحب، والجمع: الصَّحْب؛ ومن الباب: أصحب فلان: إذا انقاد، وكل شيء لائم شيئاً فقد استصحبه (¬1). قال الباقلاني: "لا خلاف بين أهل اللغة في أن القول صحابي مشتق من الصحبة وأنه ليس بمشتق من قدر منها مخصوص بل هو جار على كل من صحب غيره قليلًا كان أو كثيرًا كما أن القول مكلم ومخاطب وضارب مشتق من المكالمة والمخاطبة والضرب وجار على كل من وقع منه ذلك قليلًا كان أو كثيرًا وكذلك جميع الأسماء المشتقة من الأفعال وكذلك يقال: صحبت فلاناً حولاً ودهرًا وسنة وشهرًا ويومًا وساعة، فيوقع اسم المصاحبة بقليل ما يقع منها وكثيره وذلك يوجب في حكم اللغة إجراء هذا على من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو ساعة من نهار هذا هو الأصل في اشتقاق الاسم ... " (¬2). وقال السخاوي: "الصحابي لغة: يقع على من صحب أقل ما يطلق اسم الصحبة فضلاً عمن طالت صحبته وكثرت مجالسته" (¬3). ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة (3/ 335). (¬2) الكفاية في علم الرواية ص 51، للخطيب البغدادي، تحقيق: أبو عبدالله السورقي وإبراهيم حمدي المدني، المكتبة العلمية، المدينة. (¬3) فتح المغيث شرح ألفية الحديث، لشمس الدين السخاوي (3/ 93)، الطبعة الأولى 1403، دار الكتب العلمية، لبنان.

أما تعريفه في الاصطلاح: فقد تنوعت عبارات العلماء في ذلك مع اتفاق المعنى في الجملة: قال الواقدي: "ورأينا أهل العلم يقولون: كل من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أدرك الحلم فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممن صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو ساعة من نهار ولكن أصحابه على طبقاتهم وتقدمهم في الإسلام" (¬1). قال الإمام أحمد: "كل من صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدر ما صحبه، وكان سابقته معه، وسمع منه، ونظر إليه" (¬2). وقال البخاري: "من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه" (¬3). ولعل من أدق التعاريف ما ذكره الحافظ ابن حجر بقوله: "وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي: من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به ومات على الإسلام -ثم شرح التعريف بقوله: - فيدخل فيمن (لقيه): من طالت مجالسته له أو قصرت ومن روى عنه أو لم يرو ومن غزا معه أو لم يغز ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ومن لم يره لعارض كالعمى، ويخرج بقيد (الإيمان): من لقيه كافرًا ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى، وقولنا (به): يخرج من لقيه مؤمنًا بغيره كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة، وهل يدخل من لقيه منهم وآمن بأنه سيبعث أو لا يدخل محل احتمال ومن هؤلاء بحيرا الراهب ونظراؤه، ويدخل في قولنا (مؤمنًا به): كل مكلف من الجن والإنس فحينئذ يتعين ذكر من حفظ ذكره من الجن الذين آمنوا به بالشرط المذكور ... ، وهل تدخل الملائكة محل نظر قد قال بعضهم إن ذلك ينبني على أنه هل كان مبعوثا إليهم أو لا ... ، وخرج بقولنا (ومات على الإسلام): من لقيه مؤمنًا به ثم ارتد ومات على ردته والعياذ بالله ... ويدخل فيه من ارتد وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت سواء اجتمع به - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى أم لا وهذا هو الصحيح المعتمد والشق الأول لا خلاف في دخوله وأبدى ¬

(¬1) أسد الغابة (1/ 7). (¬2) الكفاية، ص 52. (¬3) فتح الباري (7/ 3).

المطلب الأول: حق الصحابة - رضي الله عنهم -

بعضهم في الشق الثاني احتمالًا وهو مردود لإطباق أهل الحديث على عد الأشعث بن قيس في الصحابة وعلى تخريج أحاديثه في الصحاح والمسانيد وهو ممن ارتد ثم عاد إلى الإسلام في خلافة أبي بكر, وهذا التعريف مبني على الأصح المختار عند المحققين كالبخاري وشيخه أحمد ابن حنبل ومن تبعهما" (¬1). المطلب الأول: حق الصحابة - رضي الله عنهم -: يقرر جمال الدين السرمري رحمه الله تولي جميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومحبتهم، والترضي عنهم، وأنهم خير قرون الخلق. أما على الخصوص: فمعرفة لكل فضله ومنزلته وسابقته بحسب ورود النص فيه على خصوصه، والشهادة له وفق ما جاء في هذا النص، كالخلفاء الأربعة، وبقية العشرة، وأهل بدر، وبيعة الشجرة، وعائشة، وسائر أمهات المؤمنين. يقول رحمه الله: "وخير القرون الخلق قرن نبيّنا ... وأفضله عشرون مع عشر مع عشر هم الأربعون المسلمون الألى بهم ... جرى القمر الإيمان في فلك النَّصر وأفضلهم عشر عن النار زحزحوا ... فكل ثَوى من جنة الخلد في قَصْر وأفضل هذا العشر أربعة لهم ... على الخلق فضل كالنُّضار على الصُّفْر (¬2) -ثم قال: - وأن نترضى عن صحاب محمد ... كما أمر الرحمن في سورة الحشر -إلى أن قال: - وأن لأهل البيت فضلاً على الورى ... نحققه فيهم للفقير وللمثري ¬

(¬1) الإصابة (1/ 4 - 5). (¬2) النضار: الذهب. لسان العرب (1/ 642)؛ والصُّفْر: النحاس. انظر: لسان العرب (4/ 460).

وأن ابنة الصدّيق عائشة الرضى ... منزهة عما يقول أولو الأشر وكل نساء المصطفى أمهاتنا ... ورادِدُ هذا القول مستوجب الهجر" (¬1). وقد تقدم أن من مؤلفات السرمري: كتاب "عمدة الدين في فضل الخلفاء الراشدين" , وكتاب "غيث السحابة في فضائل الصحابة", وكتاب "نشر القلب الميْت بفضل أهل البيت". وما قرره جمال الدين السرمري رحمه الله موافق للنصوص الشرعية ومنهج أهل السنة والجماعة. قال - سبحانه وتعالى -: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. وقال - عز وجل -: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]. وقال - جل جلاله -: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]. وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «خيركم قرني، ثم يلونهم، ثم الذين يلونهم» (¬2). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق ¬

(¬1) نهج الرشاد، ص 42 - 43. (¬2) أخرجه البخاري (8/ 91)، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، ح 6428؛ ومسلم (4/ 1964)، كتاب فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ح 2535؛ واللفظ للبخاري.

مثل أحد ذهباً، ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه» (¬1). وحديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها» (¬2). وحديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الطويل في قصة حاطب بن أبي بلعتة - رضي الله عنه -، وفيه: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم» (¬3). والأدلة من السنة كثيرة جداً، حتى أن أئمة أهل الحديث عقدوا لهذا الموضوع مباحث مستقلة في كتبهم. قال شيخ الإسلام -بعد أن ذكر جملة من أحاديث فضائل الصحابة-: "وهذه الأحاديث مستفيضة بل متواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون" (¬4). وقال ابن كثير: "والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة، لما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم، وما بذلوه من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل، والجزاء الجميل" (¬5). وقد حُكي الإجماع على عدالتهم، قال السفاريني: "فمعتمد القول عند أئمة السنة أن ¬

(¬1) أخرجه البخاري (5/ 8)، كتاب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو كنت متخذاً خليلاً»، ح 3673؛ ومسلم (4/ 1967)، كتاب فضائل الصحابه - رضي الله عنهم -، باب تحريم سب الصحابة - رضي الله عنهم -، ح 2541. (¬2) أخرجه مسلم (4/ 1942)، كتاب فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -، باب فضائل أصحاب الشجرة أهل بيعة الرضوان - رضي الله عنهم -، ح 2496. (¬3) أخرجه البخاري (5/ 145)، كتاب المغازي، باب غزوة الفتح، ح 4274؛ ومسلم (4/ 1941)، كتاب فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -، باب من فضائل أهل بدر - رضي الله عنهم - وقصة حاطب بن أبي بلتعة، ح 2494. (¬4) مجموع الفتاوى (4/ 430). (¬5) اختصار علوم الحديث ص 181 - 182، لابن كثير، تحقيق: أحمد شاكر، الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية، بيروت.

المطلب الثاني: الإمساك عما شجر بين الصحابة - رضي الله عنهم -

الصحابة رضوان الله عليهم كلهم عدول بالكتاب والسنة وإجماع أهل الحق المعتبرين" (¬1). المطلب الثاني: الإمساك عما شجر بين الصحابة - رضي الله عنهم -: قرر جمال الدين السرمري رحمه الله الإمساك عما شجر بينهم، مع سلامة القلوب، وكف الألسن عن الخوض في ذلك، فقال: "ونمسك عمّا شجر بينهم من تشاجر ... ونعلم أن الله لكل ذو غفر" (¬2). وما قرره جمال الدين السرمري هو أصل من أصول مذهب أهل السنة والجماعة تجاه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "لا تسبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن الله - عز وجل - قد أمر بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون" (¬3). وقال الإمام الصابوني في عقيدة السلف وأصحاب الحديث: "ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيبًا لهم ونقصًا فيهم، ويرون الترحم على جميعهم والموالاة لكافتهم" (¬4). وقال أبو الحسن الأشعري: "وأجمعوا -يعني أهل السنة- على الكف عن ذكر الصحابة عليهم السلام إلا بخير ما يذكرون به، وعلى أنهم أحق أن ينشر محاسنهم ويلتمس لأفعالهم أفضل المخارج وأن نظن بهم أحسن الظن وأحسن المذاهب ممتثلين في ذلك لقول رسول الله: «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا» وقال أهل العلم: معنى ذلك لا تذكروهم إلا بخير الذكر ... " (¬5). وقال شيخ الإسلام في معرض ذكره لأصول أهل السنة والجماعة: "ويمسكون عما شجر ¬

(¬1) لوامع الأنوار (3/ 377). (¬2) نهج الرشاد، ص 43. (¬3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (7/ 1318 - 1319). (¬4) عقيدة السلف وأصحاب الحديث، ص 32. (¬5) رسالة إلى أهل الثغر، ص 303 - 304.

المطلب الثالث: ترتيب الخلفاء في الفضل

بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ماهو كذب ومنها ما قدر زيد ونُقص وغُيِّر عن وجهه، والصحيح منه: هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون ... " (¬1). ولا يعني الإمساك عما شجر بين الصحابة ادعاء العصمة لهم، بل هم بشر يجري عليهم ما يجري على سائر البشر من الخطأ والسهو والغفلة. قال شيخ الإسلام: "ومما ينبغي أن يُعلم أنه وإن كان المختار الإمساك عما شجر بين الصحابة والاستغفار للطائفتين جميعاً وموالاتهم، فليس من الواجب اعتقاد أن كل واحد من العسكر لم يكن إلا مجتهداً متأولاً كالعلماء، بل فيهم المُذنب والمُسيء، وفيهم المُقصر في الاجتهاد لنوع من الهوى لكن إذا كانت السيئة في حسنات كثيرة كان مرجوحة مغفورة، وأهل السنة تُحسن القول فيهم وتترحم عليهم وتستغفر لهم، لكن لا يعتقدون العصمة من الإقرار على الذنوب وعلى الخطأ في الاجتهاد ... " (¬2). المطلب الثالث: ترتيب الخلفاء في الفضل: إن التفاضل بين الخلق سنة من سنن الله في هذا الكون: قال تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: من الآية 32]. وقال - عز وجل -: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: من الآية 71]. ولقد فضل الله بعض النبيين على بعض، قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: من الآية 253]. وقال - سبحانه وتعالى -: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: من الآية 55]. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (3/ 155). (¬2) مجموع الفتاوى (4/ 434).

كما أنه سبحانه وتعالى فاضل بين الأمم، فقال - سبحانه وتعالى -: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة من الآية: 47]. وكذلك الصحابة - رضي الله عنهم - كسائر الخلق بينهم التفاضل، قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: من الآية 10]. وأهل السنة والجماعة يقرون بما تواتر به النقل ودلت عليه الآثار من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ووقع الخلاف من بعضهم في عثمان وعلي - رضي الله عنهم - في الفضل مع إجماعهم على تقديم عثمان - رضي الله عنه - في مسألة الخلافة. ثم استقر قول أهل السنة على تقديم عثمان على علي في الفضل، وأن ترتيب الخلفاء الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض ذكره لأصول أهل السنة والجماعة: "ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعن غيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ويثلثون بعثمان ويربِّعون بعلي - رضي الله عنهم - كما دلت عليه الآثار وكما أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على تقديم عثمان في البيعة مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي -رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر- أيها أفضل، فقدم قوم عثمان وسكتوا أو ربعوا بعلي، وقدَّم قوم علياً، وقوم توقفوا؛ لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان، وإن كانت هذه المسألة -مسألة عثمان وعلي- ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن المسألة التي يضلل المخالف فيها هي مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله" (¬1). وهذا ما قرره جمال الدين السرمري رحمه الله حيث قال: ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (3/ 153).

المطلب الرابع: موقف أهل البدع من الصحابة

"وأفضلهم صدِّيقه ووزيره ... أبو بكر ذو الإنفاق في اليسر والعسر ومن بعده الفاروق لا يُنسى فضله ... وعثمان ذو النورين ذو القرب بالصهر ومن بعده زوج البتول عليّ الذي ... جاهد الكفار بالبيض والسُمر" (¬1). وقال في تقدمة كتابه (المولد الكبير للبشير النذير - صلى الله عليه وسلم -) بعد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وعلى صاحبه الصدّيق وخليفته بالتحقيق، والمُنفق عليه ماله في الضيق، أبي بكر عبدالله بن عثمان الذي قاتل أهل الردة، وألحق العاصي بالمطيع؛ وعلى صاحبه الفاروق، المكلَّم والمكاشف، المحدث الملهم، والعادل المعظم المكرم، أبي حفص عمر بن الخطاب، كافل الأرملة واليتيم، والعظيم والرّضيع؛ وعلى ذو النورين، صهره على الابنتين، وختنه على الكريمتين، وأمينه على البضْعتين، أبي عمرو عثمان بن عفان المقتول ظلماً، أفضل أهل البقيع؛ وعلى المرتضى البطل الهمام، والأسد الهزبر الضرغام، كاثر الأوثان والأصنام، أبي الحسن علي بن أبي طالب الذي ما بارزه بطل إلا سقاه كأس النَّجيع" (¬2). المطلب الرابع: موقف أهل البدع من الصحابة: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن في آيات كثيرة يكثر إيرادها ويطول تعدادها، ووصف رسول الله الصحابة مثل ذلك، وأطنب في تعظيمهم، وأحسن الثناء عليهم؛ وهؤلاء الصفوة الذين يعتبرون تاجاً في رأس الأمة الإسلامية، لم تسلم من كيد بعض أصحاب القلوب المريضة ممن وجدوا في هذه الصفوة الطاهرة بغيتهم، فذهبوا يكيدون لها بالكذب والافتراء، حتى طعنوا في عدالتهم ورموهم بالعظائم زوراً وبهتاناً، يحدوهم في هذا كله الجهل حيناً والهوى أحياناً. ¬

(¬1) نهج الرشاد، ص 43. (¬2) المولد الكبير للبشير النذير (مخطوط) ورقة: 1 ب.

وممن تولى كبر ذلك وحمل لواءه: 1 - الخوارج: قالوا بتكفير علي وعثمان، وأصحاب الجمل والحكمين ومن صوبهما أو صوب أحدهما أو رضي بالتحكيم (¬1). 2 - الروافض: قالوا بتكفير أبي بكر وعمر وعثمان ومن عقدوا خلافتهم وبايعوهم (¬2). ولقد عَرَضَ الإمام جمال الدين السرمري لكل الطائفتين، وبين فساد مذهبهم بالعموم، ولم يعرض لشيء من شبههم، فمن ذلك قوله: "ومحبة أحد من أهل الجنة لا ينفعه ذلك مع مجانبة الكتاب والسنة، ممن أحب أبا بكر وعمر وعثمان وأبغض علياً، أو أحب علياً وأبغض أبا بكر وعمر وعثمان ... وقد جاء الحديث أن: «من أبغض أبا بكر وعمر فقد كفر» فلا تنفعه محبة علي، ومَثلُ ذلك كما قال الصرصري رحمه الله تعالى: مثل الذي جحد ابن مريم وادَّعى حب الكليم وتلك دعوى تفسدُ وروي في الحديث: أن علياً - رضي الله عنه - لا يبغضه إلا منافق ولا يحبه إلا مؤمن، قال بعض الصحابة: إنْ كنَّا لنعرف المنافقين منا معاشر الأنصار ببغضهم علي بن أبي طالب؛ وأما ما يدعيه الرافضة من حبهم علياً - عليه السلام -، فليس من هذا في شيء، ودعواهم أن محبته ومحبة أهل البيت حسنة لا يضرها معها سيئة فهي دعوى فاسدة، لأنهم كما زعموا يحبونهم ويبغضون أهلهم وأصحابهم وأختانهم وأحماهم ومواليهم، ويسبونهم ويلعنونهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن لا يكون لعاناً»، وليس أحد ممن لعنوه أو سبوه إلا وقد سبقت له سابقة صالحة في الإسلام، وأبلى بلاءً حسناً، وقد نص النبي - صلى الله عليه وسلم - في جماعة منهم بأنهم في الجنة، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم، فمن أبغض علياً وأحب أبا بكر وعمر وعثمان لم ينفعه حبهما" (¬3). وقال في موضع آخر في بيان ضلال الرافضة: "هم أكذب الناس في قول وفي عمل وأعظم الخلق جهلاً في توثبه ¬

(¬1) انظر: الفرق بين الفرق، ص 56. (¬2) انظر: مجموع الفتاوى (28/ 477). (¬3) الأربعون الصحيحة، ص 68 - 69.

وهم أقل الورى عقلاً وأغفلهم ... عن كل خير وأبطا عن تكسبه وكل عيب يَرُدُّ الشرع قد جمعوا ... هم جند إبليس بل فرسان مِقْنبه (¬1) " (¬2). وقال في موضع آخر عند رده على السبكي حين شنع على شيخ الإسلام رده على ابن مطهر الحلي، وأوضح السرمري وجوب الرد على الرافضة، فقال: "والله لا غنية عن رد إفكهم ... بل رده واجب أعظم بمُوجبه أيتركون يسبون الصحابة والـ ... إسلام يختال زهواً في تصلبه هذا مقال شنيع لم يقل أحد ... به ولا رهط جهم في تحزبه" (¬3). وما ذكره السرمري من بيان ضلالهم وفساد مذهبهم هو قول أهل الأئمة في هذا الباب. قال الإمام الصابوني: "ومن أبغضهم -يعني الصحابة- وسبهم، ونسبهم إلى ما تنسبهم الروافض والخوارج، فقد هلك في الهالكين" (¬4). وقال الإمام النووي: "واعلم أن سب الصحابة - رضي الله عنهم - حرام من فواحش المحرمات سواء من لابس الفتن منهم وغيره لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون ... قال القاضي عياض: وسب أحدهم من المعاصي الكبار" (¬5). وقال الإمام أحمد: "من تنقص أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينطوي إلا على بلية وله خبيئة سوء" (¬6). وقال شيخ الإسلام في حكم تكفير الصحابة: "وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفراً قليلاً يبلغون بضعة عشر نفساً أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضاً في كفره لأنه كذب لما نصه القرآن في غير موضع: من الرضى ¬

(¬1) المِقنب -بالكسر-: جماعة الخيل. لسان العرب (1/ 690). (¬2) الحمية الإسلامية، ص 56. (¬3) الحمية الإسلامية، ص 58. (¬4) عقيدة السلف وأصحاب الحديث، ص 32. (¬5) شرح النووي على مسلم (16/ 93). (¬6) السنة للخلال (2/ 477) ح 758.

عنهم والثناء عليهم بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق وأن هذه الآية التي هي: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وخيرها هو القرن الأول، كان عامتهم كفاراً أو فساقاً ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم وأن سابقي هذه الأمة هم شرارهم وكفر هذا مما يعلم باضطرار من دين الإسلام" (¬1). ¬

(¬1) الصارم المسلول (1/ 590).

المبحث الثاني منهج جمال الدين السرمري في الإمامة

المبحث الثاني منهج جمال الدين السرمري في الإمامة تعريف الإمامة: الإمامة في اللغة: مصدر من الفعل (أمَّ) تقول: أمَّهم وأمَّ بهم: تقدَّمهم، والإمام: ما ائتم به من رئيس أو غيره (¬1). وقال ابن منظور: " والإمام ما ائتم به من رئيس وغيره، والجمع: أئمة ... وإمام كل شيء قيِّمُه والمصلح له، والقرآن إمام المسلمين، وسيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمام الأئمة، والخليفة إمام الرعية" (¬2). أما تعريف الإمامة في الاصطلاح: فقد عرفها العلماء بعدة تعريفات، وكلها متقاربة في المعنى فيعرفها الماوردي بأنها: "خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا" (¬3). وقال الجويني: "رياسة تامة وزعامة عامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا، متضمنها حفظ الحوزة ورعاية الرعية وإقامة الدعوة بالحجة والسيف وكف الجنف والحيف والانتصاف للمظلومين من الظالمين واستيفاء الحقوق من الممتنعين وإيفاؤها على المستحقين" (¬4). وقال ابن خلدون: "هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، ¬

(¬1) انظر: القاموس المحيط، ص 1392. (¬2) لسان العرب (12/ 22). (¬3) الأحكام السلطانية والولايات الدينية (1/ 3)، لأبي الحسن الماوردي، تحقيق: د. أحمد مبارك البغدادي، الطبعة الأولى 1409، دار ابن قتيبة، الكويت. (¬4) غياث الأمم والتياث الظلم ص 15، لأبي المعالي الجويني، تحقيق: د. فؤاد عبدالمنعم ود. مصطفى حلمي، 1979 م، دار الدعوة، الاسكندرية.

المطلب الأول: طاعة الأئمة، وحكم الخروج على الإمام الجائر

فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به" (¬1). وقال الإيجي: "هي خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة" (¬2). المطلب الأول: طاعة الأئمة، وحكم الخروج على الإمام الجائر: هذه المسألة من أبرز المسائل المتعلقة بمبحث الإمامة، وذلك لما حصل فيها من خلاف بين أهل السنة وبين بعض أهل البدع. وقد ذهب عامة أهل السنة إلى وجوب طاعة الأئمة، وعدم جواز الخروج على ولاة الأمر حتى ولو جاروا وظلموا، مالم يُرَ كفراً بواحاً فيه من الله برهان، لما يترتب على الخروج عليهم من المفاسد التي لا يقدر قدرها إلا الله، من سفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وانتهاب الأموال. بل وأوجب العلماء إقامة الشعائر العامة معهم مع جورهم وظلمهم، كإقامة الجمع، والحج، والعيدين، والجهاد، ونحو ذلك. وهذا ما قرره الإمام جمال الدين السرمري وبينه بياناً لا لبس فيه، حيث قال: "وإن نحن بايعنا الإمام ببيعة ... وَفينا ولم نغدرْ ولا خير في الغدرِ ونَلقى ولاة الأمر منا بطاعة ... ولا يُلتقى بالسيف منا أولى الأمرِ وننصرهم إن جاهدوا ونطيعهم ... وإن ظلموا عُدنا من الظلم بالصبرِ" (¬3). وكلام جمال الدين السرمري هذا، وكلام الأئمة قبله وبعده قد استند في ذلك إلى النصوص الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة. ومما ورد في هذا المعنى: ¬

(¬1) مقدمة ابن خلدون (1/ 365)، لولي الدين عبدالرحمن بن خلدون، تحقيق: عبدالله الدرويش، الطبعة الأولى 1425، دار يعرب، دمشق. (¬2) كتاب المواقف (3/ 579). (¬3) نهج الرشاد، ص 37.

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: من الآية 59]. وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأنَّ رأسه زبيبة» (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني» (¬2). وعن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، مالم يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (¬3). وعن عوف بن بن مالك - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يداً من طاعة» (¬4). وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع» قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما صلَّوا» (¬5). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (9/ 62)، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام مالم تكن معصية، ح 7142. (¬2) أخرجه البخاري (9/ 61)، كتاب الأحكام، باب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: من الآية 59]، ح 7137؛ ومسلم (3/ 1466)، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، ح 1835. (¬3) أخرجه البخاري (9/ 63)، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام مالم تكن معصية، ح 7144؛ ومسلم (3/ 1469)، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، ح 1839؛ واللفظ للبخاري. (¬4) أخرجه مسلم (3/ 1481)، كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم، ح 1855. (¬5) أخرجه مسلم (3/ 1480)، كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا ونحو ذلك، ح 1854.

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يُفارق الجماعة شبراً فيموت، إلا مات ميتة جاهلية» (¬1). هذه بعض نصوص الكتاب والسنة الدالة على وجوب طاعة الأئمة في غير معصية الله أبراراً كانوا أو فجاراً، وتحريم الخروج عليهم. أما الآثار عن السلف في هذا المعنى فكثيرة جداً. فمن ذلك قول أبو إسماعيل الصابوني: "ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم براً كان أو فاجرًا، ويرون جهاد الكفرة معهم وإن كانوا جورة فجرة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح، ولا يرون الخروج عليهم وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف" (¬2). وقال ابن بطال: "وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء ... ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها" (¬3). وقال حنبل: "اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبدالله، وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا -يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك- ولا نرضى بإمرته ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك وقال: عليكم بالإنكار بقلوبكم ولا تخلعوا يداً من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر، وقال: ليس هذا بصواب، هذا خلاف الآثار" (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (9/ 62)، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام مالم تكن معصية، ح 7143؛ ومسلم (3/ 1478)، كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن وتحذير الدعاة إلى الكفر، ح 1849؛ واللفظ للبخاري. (¬2) عقيدة السلف وأصحاب الحديث، ص 32. (¬3) فتح الباري (13/ 7). (¬4) الآداب الشرعية (1/ 196).

وقال النووي: "أجمع العلماء على وجوبها -يعني طاعة الأمراء- في غير معصية وعلى تحريمها في المعصية" (¬1). وقد بين الإمام النووي أن العلة من الحكم بالحرمة والتي من أجلها تظاهرت الأحاديث وانعقد إجماع أهل السنة: هو ما يترتب على ذلك من المفاسد الكثيرة، فقال: "وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل وحكى عن المعتزلة أيضاً فغلط من قائله مخالف للإجماع، قال العلماء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه" (¬2). وأما من يقول بجواز الخروج على أئمة الجور محتجاً بفعل بعض السلف، فالجواب عليه: أن القول بعدم جواز الخروج على أئمة الجور كان من مسائل الخلاف بين أهل السنة ثم انعقد الإجماع على الحرمة، ثم ليس كل خروجهم كان بمجرد الفسق، قال القاضي عياض: "وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذا الإجماع وقد رد عليه بعضهم هذا بقيام الحسن وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية وبقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث، وتأول هذا القائل قوله أن لا ننازع الأمر أهله في أئمة العدل، وحجة الجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق بل لما غير من الشرع وظاهر من الكفر، قال القاضي: وقيل أن هذا الخلاف كان أولاً ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم" (¬3). قال الباحث: وإن كان ظاهر قول القاضي عياض أنه يضعف انعقاد الإجماع على ذلك، لكن قد تقدم عن غير واحد من أهل العلم من حكى الإجماع عليه. ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم (12/ 229). (¬2) شرح النووي على مسلم (12/ 229). (¬3) شرح النووي على مسلم (12/ 229).

المطلب الثاني: موقف المخالفين لأهل السنة في مسألة الإمامة

وأما من ينفي من العلماء صحة الإجماع أصلاً على ذلك، كابن حزم (¬1) وابن الوزير (¬2) والشوكاني (¬3) وغيرهم، فمنزع قول أكثرهم مبني على مسألة أصولية، إذ لا يثبتون الإجماع الذي يقع بعد الخلاف، والله أعلم. المطلب الثاني: موقف المخالفين لأهل السنة في مسألة الإمامة: لم يكن إدخال العلماء هذه المسألة في صلب مسائل العقيدة، أو الإسهاب في الحديث عنها عبثاً، بل إن مما دعاهم إلى ذلك ما جنح إليه بعض أهل الأهواء والبدع من التخبط والانحراف في هذا الأصل العظيم، حتى صار ضلالهم فيه من الأصول التي يتفقون عليها في الغالب. ومن أبرز الفرق التي خالفت أهل السنة في هذه المسألة: الخوارج، والمعتزلة، والرافضة. والفرقة التي أشار إليه جمال الدين السرمري من بين هذه الفرق هي الخوارج وأشار إلى جانب من انحرافهم فيما يتعلق بهذا الأصل بكونهم أوجبوا الخروج على الإمام (¬4). أما المعتزلة: فإن من أصولهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن المعاني التي ستروها تحت مسمى هذا الأصل، الخروج على الولاة إذا خالفوهم فيما ذهبوا إليه. قال أبو الحسن الأشعري: " فقالت المعتزلة: إذا كنا جماعة وكان الغالب عندنا أنا نكفي مخالفينا، عقدنا للإمام، ونهضنا فقتلنا السلطان وأزلناه وأخذنا الناس بالانقياد لقولنا، فإن دخلوا في قولنا الذى هو التوحيد وفى قولنا في القدر وإلا قتلناهم، وأوجبوا على الناس الخروج على ¬

(¬1) مراتب الإجماع, ص 178. (¬2) انظر: العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (8/ 76)، لابن الوزير، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، الطبعة الثالثة 1415، مؤسسة الرسالة، بيروت. (¬3) انظر: نيل الأوطار (7/ 208)، لمحمد بن علي الشوكاني، تحقيق: عصام الدين الضابطي، الطبعة الأولى 1413، دار الحديث، مصر. (¬4) الفرق بين الفرق، ص 55.

السلطان على الإمكان والقدرة إذا أمكنهم ذلك وقدروا عليه" (¬1). وأما جمهور الرافضة فمخالفتهم لأهل السنة في هذا الأصل من وجوه متعددة منها على سبيل المثال: أنهم جعلوا الإمامة أحد أركان الإيمان بل هي أفضل هذه الأركان، وأهم المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين. وأيضاً القول بعصمة الأئمة، وأن الإمامة نص من الله لا تكون إلا في المنصوص عليهم أو من ينوبنهم، وما سواهم فمغتصب يجب الخروج عليه، وإزالته بالقوة كائناً من كان (¬2). والذي يهمنا هنا من هذه الطوائف الثلاث: فرقة الخوارج، لأن الإمام جمال الدين السرمري قد تناولها بالإشارة والحديث من بين هذه الطوائف، واكتفى في الرد عليهم بإيراد بعض النصوص الدالة على الحث على قتالهم بسبب خروجهم على الإمام، فقال في كتابه إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة: "فصل في قتال الخوارج والبغاة. قال علي - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «سيخرج قوم في آخر الزمان حُدَّاث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قلتهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة» متفق عليه. وقال: «يكون من أمتي فرقتين فيخرج من بينهما مارقة يلي قتلَهم أولاهما بالحق». وفي لفظ: «تمرق مارقة عند فُرقة من المسلمين يقتُلُها أولى الطائفتين بالحق» رواهما أحمد ومسلم. وقال: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة فمات فميتته جاهلية» متفق عليه. وقال: «من أتاكم وأمرُكم جميعٌ على رجل، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم ¬

(¬1) مقالات الإسلاميين، ص 466. (¬2) منهج الإمام ابن بطة في تقرير عقيدة السلف والرد على أهل الأهواء والبدع (2/ 691)، د. حمد بن عبدالمحسن التويجري.

فاقتلوه» رواه أحمد ومسلم. وقال: «من حمل علينا السلاح فليس منا» رواه أحمد" (¬1). ومذهب الخوارج على الأئمة إذا ظلموا وجاروا مبني على مذهبهم في حكم مرتكب الكبيرة، حيث كفروه بذلك. فيرد عليهم في مسألة الإمامة بنقض قولهم في حكم مرتكب الكبيرة أولاً، وهذا قد سبقت الإشارة إليه في مبحث الكبيرة وحكم مرتكبها (¬2). ويرد عليهم أيضاً بالنصوص الآنفة الذكر، المتضمنة تحريم الخروج على الولاة، وعدم نزع اليد من طاعتهم عند ظلمهم وجورهم، إذ النصوص صريحة في النهي عن ذلك والتشديد فيه، ويرد عليهم أيضاً بالإجماع الذي حكاه غير واحد من أهل العلم -وقد تقدم نقله- (¬3) على حرمة الخروج على الأئمة وإن كانوا فسقة ظالمين. ¬

(¬1) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 547 - 548. (¬2) انظر: ص 245 - 249. (¬3) انظر: 266 - 267.

الفصل السابع موقف جمال الدين السرمري من أهل الأهواء والبدع

الفصل السابع موقف جمال الدين السرمري من أهل الأهواء والبدع وفيه مبحثان: المبحث الأول: لزوم الجماعة وذم الفرقة. المبحث الثاني: موقفه من أهل البدع.

المبحث الأول: لزوم الجماعة وذم الفرقة

المبحث الأول: لزوم الجماعة وذم الفرقة مفهوم الجماعة: الجماعة في اللغة: مأخوذة من الاجتماع، وهو ضد التفرق، يقال: جمع الشيء عن تفرقة فاجتمع، وجمعت الشيء إذا جئت به من هاهنا وهاهنا، وأجمع أمره أي جعله جميعاً بعدما كان متفرقاً، والجمع اسم لجماعة الناس، والجماعة والجميع والمجمع كالجمع، وقد تستعمل الجماعة في غير الناس حتى قالوا: جماعة الشجر، وجماعة النبات (¬1). وقال ابن فارس: "الجيم والميم والعين أصل واحد، يدل على تضام الشيء، يقال: جمعت الشيء جمعاً، والجُمَّاع الأُشابه من قبل شتى" (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين" (¬3). أما مفهوم الجماعة بالمعنى الخاص، فقد اختلف العلماء في المقصود بها على أقوال (¬4): 1 - أن الجماعة هم السواد الأعظم من أهل الإسلام، يقول أبو غالب: إن السواد الأعظم هم الناجون من الفرق، فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق، ومن خالفهم مات ميتة جاهلية، سواء خالفهم في شيء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم، فهو مخالف للحق. وممن قال بهذا عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -، فقد روي أنه لما قُتل عثمان سُئل عن الفتنة فقال: "عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، واصبر حتى يستريح بر أو ¬

(¬1) انظر: لسان العرب (8/ 53). (¬2) معجم مقاييس اللغة (1/ 479). (¬3) مجموع الفتاوى (3/ 157). (¬4) انظر: الاعتصام (3/ 209 - 217)، للإمام الشاطبي، تحقيق: د. هشام الصيني، الطبعة الأولى 1429، دار ابن الجوزي، الدمام؛ فتح الباري (13/ 37).

يستراح من فاجر" (¬1). فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها، ومن سواهم داخلون في حكمهم، لأنه تابعون لهم ومقتدون بهم، فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذوا، ويدخل في هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة، لم يدخلوا في سوادهم بحال. 2 - أن الجماعة هي جماعة أئمة العلماء المجتهدين، فمن خرج عما عليه جماعة علماء الأمة مات ميتة جاهلية، لأن الله تعالى جعلهم حجة على العالمين، وأما العامة فعنها تأخذ دينها، وإليها تفزع في النوازل، وهي تبع لها، وممن قال بهذا عبدالله بن المبارك وإسحاق بن راهويه وجماعة من السلف وهو رأي الأصوليين، فقيل لعبدالله بن المبارك من الجماعة الذين ينبغي أن يقتدى بهم؟ قال: "أبو بكر وعمر، فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد، فقيل: هؤلاء ماتوا، فمن الأحياء؟ قال: أبو حمزة السكري" (¬2). فعلى هذا القول لا مدخل في هذا السواد لمن ليس بعالم مجتهد، لأنه داخل في أهل التقليد، فمن عمل منهم بما يخالفهم فهو صاحب الميتة الجاهلية، ولا يدخل فيهم أيضاً أحد المبتدعين، لأن البدعة قد أخرجته عن نمط من يعتد بأقواله. 3 - أن الجماعة هي جماعة الصحابة على الخصوص، فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلاً، ولأنهم المتلقون لكلام النبوة الذين فهموا مراد الله بالتلقي من نبيه مشافهة، على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال بخلاف غيره، فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالاً للنظر رداً أو قبولاً، فأهل البدع إذاً غير داخلين فيه، وممن قال بهذا القول عمر بن عبدالعزيز. 4 - أن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام، إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من ¬

(¬1) الاعتصام (3/ 209). (¬2) الاعتصام (3/ 211).

أهل الملل اتباعهم، وهم الذين ضَمِن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن لا يجمعهم على ضلالة. وكأنَّ هذا القول راجع إلى الثاني وهو يقتضي ما يقتضيه، أو يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر، وفيه من المعنى ما في الأول من أنه لابد من كون المجتهدين فيهم، وعند ذلك لا يكون مع اجتماعهم على هذا القول بدعة أصلاً. 5 - أن الجماعة هي جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير، وقد اختار هذا القول الإمام الطبري؛ وحاصل هذا القول أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة، وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة كالخوارج ومن جرى مجراهم. والذي يظهر أنه لا تعارض بين هذه الأقوال إذ الجماعة هي من كان على مثل ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام والتابعون ومن تبعهم بإحسان، فمن وافقهم فهو من الجماعة، وإن كان فرداً، ومن خالفهم فهو من أهل الشذوذ والفرقة وإن كثر عددهم. قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "إنما الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كنت وحدك" (¬1). وقال أبو شامة: "وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه وإن كان المتمسك بالحق قليلاً والمخالف كثيراً لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم" (¬2). وقال ابن القيم: " واعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كان وحده وإن خالفه أهل الأرض ... وقال بعض أئمة الحديث وقد ذكر له السواد الأعظم فقال: أتدري ما السواد الأعظم هو محمد بن أسلم الطوسي وأصحابه! فمُسخ المختلفون الذين ¬

(¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 122) ح 160. (¬2) الباعث على إنكار البدع والحوادث ص 22، لأبي شامة المقدسي، تحقيق: عثمان أحمد عنبر، الطبعة الأولى 1398، دار الهدى، القاهرة.

جعلوا السواد الأعظم والحجة والجماعة هم الجمهور وجعلوهم عياراً على السنة وجعلوا السنة بدعة والمعروف منكراً لقلة أهله وتفردهم في الإعصار والأمصار وقالوا: من شذ شذ الله به في النار، وما عرف المختلفون أن الشاذ ما خالف الحق وإن كان الناس كلهم عليه إلا واحداً منهم فهم الشاذون، وقد شذ الناس كلهم زمن احمد بن حنبل إلا نفراً يسيراً فكانوا هم الجماعة، وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذون، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة" (¬1). الحث على لزوم الجماعة وذم التفرق: جاءت النصوص الدالة على لزوم الجماعة والتمسك بها كثيرة ومتضافرة، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: من الآية 103]. وقوله - جل جلاله -: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: من الآية 105]. وقوله - جل جلاله -: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: من الآية 153]. وقوله - عز وجل -: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: من الآية 13]. وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: يا أيها الناس، إني قمت فيكم كمقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا فقال: «أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد، ألا ¬

(¬1) إعلام الموقعين (3/ 398).

لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد، من أراد بحبوبة الجنة فيلزم الجماعة ... » (¬1). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (¬2). وقد ذكر الإمام جمال الدين السرمري فيما يندرج تحت هذا المبحث الأحاديث الواردة بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة في فصل قتال الخوارج والبغاة (¬3). وما أشار إليه الإمام جمال الدين السرمري هو منهج أهل السنة والجماعة في هذا الباب. قال الإمام البربهاري: "اعلموا أن الإسلام هو السنة، والسنة هي الإسلام، ولا يقوم أحدهما إلا بالآخر، فمن السنة لزوم الجماعة، فمن رغب غير الجماعة وفارقها فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وكان ضالاً مضلاً" (¬4). وقد عقد الإمام الآجري باباً في ذكر الأمر بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة، ومما قال فيه: " أمرنا - عز وجل - بلزوم الجماعة، ونهانا عن الفرقة، وكذلك حذرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفرقة وأمرنا بالجماعة، وكذلك حذرنا أئمتنا ممن سلف من علماء المسلمين كلهم يأمرون بلزوم الجماعة، وينهون عن الفرقة" (¬5). كما عقد أيضاً الإمام اللالكائي فصلاً في سياق ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحث على اتباع الجماعة والسواد الأعظم والوعيد عن مفارقة الجماعة. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (4/ 465) ح 2165، وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب". (¬2) أخرجه أبو داود (4/ 241)، كتاب السنة، باب في قتل الخوارج، ح 4758؛ قال الألباني: "صحيح". انظر: صحيح سنن أبي داود (3/ 167). (¬3) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 547 - 458. (¬4) شرح السنة، ص 21. (¬5) الشريعة (1/ 276).

المبحث الثاني: موقف جمال الدين السرمري من أهل البدع

المبحث الثاني: موقف جمال الدين السرمري من أهل البدع تمهيد أهل البدع نسبة إلى البدعة: والبدعة في اللغة: مصدر (بَدَعَ)، قال ابن فارس: " الباء والدال والعين أصلان: أحدهما ابتداء الشيء وصنعُه لا عن مثال، والآخر الانقطاع والكلال" (¬1). والمعنى الثاني داخل في المعنى الأول، كما أشار إلى ذلك ابن الأثير حيث قال: "أبدعت الناقة إذا انقطعت عن السير بكلال أو ظلع كأنه جعل انقطاعها عما كانت مستمرة عليه من عادة السير إبداعاً أي إنشاء أمر خارج عما اعتيد منها" (¬2). وقال ابن منظور: "البدعة: الحَدَث، وما ابتُدع من الدين بعد الإكمال، -وقال- ابن السكيت: البدعة كل مُحدثة -إلى أن قال: - وفلان بِدْع في هذا الأمر: أي أول لم يسبقه أحد" (¬3). وعليه فإن البدعة بالمفهوم اللغوي العام: ابتداء الشيء وإنشاؤه لأول مرة على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: من الآية 9]، وقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: من الآية 117]، وقوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: من الآية 27]. أما البدعة في الاصطلاح: فقد اختلفت عبارات العلماء في ذلك، علماً بأنها تلتقي في معنى عام كلي في الجملة. ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة (1/ 210). (¬2) النهاية في غريب الأثر (1/ 267). (¬3) لسان العرب (8/ 6).

فقد عرفها الإمام الشاطبي بأنها: "طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يُقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه" (¬1). ويعرفها شيخ الإسلام بأنها: "ما لم يشرعه الله ورسوله وهو مالم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب" (¬2). وقال في موضع آخر: "والبدعة: ما خالفت الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات، كأقوال الخوارج والروافض والقدرية والجهمية وكالذين يتعبدون بالرقص والغناء في المساجد والذين يتعبدون بحلق اللحى وأكل الحشيشة وأنواع ذلك من البدع التي يتعبد بها طوائف من المخالفين للكتاب والسنة" (¬3). ويعرفها ابن رجب بأنها: "ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعاً وإن كان بدعة لغة" (¬4). ويعرفها السيوطي بأنها: "عبارة عن فعلة تصادم الشريعة بالمخالفة، أو توجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان" (¬5). وكما سبق فإن هذه الضوابط والحدود التي ذكرها العلماء للبدعة لا تخرج في مفهومها العام من كون البدعة إحداث في الدين ماليس له أصل في الشرع، سواء كان ذلك في العمل أو القول أو في الاعتقاد. ومفهوم مسمى (أهل البدع) يطلق غالباً على كل من اشتهر ببدعة وخاصة منها الاعتقادية. قال الإمام الشاطبي: "إن لفظ أهل الأهواء وعبارة أهل البدع إنما تطلق حقيقة على الذين ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 47). (¬2) مجموع الفتاوى (4/ 108). (¬3) مجموع الفتاوى (18/ 346). (¬4) جامع العلوم والحكم، ص 266. (¬5) الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع ص 88، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: ذيب القحطاني، 1409، مطابع الرشيد.

الموقف من أهل البدع

ابتدعوها، وقدَّموا فيها شريعة الهوى بالاستنباط والنصر لها، والاستدلال على صحتها في زعمهم، حتى عُدّ خلافهم خلافاً، وشبههم منظوراً لها، ومُحتاجاً إلى ردِّها والجواب عنها، كما تقول في ألقاب الفرق من المعتزلة والقدرية والمرجئة والخوارج والباطنية ومن أشبههم فإنها ألقاب لمن قام بتلك النحل، ما بين مستنبط لها، وناصر لها، وذاب عنها" (¬1). وقال شيخ الإسلام: "ومما ينبغي أيضاً أن يُعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات: منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة ... ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يُفارقون به جماعة المسلمين، يُوالون عليه ويعادون، كان من نوع الخطأ ... بخلاف من والى موافقه وعادى مخالفه وفرَّق بين جماعة المسلمين وكفَّر وفسَّق مخالفه دون موافِقِه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون موافقه من أهل التفرق والاختلافات، ولهذا كان أوَّل من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع الخوارج المارقون" (¬2). الموقف من أهل البدع: لقد وضع أهل السنة والجماعة قواعد وضوابط في التعامل مع أهل الأهواء والبدع، ومن ذلك: أولاً: حراسة الدين، وإبطال البدع: أول موقف لأهل السنة والجماعة من البدع والمبتدعة هو نفيرهم الدائم لحراسة الدين وإبطال البدع، فما كان يطلع للبدعة قرن إلا ويهب الرجال العاملون والعلماء المخلصون لاستئصال شأفة هذه البدعة وإماتتها وقطعها عن طريق الأمة. ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 280). (¬2) مجموع الفتاوى (3/ 349).

وكان أول بدعة ظهرت في الدين التفريق بين الصلاة والزكاة، والادعاء أن الزكاة لا تؤدى إلا للرسول ولا تعطي لخلفائه من بعده، فتصدى الصديق - رضي الله عنه - لهذه البدعة، وقاتل القائلين بها، ووأدها في مهدها قبل أن يستفحل ضررها وشرها، ولو ترك أبو بكر ذلك فلم يقاتلهم لانْثَلَم الإسلام، ولما التأم بعد ذلك أبداً، ولأصبحت هذه البدعة سنة مُتّبعةً يأخذ بها الناس بعدهم فيؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ويفعلون ما يحلو لهم من الدين ويتركون ما لا يشتهون. وفي عهد الفاروق - رضي الله عنه - حصلت بعض البدع الصغيرة فأماتها كاتباع متشابه القرآن، واستحلال الخمر بزعم أن القرآن يبيح ذلك، والزعم أن الصحابة لا يطبقون القرآن كله. وفي عهد عثمان رضي الله عنه حدثت أوائل الفتنة الكبرى وهي الخروج على الإمام الحق بالسيف، وانتهت بدعتهم بمقتله - رضي الله عنه -، وكان هذا بداية فتنة عظمى في الإسلام وظهور بدعة الخوارج التي لا تزال إلى يوم القيامة، ولقد قام أهل السنة والجماعة فردوا هذه البدعة بالعلم والبرهان والدليل. ثم توالت البدع فجاءت القدرية، وجاءت المرجئة، وجاءت الرافضة، وجاء الزنادقة، والفرق الباطنية، وجاءت الجهمية منكروا الصفات والأسماء، وكلما ظهرت بدعة من هذه البدع كان أهل الإسلام الحق لها بالمرصاد، فأما الأمراء الصالحون فقد وضعوا السيف في أصحابها ومروجيها، وأما العلماء الأبرار فقد قاموا بالرد والإبطال لها. ولا تكاد توجد بدعة أو مقالة من مقالات الخارجين عن الكتاب والسنة إلا ولعلماء السنة والجماعة جهاد مشكور وردود تدحض هذه البدعة، وتبين زيفها وبعدها عن الحق. والخلاصة أن موقف أهل السنة والجماعة من البدع والمبتدعة هو أنهم كشفوا اللثام عن كل قول أو فعل يخالف القرآن والسنة ويخرج عن إجماع الأمة، وصاحوا بأهل البدع من كل مكان في الأرض يبينون زيف مقالاتهم، وكذب ادعاءاتهم، وخروجهم ببدعتهم عن الإسلام

ثانيا: الهجر

الصحيح، والدين الخالص. ولقد سار الإمام جمال الدين السرمري على هذا النهج في حراسة الدين وإبطال البدع، يوضح ذلك رده على تقي الدين السبكي لما شنع على شيخ الإسلام ابن تيمية رده رفض ابن مطهر الحلي، حين قال السبكي: "والناس في غُنية عن ردِّ إفكهمُ ... لهجنة الرفض واستقباح مذهبه" (¬1). فرد عليه الإمام جمال الدين السرمري ببيان وجوب حراسة الدين وإبطال البدع، وأن هذا هو منهاج الأئمة، بل هذا داخل دخولاً أولياً في شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: "والله لا غنية عن رد إفكهم ... بل رده واجب أعظم بموجبه أيتركون يسبون الصحابة والـ ... إسلام يختال زهواً في تصلبه هذا مقال شنيع لم يقل أحد ... به ولا رهط جهم في تحزبه والله لولا سيوف من أئمتنا ... في كاهل الرفض لا تُلْوى ومنكبه لأضحت السنة الغراء دائرة ... بين البرية كالعنقا وأغربه إلى أن قال: أيترك الأمر بالمعروف مطرحاً ... والنهي عن منكر ما من يقول به كلا ومن رفع السبع الطباق على ... وجه الثرى وتعالى في تحجبه" (¬2). ثانياً: الهجر: الأصل في الشرع هو هجر المبتدع، لكن ليس عاماً في كل حال ومن كل إنسان ولكل مبتدع، ومشروعية الهجر هي في دائرة ضوابطه الشرعية المبنية على رعاية المصالح ودرء المفاسد، ¬

(¬1) ذكرها التاج السبكي في ترجمة أبيه التقي السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" (10/ 176). (¬2) الحمية الإسلامية، ص 58 - 60.

وهذا مما يختلف باختلاف البدعة نفسها واختلاف مبتدعها واختلاف أحوال الهاجرين، واختلاف المكان والقوة والضعف، والقلة والكثرة، وهكذا من وجوه الاختلاف والاعتبار التي يرعاها الشرع. وميزانها للمسلم الذي به تنضبط المشروعية هو: مدى تحقق المقاصد الشرعية من الهجر: من الزجر، والتأديب، ورجوع العامة، وتحجيم المبتدع وبدعته وضمان السنة من شائبة البدعة. ويحسن هنا أن أنقل بالنص فتوى شيخ الإسلام رحمه الله حول أحكام الهجر، وحكمته، فقد سئل رحمه الله عمن يجب أو يجوز بغضه أو هجره أو كلاهما لله تعالى؟ وماذا يشترط على الذي يبغضه أو يهجره لله تعالى من الشروط؟ وهل يدخل ترك السلام في الهجران؟ وإذا بدأ المهجور بالسلام فهل يجب الرد عليه أم لا؟ وهل يستمر البغض والهجران لله - عز وجل - حتى يتحقق زوال الصفة المذكورة التي أبغضه وهجره عليها؟ أم هل يكون لذلك مدة معلومة؟ فإن كان لها مدة معلومة فما حدها؟ فأجاب رحمه الله: "الهجر الشرعي نوعان: أحدهما بمعنى الترك للمنكرات، والثاني: بمعنى العقوبة عليها. فالأول: هو المذكور في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]، وقوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: من الآية 140]. فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم، وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك؛ بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره، ولهذا يقال: حاضر المنكر كفاعله، وفي الحديث: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر»، وهذا الهجر من

جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان، فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به، ومن هذا قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدَّثر: 5]. النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يظهر المنكرات، يُهجر حتى يتوب منها، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعيّن عليهم بغير عذر، ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقاً، فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير. والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات: كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع. وهذه حقيقة قول من قال من السلف والأئمة: إن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم، ولا يصلى خلفهم، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون. فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا؛ ولهذا يُفرقون بين الداعية وغير الداعية، لأن الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم، ولهذا جاء في الحديث: «إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة»، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوْشَك أن يعمهم الله بعقاب منه»، فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها، بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة، وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث

يُفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي يتألف قوماً ويهجر آخرين ... وإذا عرف هذا فالهجرة هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله، فالطاعة لابد أن تكون خالصة لله وأن تكون موافقة لأمره فتكون خالصة لله صواباً، فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجراً غير مأمور به، كان خارجاً عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله ... " (¬1). وقد نقل ابن حجر رحمه الله أقوال الأئمة في هذه المسألة عند تبويب البخاري (باب من لم يُسلم على من اقترف ذنباً)، فقال: "وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يسلم على الفاسق ولا المبتدع، قال النووي: فإن اضطر إلى السلام بأن خاف ترتب مفسدة في دين أو دنيا إن لم يسلم سلم، وكذا قال ابن العربي وزاد: وينوي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه قال: الله رقيب عليكم، وقال المهلب ترك السلام على أهل المعاصي سنة ماضية وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع، ... وحكى ابن رشد قال: قال مالك: لا يسلم على أهل الأهواء، قال ابن دقيق العيد: ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم والتبري منهم" (¬2). وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري رحمه الله هذا المنهج في التعامل مع أهل البدع في أكثر من موضع؛ فمن ذلك قوله عند الحديث الوارد في النهي عن التهاجر والتشاجر: "يشترط في هذه الهجرة أن تكون في غير ذات الله تعالى، كمن هجر مسلماً غير مبتدع، بل لحظ النفس، فذلك الذي لا يجوز هجره أكثر من ثلاثة أيام، وهو الذي يُحبس عن دخول الجنة؛ وأما إن كان الهجر لبدعة، فهو مندوب إليه، ويثاب المسلم عليه، ولا يجوز أن يُسَلَّم عليه ما دام على بدعته، لأنه ورد أن: من سلَّم على صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام" (¬3). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (28/ 203 - 207). (¬2) فتح الباري (11/ 40). (¬3) الأربعون الصحيحة، ص 71.

وقال في كتاب الأدب من كتابه إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة: "ولا تهجر مسلماً فوق ثلاث إلا لبدعة" (¬1). وقال في منظومته في الاعتقاد: "ومن كان بدعيًّا أُمرنا بهجره ... وقلنا لهم لا قوه بالزجر لا البشر" (¬2). ¬

(¬1) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 668. (¬2) نهج الرشاد، ص 36.

§1/1