مواقف الصحابة - رضي الله عنهم - في الدعوة إلى الله تعالى

سعيد بن وهف القحطاني

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليماً كثيراً، أما بعد: فهذه رسالة مختصرة في ((مواقف الصحابة - رضي الله عنهم - في الدعوة إلى اللَّه تعالى)) بينت فيها نماذج من مواقفهم المشرفة في الدعوة إلى اللَّه سبحانه وتعالى على سبيل الاختصار. واللَّه تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل اليسير مباركاً، نافعاً، خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى اللَّه وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا وإمامنا محمد بن عبد اللَّه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. المؤلف حرر ضحى يوم الخميس 25/ 2/1425هـ

المبحث الأول: مواقف أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -

المبحث الأول: مواقف أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - له - رضي الله عنه - مواقف حكيمة تدل على عظم شأنه وصدقه مع اللَّه - عز وجل - ومن هذه المواقف على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: المطلب الأول: دفاعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والقيام بنصرته: عن عروة بن الزبير - رضي الله عنه - قال: قلت لعبد اللَّه بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: بينما رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي مُعيط، فأخذ بمنكب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر، فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} (¬1). وهو أشجع الصحابة - رضي الله عنه - فقد رُوي عن علي - رضي الله عنه - أنه خطب، فقال: أيها الناس أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت يا أمير المؤمنين! قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس! قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر. إنه لما كان يوم بدر، جعلنا لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عريشاً، فقلنا: من يكون مع ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 28. والحديث في البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المشركين بمكة، 7/ 165، 7/ 22، 8/ 533 (رقم 3856).

الرسول - صلى الله عليه وسلم - لئلا يهوي عليه أحد من المشركين، فواللَّه ما دنا منه أحد إلا أبو بكر، شاهراً بالسيف على رأس رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه، فهذا أشجع الناس. قال علي - رضي الله عنه -: ولقد رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأخذته قريش، فهذا يحاده، وهذا يتلتله (¬1)، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً، فواللَّه ما دنا منا أحد إلا أبو بكر، يضرب هذا، ويُجاهد هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم، {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}، ثم رفع عليٌّ بردةً كانت عليه، ثم بكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال علي: أنشدكم اللَّه، أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم. ثم قال: ألا تجيبوني؟ فواللَّه لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه (¬2). ¬

(¬1) يتلتله: يزعزعه ويزلزله. انظر: مختار الصحاح، مادة: تلل، ص33، والمعجم الوسيط، 1/ 87. (¬2) ذكره ابن كثير، وعزاه إلى البزار، انظر: البداية والنهاية، 3/ 272، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 9/ 47: وفيه من لم أعرفه، ولكن لبعض هذا المتن شواهد في الأحاديث الصحيحة انظرها في صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، 3/ 1383 (رقم 1763)، والبخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ... }، 7/ 287 (رقم 3953)، وكتاب فضائل الصحابة، باب فضل أبي بكر - رضي الله عنه -، 7/ 22 (رقم 3678)، وانظر: حياة الصحابة للعلامة محمد يوسف الكاندهلوي 1/ 540، وحلية الأولياء، 1/ 32، وانظر: تاريخ الخلفاء للحافظ جلال الدين السيوطي، ص37.

المطلب الثاني: تصديقه للنبي - صلى الله عليه وسلم - والحرص على حمايته

المطلب الثاني: تصديقه للنبي - صلى الله عليه وسلم - والحرص على حمايته عن جابر بن عبد اللَّه - رضي الله عنه - أنه سمع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لما كذبني قريش قمت في الحجر، فجلَّى اللَّه لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)) (¬1). وقد افتتن ناس كثير عقب الإسراء، فجاء ناس إلى أبي بكر فذكروا له قصة الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس، فقال أبو بكر: أشهد أنه صادق، فقالوا: وتصدقه بأنه أتى الشام في ليلة واحدة ثم رجع إلى مكة؟ قال: نعم، إني أصدقه بأبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء، فسُمّي بذلك الصديق (¬2). وقد كان - رضي الله عنه - يحرص على حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد الحرص، فقد ذكر رجال على عهد عمر - رضي الله عنه - فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر، فبلغ ذلك عمر، فقال: واللَّه لليلة من عمري من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر، فجعل يمشى ساعة بين يديه، وساعة خلفه، حتى فطن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا أبا بكر ما لك تمشي ساعة خلفي، وساعة بين يدي؟)) فقال: يا رسول اللَّه، أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فقال: ((يا ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب حديث الإسراء، 7/ 196، (رقم 3886). (¬2) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7/ 199، وعزاه إلى البيهقي في الدلائل.

أبا بكر، لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟)) قال: نعم، والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول اللَّه حتى أستبرئ لك الغار، فدخل فاستبرأه، حتى إذا كان ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة (¬1)، فقال: مكانك يا رسول اللَّه حتى أستبرئ، فدخل فاستبرأ، ثم قال: انزل يا رسول اللَّه، فنزل. ثم قال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر (¬2). وعندما دخل أبو بكر الغار مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صار يخاف عليه من قريش حينما رآهم، فقال – رضي اللَّه عنه وأرضاه –: يا رسول اللَّه، لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين اللَّه ثالثهما، لا تحزن فإن اللَّه معنا)) (¬3). ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخُوّةُ الإسلام ومودَّته)) (¬4). ¬

(¬1) الجحرة: مفردها: جحر، وهو المكان الذي تحفره السباع والهوام لأنفسها. انظر: المعجم الوسيط، مادة (جحر)، 1/ 180. (¬2) الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح لولا إرسال فيه. ووافقه الذهبي، 3/ 6، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، 3/ 180، وعزاه إلى البيهقي، وانظر: حياة الصحابة، 1/ 339، وحلية الأولياء، 1/ 33. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين وفضلهم، 7/ 8، (رقم 3653)، وكتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، 4/ 1854، (رقم 2381). (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر، 7/ 12، (رقم 3654)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، 4/ 1854، (رقم 2382).

المطلب الثالث: إنفاقه ماله في سبيل الله تعالى

وقال: ((لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ اللَّه - عز وجل - صاحبكم خليلاً)) (¬1). المطلب الثالث: إنفاقه ماله في سبيل اللَّه تعالى عندما أسلم أبو بكر - رضي الله عنه - كان من أثرى أثرياء قريش، فكانت عنده أموال كثيرة، وقد كان في منزله يوم أسلم أربعون ألف درهم أو دينار، فاستخدم أمواله كلها في طاعة اللَّه، ومن ذلك ما يأتي: (أ) إنفاق المال في إعتاق الرّقاب: أعتق - رضي الله عنه - رقاباً كثيرة، حُفِظَ منهم سبع رقاب: بلال، وعامر بن فهيرة، وزنيرة، والهندية وبنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار، وجارية بني مؤمل، وأم عبيس، رضي اللَّه عن الجميع. وقد كانت هذه الرقاب يُعذّب معظمها على إسلامها، فأنقذها اللَّه بأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وأخذ - رضي الله عنه - ينفق أمواله في خدمة الإسلام والمسلمين (¬2). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت متخذاً خليلاً، 7/ 17، (رقم 3656)، ومسلم واللفظ له، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر الصديق - صلى الله عليه وسلم -، 4/ 1855، (رقم 2383). (¬2) انظر: سيرة ابن هشام، 1/ 340، والإصابة في تمييز الصحابة، 2/ 243، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 2/ 290، والبداية والنهاية، 3/ 58، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، ص38.

(ب) أخذه جميع ماله يوم الهجرة لإنفاقه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

(ب) أخذه جميع ماله يوم الهجرة لإنفاقه على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: حمل الباقي من ماله عندما هاجر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ولم يبق لأهله شيئاً، فعن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنه - قالت: لما خرج رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر معه ماله كله، خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم، فانطلق بها معه، قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: واللَّه إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قالت: كلا يا أبت، قد ترك لنا خيراً كثيراً، قالت: فأخذت أحجاراً فجعلتها في كوة (¬1) في البيت - كان أبي يجعل فيها ماله - ثم جعلت عليها ثوباً، ثم أخذت بيده فقلت: ضع يدك يا أبت على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إن ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغ، قالت: ولا واللَّه ما ترك لنا شيئاً، ولكن أردت أن أسكِّن الشيخ بذلك (((¬2). (جـ) تصدُّقه بماله كله في غزوة تبوك: وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، ¬

(¬1) الكوة: ثقب في الحائط. انظر: القاموس المحيط، باب الواو، فصل الكاف، ص1713. (¬2) أخرجه أحمد، 6/ 350، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 59: <ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع، وعزاه للطبراني أيضاً، وانظر أيضاً: البداية والنهاية، 3/ 179، وتاريخ الخلفاء للإمام للسيوطي ص39، وحياة الصحابة للكاندهلوي، 2/ 164.

المطلب الرابع: موقف أبي بكر عقب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -

فجئت بنصف مالي، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أبقيت لأهلك؟)) قلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر - رضي الله عنه - بكل ما عنده، فقال له رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أبقيت لأهلك؟)) قال: أبقيت لهم اللَّه ورسوله، قلت: واللَّه لا أسبقه إلى شيء أبداً)) (¬1). وأبو بكر - رضي الله عنه - أولى الأمة بقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى، إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (¬2). المطلب الرابع: موقف أبي بكر عقب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3): أُصيب المسلمون يوم وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمصيبة عظيمة، وهزّة ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر - رضي الله عنه -، 5/ 614، (رقم 3675)،وقال: <هذا حديث حسن صحيح>، وأبو داود في الزكاة، باب الرخصة في ذلك - أي الرخصة في إخراج المال كله، 2/ 129، (رقم 1678)، والدارمي في الزكاة، باب الرجل يتصدق بجميع ما عنده، 1/ 329، (رقم 1667)، والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، 1/ 414، وأبو نعيم في الحلية، 1/ 32. (¬2) سورة الليل، الآيات: 17 - 21. وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك. انظر: تفسير ابن كثير، 4/ 522. (¬3) انظر له مواقف حكيمة في البخاري مع الفتح في كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية، 7/ 149، وأبي نعيم في الحلية، 1/ 31، وأحمد في الزهد بمعناه، ص164، وانظر: حياة الصحابة، 2/ 611، 612، وأعلام المرسلين لخالد البيطار، 1/ 30، وصحيح الجامع الصغير للألباني، 4/ 172، برقم 4395، وانظر أيضاً: فتح الباري، 7/ 14، فقد ذكر لأبي بكر عجائب في الورع.

عنيفة، أفقدت الكثير منهم صوابهم، حتى إن عمر أنكر موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج إلى الناس وخطبهم، وقال: واللَّه ما مات رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وليبعثنه اللَّه فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم. وأقبل أبو بكر - رضي الله عنه - على فرس من مسكنه بالسُّنح حتى نزل فدخل المسجد فلم يُكلّم الناس حتى دخل على عائشة - رضي الله عنها - فتيمم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكبّ عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، واللَّه لا يجمع اللَّه عليك موتتين، أما الموتة التي كُتبتْ لك فقد متها (¬1)، ثم خرج أبو بكر - وعمر يُكلم الناس - فقال: أيها الحالف على رسْلِك، وقال: اجلس يا عمر، فأبي عمر أن يجلس، فلما تكلم أبو بكر أقبل الناس إليه وتركوا عمر، فجلس عمر - رضي الله عنه - فحمد اللَّه أبو بكر وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمداً - صلى الله عليه وسلم - فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد مات، ومن كان منكم يعبد اللَّه فإن اللَّه حي لا يموت، قال اللَّه - تعالى -: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (¬2). وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه، 3/ 133، (رقم 1241، 1242)، وكتاب المغازي، باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، 8/ 145، (رقم 4452 - 4454). (¬2) سورة الزمر، الآية: 30.

يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (¬1). فواللَّه لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن اللَّه أنزل الآية حتى تلاها أبو بكر - رضي الله عنه - وقال عمر: واللَّه ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مات. وقال الراوي: فتلقاها الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها، ونشج الناس يبكون (¬2). إن المصيبة عظيمة، والأمر كبير، والحادث جليل، والخلاف واقع؛ ولكن أبا بكر - - رضي الله عنه - بفضل اللَّه تعالى - حل الخلاف، وألف بين القلوب وثبّتها، ولا يقدر على هذا إلا من أوتي قلباً ثابتاً، وشجاعة فائقةً، وعقلاً راجحاً، وحكمة بالغةً، رضي اللَّه عنه وأرضاه. وفي اليوم الثاني - يوم الثلاثاء - خطب أبو بكر الناس، وبين لهم ما عليهم، وما لهم، فقام - رضي اللَّه عنه وأرضاه - فحمد اللَّه وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثم قال: أيها الناس، فإني قد وُلِّيتُ ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 144. (¬2) انظر: البخاري مع الفتح، وقد صغت هذه الألفاظ من مواضع متفرقة منه، من كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت إذا أدرج في أكفانه، 3/ 113، (رقم 1241، 1242)، وكتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت متخذاً خليلاً، 7/ 19، (رقم 3667)، وكتاب المغازي، باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، 8/ 145، (رقم 4454)، وانظر: البداية والنهاية لابن كثير، 5/ 241، 242، وحلية الأولياء، 1/ 29.

المطلب الخامس: موقفه - رضي الله عنه - في إنفاذ جيش أسامة بن زيد - رضي الله عنه -

عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويٌّ عندي حتى أريح عليه (¬1) حقه إن شاء اللَّه، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء اللَّه، لا يدع قوم الجهاد في سبيل اللَّه إلا ضربهم اللَّه بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمَّهم اللَّه بالبلاء، أطيعوني ما أطعت اللَّه ورسوله فيكم، فإذا عصيت اللَّه ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم اللَّه (¬2). وقوله - رضي الله عنه -: ولِّيت عليكم ولست بخيركم: من باب التواضع، وإلا فإن الصحابة كلهم مُجمعون على أنه أفضلهم وخيرهم، رضي اللَّه عنهم أجمعين (¬3). المطلب الخامس: موقفه - رضي الله عنه - في إنفاذ جيش أسامة بن زيد - رضي الله عنه -: ظهرت حكمة الصديق - رضي الله عنه - أثناء تنفيذ جيش أسامة بن زيد - رضي الله عنه - من عدة وجوه: (أ) تنفيذ بعث أسامة - رضي الله عنه - على الرغم من شدة الأحوال ومعارضة ¬

(¬1) والمعنى: حتى أرد عليه حقه. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الراء مع الواو، 2/ 273. وانظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/ 57، وفي البداية والنهاية قال: حتى أزيح علته إن شاء الله، 5/ 248. (¬2) انظر: سيرة ابن هشام،4/ 340،وابن كثير في البداية والنهاية،5/ 248، قال: <وهذا إسناد صحيح>. (¬3) انظر: البداية والنهاية، 5/ 248.

بعض الصحابة، وذلك امتثالاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد - رضي الله عنه - في مرضه الذي توفي فيه (¬1)، وندب الناس إلى غزو الروم، وكان تجهيز جيش أسامة قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بيومين، وكان ذلك يوم السبت، وقد كان ابتداء ذلك قبل مرض النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم اشتد به مرضه، فأمر بإنفاذ جيش أسامة، وتوفي - صلى الله عليه وسلم - فعَظُم الخطب، واشتد الحال، وظهر النفاق بالمدينة، وارتدت أحياء من العرب حول المدينة، وامتنع آخرون من دفع الزكاة، ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة، وكانت جواثا من البحرين أول قرية أقامت الجمعة بعد رجوع الناس إلى الحق؛ وثبتت ثقيف بالطائف على الإسلام لم يرتدوا. وعندما وقعت هذه الأمور أشار كثير من الناس على أبي بكر الصديق ألا ينفذ جيش أسامة لاحتياجه إليه فيما هو أهم؛ لأن ما جُهِّز بسببه في حال السلامة. وكان من جملة من أشار بذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فامتنع الصديق من ذلك، وأبى أشد الإباء إلا أن ينفذ جيش أسامة، وقال كلمته العظيمة: واللَّه لا أحل عقدة عقدها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد - رضي الله عنه -، 8/ 151، 152.

(ب) ثم إن بعض الناس

بأرجل أمهات المؤمنين، لأجهزنَّ جيش أسامة، وأمر الحرس أن يكونوا حول المدينة. (ب) ثم إن بعض الناس أشار على أبي بكر أن يولي الجيش رجلاً أقدم سنًّا من أسامة؛ فغضب - رضي الله عنه - لذلك، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أَمَّر أسامة على الجيش، فلا يريد - رضي الله عنه - أن يغير شيئاً فعله رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. (جـ) وخرج أبو بكر - رضي الله عنه - يشيع الجيش ويودع أسامة وجيشه، وأبو بكر يسير على قدميه، وأسامة راكباً، فقال له أسامة: يا خليفة رسول اللَّه، إما أن تركب، وإما أن أنزل، فقال أبو بكر: واللَّه لستُ براكب ولستَ بنازل، وما عليَّ أن أغبر قدمي ساعة في سبيل اللَّه. (د) واستأذن أبو بكر - رضي الله عنه - من أسامة لعمر بن الخطاب، وقد كان عمر من ضمن الجنود في جيش أسامة، فأذِنَ أسامة لعمر بن الخطاب - رضي اللَّه عن الجميع وأرضاهم. فكان خروج أسامة إلى الروم بأرض الشام في ذلك الوقت من أكبر المصالح، فساروا لا يمرون بحي من أحياء العرب إلا أُرعبوا منهم وأخذهم الخوف والفزع، وقالوا: ما خرج هؤلاء القوم إلا وبهم منعة شديدة، وسنتركهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم، وبقوا أربعين يوماً - وقيل سبعين يوماً - ثم أتوا سالمين غانمين، وعندما رجعوا جهزهم أبو بكر مع الجيش لقتال

المطلب السادس: موقف أبي بكر - رضي الله عنه - مع أهل الردة ومانعي الزكاة:

أهل الردة ومانعي الزكاة (¬1). اللَّه أكبر ما أعظم هذا الموقف، وما أحكمه! فقد ظهرت حكمته وشجاعته وطاعته لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وهي سبب النصر والفلاح، وبتنفيذ هذا الجيش أدخل اللَّه الرعب في قلوب المرتدين، واليهود، والنصارى، وهذا كله بفضل اللَّه، ثم بامتثال أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بإنفاذ جيش أسامة بن زيد {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2). وهذا مما يؤكد على كل مسلم أن يعتني بأمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ويبتعد عن نهيه، وذلك كله هو مدار السعادة والفلاح، والفوز والنجاح في الدنيا والآخرة. المطلب السادس: موقف أبي بكر - رضي الله عنه - مع أهل الردة ومانعي الزكاة: عندما توفي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ارتدت أحياء كثيرة من العرب، وظهر النفاق، وقد كان أهل الردة على قسمين: ¬

(¬1) انظر: تاريخ الإمام الطبري، 2/ 246، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 2/ 226، وتاريخ الإسلام للإمام الذهبي - عهد الخلفاء الراشدين، ص19، والبداية والنهاية، 6/ 304، 305، وفتح الباري، 8/ 152، وتاريخ الخلفاء لجلال الدين السيوطي، ص74، وحياة الصحابة للعلامة محمد يوسف الكاندهلوي، 1/ 423، 425، 427، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/ 64. (¬2) سورة النور، الآية: 63.

القسم الأول:

القسم الأول: ارتدوا عن الدين، ونابذوا الملة، وهذه الفرقة طائفتان: مُدّعو النبوة وأتباعهم. والطائفة الأخرى ارتدوا عن الدين، وتركوا الصلاة والزكاة، وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية. القسم الثاني: هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها. وهذا القسم هو الذي وقع فيه الخلاف، فثبت أبو بكر - رضي الله عنه - ثم وافقه جميع الصحابة على قتال جميع المرتدين ومانعي الزكاة (¬1). فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما توفي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه، فمن قال: لا إله إلا اللَّه فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على اللَّه))؟! فقال أبو بكر: واللَّه لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، واللَّه لو منعوني عِقالاً (¬2) كانوا يؤدونه إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه، ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على مسلم، 1/ 202، والبداية والنهاية، 6/ 311، وتاريخ الإسلام للذهبي - عهد الخلفاء الراشدين، ص27، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/ 67. (¬2) العقال: هو الحبل الذي يعقل به البعير، والعناق: هي السخلة من الغنم. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/ 280، 3/ 311.

فقال عمر بن الخطاب: فواللَّه ما هو إلا أن رأيت اللَّه - عز وجل - قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق (¬1). وفي رواية: أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال:)) واللَّه لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، واللَّه لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها ... (((¬2). وفي هذا الموقف الحكيم لأبي بكر أدلّ دليل على شجاعته - رضي الله عنه - وتقدّمه في الشجاعة والعلم على غيره، فإنه ثبت للقتال في هذا الموطن العظيم الذي هو أكبر نعمة أنعم اللَّه – تعالى – بها على المسلمين بعد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، واستنبط - رضي الله عنه - من العلم بحكمته، ودقيق نظره، ورصانة فكره، ما لم يُشاركه في الابتداء به غيره، فلهذا وغيره مما أكرمه اللَّه به، أجمع أهل العلم بالحق على أنه أفضل أمة ¬

(¬1) مسلم بلفظه في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، 1/ 51، (رقم 20)، والبخاري مع الفتح في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، 3/ 262، (رقم 1399)، 12/ 275، 13/ 250، 3/ 321، 322. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، 3/ 262، 12/ 275، 13/ 250، (رقم 1399)، ورواية العناق عند البخاري دون مسلم. وما ذهب إليه أبو بكر - رضي الله عنه - قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، حيث جاء فيه ذكر الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. وقد أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، 1/ 53، (رقم 22)، وأبو داود في كتاب الزكاة، 2/ 93، (رقم 1556)، والترمذي في الإيمان، باب ما جاء بني الإسلام على خمس، 5/ 3، (رقم 2609، 2610)، والنسائي في الزكاة، باب عقوبة مانع الزكاة، 5/ 14، (رقم 3938).

محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فرضي اللَّه عن أبي بكر وأرضاه، وجزاه عن أمة محمد خير الجزاء؛ فإنه قد قام بما يجب عليه نحوها، من ترسيخ معاني الإسلام في قلوب ونفوس وحياة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأمرها بالثبات على دين اللَّه الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير زيادة ولا نقص، وطبق ذلك تطبيقاً عمليّا على نفسه، وعلى جميع من بايعه، وقاتل من أنكر شيئاً من ذلك، فقد أعز اللَّه به الإسلام والمسلمين، وخذل به أعداء اللَّه وأعداء الدين، ولهذا لم ينقص الدين في حياته كما قال - رضي الله عنه - لعمر بن الخطاب حينما أشكل عليه قتال مانعي الزكاة: إنه قد انقطع الوحي وتمّ الدين، أفينقص وأنا حيّ؟ واللَّه لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، أليس قد قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((إلا بحقها))، ومن حقها: إيتاء الزكاة، واللَّه لو خذلني الناس كلهم لجاهدتهم بنفسي)) (¬2). وصدق - رضي الله عنه -، فقد حفظ اللَّه به الدين، ولم ينقص وهو حي، ولهذا كانت خلافته مليئة بالأعمال الجليلة التي تحتاج إلى السنوات الطوال لإنجازها على الرغم من قصر مدة خلافته - رضي الله عنه -، فهي لم تزد ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على مسلم، 1/ 211. (¬2) انظر: تاريخ الطبري، 2/ 245، 246، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/ 68، وأعلام المسلمين لخالد البيطار، ص75، وحياة الصحابة، 1/ 434.

المبحث الثاني: مواقف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:

على سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام، وهذا يدل على حكمة أبي بكر العظيمة ووعيه التام بالإسلام، وعزيمته الثابتة الراسخة كالجبال الرواسي، وإيمانه الذي لو وُزِنَ وإيمان الأمة كلها (¬1) لرجح إيمان أبي بكر بإيمان أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا يُعدّ - رضي الله عنه - هو الذي أرسى الدعائم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأثبت المفاهيم، فرضي اللَّه عنه وأرضاه (¬2). المبحث الثاني: مواقف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لعمر - رضي الله عنه - مواقف مشرفة حكيمة كثيرة جدًّا، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: المطلب الأول: موقفه في إظهار الإسلام وهجرته: عندما أسلم عمر - رضي الله عنه - على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يَعلم قريش بإسلامه، فسأل عن أنقلهم للحديث، لينقل خبر إسلامه إلى قريش، فقيل له: جميل بن معمر الجمحي، فذهب عمر - رضي الله عنه - إلى جميل، وقال له: أعلمت يا جميل أنّي قد أسلمت، ودخلت في دين محمد؟ فقام جميل بن معمر يجر رداءه مُسرعاً حتى قام على باب المسجد، ثم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، ألا إن عمر بن الخطاب قد ¬

(¬1) انظر: تاريخ الخلفاء للسيوط، ص59. (¬2) انظر: تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص73، والتاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر 3/ 61.

صبأ، فقال عمر وهو واقف خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فثار عليه قريش من أنديتهم حول الكعبة، وقاتلهم وقاتلوه، واستمر القتال بينهم وبينه في هذا الموقف حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وقد تعب عمر - رضي الله عنه - فقعد وقاموا على رأسه، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف باللَّه أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لتركناها لكم، أو لتركتموها لنا، وبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلّة حبرة، وقميص مُوشّح، حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر، فقال: فمه، رجل اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون؟ أترون بني عديّ بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا؟ خلُّوا عن الرجل! قال عبد اللَّه بن عمر: فواللَّه لكأنما كانوا ثوباً كشط عنه، قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك، -جزاه اللَّه خيرا؟ - قال: يا بُنيَّ ذلك العاص بن وائل – لا جزاه اللَّه خيراً – (¬1). وبإسلام عمر وإظهاره إسلامه - رضي الله عنه - أعز اللَّه به الإسلام، وفرّق به ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام، 1/ 370، والبداية والنهاية لابن كثير، وقال: هذا إسناد جيد قوي، 3/ 82، وانظر بعض القصة في البخاري مع الفتح، 7/ 177، وانظر: قصة إسلام عمر في البداية والنهاية 3/ 79 - 81، وسيرة ابن هشام، 1/ 364 - 371، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، 109 - 115، وفتح الباري، 7/ 48، ومناقب عمر لابن الجوزي، ص12 - 18، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/ 121 - 125.

بين الحق والباطل، فسُمِّي الفاروق - رضي الله عنه - وأظهر الصحابة صلاتهم حول الكعبة، وقريش ينظرون إليهم (¬1). قال عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -: ((مازلنا أعزّة منذ أسلم عمر)) (¬2). وقال - رضي الله عنه - أيضاً: ((كان إسلام عمر فتحاً، وهجرته نصراً، وإمارته رحمةً، واللَّه ما استطعنا أن نُصلّي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي)) (¬3). وقد كان عمر - رضي الله عنه - يتعرّض لرؤوس الكفر، ويعلن أمامهم إسلامه، بل يذهب إلى بيوتهم، ويطرق أبوابهم، ليخبرهم بأنه قد أسلم، لعلّهم يقومون بشيء ضدّه فيُصيبه ما يُصيب إخوانه من المسلمين، ويستطيع في الوقت نفسه أن ينتقم من تلك الرؤوس، ولم يُرد عمر أن يكون هو في نعمة وعافية وراحة، والمسلمون في إيذاء وتعذيب، فعندما أعلن إسلامه، وبدأت قريش تقاتله وثب على عتبة بن ربيعة فبرك عليه، وأدخل إصبعه في عينه، فجعل عتبة يصيح، ¬

(¬1) انظر: مناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص18 - 19، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، ص113 - 115، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/ 124، وفتح الباري شرح صحيح البخاري، 7/ 44. (¬2) البخاري مع الفتح، في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر، 7/ 41، رقم (3684)، ومناقب الأنصار، 7/ 177، (رقم 3836). (¬3) ذكره ابن حجر في فتح الباري، 7/ 48، وعزاه إلى الطبراني وابن أبي شيبة، وذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء، ص115، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: <رجاله رجال الصحيح إلا أن القاسم لم يدرك جده ابن مسعود>، 9/ 62، وانظر: البداية والنهاية، 3/ 79.

المطلب الثاني: موقفه الحكيم في تثبيته الناس على بيعة أبي بكر - رضي الله عنه -

فتنحى الناس عن عمر، وقام عمر، فجعل أحد لا يدنو منه إلا أخذ شريف من دنا منه، حتى تراجع الناس عنه (¬1). وعندما اشتد أذى المشركين على المسلمين، وأذن لهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة من مكة إلى المدينة، وابتدأت وفود المسلمين متجهة إلى المدينة وكلها مختفية في هجرتها وانتقالها، إلا هجرة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقد رُوي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهماً وأتى الكعبة، وأشراف قريش بفنائها، فطاف سبعاً متمكناً، ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم أتى حلقهم، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، فقال: شاهت الوجوه، من أراد أن تَثْكَله أمه وييتم ولده، وترمل زوجته، فليلقني خلف هذا الوادي، فما تبعه منهم من أحد (¬2). المطلب الثاني: موقفه الحكيم في تثبيته الناس على بيعة أبي بكر - رضي الله عنه - عقب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في ¬

(¬1) انظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/ 125، وأعلام المسلمين لخالد البيطار، 2/ 22، 23. (¬2) انظر: تاريخ الخلفاء للإمام السيوطي، ص115، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/ 125، وأعلام المسلمين، 2/ 25.

سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلم، فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: واللَّه ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاماً قد أعجبني، خشيت أن لا يبلغه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر: لا واللَّه لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء، وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب داراً، وأعربهم أحساباً، فبايعوا عمر، أو أبا عبيدة، فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس (((¬1). فرضي اللَّه عن عمر وأرضاه، فإنه عندما ارتفعت الأصوات في السقيفة وكثر اللَّغَطُ، وخشي عمر الاختلاف، ومن أخطر الأمور التي خشيها عمر أن يُبْدأ بالبيعة لأحد الأنصار، فتحدث الفتنة العظيمة؛ لأنه ليس من اليسير أن يبايع أحد بعد البدء بالبيعة لأحد الأنصار، فأسرع عمر - رضي الله عنه - إخماداً للفتنة، فقال لأبي بكر: ابسط يدك، فبسط يده فبايعه، وبايعه المهاجرون، ثم الأنصار (¬2). ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كنت متخذاً خليلاً، 7/ 20، (رقم 3668). (¬2) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7/ 32، وسيرة ابن هشام، 4/ 339، والبداية والنهاية، 5/ 246، 6/ 301، وحياة الصحابة، 2/ 11، وتاريخ الخلفاء، ص51.

المطلب الثالث: موقفه الحكيم في إصلاح الأهل قبل الناس

وعندما كان يوم الثلاثاء جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد اللَّه وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت، وما وجدتها في كتاب اللَّه، ولا كانت عهداً عهده إليّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولكني قد كنت أرى أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سيدبر أمرنا، يقول: يكون آخرنا، وإن اللَّه قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى اللَّه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن اعتصمتم به هداكم اللَّه لما كان هداه له، وإن اللَّه قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر بيعته العامة بعد بيعة السقيفة (¬1). فكان عمر - رضي الله عنه - يذود ويقوي، ويشجع الناس على بيعة أبي بكر حتى جمعهم اللَّه عليه، وأنقذهم من الاختلاف والفرقة والفتنة. فهذا الموقف الذي وقفه عمر مع الناس من أجل جمعهم على إمامة أبي بكر، موقف عظيم من أعظم مواقف الحكمة، التي ينبغي أن تسجل بماء الذهب من مواقف عمر الحكيمة. المطلب الثالث: موقفه الحكيم في إصلاح الأهل قبل الناس كان عمر - رضي الله عنه - مع أهله قوياً، فكان إذا أراد أن يأمر المسلمين بشيء أو ينهاهم عن شيء مما فيه صلاحهم ونجاحهم وفلاحهم، ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام، 4/ 340، والبداية والنهاية، 5/ 248، 6/ 301، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/ 57.

المطلب الرابع: موقفه الحكيم في دعوته بتواضعه لله تعالى

بدأ بأهله، وتقدم إليهم بالوعظ لهم، والوعيد على خلافهم أمره، فعن سالم بن عبد اللَّه بن عمر قال:)) كان عمر إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء جمع أهله، فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم باللَّه لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة (((¬1). وهذا من أعظم مواقف الحكمة؛ لأن الناس ينظرون إلى الداعية ومدى تطبيقه العملي والقولي لما يدعو إليه، كما ينظرون إلى تطبيقه ذلك على أهله ومن تحت يده. المطلب الرابع: موقفه الحكيم في دعوته بتواضعه للَّه تعالى كان عمر - رضي اللَّه عنه وأرضاه - مع قوته في دين اللَّه، وشجاعته، وشدته على أعداء اللَّه، وهيبة الناس له، وفرار الشيطان منه، كان مع ذلك كله متواضعاً، وقَّافاً عند حدود اللَّه، وقد كان يقول: أحبّ الناس إليّ من أهدى إليّ عيوبي (¬2). ومن ذلك ما يلي: (أ) عندما مر بالجابية على طريق إيلياء وجلس عندهم، قيل له: أنت ملك العرب، وهذه بلاد لا تصلح بها الإبل، فلو لبست شيئاً ¬

(¬1) انظر: تاريخ الأمم والملوك للإمام الطبري، 2/ 68، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 3/ 31، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/ 404، وأعلام المسلمين للبيطار، 2/ 54. (¬2) انظر: مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص154، وأعلام المسلمين لخالد البيطار، ص59.

(ب) ولما قدم عمر بن الخطاب

غير هذا – يعنون قميصه المرقع – وركبت برذوناً (¬1)، لكان ذلك أعظم في أعين الروم، فقال: نحن قوم أعزنا اللَّه بالإسلام، فلا نطلب غير اللَّه بديلاً. ثم سار عمر من الجابية إلى بيت المقدس، وقد تعبت دابته، فأتوه ببرذون فجعل يهملج به، فقال: لمن معه: احبسوا، احبسوا، فنزل عنه، وضرب وجهه، وقال: لا علّم اللَّه من علّمك، هذا من الخيلاء، ما كنت أظن الناس يركبون الشياطين، هاتوا جملي، ثم نزل وركب الجمل، ثم لم يركب برذوناً قبله ولا بعده (¬2). (ب) ولما قدم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره، ونزع خُفَّيه، وأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنعاً عظيماً عند أهل الأرض، صنعت كذا وكذا، فصك عمر في صدره، وقال: أوَّه، لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذَّل الناس، وأحقر الناس، وأقلّ الناس، فأعزكم اللَّه بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يُذلكم اللَّه (¬3). ¬

(¬1) البرذون: الدابة، ويطلق على غير العربي من الخيل والبغال. انظر: القاموس المحيط، باب النون، فصل الباء، ص1522، والمعجم الوسيط، مادة: برذن، 1/ 48، ومختار الصحاح، مادة (برذن)، ص18. (¬2) انظر: البداية والنهاية، 7/ 57، 7/ 60، 7/ 135، ومناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص150، 151. (¬3) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 7/ 60، وأعلام المسلمين لخالد البيطار، ص59، ومناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص150.

وله مواقف حكيمة في دعوته إلى اللَّه إلى اللَّه – تعالى – لا يتسع المقام لذكرها (¬1). وهذه المواقف العظيمة يبين فيها للناس بقوله وفعله أن العزة والرفعة والتمكين لا تأتي عن طريق الكبر، والغطرسة، والإعجاب بالنفس أو الجاه أو السلطان، وإنما يأتي ذلك كله لمن تمسك بالإسلام، ولهذا قال لأبي عبيدة في الخبر السابق: ((إنكم كنتم أذلّ الناس، وأحقرَ الناس، وأقلّ الناس، فأعزكم اللَّه بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة من غير اللَّه يذلّكم اللَّه)). رضي اللَّه عن الفاروق وأرضاه، وجزاه عن أمة محمد خير الجزاء، فقد قام بالأعمال العظيمة، وسلك مسلك الحكمة التي من أُوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً، ونفَّذ وصية رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في ¬

(¬1) ومن حصره على التواضع أنه كان يدرب نفسه عليه، ولذلك إذا أنكر نفسه أدبها وجازاها وخاطبها يخوفها بالله، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: كنت مع عمر، فدخل حائطاً لحاجته فسمعته يقول: - وبيني وبينه جدار الحائط –: <عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب، أو ليعذبنك>. وقيل: إنه حمل قربة على عاتقه فقيل له في ذلك، فقال: إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها. وكان يسمع الآية من القرآن فيغشى عليه فيحمل صريعاً إلى منزله، فيعاد أياماً ليس به مرض إلا الخوف من الله - عز وجل -، انظر: البداية والنهاية، 7/ 135. وانظر مواقف له أخرى في: تاريخ الطبري، 2/ 567، 568، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 3/ 30، ومناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص69، والبداية والنهاية، 3/ 135، وحياة الصحابة للعلامة الكاندهلوي، 2/ 97.

المبحث الثالث: مواقف عثمان بن عفان - رضي الله عنه -

المشركين، من: يهود، ونصارى، ومجوس، وغيرهم من المشركين، حيث قال - صلى الله عليه وسلم - قُبيل موته: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)) (¬1). فطهَّر - رضي الله عنه - جزيرة العرب من المشركين، ولم يترك أحداً منهم فيها، طبقاً لأمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. المبحث الثالث: مواقف عثمان بن عفان - رضي الله عنه - لعثمان - رضي الله عنه - مواقف حكيمة كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: المطلب الأول: إنفاقه الأموال العظيمة الكثيرة في سبيل اللَّه تعالى كان عثمان - رضي الله عنه - من الأغنياء الذين أغناهم اللَّه - عز وجل -، وكان صاحب تجارة وأموال طائلة؛ ولكنه استخدم هذه الأموال في طاعة اللَّه - عز وجل - ابتغاء مرضاته وما عنده، وصار سبَّاقاً لكل خير، ينفق ولا يخشى الفقر. ومما أنفقه - رضي الله عنه - من نفقاته الكثيرة على سبيل المثال ما يأتي: (أ) عندما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة المنورة وجد أن الماء العذب قليل، وليس بالمدينة ما يستعذب غير بئر رومة، فقال رسول اللَّه ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الجزية والموادعة، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب، 6/ 271، (رقم 3168)، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه (رقم 1637).

- صلى الله عليه وسلم -: ((من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة)) (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من حفر بئر رومة فله الجنة)) (¬2). وقد كانت رومة قبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة لا يشرب منها أحد إلا بثمن، فلما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تبيعنيها بعين في الجنة؟)) فقال: يا رسول اللَّه! ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان - رضي الله عنه - فاشتراها بخمس وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال: ((نعم))، قال: قد جعلتها للمسلمين (¬3). وقيل: كانت رومة ركية ليهودي يبيع للمسلمين ماءها، فاشتراها عثمان بن عفان من اليهودي بعشرين ألف درهم، فجعلها للغني والفقير وابن السبيل (¬4). ¬

(¬1) النسائي في كتاب الوصايا، باب وقف المساجد، 6/ 235، (رقم 3605)، وانظر: صحيح النسائي 2/ 766، وأخرجه الترمذي في المناقب، باب مناقب عثمان - رضي الله عنه -، 5/ 627، (رقم 3699)، وانظر: صحيح الترمذي، 3/ 209، وتحفة الأحوذي، 10/ 196، وفتح الباري، 7/ 54. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الوصايا، باب إذا وقف أرضاً أو بئراً، 5/ 407، (رقم 2778)، 7/ 52، 8/ 111، وانظر: تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص151. (¬3) ذكره ابن حجر في فتح الباري، 5/ 407، وعزاه بسنده إلى البغوي في الصحابة، وانظر: تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، 10/ 196. (¬4) انظر: تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، 10/ 190، وأعلام المسلمين لخالد البيطار، 3/ 39، وفتح الباري، 5/ 408.

(ب) بعد أن بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(ب) بعد أن بنى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مسجده في المدينة فصار المسلمون يجتمعون فيه، ليصلوا الصلوات الخمس، ويحضروا خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - التي يُصدر إليهم فيها أوامره ونواهيه، ويتعلمون في المسجد أمور دينهم، وينطلقون منه إلى الغزوات ثم يعودون بعدها، ولذلك ضاق المسجد بالناس، فرغب النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعض الصحابة أن يشتري بقعة بجانب المسجد، لكي تزاد في المسجد حتى يتسع لأهله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة))، فاشتراها عثمان بن عفان - رضي الله عنه - من صلب ماله (¬1) بخمسة وعشرين ألف درهم، أو بعشرين ألفاً، ثم أضيفت للمسجد (¬2). ووسع على المسلمين رضي اللَّه عنه وأرضاه (¬3). (جـ) عندما أراد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الرحيل إلى غزوة تبوك حثّ الصحابة الأغنياء على البذل؛ لتجهيز جيش العسرة، الذي أعده ¬

(¬1) الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب عثمان - رضي الله عنه -، 5/ 627، (رقم 3703)، وانظر: صحيح الترمذي، 3/ 209، وأخرجه النسائي، كتاب الوصايا، باب وقف المساجد، 6/ 235، (رقم 3606). (¬2) النسائي، كتاب الوصايا، باب وقف المساجد، 6/ 234، (3605)، وانظر: صحيح النسائي، 2/ 766. (¬3) انظر: فتح الباري، 5/ 408، وأعلام المسلمين لخالد البيطار، 3/ 41.

المطلب الثاني: موقفه العظيم في جمع الأمة على قراءة واحدة، وحسم الاختلاف

رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لغزو الروم، فأنفق أهل الأموال من صحابة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كل على حسب طاقته وجهده. أما عثمان بن عفان فقد أنفق نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها، فقد ثبت أنه أنفق في هذه الغزوة ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، وجاء بألف دينار فنثرها في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقلِّبها في حجره، ويقول: ((ما ضر عثمان ما عمل بعد هذا اليوم؟)) قالها مراراً (¬1). وهذه نفقة عظيمة جداً تدل على صدق عثمان وقوة إيمانه، ورغبته فيما عند اللَّه – تعالى – وإيثار الآخرة على الدنيا – فرضي اللَّه عنه وأرضاه – فقد حصل على الثواب العظيم والجزاء الذي ليس بعده جزاء: ((من جهز جيش العسرة فله الجنة)) (¬2). المطلب الثاني: موقفه العظيم في جمع الأمة على قراءة واحدة، وحسم الاختلاف كان من أعظم مواقف الحكمة التي وقفها عثمان جمع شمل أمة ¬

(¬1) الترمذي، في كتاب المناقب، باب مناقب عثمان - رضي الله عنه -، 5/ 626، (رقم 3700)، والحاكم – واللفظ له – وصححه ووافقه الذهبي، 3/ 102، وانظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7/ 54، 5/ 408، 8/ 111، وسيرة ابن هشام، 4/ 172، والبداية والنهاية، 5/ 4، 7/ 201، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، ص151، وحياة الصحابة، 2/ 264، 265، وانظر: صحيح الترمذي، 3/ 208، 210، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/ 223، 2/ 353. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب الوصايا، باب إذا وقف أرضاً أو بئراً، 5/ 407، (رقم 2778)، وتقدم تخريجه، وانظر: البداية والنهاية، 7/ 201.

محمد - صلى الله عليه وسلم - على قراءة واحدة، فقد كان من مناقبه الكبار، وحسناته العظيمة، أنه جمع الناس على قراءة واحدة، وكتب المصحف على العرضة الأخيرة التي درسها جبريل على رسول اللَّه في آخر سني حياته، وكان سبب ذلك أن حذيفة بن اليمان كان في غزوة أهل الشام في فتح أرمينية، وأذربيجان، مع أهل العراق، وقد اجتمع في هذه الغزوة خلق من أهل الشام، ممن يقرأ على قراءة المقداد بن الأسود، وأبي الدرداء، وأُبيّ بن كعب، وجماعة من أهل العراق ممن يقرأ على عبد اللَّه بن مسعود، وأبي موسى، وجعل من لا يعلم بجواز القراءة على سبعة أحرف يفضل قراءته على غيره، وربما خطَّأ الآخر أو كفَّره، فأدَّى ذلك إلى اختلاف شديد، وانتشار في الكلام السيئ بين الناس، فركب حذيفة إلى عثمان وقد أفزعه اختلافهم في القراءة، فقال: يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى في كتبهم، وذكر له ما شاهد من اختلاف الناس في القراءة، فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك، ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد، وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به دون ما سواه، لما رأى في ذلك من مصلحة كفّ المنازعة، ودفع الاختلاف، فأرسل عثمان إلى حفصة - رضي الله عنه - يستدعي بالصحف التي كان الصديق أمر زيد بن ثابت بجمعها، فكانت عند الصديق أيام حياته، ثم كانت عند عمر، فلما توفي صارت إلى حفصة أم المؤمنين.

وعندما جاءت الصحف أمر عثمان زيد بن ثابت، وعبد اللَّه بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف، وأمرهم إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغة قريش، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق من الآفاق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق (¬1). وكانت المصاحف الأئمة سبعة كالآتي: أرسل مصحفاً إلى مكة، ومصحفاً إلى الشام، ومصحفاً إلى اليمن، ومصحفاً إلى البحرين، ومصحفاً إلى البصرة، ومصحفاً إلى الكوفة، وأقر بالمدينة مصحفاً، وهذه المصاحف كلها بخط زيد بن ثابت، وإنما يقال لها المصاحف العثمانية نسبة إلى أمر عثمان وزمانه وإمارته، وحرق ما سوى هذه المصاحف مما بأيدي الناس مما يخالف هذه المصاحف السبعة، وأجمع الصحابة على ذلك عند الشورى بالرسم، وعند التلقي فاجتمع شمل الأمة على هذه المصاحف وللَّه الحمد والمنة (¬2). ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، 9/ 10، 11، (رقم 4987)، وكتاب التفسير، باب {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}، 8/ 344، (رقم 4679)، والبداية والنهاية، 7/ 217، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، ص77. (¬2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 7/ 217، وفتح الباري، 9/ 20. والفرق بين جمع أبي بكر، وجمع عثمان، أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته؛ لأنه لم يكن مجموعاً في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتباً لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القرآن حين قرءوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك ببعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي من الفتنة والهلاك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد. انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 9/ 21، وتاريخ الخلفاء للإمام جلال الدين السيوطي، ص77.

المبحث الرابع: مواقف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:

فحصل الاجتماع والائتلاف، وزال الاختلاف والفرقة، واجتمعت القلوب بفضل اللَّه - تعالى -، ثم بفضل حكمة عثمان - رضي اللَّه عنه وأرضاه -. المبحث الرابع: مواقف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، هو أول من أسلم من الرجال، وخديجة أول من أسلم من النساء، وزيد بن حارثة أول من أسلم من الموالي، فكان علي - رضي الله عنه - من السابقين الأولين إلى الإسلام، وله مواقف كثيرة مُشرِّفة يعتز بها كل مسلم، ويرتفع رأسه بذلك، ولا يتسع المقام لذكرها، وسأقتصر على أربعة مواقف من مواقفه - رضي الله عنه - البطولية الحكيمة، التي وقفها - رضي الله عنه - ابتغاء مرضاة اللَّه - تعالى - والدار الآخرة، وهذه المواقف على النحو الآتي (¬1): ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 7/ 223.

المطلب الأول: موقفه - رضي الله عنه - في تقديم نفسه فداء للنبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته

المطلب الأول: موقفه - رضي الله عنه - في تقديم نفسه فداء للنبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته عندما اجتمع قريش في دار الندوة، وأجمعوا على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - والتخلص منه، أعلم اللَّه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحكم خلق اللَّه، فأراد أن يبقى من أراد قتله ينظر إلى فراشه ينتظرونه يخرج عليهم، فأمر علي بن أبي طالب الشاب البطل أن ينام في فراشه تلك الليلة، ومن يجرؤ على البقاء في فراش رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - والأعداء قد أحاطوا بالبيت يتربصون به ليقتلوه؟ من يفعل هذا ويستطيع البقاء في هذا البيت وهو يعلم أن الأعداء لا يفرقون بينه وبين رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في مضجعه؟ إنه لا يفعل ذلك إلا أبطال الرجال وشجعانهم بفضل اللَّه - تعالى - فرضي اللَّه عن علي وأرضاه. وقد أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُقيم بمكة أياماً حتى يؤدي أمانة الودائع والوصايا التي كانت عنده إلى أصحابها من أعدائه كاملة غير منقوصة، وهذا من أعظم العدل وأداء الأمانة (¬1). المطلب الثاني: موقفه في بدر مع رؤوس الكفر عندما تراجع غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - الكبيرة يوجد ذكر على بن أبي طالب مقروناً بها، فتارة يحمل اللواء، وتارة يفرق جموع الأعداء، وتارة يفتح الحصون المستعصية ويهدم الأصنام، فهو بطل معلم. عندما تواجه الجيشان في معركة بدر الكبرى، والتقى الفريقان، ¬

(¬1) انظر: تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص166.

وحضر الخصمان بين يدي الرحمن، واستغاث بربه سيد الأنبياء، وضج الصحابة بصنوف الدعاء إلى رب الأرض والسماء، وكاشف البلاء، وقبل اشتباك المعركة والتحامها خرج من جيش المشركين عتبة بن ربيعة – يريد أن يظهر شجاعته – فبرز بين أخيه شيبة وابنه الوليد، فلما توسطوا بين الصفين دعوا إلى البراز، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار: عوف بن الحارث، ومعوذ بن الحارث – ابنا العفراء – وعبد اللَّه بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار، فقالوا: ما لنا بكم من حاجة، ونادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقيل: قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي، فلما دنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ فقال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال علي: علي. قالوا: أكفاء كرام، فبارز عبيدة – وكان أسن القوم – عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد بن عتبة. فقتل علي الوليد فوراً، وقتل حمزة شيبة في الحال، واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه، فكرَّ حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فأكملا قتله، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابهما - رضي الله عنهم -. وكان ذلك – بإذن اللَّه تعالى – بداية النصر وتشجيع المسلمين، وخذلان ورعب في قلوب المشركين (¬1). ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 3/ 272، 273 بتصرف، وفتح الباري، 7/ 299، وزاد المعاد لابن القيم، 3/ 179، وقصة المبارزة أخرجها أحمد، 1/ 117، أبو داود، 3/ 52، برقم 2665، في الجهاد، باب المبارزة من حديث علي، وإسناده قوي، وانظر: صحيح سنن أبي داود، 2/ 507.

المطلب الثالث: موقف علي - رضي الله عنه - في يوم الأحزاب (يوم الخندق):

روى البخاري عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: ((أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، وقال قيس بن عباد: وفيهم أنزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (¬1). قال: هم الذين بارزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة (((¬2). فرضي اللَّه عن جميع الصحابة وأرضاهم، فإنهم كانوا لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم، قال اللَّه - عز وجل -: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} (¬3). المطلب الثالث: موقف علي - رضي الله عنه - في يوم الأحزاب (يوم الخندق): في سنة خمس من الهجرة كانت غزوة الخندق في شهر شوال. وكان سبب هذه الغزوة أن جماعة من اليهود خرجوا حتى قدموا ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 19. وانظر: فتح البخاري مع الفتح، 7/ 96. (¬2) البخاري مع الفتح، في كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل، 7/ 296، 297، (رقم 3965، 3966)، وفي كتاب التفسير، باب (هذان خصمان اختصموا في ربهم) 9/ 443، (رقم 4744)، وانظر أيضا: البداية والنهاية 3/ 273، وأعلام المسلمين لخالد البيطار، ص62. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 23.

على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فتعاهدوا على حرب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم خرج هؤلاء الجماعة من اليهود حتى جاءوا قبائل غطفان فدعوهم لذلك، فأجابوهم، ثم طافوا في قبائل العرب، فاستجاب لهم من استجاب، ونقضت بنو قريظة العهد امتثالاً لأمر حيي بن أخطب، عندما حرض كعب بن أسد القرظي على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولما سمع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بهم، وبما أجمعوا عليه من الأمر ضرب الخندق على المدينة بمشورة سلمان الفارسي، فحفروا الخندق بينهم وبين العدو، وجعلوا جبل سلع من خلف ظهورهم، وقد صار المحاربون لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خمسة أصناف هم: المشركون من أهل مكة، والمشركون من قبائل العرب، واليهود من خارج المدينة، وبنو قريظة، والمنافقون، وكان من وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف، والمسلمون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة آلاف، وقد حاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً، ولم يكن بينهم قتال، لأجل ما حال اللَّه به من الخندق بينهم وبين المسلمين، إلا أن فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد وُدٍّ العامري أقبلوا، فجالت بهم خيولهم، فنظروا إلى مكان ضيق من الخندق فاقتحموه، ثم جالت بهم خيولهم في السبخة بين الخندق وسلع، ودعوا إلى البراز (¬1). ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد، 3/ 269 - 276، وسيرة ابن هشام، 3/ 229 - 252، والبداية والنهاية، 4/ 92 - 116.

وهذا هو موضع الشاهد لموقف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: قال عمرو بن عبد ودّ في هذا الموقف: من يُبارز؟ فقام علي بن أبي طالب، فقال: أنا لها يا رسول اللَّه! فقال: ((إنه عمرو، اجلس))، ثم نادى عمرو: ألا رجل يبرز؟ فجعل يؤنبهم، ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها؟ أفلا تبرزون إليَّ رجلاً؟ فقام علي، فقال: أنا يا رسول اللَّه! فقال: ((اجلس)) ثم نادى الثالثة ... فقام علي - رضي الله عنه - فقال: يا رسول اللَّه، أنا، فقال: ((إنه عمرو))، فقال: وإن كان عمراً! فأذن له رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فمشى إليه علي حتى أتى إليه، فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي. قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، وقال علي: يا عمرو، إنك كنت عاهدت اللَّه ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه، قال له: أجل، قال علي: فإني أدعوك إلى اللَّه وإلى رسوله وإلى الإسلام، قال: لا حاجة لي بذلك، قال: فإني أدعوك إلى النزال، فقال له: لم يا ابن أخي؟ فواللَّه ما أحب أن أقتلك. قال له علي: ولكني واللَّه أحب أن أقتلك، فغضب عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على عليٍّ وسل سيفه كأنه شعلة نار، فاستقبله عليٌّ بالترس، فشق السيف الترس، فضربه عليُّ على حبل عاتقه، فسقط وثار الغبار، وسمع المسلمون التكبير، فعرفوا أن عليًّا

(أ) استئذانه النبي - صلى الله عليه وسلم - في المبارزة.

قتله. وقال علي - رضي الله عنه -: نصر الحجارة من سفاهة رأيه ... ونصرت رب محمد بصوابي فصدرت حين تركته متجدلاً ... كالجذع بين دكادك وروابي وبعد هذه المبارزة انهزم الباقون، وخرجت خيولهم حتى اقتحمت الخندق (¬1). وهكذا ظهرت الشجاعة العظيمة الحكيمة، ومن عظم هذه الحكمة أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - دعا عمراً إلى اللَّه فأبى ذلك، فدعاه إلى النزال فنزل، فقتله - رضي الله عنه - فكان ذلك من أسباب نصر المسلمين بإذن اللَّه تعالى (¬2). فظهرت حكمة علي - رضي الله عنه - في هذا الموقف من عدة وجوه، منها: (أ) استئذانه النبي - صلى الله عليه وسلم - في المبارزة. (ب) تذكيره لعمرو بن عبد ودّ ما عاهد عليه اللَّه من قبول ما يعرض عليه من الخصال من قريش. (ج) وعند إقرار عمرو بما عاهد اتخذ عليٌّ ذلك مدخلاً، فقال: ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية، 4/ 106، وسيرة ابن هشام، 3/ 240، وزاد المعاد، 3/ 272، وانظر أيضاً شجاعة علي - رضي الله عنه - في حياة الصحابة للعلامة الكاندهلوي، 1/ 541 - 546. (¬2) انظر: غزوة الخندق كاملة في زاد المعاد، 3/ 269 - 276، وسيرة ابن هشام، 3/ 229 - 252، والبداية والنهاية، 4/ 92 - 116.

(د) وعندما امتنع من قبول هذه الدعوة دعاه إلى النزال

إني أدعوك إلى اللَّه وإلى رسوله وإلى الإسلام. (د) وعندما امتنع من قبول هذه الدعوة دعاه إلى النزال، فلم ينزل فاستفزه ليغضبه، فلما نزل قتله - رضي الله عنه - فانهزم المشركون بفضل اللَّه، ثم بدخول الرعب في قلوبهم بهذا الموقف الحكيم. المطلب الرابع: موقف علي - رضي الله عنه - في غزوة خيبر: في السنة الرابعة للَّهجرة سار رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر، وكان إذا أتى قوماً بليل لم يقربهم حتى يُصبح، فلما أصبح صبح خيبر بكرة، فخرج أهلها بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قالوا: محمد واللَّه، محمد والخميس، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّه أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)) (¬1). وعندما رأى أهل خيبر الجيش رجعوا هاربين إلى حصونهم، وخرج ملكهم مَرْحَب يرفع سيفه مرة، ويضعه أخرى ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فبرز له عامر بن الأكوع، فقال: ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، المغازي، باب غزوة خيبر 7/ 467، (رقم 4197)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر 3/ 1427، (رقم 1365)، وانظر: زاد المعاد لابن القيم، 3/ 316.

قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يضربه من أسفله، فرجع سيفه على نفسه فمات شهيداً (¬1). ثم قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر: ((لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح اللَّه على يديه، يحب اللَّه ورسوله، ويحبه اللَّه ورسوله))، فبات الناس يدوكون (¬2) ليلتهم: أيهم يُعطاها، فلما أصبح الناس غدوا إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: ((أين علي بن أبي طالب؟)) قيل: هو يا رسول اللَّه يشتكي عينيه، قال: ((فأرسلوا إليه))، فأُتي به، فبصق رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول اللَّه! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: ((انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق اللَّه فيه، فواللَّه لأن يهدي اللَّه بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم)) (¬3). ¬

(¬1) انظر: صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها، من حديث سلمة بن الأكوع، 3/ 1440، 1441، (رقم 1807)، وزاد المعاد لابن القيم، 3/ 319. (¬2) يدوكون: أي يخوضون ويتحدثون في ذلك. انظر: شرح النووي، 12/ 178. (¬3) البخاري مع الفتح، في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 7/ 476، (رقم 4210)، وكتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي - رضي الله عنه -، 7/ 70، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل علي - رضي الله عنه -، (رقم 2406)، 4/ 1871، 3/ 1441.

وبدأ علي - رضي الله عنه - وأخذ الراية، وخرج مرحب فقال: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدره (¬1) ... كليث غابات كريه المنظره أوفيهم بالصاع كيل السندره (¬2) فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه (¬3). فرضي اللَّه عن علي وأرضاه، فقد قام بهذه البطولة النادرة بعد حصار النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل خيبر قريباً من عشرين يوماً، ثم يسر اللَّه فتحها على يد علي - رضي الله عنه - فخرج الناس من حصونهم يسعون في السكك، فقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - المقاتلة، وسبى الذرية، وكان في السبي صفية، ثم صارت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعتقها، وجعل عتقها صداقها، ¬

(¬1) حيدرة: اسم للأسد، وكان عليٌّ - رضي الله عنه - قد سُمِّي أسداً في أول ولادته، وكان مرحب قد رأى أن أسداً يقتله، فذكره عليٌّ بذلك ليخيفه ويضعف نفسه. شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 185. (¬2) معناه: أقتل الأعداء قتلاً واسعاً ذريعاً، وقيل السندرة: مكيال واسع. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 185. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها مطولاً، 3/ 1441، (رقم 1807)، وانظر: زاد المعاد، 3/ 321، وحياة الصحابة، 1/ 544.

(أ) قوله: ((أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟))؛

فأصبحت أما للمؤمنين (¬1). وعلي - رضي الله عنه - له مواقف أخرى كثيرة، تظهر فيها الحكمة العظيمة، ولكن المقام لا يتسع إلا لما ذكر من المواقف السابقة، وهكذا يفعل من يرجو اللَّه واليوم الآخر، فإن الإنسان إذا كان همه للَّه، وقلبه معلق باللَّه، عمل كل ما يحب مولاه تبارك وتعالى. وقد ظهرت حكمة علي - رضي الله عنه - في هذا الموقف من عدّة وجوه، منها: (أ) قوله: ((أُقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟))؛ فإنه - رضي الله عنه - استفسر من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل القتال، إلى أي مدى يستمر القتال؟ وهذا من أعظم الحكمة؛ لأن الداعية لابد له من وضوح الهدف والغاية، وأن يكون على بصيرة من أمره. (ب) وقوله: ((أنا الذي سمتني أمي حيدرة))، وهذا فيه تذكير لمرحب؛ لأنه قد رأى في المنام أن أسداً يقتله، فذكره علي - رضي الله عنه - بذلك، ليخيفه ويضعف نفسه، حتى يستولي على قتله. (ج) وقوله: ((أوفيهم بالصاع كيل السندرة)) هذا فيه إرهاب وإخبار ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المغازي. باب غزوة خيبر، 7/ 469، (رقم 4200، 4201)، وانظر: البداية والنهاية، 4/ 181 - 191، وابن هشام، 3/ 378 - 388، وانظر: ترجمة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كاملة في الإصابة في تمييز الصحابة، 2/ 507 - 510، والبداية والنهاية، 7/ 222 - 224، وانظر: شجاعة علي أيضاً في حياة الصحابة للكاندهلوي، 1/ 541 - 546.

(د) ثم ختم هذه الحكم بقتل مرحب

لمرحب أن علي بن أبي طالب يقتل الأعداء قتلاً واسعاً ذريعاً. (د) ثم ختم هذه الحكم بقتل مرحب، فهزم اللَّه به الأعداء، ونصر المسلمين عليهم نصراً مؤزراً، فله الحمد أولاً وآخراً. المبحث الخامس: مواقف مصعب بن عمير - رضي الله عنه -: بعد بيعة العقبة الأولى في سنة إحدى عشرة من البعثة أرسل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مع هؤلاء المبايعين أول داعية وأول سفير في يثرب، ليعلم المسلمين فيها شرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين المشركين. واختار رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لهذا العمل العظيم مصعب بن عمير العبدري - رضي الله عنه -. وعندما وصل مصعب إلى يثرب نزل على أسعد بن زرارة، ابن خالة سعد بن معاذ، وأخذ مصعب يؤدي مهمته في الدعوة إلى اللَّه تعالى. ومن أروع ما يُروى من نجاحه وحكمته في الدعوة أن أسعد بن زرارة خرج يوماً إلى دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر، فدخل به حائط بني ظفر على بئر يقال لها: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، فسمع بهما أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وهما يومئذ سيدا بني عبد الأشهل، وكانا مشركين، فقال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا،

ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا. فأخذ أسيد حربته، وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق اللَّه فيه، فقال مصعب: إن يجلس أكلّمه. وجاء أسيد فوقف عليهما مُتشتِّماً، فقال: ما جاء بكما إلينا، تُسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كُفّ عنك ما تكره؟ فقال: أنصفت، ثم ركز حربته، وجلس إليهما. فكلّمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا: واللَّه لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا هذا الدين؟ قالا له: تغتسل، وُتطهّر ثيابك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تُصلي، فقام واغتسل وطهّر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن يتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، وهو سعد بن معاذ. ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً قال: أحلف باللَّه لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فواللَّه ما رأيت بهما بأساً،

وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، واحتال أسيد على سعد من أجل أن يذهب إلى مصعب؛ لكي يحدث له ما حدث له، فقام سعد بن معاذ مغضباً وأخذ الحربة، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف متشتماً لهما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، واللَّه لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره؟ وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب: جاءك واللَّه سيد مَنْ وراءه من قومه، إن يتبعك ما تخلّف عنك منهم اثنان. قال مصعب لسعد: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمراً ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال سعد: أنصفت. ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن. قالا: فعرفنا واللَّه في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم؛ لإشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلاً قالوا: نحلف باللَّه لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى

المبحث السادس: موقف ضمام بن ثعلبة مع قبيلة بني سعد

تؤمنوا باللَّه ورسوله. قالوا: فواللَّه ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة. ورجع مصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية، وخطمة، ووائل، وواقف، وهم من الأوس بن حارثة، فإنهم أطاعوا أبا قيس الشاعر، وهو ابن السلت، واسمه صيفي، فوقف بهم عن الإسلام حتى كان بعد الخندق (¬1). وهذه الاستجابة العظيمة بفضل اللَّه، ثم بفضل مصعب بن عمير - رضي الله عنه -، فقد ضُرِبَ به المثل في حكمته وحُسن دعوته وصبره وحلمه ورفقه وأناته عند سماع التهديد من قبل أسيد وسعد - رضي الله عنهم -، فأثر هذا الموقف الحكيم عليهما وأسلما، وأسلم - بفضل اللَّه ثم بإسلامهما - هذا الجمع الغفير في يوم واحد، فرضي اللَّه عن مصعب، ورضي اللَّه عن صاحبه أسعد، فقد أنقذ اللَّه بهما مدينة كاملة، وللَّه الحمد والمنة. المبحث السادس: موقف ضمام بن ثعلبة مع قبيلة بني سعد بعث بنو سعد ضمام بن ثعلبة وافداً إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقدم ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 3/ 152، وسيرة ابن هشام، 2/ 43، والرحيق المختوم، ص140، وهذا الحبيب يا محبّ، ص145، وانظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 3/ 421، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 1/ 145، وحياة الصحابة للعلامة الكاندهلوي، 1/ 187 - 189.

المدينة، وأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله، ثم دخل المسجد ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - جالس في أصحابه، وكان ضمام جلداً، فأقبل حتى وقف على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه، فقال: أيكم محمد؟ فقال الصحابة: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: ابن عبد المطلب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قد أجبتك))، فقال الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني سائلك فمُشدد عليك في المسألة، فلا تجد عليّ في نفسك. فقال: ((سل عما بدا لك)). فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن اللَّه أرسلك؟ قال: ((صدق)). قال: فمن خلق السماء؟ قال: ((اللَّه)). قال: فمن خلق الأرض؟ قال: ((اللَّه)). قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: ((اللَّه)). قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال، آللَّه أرسلك؟ قال: ((نعم)). قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال: ((صدق)). قال: فبالذي أرسلك، آللَّه أمرك بهذا؟ قال: ((نعم)). قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا. قال: ((صدق)). قال: فبالذي أرسلك آللَّه أمرك بهذا؟ قال: ((نعم)). قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا. قال: ((صدق)). قال: فبالذي أرسلك، آللَّه أمرك بهذا؟ قال: ((نعم)). قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً. قال: ((صدق)). قال فبالذي أرسلك، آللَّه أمرك بهذا؟ قال: ((نعم)). ثم

ولّى، وقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لئن صدق ليدخلن الجنة)) (¬1). فأتى ضمام بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى. فقالوا: مه ضمام! اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون. فقال: ويلكم، إنهما لا يضران ولا ينفعان، إن اللَّه قد بعث رسولاً، وأنزل عليه كتاباً استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به، وما نهاكم عنه. قال الراوي: فواللَّه ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلماً، وما سُمِعَ بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة (¬2). وهذا يدل على حكمة ضمام بن ثعلبة، فإنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاً عن صانع المخلوقات من هو؟ ثم أقسم عليه بأن يصدقه في كونه مرسلاً لخالق هذه المخلوقات، ثم لما وقف على رسالته وعلمها أقسم عليه بحق مرسله. ¬

(¬1) انظر: البخاري مع الفتح في كتاب العلم، باب ما جاء في العلم، 1/ 148، (رقم 63)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب السؤال عن أركان الإسلام، 1/ 41، (رقم 11)، وأحمد في المسند، 3/ 143، 3/ 193، والألفاظ من هذه المواضع كلها. (¬2) انظر: البداية والنهاية، 5/ 60، وسيرة ابن هشام، 4/ 342، والإصابة في تمييز الصحابة، 2/ 210.

المبحث السابع: موقف سعد بن معاذ في حكمه في بني قريظة

وهذا ترتيب يحتاج إلى حكمة عظيمة، وعقل رصين، وهو من حسن سؤال هذا الرجل وملاحة سياقه وترتيبه (¬1). ولم يقتصر على هذا، بل جاء بأمر آخر يدل على حكمته وصدقه في قوله، فإنه عرض على قومه الإسلام، وبين لهم بطلان اللات والعزى، وأنهما لا يضران ولا ينفعان، وغرس الإيمان في قلوبهم بأن اللَّه هو الضار النافع، وأن ما سواه عاجزٌ عن ذلك، وحمل إليهم جميع ما سمع من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فأسلموا في لحظة واحدة قبل الليل. وهذا يدل على حكمة ضمام في دعوته قومه إلى اللَّه - تعالى -، فقد استخدم معهم هذا الموقف الحكيم وهذا الأسلوب الناجح المسدد، وهذا فضل عظيم لضمام، ولمن وفقه اللَّه بالدعوة إلى اللَّه بالحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً. المبحث السابع: موقف سعد بن معاذ في حكمه في بني قريظة كانت بنو قريظة أشد اليهود عداوة لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وقد نقضوا العهد مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب، وتحزّبوا مع الأحزاب، ونالوا من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بالسبّ ونقض العهد. وبعد أن هُزِمَ الأحزاب رجع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، قالت ¬

(¬1) انظر: شرح مسلم على النووي، 1/ 170، وفتح الباري، 1/ 149.

عائشة ’: فلما رجع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من الخندق وضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل - عليه السلام - – وهو ينفض رأسه من الغبار – فقال: قد وضعت السلاح؟ واللَّه ما وضعته، اخرج إليهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فأين فأشار إلى بني قريظة (¬1). فخرج إليهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، وهم في حصونهم، ثم نزلوا على حكم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فقامت إليه الأوس، فقالوا: يا رسول اللَّه! قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت، وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا فأحسن فيهم، فقال: ((ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟)) قالوا: بلى. قال: ((فذلك إلى سعد بن معاذ)). قالوا: قد رضينا. فأرسل إلى سعد بن معاذ (¬2)، وكان في المدينة لم يخرج معهم لجرح كان قد أُصيب به يوم الخندق، رماه رجل من قريش في الأكحل، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - له خيمة في المسجد ليعوده من قريب)) (¬3). وقد قال سعد عندما أصيب بالجرح: ((اللَّهم إن كنت أبقيت من ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب، 7/ 411، (رقم 4121)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد، (رقم 1768). (¬2) انظر: زاد المعاد، 3/ 134. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب، 7/ 411، (رقم 4122) ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد، (رقم 1769)، وانظر ترجمة سعد بن معاذ في سير أعلام النبلاء، 1/ 279.

حرب قريش شيئاً فأبقني لها؛ فإنه لا قوم أحبّ إليَّ من أن أجاهدهم فيك، آذوا نبيك وكذبوه وأخرجوه، اللَّهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة)) (¬1). ووصل من أرسل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى سعد، فأُركِبَ على حمار، وجاء إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وجعل بعض الأوس يقول لسعد، وهو في طريقه إلى رسول اللَّه: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إنما ولاّك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في اللَّه لومة لائم. فلما انتهى سعد إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((قوموا إلى سيدكم)) فلما أنزلوه، قالوا: يا سعد، إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك، فقال سعد: عليكم ذلك عهد اللَّه وميثاقه إن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من ههنا؟ في الناحية التي فيها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو معرض عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إجلالاً له. فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم)). قال سعد: فإني أحكم فيهم: أن تُقْتَل الرجال، وتُقسم الأموال، وتُسبى الذراري والنساء. فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد حكمت فيهم بحكم اللَّه من فوق سبعة أرقعة)) (¬2). ¬

(¬1) سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق، ورجاله ثقات، 3/ 244، وأحمد، 6/ 141، وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 1/ 282. (¬2) سيرة ابن هشام، 3/ 259، وفي البخاري مع الفتح في كتاب المغازي – باب مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب، 7/ 411، قال: <قضيت فيهم بحكم الله>، (رقم 4121)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتل من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم، 3/ 1389، (رقم 1768).

فلما حكم فيهم بذلك أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بقتل كل من جرت عليه الموسى منهم، ومن لم ينبت ألحق بالذرية (¬1)، فحفر لهم خنادق في سوق المدينة، وضربت أعناقهم، وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة (¬2). وقد سأل اللَّه سعد الشهادة إن كان اللَّه قد وضع الحرب بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش، وانفجر جرحه - رضي الله عنه - ومات شهيداً (¬3). اللَّه أكبر! ما أعظم هذا الرجل وما أحكمه! فقد رَغِبَ في الشهادة، ولكنه سأل اللَّه أن يبقيه إن كان اللَّه لم يضع الحرب بين رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش، وكذلك سأل اللَّه - عز وجل - ألا يميته حتى يقرّ ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الحدود، باب الغلام يصيب الحد، 4/ 141، (رقم 4404)، والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في النزول على الحكم، 4/ 145، (رقم 1584)، والنسائي، كتاب الطلاق، باب متى يقع طلاق الصبي، 6/ 155، (رقم 3460)، وابن ماجه، كتاب الحدود، باب من لا يجب عليه الحد، 2/ 849، (رقم 2541)، وسنده صحيح. (¬2) زاد المعاد، 3/ 135، وانظر: سيرة ابن هشام، 3/ 259، والبداية والنهاية، 4/ 122، وفتح الباري، 7/ 414، وانظر: صحيح الترمذي، 2/ 114. (¬3) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب، 7/ 412، (رقم 4122)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد، (رقم 1769)، (67).

عينه من بني قريظة، فاستجاب اللَّه له، وجعله الذي يحكم فيهم بحكمه، وعندما قال له بعض الأوس: أحسن في مواليك يا أبا عمرو، قال كلمته الحكيمة: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في اللَّه لومة لائم. وصدق - رضي الله عنه - فقد حكم فيهم بحكم اللَّه - تعالى - فقُتِلوا، وأمكن اللَّه المسلمين من أموالهم ونسائهم وذراريهم، فكان ذلك فتحاً ونصراً للمسلمين على أعداء اللَّه ورسوله، فرضي اللَّه عنه وأرضاه. ومن فضل اللَّه عليه أن منّ عليه بالشهادة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم موته: ((اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ)) (¬1). وقد ظهرت حكمته - رضي الله عنه - في هذا الموقف الحكيم في النقاط الآتية: 1 - رغبته في نصرة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وجهاد أعداء اللَّه تعالى. 2 - ردّه الحكيم المسدد على قومه عندما راجعوه في بني قريظة. 3 - أخذه عهد اللَّه وميثاقه على قومه أن يقبلوا حكمه، وهذا مما يضبطهم ويحل الأزمة. 4 - إعراضه عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عند أخذ العهد إجلالاً له وإكراماً. 5 - حكمه بحكم اللَّه من فوق سبع سماوات، ولهذا أمر رسول ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، مناقب سعد بن معاذ - رضي الله عنه -، 7/ 123، (رقم 3803)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل سعد بن معاذ - رضي الله عنه -، 4/ 1915، (رقم 2466).

المبحث الثامن: موقف الحسن بن علي - رضي الله عنه -

اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بإنفاذه - فرضي اللَّه عنه وأرضاه - فقد أعز اللَّه بحكمته الإسلام وأذل الكافرين. المبحث الثامن: موقف الحسن بن علي - رضي الله عنه -: الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ابن بنت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وهو أحد علماء الصحابة وحلمائهم، وذوي رأيهم، وسيد المسلمين (¬1)، وهو حبيب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لحَسنٍ: ((اللَّهم إني أحبه فأحبه، وأحبب من يحبه)) (¬2). وقال أبو بكرة - رضي الله عنه -: رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على المنبر - والحسن بن علي إلى جنبه - وهو يقبل على الناس مرة، وعليه أخرى، ويقول: ((إن ابني هذا سيد، ولعل اللَّه أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) (¬3). وقد تحقق ما قاله رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فإنه عندما قُتِلَ علي بن أبي ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 8/ 16. (¬2) البخاري مع الفتح في كتاب البيوع، باب ما ذكر في الأسواق، 4/ 339، (رقم 2122)، ومسلم، واللفظ له، في كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل الحسن والحسين، 4/ 1882، (رقم 2421). (¬3) البخاري مع الفتح، في كتاب الصلح، باب قول الني - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن علي - رضي الله عنه - إن ابني هذا سيد، 5/ 307، (رقم 2704)، 6/ 628، 7/ 94، 13/ 61، ولفظه من كتاب الصلح.

طالب - رضي الله عنه - وبايع الناس الحسن بن علي - رضي الله عنه - وكانت كتائب الحسن كالجبال، كما ذكره البخاري في صحيحه (¬1)، فأراد الحسن أن يحقن دماء المسلمين، ويجمعهم على إمام واحد يلم شملهم، فتنازل لمعاوية بن أبي سفيان، خال المؤمنين، وكاتب وحي رب العالمين (¬2) - رضي اللَّه عن جميع أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أجمعين - فكان هذا الموقف الذي وقفه الحسن من أعظم مواقف الحكمة، ومن أبرز الأدلة الواضحة على زهد الحسن في الدنيا الفانية، ورغبته في الآخرة الباقية، وحقنه دماء أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد ترك الخلافة والملك، لا لقلَّةٍ ولا لذلةٍ، ولا لعلةٍ، بل لرغبته فيما عند اللَّه؛ لما رآه من حقن دماء المسلمين، فراعى أمر الدين ومصلحة الأمة (¬3). وسمى هذا العام الذي تنازل الحسن - رضي الله عنه - فيه لمعاوية: عام الجماعة، لاجتماع الكلمة فيه على معاوية - رضي الله عنه - (¬4). والمقصود أن موقف الحسن موقف حكيم عظيم سديد؛ لأنه حقن به دماء وأموال وأعراض أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) البخاري مع الفتح في كتاب الصلح، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن: إن ابن هذا سيد، 5/ 306، (رقم 2704). (¬2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 8/ 20، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، ص194. (¬3) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 13/ 66. (¬4) انظر: البداية والنهاية، 8/ 16.

المبحث التاسع: مواقف جماعة من الصحابة

فرضي اللَّه عنه وأرضاه، وجزاه عن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير الجزاء. المبحث التاسع: مواقف جماعة من الصحابة الصحابة - رضي الله عنهم - لهم مواقف كثيرة جداً لا يستطيع أحد أن يحصرها؛ لأنهم - رضي الله عنهم - باعوا أنفسهم، وأموالهم، وحياتهم للَّه، ابتغاء مرضاته، وخوفاً من عقابه، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة. ومن درس حياتهم، ونظر إلى تطبيقهم للإسلام قولاً، وعملاً، واعتقاداً ازداد إيمانه، وأحبهم؛ فيحصل له بذلك محبة اللَّه تعالى، ومن النماذج في ذلك: 1 - فهذا بلال بن رباح - رضي الله عنه - يعذبه أمية بن خلف على توحيده وإيمانه باللَّه - تعالى -. وقد عذبه أشد العذاب، ومن ذلك أن أمية كان يُخرج بلالاً إذا حميت الشمس في الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصّخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أَحدٌ أحدٌ، فمر به أبو بكر فاشتراه. وهذه الكلمة التي زعزعت كيان أمية بن خلف (¬1). 2 - وهذا عمار بن ياسر، وأبوه ياسر، وأمه سُميّة - رضي الله عنهم - يُعذبون أشد ¬

(¬1) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 165، وسيرة ابن هشام، 1/ 340، وسير أعلام النبلاء، 1/ 347.

3 - وهذا صهيب الرومي - رضي الله عنه -

العذاب من أجل إيمانهم باللَّه - تعالى -، فلم يردهم ذلك العذاب عن دينهم؛ لأنهم صدقوا مع اللَّه فصدقهم اللَّه - تعالى - ولهذا قيل لهم: ((صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة)) (¬1) فرضي اللَّه عنهم وأرضاهم (¬2). 3 - وهذا صهيب الرومي - رضي الله عنه - أراد الهجرة فمنعه كفار قريش أن يُهاجر بماله، وإن أحب يتجرّد من ماله كله ويدفعه إليهم تركوه وما أراد، فأعطاهم ماله ونجى بدينه مهاجراً إلى اللَّه ورسوله وأنزل اللَّه - عز وجل - {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} (¬3)، فتلقاه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا له: ربح البيع. فقال: وأنتم فلا أخسر اللَّه تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أن اللَّه أنزل فيه هذه الآية (¬4). 4 - وهذا عبد اللَّه بن عبد الأسد: أبو سلمة، وزوجته أم سلمة - رضي الله عنه - يصبران على البلاء العظيم ويقفان الموقف الحكيم الذي يدل على صدقهما مع اللَّه (¬5). ¬

(¬1) الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 3/ 388، وانظر: مجمع الزوائد، 9/ 293، وقال: <رجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن عبد العزيز المقوم>. وانظر: الإصابة، 2/ 512. (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء، 1/ 406، والإصابة، 2/ 512، وسيرة ابن هشام، 1/ 342. (¬3) سورة البقرة، الآية: 207. (¬4) انظر: تفسير ابن كثير، 1/ 248، وسير أعلام النبلاء، 2/ 17 - 26، والإصابة، 2/ 195. (¬5) انظر: سير أعلام النبلاء، 1/ 150، والإصابة في تمييز الصحابة، 2/ 335، والبداية والنهاية لابن كثير، 4/ 90.

كان أبو سلمة أول من هاجر من مكة إلى المدينة، قبل العقبة الثانية بسنة تقريباً. بعد أن رجع أبو سلمة وزوجته أم سلمة من الهجرة إلى الحبشة آذته قريش، وعلم بإسلام من أسلم من الأنصار، فقرر الهجرة إلى المدينة – فراراً بدينه –، فحمل زوجته أم سلمة، وابنهما سلمة وقاد بهما راحلته وخرج متجهاً إلى المدينة، وقبل أن يخرج من مكة لحقه رجال من بني مخزوم فقالوا له: هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيتك صاحبتك هذه عَلامَ نتركك تسير بها في البلاد؟ ونزعوا خطام البعير من يده، وأخذوا الراحلة وعليها أم سلمة وابنه سلمة، وغضب لذلك رجال من بني عبد الأسد وقالوا: واللَّه لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. فتجاذب بنو مخزوم وبنو عبد الأسد الطفل حتى خُلِعَت يده، وأخذه بنو عبد الأسد وحبس بنو المغيرة أم سلمة عندهم، وانطلق أبو سلمة إلى المدينة هارباً بدينه. قالت أم سلمة: ففرَّقوا بيني وبين زوجي وبيني وبين ابني، فكنت أخرج كل غداة إلى الأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، وذلك سنة أو قريباً منها حتى مرّ بي رجل من بني عمي – أحد بني المغيرة – فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها، وبينها وبين ولدها؟ قالت فقالوا لي: الحقي

5 - وعندما ينظر الإنسان في موقف عبد الله بن حذافة بن قيس

بزوجك إن شئت، قالت: وردّ بنو عبد الأسد عند ذلك ابني فارتحلت ببعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي أحد من خلق اللَّه ... )) (¬1). اللَّه أكبر ما أعظم هذا الموقف! وما أحكمه! فقد ترك أبو سلمة زوجته وابنه، وماله، وهاجر بنفسه تاركاً نصفه وراءه من أجل دينه ويتجاذب بنو عبد الأسد وبنو المغيرة ابن أم سلمة، ويخلعوا يده وهي تنظر، وتحبس من أجل دينها، وتبكي كل يوم في الأبطح سنة أو قريباً منها، إنه موقف عظيم وبلاء كبير أسفر عن قوة الإيمان والصدق مع اللَّه، فنسأل اللَّه العافية في الدنيا والآخرة، ورضي اللَّه عن أبي سلمة وزوجته وأرضاهما، فقد جاهدا في اللَّه، وأُوذيا في اللَّه، وصبرا في اللَّه، واللَّه المستعان. 5 – وعندما ينظر الإنسان في موقف عبد اللَّه بن حذافة بن قيس - رضي الله عنه - عندما حاول ملك الروم أن يصدّه عن دينه – يرى الموقف الحكيم، والرجل العظيم! وجَّه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جيشاً إلى الروم، فأسروا عبد اللَّه بن حذافة، فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا: إن هذا من أصحاب محمد. فقال: هل لك أن تتنصَّر وأُعطيك نصف ملكي؟ قال: لو أعطيتني ¬

(¬1) انظر: سيرة ابن هشام، 2/ 77، والبداية والنهاية، 3/ 169، والرحيق المختوم، ص150، وهذا الحبيب يا محبّ، ص151.

جميع ما تملك، وجميع ما تَملُك، وجميع ملك العرب، ما رجعت عن دين محمد - صلى الله عليه وسلم - طرفة عين، قال: إذاً أقتلك. قال: أنت وذاك، فأُمِرَ به فصُلِبَ وقال للرماة: ارموه قريباً من بدنه، وهو يعرض عليه ويأبى ولم يجزع، فأنزله، وأمر بقدر فصبَّ فيه ماء وأُغلي عليه حتى احترقت، ودعا بأسيريْنِ من المسلمين، فأمر بأحدهما، فأُلقي فيها فإذا عظامه تلوح، وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى، فأمر بإلقائه في القدر إن لم يتنصّر، فلما ذهبوا به بكى، فقيل للملك: إنه بكى، فظن أنه قد جزع، فقال: ردوه، فقال: ما أبكاك؟ قال: قلت هي نفس واحدة تُلقى الساعة فتذهب فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تُلقى في النار في اللَّه. فتعجب الطاغية فقال له: هل لك أن تُقبّل رأسي وأًخلِّي عنك؟ فقال له عبد اللَّه: وعن جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم، فقبّل رأسه، فخلّى عنهم، وقدم بالأسارى على عمر، فأخبره خبره. فقال عمر: حقٌّ على كلِّ مسلم أن يُقبِّل رأس عبد اللَّه بن حذافة، وأنا أبدأُ. فقبَّل رأسه (¬1). هذا موقف عظيم حكيم، فإن عبد اللَّه - رضي الله عنه - ثبت على دينه، ولم يقبل سواه، ولو أُعطى ملك كسرى ومثله معه، وملك العرب جميعاً، ثم لصدقه مع اللَّه لم يجزع من الرّماة عندما رموه وهو مصلوب، ولم يجزع من القِدْرِ والماء المغليّ وقد رأى من يُلقى في ¬

(¬1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 2/ 14، والإصابة في تمييز الصحابة، 2/ 269.

6 - ومن هذه المواقف العظيمة التي تدل على قوة الإيمان والرغبة فيما عند الله والدار الآخرة

النار من الأسرى وعظامه تلوح، ومع ذلك تمنى أن يكون له عدد شعره من الأنفس تعذب في اللَّه ومن أجل اللَّه، وعندما رأى أن المصلحة عامة لجميع الأسرى قبَّل رأس الطاغية، لكي يخرج المسلمين من الأسر، وهذا من أعظم الحكم العظيمة. فرضي اللَّه عن عبد اللَّه بن حُذافة وأرضاه. 6 - ومن هذه المواقف العظيمة التي تدل على قوة الإيمان والرغبة فيما عند اللَّه والدار الآخرة، ما فعله الصحابي الجليل: خبيب بن عدي بن عامر - رضي الله عنه - عندما أسرته كفار قريش وعذبته حتى قُتِلَ شهيداً - رضي الله عنه -. قالت بعض بنات الحارث بن عامر: واللَّه ما رأيت أسيراً قطُّ خيراً من خبيب واللَّه لقد وجدته يوماً يأكل قِطفاً من عنبٍ في يده وإنه لمُوثَقٌ بالحديد وما بمكة من ثمرة. وكانت تقول: إنه لرزق رزقه اللَّه خبيباً. فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيبٌ: دعوني أصلي ركعتين فتركوه فركع ركعتين، فقال: واللَّه لولا أن تحسبوا أن ما بي جزعٌ لزدت. ثم قال: اللَّهم أحصهم عدداً, واقتلهم بَدَداً، ولا تبق منهم أحداً، ثم أنشأ يقول: فلست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان للَّه مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يُبارك على أوصال شلو ممزع ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو

7 - وهذا سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -

الذي سنَّ لكل مسلم قُتِلَ صبراً الصلاة (¬1). 7 - وهذا سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - تَعْرض أمه عليه أن يكفر بدين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وحلفت أن لا تكلمه، ولا تأكل ولا تشرب حتى تموت فيعيّر بها، فيقال: يا قاتل أمه! وقالت له: زعمت أن اللَّه وصّاك بوالديك، وأنا أمك، وأنا آمرك بهذا. قال سعد: لا تفعلي يا أمّه إني لا أدع ديني هذا لشيء. فبقيت ثلاثة أيام لا تأكل ولا تشرب، فلما رأى سعد بن أبي وقاص ذلك منها قال لها: يا أمَّهْ أتعلمين واللَّه لو كان لك مائة نفسٍ، فخرجت نفساً نفساً، ما تركت ديني إن شئتِ فكلي أو لا تأكلي. فلما رأت ذلك أكلت (¬2). قال سعد - رضي الله عنه -: نزلت هذه الآية فيّ: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (¬3) وقد جعل اللَّه سعداً مستجاب الدعوة لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهم استجب لسعد إذا ¬

(¬1) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب هل يستأسر الرجل ومن لم يستأسر ومن ركع ركعتين عند القتل، 6/ 166، (رقم 3045)، وكتاب المغازي، باب حدثني عبد الله بن محمد الجعفي، 7/ 308، (رقم 3989)، 7/ 378، 13/ 381، وانظر: سير أعلام النبلاء، 1/ 246. (¬2) انظر: صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل سعد بن أبي وقاص 4/ 1877، (رقم 1748) مختصراً بمعناه، وأحمد، 1/ 181 - 182، والترمذي، 5/ 341، وانظر: سير أعلام النبلاء، 1/ 109. (¬3) سورة لقمان، الآية: 15.

8 - ومن ذلك ما فعلته رملة بنت أبي سفيان أم حبيبة

دعاك)) (¬1). ولم يقتصر الأمر على الرجال، بل للنساء مواقف حكيمة. 8 - ومن ذلك ما فعلته رملة بنت أبي سفيان أم حبيبة، أم المؤمنين - رضي الله عنها -، وذلك أن أباها قدم من مكة إلى المدينة يريد أن يزيد في الهدنة بينه وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلما دخل على بنته أم حبيبة - رضي الله عنها - وذهب ليجلس على فراش رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - طوته دونه، فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ قالت: بل هو فراش رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأنت امرؤ نجس مشرك، فقال: واللَّه لقد أصابك يا بنية بعدي شر (¬2). قلت: واللَّه لم يصبها إلا قوة الإيمان ومحبة اللَّه ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقدَّمت محبة اللَّه ورسوله على محبة والدها المشرك ولم ترضَ أن يجلس المشرك على فراش رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فرضي اللَّه عن أم المؤمنين، فإنها لم تأخذها في اللَّه لومة لائم، وهذا من أعظم الحكم. والصحابة - رضي اللَّه عنهم جميعاً - رجالاً ونساءً، كانت أعمالهم وحياتهم، ومماتهم للَّه لا يريدون ولا يرغبون إلا ما يرضيه ¬

(¬1) الترمذي في كتاب المناقب، باب مناقب سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، 5/ 649 (رقم 3751)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 3/ 498، وسنده صحيح. انظر: سير أعلام النبلاء، 1/ 111. (¬2) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 306، وعزاه بإسناده إلى ابن سعد. وانظر أيضاً: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/ 135.

9 - ومما يدل على ذلك ما فعله أنس بن النضر الأنصاري عم أنس بن مالك - رضي الله عنه -

- تعالى -، حتى ولو كان ذلك ببذل أحبّ الأشياء إليهم. 9 - ومما يدل على ذلك ما فعله أنس بن النضر الأنصاري عم أنس بن مالك - رضي الله عنه -. عن أنس - رضي الله عنه - قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول اللَّه غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين، واللَّه لئن أشهدني اللَّه قتال المشركين ليريَنّ اللَّه ما أصنع. فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللَّهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين -، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المشركين -. ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: أي سعد والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد. فقاتلهم حتى قتل. قال أنس: فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة: من بين ضربة بسيف وطعنة برمح، ورمية بسهم وقد مَثَّلوا به، فما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه. ونزلت هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} (¬1). قال فكنا نقول: نزلت هذه الآية فيه وفي أصحابه (¬2). ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 23. (¬2) البخاري مع الفتح في كتاب الجهاد، باب قول الله - عز وجل -: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا}. 6/ 21، 7/ 354، (رقم 2805)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، (رقم 1903). وانظر: البخاري مع الفتح، 8/ 518، والبداية والنهاية، 4/ 31 - 34، والإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 74، وهذا الحبيب يا محبّ، ص269.

10 - كما يدل على رغبتهم فيما عند الله ما فعل عمير بن الحمام في بدر حينما سمع رسول الله يقول لأصحابه

10 - كما يدل على رغبتهم فيما عند اللَّه ما فعل عُمير بن الحُمام في بدر حينما سمع رسول اللَّه يقول لأصحابه: ((قومُوا إلى جَنّةٍ عرضُهَا السّماوات والأرضُ)) فقال: يا رسول اللَّه جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: ((نعم)). قال: بخ بخ (¬1)، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يحملك على قولك بخ بخ؟))، قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: ((فإنك من أهلها)) فأخرج تمرات من قرنه (¬2) فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل من تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قتل (¬3). وهذه النماذج تدل على صبر الصحابة وحكمتهم العظيمة، وصدقهم مع اللَّه ورغبتهم فيما عنده - سبحانه من الثواب وزهدهم في الدنيا. والصحابة - رضي الله عنهم - لهم مواقف حكيمة كثيرة لا تُحصى، ولكن ما ذكرته هنا من مواقفهم ما هو إلا بعض الأمثلة اليسيرة من المواقف الحكيمة التي تدل على حكمتهم ويستفيد منها الدعاة إلى اللَّه - تعالى -. وأسأل اللَّه أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا. واللَّه المستعان. ¬

(¬1) كلمة تقال لتعظيم الأمر وتفخيمه في الخير. انظر: شرح النووي، 13/ 45. (¬2) أي جعبة النشاب. انظر: شرح النووي، 13/ 46. (¬3) مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، 3/ 1510، (رقم 1901).

وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

§1/1